تيسير التحرير الْفَصْل الأول
فِي انقسام الْمُفْرد بِاعْتِبَار ذَاته من حَيْثُ أَنه
مُشْتَقّ أَولا
(وَهُوَ) أَي الْمُفْرد قِسْمَانِ (مُشْتَقّ) وَهُوَ (مَا
وَافق مصدرا) هُوَ اسْم الْحَدث الْجَارِي على الْفِعْل: أَي
الْمَعْنى الْقَائِم بِالْغَيْر، وجريانه عَلَيْهِ كَونه أصلا
لَهُ ومأخذا (بِحُرُوفِهِ الْأُصُول وَمَعْنَاهُ) مَعْطُوف على
الْمَجْرُور الْمُتَعَلّق بوافق، فَلَا يكون الذّهاب من
الذَّهَب، وَلَا ضرب بِمَعْنى دق من الضَّرْب بِمَعْنى السّير،
وَلَا يضر عدم مُوَافَقَته لَهَا لسَبَب الإعلال، وَلم يذكر
التَّرْتِيب لتبادره إِلَى الذِّهْن، فَخرج مثل الجبذ والجذب
(مَعَ زِيَادَة) فِي الْمَعْنى سَوَاء كَانَت فِي اللَّفْظ
أَولا (هِيَ) أَي الزِّيَادَة الْمَذْكُورَة (فَائِدَة
الِاشْتِقَاق) وغايته (فالمقتل) حَال كَونه (مصدرا مَعَ
الْقَتْل أصلان) غير مُشْتَقّ أَحدهمَا عَن الآخر (مزِيد وَغير
مزِيد) هَذَا إِذا لم يعْتَبر فِي المقتل زِيَادَة تَقْوِيَة
(وَإِن اعْتبر بِهِ) أَي بِالْقَتْلِ أَو بِالزَّائِدِ
(زِيَادَة تَقْوِيَة) فِي مَعْنَاهُ الْمَوْجُود فِي الْقَتْل
(فمشتق مِنْهُ) أَي فالمقتل مُشْتَقّ من الْقَتْل لصدق
التَّعْرِيف عَلَيْهِ، وَهَذَا التَّعْرِيف على رَأْي
الْبَصرِيين، وَعند الْكُوفِيّين الْمُشْتَقّ مِنْهُ إِنَّمَا
هُوَ الْفِعْل، وَالْمرَاد بِالْمَصْدَرِ مَا هُوَ أَعم من
الْمُسْتَعْمل والمقدر، فَدخل الْأَفْعَال وَالصِّفَات الَّتِي
لم تسْتَعْمل مصادرها: كنعم، وَبئسَ، وتبارك، وربعة بِمَعْنى
مربوعة بَين الطول وَالْقصر، والقفاخر: أَي الضخم الجثة، ثمَّ
أَسمَاء الْفَاعِل وَالْمَفْعُول مُشْتَقَّة من المصادر عِنْد
الْجُمْهُور، وَمن الْفِعْل الْمُشْتَقّ مِنْهَا عِنْد
الْبَعْض، وَيجوز الِاشْتِقَاق من المصادر
(1/66)
عِنْد الْجُمْهُور، وَمن الْفِعْل
الْمُشْتَقّ مِنْهَا عِنْد الْبَعْض، وَيجوز الِاشْتِقَاق من
المصادر بِاعْتِبَار مَعَانِيهَا المجازية، وَلَا بُد من
التغاير بَين الْمُشْتَقّ والمشتق مِنْهُ بِزِيَادَة حرف أَو
حَرَكَة أَو نقصانهما (وجامد) عطف على مُشْتَقّ (خِلَافه)
فَهُوَ مَا لَيْسَ بموافق مصدر إِلَى آخِره كَرجل وَأسد
(والاشتقاق الْكَبِير) وَهُوَ مُوَافقَة لفظين فِي الْحُرُوف
الْأُصُول غير مرتبه مَعَ مُوَافقَة أَو مُنَاسبَة فِي
الْمَعْنى: كالجبذ والجذب (لَيْسَ من حَاجَة الأصولي) لِأَن
المبحوث عَنهُ فِي الْأُصُول إِنَّمَا هُوَ الْمُشْتَقّ
بالاشتقاق الصَّغِير، وَقد علم حَده من تَعْرِيف الْمُشْتَقّ،
وَاكْتفى بِذكر الْكَبِير عَن الْأَكْبَر، وَهُوَ مُنَاسبَة
لفظين فِي الْحُرُوف الْأُصُول وَالْمعْنَى، كالثلب والثلم،
والنعيق، والنهيق، لِأَن عدم حَاجَة الأصولي إِلَى الْكَبِير
تَسْتَلْزِم عدم حَاجته إِلَيْهِ بِالطَّرِيقِ الأولى
(والمشتق) قِسْمَانِ (صفة) وَهُوَ (مَا دلّ على ذَات مُبْهمَة)
أَي على حَقِيقَة غير مُعينَة بتعين شخصي وَلَا جنسي (متصفة
بِمعين) أَي بِوَصْف لَهُ تعين مَا كضارب، فَإِن مَعْنَاهُ
ذَات لَهُ الضَّرْب، فالذات فِي غَايَة الْإِبْهَام لعدم
اختصاصها بِشَيْء من الْأَشْيَاء، وَالضَّرْب وصف ممتاز من
سَائِر الْأَوْصَاف (فَخرج) بِقَيْد الْإِبْهَام (اسْم
الزَّمَان وَالْمَكَان لِأَن المقتل) مثلا (مَكَان أَو زمَان
فِيهِ الْقَتْل) وَلَا شكّ أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُتَعَيّن
بِالنِّسْبَةِ إِلَى ذَات مَا، لكَونهَا من الْأُمُور
الْعَامَّة مُسَاوِيَة بِشَيْء مَا (قيل تتَحَقَّق
الْفَائِدَة) بالأخبار (فِي نَحْو الضَّارِب جسم) فِي
الْجُمْلَة لِإِمْكَان الذهول عَن جسميته (فَلم يكن) الْجِسْم
(جُزْءا) من مَفْهُوم الضَّارِب (والألم يفد) نَحْو الضَّارِب
جسم (كالإنسان حَيَوَان) أَي كَمَا لَا يُفِيد الْإِنْسَان
حَيَوَان لكَون الْحَيَوَان جُزْءا مِنْهُ، نقل عَن المُصَنّف
أَن هَذَا دَلِيل على لُزُوم إِبْهَام الذوات فِي الصّفة،
وَيتَّجه عَلَيْهِ أَن عدم جزئية الْجِسْم فِي مَفْهُوم الصّفة
لَا يسْتَلْزم الْمُدَّعِي، وَهُوَ غَايَة الْإِبْهَام لجَوَاز
أَن يكون لَهُ جُزْء آخر مِمَّا يُخرجهُ عَن غَايَة
الْإِبْهَام، وَيُجَاب عَنهُ بِأَن كل مَا تفرض جزئيته مِنْهُ
بقول الْمُسْتَدلّ هُوَ يحصل عَلَيْهِ، وَالْحمل مُفِيد فَلَا
يكون جُزْءا مِنْهُ، ثمَّ منع المُصَنّف رَحمَه الله تحقق
الْفَائِدَة بقوله (وَلقَائِل منع الْفرق) بَين الضَّارِب جسم،
وَبَين الْإِنْسَان حَيَوَان، وادعاء تساويهما فِي عدم
الْفَائِدَة (وَالِاسْتِدْلَال) مَعْطُوف على الْمَنْع: أَي
لقَائِل أَن يسْتَدلّ على عدم إِبْهَام الذَّات على الْوَجْه
الْمَذْكُور فِي نَحْو الضَّارِب (بتبادر الْجَوْهَر مِنْهُ)
فَإِن تبادره من نَحْو الضَّارِب دَلِيل على أَن الذَّات لَا
تعم الْعرض، فَلم يكن فِي غَايَة الْإِبْهَام مُسَاوِيا لشَيْء
مَا (وَالْأَوْجه) فِي الِاسْتِدْلَال على إِبْهَام الذَّات
(صِحَة الْحمل) أَي حمل الصّفة الْمَأْخُوذَة فِي مفهومها
الذَّات (على كل من الْعين) وَهُوَ الْجَوْهَر (وَالْمعْنَى)
وَهُوَ الْعرض، فَلَو اعْتبر فِي مفهومها مَا يَخُصهَا بالجوهر
لما صَحَّ حملهَا على الْعرض، وَيجوز أَن يُرَاد بِالْعينِ
وَالْمعْنَى الْمَوْجُود الْخَارِجِي، وَمَا لَيْسَ بموجود فِي
الْخَارِج
(1/67)
(وَغير صفة) مَعْطُوف على قَوْله صفة
وَهُوَ (خِلَافه) أَي مَا لَا يدل على ذَات مُبْهمَة متصفة
بِمعين بِأَن يدل على ذَات مُعينَة أَو مُبْهمَة غير متصفة
بِمَا ذكر وَظَاهر هَذَا يَقْتَضِي أَن مَا يدل على ذَات متصفة
بِوَصْف غير معِين كالإمكان الْعَام، والوجود الْمُطلق لَيْسَ
بِصفة، وَلَا يخفى عَلَيْك أَن الْمَوْجُود والممكن
وَنَحْوهمَا صِفَات: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال بتعين هَذِه
الْأَوْصَاف، وَلَو بِوَجْه مَا فاذن عدم اعْتِبَار قيد التعين
فِي التَّعْرِيف أولى كَمَا قيل: مَا دلّ على ذَات مَا
بِاعْتِبَار معنى هُوَ الْمَقْصُود.
