تيسير التحرير الْفَصْل الثَّانِي
(فِي) تَقْسِيم الْمُفْرد بِاعْتِبَار (الدّلَالَة وظهورها
وخفائها) فَهِيَ (تقسيمات) ثَلَاثَة
(التَّقْسِيم الأول) وَهُوَ تقسيمه بِاعْتِبَار الدّلَالَة
نَفسهَا، التَّقْسِيم ضم قيود متباينة ذاتا أَو اعْتِبَارا
إِلَى مَفْهُوم كلي بِحَيْثُ يحصل من انضمام كل قسيم، وَهُوَ
قسيم بِالنِّسْبَةِ إِلَى الآخر (اللَّفْظ الْمُفْرد إِمَّا
دَال بالمطابقة أَو التضمن أَو الِالْتِزَام) وَسَيَجِيءُ
تَفْسِيرهَا (وَالْعَادَة) أَي عَادَة الْأُصُولِيِّينَ
(التَّقْسِيم فِيهَا) أَي الدّلَالَة نَفسهَا، لَا الدَّال
(ويستتبعه) أَي الدّلَالَة اللَّفْظ فِي الانقسام: أَي
يَنْقَسِم اللَّفْظ تبعا للدلالة، وَإِنَّمَا عدل عَنْهَا
لتَكون التقسيمات كلهَا للمفرد تسهيلا للضبط (وَالدّلَالَة
كَون الشَّيْء) بِحَيْثُ (مَتى فهم فهم) مِنْهُ (غَيره فَإِن
كَانَ التلازم) أَي لُزُوم فهم الْغَيْر لذَلِك فهم الشَّيْء،
وملزومية ذَلِك الشَّيْء لفهم الْغَيْر الْمُسْتَفَاد من
قَوْله مَتى فهم فهم الخ، وَالْمرَاد عدم الانفكاك لَا
امْتِنَاعه (بعلة الْوَضع) بِسَبَب كَون ذَلِك الشَّيْء
مَوْضُوعا لذَلِك الْغَيْر، أَو لما هُوَ جزؤه أَو لَازمه
(فوضعية) أَي فالدلالة وضعية (أَو الْعقل) والتقابل
بِاعْتِبَار اسْتِقْلَال الْعقل وَعَدَمه، وَإِلَّا
(1/79)
فالعقل لَهُ مدْخل فِي الوضعية أَيْضا
(فعقلية، وَمِنْهَا الطبيعية) أَي من الْعَقْلِيَّة الدّلَالَة
الطبيعية، وَهِي مَا كَانَت الطبيعة سَبَب وجود الدَّال (إِذْ
دلَالَة أح على الْأَذَى) وَهُوَ وجع الصدرا لملجئ صَاحبه
إِلَى إِيقَاعه (دلَالَة الْأَثر) وَهُوَ أح (على مبدئه)
ومنشئه، وَهُوَ الوجع الْمَذْكُور (كالصوت) أَي كدلالة
الصَّوْت المسموع من وَرَاء الْجِدَار على صَاحبه
(وَالْكِتَابَة) بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَاتِب (وَالدُّخَان)
بِالنِّسْبَةِ إِلَى النَّار، فَإِنَّهَا عقليات كلهَا
(والوضعية) تَارَة (غير لفظية كالعقود) جمع عقد، وَهُوَ مَا
يعْقد بالأصابع على كَيْفيَّة خَاصَّة مَوْضُوع لعدد معِين
(وَالنّصب) جمع نصبة، وَهُوَ الْعَلامَة المنصوبة لمعْرِفَة
الطَّرِيق (ولفظية) وَهِي (كَون اللَّفْظ بِحَيْثُ إِذا أرسل)
لم يقل أطلق لِأَن الْمُتَبَادر من الْإِطْلَاق مَا قرن
بالإرادة، والإرسال أَعم وَاللَّفْظ يدل على مَعْنَاهُ إِذا
تلفظ بِهِ، وَإِن لم يرد بِهِ الْمَعْنى (فهم) مِنْهُ
(الْمَعْنى للْعلم بِوَضْعِهِ) أَي اللَّفْظ (لَهُ) أَي
الْمَعْنى والمتبادر كَون اللَّام مُتَعَلقا بفهم، وَهُوَ
يُوهم كَون اللَّازِم الْفَهم من حَيْثُ إِنَّه مُعَلل، وَيرد
أَنه إِذا أرسل وَلم يكن السَّامع عَالما بِالْوَضْعِ لم يفهم،
وَهُوَ يُنَافِي مَتى فهم فهم فَتعين كَونه مُتَعَلقا
بِالْإِرْسَال، وَاللَّام بِمَعْنى عِنْد كَقَوْلِه تَعَالَى -
{أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} - (وَأورد) نقضا على عكس
التَّعْرِيف من حَيْثُ تضمنه لُزُوم حُدُوث فهم الْمَعْنى
عِنْد الْإِرْسَال (سَمَاعه) أَي اللَّفْظ (حَال كَون
الْمَعْنى مشاهدا) للسامع لعدم حُدُوث الْفَهم حِينَئِذٍ
لِامْتِنَاع حُصُول الْحَاصِل (وَأجِيب بِقِيَام
الْحَيْثِيَّة) المفسرة بهَا الدّلَالَة اللفظية، وَإِلَيْهِ
أَشَارَ بقوله (وَهِي) أَي الْحَيْثِيَّة الْمَذْكُورَة
(الدّلَالَة) تَوْضِيحه سلمنَا انْتِفَاء حُدُوث فهم الْمَعْنى
حَال الْمُشَاهدَة، لكنه لَا يخل فِيهَا، لِأَنَّهَا عبارَة
عَن تِلْكَ الْحَيْثِيَّة، وَهِي مَوْجُودَة فِي الدَّال
لكَونه بِحَيْثُ إِلَى آخِره، وَلقَائِل أَن يَقُول لَا نسلم
قيام الْحَيْثِيَّة، لِأَن كلمة إِذا فِيهَا بِمَعْنى مَتى لما
مر فِي تَعْرِيف مُطلق الدّلَالَة، فَيجب حُدُوث الْمَعْنى فِي
كل إرْسَال، وَقد عرفت عَدمه عِنْد إرْسَاله حَال
الْمُشَاهدَة، وَلعدم حقية هَذَا الْجَواب. قَالَ (وَالْحق)
أَن يُقَال إِنَّه حصل (الِانْقِطَاع) أَي انْقِطَاع
الْمُشَاهدَة (بِالسَّمَاعِ) أَي بِسَبَب اشْتِغَال البال
باستماع اللَّفْظ (ثمَّ التجدد) أَي تجدّد فهم حَادث (عَنهُ)
أَي عَن اللَّفْظ، وَيتَّجه أَنه لَا تَنْقَطِع الْمُشَاهدَة
غَايَة الْأَمر أَن يَنْقَطِع الالتفاف إِلَى الْمُشَاهدَة
بِالذَّاتِ، وَالْجَوَاب أَن المُرَاد بِانْقِطَاع
الْمُشَاهدَة هُوَ هَذَا، وَالْمرَاد بالفهم اللَّازِم فِي
الدّلَالَة مَا يعم الْفَهم الْحَادِث من حَيْثُ الذَّات،
والحادث من حَيْثُ الِالْتِفَات (وللدلالة إضافات) أَي صِفَات
إضافية حَاصِلَة لَهَا بِالْقِيَاسِ (إِلَى تَمام مَا وضع لَهُ
اللَّفْظ، وجزئه، ولازمه) فَإِذا اعْتبرت الدّلَالَة
بِالنِّسْبَةِ إِلَى تَمام مَا وضع لَهُ حصلت إِضَافَة،
وَإِلَى جزئه أُخْرَى، وَإِلَى لَازمه أُخْرَى (إِن كَانَا)
أَي إِن وجد الْجُزْء وَاللَّازِم فَكَانَ تَامَّة، وَيجوز
كَونهَا نَاقِصَة، وَالْخَبَر مَحْذُوف،
(1/80)
أَعنِي موجودين، وَقَوله للدلالة إِلَى
آخِره دَال على الْجَزَاء الْمَحْذُوف والمشروط إِنَّمَا هُوَ
الإضافتان الأخيرتان بِالْحَقِيقَةِ، أَشَارَ إِلَى مَا هُوَ
الْمَشْهُور من أَن الْمُطَابقَة لَا تَسْتَلْزِم التضمن
والالتزام، لجَوَاز أَن يكون مَا وضع لَهُ بسيطا لَا لَازم أَو
مركب كَذَا (وَلها) أَي للدلالة (مَعَ كل) إِضَافَة (اسْم،
فَمَعَ الأول) اسْمهَا (دلَالَة الْمُطَابقَة، وَمَعَ
الثَّانِي دلَالَة التضمن، وَكَذَا الِالْتِزَام) أَي وَمَعَ
إضافتها إِلَى اللَّازِم اسْمهَا دلَالَة الِالْتِزَام،
وَالتَّعْبِير عَن الْإِضَافَة بِالْأولِ وَالثَّانِي
بِاعْتِبَار كَونهَا مصدرا، (ويستلزم اجتماعها) أَي الدلالات
الثَّلَاث (انتقالين) من لفظ (وَاحِد) مِنْهُ (إِلَى الْمَعْنى
المطابقي والتضمني) وَإِنَّمَا قُلْنَا بوحدة الِانْتِقَال
فيهمَا (لِأَن فهمه) أَي الْجُزْء (فِي ضمنه) أَي تَمام مَا
وضع (لَا كظن) أَي كمظنون (شَارِح الْمطَالع) الْفَاضِل
الْمَشْهُور قطب الدّين الرَّازِيّ من أَنه ينْتَقل الذِّهْن
من اللَّفْظ إِلَى جُزْء مَا وضع لَهُ، ثمَّ مِنْهُ إِلَى
تَمَامه، وَأَن الْمُطَابقَة تَابِعَة للتضمن فِي الْفَهم لسبق
الْجُزْء فِي الْمَوْجُودين، وَمَا ذكره المُصَنّف رَحمَه الله
إِشَارَة إِلَى مَا ذكره الْمُحَقق شَارِح الْمُخْتَصر
القَاضِي عضد الدّين فِي الدّلَالَة اللفظية من أَنه ينْتَقل
الذِّهْن من اللَّفْظ إِلَى الْمَعْنى ابْتِدَاء، وَهِي
وَاحِدَة لَكِن رُبمَا تضمن الْمَعْنى الْوَاحِد جزءين فيفهم
مِنْهُ الجزءان، وَهُوَ بِعَيْنِه فهم الْكل، فالدلالة على
الْكل لَا تغاير الدّلَالَة على الجزءين مَعًا مُغَايرَة
بِالذَّاتِ بل بِالْإِضَافَة وَالِاعْتِبَار، وَقرر هَذَا
التَّحْقِيق الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ، ثمَّ قَالَ ومبني
هَذَا التَّحْقِيق على أَن التضمن فهم الْجُزْء فِي ضمن الْكل،
والالتزام فهم اللَّازِم بعد فهم الْمَلْزُوم، حَتَّى إِذا
اسْتعْمل اللَّفْظ فِي الْجُزْء أَو اللَّازِم مَعَ قرينَة
مَانِعَة عَن إِرَادَة الْمُسَمّى لم يكن تضمنا أَو التزاما بل
مُطَابقَة لكَونهَا دَالَّة على تَمام الْمَعْنى: أَي مَا عَنى
بِاللَّفْظِ وَقصد انْتهى بَيَان ذَلِك أَن دلَالَة اللَّفْظ
بِوَضْعِهِ للمعنى فالعالم بِهِ إِذا فهم اللَّفْظ يتَوَجَّه
قصدا بِمُقْتَضى علمه نَحْو الْمَوْضُوع لَهُ لَا إِلَى جزئه
وَإِن كَانَ يتعقل قبل تعقل الْكل ضَرُورَة، لِأَن الذِّهْن
غير مُتَوَجّه إِلَيْهِ قصدا، وَكَونه وَاسِطَة فِي
الِانْتِقَال فرع توجه الذِّهْن إِلَيْهِ قصدا لَا يُقَال لم
لَا يجوز أَن يكون مَقْصُود شَارِح الْمطَالع من كَون الْجُزْء
وَاسِطَة فِي الِانْتِقَال مُقَدّمَة فِي التعقل لِأَن ذَلِك
بديهي لَا يحْتَاج إِلَى الْبَيَان وَلَا تنَازع فِيهِ مَعَ
أَنه شبه وساطته بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكل بوساطة الْمَوْضُوع
لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْنى الالتزامي (يَلِيهِ) أَي
يَلِي ذَلِك الْوَاحِد انْتِقَال (آخر) من الْمَعْنى المطابقي
(إِلَى) الْمَعْنى (الالتزامي لُزُوما) أَي لكَون الالتزامي
لَازِما للمطابقي، وَإِنَّمَا صَار لُزُومه سَبَب الِانْتِقَال
(لِأَنَّهُ) أَي اللُّزُوم هَهُنَا (بِالْمَعْنَى الْأَخَص)
اللُّزُوم عِنْد المنطقيين يُطلق على مَعْنيين: أَحدهمَا أخص،
وَهُوَ كَون اللَّازِم بِحَيْثُ يحصل فِي الذِّهْن كلما حصل
الْمَلْزُوم فِيهِ، وَثَانِيهمَا الْأَعَمّ، وَهُوَ كَونه
بِحَيْثُ إِذا تصور مَعَ الْمَلْزُوم يحكم الْعقل باللزوم
بَينهمَا على الْفَوْر أَو بعد التَّأَمُّل، أما لعلاقة عقلية
أَو لعرف خَاص أَو عَام وَمَا يجْرِي مجْرَاه والأخصية
بِاعْتِبَار أَنه كلما
(1/81)
تحقق اللُّزُوم بَين الشَّيْئَيْنِ إِذا
تعقلا يحكم الْعقل باللزوم بَينهمَا من غير عكس وَهُوَ ظَاهر
(فَانْتفى لُزُوم الالتزامي مُطلقًا) كَمَا زعم الإِمَام
الرَّازِيّ من أَن كل مُسَمّى لَهُ لَازم ذهني، وَذَلِكَ
الزَّعْم (للُزُوم تعقل أَنه) أَي الْمُسَمّى (لَيْسَ غَيره)
أَي غير نَفسه (لِأَن ذَلِك) أَي التعقل الْمَذْكُور لَازم
(بالأعم) أَي بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ، وَقد عَرفته
وَالْمُعْتَبر هَهُنَا اللَّازِم بِالْمَعْنَى الْأَخَص
(هَذَا) كُله (على) اصْطِلَاح (المنطقيين فَلَا دلَالَة
للمجازات على) الْمعَانِي (المجازية) لعدم كَونهَا بِحَيْثُ
مَتى أرْسلت فهم مِنْهَا تِلْكَ الْمعَانِي، بل إِذا أرْسلت
مَعَ الْقَرِينَة، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (بل ينْتَقل
إِلَيْهَا) أَي الْمعَانِي المجازية (بِالْقَرِينَةِ فَهِيَ)
أَي الْمعَانِي المجازية (مرادات) بالمجازات (لَا مدلولات
لَهَا فَلَا تورد) المجازات نقضا (عَلَيْهِم) أَي على عكس
تَعْرِيف المنطقيين بِأَنَّهَا خَارِجَة عَنهُ (إِذْ يلتزمونه)
أَي خُرُوجهَا عَن التَّعْرِيف لعدم دُخُولهَا فِي الْمُعَرّف
(وَلَا ضَرَر) فِي ذَلِك (إِذْ لم يسْتَلْزم) عدم دلالتها على
الْمعَانِي المجازية (نفى فهم المُرَاد) مِنْهَا ليَكُون
التزامهم بَاطِلا لكَونه خلاف الْوَاقِع (فَلَيْسَ للمجاز)
الْمُسْتَعْمل (فِي الْجُزْء وَاللَّازِم دلَالَة مُطَابقَة
فيهمَا) أَي بِاعْتِبَار اسْتِعْمَاله فِي الْجُزْء
وَاللَّازِم (كَمَا قيل) قَائِله الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ،
وَقد مر آنِفا (بل اسْتِعْمَال يُوجب الِانْتِقَال مَعَه إِلَى
كل فَقَط الْقَرِينَة) اضراب عَن ثُبُوت الدّلَالَة المطابقية
للمجاز على الْجُزْء اللَّازِم إِلَى ثُبُوت اسْتِعْمَال لَهُ
توجب الْقَرِينَة المفيدة إِرَادَة أَحدهمَا حَال كَونهَا مَعَ
ذَلِك الِاسْتِعْمَال الِانْتِقَال عَن الْمَوْضُوع لَهُ إِلَى
كل من الْجُزْء وَاللَّازِم فَقَط: أَي بِدُونِ مُشَاركَة
شَيْء آخر إِيَّاه فِي الْإِرَادَة (وَدلَالَة) مَعْطُوف على
اسْتِعْمَال (تضمنية والتزامية فيهمَا) مُتَعَلق
بِاسْتِعْمَال، وَإِنَّمَا تثبت الدلالتان (تبعا للمطابقية
الَّتِي لم ترد) فَلَا يرد أَنه يلْزم تحقق الدّلَالَة
التضمنية والالتزامية بِدُونِ المطابقية (وَهَذَا) أَي وجود
المطابقية فِي الْمجَاز الْمَذْكُور مَعَ كَونهَا غير مُرَاد
(لِأَن بعد) تحقق (الْوَضع لَا تسْقط الدّلَالَة) المطابقية
(عَن) الدَّال (الوضعي) إِذا كَانَ الشَّارِح عَالما
بِالْوَضْعِ (فَكَذَا لَا تسْقط) الدّلَالَة (عَن لَازمه) أَي
لَازم الوضعي إِذا كَانَ لَهُ لَازم (فتتحقق) الدّلَالَة
المطابقية فِي الْمجَاز الْمَذْكُور (لتحَقّق علتها) أَي
الدّلَالَة (وَهُوَ) أَي علتها (الْعلم بِالْوَضْعِ) فَإِن قلت
قَوْله بعد الْوَضع إِلَى آخِره يدل على أَن مُجَرّد الْوَضع
كَاف فِي تحقق الْحَيْثِيَّة، وَهَذَا يدل على أَنه لَا بُد من
الْعلم بِالْوَضْعِ أَيْضا قلت لَيْسَ المُرَاد من التحقق
هُنَا اتصاف اللَّفْظ بالحيثية الْمَذْكُورَة بل ثَمَرَتهَا،
وَهُوَ الِانْتِقَال إِلَى مَا وضع لَهُ، وَمُجَرَّد الْوَضع
كَاف فِي اتصافه بالحيثية الْمَذْكُورَة غير كَاف فِي
الِانْتِقَال بل لَا بُد فِيهِ من الْعلم بِالْوَضْعِ أَيْضا
(وَالْمرَاد) من اللَّفْظ الْمجَازِي (غير متعلقها) أَي غير
مُتَعَلق الدّلَالَة المطابقية، وَهُوَ الْمَدْلُول المطابقي،
يَعْنِي المُرَاد المعني الْمجَازِي الَّذِي هُوَ غير متعلقها
(وَأما الأصوليون فَمَا للوضع دخل
(1/82)
فِي الِانْتِقَال) أَي فعندهم الدّلَالَة
الوضعية هِيَ الَّتِي للوضع دخل فِي الِانْتِقَال من دالها
إِلَى مدلولها (فتتحقق) الدّلَالَة على اصطلاحهم (فِي
الْمجَاز) لدخل الْوَضع فِي الِانْتِقَال الْمجَازِي، لِأَن
العلاقة بَين الْمَعْنى الْمجَازِي والموضوع لَهُ سَببه، وَعدم
اعتبارهم اللُّزُوم الْكُلِّي بَين فهم الْمَعْنى وَفهم
اللَّفْظ اكْتِفَاء باللزوم فِي الْجُمْلَة (والالتزامية
بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ) أَي وتتحقق الدّلَالَة الالتزامية
باللزوم بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ وَلَا يشْتَرط اللُّزُوم
بِالْمَعْنَى الْأَخَص، وَقد مر تفسيرهما (ثمَّ اخْتلف
الِاصْطِلَاح) للأصوليين فِي أَصْنَاف الدّلَالَة الوضعية
بِاعْتِبَار مفهوماتها وأسمائها (وَفِي ثُبُوت بَعْضهَا)
بِإِثْبَات بَعضهم قسما لم يُثبتهُ الْبَعْض الآخر كالمفهوم
الْمُخَالف أثْبته الشَّافِعِيَّة لَا الْحَنَفِيَّة (أَيْضا،
فالحنفية) أَي فَقَالَت الْحَنَفِيَّة (الدّلَالَة) الوضعية
قِسْمَانِ (لفظية وَغير لفظية، وَهِي) أَي غير اللفظية
(الضرورية) أَي الَّتِي أوجبت الضَّرُورَة الناشئة من
الدَّلِيل اعْتِبَارهَا من غير لفظ يدل (ويسمونها) أَي
الْحَنَفِيَّة (بَيَان الضَّرُورَة) أَي الْحَاصِل
بِسَبَبِهَا، فَهُوَ من إِضَافَة الشَّيْء إِلَى سَببه، وَأما
تَسْمِيَة الدّلَالَة بَيَانا فباعتبار أَن موصوفها بَيَان
لمدلوله (وَهِي) أَي الضرورية (أَرْبَعَة أَقسَام كلهَا
دلَالَة سكُوت مُلْحق باللفظية) لِأَن السُّكُوت بمعاونة
الْمقَام يَقْتَضِي اعْتِبَارهَا (الأول مَا يلْزم منطوقا)
لِأَن السُّكُوت بِدُونِ اتصالها مَعَ الْمَنْطُوق وَلَا
يُفِيد اعْتِبَارهَا، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَورثه
أَبَوَاهُ فلأمه الثُّلُث} دلّ سُكُوته) عَن ذكر نصيب الْأَب
(أَن للْأَب الْبَاقِي) لِأَنَّهُ لَا شكّ أَن تعْيين نصِيبه
مَقْصُود كتعيين نصيب الْأُم، فَإِن لم يكن الْبَاقِي لَهُ لَا
يتَعَيَّن فَيلْزم عدم صِحَة السُّكُوت لَا يُقَال الْمَنْطُوق
يدل على انحصار الْوَارِث فيهمَا وَتَعْيِين نصيب الْأُم،
وَيلْزمهُ كَون الْبَاقِي للْأَب، فَهُوَ مَدْلُوله التزاما
لأَنا نقُول: لَو سلم دلَالَته على الانحصار لَا نسلم كَونه
دَالا عَلَيْهِ التزاما، لجَوَاز أَن يكون لَهُ بعض الْبَاقِي
وَالْبَعْض الآخر يقسم بَينهمَا بطرِيق الرَّد، أَو يُعْطي
لبيت المَال فَإِن قلت الْأَب عصبَة فَلَا يحْتَمل مَا ذكرت
قلت الْكَلَام فِي دلَالَة اللَّفْظ، وَلَيْسَ الْمُخَاطب
منحصرا فِيمَن يعلم قَوَاعِد الْفَرَائِض فاحتيج إِلَى أَن
يُقَال لَو كَانَ نصِيبه بعض الْبَاقِي لما صَحَّ السُّكُوت
عَن بَيَانه قَوْله - {وَورثه} - إِلَى آخِره مُبْتَدأ خَبره
مَحْذُوف: أَي مِنْهَا، وَقَوله دلّ إِلَى آخِره اسْتِئْنَاف،
وَكَذَا قَوْله (ودفعته) أَي النَّقْد (مُضَارَبَة) وَهِي عقد
شركَة فِي الرِّبْح الْحَاصِل بِعَمَل الْمضَارب (على أَن لَك
نصف الرِّبْح يُفِيد) سُكُوته (أَن الْبَاقِي) وَهُوَ النّصْف
الآخر (للْمَالِك) وَيتَّجه هَهُنَا نَظِير الْإِيرَاد
الْمَذْكُور وَلَيْسَ فِيهِ نَظِير ذَلِك الْجَواب، لِأَن
الْبَاقِي من حَيْثُ أَنه نَمَاء ملكه يتَعَيَّن أَن يكون
لَهُ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال المُرَاد بِدلَالَة
السُّكُوت مَا لم يكن الدَّال فِيهِ منطوقا، وملاحظة
الْحَيْثِيَّة الْمَذْكُورَة كَذَلِك (وَكَذَا فِي قلبه
اسْتِحْسَانًا) أَي وَمِنْهَا قَوْله دَفعته إِلَيْك
مُضَارَبَة على أَن لي نصف الرِّبْح فَالْقِيَاس فَسَاده لعدم
بَيَان نصيب الْمضَارب، وَالِاسْتِحْسَان صِحَّته، لِأَن
الْمَنْطُوق دلّ على أَن نصيب الْمَالِك
(1/83)
النّصْف فَتعين النّصْف الآخر للْمُضَارب
لعدم مُسْتَحقّ آخر وَالرِّبْح مُشْتَرك بَينهمَا.
(الثَّانِي دلَالَة حَال السَّاكِت) الَّذِي وظيفته الْبَيَان
مُطلقًا، أَو فِي تِلْكَ الْحَادِثَة (كسكوته صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عِنْد أَمر يُشَاهِدهُ) من قَول أَو فعل لَيْسَ
مُعْتَقد كَافِر مَعَ قدرته على الْإِنْكَار وَعدم سبق بَيَان
حكمه مِنْهُ، فَإِنَّهُ يدل حِينَئِذٍ على الْجَوَاز من فَاعله
وَغَيره، لِأَنَّهُ لَو لم يكن جَائِزا لزم ارتكابه لمحرم،
وَهُوَ تَقْرِيره على الْمحرم، هَذَا إِذا لم يُنكر وَلم
يستبشر، وَأما إِذا استبشر فدلالته على الْجَوَاز أوضح
(وَسَيَأْتِي فِي السّنة) بَيَانه مستقصى إِن شَاءَ الله
تَعَالَى (وسكوت الصَّحَابَة عَن تَقْوِيم مَنَافِع ولد
الْمَغْرُور) هُوَ ولد الرجل من امْرَأَة ملكهَا فِي ظَنّه ملك
يَمِين أَو نِكَاح، ثمَّ اسْتحقَّهَا شخص بِإِثْبَات كَونهَا
أمة لَهُ، فَردَّتْ عَلَيْهِ مَعَ الْعقر، وَيثبت نسب الْوَلَد
مِنْهُ، وَهُوَ حر بِالْقيمَةِ. قَالَ الشَّيْخ أَبُو بكر
الرَّازِيّ: لَا خلاف بَين الصَّدْر الأول وفقهاء الْأَمْصَار
فِي أَنه حر الأَصْل، وَفِي أَنه مَضْمُون على الْأَب، إِلَّا
أَن السّلف اخْتلفُوا فِي كَيْفيَّة ضَمَانه، فَذهب
أَصْحَابنَا أَن عَلَيْهِ الْقيمَة بَالِغَة مَا بلغت، وَفِي
الْهِدَايَة وَغَيرهَا إِجْمَاع الصَّحَابَة على ذَلِك، وَقد
وَقعت الْحَادِثَة فِي زمن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم
فبينوا مَا تعلق بهَا من الْأَحْكَام، وسكتوا عَن تَقْوِيم
مَنَافِع الْوَلَد ليَأْخُذ الْمُسْتَحق قيمتهَا كَمَا يَأْخُذ
قيمَة الْوَلَد، وَقد جَاءَ طَالبا لحكم الْحَادِثَة غير عَالم
بِجَمِيعِ مَاله وهم عالمون بِهِ، فسكوتهم هَذَا (يُفِيد عدم
تَقْوِيم الْمَنَافِع) لِأَنَّهَا لَو كَانَت مُتَقَومَة فِي
الشَّرْع مُسْتَحقَّة للْمولى للَزِمَ عَلَيْهِم ارْتِكَاب
محرم، وَهُوَ كتمان حكم الله عِنْد وجوب بَيَانه. قَالَ الله
تَعَالَى - {وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق الَّذين أُوتُوا الْكتاب
لتبيننه للنَّاس وَلَا تكتمونه} -، (وَمِنْه) أَي من الثَّانِي
(سكُوت الْبكر) عِنْد اسْتِئْذَان الْوَلِيّ، أَو رَسُوله
إِلَيْهَا فِي تَزْوِيجهَا من معِين مَعَ ذكر الْمهْر أَولا
على اخْتِلَاف الْمَشَايِخ، أَو عِنْد بُلُوغهَا ذَلِك عَن
الْوَلِيّ على الْأَصَح فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُفِيد الرِّضَا
بِهِ بِدلَالَة حَالهَا من الرَّغْبَة فِي الزواج كَمَا هُوَ
شَأْن النِّسَاء، وَعدم الْمَانِع عَن الرَّد، لِأَن الْحيَاء
يمْنَعهَا عَن الْإِجَازَة لما فِيهَا من إِظْهَار الرَّغْبَة
فِي الرِّجَال، لَا عَن الرَّد، بل الْحيَاء يَقْتَضِي الرَّد،
لِأَن السُّكُوت لَا يَخْلُو عَن تَجْوِيز قلت سِيمَا إِذا
علمت أَن سكُوت الْبكر رضَا، فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة
رَضِي الله عَنْهَا " قلت يَا رَسُول الله تستأمر النِّسَاء؟
قَالَ: نعم، قلت: إِن الْبكر تَسْتَحي فتسكت؟ فَقَالَ سكُوتهَا
إِذْنهَا ". (وَفِي ادِّعَاء أكبر ولد من ثَلَاثَة بطُون أمته
نفي لغيره) أَي وَمِنْهَا سُكُوته عَن دَعْوَة وَلدين من
ثَلَاثَة بطُون أمته بعد دَعْوَة الْأَكْبَر، فَإِنَّهُ فِي
ادِّعَاء الْأَكْبَر خَاصَّة نفي لَهما.
اعْلَم أَن الْفراش ثَلَاثَة: قوي، وَضَعِيف، ومتوسط، وَهِي
فرَاش الْمَنْكُوحَة، وَالْأمة أم الْوَلَد، وَفِي الأول يثبت
النّسَب بِغَيْر الدعْوَة، وَلَا يَنْفِي بنفيه إِلَّا
بالملاعنة، وَفِي الثَّانِي لَا يثبت
(1/84)
سقط
(1/85)
سقط
(1/86)
كل مِنْهُمَا فِي التَّقْسِيم الثَّانِي
(ففهم إِبَاحَة النِّكَاح وَالْقصر على الْعدَد) أَي
الْأَرْبَع عِنْد اجتماعهن فِي حق الْحر (من آيَة - {فانكحوا
مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع} - (من
الْعبارَة) لِأَنَّهُمَا مقصودان من اللَّفْظ، وَإِن كَانَ
الأول غير أُصَلِّي كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَإِن
كَانَت) أَي الْآيَة (ظَاهرا فِي الأول) أَي إِبَاحَة
النِّكَاح، لِأَن الْمَقْصُود بالإفادة بالْكلَام أَصَالَة
إِنَّمَا هُوَ بَيَان الْعدَد، والسياق لَهُ لَا لنَفس الْحل،
لِأَنَّهُ عرف من غَيرهَا قبل نُزُولهَا، وَفِي الْعبارَة
مُسَامَحَة، لِأَن الْفَهم الْمَذْكُور من مَدْلُول الْعبارَة،
لَا مِنْهَا، وَيجوز أَن يكون من للابتداء لَا للتَّبْعِيض
(وَكَذَا حُرْمَة الرِّبَا وَحل البيع والتفرقة) بَين البيع
والربا بِالْحلِّ وَالْحُرْمَة من آيَة، {وَأحل الله البيع
وَحرم الرِّبَا} من عبارَة النَّص، وَإِن كَانَت ظَاهرا فِي
الْأَوَّلين نصا فِي التَّفْرِقَة، لِأَن سياقها لإنكار
تَسْوِيَة الْكفَّار بَينهمَا وَبَيَان الْفرق وَإِبْطَال
قياسهم الْمَفْهُوم من قَوْلهم: إِنَّمَا البيع مثل الرِّبَا
(والتفرقة لَازم مُتَأَخّر) لمسمى اللَّفْظ فَيصح جعله من
الْعبارَة، وَبِخِلَاف الْمُتَقَدّم فَإِنَّهُ من
الِاقْتِضَاء، وَذَلِكَ لِأَن الْمُتَأَخر كالمعلول، والمتقدم
كالعلة، وَدلَالَة الْعلَّة على الْمَعْلُول مطردَة بِخِلَاف
الْعَكْس كَمَا بَين فِي مَوْضِعه (وَلذَا) أَي وَلِأَن
الْمَعْنى العباري يكون لَازم مَا وضع لَهُ (لم يُقيد بالوضعي)
أَرَادَ بالوضعي هَهُنَا بِقَرِينَة الْمقَام مَا هُوَ عين
الْمَوْضُوع لَهُ أَو جزؤه كَمَا هُوَ الْمُتَبَادر مِنْهُ،
وَإِن كَانَ مَا سبق فِي تَعْرِيف الوضعية يعم اللَّازِم
أَيْضا (و) قد (يُقَال) فِي تَعْرِيفهَا كَمَا قَالَ فَخر
الْإِسْلَام وَمن تبعه (مَا سيق لَهُ الْكَلَام) قَالَ صَاحب
الْكَشَّاف وَغَيره (وَالْمرَاد) مَا سيق لَهُ (سوقا
أَصْلِيًّا أَو غير أُصَلِّي وَهُوَ) أَي غير الْأَصْلِيّ
(مُجَرّد قصد الْمُتَكَلّم بِهِ) أَي بِاللَّفْظِ (لإِفَادَة
مَعْنَاهُ) ليتوسل بِهِ إِلَى أَدَاء مَا هُوَ الْمَقْصُود
بِالذَّاتِ من السِّيَاق (وَلذَا) أَي لكَون المُرَاد السُّوق
الْأَعَمّ (عممنا الدّلَالَة للعبارة فِي الْآيَتَيْنِ) فِيهِ
تَعْرِيض لصدر الشَّرِيعَة حَيْثُ جعل الدّلَالَة على
التَّفْرِقَة بَين البيع والربا عبارَة لكَونهَا مَقْصُودَة
بِالسوقِ، وعَلى الْحل وَالْحُرْمَة إِشَارَة لعدم كَونهمَا
مقصودين، وَلَا يخفى عَلَيْك أَن تَسْمِيَة مَا دلّ عَلَيْهِ
اللَّفْظ صَرِيحًا بِالْإِشَارَةِ لَا يَخْلُو عَن بعد
(ودلالته) أَي اللَّفْظ (على مَا لم يقْصد بِهِ أصلا) لَا
أَصَالَة وَلَا تبعا (إِشَارَة) كانتقال الْملك وَوُجُوب
التَّسْلِيم فِي البيع وَحُرْمَة الِانْتِفَاع وَوُجُوب رد
الزَّائِد فِي الرِّبَا (وَقد يتَأَمَّل) أَي الْمَعْنى
الإشاري أَصله يتَأَمَّل فِيهِ حذف الْجَار، وأوصل الضَّمِير
إِلَى الْفِعْل مستترا وَالْمعْنَى قد يَقع التَّأَمُّل فِي
اسْتِخْرَاج الْمَعْنى الإشاري من اللَّفْظ، قَالَ صَاحب
الْكَشَّاف: فَكَمَا أَن إِدْرَاك مَا لَيْسَ بمقصود
بِالنَّصِّ مَعَ الْمَقْصُود بِهِ من قُوَّة الْأَبْصَار فهم
مَا لَيْسَ بمقصود من الْكَلَام فِي ضمن الْمَقْصُود بِهِ من
قُوَّة الذكاء، وَلِهَذَا يخْتَص بفهم الْإِشَارَة الْخَواص
(كالاختصاص) أَي اخْتِصَاص الْوَلَد (بالوالد نسبا) أَي من
حَيْثُ
(1/87)
نسبه، فَإِنَّهُ مَفْهُوم إِشَارَة (من
آيَة: {وعَلى الْمَوْلُود لَهُ رزقهن وكسوتهن بِالْمَعْرُوفِ}
(دون الْأُم) لِأَن اللَّام للاختصاص، فَيجب كَون الْوَالِد
أخص بِالْوَلَدِ من سواهُ فِي الْولادَة الَّذِي هُوَ
الانتساب، وَهُوَ غير مَقْصُود مِنْهَا، وَإِنَّمَا
الْمَقْصُود من سوقها إِيجَاب النَّفَقَة وَالْكِسْوَة على
الْوَلَد فَإِن قلت قد سبق أَن السُّوق الْأَصْلِيّ وَغَيره،
والاختصاص لكَونه معنى اللَّام مسوق لَهُ تبعا قلت معنى
اللَّام الِاخْتِصَاص مُطلقًا، لَا من حَيْثُ النّسَب فَتَأمل،
وَهَذَا مِثَال لما يتَأَمَّل فِيهِ لغموضه، وَلذَا خَفِي على
كثير من الأذكياء (فَيثبت أَحْكَام) متفرعة على الِاخْتِصَاص
الْمَذْكُور (من انْفِرَاده) أَي الْأَب (بِنَفَقَتِهِ) أَي
الْوَلَد كَالْعَبْدِ لما كَانَ مُخْتَصًّا بالمولى لَا
يُشَارِكهُ أحد فِي نَفَقَته، لِأَن غرمه على من لَهُ غنمه،
فَأصل النَّفَقَة وُجُوبه بِعِبَارَة النَّص، والانفراد
بإشارته (والإمامة والكفاءة وعدمهما) أَي الْإِمَامَة
والكفاءة، يَعْنِي من تِلْكَ الْأَحْكَام أَهْلِيَّة الْوَلَد
للْإِمَامَة الْكُبْرَى وكفاءته للقرشية مثلا، إِذا كَانَ
الْأَب أَهلا وكفؤا لَهما: أَي من حَيْثُ النّسَب فَلَا يرد
الْوَلَد الَّذِي لَا يستجمع شرائطها لم يَتَعَدَّ إِلَيْهِ،
وَكَذَا إِذا لم يكن الْأَب أَهلا وكفؤا لم يكن الْوَلَد أَهلا
وكفؤا (مَا لم يُخرجهُ الدَّلِيل) اسْتثِْنَاء معنى: أَي يثبت
جَمِيع الْأَحْكَام الَّتِي يقتضيها الِاخْتِصَاص الْمَذْكُور
إِلَّا مَا أخرجه الدَّلِيل عَن أَن يثبت، فَلَا يثبت
حُرِّيَّته ورقه بتبعية الْأَب لكَونه تَابعا للْأُم فيهمَا،
لما ورد فيهمَا من الْأَثر (وَزَوَال ملك المُهَاجر) من دَار
الْحَرْب إِلَى دَار الْإِسْلَام مَعْطُوف على الِاخْتِصَاص،
فَهُوَ مِثَال آخر لما يتَأَمَّل فِيهِ (عَن المخلف) مُتَعَلق
بالزوال: أَي عَمَّا خَلفه فِي دَار الْحَرْب باستيلاء
الْكفَّار واحرازهم إِيَّاه (من لفظ الْفُقَرَاء) ، فِي قَوْله
تَعَالَى - {للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين الَّذين أخرجُوا من
دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ} - وَالْجَار مُتَعَلق بِمَحْذُوف
هُوَ صفة الزَّوَال: أَي الْمَفْهُوم إِشَارَة مِنْهُ،
وَالْكَلَام إِنَّمَا سيق لبَيَان اسْتِحْقَاق الْفُقَرَاء
الْمُهَاجِرين من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة سَهْما من
الْغَنِيمَة، وَلم يقْصد بِهِ زَوَال ملكهم عَنهُ أصلا، لكنه
يفهم بِإِشَارَة لفظ الْفُقَرَاء، فَإِن الْفَقِير لُغَة من
لَهُ مَا يَكْفِي عِيَاله، أَو من يجد الْقُوت، والمسكين من
لَا شَيْء لَهُ، وَقيل المعتر الْمُحْتَاج، والمسكين من أذله
الْفقر وَغَيره، وَقيل هُوَ أخس حَالا من الْفَقِير، وَقيل هما
سَوَاء، وَشرعا من لم يملك النّصاب، وكل وَاحِد من الْمعَانِي
الْمَذْكُورَة يلْزمه زَوَال الْملك، لِأَنَّهُ لَو لم يزل
لصدق عَلَيْهِم الْأَغْنِيَاء لَا الْفُقَرَاء، لِأَن
الْغَنِيّ يتَحَقَّق بِملك المَال وَإِن بَعدت يَده عَنهُ،
وَكَذَا ذكر ابْن السَّبِيل مُقَابلا للْفُقَرَاء فِي
النُّصُوص، وَاتفقَ على عدم دُخُوله فيهم عَامَّة الْعلمَاء
فَإِن قيل هُوَ اسْتِعَارَة شبهوا بالفقراء لاحتياجهم،
وَانْقِطَاع أطماعهم عَن أَمْوَالهم بِقَرِينَة إِن الله لم
يَجْعَل للْكَافِرِينَ على الْمُؤمنِينَ سَبِيلا، وَالْمرَاد
السَّبِيل الشَّرْعِيّ لَا الْحسي، وبقرينة إِضَافَة الديار
وَالْأَمْوَال إِلَيْهِم أُجِيب بِأَن الأَصْل الْحَقِيقَة،
وَنفي السَّبِيل بِاعْتِبَار أَنهم لَا يملكُونَ أنفس
الْمُؤمنِينَ
(1/88)
سقط
(1/89)
سقط
(1/90)
مقَام التَّأْدِيب والتعذيب يدل على
الإيلام، فَمن حلف لَا يضْرب كَانَ حَالفا أَن لَا يؤلم،
فَيحنث بالخنق، أَو العض، وَمَا فِيهِ إيلام كالضرب (فَغير
مَشْهُور) كَونهَا من دلَالَة النَّص (و) إِن دلّ اللَّفْظ
(على مسكوت يتَوَقَّف صدقه) أَي الْمَنْطُوق (عَلَيْهِ) أَي
على ذَلِك الْمَنْطُوق، واعتباره فِي الْكَلَام (كرفع
الْخَطَأ) فِي الحَدِيث المتداول بَين الْفُقَهَاء " رفع عَن
أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان "، وَلَا يضر عدم العثور بروايته
بِهَذَا اللَّفْظ، فَإِنَّهُ روى بِمَعْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس
مَرْفُوعا " رفع الله عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان وَمَا
اسْتكْرهُوا عَلَيْهِ ". وَقيل رِجَاله ثِقَات، وَيجوز أَن
يقْرَأ بِلَفْظ الْمصدر الْمُضَاف مشارا بِهِ إِلَى
الرِّوَايَة الصَّحِيحَة، هَذَا وَلَا شكّ أَن ذَات الْخَطَأ
غير مَرْفُوع لِكَثْرَة وُقُوعه، فَلَو لم يرد حكم الْخَطَأ
أَو إثمه لم يكن الْكَلَام صَادِقا لعدم رفع ذَاته (أَو
صِحَّته) مَعْطُوف على صدقه: أَي يتَوَقَّف صِحَة الْمَنْطُوق
على اعْتِبَار ذَلِك الْمَسْكُوت كَمَا فِي: أعتق عَبدك عني
بِأَلف فَإِنَّهُ لَو لم يكن المعني بِعْ عَبدك مني بِأَلف،
وَكن وَكيلِي فِي إِعْتَاقه لم يَصح هَذَا الْكَلَام وَلم
يستقم (على مَا سنذكر) تَفْصِيله فِي مسئلة الْمُقْتَضى
(اقْتِضَاء) أَي لدلَالَة على الْمَسْكُوت المتوقف عَلَيْهِ
صدق الْمَنْطُوق، أَو صِحَّته اقْتِضَاء، وَوجه التَّسْمِيَة
ظَاهر فَإِن قلت كل وَاحِد كَمَا دلّ عَلَيْهِ لفظ دلَالَة أَو
اقْتِضَاء، إِمَّا مَقْصُود مِنْهُ أَولا، فعلى الأول ينْدَرج
تَحت الْعبارَة، وعَلى الثَّانِي تَحت الْإِشَارَة، وعَلى
التَّقْدِيرَيْنِ يلْزم كَون قسم الشَّيْء قسيما لَهُ قلت
لَيْسَ شَيْء مِنْهُمَا مَقْصُودا مِنْهُ، وَلَا ينْدَرج تَحت
الْإِشَارَة، لِأَن المُرَاد مِنْهَا مَا لم يكن بطرِيق
الدّلَالَة والاقتضاء لقَرِينَة التقابل (والشافعة قسموها) أَي
الدّلَالَة الوضعية اللفظية (إِلَى مَنْطُوق دلَالَة اللَّفْظ)
عطف بَيَان لمنطوق إِن جر على مَا جوزه الزَّمَخْشَرِيّ فِي
قَوْله تَعَالَى - {مقَام إِبْرَاهِيم} - إِنَّه عطف بَيَان
لآيَات، أَو بدل مِنْهُ، وَخبر مَحْذُوف إِن رفع، ومفعول
أَعنِي إِن نصب (فِي مَحل النُّطْق) ظرف للدلالة بِاعْتِبَار
الْمَدْلُول، فاللفظ إِذا دلّ على حَال مَنْطُوق يُقَال
دلَالَته فِي مَحل النُّطْق، وَإِذا دلّ على حَال مسكوت يُقَال
دلَالَته لَيست فِي مَحل النُّطْق، لِأَن بَيَان حَال
الْمَنْطُوق حقيق بِأَن يَقع النُّطْق فِيهِ وَمحل لَهُ،
وَبَيَان حَال غَيره حقيق بِأَن يسكت عَنهُ (على) ثُبُوت (حكم
الْمَذْكُور وَإِن) كَانَ ذَلِك الحكم (غير مَذْكُور كفى
السَّائِمَة) أَي كدلالة قَوْله فِي السَّائِمَة (مَعَ قرينَة
الحكم) وَهِي وُقُوعه فِي جَوَاب من قَالَ فِي الْغنم المعلوفة
الزَّكَاة أم فِي السَّائِمَة على حكم غير مَذْكُور، وَهِي
وجوب الزَّكَاة فِي مَحل النُّطْق لكَونه بَيَان حَال
الْمَنْطُوق، وَهُوَ السَّائِمَة، وَإِضَافَة الْقَرِينَة
إِلَى الحكم من قبيل إِضَافَة الدَّال إِلَى الْمَدْلُول.