مَسْأَلَة
(وَلَا يشتق) من مصدر وصف (لذات وَالْمعْنَى) المصدري (قَائِم
بِغَيْرِهِ) أَي غير الْمُشْتَقّ لَهُ، وَالْمرَاد بالاشتقاق
لَهَا أَن يشتق لِأَن يُطلق عَلَيْهَا وَتسَمى بِهِ، قَالَ
الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ فِي تَفْسِير كَلَام شَارِح
الْمُخْتَصر: الاستقراء يُفِيد الْقطع بذلك، يَعْنِي حصل لنا
من تتبع كَلَام الْعَرَب حكم كلي قَطْعِيّ بذلك كوجوب رفع
الْفَاعِل، وَإِن كَانَ الاستقراء فِي نَفسه لَا يُفِيد إِلَّا
الظَّن انْتهى، كَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ،
لِأَنَّهُ يلْزم عَلَيْهِ حُصُول الْقطع من غير مُوجب:
اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال انْضَمَّ مَعَ الاستقراء
قَرَائِن يُفِيد الْمَجْمُوع الْقطع بذلك (وَقَول
الْمُعْتَزلَة) مُبْتَدأ خَبره (معنى كَونه) تَعَالَى (متكلما
خلقه) أَي خلق الْكَلَام، وَالْمعْنَى مقولهم هَذَا الْكَلَام
الْمُخَالف لما ذكرنَا، وَيجوز أَن يكون الْخَبَر محذوفا،
وَالْمَذْكُور مقول القَوْل: أَي قَوْلهم هَذَا مُخَالف لما
ذكرنَا (فِي الْجِسْم) مُتَعَلق بالخلق، والجسم كالشجرة
الَّتِي سمع مِنْهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام. قَالَ
تَعَالَى - {نُودي من شاطئ الواد الْأَيْمن فِي الْبقْعَة
الْمُبَارَكَة من الشَّجَرَة أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنا الله
رب الْعَالمين} - (وألزموا) أَي الْمُعْتَزلَة بطرِيق النَّقْض
(جَوَاز) إِطْلَاق (المتحرك والأبيض) على الله، تَعَالَى
شَأْنه عَن ذَلِك علوا كَبِيرا: لخلقه هَذِه الْأَعْرَاض فِي
الْأَجْسَام الَّتِي هِيَ محالها، (وَدفع) الْإِلْزَام
الْمَذْكُور (عَنْهُم بِالْفرقِ) بَين الْمُتَكَلّم وَمَا
ألزموا بِهِ (بِأَنَّهُ ثَبت) بِالسَّمْعِ (الْمُتَكَلّم لَهُ)
تَعَالَى كَقَوْلِه - {وكلم الله مُوسَى تكليما} -، وَغَيره
(وَامْتنع قِيَامه) أَي الْكَلَام (بِهِ) تَعَالَى بالبرهان،
لِأَنَّهُ أصوات وحروف عِنْدهم، وَهِي حَادِثَة فَلَا تكون
قَائِمَة بِهِ تَعَالَى، وَإِلَّا لزم كَونه محلا للحوادث
(فَلَزِمَ أَن مَعْنَاهُ) أَي الْمُتَكَلّم (فِي حَقه خالقه)
أَي الْكَلَام فِي جسم، وَلَا كَذَلِك المتحرك والأبيض
وَنَحْوهمَا فَإِنَّهُ لم يثبت لَهُ بِالسَّمْعِ شَيْء
مِنْهَا، بل ثَبت الْمَنْع عَن إِطْلَاقهَا (وَلَيْسَ) هَذَا
الدّفع (بِشَيْء، لِأَنَّهُ لَا تَفْصِيل فِي الحكم
اللّغَوِيّ) أَي الحكم الْكُلِّي المستبط من تتبع اللُّغَة،
وَهُوَ أَنه لَا يشتق لذات، وَالْمعْنَى قَائِم بِغَيْرِهِ
(بَين
(1/68)
من يمْتَنع الْقيام بِهِ) أَي قيام الْمصدر
بِهِ عقلا أَو شرعا (فَيجوز) إِطْلَاق الْمُشْتَقّ عَلَيْهِ
(وَهُوَ) أَي وَالْحَال أَن الْمصدر قَائِم (بِغَيْرِهِ) أَي
بِغَيْر من يمْتَنع الْقيام بِهِ (و) بَين (غَيره) أَي من لم
يمْتَنع قيام الْمصدر بِهِ (فَلَا) يجوز إِطْلَاق الْمُشْتَقّ
عَلَيْهِ، وَالْمعْنَى قَائِم بِغَيْرِهِ وَالْحَاصِل أَن
الحكم اللّغَوِيّ الْكُلِّي الْمُقْتَضى عدم جَوَاز إِطْلَاق
الْمُشْتَقّ على من لم يقم بِهِ الْمصدر من غير تَفْصِيل
يقْضِي عَلَيْكُم بِعَدَمِ صِحَة إِطْلَاق الْمُتَكَلّم
عَلَيْهِ تَعَالَى بِالْمَعْنَى الَّذِي ذكرْتُمْ فَإِن
قُلْتُمْ الِامْتِنَاع الْمَذْكُور قرينَة صارفة عَن إِرَادَة
الْحَقِيقَة إِلَى الْمَعْنى الْمجَازِي الَّذِي ذكرنَا
قُلْنَا ذَلِك عِنْد تعذر الْحَقِيقَة، وَهِي غير متعذرة
لوُجُود الْكَلَام النَّفْسِيّ على مَا هُوَ مَذْهَبنَا (بل)
نقُول لَا يمْتَنع قيام الْكَلَام بِهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ
(لَو امْتنع لم يصغ) الْمُتَكَلّم (لَهُ) تَعَالَى (أصلا
فَحَيْثُ صِيغ) لَهُ تَعَالَى (لزم قِيَامه) أَي الْكَلَام
(بِهِ تَعَالَى) فَتعين أَن المُرَاد من الْكَلَام غير
الْأَصْوَات والحروف وَهُوَ الْكَلَام النَّفْسِيّ (فَلَو
ادعوهُ) أَي الْمُعْتَزلَة أَن معنى التَّكَلُّم خلق الْكَلَام
(مجَازًا) لَا حَقِيقَة، فَلم يصغ لَهُ تَعَالَى، وَلَا
يُنَافِي الحكم اللّغَوِيّ (ارْتَفع الْخلاف فِي الأَصْل
الْمَذْكُور) وَهُوَ أَنه لَا يشتق لذات، وَالْمعْنَى قَائِم
بغَيْرهَا، لِأَن الِاشْتِقَاق لَهَا أَن يُطلق عَلَيْهَا
حَقِيقَة، وَقد اعْتَرَفُوا بنفيه، وَإِن لم يرْتَفع الْخلاف
فِي المسئلة الكلامية لِأَن كَلَامه تَعَالَى عِنْدهم حَادث
قَائِم بجسم، وَعِنْدنَا قديم قَائِم بِذَاتِهِ تَعَالَى،
وَفِي أَن الْمُتَكَلّم يُطلق عَلَيْهِ حَقِيقَة (وَهُوَ) أَي
الادعاء الْمَذْكُور مِنْهُم (أقرب) إِلَى الْقبُول من
ادِّعَاء كَون معنى كَلَامه ذَلِك حَقِيقَة لعدم مُخَالفَته
الحكم اللّغَوِيّ، وسعة دَائِرَة الْمجَاز وَإِن كَانَ فِي حد
ذَاته بعيد الارتكاب مثل هَذَا التَّجَوُّز من غير تعذر
الْحَقِيقَة، والتفريق بَين المشتقات الَّتِي تطلق عَلَيْهِ
تَعَالَى يَجْعَل مبدأ اشتقاق الْبَعْض قَائِما بِغَيْرِهِ
تَعَالَى إِلَى غير ذَلِك (غير أَنهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ
(نقلوا استدلالهم) أَي الْمُعْتَزلَة على كَون الْمُتَكَلّم
بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكرُوهُ (بِإِطْلَاق ضَارب حَقِيقَة)
على شخص (وَهُوَ) أَي الضَّرْب قَائِم (بِغَيْرِهِ) أَي غير
ذَلِك الشَّخْص، لِأَن الضَّرْب هُوَ الْأَثر الْحَاصِل فِي
الْمَفْعُول، وَهُوَ الْمَضْرُوب فَإِن صَحَّ هَذَا النَّقْل
عَنْهُم تعين أَن مُرَادهم ادِّعَاء الْحَقِيقَة لَا الْمجَاز
(وَأجِيب) عَن استدلالهم (بِأَنَّهُ) أَي الضَّرْب
(التَّأْثِير) أَي تَأْثِير ذَلِك أثر الْقَائِم بالمضروب
وإيجاده (وَهُوَ) أَي التَّأْثِير قَائِم (بِهِ) أَي بالضارب
والمضروب لَا بالمضروب فَقَط، وَقد استوفيت الْكَلَام فِي
تَحْقِيق هَذَا فِي رسالتي الْمَوْضُوعَة لبَيَان الْحَاصِل
بِالْمَصْدَرِ وَهَذَا مَبْنِيّ على مَا هُوَ الْحق من أَن
التَّأْثِير لَيْسَ هُوَ الْأَثر على أَن الْأَثر الَّذِي هُوَ
الْحَاصِل بِالْمَصْدَرِ إِنَّمَا هُوَ قَائِم بالضارب
(وَبِأَنَّهُ) مَعْطُوف على إِطْلَاق ضَارب، وَالضَّمِير للشأن
(ثَبت الْخَالِق لَهُ) تَعَالَى (بِاعْتِبَار الْخلق) الَّذِي
هُوَ مبدأ اشتقاقه (وَهُوَ) أَي الْخلق (الْمَخْلُوق) . قَالَ
تَعَالَى - {هَذَا خلق الله} - مُشِيرا بِهِ إِلَى
(1/69)
الْمَخْلُوق، والمخلوق غير قَائِم
بِذَاتِهِ تَعَالَى (لَا التَّأْثِير) أَي الْخلق لَيْسَ هُوَ
التَّأْثِير (والأقدم الْعَالم إِن قدم) التَّأْثِير لعدم
انفكاك الْأَثر عَن التَّأْثِير (وَإِلَّا) وَإِن لم يكن
التَّأْثِير قَدِيما، بل حَادِثا (تسلسل) أَي لزم التسلسل فِي
التأثيرات، لِأَن الْحَادِث أثر يحْتَاج إِلَى مُؤثر وتأثير،
فَيَعُود الْكَلَام إِلَى ذَلِك التَّأْثِير، وَهَكَذَا
(وَهُوَ) أَي هَذَا الِاسْتِدْلَال على تَقْدِير تَسْلِيم
مقدماته (مُثبت لجزء الدَّعْوَى) لَا لَهَا لِأَنَّهَا مركبة
من مقدمتين، أَحدهمَا الِاشْتِقَاق لذات لَا يقوم بهَا المبدأ،
وَثَانِيهمَا أَنه قَائِم بغَيْرهَا، وَالدَّلِيل لَا يُفِيد
إِلَّا الأولى، إِذْ الْخلق بِمَعْنى الْمَخْلُوق مَجْمُوع
الْجَوْهَر وَالْعرض، وَبَعضه قَائِم بِنَفسِهِ، وَبَعضه بذلك
الْبَعْض، وَالْمَجْمُوع يعد قَائِما بِنَفسِهِ لَا بِغَيْرِهِ
كالجسم الْمركب من الْمَادَّة وَالصُّورَة ونوقش بِأَن
إِطْلَاق الْخَالِق لَا يجب أَن يكون بِاعْتِبَار جَمِيع
الْمَخْلُوقَات، بل يَصح بِاعْتِبَار الْأَفْعَال وَالصِّفَات،
وَحِينَئِذٍ يثبت تَمام الدَّعْوَى فَالْجَوَاب مَا أَشَارَ
إِلَيْهِ بقوله (أُجِيب بِأَن معنى خلقه كَونه سُبْحَانَهُ
تعلّقت قدرته بالإيجاد وَهُوَ) أَي كَونه تَعَالَى كَذَا
(إِضَافَة اعْتِبَار تقوم بِهِ) تَعَالَى أما كَونه إِضَافَة
لكَونهَا معقولة بِالْقِيَاسِ إِلَى الْغَيْر، وَأما إِضَافَته
إِلَى الِاعْتِبَار، فباعتبار أَنه يعقل بَين الذَّات الأقدس،
وَأمر اعتباري هُوَ تعلق قدرته سُبْحَانَهُ بالإيجاد، ومبني
هَذَا الْجَواب على نفي كَون التكوين صفة حَقِيقِيَّة أزلية
تتكون بهَا المكونات الْحَادِثَة فِي أَوْقَاتهَا كَمَا هُوَ
مَذْهَب الماتريدية كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (لَا صفة
متقررة) مَعْطُوف على إِضَافَة اعْتِبَار (ليلزم كَونه محلا
للحوادث) غَايَة للمنفي، يَعْنِي كَونه صفة متقررة يسْتَلْزم
كَونه تَعَالَى محلا للحوادث على تَقْدِير حُدُوثه (أَو قدم
الْعَالم) أَي تَقْدِير قدمه مَعْطُوف على كَونه (وَأورد) على
الْجَواب الْمَذْكُور بطرِيق الترديد كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ
بقوله (إِن قَامَت بِهِ) تَعَالَى (النِّسْبَة) الَّتِي هِيَ
(الِاعْتِبَار) الْمَذْكُور فِي قَوْله إِضَافَة اعْتِبَار،
وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن الْإِضَافَة بَيَانِيَّة (فَهُوَ)
تَعَالَى حِينَئِذٍ (مَحل للحوادث، وَإِن لم تقم بِهِ ثَبت
مطلوبهم، وَهُوَ الِاشْتِقَاق لذات وَلَيْسَ الْمَعْنى)
قَائِما (بِهِ) أَي الذَّات بِتَأْوِيل مَا اشتق لَهُ، وَقد
سبق أَنه مُثبت لجزء الْمُدَّعِي (مَعَ أَن الْوَجْه) الَّذِي
مَعَ وجوده لَا يُسمى غَيره وَجها (أَن لَا تقوم) النِّسْبَة
الْمَذْكُورَة (بِهِ) تَعَالَى (لِأَن الاعتباري لَيْسَ لَهُ
وجود حَقِيقِيّ) وَهُوَ الْوُجُود الْخَارِجِي (فَلَا يقوم
بِهِ حَقِيقَة) لِأَن الْقيَاس فرع وجود مَا يقوم بِهِ، وَفِيه
نظر، لِأَن الْعَمى وَهُوَ عدم الْبَصَر عَمَّا من شَأْنه أَن
يبصر غير مَوْجُود فِي الْخَارِج مَعَ أَنه قَائِم فِيهِ
بالأعمى، وَمن ثمَّ اشْتهر بَينهم أَن ثُبُوت شَيْء لشَيْء فرع
ثُبُوت الْمُثبت لَهُ لَا الْمُثبت: نعم ذكر بعض الأفاضل على
سَبِيل الِاعْتِرَاض أَنه فرع ثُبُوت الْمُثبت أَيْضا، فَلَا
وَجه للتخصيص، وَكَأن المُصَنّف رَحمَه الله مَال إِلَيْهِ،
فَحِينَئِذٍ يُنكر قيام الْعمي فِي الْخَارِج، بل فِي
الذِّهْن، وَهُوَ الْمُصَحح للاشتقاق كَمَا يُشِير إِلَيْهِ
بقوله
(1/70)
(لَكِن كَلَامهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ
(أَنه يَكْفِي فِي الِاشْتِقَاق) أَي فِي اشتقاق الْخَالِق من
الْخلق لَهُ تَعَالَى (هَذَا الْقدر من الانتساب) بَيَان ذَلِك
مَا أَفَادَهُ السَّيِّد من أَن للقدرة تعلقا حَادِثا لولاه لم
تُوجد الْحَوَادِث، وَإِذا انتسب إِلَى الْعَالم فَهُوَ صدوره
عَن الْخَالِق، أَو إِلَى الْقُدْرَة، فَهُوَ إيجادها
للْعَالم، أَو إِلَى ذِي الْقُدْرَة، فَهُوَ خلقه للْعَالم،
أَو يُمكن أَن يُقَال إِذا نسب إِلَى الْعَالم صَار مُبْتَدأ
وصف لَهُ، هُوَ صدوره عَن الْخَالِق، وَإِلَى الْقُدْرَة
مُبْتَدأ وصف آخر هُوَ الإيجاد، وَإِلَى ذِي الْمقدرَة صَارَت
مُبْتَدأ وصف آخر، وَهُوَ كَونه تعلّقت قدرته، وَبِاعْتِبَار
هَذِه النِّسْبَة اشتق اسْم الْخَالِق، وَلَا نعني بقيامه
كَونه صفة حَقِيقِيَّة قَائِمَة بِهِ، بل مَا هُوَ أَعم من
ذَلِك، فَإِن سَائِر الإضافات الَّتِي هِيَ أُمُور اعتبارية
لَا تحقق لَهَا فِي الْأَعْيَان قَائِمَة بمحالها، وَإِلَيْهِ
أَشَارَ بقوله (فَلْيَكُن) هَذَا الْقدر من الانتساب (هُوَ
المُرَاد بِقِيَام الْمَعْنى فِي صدر المسئلة) حِين أورد
عَلَيْهِم بِأَن نَحْو الْخَالِق والرازق اشتق لَهُ تَعَالَى،
وَالْمعْنَى غير قَائِم بِهِ (ثمَّ هَذَا الْجَواب) أَي بِأَن
معنى خلقه كَونه تعلّقت قدرته بإيجاده (ينبو) أَي يبعد (عَن
كَلَام الْحَنَفِيَّة) أَي متأخريهم من عهد أبي مَنْصُور
الماتريدي (فِي صِفَات الْأَفْعَال) وَهِي مَا أفادت تكوينا،
كالخالق، والرازق، والمحيي، والمميت، فَإِنَّهُم صَرَّحُوا
بِأَنَّهَا صِفَات قديمَة مُغَايرَة للقدرة والإرادة فَقَوله
ينبو خبر يكن، وَقَوله أَنه يَكْفِي بدل عَن اسْمهَا كَمَا أَن
مَدْخُول ثمَّ مَعْطُوف عَلَيْهِ (غير أَنا بَينا فِي
الرسَالَة الْمُسَمَّاة بالمسايرة) فِي العقائد المنجية فِي
الْآخِرَة (أَن قَول أبي حنيفَة) رَحمَه الله (لَا يُفِيد مَا
ذَهَبُوا إِلَيْهِ وَأَنه) أَي مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ (قَول
مستحدث) لَيْسَ فِي كَلَام الْمُتَقَدِّمين (وَقَوله) أَي أبي
حنيفَة رَحمَه الله أَنه تَعَالَى (خَالق قبل أَن يخلق إِلَى
آخِره) أَي ورازق قبل أَن يرْزق (بِالضَّرُورَةِ يُرَاد بِهِ)
أَي بالخلق الْمَذْكُور فِي قَوْله هَذَا (قدرَة الْخلق)
الَّتِي هِيَ صفة حَقِيقِيَّة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يرد
بِهِ قدرته، بل الْخلق بِالْفِعْلِ (قدم الْعَالم) لِأَن وجود