(وَمَفْهُوم) مَعْطُوف على مَنْطُوق (دلَالَته) وَالْكَلَام
فِيهِ كَمَا مر (لَا فِيهِ) أَي لَا فِي مَحل النُّطْق (على)
ثُبُوت (حكم مَذْكُور لمسكوت) لم يذكر فِي الْكَلَام (أَو
نَفْيه) أَي الحكم الْمَذْكُور (عَنهُ) أَي عَن
(1/91)
الْمَسْكُوت سَوَاء كَانَ الحكم
الْمَذْكُور إِيجَابا أَو سلبا (وَقد يظْهر) من كَلَام
الْقَوْم (أَنَّهُمَا) أَي الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم
(قِسْمَانِ للمدلول) : قَالَه الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ:
جَعلهمَا من أَقسَام الدّلَالَة محوج إِلَى تكلّف عَظِيم فِي
تَصْحِيح عِبَارَات الْقَوْم، نقل عَن المُصَنّف أَن كلمة قد
هَهُنَا للتكثير، وَهِي قد تسْتَعْمل لذَلِك كَمَا قَالَه
سِيبَوَيْهٍ وَغَيره (فالدلالة حِينَئِذٍ دلَالَة الْمَنْطُوق،
وَدلَالَة الْمَفْهُوم لأنفسهما) يَعْنِي حِين جعل الْمَنْطُوق
وَالْمَفْهُوم قسمي الْمَدْلُول، يُقَال فِي التَّقْسِيم
إِلَيْهِمَا الدّلَالَة الوضعية: أما دلَالَة الْمَنْطُوق
بِأَن كَانَ مدلولها، وَأما دلَالَة الْمَفْهُوم كَذَلِك
(والمنطوق) قِسْمَانِ (صَرِيح) هُوَ (دلَالَته) أَي اللَّفْظ
الناشئة (عَن) مُجَرّد (الْوَضع وَلَو) كَانَت تِلْكَ
الدّلَالَة (تضمنا) فانحصر الصَّرِيح فِي الْمُطَابقَة
والتضمن، وَخرجت الالتزامية، لِأَنَّهَا لَيست عَن مُجَرّد
الْوَضع، بل لَا بُد فِيهَا من علاقَة اللُّزُوم أَيْضا
(وَغَيره) أَي غير الصَّرِيح وَهُوَ دلَالَته (على مَا يلْزم)
أَي مَا وضع لَهُ (وينقسم) غير الصَّرِيح (إِلَى) الدّلَالَة
على لَازم (مَقْصُود من اللَّفْظ) يتَعَلَّق قصد الْمُتَكَلّم
بِهِ وَإِرَادَة إِفَادَة اللَّفْظ (فتنحصر) الدّلَالَة على
اللَّازِم الْمَقْصُود بالاستقراء (فِي الِاقْتِضَاء كَمَا
ذكرنَا آنِفا) أَي من سَاعَة، وَفِي أول وَقت يقرب بِنَا،
يَعْنِي قَوْله وعَلى مسكوت يتَوَقَّف صدقه عَلَيْهِ كرفع
الْخَطَأ أَو صِحَّته (والإيماء) وَهُوَ دلَالَته على لَازم
مَقْصُود بِسَبَب (قرانه) أَي اللَّفْظ (بِمَا) أَي بِشَيْء
(لَو لم يكن هُوَ) أَي ذَلِك الشَّيْء (عِلّة لَهُ) أَي
لمدلوله (كَانَ) ذَلِك الْقرَان (بَعيدا) عَمَّا هُوَ
الْمُتَعَارف فِي المحاورات، لكَون الْمُتَعَارف فِي المحاورات
إِرَادَة علية مَا قرن بِهِ لَهُ (وَيُسمى) هَذَا الْقسم
الْمُسَمّى بِالْإِيمَاءِ (تَنْبِيها) أَيْضا لِأَنَّهُ كَمَا
فِيهِ إِيمَاء إِلَى علية ذَلِك الشَّيْء بِسَبَب ذَلِك
الْقرَان كَذَلِك فِيهِ تَنْبِيه عَلَيْهَا أَيْضا (كقران)
قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أعتق) رَقَبَة
(بواقعت) أَي بقول الْأَعرَابِي " واقعت فِي نَهَار رَمَضَان
يَا رَسُول الله " كَذَا ذكر الحَدِيث فِي كتب الْأُصُول،
وَالْمَذْكُور فِي الصِّحَاح السِّتَّة عَن أبي هُرَيْرَة "
أَتَى رجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: هَلَكت،
قَالَ مَا شَأْنك؟ قَالَ: وَقعت على امْرَأَتي فِي رَمَضَان،
قَالَ: فَهَل تَجِد رَقَبَة تعتقها؟ " قَالَ: لَا، قَالَ:
فَهَل تَسْتَطِيع أَن تَصُوم شَهْرَيْن مُتَتَابعين؟ قَالَ:
لَا، قَالَ: فَهَل تَسْتَطِيع أَن تطعم سِتِّينَ مِسْكينا؟
قَالَ: لَا، قَالَ اجْلِسْ، فَأتى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بعرق فِيهِ تمر، فَقَالَ: تصدق بِهِ، قَالَ: عَليّ أفقر
مني يَا رَسُول الله؟ فوَاللَّه مَا بَين لابتيها يُرِيد
الحرتين أهل بَيت أفقر من أهل بَيْتِي، فَضَحِك عَلَيْهِ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى بَدَت ثناياه، وَفِي لفظ أنيابه،
وَفِي لفظ نَوَاجِذه، ثمَّ قَالَ خُذْهُ فأطعمه أهلك " ذكره
المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة، فقران قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي الْجَواب وَقعت إِلَى آخِره يُفِيد علية
الوقاع للاعتاق، فَإِن غَرَض السَّائِل بَيَان مُوجب فعله
(وَغير مَقْصُود) عطف على مَقْصُود، فَهُوَ الْقسم الثَّانِي
(1/92)
سقط
(1/93)
سقط
(1/94)
مَا يُنَاسِبه، وَهُوَ الدِّينَار
الْمُنَاسب بالتأدية (ولاعتبار الْحَنَفِيَّة) الْمَسْكُوت
(الْمسَاوِي) للمنطوق فِي الحكم ومناطه (أثبتوا الْكَفَّارَة)
على الْأكل فِي رَمَضَان من غير مُبِيح شَرْعِي، وَلَا شُبْهَة
مُلْحقَة بِهِ (بعمد الْأكل كالجماع) أَي كَمَا أثبتها النَّص
الْمَذْكُور فِي الْكتب السِّتَّة فِي الْجِمَاع الْعمد
والمناط المستوي فِيهِ الْأكل، وَالْجَامِع تَفْوِيت ركن
الصَّوْم اعتداء، وَإِنَّمَا حكمنَا بِكَوْنِهِ مناطا (لتبادر
أَنَّهَا) : أَي الْكَفَّارَة (فِيهِ) أَي الْجِمَاع (لتفويت
الرُّكْن اعتداء) .
وَمن أَسبَاب الْعلم بالمناط تبادره من النَّص، كَيفَ
وَالْجِمَاع من حَيْثُ ذَاته لم يكن محرما؟ وَمَا ثمَّ إِلَّا
كَونه مفوتا لركن الصَّوْم عمدا، وَلَا شكّ فِي مساواتهما فِي
معنى التفويت، والركن فِي اللُّغَة الْجَانِب الْقوي، وَفِي
الشَّرْع جُزْء الشَّيْء إِذا كَانَ لَهُ جزآن فَصَاعِدا
وَإِلَّا فنفسه، وَالْمُصَنّف رَحمَه الله صرح فِي شرح
الْهِدَايَة فِي الصَّوْم بِأَن رُكْنه وَاحِد، وَهُوَ الْكَفّ
عَن كل مِنْهَا: أَي الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع. وَقَالَ
فتساوت كلهَا فِي أَنَّهَا مُتَعَلق الرُّكْن لَا يفضل وَاحِد
على أَخَوَيْهِ بِشَيْء فِي ذَلِك انْتهى، وَالْمرَاد
بالاعتداء: الْعدوان وَالظُّلم بتعمد الْإِفْسَاد، وَقد يُقَال
لَا، ثمَّ أَن الْمُتَبَادر مُجَرّد تَفْوِيت الرُّكْن، بل
تفويته على نَفسه وعَلى غَيره مَعَ زِيَادَة خصوصيات جماعية
مُوجبَة لكَمَال الْفَضِيلَة فَتدبر (وَلما انقسم) مَفْهُوم
الْمُوَافقَة (إِلَى قَطْعِيّ) هُوَ مَا يكون فِيهِ
التَّعْلِيل بِالْمَعْنَى، وَكَونه أَشد مُنَاسبَة للفرع
قطعيين على مَا ذكره القَاضِي عضد الدّين وَالظَّاهِر أَنه
مَبْنِيّ على رَأْي شارط الْأَوْلَوِيَّة وَإِلَّا يَكْفِي
قَطْعِيَّة التَّعْلِيل بِالْمَعْنَى ووجوده بالمسكوت (كَمَا
سبق) من الْأَمْثِلَة الْمَذْكُورَة (وظني) وَهُوَ مَا فِيهِ
أحد الْمَذْكُورين ظنيا (كَقَوْل الشَّافِعِي) رَحمَه الله
(إِذا وَجَبت الْكَفَّارَة) وَهِي تَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة
لمن قدر عَلَيْهِ، وَصِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين لمن لم يقدر
(فِي) الفتل (الْخَطَأ) . قَالَ النَّوَوِيّ رَحمَه الله
الْعمد: قصد الْفِعْل والشخص بِمَا يقتل غَالِبا: جارح، أَو
مثقل، فَإِن فقد قصد أَحدهمَا بِأَن وَقع عَلَيْهِ فَمَاتَ،
أَو رمى شَجَرَة فَأَصَابَهُ فخطأ (وَغير الْغمُوس) أَي
وَوَجَبَت الْكَفَّارَة، وَهِي إطْعَام عشرَة مَسَاكِين من
أَوسط مَا يطعم الشَّخْص أَهله، أَو كسوتهم، أَو تَحْرِير
رَقَبَة فِي حق المستطيع، وَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام إِذا
يسْتَطع فِي الْيَمين المنعقدة، وَهِي الْحلف على أَمر فِي
الْمُسْتَقْبل ليفعله أَو يتْركهُ بِالنَّصِّ على ذَلِك
(ففيهما) أَي فوجوب الْكَفَّارَة فِي الْقَتْل الْعمد
الْمَفْهُوم بِذكر مُقَابِله، والغموس وَهُوَ الْحلف على أَمر
حَال، أَو مَاض يتَعَمَّد فِيهِ الْكَذِب (أولى) من وُجُوبهَا
فِي الْأَوَّلين (لفهم الْمُتَعَلّق) تَعْلِيل لقَوْل
الشَّافِعِي رَحمَه الله: أَي قَالَ ذَلِك، لِأَنَّهُ فهم من
النصين الدالين على وجوب التَّعَلُّق فِي الْمَنْطُوق أَن
الحكم فيهمَا مُتَعَلق (بالزجر) على ارتكابهما تعلق
الْمَعْلُول بعلته، وَأَن الْعمد والغموس أَشد مُنَاسبَة
بِهَذِهِ الْعلَّة، فَهُوَ أولى بالحكم، وَذَلِكَ لِأَن
احتياجهما إِلَى الزّجر أَكثر،
(1/95)
وَهَذَا الْفَهم ظَنِّي لعدم مَا يُفِيد
الْقطع بِهِ، وَمن ثمَّ لم يُوَافقهُ أَصْحَابنَا، بل ذَهَبُوا
إِلَى أَن المناط فيهمَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (لَا
بتدارك مَا فرط) عطف على قَوْلهمَا بالزجر: أَي لَا
التَّعَلُّق مثلا فِي مُسَافر قصر من التثبت فِي الرَّمْي،
والتحفظ عَن هتك حُرْمَة اسْم الله تَعَالَى بترك الْيَمين،
أَو بِعَدَمِ ارْتِكَاب مَا يُوجب الْحِنْث (بالثواب)
الْحَاصِل بِالْكَفَّارَةِ، لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنهُ،
وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي أَن معنى الْعِبَادَة فِيهَا أغلب،
أَو الْعقُوبَة، فعلى الأول يتَرَجَّح تعلقهَا بالتدارك، وعَلى
الثَّانِي بالزجر، والأغلب فِيهَا عندنَا الأول، وَعِنْده
الثَّانِي، وَلَا يخفى أَن مَا يتدارك بِهِ الأخف لَا يصلح
لِأَن يتدارك بِهِ الأغلظ، والعمد من أكبر الْكَبَائِر،
والغموس كَبِيرَة مَحْضَة مَعْدُودَة فِي الْخَبَر الصَّحِيح
من الْكَبَائِر. وَقَالَ المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة عِنْد
قَوْله وَلَا كَفَّارَة فِيهَا: أَي فِي الْغمُوس إِلَّا
التَّوْبَة وَالِاسْتِغْفَار، وَهُوَ قَول أَكثر الْعلمَاء:
مِنْهُم مَالك وَأحمد (جَازَ الِاخْتِلَاف فِيهَا) جَوَاب لما،
يَعْنِي لما كَانَ قسم مِنْهَا ظنيا محلا للِاجْتِهَاد جَازَ
الِاجْتِهَاد فِيهَا، وتفرع عَلَيْهِ جَوَاز الِاخْتِلَاف
فِيهَا، وَلَو كَانَ كلهَا قَطْعِيا لما جَازَ ذَلِك
(وَالْخَطَأ) عطف على الِاخْتِلَاف (كَمَا ذكرنَا) لِأَن
جَوَاز الِاخْتِلَاف يسْتَلْزم جَوَاز الْخَطَأ لعدم إِمْكَان
صوابية الْقَوْلَيْنِ الْمُخْتَلِفين، (وَلذَا) أَي لجَوَاز
الِاخْتِلَاف فِي دلَالَة النَّص بِنَاء على الِاخْتِلَاف فِي
فهم المناط (فرع أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وجوب الْحَد باللواطة
على دلَالَة نَص وُجُوبه) أَي الْحَد (بِالزِّنَا بِنَاء)
عِلّة للتفريع، أَو الدّلَالَة (على تعلقه) أَي تعلق وجوب حد
الزِّنَا (بسفح المَاء) أَي إِرَاقَة الْمَنِيّ (فِي مَحل محرم
مشتهي وَالْحُرْمَة قَوِيَّة) حَال من مفعول فرع: أَي فرع وجوب
حد اللواطة عَلَيْهَا حَال كَون الْحُرْمَة الْمُقْتَضِيَة
ذَلِك الْوُجُوب أقوى من الْحُرْمَة الْمُوجبَة حد الزِّنَا
لكَونهَا مُؤَبّدَة لَا تنكشف بِحَال، بِخِلَاف الْأُخْرَى
لانكشافها فِي بعض الْمحَال بِملك النِّكَاح أَو الْيَمين،
وَبِه أَفَادَ أَوْلَوِيَّة الْمَسْكُوت بالحكم هَذَا،
وَالْأَئِمَّة الثَّلَاثَة ذَهَبُوا إِلَى مَا ذَهَبا
(وَالْإِمَام) أَبُو حنيفَة رَحمَه الله يمْنَع وجوب الْحَد
باللواطة، فَإِنَّهُ (يَقُول السفح) بِالزِّنَا (أَشد ضَرَرا)
من السفح باللواطة (إِذْ هُوَ) أَي السفح بِالزِّنَا (إهلاك
نفس معنى) يُؤَيّدهُ أَنه قرن بَينه وَبَين الْقَتْل فِي
قَوْله تَعَالَى - {وَلَا يقتلُون النَّفس الَّتِي حرم الله
إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يزنون} -، قيل لِأَنَّهُ مفض إِلَى
الْإِثْبَات ظَاهرا وَإِذا ثَبت وَلَيْسَ لَهُ مرب وَلَا قيم
لعجزهن عَن الِاكْتِسَاب يهْلك الْوَلَد، وَالْأَوْجه أَن
يُقَال الإهلاك الْمَعْنَوِيّ لهتك الْعرض بِعَدَمِ النّسَب،
وَفِي الحَدِيث " عرض الْمُؤمن كدمه "، وَعدم الاتصاف
بالكمالات العلمية والعملية، والاتصاف بالرذائل مِمَّا يُنَاسب
مثبته السوء، فَإِن عجز النِّسَاء والهلاك لعدم من ينْفق لَا
عِبْرَة بِهِ مَعَ قَوْله تَعَالَى - {وَمَا من دَابَّة فِي
الأَرْض إِلَّا على الله رزقها} - على أَن الزَّانِيَة لَا
تعجز (وَهُوَ) أَي القَوْل الْمُعَلل مَبْنِيّ (على
اعْتِبَاره) أَي الإهلاك الْمَذْكُور
(1/96)
سقط
(1/97)
سقط
(1/98)
قَالَ ثَعْلَب لمُحَمد بن عبد الله بن
طَاهِر لما سَأَلَهُ مَا الْهَلَع؟ قد فسره الله تَعَالَى،
وَلَا يكون تَفْسِير أبين من تَفْسِيره (ومدح وذم) أَي وَلَا
بِوَصْف مادح، وَلَا ذام يقْصد بِهِ مُجَرّد الْمَدْح والذم،
وَلَا مترجم بِهِ على الْمَوْصُوف، نَحْو جَاءَ زيد الْعَالم،
أَو الْجَاهِل، أَو الْفَقِير، وَلَا بِوَصْف مُؤَكد، وَهُوَ
مَا موصوفه مُتَضَمّن لمعناه كأمس الدابر لَا يعود (ومخرج
الْغَالِب) أَي وَلَا بِوَصْف خرج مخرج الْغَالِب الْمُعْتَاد
بِأَن لَا يَنْفَكّ عَن الْمَوْصُوف فِي أَكثر تحققاته، فخروجه
وبروزه مَعَ الْمَوْصُوف فِي الذّكر على حسب بروزه مَعَه فِي
الْوُجُود، وَلَا يقْصد بِهِ التَّخْصِيص (كاللاتي فِي جحوركم)
فِي قَوْله تَعَالَى - {وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم} - جمع
ربيبة، بنت زَوْجَة الرجل من آخر، سميت بهَا، لِأَنَّهُ
يُرَبِّيهَا غَالِبا كولده، وَإِنَّمَا لحقته الْهَاء، مَعَ
أَنه فعيل بِمَعْنى مفعول لصيرورته اسْما، وكونهن فِي حجور
أَزوَاج الْأُمَّهَات هُوَ الْغَالِب من حالهن، فوصفهن بِهِ
لذَلِك لَا للتخصيص (فَلَا يدل) الْكَلَام الْمُشْتَمل على
الْمَوْصُوف بِوَصْف من الْأَوْصَاف الْمَذْكُورَة، أَو قَوْله
- {وربائبكم} - الخ (على نفي الحكم عِنْد عَدمه) أَي عدم ذَلِك
الْوَصْف، أَو عدم كونهن فِي حجوركم، وَفَائِدَة ذكر الاحتضان
تَقْوِيَة الشّبَه بَينهَا وَبَين الْأَوْلَاد المستدعية
كَونهَا حَقِيقَة بِأَن تجْرِي مجراهم، وَذهب جُمْهُور
الْعلمَاء إِلَى تَعْمِيم الحكم، وَقد روى عَن عَليّ رَضِي
الله عَنهُ جعله شرطا حَتَّى أَن الْبعيد عَن الزَّوْج لَا
يحرم عَلَيْهِ، وَنقل عَن ابْن عبد السَّلَام أَن الْقَاعِدَة
تَقْتَضِي الْعَكْس، وَهُوَ أَنه إِذا خرج مخرج الْغَالِب يكون
لَهُ مَفْهُوم، لَا إِذا لم يكن غَالِبا، لِأَن الْغَالِب على
الْحَقِيقَة تدل الْعَادة على ثُبُوتهَا لَهَا، فالمتكلم
يَكْتَفِي بدلالتها عَن ذكره، فَإِنَّمَا ذكره ليدل على نفي
الحكم عَمَّا عداهُ، وَإِذا لم يكن عَادَة فغرض الْمُتَكَلّم
بِذكرِهِ إفهام السَّامع ثُبُوته للْحَقِيقَة، وَفِيه مَا
فِيهِ (وَجَوَاب سُؤال عَن الْمَوْصُوف) أَي وَلَا بِوَصْف ذكر
فِي جَوَاب سُؤال عَن مَوْصُوف بِهِ، كَأَن يُقَال هَل فِي
الْغنم السَّائِمَة زَكَاة؟ فَيَقُول الْمُجيب فِي الْغنم
السَّائِمَة زَكَاة، فَذكر الْوَصْف لتنصيص الْجَواب فِي مَحل
السُّؤَال، فَلَا يدل على عدم الْوُجُوب فِي غَيرهَا (وَبَيَان
الحكم لمن هوله) وَلَا بِوَصْف ذكر لبَيَان الحكم لمن لَهُ
الْمَوْصُوف بِهَذَا الْوَصْف كَمَا إِذا كَانَ لزيد غنم
سَائِمَة، وَأَنت تُرِيدُ بَيَان حكم غنم زيد لَا غَيره،
فَتَقول فِي الْغنم السَّائِمَة زَكَاة تنصيصا على أَن
الْغَرَض بَيَان وجوب الزَّكَاة لأجل زيد (ولتقدير جهل
الْمُخَاطب بِحكمِهِ) أَي وَلَا بِوَصْف ذكر لغَرَض جَهَالَة
الْمُخَاطب بِحكم الْمَوْصُوف بِاعْتِبَار هَذَا الْوَصْف
فَقَط لعلمه بِاعْتِبَار وصف آخر كَمَا إِذا لم يعلم فِي
السَّائِمَة مَعَ علمه فِي العلوفة (أَو ظن الْمُتَكَلّم) أَي
ولتقدير ظن الْمُتَكَلّم علم الْمُخَاطب بِحَال الْمَسْكُوت
كظنه أَن الْمُخَاطب عَالم بِأَنَّهُ لَا زَكَاة فِي المعلوفة
(أَو جَهله) أَي لتقدير جهل الْمُتَكَلّم بِحَال الْمَسْكُوت
فِيمَا إِذا كَانَ غير الشَّارِع (وَخَوف يمْنَع ذكر حَاله)
(1/99)
وَلَا بِوَصْف ذكر لتقدير خوف يمْنَع
الْمُتَكَلّم عَن ذكر السُّكُوت (أَو غير ذَلِك) كَمَا يقتضى
تَخْصِيصه بِالذكر، فَإِن مَفْهُوم الصّفة إِنَّمَا يُصَار
إِلَيْهِ إِذا لم يكن لذكرها فَائِدَة أُخْرَى (كفى
السَّائِمَة الزَّكَاة يُفِيد) الْوَصْف بالسوم (نَفْيه) أَي
نفي الحكم، وَهُوَ وجوب الزَّكَاة (عَن العلوفة) بِفَتْح
الْعين الْمُهْملَة: أَي المعلوفة، وَالْقَائِل بِمَفْهُوم
الصّفة الشَّافِعِي وَأحمد والأشعري وَكثير من الْعلمَاء:
رَضِي الله عَنْهُم، ونفاه أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ
وَابْن سُرَيج وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْقَاضِي أَبُو بكر
وَالْغَزالِيّ رَضِي الله عَنهُ والمعتزلة.
(وَالشّرط على شَرط) أَي وَمَفْهُوم الشَّرْط عِنْد تَعْلِيق
حكم على شَرط، فَإِنَّهُ يَنْتَفِي بِانْتِفَاء الشَّرْط،
فَيثبت نقيضه، والعاطف إِمَّا لعطف الشَّرْط على الصّفة،
والظرف وَمَا أضيف إِلَيْهِ مُقَدّر بِقَرِينَة السِّيَاق، أَو
لعطف الشَّرْط وَمَا بعده على الصّفة وصلَة التَّعْلِيق،
أَعنِي الْمَوْصُوف، والعطف على معمولي عاملين مُخْتَلفين
جَائِز مُطلقًا عِنْد الْأَخْفَش إِلَّا إِذا وَقع فصل بَين
العاطف والمعطوف الْمَجْرُور، وَكَذَا على مَا هُوَ
الْمُخْتَار وَابْن الْحَاجِب إِذا كَانَ الْمَجْرُور مقدما
مثل قَوْله تَعَالَى {وَإِن كن أولات حمل فأنفقوا عَلَيْهِنَّ
فَلَا نَفَقَة لمبانة غَيرهَا} أَي غير الْحَامِل، علق إِيجَاب
النَّفَقَة على كَون المبانة ذَات حمل، فَدلَّ على عدم
وُجُوبهَا غير حَامِل، وَقيد الْمُطلقَة بالمبانة لوُجُوب
نَفَقَة الْمُطلقَة الرَّجْعِيَّة إِجْمَاعًا حَامِلا كَانَت
أَو لَا.
(والغاية) أَي وَمَفْهُوم الْغَايَة (عِنْد مده) أَي الحكم
الثَّابِت للمنطوق (إِلَيْهَا) أَي إِلَى الْغَايَة، لِأَن ذكر
الْغَايَة يدل على انتهائه عِنْدهَا، فَلم يثبت للمسكوت
الَّذِي هُوَ بعد الْغَايَة، فَيثبت لَهُ نقيضه كَقَوْلِه
تَعَالَى {فَلَا تحل لَهُ من بعد حَتَّى تنْكح} زوجا غَيره،
فَإِن حكم الْمَنْطُوق، وَهُوَ عدم الْحل انْتهى عِنْد نِكَاح
الزَّوْج الآخر (فَتحل) للْأولِ (إِذا نكحت) غَيره وَانْقَضَت
الْعدة، فالمسكوت عَنهُ نِكَاح الأول يعد نِكَاح الثَّانِي،
ونقيض الحكم الْحل.