الْمَخْلُوق لَازم لَهُ فَإِن قلت هَذَا يرجع إِلَى قَول
الكرامية، وهم أَصْحَاب مُحَمَّد بن كرام الْقَائِل بِأَن
معبوده مُسْتَقر على الْعَرْش، وَأَنه جَوْهَر، تَعَالَى الله
عَن ذَلِك. قَالَ فَخر الْإِسْلَام: وَأما الكرامية
فَيَقُولُونَ إِنَّا نُسَمِّيه خَالِقًا فِي الْأَزَل لَا على
معنى أَنه خلق الْخلق، بل لِأَنَّهُ قَادر على الْخلق، وَهَذَا
فَاسد فَإِنَّهُ لَو جَازَ لجَاز أَن يُسَمِّي الْقَادِر على
الْكَلَام متكلما انْتهى قلت هم يفسرون اسْم الْخَالِق بالقادر
عَلَيْهِ كتفسير الْمُعْتَزلَة الْمُتَكَلّم بخالق الْكَلَام،
وَالْإِمَام أَرَادَ بِهِ ذَلِك مجَازًا فِي بعض الاطلاقات (و)
الْخلق (بِالْفِعْلِ تعلقهَا) أَي الْقُدْرَة بالإيجاد، وَفِيه
إِشَارَة إِلَى أَن الأول تَعْبِير لِلْخلقِ بالإمكان (وَهُوَ)
أَي التَّعَلُّق الْمَذْكُور (عرُوض الْإِضَافَة للقدرة) وَهِي
إيجادها للمقدور (وَيلْزم حُدُوثه) أَي التَّعَلُّق
الْمَذْكُور، وَإِلَّا يلْزم قدم الْعَالم (وَلَو صرح)
(1/71)
أَبُو حنيفَة رَحمَه الله (بِهِ) أَي بِأَن
المُرَاد بالخلق الْمَذْكُور فِي قَوْله الْمَشْهُور الْخلق
بِالْفِعْلِ (فقد نَفَاهُ الدَّلِيل) أَي لَا يتبع فِي ذَلِك،
لِأَنَّهُ قد نَفَاهُ الدَّلِيل الْقطعِي، وَهُوَ لُزُوم قدم
الْعَالم على تَقْدِير قدم الْخلق بِالْفِعْلِ فَإِن قلت
قَوْلنَا: الله تَعَالَى خَالق بِالْفِعْلِ مُطلقَة عَامَّة،
وَصدق الْمُطلقَة دائمي لِأَنَّهُ لَا يلْزم فِيهَا إِلَّا
ثُبُوت الْمَحْمُول للموضوع فِي الْجُمْلَة، فَلَا يلْزم دوَام
ثُبُوت الْخلق حَتَّى يلْزم قدم الْعَالم قلت هَذَا من
الاعتبارات الفلسفية لَا تساعده اللُّغَة، فَإِن إِطْلَاق
الْمُشْتَقّ على شَيْء حَقِيقَة يقتضى ثُبُوت مبدأ
الِاشْتِقَاق فِي زمَان الْإِطْلَاق على قَول الْجُمْهُور، أَو
فِيهِ، أَو قبله عِنْد الْبَعْض، وَللَّه در المُصَنّف حَيْثُ
ذكر مَسْأَلَة اشْتِرَاط بَقَاء الْمَعْنى فِي كَون
الْمُشْتَقّ حَقِيقَة عقيب هَذَا الْبَحْث، فَقَالَ:
مَسْأَلَة
(الْوَصْف) وَهُوَ على مَا مر مَا دلّ على ذَات مُبْهمَة متصفة
بِمعين (حَال الاتصاف حَقِيقَة) أَي إِذا أطلق على ذَات متصفة
بمبدأ اشتقاقه فِي زمَان اتصافها بِهِ حَقِيقَة اتِّفَاقًا،
وَلَا يخفى عَلَيْك أَن رَاكِبًا فِي جَاءَنِي رَاكب،
وَسَيَجِيءُ رَاكب حَقِيقَة إِن كَانَ الرّكُوب مَوْجُودا
عِنْد ثُبُوت الْمَجِيء لموصوفه وَإِن لم يكن مَوْجُودا فِي
زمَان الاخبار فَالْعِبْرَة بِزَمَان تعلق مَا نسب إِلَيْهِ
فِي الْكَلَام، فَإِن وجد الْمَعْنى فِيهِ فالوصف حَقِيقَة
سَوَاء وجد فِي زمَان الاخبار أَولا، ثمَّ الْآمِدِيّ وَابْن
الْحَاجِب جعلا مَوْضُوع المسئلة الْمُشْتَقّ. وَقَالَ
التَّفْتَازَانِيّ: التَّحْقِيق أَن المنازع اسْم الْفَاعِل
بِمَعْنى الْحُدُوث، وسيظهر لَك أَن الْوَجْه مَا اخْتَارَهُ
المُصَنّف رَحمَه الله (وَقَبله) وَإِذا أطلق على ذَات قبل أَن
يَتَّصِف بِالْمَعْنَى المصدري (مجَاز) اتِّفَاقًا (وَبعد
انقضائه) أَي وَإِذا طلق ثَانِيًا حَقِيقَة عَلَيْهَا بعد مَا
اتصفت بِهِ وانقضى ذَلِك الاتصاف، فقد اخْتلف فِيهِ على
ثَلَاثَة أَقْوَال: أَولهَا مجَاز مُطلقًا (ثَالِثهَا)
التَّفْصِيل، وَهُوَ أَنه (إِن كَانَ بَقَاؤُهُ) أَي الاتصاف
(مُمكنا) بِأَن لم يكن الْمصدر من المصادر السيالة الْغَيْر
القارة لعدم اجْتِمَاع أزائها فِي الْوُجُود كالتكلم والاخبار،
بل يكون مثل الْقيام وَالْقعُود (فمجاز، وَإِلَّا) أَي وَإِن
لم يكن بَقَاؤُهُ مُمكنا بِأَن كَانَ من المصادر الْمَذْكُورَة
فالوصف حِينَئِذٍ (حَقِيقَة) وَاكْتفى بِذكر الثَّالِث اختصارا
مَعَ أَن الْأَوَّلين يفهمان فِي أَمْثَال هَذَا الْمقَام
كَمَا لَا يخفى، كَيفَ وَقَوله ثَالِثهَا دلّ على أَن هَهُنَا
قَوْلَيْنِ غَيره؟ وَلَا يخلوا إِمَّا فيهمَا التَّفْصِيل
أَولا، لَا سَبِيل إِلَى الأول لِأَنَّهُ يجب إِذن ذكرهمَا،
وعَلى الثَّانِي يتَعَيَّن أَن يكون أَحدهمَا القَوْل بالمجاز
مُطلقًا وَالْآخر بِالْحَقِيقَةِ مُطلقًا (كَذَا) إِشَارَة
إِلَى مَا ذكرت فِي بَيَان الْأَقْوَال، وَالْكَاف اسْم
مُبْتَدأ خَبره (شرح بِهِ) وَالضَّمِير الْمَجْرُور عَائِد
إِلَى الْمُبْتَدَأ (وَضعهَا) قَائِم مقَام فَاعل شرح،
(1/72)
وَالضَّمِير رَاجع إِلَى المسئلة، وَوضع
المسئلة عبارَة عَن ذكرهَا فِي صدر المبحث لِأَن يُقَام
عَلَيْهَا الْبُرْهَان، وَهَذَا كَمَا هُوَ الْمُعْتَاد من وضع
الْمُدَّعِي أَولا، ثمَّ إِقَامَة الْبَيِّنَة عَلَيْهِ،
وَقَوله (هَل يشْتَرط لكَونه حَقِيقَة بَقَاء الْمَعْنى،
ثَالِثهَا إِن كَانَ مُمكنا اشْترط) بدل من قَوْله وَضعهَا،
وَالْمعْنَى شرح وضع المسئلة، وَهُوَ هَل يشْتَرط إِلَى آخِره
بِمثل مَا ذكرنَا، والواضع ابْن الْحَاجِب، وَالشَّارِح
القَاضِي عضد الدّين (وَهُوَ) أَي الشَّرْح الْمَذْكُور
(قَاصِر) عَن إِفَادَة مَا يفِيدهُ الْوَضع الْمَذْكُور (إِذْ
يُفِيد) الْوَضع إِطْلَاق اشْتِرَاط الْحَقِيقَة بِبَقَاء
الْمَعْنى فِي كل مَا يُمكن بَقَاؤُهُ فِيهِ، و (إِطْلَاق
الِاشْتِرَاط) على الْوَجْه الْمَذْكُور يُفِيد (المجازية حَال
قيام جُزْء) من الْمَعْنى بعد انْقِضَاء بعض أَجْزَائِهِ (فِي)
كل (مَا يُمكن) بَقَاؤُهُ فِيهِ ضَرُورَة انْتِفَاء شَرط
الْحَقِيقَة، وَهُوَ بَقَاء الْمَعْنى بسب انْقِضَاء بعض
أَجْزَائِهِ (وَالشَّرْح) الْمَذْكُور يُفِيد (الْحَقِيقَة)
فِيهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ذكر للوصف ثَلَاث حالات: حَال
الاتصاف، وَقَبله، وَبعد انقضائه، وَلَا شكّ أَن مَا يُمكن
بَقَاء الْمَعْنى فِيهِ إِذا انْقَضى بعض أَجْزَائِهِ دون بعض
لَا تندرج حَاله هَذِه تَحت الثَّالِثَة، لِأَن انْقِضَاء
الْمَعْنى عبارَة عَن انْقِضَاء جَمِيع أَجْزَائِهِ، وَلَا
تَحت الثَّانِيَة، وَهُوَ ظَاهر، فَتعين دُخُوله فِي الأولى،
وَلزِمَ الحكم بِكَوْنِهِ حَقِيقَة لقَوْله حَال الاتصاف
حَقِيقَة، وَالْأَوْجه أَن يُقَال: معنى قَوْله: وَهُوَ قَاصِر
أَن الْوَضع قَاصِر عَمَّا هُوَ الْحق فِي الْأَدَاء، إِذْ
الْمَفْهُوم من كَلَام المُصَنّف رَحمَه الله الْمُوَافقَة
مَعَ القَاضِي فِيمَا يَقْتَضِيهِ كَلَامه لموافقته إِيَّاه
فِي الْوَضع، وَيُؤَيِّدهُ قرب الْمرجع حِينَئِذٍ الضَّمِير
هُوَ وَالله أعلم.