(وَالْعدَد) أَي وَمَفْهُوم الْعدَد، وَهُوَ دلَالَته على
ثُبُوت نقيض حكم الْمَنْطُوق (عِنْد تَقْيِيده) أَي حكم
الْمَنْطُوق (بِهِ) أَي بِالْعدَدِ الْمَسْكُوت فِيمَا عدا
الْعدَد كَقَوْلِه تَعَالَى - {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ
جلدَة} فَإِنَّهُ يدل على نفي الْوُجُوب عَن الزَّائِد على
الثَّمَانِينَ كَمَا يدل على وُجُوبهَا بِسَبَب تَقْيِيد
الْوُجُوب بِالْعدَدِ الْمَذْكُور (فَرجع الْكل) أَي الشَّرْط
والغاية وَالْعدَد (إِلَى الصّفة معنى) لِأَن الْمَقْصُود من
الصّفة تَخْصِيص الْمَنْطُوق، وَهُوَ حَاصِل فِي الْكل،
وَلَيْسَ الْمَقْصُود عدم التَّفَاوُت بَين الْمَذْكُورَات
بِوَجْه حَتَّى يرد أَنه لَو كَانَ الْكل سَوَاء لما وَقع
الِاخْتِلَاف بَين الْقَائِلين بهَا، فالشافعي وَأحمد والأشعري
وَأَبُو عبيد من اللغويين، وَكثير من الْفُقَهَاء والمتكلمين
قَالُوا بِمَفْهُوم الصّفة. وَقَالَ بِمَفْهُوم الشَّرْط كل من
قَالَ بمفهومها، وَبَعض من لم يقل بِهِ
(1/100)
سقط
(1/101)
سقط
(1/102)
سقط
(1/103)
سقط
(1/104)
سقط
(1/105)
سقط
(1/106)
يفِيدهُ) أَي كَون الْأَكْثَر مُوَافقا
للْأَصْل (فَلَا يتَمَكَّن من إثْبَاته) أَي انْتِفَاء الحكم
(بِاللَّفْظِ و) الْحَال أَنه (فِيهِ) أَي فِي إثْبَاته
بِاللَّفْظِ (النزاع) بَين الْفَرِيقَيْنِ وَالْحَاصِل أَنه
لَو لم يكن الأَصْل الَّذِي يصلح لِأَن يثبت بِهِ انْتِفَاء
الحكم علن الْمَسْكُوت مَوْجُودا فِي الْأَكْثَر كَأَن يظنّ
ثُبُوته بِالْمَفْهُومِ، لِأَنَّهُ إِذا علم مَشْرُوعِيَّة
الحكم وَلم يظْهر لَهُ فِي الشَّرْع مَا يظنّ كَونه دَلِيلا
لَهُ سوى أَمر خَاص يكَاد أَن يتَعَيَّن لذَلِك، وَأما إِذا
وجد لَهُ مَا يصلح لذَلِك سوى أَمر هُوَ مَحل النزاع تعين
إِسْنَاده إِلَيْهِ (وَإِذ قد ظهر) بِمَا ذكر من
الِاسْتِدْلَال بفهم أبي عبيد وَغَيره على الْمَفْهُوم (أَن
الدَّلِيل) لإِثْبَات الْمَفْهُوم (الْفَهم) أَي فهم انْتِفَاء
الحكم عَن الْمَسْكُوت فِي الْموَاد الْمَذْكُورَة (وَفِي
مفيده) أَي الْفَهم الْمَذْكُور (احْتِمَال لما ذكرنَا) من
التَّرَدُّد فِي أَنه مَدْلُول اللَّفْظ أَو الأَصْل الخ
(اتَّحد حَال الْإِثْبَات وَالنَّفْي) أَي نِسْبَة إِثْبَات
الْمَفْهُوم ونفيه إِلَى اللَّفْظ على السوية لتساوي احتمالية
الْإِرَادَة وَعدمهَا بِالنّظرِ إِلَيْهِ، وَالدَّال على
الشَّيْء لَا يشك فِي أَنه يفِيدهُ أم لَا، فالشك فِي إفادته
يسْتَلْزم نفي دلَالَته، وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوب (فَإِن
أُجِيب عَن الْمَنْع) أَي منع انحصار الْفَائِدَة فِي النَّفْي
عَن الْمَسْكُوت بتحرير الدَّلِيل على وَجه لَا يتَّجه
الْمَنْع الْمَذْكُور بِأَن يُقَال (وضع التَّخْصِيص للفائدة)
على صِيغَة الْمَجْهُول أَو الْمصدر الْمُضَاف (وضع
الْمُشْتَرك الْمَعْنَوِيّ) بِالنّصب على الأول وَالرَّفْع على
الثَّانِي: أَي وضع مَا وضع لمَفْهُوم عَام تَحْتَهُ أَفْرَاد
هِيَ الْفَوَائِد الْجُزْئِيَّة كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله
(وكل فَائِدَة فَرد مِنْهُ) أَي الْمُشْتَرك الْمَذْكُور
(تتَعَيَّن بِالْقَرِينَةِ) لتِلْك الْفَائِدَة الْمُطلقَة
الْمَوْضُوع لَهَا التَّخْصِيص (فِي المورد) فِي كل كَلَام ورد
فِيهِ التَّخْصِيص بِالْقَرِينَةِ الْمعينَة لَهَا (وَهِي) أَي
الْقَرِينَة (عِنْد عدم قرينَة غير الْمَنْفِيّ عَن
الْمَسْكُوت لُزُوم عدم الْفَائِدَة) للتخصيص الْمُوجب وجود
الْمَوْضُوع بِدُونِ مَا وضع لَهُ فَيجب (إِن لم يكن) النَّفْي
عَن الْمَسْكُوت مرَادا من التَّخْصِيص (فَيجب) أَن يكون
النَّفْي عَنهُ حِينَئِذٍ (مدلولا لفظيا) لِأَن الْمَوْضُوع
للْجِنْس إِذا أُرِيد بِهِ فَرد مِنْهُ بِالْقَرِينَةِ يكون
دَالا عَلَيْهِ (قُلْنَا لَا دلَالَة للأعم على الْأَخَص)
بِخُصُوصِهِ بِإِحْدَى الدلالات الثَّلَاث، يَعْنِي إِذا
قُلْتُمْ بِوَضْع التَّخْصِيص لمُطلق الْفَائِدَة الَّذِي نفى
الحكم عَن الْمَسْكُوت فَرد مِنْهُ لزم كَون التَّخْصِيص أَعم
مِنْهُ، وَقُلْنَا لَا دلَالَة إِلَى آخِره (فَلَيْسَ)
النَّفْي الْمَذْكُور مدلولا (لفظيا بل) الدّلَالَة (للقرينة)
مَعْطُوف على قَوْله للأعم فَإِن قلت ذكر الْعَام وَإِرَادَة
الْخَاص بمعاونة الْقَرِينَة إِطْلَاق مجازى ومدلول الْمجَاز
مَدْلُول لَفْظِي قلت النزاع فِي إِثْبَات الْمَفْهُوم وَهُوَ
عبارَة عَن دلَالَة اللَّفْظ بِاعْتِبَار التَّخْصِيص من غير
حَاجَة إِلَى أَمر آخر وَمَا ذكرته من لُزُوم عدم الْفَائِدَة
أَمر آخر على أَن قَوْلنَا فَلَيْسَ لفظيا سَنَد للْمَنْع،
فَإِن الْمُجيب عَن الْمَنْع منصبه إِثْبَات الْمُدعى بادعاء
وضع التَّخْصِيص إِلَى آخِره، والخصم يمْنَع وَضعه لما ذكر،
وَيُؤَيّد مَنعه بِنَفْي
(1/107)
المدلولية اللفظية، وَلَا خَفَاء فِي أَنه
سَنَد أخص، وإبطاله غير موجه، وَأَيْضًا يتَحَقَّق النزاع فِي
كل مَادَّة بقول الْخصم بِثُبُوت الْمَفْهُوم مُدعيًا وجود
الْقَرِينَة، أَعنِي لُزُوم عدم الْفَائِدَة، فَيُقَال لَهُ
لَا نسلم ذَلِك: لم لَا يجوز أَن يكون هُنَاكَ فَائِدَة
أُخْرَى؟ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَالثَّابِت) فِي
الْمَوَاضِع الَّتِي يدعى فِيهَا الْخصم ثُبُوت الْمَفْهُوم
(عدم الْعلم بِقَرِينَة الْغَيْر) أَي غير نفي الحكم عَن
الْمَسْكُوت (لَا عدمهَا) أَي عدم قرينَة الْغَيْر فِي نفس
الْأَمر لعدم الْإِحَاطَة بِالنَّفْيِ (فَيكون) التَّخْصِيص
الَّذِي ادّعى وَضعه لمُطلق الْفَائِدَة (مُجملا) لازدحام
الْمعَانِي الممكنة إرادتها وَعدم مَا تعين بَعْضهَا (فِي) نفي
الحكم عَن (الْمَسْكُوت وَغَيره) أَي غير النَّفْي (لَا مُوجبا
فِيهِ) أَي فِي الْمَسْكُوت (شَيْئا) من نفي الحكم عَنهُ
وَغَيره أَو شَيْئا من الْإِيجَاب (كَرجل بِلَا قرينَة فِي
زيد) فَإِنَّهُ مُجمل فِي زيد وَعَمْرو وَغَيرهمَا، وَلَا
يُوجب فِي زيد شَيْئا (فَإِن قيل) لَيْسَ الْأَمر كَمَا زعمتم
من أَن الثَّابِت عدم الْعلم بهَا لَا لعدمها، وَأَن الأول لَا
يدل على الثَّانِي (بل) عدم الْعلم بِقَرِينَة الْغَيْر (ظَاهر
فِي عدمهَا) أَي فِي عدمهَا بِحَسب الْوَاقِع، وَإِن لم يكن
نصافيه (بعد فحص الْعَالم) بأساليب الْكَلَام، وقرائن الْمقَام
مَعَ كَمَال الاهتمام عَن قرينَة الْغَيْر، فَيدل عدم علمه
بهَا على عدمهَا بِحَسب غَالب الظَّن لِأَنَّهَا لَو كَانَت لم
تخف عَلَيْهِ، وَهَذَا الْكَلَام إِثْبَات للمقدمة الممنوعة
على تَقْدِير أَن يكون مَا قبله منعا، وَإِبْطَال لعدم ثُبُوت
عدم الْقَرِينَة إِن كَانَ مُعَارضَة (قُلْنَا) ظُهُور عدمهَا
(مَمْنُوع) أَن عدم الْعلم بِشَيْء وَلَو بعد فحص الْعَالم لَا
يسْتَلْزم عَدمه (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك بِأَن
يستلزمه (لم يتَوَقَّف) الْعَالم بعد الفحص (فِي حكم)
لِأَنَّهُ لَا تَخْلُو حَادِثَة من الْحَوَادِث عَن حكم ثَابت
من الله تَعَالَى مَعَ أَمارَة أُقِيمَت عَلَيْهِ كَمَا هُوَ
الْحق عِنْد أهل التَّحْقِيق، وَمن ضَرُورَة استلزام عدم
الْعلم بالشَّيْء عدم استلزام وجود الْعلم فَلَا وَجه للتوقف
(وَقد ثَبت) التَّوَقُّف (عَن الْأَئِمَّة) الْمُجْتَهدين فِي
كثير من الْأَحْكَام فَإِن قلت لَعَلَّ توقفهم لعدم الْقطع،
وَنحن قُلْنَا ظَاهر فِي عدمهَا، وَلم نَدع الْقطع بِهِ
قُلْنَا ثَبت عَنْهُم التَّوَقُّف فِيمَا يَكْتَفِي فِيهِ
بِالظَّنِّ من الْفُرُوع (فَإِن قيل) لاثبات الْمُقدمَة
الممنوعة، وَهُوَ ظُهُور عدم قرينَة الْغَيْر بِإِبْطَال
السَّنَد الْمسَاوِي للْمَنْع بزعم الْخصم التَّوَقُّف
(نَادِر) كَالْمَعْدُومِ فَلَا يُنَافِي الظُّهُور الْمَذْكُور
(قُلْنَا) لتأييد الْمَنْع بِسَنَد آخر إِن لم يسلم ذَلِك
السَّنَد (فمواضع الْخلاف) بَين الْقَائِلين بِالْمَفْهُومِ
والنافين، أَو بَين الْمُجْتَهدين فِي الْأَحْكَام
الشَّرْعِيَّة (كَثِيرَة تفِيد) تِلْكَ الْمَوَاضِع (عدم
الْوُجُود بالفحص) أَي عدم وجود علم (للْعَالم) بِسَبَب الفحص
مَعَ وجود المفحوص عَنهُ فِي الْوَاقِع، أَو عدم وجود مَا فحص
عَنهُ لما زعمتم من أَن عدم علم الْعَالم بِهِ دَلِيل على
عَدمه وَهُوَ بَاطِل لوُجُوده بِدَلِيل مَا أدّى إِلَيْهِ
اجْتِهَاده الْمُخَالف تَوْضِيحه أَن كلا من الْمُجْتَهدين
(1/108)
سقط
(1/109)
سقط
(1/110)
سقط
(1/111)
سقط
(1/112)
سقط
(1/113)
سقط
(1/114)
سقط
(1/115)
سقط
(1/116)
ينتفى الحكم عَنهُ فِي نفس الْأَمر) لِأَن
ثُبُوت الحكم لَهُ فرع تعرضه (وَدفع الأول) من الْوَجْهَيْنِ
(بِأَنَّهُ مُكَابَرَة) لظُهُور عدم اعْتِبَار مَفْهُوم
المخالقة فِي الْأَخْبَار مُطلقًا، وَفِيه نظر كَيفَ وأوجه
الْإِثْبَات غير مُخْتَصَّة بالإنشاء (و) دفع (الثَّانِي)
وَهُوَ الْفرق بَينهمَا (بإفادته) أَي إِفَادَة انْتِفَاء
تعرضه للمسكوت (السُّكُوت عَن الْمَسْكُوت) لانْتِفَاء الحكم
فِي نفس الْأَمر فَلَا فرق بَينهمَا (وَهُوَ) أَي السُّكُوت
عَن المكسوت وَعدم إِفَادَة الحكم ثَابت لَهُ (قَول النافين)
للمفهوم فِيهِ أَن قَول النافين السُّكُوت عَنهُ إِثْبَاتًا
ونفيا، وَاللَّازِم من انْتِفَاء التَّعَرُّض الَّذِي ذكره
الْخصم السُّكُوت عَنهُ إِثْبَاتًا فَقَط (وَمِنْهَا) أَي وَمن
الْأَدِلَّة المنظور فِيهَا أَنه (لَو ثَبت الْمَفْهُوم ثَبت
التَّعَارُض) فِي حكم الْمَسْكُوت بَين الدَّال على نفي الحكم
عَنهُ وَبَين مَا يدل على مشاركته للمذكور فِيهِ (لثُبُوت
الْمُخَالفَة) فِي مواد التَّخْصِيص بَين مَا يَقْتَضِيهِ
الْمَفْهُوم من نفي الحكم، وَبَين مَا يَقْتَضِيهِ دَلِيل آخر
من ثُبُوته للمسكوت (كثيرا) وَيلْزمهُ ثُبُوت التَّعَارُض
كثيرا، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {لَا تَأْكُلُوا
الرِّبَا أضعافا مضاعفة} - إِذْ مَفْهُومه عدم النَّهْي عَن
الْقَلِيل إِذْ النَّهْي عَن الْقَلِيل وَالْكثير ثَابت
لقَوْله - {وَحرم الرِّبَا} - وَغَيره (وَهُوَ) أَي
التَّعَارُض (خلاف الأَصْل لَا يُصَار إِلَيْهِ) أَي
التَّعَارُض أَو خلاف الأَصْل (إِلَّا بِدَلِيل) ملجئ إِلَى
الْمصير إِلَيْهِ، وَيتَّجه حِينَئِذٍ أَن الْأَدِلَّة
الْمَذْكُورَة للمفهوم كَثِيرَة فيصار إِلَيْهِ، فَأَشَارَ
إِلَى الْجَواب بقوله (فَإِن أقيم) الدَّلِيل على اعْتِبَاره
(فَبعد صِحَّته) فِيهِ إِشَارَة إِلَى عدم صِحَّته وَعدم
صلاحيته لِأَن يُعَارض دليلنا لصِحَّته: أَي فَبعد تَسْلِيم
صِحَّته (كَانَ دليلنا مُعَارضا) وَإِذا تَعَارضا تساقطا فَلَا
يبْقى بعد ذَلِك الِاعْتِبَار الْمَفْهُوم مُرَجّح، وَتعقبه
المُصَنّف بِأَن ذَلِك إِذا لم ترجح عَلَيْهِ، فَقَالَ
(وَالْحق أَن كل دَلِيل يخرج) الحكم (عَن الأَصْل) بإفادته
إِيَّاه على خلاف إِفَادَة مَا يُوَافق الأَصْل (بعد صِحَّته
يقدم) ذَلِك الدَّلِيل الْمخْرج على مَا يُوَافق (وَإِلَّا)
أَي وَإِن لم يقدم (لزم مثله) أَي مثل مَا ذكر من ثُبُوت
التَّعَارُض الَّذِي هُوَ خلاف الأَصْل إِلَى آخِره (فِي حجية
خبر الْوَاحِد وَغَيره) مِمَّا يدل على خلاف الأَصْل يَعْنِي
إِذا دلّ ظَنِّي كالقياس على حكم مُوَافق للْأَصْل، وَخبر
الْوَاحِد على خِلَافه يُقَال: لَو ثَبت حجية الْخَبَر ثَبت
التَّعَارُض، ثمَّ تقديمهم الْمخْرج عَن الأَصْل كترجيحهم
بَيِّنَة الْخَارِج على ذِي الْيَد (وَيدْفَع) هَذَا
الْإِيرَاد: أَعنِي تَقْدِيم الْمخْرج للُزُوم مثله الخ من قبل
النافين (بِأَن ذَلِك) أَي تَرْجِيح مُثبت خلاف الأَصْل
إِنَّمَا هُوَ (عِنْد تساويهما) أَي الْأَدِلَّة المتعارضة
(فِي استلزام الْمَطْلُوب وأدلتكم) أَيهَا المثبتون (بَينا أَن
شَيْئا مِنْهَا لَا يسْتَلْزم اعْتِبَاره) أَي الْمَفْهُوم
فَإِذن لَا تصلح، لِأَن تعَارض أدلتنا لاستلزامها عدم
اعْتِبَاره (وَمثله فِي الشَّرْط) أَي وَمثل ذكره فِي الصّفة
من الْأَدِلَّة مَا أورد عَلَيْهَا ذكره
(1/117)
فِي الشَّرْط (من الْجَانِبَيْنِ) الْمُثبت
والنافي (وَشَرطه) أَي مَفْهُوم الشَّرْط (وَمَا تقدم من عدم
خُرُوجه) أَي الْقَيْد، وَهُوَ الشَّرْط هَهُنَا (مخرج
الْغَالِب) وَقد مر تَفْسِيره كَقَوْلِه تَعَالَى - {وَلَا
تكْرهُوا فَتَيَاتكُم على الْبغاء إِن أردن تَحَصُّنًا} - على
أحد الْوُجُوه (وَنَحْوه) مِمَّا لَا يتَعَيَّن مَعَه كَون
الْمَفْهُوم فَائِدَة للتَّقْيِيد (ويخصه) أَي مَفْهُوم
الشَّرْط (قَوْلهم أَنه) أَي الشَّرْط (سَبَب) للجزاء (فعلى)
تَقْدِير (اتحاده) أَي السَّبَب انْتِفَاء الحكم عَنهُ
انْتِفَاء الشَّرْط (ظَاهر) ضَرُورَة انْتِفَاء الشَّيْء عِنْد
انْتِفَاء السَّبَب بِالْكُلِّيَّةِ (وعَلى) تَقْدِير (جَوَاز
التَّعَدُّد) أَي تعدد السَّبَب (الأَصْل عدم غَيره) أَي
الشَّرْط من الْأَسْبَاب الْأُخَر، فَإِن سَبَبِيَّة الشَّرْط
مَعْلُومَة وسببية غَيره غير مَعْلُومَة، وَالْأَصْل فِي
الْأَشْيَاء الْعَدَم كَمَا أَفَادَ بقوله (فَإِذا انْتَفَى)
الشَّرْط الَّذِي هُوَ السَّبَب (انْتَفَى) الْمُسَبّب
(مُطلقًا) لانحصار السَّبَب فِيهِ لما ذكر (مُلَاحظَة النَّفْي
الْأَصْلِيّ مَا لم يقم دَلِيل الْوُجُود) أَي وجود سَبَب آخر
للجزاء (مَعَ أَن الْكَلَام فِيمَا إِذا استقصى الْبَحْث) أَي
بولغ فِي التفتيش والفحص إِلَى أقْصَى الْغَايَة (عَن) وجود
سَبَب (آخر فَلم يُوجد فَإِن احْتِمَال وجوده) أَي سَبَب آخر
(يضعف) حِينَئِذٍ جدا (فيترجح الْعَدَم) رجحانا تَاما
(وَالْمَفْهُوم) ثُبُوته (ظَنِّي لَا يُؤثر فِيهِ) ذَلِك
(الِاحْتِمَال) الضَّعِيف، بل حَقِيقَة الظَّن لَا يتَحَقَّق
بِدُونِهِ، وَالِاحْتِمَال الْمَرْجُوح إِنَّمَا يُنَافِي
الْقطعِي (وَلَا يخفى أَن هَذَا) التَّقْرِير (رُجُوع عَن
أَنه) أَي مَفْهُوم الشَّرْط (مَدْلُول اللَّفْظ إِلَى
إِضَافَته) أَي الْمَفْهُوم (إِلَى انْتِفَاء السَّبَب) فكأنهم
اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُ لَا يدل عَلَيْهِ اللَّفْظ، بل يدل
عَلَيْهِ دَلِيل عَقْلِي هُوَ انْتِفَاء السَّبَب المستلزم
انْتِفَاء الْمُسَبّب الَّذِي هُوَ الحكم (وَهُوَ) أَي
الرُّجُوع إِلَيْهَا (قَول الْحَنَفِيَّة أَنه) أَي انتفام
الحكم عِنْد عدم الشَّرْط (يبْقى على عَدمه الْأَصْلِيّ فِي
التَّحْقِيق) ظرف لنسبة الْخَبَر إِلَى الْمُبْتَدَأ
(وَالْأَقْرَب لَهُم) أَي المثبتة (إِضَافَته) أَي مَفْهُوم
الشَّرْط (إِلَى شَرْطِيَّة اللَّفْظ المفادة للأداة) بِنَاء
(على أَن الشَّرْط) الَّذِي هُوَ من حَيْثُ شرطيته مفادة
للأداة لُغَة مَعْنَاهَا (مَا ينتفى الْجَزَاء بانتفائه
فَيكون) انْتِفَاء الْجَزَاء لانْتِفَاء الشَّرْط (مدلولا)
لفظيا (للأداة) إِشَارَة إِلَى مَا قَالُوا من أَن أهل
اللُّغَة قاطبة أطْلقُوا حرف الشَّرْط على كلمة إِن،
وَالْأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحَقِيقَة، فَيكون مَا دخلت
عَلَيْهِ شرطا، وَالشّرط ينتفى الْمَشْرُوط بانتفائه: أَلا ترى
أَن الْعلم وَالزَّكَاة ينتفيان بِانْتِفَاء الْحَيَاة والحول
انْتهى، وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه من بَاب اشْتِبَاه الشَّرْط
الْحكمِي بِالشّرطِ النَّحْوِيّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله
(وَالْجَوَاب منع كَون الشَّرْط) النَّحْوِيّ شَيْئا (سوى مَا
جعل سَببا للجزاء) ذهنا أَو خَارِجا سَوَاء كَانَ عِلّة للجزاء
كطلوع الشَّمْس لوُجُود النَّهَار أَو معلولاله كَعَكْسِهِ أَو
غَيرهمَا، كَانَ دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق (والانتفاء) أَي
انْتِفَاء الْجَزَاء (للانتفاء) أَي لانْتِفَاء الشَّرْط
(لَيْسَ
(1/118)
سقط
(1/119)
سقط
(1/120)
كَمَا يفهم مِمَّا قبل (وَالْخلاف الْمشَار
إِلَيْهِ) بقوله الشَّرْط مَانع إِلَى آخِره (هُوَ أَن
اللَّفْظ الَّذِي ثبتَتْ سببيته) مشروعيته (شرعا) أَي ثبوتا
شَرْعِيًّا، أَو سَبَبِيَّة شَرْعِيَّة (لحكم) كَأَنْت طَالِق
لإنشاء الطَّلَاق (إِذا جعل جَزَاء لشرط) كَانَ دخلت الدَّار
فَأَنت طَالِق (هَل يسلبه) أَي الْجعل الْمَذْكُور المجعول
جَزَاء (سببيته) الثَّابِتَة شرعا (لذَلِك الحكم) الْمُسَبّب
شرعا (قبل وجود الشَّرْط) ظرف للسبب (كَأَنْت طَالِق و) أَنْت
(حرَّة) مثل اللَّفْظ الثَّابِت سببيته شرعا، وَإِلَيْهِ
أَشَارَ بقوله (جعل) شرعا (سَببا لزوَال الْملك) أَي ملك
النِّكَاح والرقبة (فَإِذا دخل الشَّرْط) على السَّبَب
الْمَذْكُور (منع) دُخُوله عَلَيْهِ (الحكم) عَن الِانْعِقَاد
(عِنْده) أَي عِنْد الشَّافِعِي (فَقَط) لَا السَّبَب، فَلَا
يسلب سببيته قبل وجود الشَّرْط، فغايته تَأْخِير انْعِقَاد
الحكم إِلَى وجوده (وَعِنْدنَا منع) دُخُوله عَلَيْهِ (سببيته)
أَي السَّبَب الْمَذْكُور، فَيلْزم منع الحكم بِالطَّرِيقِ
الأولى (فتفرعت الخلافيات) الْمَذْكُورَة، وَلَا يخفى عَلَيْك
أَن منشأ الْغَلَط اشْتِرَاك الخلافيتين فِي أَمر التَّعْلِيق
بِالشّرطِ، وَذكر السَّبَب شرعا، وَعدم الحكم بِانْتِفَاء
الشَّرْط وَعدم الْفرق بَين السَّبَب فَمَا نَحن فِيهِ، وَهُوَ
الشَّرْط، وَالسَّبَب الْمَذْكُور فِي تِلْكَ الخلافية، وَهُوَ
السَّبَب الشَّرْعِيّ الْوَاقِع جَزَاء الشَّرْط، وَأَن عدم
سَبَب الشَّرْط سَببه سَبَب الحكم شرعا لَا يسْتَلْزم كَون عدم
الحكم عِنْد عدم الشَّرْط حكما شَرْعِيًّا لَا عدما
أَصْلِيًّا، وَلَا مُنَاسبَة بَينهمَا، ثمَّ لما بَين عدم
بِنَاء الْخلاف فِيمَا نَحن فِيهِ على مَا ذكر أَرَادَ أَن
يبين مُنَاسبَة أُخْرَى بَينهمَا، فَقَالَ (وَإِنَّمَا يتفرعان
مَعًا) أَي الْخلاف الَّذِي نَحن بصدد بَيَانه، وَمَا جعله
الغالط مَبْنِيّ لَهُ (على الْخلاف فِي اعْتِبَار الْجَزَاء)
حَال كَونه جُزْءا (من التَّرْكِيب الشرطي) وَالِاعْتِبَار
لتَضَمّنه معنى الْجعل يتَعَدَّى إِلَى مفعولين، فَالْأول مَا
أضيف إِلَيْهِ، وَالثَّانِي قَوْله (يُفِيد) أَي الْجَزَاء
(حكمه على عُمُوم التقادير) وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله يُفِيد
استئنافا لبَيَان الِاعْتِبَار كَأَن سَائِلًا قَالَ كَيفَ
الْخلاف فِي اعْتِبَاره، فَقَالَ هَل يُفِيد الْجَزَاء الَّذِي
هُوَ سَبَب شَرْعِي لحكم حكمه على جَمِيع التقادير أم لَا
بِأَن يدل من حَيْثُ ذَاته مَعَ قطع النّظر على تَقْيِيده
بِالشّرطِ على ثُبُوت حكمه فِي جَمِيع الْأَوْقَات بِاعْتِبَار
جَمِيع أَحْوَاله وأوضاعه غير أَنه (خصصه الشَّرْط) أَي خصص
الشَّرْط عُمُومه الْمُسْتَفَاد مِنْهُ (بِإِخْرَاج مَا) أَي
بِإِخْرَاج التقادير الَّتِي هِيَ (سوى مَا تضمنه) الشَّرْط من
التقادير الْحَاصِلَة مَعَ وجود الشَّرْط (عَن ثُبُوت الحكم
مَعَه) كلمة عَن مُتَعَلقَة بالاخراج، وَضمير مَعَه رَاجع
إِلَى مَا سوى الشَّرْط، يَعْنِي يخرج الشَّرْط مَا سوى متضمنه
عَن أَن يثبت الحكم مَعَه، فَيلْزم إِفَادَة الشَّرْط نفي
الحكم عِنْد التقادير المخرجة (فَيكون النَّفْي) أَي نفي حكم
الْجَزَاء عِنْد عدم الشَّرْط (مُضَافا إِلَيْهِ) أَي الشَّرْط
(لِأَنَّهُ) أَي الشَّرْط (دَلِيل التَّخْصِيص) أَي تَخْصِيص
الحكم بِمَا
(1/121)
تضمنه الشَّرْط، فالثبوت والانتفاء حكمان
شرعيان ثابتان بِاللَّفْظِ منطوقا ومفهوما ذكر السَّيِّد
الشريف أَن هَذَا ظَاهر مَا ذهب إِلَيْهِ السكاكي لأهل
الْعَرَبيَّة، فَإِن عِنْدهم على مَا ذكره الْمُحَقق
التَّفْتَازَانِيّ الحكم فِي الْجَزَاء وَالشّرط قيد لَهُ
بِمَنْزِلَة الظّرْف وَالْحَال حَتَّى أَن الْجَزَاء إِذا
كَانَ خَبرا، فالشرطية خبرية وَإِلَّا فإنشائية، فَالْقَوْل
بِمَفْهُوم الشَّرْط يتَفَرَّع على هَذَا الْمَذْهَب، كَذَا
قيل، وَلَا يظْهر مدافعة مَا نقل عَن الْمُحَقق لكَلَام
السكاكي فَتَأمل فَإِن قلت عرفنَا تفرع كَون عدم الحكم حكما
شَرْعِيًّا على إِفَادَة الْجَزَاء حكمه على عُمُوم التقادير،
وتحصيص الشَّرْط، إِذْ حَاصله قصر الحكم على تقادير، وَهُوَ
مركب من حكمين: أَحدهمَا أَن الحكم ثَابت مَعَ تقاديره،
وَالثَّانِي أَنه مُنْتَفٍ فِيمَا عَداهَا، لَكِن مَا عرفنَا
تفرع كَون الشَّرْط غير مَانع من انْعِقَاد السَّبَب عَلَيْهِ
قلت يُمكن أَن يُقَال لما تربت على الشَّرْط التَّأْثِير
الْمَذْكُور ناسب أَن يَجْعَل سَببا متراخيا عَنهُ الحكم لَا
أمرا خَالِيا عَن السَّبَبِيَّة فَتَأمل جزاءه (وَأهل النّظر)
وهم المنطقيون، وَفِي هَذَا التَّعْبِير إِشْعَار بِأَن
الصَّوَاب مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ كَمَا هُوَ التَّحْقِيق
(يمْنَعُونَ إفادته) أَي الْجَزَاء (شَيْئا) من الحكم (حَال
وُقُوعه) أَي الْجَزَاء جُزْءا وَالْمرَاد بِالْأولِ ذَاته،
وَبِالثَّانِي وَصفه، يَعْنِي فِي زمَان اتصافه بالجزائية،
وَأما إِذا اسْتعْمل بِلَا تَقْيِيد بِالشّرطِ فَيُفِيد الحكم
كَسَائِر الْجمل (بل هُوَ) أَي الْجَزَاء (حِينَئِذٍ) أَي حِين
كَونه جُزْءا (كزاي زيد) فِي أَنه (جُزْء الْكَلَام الْمُفِيد)
أَي للْحكم، وَلَيْسَ بمفيد لَهُ اسْتِقْلَالا، وَلَيْسَ
التَّشْبِيه من كل وَجه، فَلَا يتَّجه أَن لَيْسَ فِي الْمُشبه
بِهِ دلَالَة أصلا، بِخِلَاف الْمُشبه (فضلا عَن إِيجَابه) أَي
الْجَزَاء الحكم (على عُمُوم التقادير) حَتَّى يكون الشَّرْط
مُخَصّصا، لذَلِك الْعُمُوم، وفضلا ينصب بِمَحْذُوف، ويتوسط
بَين أدنى وَأَعْلَى بعد نفي صَرِيح، أَو ضمني تَنْبِيها
بِنَفْي الْأَدْنَى، واستبعاده على نفي الْأَعْلَى، واستحالته،
وَضمير ناصبه بمضمون المنفية، نَحْو: فلَان لَا ينظر إِلَى
الْفَقِير، فضلا عَن الْإِعْطَاء، من فضل عَن المَال إِذا ذهب
أَكْثَره وَبَقِي أَقَله، وَالْمعْنَى نفي عدم النّظر عَن
الْإِعْطَاء، وَلَا يخفى مَا فِيهِ من التهكم (وَالْمَجْمُوع)
أَي مَجْمُوع الشَّرْط وَالْجَزَاء عِنْدهم (يُفِيد حكما
مُقَيّدا بِالشّرطِ) وَذَلِكَ الحكم الْمُقَيد مَا يُسْتَفَاد
من قَوْله (فَإِنَّمَا دلَالَته) أَي الْمَجْمُوع (على
الْوُجُود) أَي على مَضْمُون الْجَزَاء (عِنْد وجوده) أَي وجود
مَضْمُون الشَّرْط (فَإِذا لم يُوجد) الشَّرْط (بَقِي مَا قيد)
أَي الحكم الَّذِي قيد (وجوده بِوُجُودِهِ) أَي الشَّرْط (على
عَدمه الْأَصْلِيّ) مُتَعَلق بقوله بَقِي وَذَلِكَ لِأَن
الأَصْل فِي الحكم الْعَدَم، وَلم يُوجد مَا يُخرجهُ عَن
الأَصْل إِلَّا الحكم بِوُجُودِهِ عِنْد وجود الشَّرْط، وَلم
يُوجد الحكم بِوُجُودِهِ عِنْد عدم الشَّرْط ليخرج هُوَ أَيْضا
عَن الْعَدَم الْأَصْلِيّ. فَالْقَوْل بِعَدَمِ مَفْهُوم
الشَّرْط متفرع على هَذَا التَّحْقِيق وَحَاصِل تَحْقِيق
السَّيِّد
(1/122)
فِي هَذَا الْمقَام أَنه لَو كَانَ
الْخَبَر هُوَ التَّالِي لم يتَصَوَّر صدق الشّرطِيَّة مَعَ
كذبه ضَرُورَة استلزام انْتِفَاء الْمُطلق انْتِفَاء الْمُقَيد
وَحَاصِل اعْتِرَاض الدواني عَلَيْهِ منع كَون الْمُطلق
الَّذِي قيد بِالشّرطِ ثُبُوت النِّسْبَة بِحَسب الْوَاقِع، بل
مَا يعم الْوَاقِع وَالظَّن، فكذب زيد قَائِم فِي الْوَاقِع
لَا يسْتَلْزم كذب زيد قَائِم فِي ظَنِّي، فَاعْتبر بدل الظَّن
حَال وجود الشَّرْط قلت إِذا أطلق زيد قَائِم يفهم مِنْهُ
بِحَسب الْوَاقِع، فَإِذا قيد بِالشّرطِ يُقيد بذلك
الِاعْتِبَار، وَلَو قَالَ أَن المُرَاد أَن يتَحَقَّق عِنْد
تحَققه أَن يتَحَقَّق فَهُوَ بِعَيْنِه تَحْقِيق أهل النّظر
فَتدبر (وَأما تَفْرِيع) جَوَاز (تَعْجِيل الْكَفَّارَة
الْمَالِيَّة) أَو أعتق الرَّقَبَة (قبل الْحِنْث) على أَن
السَّبَب مُنْعَقد قبل وجود الشَّرْط وَأثر الشَّرْط إِنَّمَا
هُوَ فِي تَأْخِير الحكم إِلَى وجوده على مَا مر، فَلَيْسَ
بِظَاهِر لعدم لُزُوم التَّعْلِيق وَالْيَمِين (فَقيل) فِي
تَأْوِيله أَن تفريعه (بِاعْتِبَار الْمَعْنى) الَّذِي هُوَ
مدَار الأَصْل الْمَذْكُور، وَهُوَ أَن انْتِفَاء شَرط
الشَّيْء لَا يمْنَع انْعِقَاد سَببه، وَقد تقرر عِنْد
الشَّافِعِي رَحمَه الله أَن سَبَب الْكَفَّارَة الْيَمين
والحنث شَرطهَا، وَإِنَّمَا قيد بالمالية، لِأَن المدنية لَا
يجوز تَعْجِيلهَا، لِأَن وجوب أَدَائِهَا إِنَّمَا هُوَ بعد
الْحِنْث إِجْمَاعًا، وَالْوُجُوب فِيهَا إِمَّا عين وجوب
الْأَدَاء أَو هما متلازمان، فتعجيلها تَعْجِيل قبل الْوُجُوب
بِخِلَاف الْمَالِيَّة، فَإِن وجوب المَال فِي الذِّمَّة قد
يثبت قبل وجوب الْأَدَاء كَالثّمنِ الْمُؤَجل (وَلَا يخفى مَا
فِيهِ) أَي فِي هَذَا التَّأْوِيل من التَّكَلُّف من غير
ضَرُورَة، لِأَن تفريعه على الأَصْل الْمَذْكُور مُسْتَغْنى
عَنهُ لكَونه من فروع أَن انْتِفَاء الشَّرْط الشَّرْعِيّ لَا
يمْنَع انْعِقَاد السَّبَب، فَإِن الْحِنْث عِنْده شَرط وجوب
الْكَفَّارَة وَالْيَمِين سَبَب لَهُ، وَقد انْعَقَد من غير