(الْمجَاز) أَي دَلِيل الْمجَاز مُبْتَدأ خَبره (يَصح فِي
الْحَال نَفْيه مُطلقًا) وَالْمعْنَى دَلِيل الْقَائِل بمجازية
الْوَصْف بعد انْقِضَاء الْمَعْنى صِحَة نفي الْوَصْف المنقضي
مبدأ اشتقاقه عَن الذَّات الَّتِي انْقَضى عَنهُ فِيمَا بعد
الِانْقِضَاء نفيا مُطلقًا عَن التَّقْيِيد بالماضي أَو
الْحَال أَو الِاسْتِقْبَال، وَهُوَ النَّفْي فِي الْجُمْلَة،
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَصح نَفْيه فِي الْحَال، وَهُوَ أخص من
النَّفْي مُطلقًا، والأخص يسْتَلْزم الْأَعَمّ (وَهُوَ) أَي
نَفْيه مُطلقًا (دَلِيله) أَي دَلِيل كَون الْوَصْف مجَازًا
(وَكَونه) أَي كَون نفي الْوَصْف فِي الْجُمْلَة (لَا يُنَافِي
الثُّبُوت المنقضى فِي نفس الْأَمر) لعدم الْمُنَافَاة بَين
السالبة الْمُطلقَة والموجبة الْغَيْر الدائمة، وَقَوله فِي
نفس الْأَمر ظرف عدم الْمُنَافَاة (لَا يَنْفِي مُقْتَضَاهُ)
أَي مُقْتَضى النَّفْي الْمَذْكُور (من نفي كَونه حَقِيقَة)
بَيَان لمقتضاه: أَي عدم الْمُنَافَاة بَين النَّفْي والثبوت
لَا يسْتَلْزم عدم اقْتِضَاء النَّفْي مجازية الْمَنْفِيّ (نعم
لَو كَانَ المُرَاد) من النَّفْي الَّذِي جعل دَلِيل الْمجَاز
(نفي ثُبُوت الضَّرْب مثلا فِي الْحَال وَهُوَ) أَي نفي ثُبُوت
الضَّرْب فِي الْحَال (نفي الْمُقَيد) بِالْحَال لَكَانَ يبْقى
اقْتِضَاء المجازية، لِأَن دَلِيل المجازية نفي الضَّرْب بِلَا
تَقْيِيد (لَكِن المُرَاد صدق زيد لَيْسَ ضَارِبًا من غير قصد
التَّقْيِيد) أَي تَقْيِيد
(1/73)
الضَّرْب الْمَنْفِيّ بِكَوْنِهِ فِي
الْحَال، وَإِن كَانَ صدق النَّفْي فِي نفس الْأَمر
بِاعْتِبَار ثُبُوت الضَّرْب فِي الْحَال وَغَيره (وَأجِيب
بِمَنْع صدق) النَّفْي (الْمُطلق على طَلَاقه) قَالَ الْمُحَقق
التَّفْتَازَانِيّ إِن ادّعى صِحَة النَّفْي الْمُطلق بِحَسب
اللُّغَة: أَي يَصح لُغَة أَنه لَيْسَ بضارب فَهُوَ مَمْنُوع،
بل هُوَ عين النزاع، وَإِن ادّعى صِحَّته عقلا، بِمَعْنى أَنه
يصدق عقلا أَنه لَيْسَ بضارب فِي الْجُمْلَة بِنَاء على أَنه
يصدق أَنه لَيْسَ بضارب فِي الْحَال، والضارب فِي الْحَال
ضَارب فِي الْجُمْلَة، فصحة النَّفْي بِهَذَا الْمَعْنى لَا
يُنَافِي كَون اللَّفْظ حَقِيقَة، بل النَّافِي لَهُ صِحَة
النَّفْي بِالْكُلِّيَّةِ انْتهى، وَالْمُصَنّف رَحمَه الله
اكْتفى بِمَا هُوَ الْعُمْدَة فِي الْجَواب (قَالُوا) ثَانِيًا
(لَو كَانَ) الْوَصْف (حَقِيقَة بِاعْتِبَار مَا) أَي اتصاف
كَانَ (قبله) أَي قبل الْإِطْلَاق (لَكَانَ) حَقِيقَة أَيْضا
(بِاعْتِبَار مَا بعده) أَي الْإِطْلَاق (وَإِلَّا) أَي وَإِن
لم يكن حَقِيقَة بِاعْتِبَار مَا بعده على تَقْدِير كَونه
حَقِيقَة بِاعْتِبَار مَا قبله (فتحكم) أَي فَيلْزم تحكم، أَو
فَالْفرق تحكم (بَيَان الْمُلَازمَة) بَين الاعتبارين (أَن
صِحَّته) أَي كَون الْإِطْلَاق حَقِيقَة (فِي الْحَال) فِي
حَال اتصاف مَا يُطلق عَلَيْهِ بِالْمَعْنَى (أَن تقيد بِهِ)
أَي بالاتصاف فِي الْحَال (فمجاز فيهمَا) أَي فالوصف مجَاز فِي
الصُّورَتَيْنِ جَمِيعًا لانْتِفَاء مَا قيد بِهِ فيهمَا
(وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتَقَيَّد بالقيد الْمَذْكُور (فحقيقة
فيهمَا) لِأَن الْمُعْتَبر حِينَئِذٍ فِي الْحَقِيقَة تحقق
الْمَعْنى فِي وَقت مَا وهما متساويان فِيهِ (وَغَيره) أَي غير
أحد الْأَمريْنِ من كَونه حَقِيقَة فيهمَا مَعًا أَو مجَازًا
فيهمَا مَعًا (تحكم) لعدم الْفَارِق (الْجَواب) أَنه (لَا
يلْزم من عدم التَّقْيِيد بِهِ) أَي الاتصاف فِي الْحَال (عدم
التَّقْيِيد) بِمَا يَخُصهَا بِمَا عدا الصُّورَة الَّتِي لَا
نزاع فِي مجازيتها (لجَوَاز تقيده) أَي كَون الْإِطْلَاق
حَقِيقَة (بالثبوت) أَي ثُبُوت الْمَعْنى (قَائِما) حَال
الْإِطْلَاق (أَو منقضيا) حالان عَمَّا أضيف إِلَيْهِ
الثُّبُوت فَحذف وَعوض عَنهُ اللَّام، أَعنِي الْمَعْنى
فَإِنَّهُ فَاعل معنى (الْحَقِيقَة) أَي دَلِيل كَون الْوَصْف
حَقِيقَة فِيمَا أطلق عَلَيْهِ بعد انْقِضَاء الْمَعْنى، هَذَا
الْكَلَام (أجمع اللُّغَة) أَي أَهلهَا (على) صِحَة إِطْلَاق
(ضَارب أمس) على من قَامَ بِهِ الضَّرْب بالْأَمْس وانقضى
(وَالْأَصْل) فِي الْإِطْلَاق (الْحَقِيقَة) فَلَا يعدل عَنهُ
إِلَّا لمَانع، وَالْأَصْل عَدمه (عورض) الدَّلِيل الْمَذْكُور
(بإجماعهم) أَي أهل اللُّغَة (على صِحَّته) أَي إِطْلَاق ضَارب
(غَدا) على من لم يقم بِهِ الضَّرْب بعد وسيقوم فِي غَد (وَلَا
حَقِيقَة) فِي هَذَا الْإِطْلَاق بِالْإِجْمَاع وَلَا فرق
بَينهمَا لاشْتِرَاكهمَا فِي صِحَة الْإِطْلَاق إِجْمَاعًا
وَعدم وجود الْمَعْنى فِي الْحَال فَيحكم بمجازيتهما مَعًا
(وَحَاصِله خص الأَصْل لدَلِيل الْإِجْمَاع على مجازية
الثَّانِي، وَلَيْسَ مثله فِي الآخر) ضمير حَاصله رَاجع إِلَى
جَوَاب الْمُعَارضَة الْمَفْهُوم بِقَرِينَة الْمقَام لكَونه
مترقيا بعْدهَا سِيمَا عِنْد كَونهَا ظَاهِرَة الدّفع، على أَن
مَا بعده يُنَادي بتفسير الْمرجع، تَقْرِيره خص الأَصْل
الْمَذْكُور وَهُوَ الأَصْل الْحَقِيقَة
(1/74)
فِي الثَّانِي وَهُوَ ضَارب غَدا
للْإِجْمَاع، وَلَا إِجْمَاع على مجازية الأول ليخص فِيهِ
أَيْضا، فَعدم الْفرق بَينهمَا غير صَحِيح يعلم أَن قَول
الشَّارِح: الْوَجْه حذف وَلَيْسَ مثله فِي الآخر الْوَجْه