مَانع، (وَالْأَوْجه خلاف قَوْله) أَي الشَّافِعِي رَحمَه الله
فِي الْفَرْع الْمَذْكُور، وَهُوَ عدم جَوَاز تَعْجِيل أَدَاء
الْكَفَّارَة الْمَالِيَّة قبل الْحِنْث (لعقلية سَبَبِيَّة
الْحِنْث) أَي لمعقولية سَبَب هُوَ الْحِنْث بِالنِّسْبَةِ
إِلَى الْكَفَّارَة (لَا الْيَمين) أَي لَا معقولية سَبَب هُوَ
الْيَمين، فالإضافة بَيَانِيَّة تَوْضِيحه أَن سَببهَا عِنْده
الْيَمين، لِأَنَّهُ تَعَالَى أضافها إِلَى الْيَمين فِي
قَوْله - {ذَلِك كَفَّارَة أَيْمَانكُم} - ويتبادر مِنْهَا
السَّبَبِيَّة، وعندما الْحِنْث، لِأَن الْكَفَّارَة تنبئ عَن
ستر مَا وَقع من الْإِخْلَال بتوقير مَا يجب لاسم الله،
فَيَنْبَغِي أَن يكون سَببهَا مَا يُوجب الْإِخْلَال، وَهُوَ
الْحِنْث لكَونه مفضيا إِلَيْهَا من حَيْثُ أَنه جِنَايَة لَا
الْيَمين الَّتِي انْعَقَدت للبر، وَوضعت للإفضاء إِلَيْهِ،
فَلَا يَنْبَغِي أَن تجْعَل سَببا، ومفضيا إِلَى مَا لَا يجب
إِلَّا عِنْد عدم الْبر على أَن السَّبَب يجب تَقْدِيره عِنْد
وجود الْمُسَبّب، وَالْيَمِين لَا تبقى عِنْد وجود
الْكَفَّارَة لانتقاضها بِالْحِنْثِ، غَايَة الْأَمر أَن
الْكَفَّارَة لَا تتَحَقَّق بِلَا سبق الْيَمين، وَهَذَا يقتضى
كَونهَا شرطا فَإِن قلت لم لَا يجوز أَن تُفْضِي الْيَمين
إِلَيْهَا بطرِيق الانقلاب، يَعْنِي أَنَّهَا مفضية إِلَى
الْبر ابْتِدَاء، وَعند فَوَاته تصير مفضية إِلَى الْكَفَّارَة
فَهِيَ خلف للبر قُلْنَا الافضاء
(1/123)
بطرِيق الانقلاب خلاف الظَّاهِر، وَلَا
يُصَار إِلَيْهِ إِلَّا بِدَلِيل، وَلَا دَلِيل سوى
الْإِضَافَة، وَهُوَ ضَعِيف لَا يُقَاوم عقلية سَبَب الْحِنْث،
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَإِن أضيفت) الْكَفَّارَة
(إِلَيْهِ) أَي الْحلف (فِي النَّص) الْمَذْكُور فَإِنَّهَا من
إِضَافَة الحكم إِلَى شَرطه (كإضافة صَدَقَة الْفطر عندنَا)
فَإِن الْفطر عندنَا شَرطهَا وسببها رَأس يمونه ويلي عَلَيْهِ،
وَبِالْجُمْلَةِ دلَالَة الْإِضَافَة على السَّبَبِيَّة لَيست
بِأَمْر مُسلم، وَلَا سِيمَا إِذا وجد مَا هُوَ مُتَعَيّن
للسَّبَبِيَّة نظرا إِلَى مَا يفيدها لَهُ (وَوَجهه) أَي وَجه
مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ: من أَن الشَّرْط مَانع من انْعِقَاد
سَبَبِيَّة مَا علق عَلَيْهِ لحكمه (أَولا أَن السَّبَب)
الشَّرْعِيّ هُوَ المفضي إِلَى الحكم) أَي الطَّرِيق
الْمُؤَدِّي إِلَيْهِ (وَالتَّعْلِيق) أَي تَعْلِيق السَّبَب
الْمَذْكُور (مَانع من الْإِفْضَاء) أَي من إفضائه إِلَى الحكم
قبل وجود الشَّرْط (لمَنعه) أَي التَّعْلِيق السَّبَب الَّذِي
علق من التَّأْثِير (من الْمحل) أَي مَحل الحكم، وَذَلِكَ
لِأَن السَّبَب كَأَنْت طَالِق إِنَّمَا يُؤثر شرعا فِي مَحَله
الَّذِي هُوَ ملك النِّكَاح إِنَّمَا نجز من غير تَعْلِيق
بِشَيْء، وَإِذا علق بِهِ مَنعه عَن التَّأْثِير إِلَى حِين
وجوده، فَعِنْدَ ذَلِك يصير تنجيزا (والأسباب الشَّرْعِيَّة
لَا تصير قبل الْوُصُول إِلَى الْمحل أسبابا) وَالْمرَاد
بوصوله: تعلقه بِهِ عِنْد وجود الْمُعَلق بِهِ، فَإِن
الْمُتَكَلّم لم يقْصد تعلق مُوجب السَّبَب، وَهُوَ الطَّلَاق
بِالْمحل الَّذِي هُوَ ملك النِّكَاح إِلَّا عِنْده فَلَا
وُصُول قبله، فتسميتها قبل الْوُصُول أسبابا بِاعْتِبَار مَا
تئول إِلَيْهِ (فضعف قَوْله) أَي الشَّافِعِي رَحمَه الله
(السَّبَب) بِوُقُوع الطَّلَاق قَول الْمُعَلق (أَنْت طَالِق،
وَالشّرط لم يعدمه) لِأَنَّهُ إِن أَرَادَ عدم إعدامه ذَات
السَّبَب من حَيْثُ هِيَ، فَلَا يجديه نفعا، وَإِن أَرَادَ من
حَيْثُ إِنَّهَا سَبَب فَغير مُسلم لما عرفت من منع
الْإِفْضَاء إِلَى آخِره (فَإِنَّمَا أخر الحكم) يَعْنِي لَا
يمْنَع انْعِقَاد السَّبَب بل يُؤَخر الحكم إِلَى وجود
الشَّرْط (وَأورد) علينا إِذا منع الشَّرْط انْعِقَاد السَّبَب
وَالْحكم مَعًا لزم عدم إِفَادَة مَا علق بِهِ الشَّرْط شَيْئا
(فَيجب أَن يَلْغُو) ذكر السَّبَب الْمُعَلق لعدم الإفادة
شَيْء من الفائدتين (كالأجنبية) أَي كَمَا يَلْغُو ذكر
الطَّلَاق مُنجزا فِي الْأَجْنَبِيَّة لتساويهما فِي عدم
الْوُصُول إِلَى الْمحل، وَإِن كَانَ الْمحل مَوْجُودا فِي
الأول دون الثَّانِي (وَأجِيب) عَن الْإِيرَاد الْمَذْكُور
بِأَنَّهُ (لَو لم يرج) وُصُول السَّبَب الْمُعَلق إِلَى
الْمحل بِأَن علق مَا لَا يُرْجَى الْوُقُوف عَلَيْهِ (لَغَا)
جَوَاب لَو (كطالق إِن شَاءَ الله) فَإِن مَشِيئَته تَعَالَى
فِيمَا لَا يعلم وُقُوعه بِدَلِيل لَا يُرْجَى الْعلم بهَا
بوصول السَّبَب الْمُعَلق إِلَى الْمحل، فَيلْغُو (وَغَيره)
أَي غير مَا لم يرج وُصُوله إِلَى الْمحل من الْأَسْبَاب
الشَّرْعِيَّة الْمُعَلقَة بِالشّرطِ (بعرضية السَّبَبِيَّة)
فعلة بِمَعْنى الْمَفْعُول كَالْقبْضَةِ، يُقَال لما يعرض دون
الشَّيْء، وللمعرض لِلْأَمْرِ المنهى لَهُ، وَهَذَا هُوَ
المُرَاد هَهُنَا، وَالْيَاء للمصدرية وَالْإِضَافَة من
إِضَافَة الْمصدر إِلَى الْمَفْعُول بِوَاسِطَة حرف الْجَرّ
وَالْمعْنَى كَون الْجَزَاء متهيئا للسَّبَبِيَّة
(1/124)
بِحَيْثُ لَا يتَوَقَّف على شَيْء سوى وجود
الشَّرْط مَعَ بَقَاء الْمحل قَابلا لوُرُود الحكم (فَلَا
يلغى) ذكر السَّبَب وَلَا يعد لَغوا (تَصْحِيحا) لكَلَام
الْعَاقِل، فَإِن عرضيته فَائِدَة مترتبة على ذكره مُعَلّقا
فَإِن قلت السَّبَب مثل: أَنْت طَالِق مَوْضُوع لإِثْبَات
التَّطْلِيق، وَعقد الطَّلَاق شرعا، فَإِذا علق بِالشّرطِ
يتَأَخَّر حكمه بِالْإِجْمَاع، فالتعليق يمْنَع الحكم
ضَرُورَة، وَلَا ضَرُورَة فِي منع سببيته، فَلَا يعدل عَن
مُوجب وَضعه الشَّرْعِيّ من غير ضَرُورَة، فَينْعَقد قبل وجوب
الشَّرْط سَببا، ويتأخر حكمه، وَأَيْضًا جَوَاب الشَّرْط
يتَضَمَّن نِسْبَة أحد جزءيه إِلَى الآخر وَالْحكم بهَا،
وَالثَّانِي هُوَ المنقسم إِلَى الْأَخْبَار والإنشاء، وكل
مِنْهُمَا يَسْتَحِيل تَعْلِيقه لِأَنَّهُمَا نَوْعَانِ من
الْكَلَام يَسْتَحِيل وجودهما حَيْثُ لَا كَلَام، وَالشّرط قد
يُوجد حِين يكون الشارط سَاهِيا ونائما، وَغير مُتَكَلم،
ويستحيل كَون الْإِنْسَان مخبرا ومنشئا عِنْد ذَلِك، فَتعين
أَن التَّعْلِيق بِاعْتِبَار الأول، فالمعلق مخبر ومنشئ عِنْد
التَّعْلِيق، وَالْحكم حَاصِل عِنْده، فَالْمَوْقُوفُ على
دُخُول الدَّار مثلا إِنَّمَا هُوَ الطَّلَاق لَا التَّطْلِيق،
فَقَوله: إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق إنْشَاء التَّعْلِيق،
لَا تَعْلِيق الْإِنْشَاء أَقُول: إِن أردْت بِقَوْلِك
مَوْضُوع لإثباتهما شرعا أَنه مَوْضُوع على الْإِطْلَاق مُنجزا
كَانَ أَو مُعَلّقا فَمَمْنُوع، لِأَنَّهُ لم يثبت سببيته شرعا
إِلَى حَال التَّنْجِيز، وَإِن أردْت وَضعه عِنْد التَّعْلِيق
فَهُوَ عين مَحل النزاع، وَإِن أردْت وَضعه عِنْد التَّنْجِيز
فَلَا يجديك نفعا، ثمَّ إِن الْجَزَاء إِن كَانَ خَبرا فالمعلق
خبري، وَإِن كَانَ إنْشَاء فإنشائي، فَيتَحَقَّق تَعْلِيق
الْإِنْشَاء وإنشاء التَّعْلِيق مَعًا، وقولك: يَسْتَحِيل
وجودهما حَيْثُ لَا كَلَام إِن أردْت بوجودهما تحقق مضمونهما
فِي نفس الْأَمر مترتبا عَلَيْهِ الحكم الشَّرْعِيّ فَلَا
يَسْتَحِيل حَيْثُ لَا كَلَام، وَهُوَ ظَاهر، وَإِن أردْت
وجودهما فِي الذِّهْن والتلفظ، فَذَلِك عِنْد التَّعْلِيق،
وَلَا سَهْو وَلَا نِسْيَان، ثمَّ الحكم التنجيزي نَوْعَانِ:
ابتدائي يثبت بِمُجَرَّد التَّكَلُّم بِسَبَبِهِ الَّذِي مَا
علق بِشَيْء، وَغير ابتدائي يثبت بِسَبَبِهِ الَّذِي يعْتَبر
وجوده عِنْد تحقق مَا علق بِهِ، فَكَأَن الْمُتَكَلّم
بِالتَّعْلِيقِ يصير متكلما بذلك السَّبَب عِنْد تحقق
الشَّرْط، فَلَا يستدعى حصور الذِّهْن والتكلم إِلَّا عِنْد
التَّعْلِيق إِذا تحقق، فَكَأَن الْمُعَلق يَقُول عِنْد
التَّعْلِيق إِذا تحقق هَذَا الشَّرْط فَلْيَكُن هَذَا
السَّبَب وَحكمه منجزين مني وَمن اعْتِبَار الشَّارِع هَذَا
مِنْهُ، وَدفع عَنهُ مؤونة العقد الْجَدِيد حَال وجود الشَّرْط
اكْتِفَاء بذلك التَّعْلِيق توسعة عَلَيْهِ فِيمَا يحْتَاج
إِلَيْهِ من التعليقات لمصالحهم (وَثَانِيا) أَي وَوجه مَا
ذَهَبْنَا إِلَيْهِ من أَن الشَّرْط مَانع من انْعِقَاد
سَبَبِيَّة مَا علق عَلَيْهِ الحكم ثَانِيًا (توقف) السَّبَب
الَّذِي صَار جُزْءا (على الشَّرْط فَصَارَ) السَّبَب
الْمُعَلق بِهِ (كجزء سَبَب) فِي احْتِيَاج الحكم إِلَيْهِ
مَعَ عدم استقلاله فِي إِيجَابه، وَالشَّيْء لَا يتَحَقَّق
بِمُجَرَّد تحقق جُزْء مِنْهُ أَو الْمَعْنى، فَصَارَ الشَّرْط
كجزء سَبَب
(1/125)
ومآلهما وَاحِد، وَالْأول أظهر (بِخِلَاف)
مَا ألحق الشَّافِعِي رَحمَه الله التَّعْلِيق بِهِ من (البيع
الْمُؤَجل) فِيهِ الثّمن (و) بِخِلَاف البيع (بِشَرْط
الْخِيَار و) بِخِلَاف السَّبَب الشَّرْعِيّ (الْمُضَاف) إِلَى
الزَّمَان (كطالق غَدا) فَإِن كلا مِنْهُمَا (سَبَب) مُنْعَقد
(فِي الْحَال) أَي فِي حَال صدوره عَن الْمُتَكَلّم لَا يمنعهُ
شَيْء من الْوُصُول إِلَى الْمحل، وَهَذَا جَوَاب عَمَّا يُمكن
تَقْرِيره بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا الْمُعَارضَة بِقِيَاس
الْمُعَلق بِالشّرطِ على الْأَسْبَاب الْمَذْكُورَة فِي حكم
الِانْعِقَاد من حَيْثُ السَّبَبِيَّة بِجَامِع الِاشْتِرَاك
فِي كَونهَا معلقَة بِحَسب الْمَعْنى كَالْبيع بالأجل،
وَالْخيَار، وَالطَّلَاق بالغد. وَثَانِيهمَا النَّقْض بَيَانه
أَن القَوْل بِكَوْن الْمُتَعَلّق مَانِعا من الْإِفْضَاء
إِلَى آخِره، أَو بصيرورة الْمَوْقُوف على الشَّرْط كجزء سَبَب
مَنْقُوص بِهَذِهِ المعلقات وَحَاصِل الْجَواب إِمَّا منع
صِحَة الْقيَاس لكَونه مَعَ الْفَارِق، أَو منع جَرَيَان
الدَّلِيل بِبَيَان أَن الْمُعَلق فِي الْمَذْكُورَات الحكم
دون السَّبَب، بِخِلَاف المنازع فِيهِ (لِأَن الْأَجَل)
الَّذِي يعلق الْمُؤَجل بِالْوَقْتِ الْمعِين إِنَّمَا يعْتَبر
(دُخُوله) ووروده فِي الْمَعْنى (على الثّمن) أَي على لُزُوم
مُطَالبَته، فتأثير التَّأْجِيل فِي تَأْخِير الْمُطَالبَة
فَقَط (لَا) يعْتَبر دُخُوله على (البيع) الَّذِي هُوَ سَبَب،
لِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ تَأْخِيرهَا، وَهُوَ يحصل بِمُجَرَّد
دُخُوله على لُزُوم مُطَالبَة الثّمن فِي الْحَال، فَلَا وَجه
لاعْتِبَار دُخُوله على السَّبَب من غير حَاجَة، مَعَ أَنه على
خلاف الْقيَاس، وَهُوَ متقدر بِقدر الضَّرُورَة (و) لِأَن
(الْخِيَار) أَي شَرطه إِنَّمَا شرع (بِخِلَاف الْقيَاس لدفع
الْغبن) أَي النَّقْص المتوهم فِي البيع عِنْد قلَّة التروي من
البَائِع وَالْمُشْتَرِي بِاسْتِيفَاء النّظر فِي مُدَّة
الْخِيَار (لِأَن إِثْبَات ملك المَال لَا يحْتَمل الْخطر)
تَعْلِيل لكَونه على خلاف الْقيَاس، يَعْنِي أَن البيع
إِثْبَات لملك المَال لكَونه عِلّة لَهُ شرعا، وَإِثْبَات ملك
المَال لَا يحْتَمل أَن يعلق بِمَا بَين أَن يكون وَأَن لَا
يكون (لصيرورته) أَي لصيرورة الْإِثْبَات الْمَذْكُور أَن يعلق
بِمَا بَين أَن يكون وَأَن لَا يكون ذكر (قمارا) فِي الْمَعْنى
لمشاركته إِيَّاه فِي عِلّة الْحُرْمَة، وَهِي التَّعْلِيق على
أَمر لَا يعلم وجوده وَعَدَمه (فَاكْتفى) فِي البيع بِشَرْط
الْخِيَار (بِاعْتِبَارِهِ) أَي شَرط الْخِيَار (فِي الحكم)
بِتَأْخِيرِهِ إِلَى أَن يُجِيز أَو يرد، وَلم يعْتَبر فِي
السَّبَب الَّذِي هُوَ البيع حذرا عَن صَيْرُورَته قمارا
واحترازا عَن مُخَالفَة الْقيَاس بِغَيْر ضَرُورَة. قَالَ
المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة وَلقَائِل أَن يَقُول: الْقمَار
مَا حرم لِمَعْنى الْخطر، بل بِاعْتِبَار تَعْلِيق الْملك
بِمَا لم يَضَعهُ الشَّرْع سَببا للْملك، فَإِن الشَّارِع لم
يضع ظُهُور الْعدَد الْفُلَانِيّ سَببا للْملك، والخطر طرد فِي
ذَلِك لَا أثر لَهُ انْتهى وَمعنى كَون الْخطر طردا فِيهِ عدم
تحَققه بِدُونِ الْخطر، نعلم أَنه حقق هُنَاكَ ومشي مَعَ
الْقَوْم هُنَا، وَيُمكن أَن يُعلل بنهيه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عَن بيع وَشرط (وَالْحق أَنه) أَي اعْتِبَاره فِي الحكم
دون السَّبَب ل (مُقْتَضى اللَّفْظ) أَي اللَّفْظ الدَّال على
خِيَار الشَّرْط، وَهُوَ قَوْله على أَنِّي بِالْخِيَارِ
(1/126)
سقط
(1/127)
سقط
(1/128)
كالتعليق الْمَانِع من انْعِقَاد السَّبَب
الْمُعَلق بِالشّرطِ كَمَا عرفت، وَعدم الْمَانِع مَعَ وجود
الْمُقْتَضى وَهُوَ التَّكَلُّم بِالسَّبَبِ بِلَا تَعْلِيق
يقتضى تحَققه، غَايَة الْأَمر تَأْخِير الحكم الْمُسَبّب إِلَى
وجود الْوَقْت الْمعِين الَّذِي هُوَ كَائِن لَا محَالة (إِذْ
الزَّمَان من لَوَازِم الْوُجُود) الْخَارِجِي فالإضافة
إِلَيْهِ إِضَافَة إِلَى مَا قطع بِوُجُودِهِ، وَفِي مثله مَا
يكون الْغَرَض من الْإِضَافَة تَحْقِيق الْمُضَاف إِلَيْهِ
(وَيرد) على القَوْل بِأَن الْيَمين إعدام مُوجب الْمُعَلق
أَنه لَا يَصح على إِطْلَاقه بل (كَون الْيَمين توجب الإعدام)
لما ذكر إِنَّمَا يَصح (فِي الْمَنْع) أَي فِيمَا إِذا كَانَ
الْمَقْصُود من الْيَمين الْمَنْع عَن إِيقَاع مَا عقدت
للِاحْتِرَاز عَنهُ، و (أما) إِذا قصد بهَا (الْحمل) على
الْإِثْبَات بِمَا عقدت لقصد تَحْصِيله (فَلَا) توجب الإعدام
وَهُوَ ظَاهر (كَأَن بشرتني بقدوم وَلَدي فَأَنت حر) فَإِن
غَرَض الْمُتَكَلّم فِيهِ حث عَبده على الْمُبَادرَة إِلَى
الْبشَارَة (فَالْأولى) فِي التَّفْرِقَة بَين الْمُعَلق
والمضاف، وَالْقَوْل بِأَن الأول يمْنَع السَّبَب عَن
الِانْعِقَاد دون الثَّانِي أَن يُقَال (الْفرق) بَينهمَا
حَاصِل (بالخطر وَعَدَمه) أَي بِأَن وجود الشَّرْط الْمُعَلق
بِهِ السَّبَب على الْخطر فَهُوَ بَين أَن يُوجد، بِخِلَاف
الْوَقْت الْمُضَاف إِلَيْهِ السَّبَب فَإِنَّهُ كَائِن لَا
محَالة لما عرفت، وَإِذا كَانَ وجود الشَّيْء مشكوكا فِيهِ
فانعقاده سَببا أولى بذلك، وَالْإِضَافَة إِلَى الْكَائِن لَا
محَالة لَا تورث شكا فِي وجود الْمُضَاف: فَلَا يمنعهُ عَن
الِانْعِقَاد شَيْء، لِأَن الأَصْل عدم مَانع آخر فَإِن قلت
فِي الْإِضَافَة يثبت الحكم فِي الْمُسْتَقْبل إِذا بَقِي
الْمحل، فَأَما إِذا لم يبْق فَلَا، فَكيف ينْعَقد الْمُضَاف
سَببا مَعَ التَّرَدُّد فِي وجود مسببه بِسَبَب التَّرَدُّد
فِي وجود مَحل ذَلِك الْمُسَبّب قلت الأَصْل فِي الشَّيْء
الثَّابِت الْبَقَاء (ثمَّ) إِن الْفرق بالخطر وَعَدَمه
(يَقْتَضِي كَون) أَنْت حر) (يَوْم يقدم فلَان كَانَ قدم)
فلَان (فِي يَوْم) كَذَا لاشْتِرَاكهمَا فِي الْبناء على
الْخطر، وَإِن سمي الأول إِضَافَة، وَالثَّانِي تَعْلِيقا،
لِأَن الْعبْرَة بالمعاني، وَلَا فرق بَينهمَا معنى لتوقف
الْحُرِّيَّة فِي كل مِنْهُمَا على مَا لَا يعم وجوده، لِأَن
الْيَوْم الْمُقَيد بقدوم فلَان مَشْكُوك الْوُجُود
بِاعْتِبَار قَيده (ويستلزم) أَيْضا (عدم جَوَاز التَّعْجِيل)
بِالصَّدَقَةِ (فِيمَا لَو قَالَ عَليّ صَدَقَة يَوْم يقدم
فلَان) أَي فِي صَدَقَة فرض إِيجَابهَا يَوْم قدوم فلَان فِي
القَوْل الْمَذْكُور (وَإِن كَانَ) كل من القيدين متلبسا
(بِصُورَة إِضَافَة) لِأَنَّهُ لَا عِبْرَة بصورته بعد مَا ظهر
عدم الْفرق بَينه وَبَين الْمُعَلق بِالشّرطِ فِي معنى الْخطر،
وَهُوَ يسْتَلْزم عدم انْعِقَاد السَّبَب وَالْأَدَاء قبل
انْعِقَاد السَّبَب غير جَائِز اتِّفَاقًا (و) كَذَا يسْتَلْزم
(كَون إِذا جَاءَ غَد فَأَنت حر كإذا مت فَأَنت حر) فِي
انْعِقَاد سَبَب الْحُرِّيَّة فِي كل مِنْهُمَا (لعدم الْخطر)
الْمَانِع عَن الِانْعِقَاد (فَيمْتَنع بَيْعه قبل الْغَد
كَمَا يمْتَنع) بَيْعه (قبل الْمَوْت لانعقاده) أَي انْعِقَاد
إِذا جَاءَ غَد إِلَى آخِره كانعقاد أَنْت حر إِذا مت (سَببا
فِي الْحَال) أَي بِمُجَرَّد التَّكَلُّم قبل مَجِيء الْغَد
وَالْمَوْت (على مَا عرف)
(1/129)
من أَن سَبَب الْحُرِّيَّة فِي الْمُدبر
القَوْل الْمَذْكُور، لِأَنَّهَا تثبت بعد الْمَوْت، وَلَا
ثُبُوت بِلَا سَبَب، وَلَا سَبَب غَيره، فإمَّا أَن يَجْعَل
سَببا فِي الْحَال، أَو بعد الْمَوْت، وَلَا سَبِيل إِلَى
الثَّانِي، لِأَن الْمَوْت سالب الْأَهْلِيَّة، وَسبب
التَّصَرُّف لَا ينْعَقد إِلَّا من أَهله (لكِنهمْ) أَي
الْحَنَفِيَّة (يجيزون بَيْعه قبل الْغَد، والأجوبة عَنهُ) أَي
عَن الأشكال على الْفرق والخطر وَعَدَمه بِالْوَجْهَيْنِ
الْمَذْكُورين (لَيست بِشَيْء) مِنْهَا كَون الْغَد كَائِنا
لَا محَالة لجَوَاز قيام الْقِيَامَة قبله، ورد بِأَنَّهُ
إِنَّمَا يَسْتَقِيم إِذا كَانَ التَّعْلِيق بعد أَشْرَاط
السَّاعَة، وَمِنْهَا أَن الْكَلَام فِي الْأَغْلَب فَيلْحق
النَّادِر بِهِ، ورد بِأَنَّهُ اعْتِرَاف بالإيراد على أَن
التَّعْلِيق بِمثل مَجِيء الْغَد وَرَأس الشَّهْر غير نَادِر
إِلَى غير ذَلِك (وَقيل) فِي دفع مَا ذكر من استلزام الْفرق
بالخطر وَعَدَمه المحذورات الْمَذْكُورَة (المُرَاد
بِالسَّبَبِ فِي نَحْو قَوْلنَا الْمُعَلق لَيْسَ سَببا فِي
الْحَال) أَي فِي حَال التَّعْلِيق قبل وجود الْمُعَلق بِهِ
(الْعلَّة) اعتبروا فِي حَقِيقَة الْعلَّة ثَلَاثَة أُمُور:
إِضَافَة الحكم إِلَيْهَا كَمَا يُقَال قَتله بِالرَّمْي،
وَعتق بِالشِّرَاءِ وَهلك بِالْجرْحِ، أَو كَونهَا مَوْضُوعَة
لَهُ شرعا، وتأثيرها فِيهِ وحصوله مَعهَا فِي الزَّمَان، وَفِي
حَقِيقَة السَّبَب أَن يكون طَرِيقا للْحكم من غير تَأْثِير
وَمن غير أَن يُضَاف إِلَيْهِ وجوبا أَو وجودا وَيُطلق اسْم كل
مِنْهُمَا عَن الآخر لما بَينهمَا من الْمُنَاسبَة (وَفِي
الْمُضَاف السَّبَب المفضي) معطوفان بعطف وَاحِد على قَوْله
فِي نَحْو قَوْلنَا، وَقَوله الْعلَّة على مَذْهَب الْأَخْفَش،
أَو من عطف الْجُمْلَة على الْجُمْلَة بِحَذْف الْمُبْتَدَأ
مَعَ مَا يتَعَلَّق بِهِ: أَي المُرَاد بِالسَّبَبِ فِي
قَوْلنَا الْمُضَاف سَبَب فِي الْحَال السَّبَب المفضي إِلَى
الحكم من غير تَأْثِير (وَهُوَ) أَي السَّبَب المفضي (السَّبَب
الْحَقِيقِيّ) اصْطِلَاحا كَمَا مر (وَحِينَئِذٍ) أَي وَحين
إِذْ اخْتلف مورد النَّفْي وَالْإِثْبَات بِأَن نفى عَن
السَّبَب الْمُعَلق السَّبَبِيَّة بِمَعْنى علية الْعلية،
وَأثبت للمضاف بِمَعْنى الْإِفْضَاء على الْوَجْه الْمَذْكُور
و (لَا خلاف) فِي الْمَعْنى بَين الْمُعَلق والمضاف
بِاعْتِبَار النَّفْي وَالْإِثْبَات، فَلَا يتَوَجَّه أَنه لَا
فرق بَينهمَا فِي الِانْعِقَاد سَببا، وَعَدَمه فِيمَا إِذا
كَانَ مَا بِهِ التَّقْيِيد أمرا كَائِنا لَا محَالة أَو
مَشْكُوك الْوُجُود فَلم فرقتم بَينهمَا؟ لأَنا لم نفرق
بَينهمَا، بل نَفينَا الْعلية عَن الْمُعَلق، وَلم نثبتها
للمضاف، وأثبتنا الْإِفْضَاء للمضاف وَمَا نفيناه عَن
الْمُعَلق (وَارْتَفَعت الاشكالات وَصدق أَن الْمُضَاف لَيْسَ
سَببا أَيْضا فِي الْحَال) كَمَا أَن الْمُعَلق لَيْسَ سَببا
فِي الْحَال (بذلك الْمَعْنى) أَي بِمَعْنى الْعلَّة كَمَا
عرفت (إِلَّا أَن اخْتِلَاف الْأَحْكَام حَيْثُ قَالُوا:
الْمُضَاف سَبَب فِي الْحَال فَجَاز تَعْجِيله) أَي تَعْجِيل
مُوجب حكمه إِذا كَانَ عبَادَة بدنية أَو مَالِيَّة أَو مركبة
مِنْهُمَا كَمَا هُوَ قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله وَأبي
يُوسُف، لِأَنَّهُ تَعْجِيل بعد وجود سَبَب الْوُجُوب، خلافًا
لمُحَمد رَحمَه الله فِيمَا عدا الْمَالِيَّة، ولزفر فِي الْكل
(وَالْمُعَلّق لَيْسَ سَببا فِي الْحَال فَلَا يجوز تَعْجِيله
بنفيه) خبران: أَي
(1/130)
يَنْفِي كَون المُرَاد مَا ذكر لرفع
الاشكالات، لِأَنَّهُ لَو لم يتحد مورد النَّفْي وَالْإِثْبَات
لم يتَفَرَّع اخْتِلَافهمَا فِي جَوَاز التَّعْجِيل وَعَدَمه.
مسئلة
(من المفاهيم مَفْهُوم اللقب) هُوَ فِي اللُّغَة النبز، وَفِي
اصْطِلَاح النُّحَاة قسم من الْعلم، والأعلام ثَلَاثَة اضْرِب:
اسْم، وَهُوَ مَا لَا يقْصد بِهِ مدح وَلَا ذمّ كزيد، ولقب،
وَهُوَ مَا يقْصد بِهِ أَحدهمَا كبطة وَقْفَة فِي الذَّم،
ومصطفى ومرتضى فِي الْمَدْح، وكنية، وَهُوَ الْمصدر بِالْأَبِ
أَو الْأُم أَو الابْن أَو الْبِنْت نَحْو أَبُو عَمْرو وَأم
كُلْثُوم وَابْن آوى وَبنت وردان، وَالْمرَاد باللقب هَهُنَا
مَا لَيْسَ بِصفة (نَفَاهُ) أَي مَفْهُوم اللقب (الْكل إِلَّا
بعض الْحَنَابِلَة وشذوذا) ابْن خويز منداد من الْمَالِكِيَّة
والدقاق والصيرفي وَأَبا حَامِد من الشَّافِعِيَّة (وَهُوَ)
أَي مَفْهُوم اللقب (إِضَافَة نقيض حكم) أَي نِسْبَة نقيض حكم
مُسَمّى (معبر عَنهُ) أَي عَن ذَلِك الْمُسَمّى الْمعبر عَنهُ
(باسمه) حَال كَون ذَلِك الِاسْم (علما أَو جِنْسا إِلَى مَا
سواهُ) مُتَعَلق بإضافته: أَي مَا سوى ذَلِك الْمُسَمّى
الْمعبر عَنهُ باسمه، وَهُوَ الْمَسْكُوت عَنهُ على مَا عرفت
فِي سَائِر المفاهيم، مثل فِي الْغنم زَكَاة، فتنفى عَن غير
الْغنم (وَقد يُقَال الْعلم) بدل للقب لقَوْل الْحَنَفِيَّة
التَّنْصِيص على الشَّيْء باسمه الْعلم لَا يدل على نفي الحكم
(وَالْمرَاد الْأَعَمّ) أَي مَا يعم نوعيه: علم الشَّخْص،
وَعلم الْجِنْس، وَاسم الْجِنْس وَهُوَ مَا لَيْسَ بِصفة
(والمعول) فِي نَفْيه (عدم الْمُوجب) للمقول بِهِ كَمَا مر فِي
نفي مَفْهُوم الْمُخَالفَة (وللزوم ظُهُور الْكفْر) مَعْطُوف
على مَا فهم من السِّيَاق كَأَنَّهُ قَالَ نفوه لعدم الْمُوجب،
وللزوم نفي ظُهُور الْكفْر، وَذكر الظُّهُور لِأَنَّهُ عِنْد
الْقَائِل بِهِ ظَنِّي مَبْنِيّ على الظَّاهِر (من نَحْو
مُحَمَّد رَسُول الله) لكَون مَفْهُومه على القَوْل بِهِ نفي
رِسَالَة غَيره ظَاهرا، لَا نصا، لِأَن القَوْل بِهِ لَا
يسْتَلْزم اعْتِبَاره فِي جَمِيع الْموَاد، بل إِذا لم يكن
قرينَة صارفة، وَلُزُوم الْكفْر قرينَة غير أَن ظَاهر
الْكَلَام قبل التَّأَمُّل يُفِيد ذَلِك على القَوْل بِهِ
(وَفُلَان مَوْجُود) أَي وللزوم ظُهُور الْكفْر من نَحْو فلَان
مَوْجُود: يَعْنِي نفي وجود الْحق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَهُوَ: أَي ظُهُور الْكفْر من نَحْوهمَا (وَهُوَ) مُنْتَفٍ)
بالِاتِّفَاقِ قطعا، فَالْقَوْل بِهِ بَاطِل قطعا، قيل وَقع
الْإِلْزَام بِهِ للدقاق فِي مجْلِس النّظر بِبَغْدَاد، قيل
هَذَا إِذا لم يكن للتخصيص فَائِدَة أُخْرَى، لم لَا يجوز أَن
يقْصد بِهِ الاخبار بذلك؟ وَلَا طَرِيق إِلَيْهِ سوى
التَّصْرِيح بِالِاسْمِ، ورد بِأَنَّهُ اعْتِرَاف بانتفائه
رَأْسا، لِأَن هَذِه الْفَائِدَة حَاصِلَة فِي جَمِيع الصُّور
فَتَأمل (وَاسْتدلَّ) على نَفْيه (بِلُزُوم انْتِفَاء
الْقيَاس) على تَقْدِير اعْتِبَاره، وانتفاؤه بَاطِل، وَذَلِكَ
لِأَن النَّص الدَّال على حكم الأَصْل أَن تنَاول حكم الْفَرْع
ثَبت
(1/131)
الْأَخَص بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ،
وَإِلَّا فإمَّا أَن يدل بمفهومه اللقى على نفي الحكم عَن غير
الْمَذْكُور أَولا، وعَلى الأول ينتفى الْقيَاس لاقْتِضَاء
ثُبُوته للْغَيْر، وعَلى الثَّانِي يثبت الْمُدَّعِي، وَأَنت
خَبِير بِأَن اللَّازِم انْتِفَاء الْقيَاس فِيمَا اعْتبر
فِيهِ بِمَفْهُوم اللقب لَا مُطلقًا (وَالْجَوَاب) عَن
الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور أَن الْقيَاس يستدعى مُسَاوَاة
الْفَرْع للْأَصْل فِي عِلّة الحكم و (إِذا ظهر الْمُسَاوَاة
قدم) الْقيَاس على الْمَفْهُوم اللقبى، إِذْ الْقَائِلُونَ
بِهِ قَائِلُونَ بِتَقْدِيم الْقيَاس عَلَيْهِ (لزِيَادَة
قوته) أَي الْقيَاس على الْمَفْهُوم اللقبى كَمَا إِذا ظهر
أَوْلَوِيَّة الْمَسْكُوت من الْمَنْطُوق فِي المناط،
فَإِنَّهُ عِنْد ذَلِك لَا مَحل لمَفْهُوم الْمُخَالفَة
بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أصلا لثُبُوت مَفْهُوم الْمُوَافقَة
لَهُ (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بِمَفْهُوم اللقب (لَو
قَالَ) قَائِل (لمخاصمه لَيست أُمِّي زَانِيَة أَفَادَ) قَوْله
هَذَا (نسبته) أَي الزِّنَا (إِلَى أمه) أَي أم المخاصم
لتبادره إِلَى الْفَهم، وَلذَا قَالَ مَالك وَأحمد رحمهمَا
الله تَعَالَى يجب الْحَد على الْقَائِل إِذا كَانَت عفيفة،
وَلَوْلَا أَن تَعْلِيق الحكم بِالِاسْمِ يدل على نَفْيه
عَمَّا عداهُ لما تبادر إِلَى الْفَهم (أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي
التبادر الْمَذْكُور (بِقَرِينَة الْحَال) وَهُوَ الْخِصَام
الَّذِي هُوَ مَظَنَّة الْأَذَى والتقبيح قلت وَلَوْلَا ذَلِك
الْقَصْد لَكَانَ ذكر الْبَريَّة الْمَذْكُورَة أَجْنَبِيّا
لَا يَلِيق بمقام الْخِصَام.