حذفه وَلَا يخفى عَلَيْك مَا فِي قَوْله خص الأَصْل من اللطف
(قَالُوا) ثَانِيًا (لَو لم يَصح) إِطْلَاق الْوَصْف بعد
انْقِضَاء الْمَعْنى (حَقِيقَة لم يَصح) أَن يُقَال (الْمُؤمن
لغافل) عَن تذكر الْإِيمَان (ونائم) حَقِيقَة لِكَوْنِهِمَا
غير متصفين بالتصديق وَالْإِقْرَار فِي الْحَالَتَيْنِ، كَمَا
أَنَّهُمَا غير متصفين بضدهما فيهمَا (وَالْإِجْمَاع) على
(أَنه) أَي الْمُؤمن (لَا يخرج بهما) أَي بالغفلة وَالنَّوْم
(عَنهُ) أَي الْإِيمَان (أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي الْمُؤمن
(مجَاز) فيهمَا، وَالْإِجْمَاع على صِحَة إِطْلَاق الْمُؤمن
عَلَيْهِمَا، لَا على إِطْلَاقه عَلَيْهِمَا حَقِيقَة
(لِامْتِنَاع) أَن يُقَال (كَافِر لمُؤْمِن لكفر تقدم) على
إيمَانه تَعْلِيل لكَون إِطْلَاق الْمُؤمن عَلَيْهِمَا
مجَازًا، تَوْضِيحه لَو كَانَ حَقِيقَة بِاعْتِبَار إِيمَان
تقدم لما امْتنع إِطْلَاق كَافِر لمُؤْمِن تقدم كفره لكنه
مُمْتَنع (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يمْتَنع ذَلِك (كَانَ
أكَابِر الصَّحَابَة كفَّارًا حَقِيقَة) لتقدم الْكفْر على
إِيمَانهم، فَتعين كَون الْمُؤمن مجَازًا فِي الغافل والنائم
(وَكَذَا النَّائِم لليقظان) أَي وَكَذَا كَانَ إِطْلَاق
النَّائِم على الْيَقظَان حَقِيقَة لنوم تقدم، وبطلانه لُغَة
ظَاهر (قيل وَالْحق أَنه) أَي الْمُؤمن وَنَحْوه (لَيْسَ من
مَحل النزاع، وَهُوَ) أَي محلّة (اسْم الْفَاعِل بِمَعْنى
الْحُدُوث) يَعْنِي أَن مَا هُوَ على صِيغَة اسْم الْفَاعِل قد
يكون بِمَعْنى الْحُدُوث كالعالم لله سُبْحَانَهُ، فَإِنَّهُ
بِمَعْنى الِاسْتِمْرَار (لَا) بِمَعْنى الثُّبُوت كَمَا (فِي
مثل الْمُؤمن وَالْحر وَالْعَبْد مِمَّا لَا يعْتَبر فِيهِ
طريان) أَي من الصِّفَات الَّتِي لم يعْتَبر فِيهَا حُدُوث
مبدأ اشتقاقها، أَعنِي عروضه لموصوفاتها بعد مَا لم يكن. قَالَ
الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: وَالتَّحْقِيق أَن النزاع فِي
حَقِيقَة اسْم الْفَاعِل، وَهُوَ الَّذِي بِمَعْنى الْحُدُوث،
لَا فِي مثل الْكَافِر، وَالْمُؤمن، والنائم، وَالْيَقظَان،
والحلو، والحامض، وَالْعَبْد، وَالْحر مِمَّا يعْتَبر فِي بعضه
الاتصاف بِهِ مَعَ عدم طريان المنافى، وَفِي بعضه الاتصاف بِهِ
بِالْفِعْلِ أَلْبَتَّة انْتهى، وَقد علم بذلك أَن الْحُدُوث
لم يعْتَبر فِي شَيْء من الْمَذْكُورَات، وَالْمُعْتَبر فِي
الْبَعْض الأول الاتصاف فِي الْجُمْلَة مَعَ عدم طريان
المنافى، وَالْكَافِر وَالْمُؤمن من الْبَعْض الأول،
وَالْبَاقِي من الثَّانِي (وَقد يُقَال وَلَو سلم) كَون
الْمُؤمن اسْم الْفَاعِل بِمَعْنى الْحُدُوث (فَالْجَوَاب
الْحق) الكاشف عَن حَقِيقَة المُرَاد الحاسم مَادَّة
الشُّبْهَة (أَنه إِذا أجمع على أَنه) أَي الْمُؤمن (إِذا لم
يخرج بهما) أَي النّوم والغفلة (عَن الْإِيمَان أَو عَن كَونه
مُؤمنا) يجوز أَن يكون تَفْسِيرا للْإيمَان، وَبَيَان كَونه
مصدرا مَبْنِيا للْفَاعِل، وَيجوز أَن يُرَاد بِالْإِيمَان
الْحَاصِل بِالْمَصْدَرِ، وَذكر هَذَا للْمُبَالَغَة
بِاعْتِبَار إِفَادَة عدم خُرُوجه عَن الْإِيمَان وَعَن لَازمه
فَهُوَ كالتأكيد (باعترافكم) مُتَعَلق بأجمع لَا بيخرج كَمَا
توهمه الشَّارِح لفساد الْمَعْنى حِينَئِذٍ، لِأَنَّهُ يقتضى
الْإِجْمَاع على عدم الْخُرُوج
(1/75)
باعتراف الْخصم (بل حكم أهل اللُّغَة
وَالشَّرْع) كلمة بل للترقي بِضَم أهل اللُّغَة إِلَى أهل
الْإِجْمَاع الَّذِي هُوَ أصل الشَّرْع (بِأَنَّهُ) أَي
الشَّأْن (مَا دَامَ الْمَعْنى مودعا حافظة الْمدْرك كَانَ
قَائِما بِهِ) المُرَاد بِالْمَعْنَى الْإِيمَان وَنَحْوه من
الصِّفَات النفسية الإدراكية، والمدرك الْعقل، وَلَيْسَ
المُرَاد بالحافظة مصطلح الْحُكَمَاء، أعيى خزانَة الواهمة
الَّتِي تدْرك الْمعَانِي الْجُزْئِيَّة الْمُتَعَلّقَة
بالمحسوسات كصداقة زيد وعداوة عَمْرو، بل الْقُوَّة الَّتِي
تحفظ مدركات الْعقل مُطلقًا، وَالْمعْنَى حكم الْفَرِيقَانِ
بِقِيَام الْإِيمَان وَنَحْوه بالمدرك مَا دَامَ مَوْجُودا فِي
خزانته (مَا لم يطْرَأ) على الْمدْرك (حكم يناقضه) أَي
الْمَعْنى الْمَذْكُور، كلمة مَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ
مَصْدَرِيَّة نائبة عَن الظّرْف الْمُضَاف إِلَى الْمصدر
المؤولة هِيَ وصلتها بِهِ: أَي مُدَّة دوَام الْمَعْنى
وَمُدَّة عدم طروحكم، والظرف الثَّانِي بدل عَن الأول، وَفِي
الْحَقِيقَة تَفْسِير لَهُ، لِأَن مُدَّة دوَام الْمَعْنى هِيَ
مُدَّة عدم طرُو مَا يناقضه، وَالْعَامِل فيهمَا كَذَلِك،
وَلَك أَن تجْعَل الظّرْف الثَّانِي مَعْمُولا لقوه مودعا، غير
أَنه موهم وجود الْإِيدَاع على تَقْدِير الطرو أَيْضا،
وَالْمرَاد بالحكم المناقض مَا يُنَافِي الْإِيمَان من قَول
أَو فعل كالتكلم بِكَلِمَة الْكفْر وَعبادَة الْأَوْثَان،
وتسميتهما حكما، لِأَنَّهُ سَبَب لترتيب أَحْكَام بِوَضْع
الشَّارِع فَهُوَ من خطاب الْوَضع الَّذِي يُسمى حكما عِنْد
الْأُصُولِيِّينَ (بِلَا شَرط دوَام الْمُشَاهدَة) مُتَعَلق
بِحكم: أَي لَا يشْتَرط فِي قيام الْإِيمَان بالمدرك الْمُؤمن
دوَام مشاهدته باستحضار صورته، وَالنَّظَر إِلَيْهَا من غير
أَن تغيب (فالإطلاق) أَي إِطْلَاق الْمُؤمن على الغافل والنائم