مسئلة
(النَّفْي فِي) الْكَلَام الْمُشْتَمل على (الْحصْر)
الْمُسْتَفَاد (بإنما) نَحْو إِنَّمَا زيد قَائِم، وَإِنَّمَا
الْعَالم زيد، وَإِمَّا ضرب زيد عمرا يَوْم الْجُمُعَة (لغير
الآخر) أَي النَّفْي الْمَذْكُور مُخْتَصّ بِمَا يُقَابل
الْجُزْء الآخر من الْكَلَام كالقيام وَزيد وَيَوْم الْجُمُعَة
فِي الْأَمْثِلَة الْمَذْكُورَة، وَمَا يقابلها النَّفْي
كالقعود وَعَمْرو وَيَوْم غير الْجُمُعَة (قيل) انفهام
النَّفْي الْمَذْكُور (بِالْمَفْهُومِ) الْمُخَالف قَائِله
أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَجَمَاعَة (وَقيل بالمنطوق)
وقائله القَاضِي أَبُو بكر وَالْغَزالِيّ (وَهُوَ الْأَرْجَح
وَنسب للحنفية) أَي إِلَيْهِم كَقَوْلِه تَعَالَى - {لعادوا
لما نهوا عَنهُ} - (عَدمه) أَي عدم النَّفْي الْمَذْكُور أَو
الْحصْر (فَإِنَّمَا زيد قَائِم) لَا يُفِيد الْحصْر عِنْدهم
بل هُوَ (كَأَنَّهُ قَائِم) أَي مثل أَن زيدا قَائِم فِي عدم
الدّلَالَة على نفي غير الْقيام، وَكلمَة مَا زَائِدَة ألحقت
بِأَن لمزيد التَّأْكِيد فَقَط، قيل وَهُوَ مُخْتَار
الْآمِدِيّ، وَأبي حَيَّان، وَنسبه إِلَى الْبَصرِيين، وَنسبه
إِلَى الْحَنَفِيَّة صَاحب البديع، وَتعقبه المُصَنّف رَحمَه
الله بقوله (وَقد تكَرر مِنْهُم) أَي الْحَنَفِيَّة (نسبته)
أَي الْحصْر إِلَى إِنَّمَا كَمَا فِي كشف الْأَسْرَار
وَالْكَافِي وجامع الْأَسْرَار وَغَيرهَا (وَأَيْضًا) يُؤَيّد
ذَلِك أَنه (لم يجب أحد من الْحَنَفِيَّة بِمَنْع إفادتها) أَي
إِنَّمَا للحصر (فِي
(1/132)
الِاسْتِدْلَال بإنما الْأَعْمَال)
بِالنِّيَّاتِ (على شَرط النِّيَّة فِي الْوضُوء) بِأَن
الْوضُوء عمل وَلَا عمل إِلَّا بِالنِّيَّةِ، لِأَن كلمة
إِنَّمَا تفِيد الْحصْر كَمَا وَإِلَّا، وَكلمَة على صلَة
الِاسْتِدْلَال (بل) إِنَّمَا أجابوا (بِتَقْدِير الْكَمَال
أَو الصِّحَّة) لِأَنَّهُ لَو لم يقدر مثل ذَلِك لم يَصح
الْكَلَام للْقطع بِوُجُود الْعَمَل بِلَا نِيَّة كعمل الساهي،
فَالْمُرَاد لَا كَمَال للأعمال أَو لَا صِحَة لَهَا إِلَّا
بِالنِّيَّةِ وكمالها: أَي يَتَرَتَّب عَلَيْهَا الثَّوَاب إِن
كَانَت من الْعِبَادَة أَو الْأَثر الْمَطْلُوب مِنْهَا إِن
كَانَت من الْمُعَامَلَات (وَهُوَ) أَي تَقْدِير الْكَمَال أَو
الصِّحَّة (الْحق) وَيحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى أَن الْعُدُول
عَن الْمَنْع الْمَذْكُور إِلَى التَّقْدِير فِي الْجَواب هُوَ
الْحق ثمَّ أَنه أورد على تَقْدِير الصِّحَّة أَن نفي
الْأَعْمَال مُطلقًا بِدُونِ النِّيَّة غير مُسلم، كَيفَ
والضوء عِنْدهم يَصح بِدُونِهَا؟ فَأَشَارَ إِلَى الْجَواب
بقوله (وَلَا يَصح الْوضُوء عبَادَة إِلَّا بِالنِّيَّةِ)
يَعْنِي المُرَاد من الْأَعْمَال الْعِبَادَات على اعْتِبَار
تَقْدِير الصِّحَّة فَإِن قلت الْأَعْمَال جمع محلى
بِاللَّامِ، وَهُوَ من صِيغ الْعُمُوم قلت الْعُمُوم لَيْسَ
بِمُرَاد قطعا، لِأَن الْأَعْمَال العادية لَا مدْخل للنِّيَّة
فِيهَا لَا سِيمَا السَّيِّئَات، ثمَّ بَين أَن الْوضُوء
الَّذِي يتَوَقَّف صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا هُوَ
مُطلق الْوضُوء لَا الْمُقَيد بِوَصْف الْعِبَادَة بقوله
(لَكِن منعُوا) أَي الْحَنَفِيَّة (توقف صِحَة الصَّلَاة على
وضوء هُوَ عبَادَة كباقي الشُّرُوط) كستر الْعَوْرَة وتطهير
الثِّيَاب وَغير ذَلِك أَي لم يتَوَقَّف الصَّلَاة على وضوء
هُوَ عبَادَة كَمَا لم يتَوَقَّف على ستر هُوَ عبَادَة، بل
يتَوَقَّف على مُطلق السّتْر سَوَاء كَانَ عبَادَة بمقارنة
النِّيَّة أَو لَا، قيل عدم مَنعهم لَيْسَ لتسليمهم إِفَادَة
إِنَّمَا الْحصْر، بل لِأَن الْحصْر أَمر مُسلم لكَونه مستفادا
من عُمُوم الْأَعْمَال بِاللَّامِ، فَالْمَعْنى كل عمل بنية،
وَقد عرفت أَن الْعُمُوم لَيْسَ بِمُرَاد قطعا على أَن
الْكَلَام فِي معرض التأييد لَا الْحجَّة، لِأَن الْمُسْتَند
فِي قَول الْحَنَفِيَّة بالحصر إِنَّمَا هُوَ النَّقْل (لنا
يفهم مِنْهُ الْمَجْمُوع) مُبْتَدأ وَخَبره نَحْو تسمع
بالمعيدي خير من أَن ترَاهُ تَقْدِيره فهم الْمَجْمُوع من
النَّفْي وَالْإِثْبَات من إِنَّمَا حجَّة لنا (فَكَانَ)
إِنَّمَا مَوْضُوعا (لَهُ) أَي للمجموع، لِأَن فهم الْمَعْنى
من اللَّفْظ من غير احْتِيَاج إِلَى قرينَة دَلِيل الْوَضع
(وَكَون النَّافِي الْمَعْهُود) إفادته النَّفْي (منتفيا)
إِنَّمَا (لَا يسْتَلْزم نَفْيه) أَي نفي النَّفْي الَّذِي
يتضمنه الْحصْر، أَو نفي الْفَهم الْمَذْكُور، جَوَاب سُؤال
تَقْدِيره دلَالَة إِنَّمَا على النَّفْي وَالِاسْتِثْنَاء غير
مُسْتَقِيم، لِأَن الْمَوْضُوع الْمَعْهُود للنَّفْي كلمة لَا
وَنَحْوهَا لَا إِنَّمَا، (لِأَن مُوجب الِانْتِقَال) بِكَسْر
الْجِيم (الْوَضع) خبران: أَي وضع لفظ بل وضع لشَيْء مَعَ
الْعلم بِالْوَضْعِ (لَا) الْوَضع (بِشَرْط لفظ خَاص) كَمَا
وَلَا وَحَتَّى إِذا لم يُوجد لم يُوجد الِانْتِقَال (وَكَون
فهمه) أَي الْمَجْمُوع من النَّفْي وَالْإِثْبَات من إِنَّمَا
(لَا يستلزمه) أَي وَضعهَا لَهُ (لجوازه) أَي فهمه
(بِالْمَفْهُومِ) الْمُخَالف (لَا يَنْفِي الظُّهُور) خبر
الْمُبْتَدَأ: يَعْنِي أَن جَوَاز انفهامه
(1/133)
بطرِيق الْمَفْهُوم احْتِمَالا فَلَا ينفى
ظُهُور منطوقيته الْمُسْتَفَاد من تبادره إِلَى الْفَهم عِنْد
سَماع كلمة إِنَّمَا (وَلَو ثَبت) فهمه بِالْمَفْهُومِ (كَانَ)
ذَلِك الْفَهم (بِمَفْهُوم اللقب) لعدم احْتِمَال غَيره من
المفاهيم وَهُوَ ظَاهر (وَهُوَ) أَي مَفْهُوم اللقب (منفي)
بِاتِّفَاق الْجُمْهُور. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ
النَّفْي مَفْهُوم لَا مَنْطُوق، وَيدل عَلَيْهِ أَمَارَات مثل
جَوَاز: إِنَّمَا زيد قَائِم لَا قَاعد بِخِلَاف مَا زيد
إِلَّا قَائِم لَا قَاعد، وَإِن صَرِيح النَّفْي
وَالِاسْتِثْنَاء يسْتَعْمل عِنْد إِصْرَار الْمُخَاطب على
الْإِنْكَار بِخِلَاف إِنَّمَا انْتهى، وَصرح الشَّيْخ عبد
القاهر، وَاخْتَارَهُ الْمُتَأَخّرُونَ أَنه لَا يحسن الْجمع
بَين لَا العاطفة وَبَين النَّفْي وَالِاسْتِثْنَاء لَا نفي
الصِّحَّة وتصريح السكاكي بِعَدَمِ الصِّحَّة متعقب، وَفِي
الْكَشَّاف فِي قَوْله تَعَالَى - {زين للنَّاس} - الْآيَة:
أَي المزين لَهُم حبه مَا هُوَ إِلَّا الشَّهَوَات لَا غير،
وَأما اسْتِعْمَال صَرِيح النَّفْي وَالِاسْتِثْنَاء عِنْد
الْإِصْرَار دون إِنَّمَا فَلِأَن من يُخَاطب الْمصر عَلَيْهِ
يخْتَار مَا يدل على دَفعه قطعا، وَنحن نعترف بِأَن دلَالَة
إِنَّمَا عَلَيْهِ ظنية، وَإِلَّا لما وَقع الْخلاف فِي
إفادتها ذَلِك (وَأما الْحصْر) الْمُسْتَفَاد (بِاللَّامِ)
الاستغراقية المفيدة (للْعُمُوم) أَي عُمُوم الْجِنْس الَّذِي
دخلت عَلَيْهِ، وَهُوَ أحد جزئي الْكَلَام (و) الْجُزْء (الآخر
أخص) حَال عَن اللَّام أَو الْعُمُوم: أَي وَالْحَال أَن
الْجُزْء الآخر أخص من الْمحلي بِاللَّامِ (كالعالم وَالرجل
زيد) فَإِن كل وَاحِد مِنْهُمَا دخله اللَّام للْعُمُوم والجزء
الآخر هُوَ زيد أخص مِنْهُ مُطلقًا (تقدم أَو تَأَخّر) حَال
أُخْرَى عَن الْمَذْكُور وَالضَّمِير للْآخر (فَلَا يَنْبَغِي
أَن يخْتَلف فِيهِ) جَوَاب أما، وَالضَّمِير الْمَجْرُور للحصر
(وَلَو نفي الْمَفْهُوم) كلمة لَو وصلية، أَشَارَ إِلَى مَا
قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ من أَن كَون هَذَا الْحصْر
مفهوما لَا منطوقا مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَن يَقع فِيهِ خلاف
للْقطع بِأَنَّهُ لَا نطق بِالنَّفْيِ أصلا وَحَاصِل تَحْقِيق
الرضي فِي هَذَا الْمقَام أَن تقدم الْوَصْف مُبْتَدأ على
الْمَوْصُوف والأخص خَبرا لَهُ يُفِيد قصره على الْمَوْصُوف
للعدول عَن التَّرْتِيب الطبيعي: وَهُوَ تقدم الذَّات على
الْوَصْف، وَلِأَن المُرَاد بالعالم وصديقي هُوَ الْجِنْس
بَاقِيا على عُمُومه لعدم قرينَة الْعَهْد، وَالْحكم بالاتحاد
بَين الْجِنْس الْمُسْتَغْرق وَزيد إِنَّمَا يكون بادعاء
انحصاره فِيهِ بتنزيل مَا عداهُ منزلَة الْعَدَم انْتهى،
وَهَذَا يدل على أَن الْحصْر يفِيدهُ فِي صُورَة تَقْدِيم
الْوَصْف فَقَط، وَصرح الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ بِأَن
إِفَادَة الْحصْر عِنْد كَون الْمُبْتَدَأ مُعَرفا ظَاهرا فِي
الْعُمُوم صفة كَانَت أَو اسْم جنس، وَكَون خَبره مَا هُوَ أخص
مِنْهُ هما لَا خلاف فِيهِ بَين عُلَمَاء الْمعَانِي تمسكا
بِاسْتِعْمَال الفصحاء، وَلَا خلاف فِي عَكسه أَيْضا غير أَن
القَاضِي عضد الدّين ذكر أَن الْوَصْف إِذا وَقع مُسْندًا
إِلَيْهِ قصد بِهِ الذَّات الموصوفة بِهِ، وَإِذا وَقع
مُسْندًا قصد بِهِ ذَات مَا مَوْصُوفَة بِهِ وَهُوَ عَارض
الأول انْتهى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ على الأول يُرَاد بِهِ
الذَّات الموصوفة بِالْوَصْفِ العنواني، وعَلى الثَّانِي
يُرَاد بِهِ مَفْهُوم ذَات مَا مَوْصُوفَة بذلك الْوَصْف
(1/134)
وَهَذَا غارض للذات الْمَخْصُوصَة، واتحاد
زيد مَعَ الذَّات الموصوفة يُفِيد الْحصْر بِخِلَاف اتحاده
مَعَ عَارضه، فَإِنَّهُ لَا يمْتَنع اشْتِرَاك المعروضات
فِيهِ، واتحاد كل مِنْهُمَا بِحِصَّة مِنْهُ، كَذَا أَفَادَهُ
الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ، ثمَّ قَالَ وَالْحق أَن مَا ذكره
فِي الْوَصْف النكرَة مثل زيد عَالم دون زيد الْعَالم، فَإِن
مَعْنَاهُ الذَّات الموصوفة فَردا أَو جِنْسا كَمَا فِي
الْعَالم زيد، فَيكون عدم الْفرق ضَرُورِيًّا هَذَا، وَكَلَام
المُصَنّف رَحمَه الله مشْعر بِأَن الْحصْر الْمُسْتَفَاد
فِيهِ اتِّفَاقًا لَيْسَ بطرِيق الْمَفْهُوم، بل هُوَ
مُسْتَفَاد من خُصُوصِيَّة الْهَيْئَة الْحَاصِلَة من
الْمُبْتَدَأ الْمُعَرّف بِاللَّامِ الظَّاهِر فِي الْعُمُوم
مَعَ أخصية الْخَبَر حَقِيقَة أَو مجَازًا عرفيا، وَيحْتَمل
أَن يكون الْمَعْنى لَا خلاف فِي ثُبُوت الْمَفْهُوم فِي هَذِه
الصُّور وَإِن نفى فِي غَيرهَا وَالله أعلم (بِخِلَاف صديقي
زيد إِذا أخر) صديقي نَحْو زيد صديقي (لانْتِفَاء عُمُومه) أَي
عُمُوم صديقي، لِأَن عُمُومه إِنَّمَا كَانَ عِنْد التَّقْدِيم
للعدول عَن التَّرْتِيب الطبيعي كَمَا ذكره القَاضِي، وَقد
عرفت مَا حَقَّقَهُ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ (ويندرج)
الْحصْر الْمَذْكُور (فِي بَيَان الضَّرُورَة عِنْد
الْحَنَفِيَّة) فَإِن قلت قد صرح بِأَن أَقسَام بَيَان
الضَّرُورَة كلهَا دلَالَة سكُوت، وَقَوله (إِذْ ثُبُوت
الْجِنْس) الثَّابِت (برمتِهِ) أَي بجملته (لوَاحِد) بِحَيْثُ
لَا يُوجد فِي غَيره حِصَّة مِنْهُ (بِالضَّرُورَةِ ينتفى عَن
غَيره) يدل على أَنه أَمر مَدْلُول أَمر لَفْظِي هُوَ ثُبُوت
الْجِنْس إِلَى آخِره قلت الْحصْر الْمَذْكُور مركب من جزءين:
إِثْبَات وَنفي، وَاللَّفْظ نَاطِق بِالْأولِ فَقَط،
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله ثُبُوت الْجِنْس برمتِهِ لوَاحِد،
وَالثَّانِي يثبت لضَرُورَة اتِّحَاد الْجِنْس بجملته مَعَه،
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله بِالضَّرُورَةِ ينتفى عَن غَيره،
فالدال عَلَيْهِ أَمر معنوي: أَعنِي كَون الْجِنْس برمتِهِ
للْوَاحِد بَقِي أَن كَونه دلَالَة سكُوت يَقْتَضِي أَن يكون
للمسكوت مدْخل فِيهَا، وَهُوَ غير ظَاهر: اللَّهُمَّ إِلَّا
أَن يُقَال: إِن قَوْلنَا الْعَالم زيد إِنَّمَا يدل على
الْحصْر لسكوت الْمُتَكَلّم عَن ذكر غير زيد مَعَه، وَعند
ذَلِك يتَحَقَّق ثُبُوت الْجِنْس برمتِهِ لزيد، وَيرد عَلَيْهِ
أَنكُمْ حكمتم فِي آيَة للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين بِأَن
دلالتها على زَوَال ملك المُهَاجر إِشَارَة، وَكَذَا فِي
جَوَاز الإصباح جنبا فِي آيَة - {أحل لكم لَيْلَة الصّيام
الرَّفَث} - وَلَا فرق بَين الْحصْر الْمَذْكُور وَبَينهمَا،
وَيُمكن أَن يفرق بمدخلية السُّكُوت وَعدمهَا فَتَأمل، وَقَوله
ثُبُوت الْجِنْس مُبْتَدأ خَبره ينتفى، وبرمته حَال عَن
الْجِنْس، وبالضرورة مُتَعَلق بينتفى، وَيُمكن أَن يَجْعَل
جملتين بِأَن يكون لوَاحِد خبر ثُبُوت الْجِنْس، وَضمير ينتفى
للْجِنْس، واختلافهما اسمية وفعلية اقْتضى الْفَصْل، وَفِيه
بعد (وتكرر من الْحَنَفِيَّة مثله) أَي مثل القَوْل بالحصر
الْمَذْكُور مِنْهَا (فِي نفي الْيَمين عَن الْمُدَّعِي بقوله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَالْيَمِين على من أنكر) فِي
الْهِدَايَة جعل جنس الْإِيمَان على المنكرين، وَلَيْسَ وَرَاء
الْجِنْس شَيْء انْتهى (وَغَيره) أَي وَفِي غير نفي الْيَمين
(والتشكيك) فِي إِفَادَة نَحْو الْعَالم زيد الْحصْر (بتجويز
كَونه) أَي الْجِنْس (لوَاحِد) كزيد
(1/135)
(وَلآخر) كعمرو وَعدم كَونه برمتِهِ
لوَاحِد (غير مَقْبُول) بعد التَّمَسُّك بِاسْتِعْمَال الفصحاء
(وَقد حكى نَفْيه) أَي نفي الْحصْر الْمَذْكُور (وإثباته
مفهوما ومنطوقا) فَهَذِهِ ثَلَاثَة مَذَاهِب (واستبعد)
إثْبَاته منطوقا (لعدم النُّطْق بالنافي) أَي إِنَّمَا يدل على
نفي الْعلم عَن غير زيد مثلا (وَعلمت فِي إِنَّمَا أَن لَا أثر
لَهُ) أَي لعدم النُّطْق بالنافي الْمَعْهُود كَمَا وَلَا بعد
وجود مُوجب الِانْتِقَال من وضع إِنَّمَا لمجموع النَّفْي
وَالْإِثْبَات (بل وَجهه) أَي وَجه هَذَا الاستبعاد (عدم لفظ
يتَبَادَر مِنْهُ) النَّفْي أَو الْمَجْمُوع بِاعْتِبَارِهِ
(لِأَن اللَّام) فِي الْعَالم زيد (للْعُمُوم) وشمول اللَّفْظ
بِجَمِيعِ أَفْرَاد الْمُسَمّى (فَقَط) فَلَيْسَ النَّفْي
جُزْء مفهومها، لكنه يلْزم لما ذكره بقوله (فَإِنَّمَا يثبت)
النَّفْي عَن الْغَيْر حَال كَونه (لَازِما لإثباته) أَي
إِثْبَات الْجِنْس برمتِهِ لوَاحِد، أَو لإِثْبَات النَّفْي
الْمَذْكُور وَالْإِضَافَة بِأَدْنَى مُلَابسَة (بِخِلَاف
إِنَّمَا) فَإِنَّهُ يتَبَادَر مِنْهُ النَّفْي كالإثبات
(وَمَا نسب إِلَى المنطقيين من جعلهم إِيَّاه) أَي ذَا اللَّام
الَّتِي للْعُمُوم (جزئيا) أَي غير مُسْتَغْرق لأفراده لعدم
اعتبارهم اللَّام سور الْكُلية (يَنْفِيه) خبر الْمَوْصُول،
وَالضَّمِير الْمَنْصُوب لَهُ، وَالْمَرْفُوع قَوْله (مَا حقق)
فِي الْمنطق (من أَن السُّور مَا دلّ على كمية) أَفْرَاد
(الْمَوْضُوع) كلا أَو بَعْضًا، وَلَا شكّ أَن اللَّام تدل
(فذو اللَّام مسور بسور الْكُلية) فَهِيَ كلفظة كل.
التَّقْسِيم الثَّانِي
من التقسيمات الْمَذْكُورَة فِي عنوان هَذَا الْفَصْل
(بِاعْتِبَار ظُهُور دلَالَته) أَي اللَّفْظ الْمُفْرد
ومراتبها فِي الظُّهُور (إِلَى ظَاهر وَنَصّ ومفسر ومحكم)
مُتَعَلق بِمَحْذُوف تَقْدِيره التَّقْسِيم الثَّانِي تَقْسِيم
اللَّفْظ بِاعْتِبَار ظُهُور دلَالَته إِلَى ظَاهر وَكَذَا
وَكَذَا (فمتأخروا الْحَنَفِيَّة) أَي فَقَالَ متأخروهم (مَا
ظهر مَعْنَاهُ الوضعي) قد عرفت أَن الوضعي مَا للوضع مدْخل
فِيهِ، فَدخل الْمَعْنى الْمجَازِي أَيْضا (بِمُجَرَّدِهِ) أَي
ظهر وَفهم من غير خَفَاء بِمُجَرَّد سَماع اللَّفْظ، ظَاهر
هَذِه الْعبارَة خُرُوج الْمجَاز، لِأَن ظُهُور مَعْنَاهُ
بِالْقَرِينَةِ لَا بِمُجَرَّد اللَّفْظ، لَكِن لَا يجوز أَن
يكون المُرَاد بِمُجَرَّد اللَّفْظ مَعَ مَا لَا بُد مِنْهُ
فِي دلَالَته من غير احْتِيَاج إِلَى أَمر مُسْتَقْبل من
كَلَام أَو دَلِيل عَقْلِي، وَأما الْقَرِينَة فَهِيَ
كَالْعلمِ بِالْوَضْعِ فِي فهم الْمَوْضُوع لَهُ من اللَّفْظ.
قَالَ ابْن الْحَاجِب: مَا دلّ دلَالَة ظنية، أما بِالْوَضْعِ
كالأسد، أَو بِالْعرْفِ كالغائط انْتهى، وَفسّر القَاضِي
مُرَاده بقوله كالأسد للحيوان، وَأما بعرف الِاسْتِعْمَال
كالغائط للْخَارِج المستقذر، وَقَالَ الْمُحَقق
التَّفْتَازَانِيّ هَهُنَا: وَظَاهر كَلَام المُصَنّف رَحمَه
الله أَن قَوْلنَا إِمَّا بِالْوَضْعِ أَو بِالْعرْفِ من تَمام
الْحَد احْتِرَازًا بِهِ عَن الْمجَاز، وَبِه صرح الْآمِدِيّ
(1/136)
رَحمَه الله (مُحْتملا) لغير مَعْنَاهُ
الظَّاهِر احْتِمَالا مرجوحا (إِن لم يسق) الْكَلَام (لَهُ)
أَي لمعناه (أَي لَيْسَ) مَعْنَاهُ (الْمَقْصُود الْأَصْلِيّ
من اسْتِعْمَاله) فاسم لَيْسَ ضمير الْمَعْنى وَخَبره
الْمَقْصد، قَيده بالأصلي لِئَلَّا يتَوَهَّم أَن المُرَاد نفى
كَونه مَقْصُودا مُطلقًا، وَهَذَا هُوَ الْمَوْعُود بقوله
كَمَا سنذكر عِنْد تَعْمِيم الْمَقْصد الْأَصْلِيّ وَغَيره فِي
عبارَة المُصَنّف رَحمَه الله (فَهُوَ) أَي اللَّفْظ (بِهَذَا
الِاعْتِبَار) أَي بِاعْتِبَار ظُهُور مَعْنَاهُ الوضعي
بِمُجَرَّدِهِ إِلَى آخِره (الظَّاهِر) أَي يُسمى بِهِ، وَوجه
التَّسْمِيَة ظَاهر (وَبِاعْتِبَار ظُهُور مَا سيق لَهُ مَعَ
احْتِمَال التَّخْصِيص والتأويل النَّص) احْتِمَال التَّخْصِيص
فِيمَا إِذا كَانَ عَاما، وَأما التَّأْوِيل فَهُوَ يتَحَقَّق
فِي الْعَام وَالْخَاص فَلَا وَجه لتخصيص الشَّارِح إِيَّاه
بالخاص، والتأويل من أولت الشَّيْء صرفته ورجعته، وَهُوَ
اعْتِبَار دَلِيل يصير الْمَعْنى بِهِ أغلب على الظَّن من
الْمَعْنى الظَّاهِر، وَالنَّص من نصصت الشَّيْء رفعته، سمى
بِهِ لارتفاعه بِالنِّسْبَةِ إِلَى الظَّاهِر (وَيُقَال)
النَّص (أَيْضا لكل) شَيْء (سَمْعِي) أَي لكل لفظ سمع من
الشَّارِع سَوَاء كَانَ ظَاهرا أَولا (وَمَعَ عدم احْتِمَاله
غير النّسخ الْمُفَسّر) التَّفْسِير مُبَالغَة الفسر: وَهُوَ
الْكَشْف، فيراد بِهِ كشف لَا شُبْهَة فِيهِ، وَلِهَذَا يحرم
التَّفْسِير بِالرَّأْيِ دون التَّأْوِيل لِأَنَّهُ الظَّن
بالمراد، وَحمل الْكَلَام على غير الظَّاهِر بِلَا جزم فيقبله
الظَّاهِر وَالنَّص، لِأَن الظَّاهِر يحْتَمل غير المُرَاد
احْتِمَالا بَعيدا، وَالنَّص يحْتَملهُ احْتِمَالا أبعد دون
الْمُفَسّر، لِأَنَّهُ لَا يحْتَملهُ أصلا: غير أَنه يحْتَمل
أَن ينْسَخ (وَيُقَال) الْمُفَسّر (أَيْضا ل) كل (مَا بَين)
المُرَاد مِنْهُ (بقطعي مِمَّا فِيهِ خَفَاء من الْأَقْسَام
الْآتِيَة) للفظ بِاعْتِبَار خَفَاء مَعْنَاهُ الوضعي، والمشكل
مَا عدا الْمُتَشَابه مِنْهَا كَمَا هُوَ الْمُخْتَار من أَن
الْمُتَشَابه لَا يلْحقهُ الْبَيَان فِي هَذِه الدَّار، وَهُوَ
الْخَفي والمشكل والمجمل وَاعْترض الشَّارِح على المُصَنّف
بِمَا حَاصله أَن كَلَام المُصَنّف يدل على أَن بَين
الْمَعْنيين عُمُوما من وَجه لاجتماعهما فِيمَا لَا يحْتَمل
إِلَّا النّسخ، وَقد كَانَ لَهُ خَفَاء أزيل بقطعي، وافتراق
الأول عَن الثَّانِي فِي غير مُحْتَمل لم يكن لَهُ خَفَاء أزيل
بقطعي: وَهُوَ يحْتَمل غير النّسخ، وَكَلَام فَخر الْإِسْلَام
على خِلَافه حَيْثُ قَالَ: وَأما الْمُفَسّر فَمَا ازْدَادَ
وضوحا على النَّص: سَوَاء كَانَ بِمَعْنى فِي النَّص أَو
بِغَيْرِهِ بِأَن كَانَ مُجملا فَلحقه بَيَان قَاطع فانسد بَاب
التَّأْوِيل والتخصيص انْتهى، لِأَنَّهُ يدل على أَن لَهُ معنى
وَاحِدًا يعم مَا لَا يحْتَمل من الأَصْل، وَمَا لَا يحْتَمل
بعد الْبَيَان، وَكَذَا يدل على خِلَافه على مَا فِي
الْمِيزَان من أَن الْمُفَسّر كَمَا يَقع على مَا كَانَ
مَكْشُوف المُرَاد من الأَصْل بِأَن لَا يحْتَمل إِلَّا وَجها
وَاحِدًا يَقع على الْمُشْتَرك والمشكل والمجمل الَّذِي صَار
مُرَاد الْمُتَكَلّم مِنْهُ مَعْلُوما للسامع بِوَاسِطَة
انْقِطَاع الِاحْتِمَال والإشكال انْتهى وَأَنت خَبِير بِأَن
المُصَنّف رَحمَه الله لم يُصَرح بِالنِّسْبَةِ بَين
الْمَعْنيين، وَكَلَام الْمَتْن مُوَافق لما فِي الْمِيزَان،
فَإِنَّهُ وَإِن لم يُصَرح بِكَوْنِهِ مَكْشُوف المُرَاد من
الأَصْل، لكنه يفهم من قرينَة التقابل وَكَونه من أَقسَام
ظَاهر
(1/137)
الدّلَالَة، وَلَا مَحْظُور فِي أَن
يُخَالف فَخر الْإِسْلَام إِذا وَافق غَيره على أَنه يجوز أَن
فَخر الْإِسْلَام لما رأى أَن لفظ الْمُفَسّر يسْتَعْمل تَارَة
فِي هَذَا، وَتارَة فِي ذَاك جعله بِإِزَاءِ مَا يعمهما
اصْطِلَاحا مِنْهُ وَلَا مشاحه فِيهِ (وان) بَين المُرَاد
بِمَا فِيهِ خَفَاء من الْأَقْسَام الْمَذْكُورَة (بظني)
كَخَبَر الْوَاحِد وَبَعض الأقيسة (فمؤول) ذكره تَقْرِيبًا
وتتميما لبَيَان مَا بَين مِنْهُ المُرَاد (وَمَعَ عَدمه) أَي
عدم اعْتِبَار ظُهُور مَا سيق لَهُ مَعَ عدم احْتِمَال غير
النّسخ وَمَعَ عدم احْتِمَاله، وَيفهم هَذَا من سِيَاق الترقي
من الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، وَيحْتَمل أَن يرجع ضمير
عَدمه إِلَى مُطلق الِاحْتِمَال، وبنفي الْمُطلق يحصل
الْمَقْصُود (فِي زَمَانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) قَيده بذلك
الزَّمَان، لِأَن احْتِمَاله لَا يتَصَوَّر بعد مَوته صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لانْقِطَاع الْوَحْي، فَجَمِيع السمعيات
مُتَسَاوِيَة فِي عدم احْتِمَاله كَمَا سَيذكرُهُ (الْمُحكم)
وَلَا يخفى وَجه التَّسْمِيَة وَهُوَ (حَقِيقَة عرفية)
مُخْتَصَّة بالأصوليين (فِي الْمُحكم لنَفسِهِ) وَهُوَ مَا لَا
يحْتَمل النّسخ لَا فِي زَمَانه وَلَا فِي غَيره: كالآيات
الدَّالَّة على وجود الصَّانِع ووحدانيته وَسَائِر صِفَاته،
وعَلى الْأَخْبَار عَمَّا كَانَ أَو سَيكون عِنْد الْجُمْهُور
لِامْتِنَاع التَّغَيُّر فِي مدلولاتها وَلُزُوم الْكَذِب
(وَالْكل) من الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة وَغَيرهَا من السمعيات
(بعده) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مُحكم لغيره) وَهُوَ
انْقِطَاع الْوَحْي فَإِن قلت قَوْله الْكل يَشْمَل الْمُحكم
لنَفسِهِ أَيْضا قلت فليشمل، غَايَة الْأَمر لُزُوم كَونه
محكما لنَفسِهِ وَغَيره (يلْزمه) أَي لفظ الْمُحكم عِنْد
إِطْلَاقه على الْمُحكم لغيره أَو يلْزم الْمُحكم لغيره عِنْد
إِطْلَاق لفظ الْمُحكم عَلَيْهِ (التَّقْيِيد) بِقَيْد لغيره
(عرفا) أصوليا تمييزا بَين الصِّنْفَيْنِ فِي اللَّفْظ بعد
اشتراكهما فِي الْمَعْنى اللّغَوِيّ: وَهُوَ الإتقان والإحكام
الْمنَافِي للتغيير والتبديل وَإِنَّمَا لزم التَّقْيِيد فِي
الثَّانِي، لِأَن الأول أكمل فِي معنى الإحكام فَيَنْصَرِف
الْمُطلق إِلَيْهِ، ثمَّ قبل زِيَادَة الوضوح فِي النَّص على
الظَّاهِر بِكَوْنِهِ مسوقا لَهُ، وَفِي الْمُفَسّر بِكَوْنِهِ
لَا يحْتَمل التَّأْوِيل والتخصيص، وَأما فِي الْمُحكم فَغير
ظَاهر، لِأَن عدم احْتِمَال النّسخ لَا يُؤثر فِي زِيَادَة
الوضوح فِي النَّص على الظَّاهِر بِكَوْنِهِ، وَأجِيب بِأَن
المُرَاد بِزِيَادَة الوضوح فِيهِ لازمها وَهُوَ زِيَادَة
الْقُوَّة، ثمَّ إِذا كَانَت الْأَقْسَام متمايزة بقيود
متباينة (فَهِيَ متباينة) هَذَا على مَا هُوَ الْمَشْهُور
عِنْد الْمُتَأَخِّرين، فَيشْتَرط فِي الظَّاهِر عدم السُّوق،
وَفِي النَّص احْتِمَال التَّخْصِيص والتأويل: أَي أَحدهمَا،
وَفِي الْمُفَسّر احْتِمَال النّسخ، وَأما مُقْتَضى كَلَام
الْمُتَقَدِّمين فَهُوَ أَن الْمُعْتَبر فِي الظَّاهِر ظُهُور
المُرَاد سَوَاء سيق لَهُ أَولا، وَفِي النَّص السُّوق احْتمل
أَولا، وَفِي الْمُفَسّر عدم احتمالهما احْتمل النّسخ أَولا
على مَا سَيَجِيءُ (وَلَا يمْتَنع الِاجْتِمَاع) أَي اجْتِمَاع
قسمَيْنِ مِنْهَا فَأكْثر (فِي لفظ) وَاحِد (بِالنِّسْبَةِ
إِلَى مَا سيق إِلَيْهِ وَعَدَمه) عطف على الْمَوْصُول
وَالضَّمِير لَهُ، فَالْمُرَاد بِعَدَمِهِ مَا لم يسق لَهُ من
بَاب ذكر اللَّازِم وَإِرَادَة الْمَلْزُوم مَعَ ظُهُور
الْقَرِينَة، وَيجوز أَن يكون عَدمه على صِيغَة الْمَاضِي، من
(1/138)
قَوْلهم عَدمه إِذا لم يجده، فَيكون
مَعْطُوفًا على صلَة الْمَوْصُول، وَالضَّمِير للسوق فَتدبر
وَلَا تدافع بَين إِمْكَان الِاجْتِمَاع وَلُزُوم التباين بَين
الْأَقْسَام، لِأَن ذَلِك بِاعْتِبَار الْمَعْنى الْوَاحِد،
وَهَذَا بِاعْتِبَار الْمَعْنيين (كَمَا تفيده الْمثل، {وَأحل
الله البيع وَحرم الرِّبَا} بدل الْبَعْض من الْمثل بِغَيْر
عَائِد إِلَى الْمُبدل للْعلم الْوَاضِح ببعضيته مِنْهَا
(ظَاهر) أَي النَّص الْمَذْكُور ظَاهر (فِي الْإِبَاحَة
وَالتَّحْرِيم إِذا لم يسق لذَلِك) أَي الْإِبَاحَة
وَالتَّحْرِيم (نَص) خبر بعد خبر (بِاعْتِبَار) معنى مَفْهُوم
مِنْهُ (خَارج) عَن منطوقه (هُوَ) أَي ذَلِك الْخَارِج (رد
تسويتهم) المفهومة من قَوْلهم إِنَّمَا البيع مثل الرِّبَا،
فَمَا وضع لَهُ اللَّفْظ غير مسوق لَهُ ولازمه الْمَدْلُول
التزاما هُوَ المسوق لَهُ {فانكحوا مَا طَابَ لكم} الْآيَة)
أَي مَا طَابَ لكم من النِّسَاء مثنى وَثَلَاث وَربَاع (ظَاهر
فِي الْحل) أَي فِي حل أصل النِّكَاح، لِأَن الْأَمر
للْإِبَاحَة (نَص بِاعْتِبَار) معنى (خَارج) عَن الْمُسَمّى
(هُوَ قصره) أَي النِّكَاح أَو التناكح (على الْعدَد)
الْمَذْكُور (إِذْ السُّوق لَهُ) أَي الْعدَد أَو الْقصر
عَلَيْهِ، إِذْ الْحل قد كَانَ مَعْلُوما قبل نُزُولهَا،
يُؤَيّد ذَلِك ذكره بعد خوف الْجور، وَترك الْعدْل فِي
الْيَتَامَى الْمَدْلُول بقوله تَعَالَى - {وَإِن خِفْتُمْ أَن
لَا تقسطوا فِي الْيَتَامَى} -، فَكَأَنَّهُ يَقُول: اتْرُكُوا
زواج الْيَتَامَى عِنْد خوف ذَلِك، فَإِن لكم سَعَة فِي
غَيْرهنَّ إِلَى هَذَا الْحَد (فيجتمعان) أَي القسمان
كَالظَّاهِرِ، وَالنَّص (دلَالَة) تَمْيِيز عَن نِسْبَة
الْفِعْل إِلَى فَاعله، يَعْنِي اجْتِمَاع الدلالتين كَيفَ،
وَإِلَّا فالدال وَاحِد لَا يتَصَوَّر فِيهِ الِاجْتِمَاع
إِلَّا باعتبارها (ثمَّ الْقَرِينَة تعين المُرَاد بِالسوقِ)
فَلَا يشْتَبه على الْمُخَاطب بِسَبَب اجْتِمَاع الدلالتين
(وَهُوَ) أَي المُرَاد بِالسوقِ الْمَدْلُول (الالتزامي)
فِيمَا تقدم من المثالين (فيراد) الْمَعْنى (الآخر) الَّذِي
هُوَ ملزوم ذَلِك الالتزامي معنى (حَقِيقِيًّا) للفظ لكَونه
مُسَمَّاهُ (لَا) يُرَاد معنى (أَصْلِيًّا) مَقْصُودا بِالسوقِ
(أَعنِي) بِالْآخرِ الْحَقِيقِيّ الْمَعْنى (الظَّاهِرِيّ،
وَيصير الْمَعْنى النصي مدلولا التزاميا لمجموع الظاهرين) فِي
قَوْله تَعَالَى - {وَأحل الله البيع وَحرم الرِّبَا} -، فَعلم
أَن النَّص قد يكون مركبا من جملتين، فَلَا يَنْبَغِي تَقْيِيد
الْمقسم بالأفراد (وَمِثَال انْفِرَاد النَّص) عَن الظَّاهِر
قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم} لكَون
مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ هُوَ المسوق لَهُ واحتماله التَّخْصِيص
بِمَا عدا الصّبيان والمجانين (وكل لفظ سيق لمفهومه)
الْحَقِيقِيّ الْمُحْتَمل للتخصيص أَو التَّأْوِيل الظَّاهِر
مُرَاده بِمُجَرَّدِهِ مَعْطُوف على خبر الْمُبْتَدَأ، أَعنِي
يَا أَيهَا النَّاس إِلَى آخِره و (أما الظَّاهِر فَلَا
ينْفَرد) عَن النَّص (إِذْ لَا بُد) فِي كل أَمر تحقق فِيهِ
ظَاهر (من أَن يساق اللَّفْظ لغَرَض) وَيمْتَنع خلو الْكَلَام
عَن مَقْصُود أُصَلِّي يساق لَهُ، فَإِن كَانَ مُسَمَّاهُ لم
يكن هُنَاكَ غير النَّص، وَإِن كَانَ غَيره لم ينْفَرد
الظَّاهِر عَنهُ (ومثلوا) أَي الْمُتَأَخّرُونَ (الْمُفَسّر
كالمتقدمين) أَي كَمَا مثل المتقدمون بقوله تَعَالَى {فَسجدَ
الْمَلَائِكَة} الْآيَة، ويلزمهم) أَي
(1/139)
الْمُتَأَخِّرين على مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ
من اعْتِبَار التباين بَين الْأَقْسَام، وَاحْتِمَال النّسخ
فِي الْمُفَسّر (أَن لَا يَصح) تمثيلهم هَذَا (لعدم احْتِمَال
النّسخ) لكَونه من الْأَخْبَار (وثبوته) أَي احْتِمَال النّسخ
(مُعْتَبر) فِي الْمُفَسّر (للتباين) الْمُعْتَبر بَين
الْأَقْسَام على رَأْيهمْ (فَإِنَّمَا يتَصَوَّر الْمُفَسّر)
أَي تحَققه بعد احْتِمَال النّسخ فِيهِ (فِي مُفِيد حكم) أَي
فِي لفظ يُفِيد حكما شَرْعِيًّا ليمكن نسخه (بِخِلَاف
الْمُحكم) فَإِنَّهُ يتَحَقَّق فِي الْأَخْبَار أَيْضا
كَقَوْلِه تَعَالَى {وَالله بِكُل شَيْء عليم} ، لِأَنَّهُ)
أَي شَرط الْمُحكم بِتَقْدِير الْمُضَاف (نَفْيه) أَي نفي
الِاحْتِمَال النّسخ، وَالنَّفْي مُتَحَقق فِي الْأَخْبَار
(وَالْأولَى) أَن يذكر فِي تَمْثِيل الْمُحكم (نَحْو) قَوْله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْجِهَاد مَاض) مُنْذُ بَعَثَنِي
الله إِلَى أَن يُقَاتل آخر أمتِي الدَّجَّال لَا يُبطلهُ جور
جَائِر، وَلَا عدل عَادل: مُخْتَصر من حَدِيث أخرجه أَبُو
دَاوُد، وَجه الْأَوْلَوِيَّة أَن قصد الأصولي بِالذَّاتِ
نَحْو بَيَان أَنْوَاع مَا يدل على الحكم الشَّرْعِيّ. (و)
قَالَ (المتقدمون) من الْحَنَفِيَّة (الْمُعْتَبر فِي
الظَّاهِر ظُهُور) الْمَعْنى (الوضعي بِمُجَرَّدِهِ) أَي
بِمُجَرَّد اللَّفْظ الدَّال عَلَيْهِ، وَقد مر بَيَانه (سيق
لَهُ أَولا) أَي سَوَاء سيق اللَّفْظ لذَلِك الوضعي أَولا (و)
الْمُعْتَبر (فِي النَّص ذَلِك) أَي الظُّهُور المتحقق فِي ضمن
السُّوق وَعَدَمه (مَعَ ظُهُور مَا سيق لَهُ) إِذا كَانَ مَا
سيق لَهُ غير مَعْنَاهُ الوضعي كآية الرِّبَا، وَعدد النِّسَاء
(احْتمل التَّخْصِيص والتأويل أَولا، وَفِي الْمُفَسّر)
الْمُعْتَبر (عدم الِاحْتِمَال) لَهما مَعَ ظُهُور مَعْنَاهُ
الوضعي والمسوق لَهُ سَوَاء (احْتمل النّسخ أَولا و)
الْمُعْتَبر (فِي الْمُحكم عَدمه) أَي احْتِمَال النّسخ مَعَ
ظُهُور مَا ذكر، وَعدم احْتِمَال التَّخْصِيص (فَهِيَ) أَي
الْأَقْسَام (متداخلة) لكَون الأول يعم الثَّلَاثَة
الْبَاقِيَة، وَالثَّانِي الباقيين، وَالثَّالِث وَالرَّابِع
(وَقَول فَخر الْإِسْلَام فِي الْمُفَسّر إِلَّا أَنه يحْتَمل
النّسخ سَنَد للمتأخرين فِي اعتبارهم (التباين) بَينهمَا،
لِأَنَّهُ لَا وَجه لاعْتِبَار التباين بَين الْمُفَسّر
والمحكم دون غَيرهمَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (إِذْ لَا فصل
بَين الْأَقْسَام) فِي اعْتِبَار التباين وَعَدَمه (وَبِه) أَي
بقول فَخر الْإِسْلَام هَذَا (يبعد نفي) اعْتِبَار (التباين)
بَين الْأَقْسَام (عَن كل الْمُتَقَدِّمين) لِأَن الظَّاهِر
عدم مُخَالفَته كلهم (وَلعدم) اعْتِبَار (التباين) بَينهَا
(مثلُوا) أَي المتقدمون (الظَّاهِر) أَي صوروه بقوله تَعَالَى
{يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا} ، الزَّانِي) بِحَذْف العاطف أَو
بسردهما على طَرِيق التعداد، وَيُؤَيّد الأول ذكره العاطف فِي
قَوْله (وَالسَّارِق وبالأمر) بِإِظْهَار الْبَاء فِي الْمُقدر
فِي الْمَعْطُوف عَلَيْهِ إِشَارَة إِلَى كَون الْأَمر
(وَالنَّهْي) بِاعْتِبَار كثرتهما متميزين عَن الْأَمْثِلَة
الْمَذْكُورَة (مَعَ ظهورما) أَي معنى (سيق لَهُ) كل وَاحِد من
الْمَذْكُورَات: أَي مثلُوا بهَا مَعَ علمهمْ بِكَوْنِهَا
نصوصا بِاعْتِبَار مَعَانِيهَا الظَّاهِرِيَّة لكَونهَا مسوقا
لَهَا، فَعلم أَن الْمُعْتَبر فِي الظَّاهِر عِنْدهم ظُهُور
الْمَعْنى سَوَاء كَانَ مسوقا لَهُ أَولا، فَالظَّاهِر أَعم من
النَّص لَا مباين لَهُ
(1/140)
(وَاقْتصر بَعضهم) أَي الْمُتَقَدِّمين
(فِي) تَمْثِيل (النَّص) على إِبَاحَة الْعدَد (على) ذكر (مثنى
إِلَى رباع) وَلم يذكر - فانكحوا إِلَى مثنى -، وَفِي تَمْثِيل
النَّص على التَّفْرِقَة بَين البيع والربا على مَا ذكر حرم
الرِّبَا ظنا مِنْهُ أَن النَّص إِنَّمَا هُوَ مثنى وَثَلَاث
وَربَاع فِي الأول، (وَحرم الرِّبَا) فِي الثَّانِيَة (وَالْحق
أَن كلا من انكحوا، وَاسم الْعدَد لَا يسْتَقلّ نصا إِلَّا
بملاحظة الآخر) وَكَذَا كل من أحل الله البيع، وَمن حرم
الرِّبَا لَا يسْتَقلّ نصا على التَّفْرِقَة إِلَّا بملاحظة
الآخر (فالمجموع) هُوَ (النَّص) وَذَلِكَ لِأَن التَّنْصِيص
على عدد معِين بِاعْتِبَار حكم خَاص لَا يحصل بِمُجَرَّد ذكر
الْعدَد من غير ذكر الْمَعْدُود وَالْحكم، وَكَذَا التَّنْصِيص
على الْفرق لَا يحصل إِلَّا بِمُجَرَّد حُرْمَة الرِّبَا
بِدُونِ ذكر حل البيع. (و) قَالَت (الشَّافِعِيَّة الظَّاهِر
مَا) أَي لفظ (لَهُ دلَالَة ظنية) ناشئة (عَن وضع) كالأسد
للحيوان المفترس، وعَلى هَذَا فالنص مَا دلّ دلَالَة
قَطْعِيَّة (أَو عرف) كالغائط للْخَارِج المستقذر إِذا غلب
فِيهِ بعد أَن كَانَ فِي الأَصْل للمكان المطمئن من الأَرْض
(وَإِن كَانَ) الدَّال الْمَذْكُور (مجَازًا بِاعْتِبَار
اللُّغَة) يَعْنِي أَن لفظ الْغَائِط كَانَ فِي اللُّغَة
مَوْضُوعا بِإِزَاءِ الْمَكَان المطمئن الَّذِي هُوَ مَحل
عَادَة للْخَارِج المستقذر، وَبِاعْتِبَار هَذِه العلاقة كَانَ
يسْتَعْمل فِيهِ مجَازًا، ثمَّ صَار لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال
فِيهِ مَوْضُوعا عرفا، فَإِن اسْتعْمل فِيهِ بِاعْتِبَار
الْوَضع الْعرفِيّ كَانَ حَقِيقَة، وَإِن بنى التخاطب فِيهِ
على الْوَضع اللّغَوِيّ وَاسْتعْمل فِيهِ بِاعْتِبَار تِلْكَ
العلاقة كَانَ مجَازًا لغويا، وَقَوله عَن الخ إِن كَانَ من
تَمام الْحَد لزم خُرُوج الْمجَاز عَن التَّعْرِيف وَإِن كَانَ
إِشَارَة إِلَى التَّقْسِيم بعد تَمام الْحَد لم يلْزم، غير
أَن التَّقْسِيم حِينَئِذٍ لَا يكون حاصرا، (ويستلزم) كَونه
ظَنِّي الدّلَالَة أَن يحْتَمل (احْتِمَالا مرجوحا) غير
الْمَعْنى الظَّاهِرِيّ، وَإِلَّا لزم كَونه قَطْعِيّ
الدّلَالَة على الْمَعْنى الظَّاهِرِيّ (وَهُوَ قسم من النَّص
عِنْد الْحَنَفِيَّة) أَي الَّذِي هُوَ ظَاهر عِنْد
الشَّافِعِيَّة قسم مِمَّا هُوَ نَص عِنْد الْحَنَفِيَّة،
فالظرف مُتَعَلق بِمَا يُسْتَفَاد من قَوْله من النَّص،
وَالْمعْنَى من الْمُسَمّى بِالنَّصِّ عِنْدهم، وَيجوز أَن
يكون ظرفا لكَون الظَّاهِر قسما مِنْهُ، ومآلهما وَاحِد وَلما
كَانَ يتَّجه هَهُنَا سُؤال، وَهُوَ أَن مَا دلّ عَلَيْهِ
اللَّفْظ ظنا قد لَا يكون مسوقا لَهُ وَلَا ظَاهرا مِنْهُ
بِمُجَرَّدِهِ، وهما معتبران فِي النَّص عِنْد الْحَنَفِيَّة
مَعَ الدّلَالَة الظنية، فَكل نَص دَال ظنا من غير عكس، فالدال
ظنا أَعم من النَّص، وَكَيف يكون الْأَعَمّ قسما من الْأَخَص؟
أَرَادَ تَقْيِيد الْأَعَمّ بِمَا يُسْتَفَاد من قَوْله
(وَهُوَ) أَي مَاله دلَالَة ظنية (مَا) أَي لفظ (كَانَ سوقه
لمفهومه) وَلَا شكّ أَن النَّص كَمَا يكون سوقه لمفهومه
كَذَلِك يكون لغير مَفْهُومه كآية الرِّبَا وَالسَّرِقَة،
وَالْجُمْلَة إِمَّا حَال عَن قَوْله هُوَ، أَو مستأنفة
لبَيَان الْمَحْكُوم عَلَيْهِ بالقسمية، وَهَذَا على رَأْي
الْمُتَقَدِّمين، وَأما على رَأْي الْمُتَأَخِّرين فالنص
اعْتبر فِيهِ احْتِمَال التَّخْصِيص والتأويل،
(1/141)
فَالظَّاهِر بعد التَّقْيِيد الْمَذْكُور
يكون أَيْضا أخص مِنْهُ إِلَّا أَن مَادَّة الِافْتِرَاق
حِينَئِذٍ تَنْحَصِر فِيمَا سيق لغير مَفْهُومه، بِخِلَاف
الأول، فَإِن الْمُفَسّر والمحكم كَذَلِك فِي مَادَّة
الِافْتِرَاق فَإِن قلت هَل يجوز إرجاع الْمَرْفُوع الثَّانِي
إِلَى النَّص قلت لَا، لِأَنَّهُ يلْزم حِينَئِذٍ كَون
الظَّاهِر على إِطْلَاقه قسما من النَّص لعدم مَا يُقَيِّدهُ،
مَعَ أَنه مضى تَفْسِيره قَرِيبا، وَلَا يحْتَاج إِلَى
التَّفْسِير ثَانِيًا، وَلَيْسَ من دأب المُصَنّف مثل هَذَا
التّكْرَار ثمَّ لما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة أَن يُقَال كَيفَ
يكون ظَاهر الشَّافِعِيَّة قسما من نَص الْحَنَفِيَّة مَعَ
تصريحهم بقطعية دلَالَة النَّص أَفَادَ أَن لَا مُنَافَاة
بَينهمَا بقوله (وَإِن اخْتلفُوا) أَي الْحَنَفِيَّة
وَالشَّافِعِيَّة (فِي قَطْعِيَّة دلَالَته) أَي النَّص
(وظنيتها) أَي دلَالَته، ثمَّ أَفَادَ وَجه التَّوْفِيق بقوله
(وَالْوَجْه أَنه) أَي الْخلاف والنزاع الْمَذْكُور (لَفْظِي)
أَي مَنْسُوب إِلَى اللَّفْظ بِاعْتِبَار مَا يُوهم ظَاهره،
وَلَا خلاف فِي الْمَعْنى لعدم اتِّحَاد مورد الْقطع وَالظَّن
(فالقطعية) الَّتِي ذكرهَا الْحَنَفِيَّة (للدلالة) أَي
لدلَالَة هَذَا الْقسم من النَّص على مَعْنَاهُ (والظنية)
الَّتِي ذكرهَا الشَّافِعِيَّة (بِاعْتِبَار الْإِرَادَة)
وَأَيْنَ الدّلَالَة من الْإِرَادَة؟ فَإِن دلَالَة اللَّفْظ
الْمَوْضُوع على مَعْنَاهُ بعد الْعلم بِالْوَضْعِ لَا تنفك
عَنهُ قطعا، بِخِلَاف إِرَادَة مَا وضع لَهُ، فَإِنَّهُ قد
يصرف عَنهُ الْقَرِينَة الصارفة إِلَى مَا تعينه الْمعينَة
(فَلَا اخْتِلَاف) فِي الْمَعْنى هَذَا، وَيرد عَلَيْهِ أَن
القطعية بِاعْتِبَار الدّلَالَة لَا تخص النَّص، بل الظَّاهِر
أَيْضا دلَالَة قَطْعِيَّة بالتأويل الْمَذْكُور،
وَالِاحْتِمَال بِاعْتِبَار الْإِرَادَة فَتدبر (واستمروا) أَي
الشَّافِعِيَّة (على إِيرَاد المؤول قرينا لَهُ) أَي
الظَّاهِر، (فَيُقَال الظَّاهِر، والمؤول كالخاص وَالْعَام)
أَي كَمَا اسْتمرّ الأصوليون على إِيرَاد الْعَام قرينا للخاص
(لإِفَادَة الْمُقَابلَة) بَين الظَّاهِر والمؤول (فَيلْزم فِي
الظَّاهِر عدم الصّرْف) أَي لما جعلُوا الظَّاهِر مُقَابلا
للمؤول لزم أَن يعْتَبر فِي مَفْهُوم الظَّاهِر عدم الصّرْف
عَن مَعْنَاهُ الظَّاهِر تَحْقِيقا للمقابلة، فَإِن الصّرْف
عَن الظَّاهِر مُعْتَبر فِي مَفْهُوم المؤول (وَإِلَّا) أَي
وَإِن لم يعْتَبر عدم الصّرْف فِي الظَّاهِر (اجْتمعَا) أَي
الظَّاهِر والمؤول فِي لفظ وَاحِد، والمتقابلان لَا
يَجْتَمِعَانِ، بَيَان الْمُلَازمَة مَا أَشَارَ إِلَيْهِ
بقوله (إِذْ المصروف) أَي اللَّفْظ الَّذِي صرف عَن مَعْنَاهُ
الَّذِي دلَالَته عَلَيْهِ ظنية إِلَى معنى يحْتَملهُ
احْتِمَالا مرجوحا لدَلِيل يَقْتَضِيهِ (لَا تسْقط دلَالَته
على) الْمَعْنى (الرَّاجِح) يَعْنِي أَن دلَالَته عَلَيْهِ بعد
الصّرْف لم تَتَغَيَّر عَن حَالهَا، لِأَن الصّرْف بِاعْتِبَار
الْإِرَادَة فَقَط كَمَا عرفت، وَأما الدّلَالَة وَفهم
الْمَعْنى فَلَا يتَصَوَّر أَن يصرف عَنْهَا بعد الْعلم
بِالْوَضْعِ (فَيكون) اللَّفْظ المصروف عَن الظَّاهِر
(بِاعْتِبَارِهِ) أَي كَونه دَالا على الرَّاجِح (ظَاهرا) لصدق
تَعْرِيفه عَلَيْهِ، لَان الْمَفْرُوض عدم اعْتِبَار مَا يحصل
بِهِ التقابل فِي الْمَفْهُوم (وَبِاعْتِبَار الحكم
بِإِرَادَة) الْمَعْنى (الْمَرْجُوح) الَّذِي يحْتَملهُ
احْتِمَالا مرجوحا (مؤوّلا) ، وَلَا يعلم أَنه لَا يحصل
التباين بَين الْقسمَيْنِ إِلَّا بِاعْتِبَار الصّرْف وجودا
وعدما
(1/142)
فِي مفهومهما فَإِن قلت قد سبق أَن ظنية
دلَالَة الظَّاهِر عِنْد الشَّافِعِيَّة الْإِرَادَة والمصروف
تسْقط دلَالَته على الرَّاجِح من حَيْثُ أَنه مُرَاد قلت
المصروف من حَيْثُ ذَاته من غير أَن يُلَاحظ مَعَه الصَّارِف
يدل دلَالَة ظنية على أَن الرَّاجِح مُرَاد مِنْهُ، وَمُرَاد
المُصَنّف صدق التَّعْرِيف بِهَذَا الِاعْتِبَار، لَا مَعَ
مُلَاحظَة الصَّارِف فَإِن قيل لَا بَأْس باجتماع المتقابلين
باعتبارين وَإِنَّمَا الْمَحْذُور اجْتِمَاعهمَا بِاعْتِبَار
وَاحِد قلت هَذَا إِذا كَانَ التَّقْسِيم اعتباريا، وَأما إِذا
كَانَ حَقِيقِيًّا فَلَا بُد أَن لَا يجتمعا أصلا، وَالْأَصْل
فِي التَّقْسِيم أَن يكون حَقِيقِيًّا، كَيفَ والتباين بَين
أَحْكَام الْأَقْسَام يستدعى التباين بَينهَا؟ نعم تَارَة
تَسْتَلْزِم ذَلِك عِنْد الضَّرُورَة كَمَا لزم الْمصير
إِلَيْهِ بَين الْأَقْسَام الْمَذْكُورَة على رَأْي
الْمُتَقَدِّمين (وَتقدم المؤول عِنْد الْحَنَفِيَّة) وَهُوَ
مَا بَين بظني بِمَا فِيهِ خَفَاء على مَا مر قَرِيبا (وَلَا
يُنكر إِطْلَاقه) أَي المؤول (على) اللَّفْظ (المصروف) عَن
ظَاهره (أَيْضا أحد) فَاعل لَا يُنكر، فالمؤول لَهُ مَعْنيانِ:
أَحدهمَا مَخْصُوص بالحنفية، وَالْآخر مُشْتَرك بَينهم وَبَين
غَيرهم. وَقَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ: إِن التَّأْوِيل
احْتِمَال يعضده دَلِيل يصير بِهِ أغلب على الظَّن من
الْمَعْنى الَّذِي دلّ عَلَيْهِ الظَّاهِر، وَفِيه مُسَامَحَة
لِأَن التَّأْوِيل إِنَّمَا هُوَ الْحمل على الِاحْتِمَال
الْمَرْجُوح، لَا نَفسه فَإِنَّهُ شَرطه، إِذْ لَا يَصح حمل
اللَّفْظ على مَا لَا يحْتَملهُ، وَيرد على عَكسه التَّأْوِيل
الْمَقْطُوع بِهِ، وَيُمكن دَفعه بِأَنَّهُ اكْتفى بِذكر
الْأَدْنَى، فَيعلم الْأَعْلَى بِالطَّرِيقِ الأولى إِلَّا
أَنه ذكر الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ أَن التَّأْوِيل ظن
بالمراد، وَالتَّفْسِير قطع بِهِ، ثمَّ هَذَا هُوَ التَّأْوِيل
الصَّحِيح، وَأما التَّأْوِيل الْفَاسِد فَهُوَ حمله على
الْمَرْجُوح بِلَا دَلِيل، أَو بِدَلِيل مَرْجُوح، أَو مسَاوٍ
(وَالنَّص) عِنْد الشَّافِعِيَّة مَا دلّ على معنى (بِلَا
احْتِمَال) لغيره، وَلذَا فسروه بِمَا دلّ دلَالَة قَطْعِيَّة،
فَإِن عدم احْتِمَال الْغَيْر يستدعى الْقطع فَهُوَ (كالمفسر
عِنْد الْحَنَفِيَّة) فِي عدم احْتِمَال معنى آخر، لَا من كل
وَجه فَلَا يرد أَن ظُهُور الْمَعْنى والسوق لَهُ مُعْتَبر
فِيهِ عِنْد الْحَنَفِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة لم يعتبروا ذَلِك
فِي النَّص (لَا النَّص) عِنْدهم (فَإِنَّهُ) أَي النَّص
عِنْدهم (يحْتَمل الْمجَاز باتفاقهم) أَي الْحَنَفِيَّة،
ويخرجه الِاحْتِمَال عَن كَونه قَطْعِيّ الدّلَالَة (وَعلمت)
من قَوْلنَا: القطعية للدلالة، والظنية بِاعْتِبَار
الْإِرَادَة (أَنه) أَي احْتِمَال الْمجَاز (لَا يُنَافِي
القَوْل بقطعيته) أَي بقطعية النَّص بِاعْتِبَار الدّلَالَة
(وَقد يفسرون) أَي الشَّافِعِيَّة (الظَّاهِر بِمَا لَهُ
دلَالَة وَاضِحَة، فالنص قسم مِنْهُ عِنْدهم) أَي الظَّاهِر
حِينَئِذٍ. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ لِأَن
الدّلَالَة الْوَاضِحَة أَعم من الظنية والقطعية انْتهى،
فَيتَّجه أَنه يجوز عدم وضوح الْمَعْنى المُرَاد قطعا، فَكيف
بأخصية النَّص مُطلقًا، وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَنَّهُ
مُجَرّد احْتِمَال فَلَا يصلح للنقض فَتَأمل (والمحكم) عِنْدهم
(أَعم يصدق على كل مِنْهُمَا) أَي الظَّاهِر، وَالنَّص (وَلَا
يُنَافِي التَّأْوِيل أَيْضا فَهُوَ) أَي الْمُحكم (عِنْدهم)
أَي الشَّافِعِيَّة
(1/143)
(مَا استقام نظمه للإفادة وَلَو
بِتَأْوِيل) فَإِن المؤول بالتأويل الصَّحِيح قد استقام نظمه
للإفادة. وَقَالَ القَاضِي عضد الدّين: الْمُحكم هُوَ المتضح
الْمَعْنى سَوَاء كَانَ نصا أَو ظَاهرا، والمتشابه غير المتضح
الْمَعْنى، وَمِنْهُم من قَالَ الْمُحكم: مَا استقام نظمه
للإفادة وَهُوَ حق، لَكِن مَا يُقَابله من الْمُتَشَابه يكون
مَا احْتمل نظمه لعدم الإفادة. وَقَالَ الْمُحَقق
التَّفْتَازَانِيّ: وَالظَّاهِر أَن القَوْل باخْتلَاف نظم
الْقُرْآن مِمَّا لَا يصدر عَن الْمُسلم، بل الْمُقَابل مَا
استقام نظمه لَا للإفادة، فَيكون الْمُحكم مَا انتظم وترتب
للإفادة: إِمَّا من غير تَأْوِيل أَو مَعَ التَّأْوِيل،
والمتشابه: مَا انتظم وترتب لَا للإفادة، بل للابتلاء
وَالْمرَاد بالنظم: اللَّفْظ كَمَا فِي التَّلْوِيح
(وَالْحَنَفِيَّة أوعب وضعا للحالات) من قَوْلهم: وعبه،
وأوعبه، واستوعبه: أَخذه أجمع، وَقَوله وضعا تَمْيِيز عَن
نِسْبَة أوعب إِلَى ضمير الْحَنَفِيَّة، وَقَوله للحالات صلَة
الْوَضع، فَالْمَعْنى وضعهم الْأَلْفَاظ الاصطلاحية بِإِزَاءِ
الْمعَانِي الْحَاصِلَة من تنوع أَحْوَال الْأَدِلَّة أوعب،
وأشمل من وضع الشَّافِعِيَّة لَهَا: نقل الشَّارِح عَن
المُصَنّف أَنه قَالَ: وَلذَا كَانَê
أَقسَام مَا ظهر مَعْنَاهُ أَرْبَعَة متباينة عِنْد
الْمُتَأَخِّرين، وَعند الشَّافِعِيَّة لَيْسَ فِي الْخَارِج
إِلَّا قِسْمَانِ، لِأَن الْمُحكم أَعم من الظَّاهِر وَالنَّص،
وَلَا يتَحَقَّق إِلَّا فِي ضمن أَحدهمَا وَالْمرَاد من
الْحَالَات حَالَة احْتِمَال غير الوضعي، وَحَالَة سوقه لشَيْء
من مَفْهُومه أَو غَيره، وَحَالَة عدم سوقه لمفهومه، وَحَالَة
عدم احْتِمَال النّسخ واحتماله انْتهى (وَمَوْضِع الِاشْتِقَاق
يرجح قَوْلهم فِي الْمُحكم) أَي رِعَايَة الْمُنَاسبَة بَين
مَا اشتق مِنْهُ الْأَسَامِي الْمَذْكُورَة ومسمياتها يرجح
قَول الْحَنَفِيَّة فِي الْمُحكم، وَقَوله فِي الْمُحكم إِمَّا
مُتَعَلق بقَوْلهمْ، وَهُوَ الْأَقْرَب، أَو يرجح، أَو
بِمَحْذُوف هُوَ صفة الْمُبْتَدَأ، وَذَلِكَ لِأَن مَا لَا
يحْتَمل تَخْصِيصًا وَلَا تَأْوِيلا وَلَا نسخا كَأَن
الْأَحْكَام فِيهِ أتم وأكمل، بِخِلَاف مَا يحْتَمل شَيْئا
مِنْهَا.
بَقِي أَن المُصَنّف لم يذكر لَهُم الْمُفَسّر، وَفِي
الْمَحْصُول أَن لَهُ مَعْنيين: أَحدهمَا مَا احْتَاجَ إِلَى
التَّفْسِير، وَقد ورد تَفْسِيره، وَثَانِيهمَا الْكَلَام
الْمُبْتَدَأ المستغنى عَن التَّفْسِير لوضوحه انْتهى
وَالظَّاهِر أَن المُصَنّف لم يلْتَفت إِلَيْهِ لعدم شهرته
عِنْدهم، على أَنه لَا حَاجَة فِيهِ إِلَى ارْتِكَاب اصْطِلَاح
مِنْهُم، بل اللُّغَة كَافِيَة فِيهِ.
(تَنْبِيه) على تَفْصِيل للتأويل (وقسموا) أَي الشَّافِعِيَّة
(التَّأْوِيل إِلَى قريب) من الْفَهم (وبعيد) عَنهُ (ومتعذر)
فهمه (غير مَقْبُول) عِنْد الْأُصُولِيِّينَ (قَالُوا) أَي
الشَّافِعِيَّة (وَهُوَ) أَي المعتذر (مَا لَا يحْتَملهُ
اللَّفْظ) لعدم وَضعه لَهُ، وَعدم العلاقة بَينه وَبَين مَا
وضع لَهُ (وَلَا يخفى أَنه) أَي مَا لَا يحْتَملهُ اللَّفْظ
(لَيْسَ من أقسامه) أَي التَّأْوِيل (وَهُوَ) أَي التَّأْوِيل
مُطلقًا (حمل الظَّاهِر على الْمُحْتَمل الْمَرْجُوح) على مَا
مر فَلَا بُد من الِاحْتِمَال وَلَو مرجوحا (إِلَّا
(1/144)
أَن يعرف) التَّأْوِيل (بِصَرْف اللَّفْظ
عَن ظَاهره فَقَط) من غير اعْتِبَار حمله على الْمُحْتَمل
فَيصدق عَلَيْهِ حِينَئِذٍ، ثمَّ أَنهم قَالُوا حمل الظَّاهِر،
لِأَن النَّص لَا يحْتَمل التَّأْوِيل عِنْدهم، وَتَعْيِين أحد
مدلولي الْمُشْتَرك لَا يُسمى تَأْوِيلا، وَقيد بالمجروح لِأَن
مَا يحمل على الرَّاجِح ظَاهر (ثمَّ ذكرُوا من الْبَعِيدَة
تأويلات) وَاقعَة (للحنفية) مِنْهَا قَوْلهم (فِي قَوْله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لغيلان ابْن سَلمَة الثَّقَفِيّ وَقد
أسلم) حَال كَونه (على عشر) من النِّسَاء على مَا كَانُوا
عَلَيْهِ من عَادَة الْجَاهِلِيَّة (أمسك أَرْبعا، وَفَارق
سائرهن) مقول قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرَوَاهُ ابْن
مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم (أَي
ابتدئ نِكَاح أَربع، أَو أمسك الْأَرْبَع الأول) مقول قَوْلهم
فِي مقَام التَّأْوِيل تَفْسِيرا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم " أمسك إِلَى آخِره " فسروا الْإِمْسَاك بِالْأَمر
بابتداء نِكَاح أَربع مِنْهُنَّ على تَقْدِير علمه بِأَنَّهُ
تزوجهن بِعقد وَاحِد لفساد نِكَاح الْكل حِينَئِذٍ بِقَرِينَة
أَن إمساكهن لَا يجوز بِدُونِهِ، فَإِن الْأَمر بِمَا
يتَوَقَّف جَوَازه على شَيْء أَمر بذلك الشَّيْء أَو بإمساك
الْأَرْبَع الأول على تَقْدِير علمه بِأَنَّهُ تزوجهن بعقود
مُتَفَرِّقَة، لِأَن الْفساد حِينَئِذٍ فِيمَا بعد الْأَرْبَع
(فَإِنَّهُ يبعد أَن يُخَاطب بِمثلِهِ) أَي بِمثل هَذَا
الْكَلَام المصروف عَن ظَاهره إِلَى مَا يتَوَقَّف فهمه على
معرفَة الشرعيات مُخَاطب (متجدد) دُخُوله (فِي الْإِسْلَام
بِلَا بَيَان) لما أُرِيد بِهِ، فَإِن الظَّاهِر من الْأَمر
بالإمساك اسْتِدَامَة أَربع مِنْهُنَّ: أَي أَربع شَاءَ مَعَ
عدم الْقَرِينَة الصارفة عَن الظَّاهِر، لِأَن الْمَفْرُوض عدم
معرفَة الْمُخَاطب الْقَوَاعِد الشَّرْعِيَّة، فَقَوله
فَإِنَّهُ إِلَى آخِره تَعْلِيل لبعد التَّأْوِيل، وَقيل فِي
تأييد الْبعد مَعَ أَنه لم ينْقل تَجْدِيد فَقَط، لَا مِنْهُ
وَلَا من غَيره أصلا مَعَ كَثْرَة إِسْلَام الْكَفَرَة
المتزوجين (و) مِنْهَا قَوْلهم فِي (قَوْله) صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم (لفيروز الديلمي وَقد أسلم على أُخْتَيْنِ: أمسك
أَيَّتهمَا شِئْت) حذف مقولهم لوضوحه: أَي ابتدئ نِكَاح من
شِئْت مِنْهُمَا، بِنَاء على فرض علمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بتزوجه إِيَّاهَا فِي عقد وَاحِد، لِأَنَّهُ لَو تزوجهما فِي
عقدين لبطل نِكَاح الثَّانِيَة فَقَط وَتعين إمْسَاك الأولى.
قَالَ الشَّارِح ثمَّ هَذَا اللَّفْظ وَإِن لم يحفظ فقد حفظ
مَعْنَاهُ، وَهُوَ " اختر أَيَّتهمَا شِئْت " كَمَا هُوَ
رِوَايَة التِّرْمِذِيّ (أبعد) خبر مَحْذُوف: أَي هَذَا أبعد
من الأول، وَذَلِكَ لما فِيهِ من تَفْسِير الْإِمْسَاك بابتداء
النِّكَاح وَفرض أَنه تزوجهما فِي عقد وَاحِد، واطلاعه صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم على ذَلِك كَمَا فِي التَّأْوِيل الأول من
نَحْو مَا ذكر على أحد تقديريه، وَمَا يحذو حذوه على الآخر،
وَهُوَ إمْسَاك أَربع مُعينَة لفرض اطِّلَاعه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم على أَنه تزوجهن فِي عُقُود مُتَفَرِّقَة مَعَ
زِيَادَة شَيْء آخر هُنَا، وَهُوَ التَّصْرِيح بقوله "
أَيَّتهمَا شِئْت " فَإِنَّهُ يدل على أَن التَّرْتِيب غير
مُعْتَبر كَذَا ذكرُوا، وَفِيه نظر لِأَن التَّخْيِير
الْمُسْتَفَاد من أَيَّتهمَا شِئْت إِذا كَانَ مَبْنِيا على
اطِّلَاعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَنه
(1/145)
تزوجهما فِي عقد وَاحِد لَا يدل على أَن
التَّرْتِيب بَينهمَا فِي العقد غير مُعْتَبر فِي جَوَاز
إمْسَاك إِحْدَاهمَا بِلَا تَجْدِيد عقد، وَإِنَّمَا كَانَ يدل
عَلَيْهِ لَو لم يعلم بذلك، فَإِنَّهُ كَانَ يُقَال حِينَئِذٍ
تخييره فِي تعْيين إِحْدَاهمَا من غير أَن يسْأَل عَن
التَّرْتِيب وَعَدَمه دَال على مَا ذكر، وَالْوَجْه أَن يُقَال
إِن كَون الْأَمر بالإمساك مَبْنِيا على اطِّلَاعه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَمر بعيد، وَلَا بُد من ارتكابه فِي الحَدِيث
الثَّانِي، بِخِلَاف الأول لعدم التَّنْصِيص على تَعْمِيم
مُتَعَلق التَّخْيِير فِيهِ، لِأَن قَوْله: أَرْبعا يصلح لِأَن
يُرَاد بِهِ أَربع مُعينَة أَو غير مُعينَة، فَكَأَنَّهُ قيل
لَهُ: إِن كنت عقدتهن فِي عقد وَاحِد فاختر أَي أَربع شِئْت،
أَو فِي عُقُود فالأربع الأول لَا يُقَال كَيفَ يُخَاطب بِمثل
هَذَا المتجدد فِي الْإِسْلَام، فَإِن هَذَا الاستبعاد
مُشْتَرك بَين الْحَدِيثين، غير أَن الثَّانِي أبعد، لِأَنَّهُ
لَا مخلص فِيهِ من فرض الِاطِّلَاع الْمَذْكُور، بِخِلَاف
الأول (و) مِنْهَا (قَوْلهم فِي) قَوْله تَعَالَى {فإطعام
سِتِّينَ مِسْكينا} فِي كَفَّارَة الظِّهَار (إطْعَام طَعَام
سِتِّينَ) مقول لَهُم فِي التَّأْوِيل وَحَاصِله حذف مَا أضيف
إِلَيْهِ الْإِطْعَام، وَهُوَ الْمُضَاف إِلَى سِتِّينَ، لِأَن
9 الْإِطْعَام إِذا أضيف إِلَى سِتِّينَ يلْزم اعْتِبَار
الْعدَد الْمَخْصُوص، لِأَنَّهُ إِذا أعْطى لوَاحِد طَعَام
سِتِّينَ لَا يَصح أَن يُقَال: أطْعم سِتِّينَ مِسْكينا، بل
يَصح أَن يُقَال: أطْعم طَعَام سِتِّينَ مِسْكينا فَإِن قلت
كَمَا أَن إِضَافَة الْإِطْعَام إِلَى السِّتين تَسْتَلْزِم
اعْتِبَار عدم تحقق الْعدَد كَذَلِك إِضَافَة الطَّعَام
إِلَيْهَا يستلزمه، فَلَا يَصح إطْعَام طَعَام سِتِّينَ قلت
يُرَاد بِطَعَام سِتِّينَ فِي عرف اللُّغَة مَا يكفيهم،
والمدار على الْعرف، وَالْمرَاد بِالْإِطْعَامِ حِينَئِذٍ:
الْإِعْطَاء وَالْمعْنَى: فكفارته إِعْطَاء هَذَا الْمِقْدَار
من الطَّعَام، فَيجوز أَن يُعْطي لوَاحِد، والداعي إِلَى
ارْتِكَاب خلاف الظَّاهِر أَن الْمَقْصُود دفع سِتِّينَ حَاجَة
من حاجات الْمَسَاكِين (وحاجة وَاحِد فِي سِتِّينَ يَوْمًا
حَاجَة سِتِّينَ) وَالْحمل فِيهِ إِمَّا كَقَوْلِهِم: زيد
أَسد، وَالْمعْنَى كحاجة سِتِّينَ فِي حُصُول الْمَقْصُود
وَالْعبْرَة بِهِ، وَإِمَّا بِدُونِ الْحَذف بِأَن يكون
المُرَاد بحاجة سِتِّينَ مَا يكفيهم كَمَا قُلْنَا فِي طَعَام
سِتِّينَ، وَهُوَ الْأَظْهر، وَذكر سِتِّينَ يَوْمًا لتجدد
الْحَاجَات بتجدد الْأَيَّام (مَعَ إِمْكَان قَصده) أَي من
الْبَعِيدَة قَوْلهم بِهَذَا التَّأْوِيل الملغي اعْتِبَار
خُصُوص الْعدَد الْمَذْكُور مَعَ إِمْكَان مقصوديته للشارع
(لفضل الْجَمَاعَة) تَعْلِيل للقصد، يَعْنِي إِذا أعْطى طَعَام
السِّتين للستين أدْرك فَضِيلَة تطييب قُلُوب الْجَمَاعَة
الْكَثِيرَة (وبركتهم) أَي بركَة دُعَائِهِمْ (وتضافر
قُلُوبهم) أَي تظافرها وتعاضدها (على الدُّعَاء لَهُ) أَي
للمكفر (وَعُمُوم الِانْتِفَاع) وشموله للعدد الْمَذْكُور
مَعْطُوف على فضل الْجَمَاعَة (دون الْخُصُوص) أَي دون خُصُوص
الِانْتِفَاع بِأَن يعْطى وَاحِدًا طَعَام سِتِّينَ، وَيُمكن
أَن يُرَاد بالخصوص مَا دون السِّتين، لِأَنَّهُ فِي مُقَابلَة
الْعُمُوم بِمَعْنى الشُّمُول للستين (و) مِنْهَا (قَوْلهم فِي
نَحْو فِي أَرْبَعِينَ شَاة شَاة) كَذَا فِي كتاب رَسُول الله
(1/146)
سقط
(1/147)
سقط
(1/148)
على أَن الْمَقْصُود (بَيَان المصارف)
فَإِنَّهُم حِين لمزوا وَزَعَمُوا أَن الَّذين أعْطوا مِنْهَا
لَيْسُوا من مصارفها، وَإِنَّمَا أعْطوا بِمُوجب هوى النَّفس،
فسيق الْكَلَام (لدفع وهم أَنهم) أَي المعطين (يختارون) من
يحبونَ، وَمن يبغضون (فِي الْعَطاء وَالْمَنْع) عَنهُ (ورد)
الدّفع الْمَذْكُور (بِأَنَّهُ) أَي كَون السِّيَاق لما ذكر
(لَا يُنَافِي الظَّاهِر فَلَا يصلح صارفا عَنهُ) . وَقَالَ
الْآمِدِيّ إِن سلمنَا أَنه لبَيَان الْمصرف، فَلَا نسلم أَنه
لَا مَقْصُود سواهُ، فَلْيَكُن الِاسْتِحْقَاق بِصفة
التَّشْرِيك أَيْضا مَقْصُودا عملا بِظَاهِر اللَّفْظ انْتهى
ثمَّ ذكر المُصَنّف رَحمَه الله الرَّد الْمَذْكُور بقوله:
(وَلَا يخفى أَن ظَاهره) أَي ظَاهر قَوْله تَعَالَى -
{إِنَّمَا الصَّدقَات} - الْآيَة (من الْعُمُوم) بَيَان
لظاهره: أَي عُمُوم الصَّدقَات، وَعُمُوم الْفُقَرَاء،
والمذكورين بِمَعْنى أَن كل صَدَقَة يَسْتَحِقهَا كل فَقير،
وكل مِسْكين إِلَى غير ذَلِك (مُنْتَفٍ اتِّفَاقًا) أَي غير
مُرَاد إِجْمَاعًا (ولتعذره) أَي الْعُمُوم (حملوه) أَي
الشَّافِعِيَّة الْعُمُوم فيهم (على ثَلَاثَة من كل صنف) من
الثَّمَانِية إِذا كَانَ المفرق غير الْمَالِك ووكيله ووجدوا
(وَهُوَ) أَي حملهمْ هَذَا (بِنَاء على أَن معنى الْجمع
مُرَاد) بِلَفْظِهِ (مَعَ اللَّام) حَال عَن ضمير مُرَاد،
وَهَذَا من قبيل معية الْمَدْلُول، والمتصل بداله، وَيجوز أَن
يكون حَالا عَن لَفظه الْمُقدر كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ
(والاستغراق) مَعْطُوف على معنى الْجمع، أَو على ضمير مُرَاد،
وَترك التَّأْكِيد بالمنفصل لوُقُوع الْفَصْل وَالْمعْنَى أَن
الْجمع الْمحلي بِاللَّامِ يُرَاد بِهِ معنى الْجمع،
والاستغراق أَيْضا إِن لم يمْنَع مَانع (وَهُوَ) أَي
الِاسْتِغْرَاق (مُنْتَفٍ) هَهُنَا بِالْإِجْمَاع كَمَا عرفت
وَلَا يخفى أَن هَذَا على خلاف مَا هُوَ الْمَشْهُور أَن
اللَّام تبطل الجمعية، وَتَكون اللَّام لاستغراق الْآحَاد، لَا
الْمَجْمُوع، وَلذَا قَالُوا: أَن أشملية استغراق الْمُفْرد
فِي مثل: لَا رجل فِي الدَّار فِي لَا، كَمَا فِي الجموع
المحلاة بِاللَّامِ، فَإِن استغراقها كاستغراق الْمُفْرد،
وَلَا فرق بَين يحب الْمُحْسِنِينَ وَيُحب كل محسن فِي معنى
الِاسْتِغْرَاق: نعم يفرق بَينهمَا بِاعْتِبَار أَحْكَام لفظية
كَمَا فِي مَوْضِعه، وَيُمكن أَن يكون الْمَعْنى إِن معنى
الْجمع مُرَاد بِلَفْظِهِ مَعَ اللَّام إِذا لم يقْصد
الْعُمُوم، والاستغراق مُرَاد إِذا قصد، فاشتراكهما فِي
الْإِرَادَة بِالْجمعِ الْمحلي على سَبِيل الْبَدَلِيَّة لَا
الِاجْتِمَاع فَتَأمل، ثمَّ أَنه لما انْتَفَى الِاسْتِغْرَاق