وَغَيرهمَا (حِينَئِذٍ) أَي حِين إِذْ يكون الْإِيمَان مودعا
فِي الحافظة كامنا (حَال قيام الْمَعْنى) الَّذِي هُوَ
الْإِيمَان (وَهُوَ) أَي إِطْلَاق الْوَصْف على الذَّات حَال
قيام الْمَعْنى (حَقِيقِيّ اتِّفَاقًا فَلم يفد) صِحَة
إِطْلَاق الْمُؤمن على الغافل والنائم (فِي مَحل النزاع
شَيْئا) من الْفَائِدَة لِأَن النزاع فِيمَا بعد انْقِضَاء
الْمَعْنى (وَبِه) أَي بِهَذَا الْجَواب الْحق (يبطل الْجَواب
بِأَنَّهُ) أَي الْمُؤمن فِي الغافل والنائم (مجَاز) لما عرفت
من أَن إِطْلَاقه عَلَيْهِمَا حَال قيام الْمَعْنى، وَهُوَ
حَقِيقِيّ (وإثباته) أَي إِثْبَات أَنه مجَاز (بامتناع) أَن
يُقَال (كَافِر لمُؤْمِن صَحَابِيّ أَو غَيره الخ بَاطِل)
لِأَن امْتنَاع إِطْلَاق كَافِر لمُؤْمِن تقدم كفره إِنَّمَا
هُوَ من جِهَة الشَّرْع، وَأما امْتِنَاعه من جِهَة اللُّغَة
فَعدم صِحَّته غير مُسلم (بل صِحَّته) أَي صِحَة إِطْلَاق
كَافِر عَلَيْهِ (لُغَة اتِّفَاق) أَي مُتَّفق عَلَيْهِ بَين
أهل اللُّغَة (وَإِنَّمَا الْخلاف فِي أَنه) أَي الْكَافِر فِي
الْمُؤمن الْمَذْكُور (حَقِيقَة) لُغَة أَو مجَازًا
(وَالْمَانِع) عَن الْإِطْلَاق أَمر (شَرْعِي) لَا لغَوِيّ
فَإِنَّهُ مَنْهِيّ تَعْظِيمًا لَهُ (واذن) ظرف زمَان فِيهِ
معنى الشَّرْط غَالِبا، وَقد يكون لمُجَرّد الظَّرْفِيَّة،
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {فعلتها إِذا وَأَنا من
الضَّالّين} - أَصله إِذا حذفت الْجُمْلَة الْمُضَاف
إِلَيْهَا، وَعوض مِنْهَا التَّنْوِين، والعالم فِيهِ الادعاء
الْمَذْكُور فِي قَوْلهم (لَهُم ادِّعَاء كَونه حَقِيقَة)
(1/76)
أَي وَإِذا لم يكن الْمَانِع لغويا لأهل
الْحَقِيقَة ادعا كَون كَافِر حَقِيقَة فِي الْمُؤمن
الْمَذْكُور لُغَة، وَأَن امْتنَاع إِطْلَاقه لمَانع شرعا
(مَعَ صِحَة إِطْلَاق) لفظ (الضِّدّ) وَهُوَ الْمُؤمن
(كَذَلِك) أَي حَقِيقَة (وَلَا يمْتَنع) صِحَة إِطْلَاق الضدين
على شَيْء وَاحِد على جَمِيع التقادير (إِلَّا لَو قَامَ
مَعْنَاهُمَا فِي وَقت الصحتين) أَي على تَقْدِير قيام معنى
الضدين فِي وَقت وَاحِد هُوَ وَقت الصحتين (وَلَيْسَ
الْمُدَّعِي) أَي مدعي أهل الْحَقِيقَة (سوى كَون اللَّفْظ)
أَي الْوَصْف المنازع فِيهِ (بعد انْقِضَاء الْمَعْنى
حَقِيقَة، وَأَيْنَ هُوَ؟) أَي كَونه حَقِيقَة بعد انْقِضَاء
الْمَعْنى (من قِيَامه) أَي الْمَعْنى (فِي الْحَال) أَي فِي
حَال صِحَة الْإِطْلَاق (ليجتمع المتنافيان) فِي وَقت وَاحِد
(أَو يلْزم قيام أَحدهمَا) أَي المتنافيين (بِعَيْنِه) قَوْله
يلْزم مَعْطُوف على يجْتَمع، وَإِنَّمَا قَالَ بِعَيْنِه لِأَن
الْخُلُو عَن أَحدهمَا لَا على التَّعْيِين فِيمَا نَحن فِيهِ
غير مُتَصَوّر، إِذْ انْتِفَاء الْإِيمَان يسْتَلْزم الْكفْر
وَبِالْعَكْسِ، وَأما إِذا كَانَ الضدان بِحَيْثُ لَا يمْتَنع
ارتفاعهما عَن الْمحل كالأسود والأبيض، فَيجوز أَن لَا يقوم
شَيْء مِنْهُمَا مَعَ صِحَة إطلاقهما بِاعْتِبَار الاتصاف
السَّابِق تَلْخِيص الْكَلَام أَن حَاصِل الِاسْتِدْلَال صِحَة
إِطْلَاق الْمُؤمن على الغافل والنائم اللَّازِمَة عدم خروجهما
عَن الْإِيمَان يَقْتَضِي كَونه حَقِيقَة، وَكَذَا سَائِر
الْأَوْصَاف بعد الِانْقِضَاء وخلاصة الْجَواب: إِمَّا منع
لُزُوم الْحَقِيقَة لجَوَاز كَون الْإِطْلَاق مجازيا مُسْتَندا
بامتناع كَافِر الخ أَو الْمُعَارضَة بادعا المجازية وإثباتها
بالامتناع الْمَذْكُورَة ومحصول الْكَلَام الْمُحَقق منع
استلزام دَلِيل مدعي الْحَقِيقَة وخصمه مدعاه لخُرُوج الْمُؤمن
وَالْكَافِر عَن مَحل النزاع على تَقْدِير الْمُعَارضَة، أَو
عدم صَلَاحِية خَصمه لسندية لما ذكر وَحَاصِل تَحْقِيق
المُصَنّف منع استلزام الدَّلِيل الْمُدَّعِي على تَقْدِير
كَون الْمُؤمن اسْم الْفَاعِل بِمَعْنى الْحُدُوث لِأَنَّهُ
لَيْسَ من مَحل النزاع لعدم انْقِضَاء الْمَعْنى فِيهِ،
وَإِبْطَال دَلِيل مدعى الْمجَاز لصِحَّة إِطْلَاق كَافِر
لمُؤْمِن لُغَة بالِاتِّفَاقِ على تَقْرِير الْمُعَارضَة،
وَعدم صَلَاحِية السندية على تَقْرِير الْمَنْع مَعَ زِيَادَة
التَّحْقِيق على مَا ترى، كَيفَ وَقد أبطل جَوَابا صرح بقوته
القَاضِي عضد الدّين، وناهيك بِهِ (قَالُوا) ثَالِثا (لَو
اشْترط لكَونه) أَي الْوَصْف (حَقِيقَة بَقَاء الْمَعْنى لم
يكن لأكْثر المشتقات) من المصادر السيالة (حَقِيقَة) لِأَنَّهُ
لَا يتَصَوَّر بَقَاؤُهَا إِلَّا بعد حُصُولهَا، وَهُوَ لَا
يتَصَوَّر إِلَّا باجتماع أَجْزَائِهَا، وَأَنَّهَا تَنْقَضِي
أَولا فأولا (كضارب ومخبر) أما الضَّرْب فَفِي كَونه نظر كَمَا
سَيَأْتِي، وَأما الْأَخْبَار فَلِأَنَّهُ عبارَة عَن
التَّلَفُّظ بحروف تَنْقَضِي أَولا فأولا، فَقبل أَن يتَلَفَّظ
بالحرف الْأَخير لم يتَحَقَّق الْأَخْبَار، وَحين تلفظ بِهِ قد
انْقَضى، فَمَتَى يُطلق عَلَيْهِ عِنْد بَقَاء الْمَعْنى
ليَكُون حَقِيقَة (بل) تكون الْحَقِيقَة (لنَحْو قَائِم وقاعد)
مِمَّا اشتق من غير السيالة مِمَّا يجْتَمع أجزاؤه فِي
الْوُجُود وَيبقى (وَالْجَوَاب أَنه) أَي بَقَاء الْمَعْنى
(يشْتَرط إِن أمكن) بَقَاؤُهُ (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يُمكن
(فوجود جُزْء) أَي فَيشْتَرط وجود جُزْء فَلَا يلْزم أَن لَا
يكون لأكْثر
(1/77)
المشتقات حَقِيقَة، فَمَا دَامَ جُزْء