وَبقيت الجمعية، وأقلها ثَلَاثَة حمل عَلَيْهَا لتيقنها،
وَذَلِكَ فِيمَا عدا الصَّدقَات من الجموع الْمَذْكُورَة
بعْدهَا (وَكَونه) أَي اللَّام مَعْطُوف على قَوْله ظَاهره
(للتَّمْلِيك لغير معِين) على مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ (أبعد)
مِمَّا ذهب إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّة من التَّأْوِيل الَّذِي
سَمَّاهُ الْخصم بَعيدا وَلَيْسَ فِي هَذَا اعْتِرَاف بالبعد،
بل كَقَوْلِه تَعَالَى - {مَا عِنْد الله خير من اللَّهْو} -،
ثمَّ بَين كَونه أبعد بقوله (ينبو عَن الشَّرْع وَالْعقل) أَي
يقصر عَن تَوْجِيهه، من قَوْلهم نبا السهْم عَن الهدف: أَي
قصر، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم يعْهَد مثله فِي الشَّرْع، وَغير
الْمعِين من حَيْثُ
(1/149)
إِنَّه غير معِين لَا وجود لَهُ، وَمن
حَيْثُ التَّحْقِيق فِي ضمن الْفَرد يتَعَيَّن، فَيلْزم ثُبُوت
الْملك لأشخاص مُعينَة، وَلَا يُمكن أَن يثبت لجَمِيع
الْأَفْرَاد، فَيلْزم تَرْجِيح بَعْضهَا من غير مُرَجّح فينبو
عَنهُ الْعقل أَيْضا، وكما أَنه لَا يُمكن اعْتِبَار الْملك
لغير معِين، كَذَلِك لَا يُمكن اعْتِبَار الِاسْتِحْقَاق لَهُ
(فالمستحق الله تَعَالَى وَأمر بِصَرْف مَا يسْتَحقّهُ إِلَى
من كَانَ من الْأَصْنَاف الْمَذْكُورَة، وَذَلِكَ لوُرُود
النُّصُوص فِي إِيجَاب الزَّكَاة فِي أَمْوَال الْأَغْنِيَاء
وصرفها إِلَى الْفُقَرَاء، فالزكاة عبَادَة، وَالْعِبَادَة
خَالص حق الله تَعَالَى، فَلَا يجب للْفُقَرَاء ابْتِدَاء،
وَإِنَّمَا يصرف إِلَيْهِم إنجازا لعدة أَرْزَاقهم (فَإِن
كَانُوا) أَي الْأَصْنَاف الْمَذْكُورَة (بِهَذَا الْقدر) أَي
بِمُجَرَّد أَمر الله تَعَالَى بِصَرْف مَا يسْتَحقّهُ
إِلَيْهِم (مستحقين) للصدقات (فبلا ملك) أَي فاستحقاقهم بِلَا
ملك فَلم يثبت مدعى الْخصم من حمل الْكَلَام على الظَّاهِر،
وَهُوَ الْملك، وَفِي قَوْله: إِن كَانُوا إِشَارَة إِلَى منع
استحقاقهم بِهَذَا الْقدر (وَدون اسْتِحْقَاق الزَّوْجَة
النَّفَقَة) مَعْطُوف على قَوْله بِلَا ملك يَعْنِي إِذا كَانَ
استحقاقهم بِمُجَرَّد الْأَمر كَانَ دون اسْتِحْقَاقهَا
لاشْتِرَاكهمَا فِي الْأَمر، ومزية اسْتِحْقَاقهَا لتعيين
الْمُسْتَحق وَهِي الزَّوْجَة دونهم (وَلَا تملك) على صِيغَة
الْمَعْلُوم: أَي الزَّوْجَة، أَو الْمَجْهُول: أَي النَّفَقَة
(إِلَّا بِالْقَبْضِ) يرد عَلَيْهِ أَن الْخصم يَكْفِيهِ أدنى
دَرَجَات الِاسْتِحْقَاق وأنكم مَا نفيتموه بِالْكُلِّيَّةِ،
وَذَلِكَ لِأَن كَون اللَّام لاسْتِحْقَاق يقربهُ إِلَى
الْحَقِيقَة، فَلَا يضرّهُ كَون استحقاقهم دون اسْتِحْقَاق
الزَّوْجَة: فَالْوَجْه نفي الِاسْتِحْقَاق رَأْسا كَمَا
أَشَرنَا إِلَيْهِ إِمَّا لما ذكرنَا، وَإِمَّا لِأَن
الْمُتَبَادر كَون الْآيَة لبَيَان الْمصرف نظرا إِلَى
السِّيَاق وَكَمَال ضعف الِاسْتِحْقَاق (وَلنَا آثَار صِحَاح
عَن عدَّة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ صَرِيحَة فِيمَا
قُلْنَا، وَلم يرو عَن أحد مِنْهُم خلَافَة) بعض الْفُقَهَاء
يُسمى الْمَوْقُوف على الصَّحَابِيّ أَو التَّابِعِيّ بالأثر،
وَالْمَرْفُوع بالْخبر، وَأما أهل الحَدِيث فيطلقون الْأَثر
عَلَيْهِمَا، وَقَوله: وَلنَا: أَي وَالْحجّة الثَّابِتَة لنا،
وآثار خبر الْمُبْتَدَأ، وصحاح صفة أثار، وَكَذَلِكَ صَرِيحَة،
أما الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَمنهمْ عمر رَضِي الله
عَنهُ، روى عَنهُ ابْن أبي شيبَة والطبري، وَمِنْهُم ابْن
عَبَّاس روى عَنهُ الْبَيْهَقِيّ والطبري، وَمِنْهُم
حُذَيْفَة، وَأما التابعون فَمنهمْ سعيد بن جُبَير وَعَطَاء
وَالنَّخَعِيّ وَأَبُو الْعَالِيَة وَمَيْمُون بن مهْرَان روى
عَنْهُم ابْن أبي شيبَة والطبري (وَلَا ريب فِي فعل رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخِلَاف قَوْلهم) أَي
الشَّافِعِيَّة ذكر أَبُو عبيد فِي كتاب الْأَمْوَال أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قسم الذهيبة الَّتِي بعث
بهَا معَاذ من الْيمن فِي الْمُؤَلّفَة فَقَط: الْأَقْرَع
وعيينة وعلقمة بن علاثة وَزيد الْخَلِيل) قَالَ الْمُؤلف
رَحمَه الله فِي شرح الْهِدَايَة: الْمُؤَلّفَة كَانُوا
ثَلَاثَة أَقسَام، قسم كفار كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يعطيهم لتأليفهم على الْإِسْلَام، وَقسم كَانَ يعطيهم لدفع
شرهم، وَقسم أَسْلمُوا وَفِيهِمْ ضعف فِي الْإِسْلَام، وَكَانَ
(1/150)
سقط
(1/151)
سقط
(1/152)
الحَدِيث (فَقلت لَهُ أَن سُلَيْمَان بن
مُوسَى حَدثنَا بِهِ عَنْك، فَقَالَ أخْشَى أَن يكون وهم
عَليّ، وَأثْنى على سُلَيْمَان) خيرا (فصمم) الزُّهْرِيّ على
الْإِنْكَار (وَمثله) أَي مثل هَذَا الْكَلَام مِمَّن روى
عَنهُ خبر إِنْكَار (فِي عرف الْمُتَكَلِّمين) من أَرْبَاب
اللِّسَان، أَو من أهل الْعلم سِيمَا الْمُحدثين الموثقين
بِالْحِفْظِ والإتقان (لَا شكّ) مَرْفُوع عطفا على إِنْكَار،
أَو مَبْنِيّ على الْفَتْح على أَن لَا لنفي الْجِنْس،
وَالْخَبَر مَحْذُوف، أَي لَا شكّ فِيهِ فَإِن قلت قَوْله
أخْشَى مشْعر بِعَدَمِ جزمه بِكَوْنِهِ وهما قلت عدم الْجَزْم
لَيْسَ بتجويز أَنه رَوَاهُ ثمَّ نسى، بل لاحْتِمَال أَن يكون
الْوَهم من ابْن جريج لَا من سُلَيْمَان، على أَن الْعدْل لَا
يقطع بِعَدَمِ تَعَمّده الْكَذِب، بل يظنّ بِهِ ثمَّ اعْلَم
أَن ابْن جريج أحد الْأَعْلَام الثِّقَات بِاتِّفَاق
الْمُحدثين، وَكَذَا ابْن عدي (أَو لمعارضة مَا هُوَ أصح) من
الحَدِيث الْمَذْكُور إِيَّاه عطف على قَوْله لضعف الحَدِيث،
فعلى هَذَا لَا يكون التَّأْوِيل بَعيدا لوُجُود مَا يدل
عَلَيْهِ وَهُوَ (رِوَايَة مُسلم) وَهُوَ بدل من الْمَوْصُول:
أَي مرويه، وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الأيم
أَحَق بِنَفسِهَا من وَليهَا، وَهِي) أَي الأيم (من لَا زوج
لَهَا بكرا كَانَت أَو ثَيِّبًا، وَلَيْسَ للْوَلِيّ حق فِي
نَفسهَا) أَي الأيم (سوى التَّزْوِيج) فَلَا يُقَال لم لَا
يجوز أَن يكون أحقيتها بِاعْتِبَار حق آخر؟ (فَجَعلهَا)
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَحَق بِهِ) أَي
بِالتَّزْوِيجِ (مِنْهُ) أَي من الْوَلِيّ (فَهُوَ) أَي حَدِيث
" أَيّمَا امْرَأَة " إِلَى آخِره دائر (بَين أَن يحمل) فِيهِ
من كلمة بَاطِل (على أول الْبطلَان) أَي على أَنه يَئُول إِلَى
الْبطلَان كَمَا مر (أَو يتْرك) الْعَمَل بِهِ (للمعارض
الرَّاجِح) وَمن لطف طبع المُصَنّف رَحمَه الله أَنه لم يرض
فِي جَوَاب حَدِيث " أَيّمَا امْرَأَة " بحملها على
الصَّغِيرَة، وَمَا ذكر مَعهَا لما فِيهِ من تَخْصِيص الْعَام
بِحَيْثُ يخرج من دَائِرَة عُمُومه أَكثر الْأَفْرَاد، وَيبقى
الْأَقَل الَّذِي لَا يتَبَادَر إِلَى الذِّهْن، وَلَا بإهمال
هَذَا التَّأْوِيل بِالْكُلِّيَّةِ، بل اسْتِعْمَاله فِي
الحَدِيث الْآتِي لملاءمته بِهِ كَمَا سَيظْهر، غير أَنه بَقِي
شَيْء، وَهُوَ أحقية الأيم بِنَفسِهَا لَا يَقْتَضِي أَن لَا
يكون للْوَلِيّ حق فِيهَا، لجَوَاز أَن يكون التَّزْوِيج
حَقّهمَا مَعًا، وَتَكون هِيَ أَحَق كَمَا يدل عَلَيْهِ
قَوْله: من وَليهَا. وَقد أَشَارَ المُصَنّف رَحمَه الله فِي
شرح الْهِدَايَة إِلَى مَا يصلح جَوَابا عَنهُ، وَهُوَ قَوْله:
أثبت لكل مِنْهَا وَمن الْوَلِيّ حَقًا فِي ضمن قَوْله أَحَق،
وَمَعْلُوم أَنه لَيْسَ للْوَلِيّ سوى مُبَاشرَة العقد إِذا
رضيت، وَقد جعلهَا أَحَق مِنْهُ بِهِ أَقُول للمناقشة مجَال،
فللخصم أَن يَقُول أحقيتها من الْوَلِيّ بِالتَّزْوِيجِ لَا
يسْتَلْزم أحقيتها مِنْهُ بِالْمُبَاشرَةِ، لِأَن التَّزْوِيج
لَيْسَ مُجَرّد الْمُبَاشرَة، بل هُوَ إتْمَام أحد ركني العقد،
وَهُوَ كَمَا يحْتَاج إِلَى الْمُبَاشرَة يحْتَاج إِلَى تحقق
الرِّضَا بالتمليك، فَلْيَكُن الرِّضَا حَقّهَا، والمباشرة
حَقه، وَلَا شكّ أَن الأَصْل هُوَ الرِّضَا، وَإِذا كَانَ
مُعظم أَمر التَّزْوِيج حَقّهَا تكون هِيَ أَحَق بِنَفسِهَا
فِي التَّزْوِيج
(1/153)
وَالله أعلم (وَأما الْحمل على الْأمة
وَمَا ذكر) مَعهَا من الصَّغِيرَة وَالْمُكَاتبَة (فَإِنَّمَا
هُوَ فِي لَا نِكَاح إِلَّا بولِي أَي من لَهُ ولَايَة) ذكرا
كَانَ أَو أُنْثَى، غير الْمَنْكُوحَة أَو نَفسهَا كَمَا إِذا
كَانَت حرَّة عَاقِلَة بَالِغَة (فَيخرج) من النِّكَاح
الْمُعْتَبر شرعا (نِكَاح العَبْد) لنَفسِهِ امْرَأَة (و)
نِكَاح (الْأمة) نَفسهَا بِغَيْر إِذن الْمولى، (و) نِكَاح
(مَا ذكر) من الصَّغِيرَة وَالْمُكَاتبَة، وَكَذَا الصَّغِير
وَالْمَجْنُون كَمَا سيشير إِلَيْهِ: وَذَلِكَ لعدم وَلَا
يتهم، وَقد انحصر النِّكَاح فِيمَا صدر عَن ولَايَة (وَإِذ
دلّ) الحَدِيث (الصَّحِيح) وَهُوَ مَا فِي مُسلم " الأيم أَحَق
بِنَفسِهَا " (على صِحَة مباشرتها) عقد النِّكَاح كَمَا مر من
تَقْرِيره من أَن الْوَلِيّ تصح مُبَاشَرَته وَهِي أَحَق بِهِ
مِنْهُ، وَصِحَّة الْمُبَاشرَة دَلِيل الْولَايَة فاشتراط
الْوَلِيّ فِي النِّكَاح لَيْسَ بمخرج نِكَاحهَا نَفسهَا
فَحِينَئِذٍ (لزم كَونه) أَي كَون شَرط الْوَلِيّ (لإِخْرَاج)
نِكَاح (الْأمة وَالْعَبْد والمراهقة) وَهِي من قُلُوب
الْبلُوغ، فَلَزِمَ إِخْرَاج من لم يُقَارِبه بِالطَّرِيقِ
الأولى (والمعتوهة) وَهِي من يخْتَلط كَلَامه وَأمره، وَكَذَا
نِكَاح الْمُرَاهق وَالْمَجْنُون وَلم يذكر الْمكَاتب
لِأَنَّهُ عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم فَإِن قلت إِذا خرج
نِكَاح هَؤُلَاءِ عَن النِّكَاح الشَّرْعِيّ، فَمَا معنى
الْحمل على الأية وَمَا ذكر فِي " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي "
وَفَائِدَة حمل النكرَة المنفية على بعض أفرادها وُرُود
النَّفْي على ذَلِك الْبَعْض خَاصَّة لعدم صِحَة نَفيهَا
مُطلقًا، وَهَذَا إِذا لم يكن فِي الْكَلَام مَا يبين مورد
النَّفْي وَالْإِثْبَات، وَقد تبين هَهُنَا بِالنَّفْيِ
وَالِاسْتِثْنَاء قلت لم يرد حمل النِّكَاح الْمَذْكُور فِي
لَا نِكَاح على مَا ذكر ليرد مَا قلت، بل أَرَادَ حمل
النِّكَاح الصَّادِر لَا عَن ولَايَة شَرْعِيَّة الْمَفْهُوم
ضمنا لاندراجه تَحت النَّفْي مَعَ عدم اندراجه فِي
الِاسْتِثْنَاء، فَهَذَا الْحمل تَفْسِير للمجمل، لَا تَخْصِيص
للعام، على أَنه لَو كَانَ من تَخْصِيص الْعلم بِدَلِيل نقيضه
فِي حَدِيث أَيّمَا امْرَأَة لم يكن فِيهِ بعد كَمَا أَشَارَ
إِلَيْهِ بقوله (وَتَخْصِيص الْعَام لَيْسَ من الِاحْتِمَالَات
الْبَعِيدَة) كَيفَ وَمَا من عَام إِلَّا وَقد خصص مِنْهُ
الْبَعْض (و) لَا سِيمَا (قد ألجأ إِلَيْهِ) أَي إِلَى
التَّخْصِيص (الدَّلِيل) وَهُوَ حَدِيث مُسلم الْمَذْكُور
وَعَن المُصَنّف رَحمَه الله أَنه يخص حَدِيث أَيّمَا امْرَأَة
بِمن نكحت غير الْكُفْء على قَول من لم يصحح مَا باشرته من غير
كُفْء، وَالْمرَاد بِالْبَاطِلِ حَقِيقَته أَو حكمه على قَول
من يُصَحِّحهُ وَيثبت للْوَلِيّ حق الْفَسْخ، كل ذَلِك شَائِع
فِي اطلاقات النُّصُوص، فَيثبت مَعَ الْمَنْقُول، وَالْوَجْه
الْمَعْنَوِيّ وَهُوَ أَنَّهَا تصرفت فِي خَالص حَقّهَا: وَهِي
من أَهله كَالْمَالِ فَيجب تَصْحِيحه مَعَ كَونه خلاف الأولى
(وَأما الزَّكَاة) أَي وَأما الدَّاعِي إِلَى اعْتِبَار
الْمَالِيَّة فِي الزَّكَاة (فَمَعَ الْمَعْنى النَّص) أَي
النَّص مَعَ الْمَعْنى، وكل مِنْهُمَا مُسْتَقل فِي
الْمَقْصُود وَقدم الْعقلِيّ لِأَنَّهُ منَاط النقلي (أما
الأول فللعلم) أَي اعْتِبَار الْقيمَة للْعلم (بِأَن الْأَمر
بِالدفع) أَي بِدفع الزَّكَاة (إِلَى الْفَقِير) فِي النُّصُوص
(إِيصَال لرزقهم الْمَوْعُود مِنْهُ سُبْحَانَهُ) فَإِن
الْمولى إِذا وعد
(1/154)
عَبده يُعْطِيهِ، ثمَّ أَمر من لَهُ حق
عَلَيْهِ بِإِعْطَاء مَا يصلح لِأَن يكون أَدَاء للموعود،
فَلَا شكّ فِي أَنه يحمل أمره على إنجاز وعده السَّابِق، لِأَن
الْمَوْعُود كالواجب فَلَا يقدم مَا لم يجب عَلَيْهِ،
وَإسْنَاد الإيصال إِلَى الْآمِر مجازى قصد بِهِ الْمُبَالغَة
فِي استلزام أمره إِيَّاه كَمَا يُشِير إِلَيْهِ قَوْله -
{إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه أَن نقُول لَهُ كن
فَيكون} - (وَهُوَ) أَي رزقهم الْمَوْعُود (مُتَعَدد من طَعَام
وشراب وَكِسْوَة) وَغَيرهَا من مسكن ومنكح، وَغير الرزق وَمَا
يَسُوقهُ الله إِلَى الْحَيَوَان فينتفع بِهِ (فقد وعدهم الله
أصنافا) لِأَنَّهُ وعدهم الرزق: وَهُوَ أَصْنَاف (وَأمر من
عِنْده من مَاله) أَي وَأمر غَنِيا عِنْده من مَال الله عز
وَجل (صنف وَاحِد) كالغنم وَالْإِبِل أَو غَيرهَا (أَن
يُؤَدِّي مواعيده) الَّتِي هِيَ أَصْنَاف، لِأَن الْأَمر
بِالدفع إنجاز الْوَعْد السَّابِق المندرج تَحْتَهُ
الْأَصْنَاف أَمر بأَدَاء المواعيد (فَكَانَ) أَمر الله من
عِنْده صنف من مَاله بِدفع جُزْء من ذَلِك المَال أَدَاء
للمواعيد، فَكَانَ أَمر الله من عِنْده (إِذْنا بِإِعْطَاء
الْقيم) نظرا إِلَى حِكْمَة الْآمِر (كَمَا فِي مثله من
الشَّاهِد) تأييد للمعنى الْمَذْكُور بِقِيَاس الْغَائِب على
الشَّاهِد، وَهُوَ أَن السَّيِّد إِذا أَمر عَبده أَن يُؤَدِّي
أَصْنَاف مواعيده، مِمَّا عِنْد العَبْد، وَهُوَ صنف وَاحِد،
وَعين مِقْدَار مَا أَمر بإعطائه كَانَ ذَلِك إِذْنا بأَدَاء
الْقيمَة معنى (وَحِينَئِذٍ) أَي وَحين كَانَ الْمَأْمُور بِهِ
فِي الزَّكَاة إِعْطَاء الْقيم، وَهِي عبارَة عَن مَالِيَّة
المنصوصات، ومالية الشَّيْء تصدق على عين ذَلِك الشَّيْء كَمَا
يصدق على مَا يماثله (لم تبطل الشَّاة) مثلا بِأَن لَا
يتَأَدَّى بهَا الْوَاجِب كَمَا زعم الْخصم (بل) يبطل
(تَعْيِينهَا) بِحَيْثُ لَا يسوغ غَيرهَا (وَحَقِيقَته) أَي
حَقِيقَة بطلَان تَعْيِينهَا (بطلَان عدم إِجْزَاء غَيرهَا)
مِمَّا يساويها فِي الْقيمَة (وَصَارَت) الشَّاة (محلا هِيَ
وَغَيرهَا) مِمَّا يساويها فِي الْقيمَة، والصيرورة
بِاعْتِبَار مُشَاركَة الْغَيْر إِيَّاه فِي الْمَحَلِّيَّة،
لَا بِاعْتِبَار محليتها فِي نَفسهَا، فَإِن ذَلِك ثَابت من
الأَصْل (فالتعليل) الْمَذْكُور (وسع الْمحل) أَي مَحل
الْوُجُوب وَمَا يتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِب (وَلَيْسَ
التَّعْلِيل) حَيْثُ كَانَ (إِلَّا لتوسعته) أَي الْمحل
لِأَنَّهُ لإلحاق غير الْمَنْصُوص بالمنصوص فِي الحكم
لمشاركتهما فِي الْعلَّة الَّتِي هِيَ منَاط الحكم (وَأما
النَّص) الدَّال على اعْتِبَار الْقيمَة فِي الزَّكَاة (فَمَا
علقه البُخَارِيّ) فِي صَحِيحه، وَالتَّعْلِيق أَن يحذف من
مبدأ الْإِسْنَاد وَاحِد فَأكْثر كَقَوْل الشَّافِعِي رَحمَه
الله: قَالَ نَافِع، وَقَول مَالك: قَالَ ابْن عمر، أَو قَالَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وتعليقاته صَحِيحَة) قَالَ
الشَّارِح وَوَصله يحيى بن آدم فِي كتاب الْخراج (من قَول
معَاذ) بَيَان للموصول توَسط بَينهمَا المعترضة (ائْتُونِي
بخميس) بِالسِّين الْمُهْملَة كَمَا هُوَ الصَّوَاب، لَا
الصَّاد. قَالَ الْخَلِيل هُوَ ثوب طوله خَمْسَة أَذْرع،
وَقَالَ الدَّاودِيّ كسَاء قيسه ذَا، وَقيل سمي بِملك من
مُلُوك الْيمن أول من أَمر بِعِلْمِهِ (أَو لبيس) هُوَ مَا
يلبس من الثِّيَاب والملبوس الْخلق (مَكَان الشّعير والذرة
أَهْون عَلَيْكُم) أما بِاعْتِبَار
(1/155)
أَنه كَانَ يُوجد عِنْدهم مِنْهُمَا مَا لم
يَكُونُوا مُحْتَاجين إِلَيْهِ، أَو بِاعْتِبَار أَن حَاجَة
الْإِنْسَان إِلَى الْمَأْكُول أَشد مِنْهَا إِلَى الملبوس أَو
غير ذَلِك (وَخير لأَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِالْمَدِينَةِ) لكَون حَاجتهم إِلَيْهَا أَشد، أَو لِأَنَّهُ
كَانَ عِنْدهم الكفاف من الْمَأْكُول، أَو لقلَّة أكلهم
وَقُوَّة توكلهم بِحَيْثُ لم يَكُونُوا يدخرون الطَّعَام
وَشدَّة الْبرد بِالْمَدِينَةِ كَمَا يشْعر بِهِ التَّقْيِيد،
وَذكر الشَّارِح نصا آخر وَهُوَ مَا فِي كتاب الصّديق لأنس
مَرْفُوعا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا
فِي صَحِيح البُخَارِيّ " من بلغت عِنْده من الْإِبِل صَدَقَة
الْجَذعَة، وَلَيْسَ عِنْد جَذَعَة وَعِنْده حَقه، فَإِنَّهُ
يُؤْخَذ مِنْهُ الحقة وَيجْعَل مَعهَا شَاتين أَو عشْرين درهما
" الحَدِيث (فَظهر أَن ذكر الشَّاة والجذعة) وَغَيرهمَا (كَانَ
لتقدير الْمَالِيَّة، وَلِأَنَّهُ) أَي إِعْطَاء الشَّاة
والجذعة (أخف على أَرْبَاب الْمَوَاشِي) لوجودها عِنْدهم (لَا
لتعيينها) بِحَيْثُ لَا يُجزئ عَنْهَا الْبَدَل (وَقَوْلهمْ)
أَي الْحَنَفِيَّة (فِي الْكَفَّارَة) فِي إطْعَام سِتِّينَ
مِسْكينا طَعَام سِتِّينَ على مَا مر (مثله) أَي مثل قَوْلهم
(فِي الْأَوَّلين) وهما مسألتا، إِسْلَام الرجل على أَكثر من
أَربع، وعَلى أُخْتَيْنِ فِي أَنه خلاف الْأَوْجه، وَإِنَّمَا
الْأَوْجه قَول الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة: إِنَّه إِذا أطْعم
مِسْكينا وَاحِدًا سِتِّينَ يَوْمًا لَا يُجزئهُ، وَذَلِكَ لما
مر من إِمْكَان قصد فضل الْجَمَاعَة وتضافر قُلُوبهم إِلَى
آخِره مَعَ ارْتِكَاب الْمجَاز من غير ضَرُورَة، وَهُوَ جعل
السِّتين أَعم من الْحَقِيقِيّ والحكمي (وَالله أعلم) .
التَّقْسِيم الثَّالِث
من التقسيمات الثَّلَاثَة للفظ بِاعْتِبَار ظُهُور دلَالَته
وخفائه (مُقَابل) التَّقْسِيم (الثَّانِي) وَهُوَ تَقْسِيم
اللَّفْظ بِاعْتِبَار ظُهُور دلَالَته، فَلَزِمَ كَون هَذَا
(بِاعْتِبَار الخفاء) أَي خَفَاء دلَالَة اللَّفْظ على
الْمَعْنى المُرَاد (فَمَا) أَي اللَّفْظ الَّذِي (كَانَ خفاؤه
بِعَارِض) من الْأُمُور الخارجية من نفس اللَّفْظ من
الْأَحْوَال الطارئة عَلَيْهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (غير
الصِّيغَة فالخفي) أَي فَهُوَ الْخَفي، سمي بِهِ مَعَ كَونه
أقل خَفَاء من الْأَقْسَام الْبَاقِيَة، لكَونه مُقَابلا
للظَّاهِر الَّذِي هُوَ أقل ظهورا من تِلْكَ، وَإِلَيْهِ
أَشَارَ بقوله (وَهُوَ) أَي الْخَفي (أقلهَا) أَي أقل أَقسَام
هَذَا التَّقْسِيم (فِي الخفاء كَالظَّاهِرِ) فَإِنَّهُ أقل
أَقسَام ذَلِك التَّقْسِيم (فِي الظُّهُور) فَإِن قيل
يَنْبَغِي أَن يكون الْخَفي مَا خَفِي المُرَاد مِنْهُ بِنَفس
اللَّفْظ، لِأَنَّهُ فِي مُقَابلَة الظَّاهِر، وَهُوَ مَا ظهر
المُرَاد مِنْهُ بِنَفس اللَّفْظ وَأجِيب بِأَن الخفاء بِنَفس
اللَّفْظ فَوق الخفاء بِعَارِض، فَلَو كَانَ الْخَفي مَا ذكرت
لزم أَن لَا يكون فِي أول مَرَاتِب الخفاء، فَلَا يكون إِذن
مُقَابلا للظَّاهِر (وَحَقِيقَته) أَي حَده الكاشف عَن
حَقِيقَته فَوق كشف
(1/156)
مَا ذكر من تَعْرِيفه (لفظ) وضع (لمَفْهُوم
عرض) وصف بِحَال مُتَعَلّقه (فِيمَا هُوَ ببادئ الرَّأْي) بادئ
الرَّأْي ظَاهره، والرأي الِاعْتِقَاد، وَالْبَاء بِمَعْنى
فِي، وَالْمعْنَى فِي أول الملاحظة (من أَفْرَاده) أَي من
أَفْرَاد ذَلِك الْمَفْهُوم خبر هُوَ، قدم عَلَيْهِ مَا هُوَ
ظرف نسبته إِلَى الْمُبْتَدَأ، أَو (مَا يخفى) فَاعل عرض أَو
عَارض يخفي (بِهِ) أَي بِسَبَب ذَلِك الْعَارِض (كَونه) فَاعل
يخفى، وَالضَّمِير للموصول الأول، (مِنْهَا) أَي من أَفْرَاد
ذَلِك الْمَفْهُوم فَالْحَاصِل أَن عرُوض هَذَا الْعَارِض فِي
ذَلِك الْمحل أورث فِي كَونه فَردا لذَلِك الْمَفْهُوم خَفَاء
بعد مَا كَانَ يحكم الْعقل فِي بادئ النّظر بفرديتها (إِلَى
قَلِيل تَأمل) غَايَة الخفاء فيرتفع بتأمل قَلِيل (ويجتمعان)
أَي الْخَفي وَمَا يُقَابله وَهُوَ الظَّاهِر (فِي لفظ) وَاحِد
(بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَفْهُومه) وَهُوَ مَا ببادئ الرَّأْي من
أَفْرَاده وَعرض مَا يخفي فِيهِ كَونه مِنْهَا (كالسارق ظَاهر
فِي مَفْهُومه الشَّرْعِيّ) وَهُوَ الْعَاقِل الْبَالِغ
الْآخِذ مَا يوازي عشرَة دَرَاهِم خُفْيَة من المَال المتناول
مِمَّا لَا يتسارع إِلَيْهِ الْفساد من حرز بِلَا شُبْهَة
مِمَّن هُوَ بصدد الْحِفْظ (خَفِي فِي النباش) آخذ كفن
الْمَيِّت من الْغَيْر خُفْيَة بنبشه، وَهُوَ إبراز المستور
وكشف الشَّيْء (والطرار) آخذ المَال الْمَذْكُور من الْيَقظَان
من غَفلَة مِنْهُ بطر أَو غَيره، والطر هُوَ الْقطع، وَأَشَارَ
إِلَى الْعَارِض الْمُورث للخفاء الْمَذْكُور بقوله (للاختصاص)
مُتَعَلق بخفي (باسم) مُتَعَلق بالاختصاص، وَذَلِكَ لِأَن
الِاخْتِصَاص الْمَعْنى باسم بِحَيْثُ لَا يُطلق عَلَيْهِ
غَيره مِمَّا ينْدَرج تَحت مَفْهُوم يظنّ كَون ذَلِك الْمَعْنى
من أَفْرَاده فِي بادئ الرَّأْي يُورث خَفَاء فِي كَونه
مِنْهَا ويرجح عَدمه، لِأَن الظَّاهِر عدم اخْتِصَاص بعض
أَفْرَاد مَفْهُوم باسم عَن سَائِر أَفْرَاده، ثمَّ غيا الخفاء
فِي النباش والطرار بغاية يدل عَلَيْهَا قَوْله (إِلَى ظُهُور
أَنه) أَي بِأَن يظْهر بعد قَلِيل تَأمل أَن الِاخْتِصَاص (فِي
الطرار لزِيَادَة) أَي لزِيَادَة مُسَمَّاهُ فِي الْمَعْنى
الَّذِي هُوَ منَاط حكم السّرقَة: وَهِي الحذاقة فِي فعل
السّرقَة وَفضل فِي جِنَايَته، لِأَنَّهُ يسارق الْأَعْين
المستيقظة لغفلة، وَعند ظُهُور هَذِه المزية يَزُول الخفاء
وَيعلم كَونه من أَفْرَاد السَّارِق (فَفِيهِ) أَي فَيجب فِي
الطرار (حَده) أَي السَّارِق (دلَالَة) أَي بِدلَالَة النَّص
الْوَارِد فِي إِيجَاب هَذِه، لكَونه أولى بِثُبُوت الحكم لَهُ
لوُجُود المناط فِيهِ على الْوَجْه الأتم فَإِن قلت ظُهُور
كَونه من أَفْرَاد السَّارِق بعد التَّأَمُّل يُنَافِي ثُبُوت
حكمه بِدلَالَة النَّص قلت كَأَنَّهُ أَرَادَ ثُبُوت دلَالَة
قبل الظُّهُور فَتَأمل (لَا قِيَاسا) عَلَيْهِ حَتَّى يرد أَن
الْحُدُود لَا تثبت بِالْقِيَاسِ لِأَنَّهُ لَا يعرى عَن
شُبْهَة الْحُدُود تدرأ بهَا، غير أَن الْإِطْلَاق إِنَّمَا
يَتَأَتَّى على قَول أبي يُوسُف وَالْأَئِمَّة الثَّلَاثَة،
وَإِلَّا فَظَاهر الْمَذْهَب فِيهِ تَفْصِيل. قَالَ المُصَنّف
رَحمَه الله فِي شرح الْهِدَايَة قَوْله وَمن شقّ: أَي شقّ صرة
والصرة الْهِمْيَان، وَالْمرَاد من الصرة هُنَا الْموضع
المشدود فِيهِ الدَّرَاهِم لم يقطع وَإِن أَدخل يَده فِي
الْكمّ قطع، لِأَن فِي الْوَجْه الأول يتَحَقَّق الْأَخْذ من
خَارج
(1/157)
فَلَا يُوجد هتك الْحِرْز، وَفِي الثَّانِي
الرِّبَاط من دَاخل يتَحَقَّق الْأَخْذ من الْحِرْز وَهُوَ
الْكمّ، وَلَو كَانَ مَكَان الطر حل الرِّبَاط ثمَّ الْأَخْذ
فِي الْوَجْهَيْنِ ينعكس الْجَواب (والنباش) مَعْطُوف على
الطرار أَي وَإِن الِاخْتِصَاص فِي النباش (لنَقص) فِي منَاط
الحكم لعدم الْحِرْز، وَعدم الْحَافِظ، وقصور الْمَالِيَّة
لِأَن المَال مَا يرغب فِيهِ، والكفن ينفر عَنهُ، وَعدم
المملوكية لأحد، لِأَن الْمَيِّت لَيْسَ بِأَهْل للْملك
وَالْوَارِث لَا يملك من التَّرِكَة إِلَّا مَا يفضل عَن
حَاجَة الْمَيِّت (فَلَا) يجب فِيهِ حد السّرقَة، وَلِأَن شرع
الْحَد للانزجار، وَالْحَاجة إِلَيْهِ عِنْد كَثْرَة وجوده،
والنبش نَادِر، والانزجار حَاصِل طبعا، وَهَذَا عِنْد أبي
حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله تَعَالَى، خلافًا لأبي يُوسُف،
وَالْأَئِمَّة الثَّلَاثَة، وَقَول أبي حنيفَة، قَول ابْن
عَبَّاس وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَكْحُول وَالزهْرِيّ،
وَقَوْلهمْ مَذْهَب عمر وَابْن مَسْعُود وَعَائِشَة وَالْحسن
وَأبي ثَوْر ثمَّ الْكَفَن للْوَارِث عِنْدهم، فَهُوَ الْخصم
فِي الْقطع وَإِن كَفنه أَجْنَبِي فَهُوَ الْخصم (وَمَا) أَي
اللَّفْظ الَّذِي كَانَ خفاؤه (لتَعَدد الْمعَانِي
الاستعمالية) أَي الَّتِي تسْتَعْمل فِي كل مِنْهَا (مَعَ
الْعلم بالاشتراك) أَي بِكَوْن اللَّفْظ مَوْضُوعا لكل مِنْهَا
بِوَضْع على حِدة (وَلَا معِين) أَي وَلم يكن هُنَاكَ قرينَة
مُعينَة للمراد (أَو تجويزها مجازية) مَعْطُوف على الْعلم،
وَلَا شكّ أَن تَجْوِيز كَون كل من الْمعَانِي الاستعمالية
مرَادا من اللَّفْظ مجَازًا إِنَّمَا يتَحَقَّق إِذا صرف صَارف
عَن إِرَادَة مَا وضع لَهُ، وَكَانَ الْمقَام صَالحا لإِرَادَة
كل مِنْهَا، وَلم يكن مَا يعين وَاحِدًا مِنْهَا، وَقَوله
مجازية مَنْصُوب على أَنه مفعول ثَان للتجويز لتَضَمّنه معِين
التصيير (أَو بَعْضهَا) مَعْطُوف على الضَّمِير الْمَجْرُور،
وَذَلِكَ بِأَن يزدحم معَان استعمالية بَعْضهَا حَقِيقِيَّة
وَبَعضهَا مجازية بِحَسب التجويز، وَهُوَ إِنَّمَا يتَصَوَّر
إِذا كَانَ الْمقَام صَالحا لإِرَادَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ،
والمجازي بِأَن لم يكن الصَّارِف عَن الْحَقِيقِيّ قَاطعا فِي
الصّرْف وَإِلَّا يتَعَيَّن الْمجَازِي (إِلَى تَأمل) غَايَة
للخفاء فِي هَذَا الْقسم، وَقد مر أَن الْعقل يدْرك المُرَاد
فِيهِ بعد التَّأَمُّل، وَإِنَّمَا قيد تعدد الْمعَانِي
الْمُوجب للخفاء بِالْعلمِ بالاشتراك أَو التجويز الْمَذْكُور،
لِأَن تعدد الْمعَانِي لاستعماله من غير أَن يعلم السَّامع
اشتراكها أَو تجوزها مجازية أَو بَعْضهَا لَا يتَصَوَّر، لِأَن
شَرط الِاسْتِعْمَال فِي الْمَعْنى أَن يكون مَوْضُوعا لَهُ،
أَو يكون بَينه وَبَين الْمَوْضُوع لَهُ علاقَة من أَنْوَاع
العلاقات الْمُعْتَبرَة فِي المجازات، وَقد علمت أَن مُجَرّد
التَّعَدُّد لَا يَكْفِي، بل لَا بُد أَن يكون الْمقَام
بِحَيْثُ يحْتَمل كلا مِنْهَا (مُشكل) خبر الْمَوْصُول، من
أشكل عَلَيْهِ الْأَمر إِذا دخل فِي أشكاله وَأَمْثَاله،
بِحَيْثُ لَا يعرف إِلَّا بِدَلِيل يتَمَيَّز بِهِ (وَلَا
يُبَالِي بصدقه) أَي الْمُشكل (على الْمُشْتَرك) كَمَا أَشَارَ
إِلَيْهِ فِي أثْنَاء التَّعْرِيف (كَأَنِّي فِي) قَوْله
تَعَالَى - {نِسَاؤُكُمْ حرث لكم فَأتوا حَرْثكُمْ} - (أَنى
شِئْتُم) قَالَه مُشكل لخفا مَعْنَاهُ لاشتراكه بَين معَان
يسْتَعْمل فِي كل مِنْهَا، قَالَ الرضي:
(1/158)
سقط
(1/159)
سقط
(1/160)
الْمَوْصُول مَعَ صلته مركب فِيهِ إِجْمَال
لاحْتِمَال أَن يُرَاد بِهِ الزَّوْج، وَإِلَيْهِ ذهب
أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيّ وَأحمد لما روى الدَّارَقُطْنِيّ
عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ " ولي الْعقْدَة الزَّوْج
وَالْوَلِيّ " كَمَا ذهب إِلَيْهِ مَالك، وَالْمعْنَى على
الأول أَن الْوَاجِب على من طلق قبل الْمَسِيس بعد تَسْمِيَة
الْمهْر النّصْف " إِلَّا أَن يعفون " أَي المطلقات فَلَا
يَأْخُذن شَيْئا، وَالْوَاو حِينَئِذٍ لَام الْفِعْل،
وَالنُّون ضمير، أَو يعْفُو الزَّوْج عَمَّا يعود إِلَيْهِ
بالتشطير، فيسوق الْمهْر إِلَيْهَا كملا، وعَلى الثَّانِي أَو
يعْفُو الَّذِي يَلِي عقده نِكَاحهنَّ، وَذَلِكَ إِذا كَانَت
صَغِيرَة (ومرجع الضَّمِير) مَعْطُوف على مُفْرد، وَيحْتَمل
أَن يكون الْمَعْنى ومرجع الضَّمِير مِنْهُ، وَذَلِكَ إِذا
تقدم أَمْرَانِ يصلح لكل مِنْهُمَا كَمَا فِي قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم " لَا يمْنَع أحد جَاره أَن يضع خَشَبَة فِي
جِدَاره " يحْتَمل عوده إِلَى أحدكُم، وَإِلَيْهِ ذهب أَحْمد،
وَإِلَى الْجَار كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة،
وَذَلِكَ إِذا كَانَ لَا يضرّهُ، وَلَا يجد الْوَاضِع بدا
مِنْهُ، وَلَا يخفى أَن الْأَلْيَق بالوضعية فِي حق الْجَار
الأول، وَقد سُئِلَ عَن أبي بكر وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا
أَيهمَا أفضل؟ فَأُجِيب من بنته فِي بَيته (وَتَقْيِيد
الْوَصْف وإطلاقه فِي نَحْو طَبِيب ماهر) وَفِي الشَّرْح
العضدي: وَمِنْهَا مرجع الصّفة فِي نَحْو زيد طَبِيب ماهر
لتردده بَين المهارة مُطلقًا، والمهارة فِي الطِّبّ انْتهى.