مِنْهَا مَوْجُودا يُطلق الْوَصْف حَقِيقَة، وَلَا يلْزم كَون
الْمُجيب مُطلق الِاشْتِرَاط، ليرد أَن هَذَا الْجَواب خلاف
مذْهبه (وَالْحق أَن هَذَا) التَّفْصِيل (يجب أَن يكون مُرَاد
مُطلق الِاشْتِرَاط) أَي من اشْتِرَاط بَقَاء الْمَعْنى فِي
مُطلق الْأَوْصَاف (ضَرُورَة) أَي وجوبا أَو للضَّرُورَة
الْمُقْتَضِيَة الْوُجُوب الْمَذْكُور، وَذَلِكَ لِأَن
الْعَاقِل الْعَارِف باللغة لَا يسْتَلْزم نفي الْحَقِيقَة
رَأْسا عَن أَكثر المشتقات (لَا مذهبا ثَالِثا) مَعْطُوف على
خبر يكون فَلَا يكون فِيمَا بعد الِانْقِضَاء إِلَّا مذهبان:
نفي الِاشْتِرَاط مُطلقًا، وَالتَّفْصِيل (فَهُوَ) أَي مُطلق
الِاشْتِرَاط (وَإِن قَالَ يشْتَرط بَقَاء الْمَعْنى)
والمتبادر مِنْهُ بَقَاؤُهُ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ لكنه
(يُرِيد) بِهِ (وجود شَيْء مِنْهُ) أَي جُزْء من الْمَعْنى
لظُهُور فَسَاد إِرَادَة مَا هُوَ الْمُتَبَادر فِيمَا لَا
يُمكن بَقَاؤُهُ، وَلَا يخفى عَلَيْك أَن هَذَا يُفِيد
التَّعْمِيم فِيمَا يُمكن ومالا يُمكن، وَلَا ضَرُورَة فِي
ارتكابه فِيمَا يُمكن، وَقد صرح التفتازابي أَن مُرَاد
الْمُطلق أَنه لَا بُد من بَقَاء الْمَعْنى بِتَمَامِهِ إِن
أمكن وَإِلَّا فبجزء مِنْهُ، وَيُمكن حمل هَذَا الْكَلَام
عَلَيْهِ بِضَرْب من الْمُسَامحَة، وَإِنَّمَا لم يقل آخر
جُزْء كَمَا فِي الْمُنْتَهى لِأَن الْمُعْتَبر الْمُبَاشرَة
الْعُرْفِيَّة، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (فَلفظ مخبر
وضارب إِذا أطلق فِي حَال الاتصاف) أَي اتصاف الْمخبر (بِبَعْض
الْأَخْبَار) بِكَسْر الْهمزَة: أَي عِنْد مُبَاشَرَته بِبَعْض
حُرُوفه وبشيء من الضَّرْب (يكون حَقِيقَة لِأَن مثل ذَلِك)
الْإِطْلَاق (يُقَال فِيهِ أَنه) إِطْلَاق حَال اتصافه) أَي
الْمخبر والضارب (بالأخبار وَالضَّرْب عرفا) أَي فِي عرف
اللُّغَة، ومدار معرفَة الْحَقِيقَة وَالْمجَاز على الْعرف
(وَإِذا كَانَ) الْعرف أَو الْأَمر (كَذَلِك وَجب أَن يحمل
كَلَامه) أَي مُطلق الِاشْتِرَاط (عَلَيْهِ) أَي على مَا ذكر
من المُرَاد تَصْحِيحا لكَلَام الْعَاقِل الْعَارِف باللغة
(وَمن المستبعد أَن يَقُول أحد) مِمَّن لَهُ أدنى معرفَة
باللغة (لفظ ضَارب) إِذْ أطلق على شخص (فِي حَال الضَّرْب
مجَاز) لعدم قيام مَجْمُوع أَجْزَائِهِ فِي تِلْكَ الْحَالة
(وَإنَّهُ) أَي الضَّارِب (لم يسْتَعْمل حَقِيقَة أبدا، وَكثير
مثل هَذَا) من إِثْبَات الْخلاف بِنَاء على مَا يتَوَهَّم من
ظواهر الْأَقْوَال (فِي كَلَام المولعين) من أولع بالشَّيْء
إِذا علق بِهِ (بِإِثْبَات الْخلاف) وهم الَّذين ابتلوا
بالوقوع فِيهِ من غير توقف وَتَأمل وُقُوع (وَنقل الْأَقْوَال)
مَعْطُوف على إِثْبَات لخلاف: أَي المولعين بِمُجَرَّد نقل
الْأَقْوَال من غير تدبر وتعمق فِي فهم مَقَاصِد الْقَوْم،
وَيجوز أَن يكون مُبْتَدأ خَبره (لمن تتبع) أَي نقلهَا مُسلم
لمن تتبع حق التتبع، والمولعون لَيْسُوا مِنْهُم، فعلى الأول
مُتَعَلق بِمَحْذُوف: أَي مَعْلُوم كثرته لمن تتبع (ثمَّ الْحق
أَن ضَارِبًا لَيْسَ مِنْهُ) أَي من الْوَصْف الَّذِي لَا
يُمكن بَقَاء مَعْنَاهُ (لِأَن الْوُجُود) عِنْد إِطْلَاقه على
من يُبَاشر الضَّرْب (تَمام الْمَعْنى) لَا جزؤه كَمَا
يتَوَهَّم من ضرب مائَة عَصا أَنه ضرب وَاحِد، وكل وَاحِد من
الْمِائَة
(1/78)
جُزْء مِنْهُ بل كل وَاحِد مِنْهَا يصدق عَلَيْهِ مَفْهُوم
الضَّرْب مَوْجُود فِيهِ تَمام حَقِيقَته (وَإِن انْقَضى كثير
من الْأَمْثَال) أَي من أَفْرَاد الضَّرْب الْمُمَاثلَة
للموجود حَال الْإِطْلَاق (لَا يُقَال فَالْوَجْه حِينَئِذٍ)
أَي حِين أُجِيب عَن أَدِلَّة الْمجَاز والحقيقة، وَلم يبْق
لأَحَدهمَا رُجْحَان على الآخر من حَيْثُ الدَّلِيل
(الْحَقِيقَة) أَي اخْتِيَارهَا (تَقْدِيمًا للتواطئ) وَهُوَ
كَون اللَّفْظ مَوْضُوعا لما يعم الْمَعْنى الَّذِي هُوَ
حَقِيقَة فِيهِ بِلَا شُبْهَة، وَالْمعْنَى الَّذِي فِيهِ
شُبْهَة المجازية (على الْمجَاز) أَي المجازية (لَا
التَّوَقُّف) أَي لَيْسَ الْوَجْه التَّوَقُّف (كظاهر بعض
الْمُتَأَخِّرين) أَي كمفهوم ظَاهر كَلَام بَعضهم، وَهُوَ
الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب (لعدم لَازمه) أَي التواطئ
تَعْلِيل لقَوْله: لَا يُقَال وَحَاصِله الِاسْتِدْلَال
بِنَفْي اللَّازِم على نفي الْمَلْزُوم (وَهُوَ) أَي لَازمه
(سبق الْأَحَد) أَي أحد الْأَمريْنِ: من الْمُثبت لَهُ
الْمَعْنى قَائِما، والمثبت لَهُ منقضيا (الدائر) بَين
الْأَمريْنِ الْمَذْكُورين، يَعْنِي لَو كَانَ الْوَصْف
مَوْضُوعا لأحد الْأَمريْنِ لسبق إِلَى الْفَهم عِنْد
إِطْلَاقه كَمَا هُوَ شَأْن الْمَوْضُوع لَهُ، لكنه لم يسْبق
فَلَا وضع فَلَا تواطؤ (لسبقه) أَي الْمَعْنى إِلَى الْفَهم
(بِاعْتِبَار الْحَال من نَحْو زيد قَائِم) وَسبق أحد
الْأَمريْنِ بِعَيْنِه يسْتَلْزم عدم سبق أَحدهمَا لَا
بِعَيْنِه، وَظَاهر هَذَا الْكَلَام أَن المُصَنّف رَحمَه
الله: اخْتَار المجازية فِي مَحل النزاع، وَقد استبان بِمَا
ذكر من التَّفْصِيل أَن مَحل النزاع الْوَصْف الَّذِي هُوَ
مَظَنَّة لَا يكون إِلَّا حَقِيقَة بعد الِانْقِضَاء، بِخِلَاف
مَا اعْتبر فِيهِ الاتصاف بِالْفِعْلِ اتِّفَاقًا، وَمَا
اعْتبر فِيهِ عدم طريان المنافى وَالله أعلم. |