أَرَادَ بمرجع مَا يَئُول إِلَيْهِ فَإِنَّهُ مُتَرَدّد بَين
الْوَجْهَيْنِ وَحَاصِله أَن الْوَصْف وَهُوَ ماهر مثلا مردد
بَين أَن يكون مُقَيّدا بِكَوْنِهِ فِي الطِّبّ، أَو مُطلقًا
بِأَن تكون مهارته فِي الطِّبّ وَغَيره، فَقَوله وَتَقْيِيد
الْوَصْف مَعْطُوف على مَا عطف عَلَيْهِ مرجع الضَّمِير أَو
عَلَيْهِ (وَالظَّاهِر أَن الْكل) أَي إِجْمَال كل مَا تقدم من
الْمثل ونظائرها (فِي مُفْرد بِشَرْط التَّرْكِيب) لِأَن الحكم
بِكَوْن اللَّفْظ مُجملا إِذا لم يكن جُزْء الْكَلَام، وطرف
نِسْبَة غَيرهَا ظَاهر، لِأَنَّهُ عبارَة عَن عدم تعين
المُرَاد مِنْهُ عِنْد الِاسْتِعْمَال، واستعماله إِنَّمَا
يتَحَقَّق فِي التراكيب، فَإِن إِطْلَاق لفظ مُفْرد،
وَإِرَادَة معنى بِهِ من غير أَن يكون مَحْكُومًا عَلَيْهِ،
أَو بِهِ، أَو مُتَعَلقا بِأَحَدِهِمَا، أَو طرفا لنسبة مَا
يكَاد أَن لَا يصدر من الْعَاقِل، ثمَّ فِيمَا يظنّ كَونه
إِجْمَالا فِي الْمركب كَقَوْلِه تَعَالَى - {الَّذِي بِيَدِهِ
عقدَة النِّكَاح} - يظْهر بعد التَّأَمُّل أَنه فِي الْمُفْرد،
وَهُوَ الْمَوْصُول هَهُنَا غير أَنه لَا يتم بِدُونِ
الصِّلَة، فَشرط التَّرْكِيب فَتدبر (وَعِنْدهم) أَي
الشَّافِعِيَّة خبر الْمُبْتَدَأ، وَهُوَ (الْمُتَشَابه) أَي
اسْم الْمُتَشَابه مَوْجُود فِي اصطلاحهم (لَكِن مُقْتَضى
كَلَام الْمُحَقِّقين تساويهما) أَي الْمُجْمل والمتشابه
(لتعريفهم) أَي الشَّافِعِيَّة، أَو تحقيقهم (الْمُجْمل بِمَا
لم تتضح دلَالَته) قيل من قَول أَو فعل، فَإِن الْفِعْل لَهُ
دلَالَة عقلية، وَخرج المهمل لعدم الدّلَالَة، والمبين
لاتضاحها فِيهِ (وَبِمَا لم يفهم مِنْهُ معنى أَنه مُرَاد) أَي
لم يفهم مِنْهُ الْمَعْنى من حَيْثُ أَنه مُرَاد، وَإِلَّا
فَالْأَصْل الْفَهم على سَبِيل
(1/161)
الِاحْتِمَال غير منفي، فَقَوله أَنه
مُرَاد بدل اشْتِمَال (وَعَلِيهِ) أَي على التَّعْرِيف
الثَّانِي (اعتراضات) مثل أَنه غير مطرد لصدقه على المهمل
وَلَا منعكس، لِأَنَّهُ يجوز أَن يفهم من الْمُجْمل أحد محامله
لَا بِعَيْنِه وَهُوَ معِين، وَقد يكون الْمُجْمل فعلا،
والمتبادر من الْمَوْصُول اللَّفْظ (لَيست بشي) لِأَن
الْمُتَبَادر مِنْهُ أَن يكون لَهُ دلَالَة، وَلَا دلَالَة
للمهمل، وَفهم أحد المحامل لَا بِعَيْنِه لَا يكون فهم
المُرَاد، والموصول أَعم من القَوْل وَالْفِعْل (والمتشابه)
أَي ولتعريفهم إِيَّاه (بِغَيْر المتضح الْمَعْنى) وَهُوَ
التَّسَاوِي بَين التعريفات ظَاهر، بل الْكَلَام فِي
الِاتِّحَاد (وَجعل الْبَيْضَاوِيّ إِيَّاه) أَي الْمُتَشَابه
(مُشْتَركا بَين الْمُجْمل والمؤول) حَيْثُ قَالَ والمشترك
بَين النَّص، وَالظَّاهِر الْمُحكم، وَبَين الْمُجْمل والمؤول
الْمُتَشَابه (مُشكل) لَا يذهب عَلَيْك لطف هَذَا التَّعْبِير
(لِأَن المؤول ظَهرت دلَالَته على الْمَرْجُوح) فَصَارَ متضح
الْمَعْنى (بِالْمُوجبِ) أَي بِالدَّلِيلِ الْمُوجب حمله على
الِاحْتِمَال الْمَرْجُوح حَتَّى صَار بِهِ راجحا (لَا يُقَال
يُريدهُ) أَي يُرِيد الْبَيْضَاوِيّ كَون المؤول غير متضح
الْمَعْنى (فِي نَفسه مَعَ قطع النّظر عَن الْمُوجب لِأَنَّهُ)
أَي المؤول (حِينَئِذٍ) أَي حِين قطع النّظر عَن الْمُوجب
(ظَاهر لَا يصدق عَلَيْهِ متشابه) إِذْ الِاحْتِمَال الرَّاجِح
لَا يُعَارضهُ الْمَرْجُوح على ذَلِك التَّقْدِير فَتعين أَن
يكون مرَادا بِحَسب الظَّاهِر، فَلَا يصدق عَلَيْهِ إِذن غير
متضح المُرَاد فَلَا يصدق على المؤول تَعْرِيف الْمُتَشَابه،
لَا بِالنّظرِ إِلَى نَفسه، وَلَا بِالنّظرِ إِلَى الْمُوجب،
فَلَا وَجه لإدراجه فِي الْمُتَشَابه (وَأَيْضًا يَجِيء مثله
فِي الْمُجْمل) جَوَاب آخر عَن قَوْله لَا يُقَال الخ
تَقْرِيره أَنكُمْ حَيْثُ سميتم المؤول المقرون بِمَا يُوجب
حمله على الْمَعْنى الْمَرْجُوح متشابها بِاعْتِبَار نَفسه
مَعَ قطع النّظر عَن الْبَيَان احْتِرَازًا عَن التحكم (لَكِن
مَا لحقه الْبَيَان خرج عَن الْإِجْمَال بالِاتِّفَاقِ) من
الْفَرِيقَيْنِ (وَسمي مُبينًا عِنْدهم) أَي الشَّافِعِيَّة
(وَالْحَنَفِيَّة) قَالُوا (إِن كَانَ) الْبَيَان (شافيا)
رَافعا للإجمال رَأْسا (بقطعي فمفسر) أَي فَمَا لحقه الْبَيَان
الْمَذْكُور يُسمى مُفَسرًا عِنْدهم كبيان الصَّلَاة
وَالزَّكَاة (أَو) كَانَ الْبَيَان شافيا (بظني فمؤول) كبيان
مِقْدَار الْمسْح بِحَدِيث الْمُغيرَة (أَو) كَانَ الْبَيَان
(غير شاف خرج) الْمُجْمل (عَن الْإِجْمَال إِلَى الْإِشْكَال)
كبيان الْعدَد بِالْحَدِيثِ الْوَارِد فِي الْأَشْيَاء
السِّتَّة فِي الصَّحِيحَيْنِ فَإِنَّهُ يبْقى فِيهِ
الْإِشْكَال بَعْدَمَا ارْتَفع الْإِجْمَال بِاعْتِبَار منَاط
الحكم هَل هُوَ الْجِنْس وَالْقدر، أَو الطّعْم؟ على مَا عرف
فِي مَوْضِعه (فَجَاز طلبه) أَي طلب بَيَانه حِينَئِذٍ (من غير
الْمُتَكَلّم) لِأَن بَيَان الْمُشكل مِمَّا يَكْتَفِي فِيهِ
بِالِاجْتِهَادِ، بِخِلَاف الْإِجْمَال، فَظهر أَن الْمُجْمل
الَّذِي لحقه الْبَيَان: قَطْعِيا كَانَ أَو ظنيا: شافيا كَانَ
أَو غير شاف لَا يُوصف بالإجمال عِنْد الْحَنَفِيَّة أَيْضا
(فَلِذَا) أَي لما ذكر من التَّفْصِيل (رد مَا ظن من أَن
الْمُشْتَرك المقترن بِبَيَان مُجمل بِالنّظرِ إِلَى نَفسه
مُبين بِالنّظرِ إِلَى الْمُقَارن) الظَّان الْأَصْفَهَانِي،
والراد
(1/162)
سقط
(1/163)
سقط
(1/164)
نَفسه فِي لِبَاس الْفَقِير وَالله أعلم
(وَغَايَة الْأَمر) أَي أَمر الْخصم وشأنه فِي المناقشة أَن
يدعى (أَن مُقْتَضى الظَّاهِر) على تَقْدِير كَون الْجُمْلَة
المعطوفة لبَيَان قسم مُقَابل لقسم الزيغ (أَن يُقَال: وَأما
الراسخون) ليعادل قسيمه، وَلِأَن الشَّائِع فِي كلمة: أما فِي
مثل هَذَا الْمقَام أَن يثنى ويكرر، ثمَّ أَشَارَ إِلَى
الْجَواب بقوله (فَإِذا ظهر الْمَعْنى) المُرَاد بإماراته،
وَهُوَ هَهُنَا بَيَان حَال الْقسمَيْنِ على الْوَجْه الَّذِي
ذكر (وَجب كَونه) أَي كَون الْكَلَام وَاقعا (على مُقْتَضى
الْحَال) وَهُوَ الْأَمر الدَّاعِي لاعْتِبَار خُصُوصِيَّة مَا
فِي الْكَلَام (الْمُخَالف لمقْتَضى الظَّاهِر) وَهُوَ إِيرَاد
كلمة أما، وَالْحَال الَّتِي مُقْتَضى الْمُخَالف إبراز
الْكَلَام فِي صُورَة توهم مُوجب عطف الْمُفْرد ليتمسك بِهِ
أهل الزيغ فيستحكم فِيهِ، ويتميز عَنْهُم الراسخون بالثبات عَن
الزلل كَقَوْلِه تَعَالَى - {وَمَا جعلنَا الرُّؤْيَا الَّتِي
أريناك إِلَّا فتْنَة للنَّاس} - {يضل بِهِ كثيرا وَيهْدِي
بِهِ كثيرا} - (مَعَ أَن الْحَال قيد لِلْعَامِلِ) وَهُوَ
الْعلم هَهُنَا (وَلَيْسَ علمهمْ) أَي الراسخين بتأويله
(مُقَيّدا بِحَال قَوْلهم - {آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا} -)
بل هُوَ مَوْجُود فِي جَمِيع الْأَحْوَال (وأيد حملنَا)
الْآيَة على الْمَعْنى الَّذِي ذكرنَا (قِرَاءَة ابْن
مَسْعُود: وَأَن تَأْوِيله إِلَّا عِنْد الله) فَإِنَّهُ لَا
يُمكن فِيهَا عطف والراسخون على الله لكَونه مجرورا، فموجبه
حصر علم التَّأْوِيل فِي الله، والتوفيق بَين الْقرَاءَات
مَطْلُوب، وَكَذَا قَرَأَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا
وَيَقُول الراسخون فِي الْعلم آمنا بِهِ كَمَا أخرجه سعيد بن
مَنْصُور عَنهُ بِإِسْنَاد صَحِيح، وعزيت إِلَى أبي أَيْضا
(فَلَو لم تكن) قِرَاءَة ابْن مَسْعُود (حجَّة) لكَونهَا
شَاذَّة (صلحت مؤيدا) لما قدمْنَاهُ (على وزان ضَعِيف
الحَدِيث) الَّذِي ضعفه لَيْسَ بِسَبَب فسق رُوَاته (يصلح
شَاهدا وَإِن لم يكن مثبتا) قَالَ المُصَنّف رَحمَه الله فِي
مبَاحث السّنة حَدِيث الضعْف للفسق لَا يرتقي بِتَعَدُّد
الطّرق إِلَى الحجية وَلغيره مَعَ الْعَدَالَة يرتقي، فمراده
من شَهَادَته تَكْمِيل وجبر لنُقْصَان كَانَ فِي الدَّلِيل
لموجبه الْمُورث لشُبْهَة فِيهِ، فَإِذا صلحت مؤيدا على
تَقْدِير عدم حجيتها (فَكيف) لَا يصلح (وَالْوَجْه) أَي
الدَّلِيل (منتهض) أَي قَائِم (على الحجية كَمَا سَيَأْتِي إِن
شَاءَ الله تَعَالَى) أَي على حجية الْقِرَاءَة الشاذة. قَالَ
فِي مبَاحث الْكتاب: الشاذ حجَّة ظنية خلافًا للشَّافِعِيّ
رَحمَه الله، لنا مَنْقُول عدل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم انْتهى قلت بل وفيهَا زِيَادَة، وَهِي أَنه نِسْبَة
إِلَى الله تَعَالَى، والجرأة على الله أصعب من الجرأة على
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَجَرت عَادَة
الشَّافِعِيَّة بِاتِّبَاع الْمُجْمل بِخِلَاف) صلَة
الِاتِّبَاع (فِي جزئيات) مُتَعَلق بِالْخِلَافِ (أَنَّهَا)
أَي تِلْكَ الجزئيات (مِنْهُ) أَي من الْمُجْمل، وَقَوله
أَنَّهَا مِنْهُ: بدل من الجزئيات، لِأَن الْخلاف فِي أَنَّهَا
أَي تِلْكَ الجزئيات هَل هِيَ من الْمُجْمل أم لَا (فِي
مسَائِل) أَي حَال كَون تِلْكَ الجزئيات مَذْكُورَة فِي ضمن
مسَائِل.
(1/165)
(الأولى) مُبْتَدأ خَبره (التَّحْرِيم
الْمُضَاف إِلَى الْأَعْيَان) إِلَى آخِره {كحرمت عَلَيْكُم
أُمَّهَاتكُم} - {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة} -، والتحليل
الْمُضَاف إِلَيْهَا نَحْو - {أحلّت لكم الْأَنْعَام} -،
وَالْمرَاد بِالْإِضَافَة النِّسْبَة، والأعيان مَا يُقَابل
الْمعَانِي وَالْأَفْعَال (عَن الْكَرْخِي والبصري) أبي عبد
الله نقل (إجماله) أَي إِجْمَال التَّحْرِيم الْمَذْكُور
(وَالْحق) كَمَا قَالَ (ظُهُوره) أَنه ظَاهر (فِي) مُرَاده
(معِين) بِحَسب كل مقَام كَمَا سيتبين (لنا) أَي الْحجَّة فِي
الظُّهُور (الاستقراء) أَي مفَاد الاستقراء أَو المستقرأ (فِي
مثله) من إِضَافَة الحكم إِلَى الذوات (إِرَادَة منع الْفِعْل
الْمَقْصُود مِنْهَا) أَي من الْأَعْيَان، فَإِن مِمَّا يقْصد
من النِّسَاء مثلا النِّكَاح ودواعيه، وَمن الْحَرِير اللّبْس،
وَمن الْخمر الشّرْب، فالتحريم بِالْحَقِيقَةِ مُضَاف إِلَى
هَذِه الْأَفْعَال (حَتَّى كَانَ) الْمَنْع الْمَذْكُور
(متبادرا) أَي سَابِقًا إِلَى الْفَهم عرفا (من) نَحْو (حرمت
الْحَرِير وَالْخمر والأمهات فَلَا إِجْمَال) إِذْ المُرَاد
مُتَعَيّن (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بالإجمال (لَا بُد من
تَقْدِير فعل) إِذْ التَّحْرِيم والتحليل تَكْلِيف بِالْفِعْلِ
الْمَقْدُور، والمعين غير مَقْدُور، وَلَا يَصح تَقْدِير
جَمِيع الْأَفْعَال (وَلَا معِين) للْبَعْض، فَلَزِمَ
الْإِجْمَال (قُلْنَا تعين) الْبَعْض، وَهُوَ الْمَقْصُود من
الْعين (بِمَا ذكرنَا) من التبادر (وادعاء فَخر الْإِسْلَام
وَغَيره من الْحَنَفِيَّة الْحَقِيقَة) فِي اللَّفْظ الْمركب
الدَّال على تَحْرِيم الْعين، مَعَ أَن الْحُرْمَة وَغَيرهَا
من الْأَحْكَام الْخَمْسَة إِنَّمَا يُوصف بهَا أَفعَال
الْمُكَلّفين، وَمُقْتَضَاهُ أَن يكون من الْمجَاز الْعقلِيّ
(لقصد إِخْرَاج الْمحل) الَّذِي هُوَ الْعين الْمُضَاف
إِلَيْهَا التَّحْرِيم (عَن الْمَحَلِّيَّة) عَن أَن يكون محلا
للْفِعْل، وَقَوله لقصد مُتَعَلق بالادعاء، يَعْنِي أَن
الْمَقْصُود من تَحْرِيم الْعين خُرُوجهَا عَن الْمَحَلِّيَّة،
وَالْخُرُوج عَن الْمَحَلِّيَّة وصف ثَابت للعين حَقِيقَة
فإسناده إِلَيْهَا على سَبِيل الْحَقِيقَة، وَلَا يخفى أَن
تَفْسِير التَّحْرِيم بِهَذَا الْمَعْنى يحْتَاج إِلَى
تَأْوِيل تَصْحِيح، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (تَصْحِيحه) أَي
الادعاء الْمَذْكُور، وَهُوَ خبر الْمُبْتَدَأ (بادعاء تعارف
تركيب منع الْعين) كَحُرْمَةِ الْحَرِير وَالْخمر (لإخراجها)
أَي الْعين (عَن محلية الْفِعْل) الْمَقْصُود مِنْهَا
(الْمُتَبَادر) إِلَى الْفَهم (لَا) عَن محلية الْفِعْل
(مُطلقًا) أَلا ترى أَن الْأُم خرجت عَن محليتها للنِّكَاح
ودواعيه وَلم تخرج عَن محليتها لِأَن تقبل رَأسهَا إِكْرَاما،
وَنَحْو ذَلِك (وَفِيه) أَي فِيمَا ذكرنَا من التَّصْحِيح
(زِيَادَة بَيَان سَبَب الْعُدُول عَن التَّعْلِيق) أَي
تَعْلِيق التَّحْرِيم (بِالْفِعْلِ إِلَى التَّعْلِيق
بِالْعينِ) وَمِنْهُم من خصص ادِّعَاء الْحَقِيقَة بالحرام
لعَينه، وَمِنْهُم من عمم فَأدْخل الْحَرَام لغيره أَيْضا
فِيهِ وَهُوَ الْأَظْهر، وَقد نَص الْكرْمَانِي على تَسْلِيم
كَونه مجَازًا فِي اللُّغَة حَقِيقَة فِي الْعرف، يَعْنِي عرف
الشَّرْع.
المسئلة (الثَّانِيَة) مُبْتَدأ خَبره (لَا إِجْمَال فِي
وأمسحوا برءوسكم) فَإِن قلت لَا بُد فِي المسئلة من
(1/166)
سقط
(1/167)
سقط
(1/168)
أَي التَّبْعِيض (جَاءَ) وَثَبت (ضَرُورَة
استيعابها) اسْتِيعَاب الْمسْح الْآلَة، فَإِن الْبَاء حِين
دخلت فِي الْمحل تعدى الْفِعْل، وَهُوَ الْمسْح إِلَى الْآلَة
تَقْديرا واستوعبها (وَهِي) أَي الْآلَة (غَالِبا كالربع) أَي
كربع الرَّأْس فِي الْمِقْدَار، فَلَزِمَ الرّبع كَمَا هُوَ
ظَاهر الْمَذْهَب، فَلَا إِجْمَال حِينَئِذٍ وَلَا إِطْلَاق
(وَكَونه) أَي الرّبع الْمَمْسُوح (الناصية) وَهِي الْمُقدم من
الرَّأْس (أفضل لفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) كَمَا
سَيذكرُهُ المُصَنّف رَحمَه الله فِي مسئلة الْبَاء.
المسئلة (الثَّالِثَة لَا إِجْمَال فِي نَحْو " رفع عَن أمتِي
الْخَطَأ ") مِمَّا يَنْفِي صفته، وَالْمرَاد لَازم من لوازمها
(لِأَن الْعرف) أَي الْمَعْنى الْعرفِيّ (فِي مثله قبل) وُرُود
(الشَّرْع رفع الْعقُوبَة) فَإِن السَّيِّد إِذا قَالَ
لعَبْدِهِ رفعت عَنْك الْخَطَأ كَانَ الْمَفْهُوم مِنْهُ
أَنِّي لَا أؤاخذك بِهِ وَلَا أعاقبك عَلَيْهِ، فَهُوَ وَاضح
فِيهِ (وَالْإِجْمَاع) مُنْعَقد (على إِرَادَته) أَي رفع
الْعقُوبَة من الحَدِيث الْمَذْكُور (شرعا) أَي إِرَادَة
شَرْعِيَّة فَلَزِمَ مُوَافقَة عرف الشَّرْع بعرف اللُّغَة
(وَلَيْسَ الضَّمَان عُقُوبَة) فَلَا يُرَاد أَن رفع
الْعقُوبَة مُطلقًا فِي الْخَطَأ يسْتَلْزم سُقُوط الضَّمَان
فِيمَا إِذا أتلف مَال الْغَيْر خطأ (بل) يجب (جبرا لحَال
المغبون) الْمُتْلف عَلَيْهِ فَلَا يجب عُقُوبَة (قَالُوا) أَي
الذاهبون إِلَى الْإِجْمَال فِيمَا ذكر المذكورون فِيمَا سبق
بطرِيق الْإِشَارَة، لِأَن الْمسَائِل المعدودة مِمَّا اخْتلف
الأصوليون فِيهَا بِاعْتِبَار الْإِجْمَال وَعَدَمه
(الْإِضْمَار) وَالتَّقْدِير لمتعلق الرّفْع (مُتَعَيّن) لِأَن
نفس الْخَطَأ غير مَرْفُوع لوُقُوعه أَكثر من أَن يُحْصى
(وَلَا معِين) لخُصُوص المُرَاد فَلَزِمَ الْإِجْمَال (أُجِيب)
عَن احتجاجهم بِأَنَّهُ (عينه) أَي الْبَعْض بِخُصُوصِهِ،
وَهُوَ رفع الْعقُوبَة (الْعرف الْمَذْكُور) على مَا عرفت.
المسئلة (الرَّابِعَة لَا إِجْمَال فِيمَا يَنْفِي من
الْأَفْعَال الشَّرْعِيَّة محذوفة الْخَبَر) أَي خبر لَا
النافية الدَّاخِلَة على الْأَفْعَال الْمَذْكُورَة (كلا
صَلَاة إِلَّا بِفَاتِحَة الْكتاب) ، لَا صَلَاة (إِلَّا
بِطهُور) فَهَذَا من قبيل زيد عَالم (خلافًا للْقَاضِي) أبي
بكر الباقلاني (لنا أَن نثبت أَن الصِّحَّة جُزْء مَفْهُوم
الِاسْم الشَّرْعِيّ) وَسَيَأْتِي مَا فِيهِ (وَلَا عرف)
للشارع (يصرف عَنهُ) أَي الْمَفْهُوم الشَّرْعِيّ (لزم
تَقْدِير الْوُجُود) لِأَن الْمُتَبَادر إِلَى الْفَهم من نفي
الْفِعْل الشَّرْعِيّ أحد الْأَمريْنِ: إِمَّا نفي الْوُجُود
وَهُوَ الْأَظْهر، وَإِمَّا نفي الصِّحَّة، وَحَيْثُ فرض جزئية
الصِّحَّة من مَفْهُوم الْكُلِّي كَانَ نفي الصِّحَّة مستلزما
لنفي الْوُجُود، وَلَا شكّ أَن نفي الْوُجُود مُسْتَلْزم لنفي
الصِّحَّة، لِأَنَّهُ لَا صِحَة بِدُونِ الْوُجُود فاذن
بَينهمَا تلازم، وَقد عرفت أَن نفي الْوُجُود أظهر وَأقرب
إِلَى الْفَهم فَتعين (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم تثبت جزئيتها
لَهُ (فَإِن تعورف صرفه) أَي نفي الْفِعْل شرعا فِي مثل ذَلِك
(إِلَى) نفي (الْكَمَال لزم) صرفه إِلَيْهِ كَمَا فِي لَا
صَلَاة لِجَار الْمَسْجِد لَا فِي الْمَسْجِد أخرجه
الدَّارَقُطْنِيّ وَالْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه، وَقَالَ ابْن
خرم هُوَ صَحِيح من قَول عَليّ (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتعارف
صرفه إِلَى نفي الْكَمَال (لزم
(1/169)
تَقْدِير الصِّحَّة لِأَنَّهُ) أَي تقديرها
(أقرب إِلَى نفي الذَّات) من تَقْدِير الْكَمَال يَعْنِي أَن
الْحَقِيقَة المعتذرة هِيَ نفي الذَّات، وَعند تعذرها
يتَعَيَّن الْأَقْرَب إِلَيْهَا فَإِن قلت قد سبق أَن نفي
الْوُجُود أظهر وَهُوَ أقرب إِلَيْهِ قُلْنَا الْمَفْرُوض عدم
الصِّحَّة جزئية من مَفْهُوم الِاسْم، وَعند ذَلِك يتَحَقَّق
الْمَفْهُوم بِدُونِ الصِّحَّة، وكما أَن نفي الذَّات غير
صَحِيح، لِأَنَّهُ خلاف الْوَاقِع كَذَلِك نفي الْوُجُود
بِدُونِ الصِّحَّة غير صَادِق فَلَا تصح إِرَادَته فَتعين أَن
يُرَاد نفي الصِّحَّة (وَهَذَا) أَي التَّعْلِيل بالأقربية على
إِرَادَة نفي الصِّحَّة (تَرْجِيح لإِرَادَة بعض المجازات
المحتملة) أَي بعض الْمعَانِي المجازية الَّتِي يحْتَملهُ
اللَّفْظ بِحَسب الْمقَام على الْبَعْض (لَا إِثْبَات اللُّغَة
بالترجيح) فَإِنَّهُ غير جَائِز على مَا ذهب إِلَيْهِ
الْجُمْهُور من عدم جَوَاز إِثْبَات اللُّغَة بِالْقِيَاسِ
خلافًا للْقَاضِي وَابْن سُرَيج، وَبَعض الْفُقَهَاء،
وَإِنَّمَا الْخلاف فِي تَسْمِيَة مسكوت عَنهُ باسم إِلْحَاقًا
لَهُ بِمَعْنى يُسمى بذلك الِاسْم لِمَعْنى تَدور التَّسْمِيَة
بِهِ مَعَه كَمَا بَين فِي مَوْضِعه، وكما أَنه لَا يجوز
بِالْقِيَاسِ كَذَلِك لَا يجوز بالترجيح لاشْتِرَاكهمَا فِي
الْعلَّة، وَهِي عدم صِحَة الحكم بِوَضْع اللَّفْظ بالمحتمل
(قَالُوا) أَي المجملون (الْعرف فِيهِ) أَي فِيمَا يَنْفِي من
الْأَفْعَال الشَّرْعِيَّة (مُشْتَرك بَين الصِّحَّة والكمال)
يَعْنِي كَمَا أَنه يُرَاد بِهِ نفي الصِّحَّة عرفا فِي بعض
الْموَاد كَذَلِك يُرَاد بِهِ نفي الْكَمَال عرفا فِي بعض آخر،
(ف) إِذا كَانَ اللَّفْظ مُشْتَركا عرفا بَين الْمَعْنيين (لزم
الْإِجْمَال قُلْنَا) الِاشْتِرَاك بَينهمَا عرفا (مَمْنُوع
بل) إِرَادَة نفي الْكَمَال فِي بعض الاستعمالات الشَّرْعِيَّة
مجَازًا (لاقْتِضَاء الدَّلِيل) الدَّال على أَن المُرَاد نفي
الْكَمَال (فِي خصوصيات الْمَوَارِد) فَهُوَ قرينَة مُعينَة
للمعنى الْمجَازِي مُخْتَصَّة بموارد جزئية، وَعند انْتِفَاء
تِلْكَ الْقَرِينَة يتَعَيَّن الْمجَازِي الْأَقْرَب إِلَى
الْحَقِيقَة على مَا ذكر من غير مزاحمة مجازى آخر فَلَا
إِجْمَال.
الْمَسْأَلَة (الْخَامِسَة لَا إِجْمَال فِي الْيَد وَالْقطع
فَلَا إِجْمَال فِي فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا) يَعْنِي لَو
كَانَ فِيهِ إِجْمَال لَكَانَ باعتبارهما، لِأَن غَيرهمَا من
الْأَجْزَاء لَا يتَوَهَّم فِيهِ ذَلِك، وَإِذا لم يكن فِي
شَيْء مِنْهُمَا لزم نفي الْإِجْمَال فِيهِ مُطلقًا (و) قَالَ
(شرذمة) بِالْكَسْرِ: أَي قَلِيل من النَّاس (نعم) حرف إِيجَاب
يُقرر مَا قبلهَا خبريا أَو إستفهاميا مثبتا أَو منفيا،
يَعْنِي نعم فِيهَا إِجْمَال (فَنعم) أَي فَفِي فَاقْطَعُوا
إِلَى آخِره إِجْمَال باعتبارهما، وَقد سبق أَن فِي أَمْثَاله
الْإِجْمَال فِي الْمُفْرد بِشَرْط التَّرْكِيب، وَالْحجّة
(لنا أَنَّهُمَا) أَي الْيَد وَالْقطع (لُغَة) موضوعان
(لجملتها) أَي الْيَد من رُءُوس الْأَصَابِع (إِلَى الْمنْكب)
وَهُوَ مجمع رَأس الْكَتف والعضد (والأبانة) وَهِي فصل
الْمُتَّصِل (قَالُوا) أَي المجملون (يُقَال) الْيَد (للْكُلّ
و) يُقَال للجزء مِنْهَا من رُءُوس الْأَصَابِع (إِلَى
الْكُوع) وَهُوَ طرف الزند الَّذِي يَلِي الْإِبْهَام (و)
يُقَال (الْقطع للإبانة وَالْجرْح) وَهُوَ شقّ الْعُضْو من غير
إبانة لَهُ بِالْكُلِّيَّةِ (وَالْأَصْل) فِي اسْتِعْمَال
اللَّفْظ (الْحَقِيقَة) فَهُوَ حَقِيقَة فِي كل مِنْهُمَا
وَلَا مُرَجّح
(1/170)
لوَاحِد من الْكل والجزء فِي الأول،
والأبانة وَالْجرْح فِي الثَّانِي، فَكَانَا مجملين
(وَالْجَوَاب) أَنا لَا نسلم اشتراكهما (بل) كل من الْيَد
وَالْقطع (مجَاز فِي) الْمَعْنى (الثَّانِي) أَي الْجُزْء
وَالْجرْح (للظهور) أَي لظُهُور الْيَد وَالْقطع (فِي
الْأَوَّلين) الْكل والأبانة، وتبادر الْمَعْنى من اللَّفْظ
دَلِيل الْحَقِيقَة، وَلَو كَانَا مشتركين لم يتَبَادَر أحد
الْمَعْنيين (فَلَا إِجْمَال، وَاسْتدلَّ) بمزيف على نفي
الْإِجْمَال وَهُوَ أَن كلا مِنْهُمَا (يحْتَمل الِاشْتِرَاك)
اللَّفْظِيّ على الْوَجْه الْمَذْكُور (والتواطؤ) بِأَن تكون
الْيَد مَوْضُوعَة للقدر الْمُشْتَرك بَين الْكل والجزء،
وَالْقطع للقدر الْمُشْتَرك بَين الأبانة وَالْجرْح
(وَالْمجَاز) بِأَن يكون كل مِنْهُمَا حَقِيقَة فِي أحد فِي
الْمَعْنيين مجَازًا فِي الآخر (والإجمال) يتَحَقَّق (على
أَحدهَا) أَي أحد الِاحْتِمَالَات الثَّلَاثَة (وَعَدَمه) أَي
عدم الِاحْتِمَال يتَحَقَّق (على اثْنَيْنِ) من الثَّلَاثَة
(فَهُوَ) أَي عدم الْإِجْمَال (أولى) بِالِاعْتِبَارِ، لِأَن
وُقُوع وَاحِد لَا بِعَيْنِه من اثْنَيْنِ أقرب من وُقُوع
وَاحِد بِعَيْنِه فيغلب على الظَّن الْأَقْرَب المستلزم عدم
الْإِجْمَال (وَدفع) الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور (بِأَنَّهُ)
أَي هَذَا الِاسْتِدْلَال (إِثْبَات اللُّغَة) وَوضع اللَّفْظ:
أَي الْيَد وَالْقطع (بِتَعْيِين مَا وضع لَهُ الْيَد)
وَالْقطع، الْبَاء للْبَيَان مُتَعَلق بالإثبات (بالترجيح)
مُتَعَلق بِالتَّعْيِينِ (لعدم الْإِجْمَال) على الْإِجْمَال،
فَاللَّام صلَة التَّرْجِيح، وَحَاصِله إِثْبَات أَن الْيَد
وَالْقطع مَوْضُوع للْكُلّ والإبانة، بِدَلِيل تَرْجِيح عدم
الْإِجْمَال عَلَيْهِ لكَونه أقرب مَوْضُوعا من وجوده لما ذكر،
وَقد مر أَن إِثْبَات اللُّغَة بِمثلِهِ غير صَحِيح (على أَن
نفي الْإِجْمَال) هُنَا أَعنِي (فِي الْآيَة على تَقْدِير
التواطئ مَمْنُوع إِذْ الْحمل) أَي حمل كل وَاحِد من الْيَد
وَالْقطع (على الْقدر الْمُشْتَرك لَا يتَصَوَّر، إِذْ لَا
يتَصَوَّر إِضَافَة الْقطع) ونسبته (إِلَيْهِ) أَي إِلَى
الْقدر الْمُشْتَرك (إِلَّا على إِرَادَة الْإِطْلَاق) بِأَن
يُرَاد إِيقَاع الْقطع على أَفْرَاد مَا من أَفْرَاد
الْمُشْتَرك: أَي فَرد كَانَ لِأَنَّهُ لَو لم يرد ذَلِك
لامتنع إِضَافَة الْقطع إِلَيْهِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ إِمَّا
أَن يُرَاد بِهِ الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ، وَهِي أَمر
اعتباري لَا وجود لَهُ فِي الْخَارِج، وَإِمَّا أَن يُرَاد
بِهِ كل فَرد مِنْهُ فَيلْزم قطع كل مَا يصدق عَلَيْهِ الْقدر
الْمُشْتَرك، وَهُوَ ظَاهر الْبطلَان فَلم يبْق إِلَّا
الْإِطْلَاق (وَهُوَ) أَي الْإِطْلَاق (مُنْتَفٍ إِجْمَاعًا)
لِأَن مُقْتَضَاهُ حُصُول إِقَامَة حد السّرقَة بِقطع جُزْء من
أَجزَاء الْيَد مُطلقًا وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع فَعلم أَنه
على تَقْدِير التواطئ لَا يُرَاد الْقدر الْمُشْتَرك (فَكَانَ)
المُرَاد (محلا معينا مِنْهَا) أَي من الْيَد (لَا معِين) فِي
اللَّفْظ وَالْمعْنَى فَلَزِمَ الْإِجْمَال (وَالْحق أَنه لَا
تواطؤ) أَي لَيْسَ بموضوع للقدر الْمُشْتَرك (وَإِلَّا نَاقض)
تواطؤه (كَونه) مَوْضُوعا (للْكُلّ) وَوَضعه ثَابت للْكُلّ
نقلا وَيدل عَلَيْهِ تبادره عِنْد الْإِطْلَاق من غير قرينَة
صارفة عَنهُ (لَكِن يعلم إِرَادَة الْقطع فِي خُصُوص) أَي فِي
جُزْء مَخْصُوص (مِنْهُ) أَي من الْكل لإِرَادَة قطع الْكل،
وَهَذَا الْعلم بِمَا
(1/171)
قَامَ عِنْد المخاطبين من الْقَرَائِن
الدَّالَّة على كَون المُرَاد محلا معينا من غير تعْيين ذَلِك
الْمعِين، وَلذَا قَالَ (وَلَا معِين، فإجماله فِيهِ) أَي
فَكَانَ الْقطع مُجملا فِي حق مَحَله الْمعِين (وَأما إِلْزَام
أَن لَا مُجمل حِينَئِذٍ) جَوَاب سُؤال مُقَدّر على
الِاسْتِدْلَال المزيف، تَقْرِيره يلْزم أَن لَا يكون مُجمل
أبدا أَو مَا من الْجمل وَإِلَّا يجْرِي فِيهِ ذَلِك
بِعَيْنِه، وَقَوله حِينَئِذٍ أَي حِين يتم هَذَا التَّوْجِيه
(فَدفع) الْإِلْزَام الْمَذْكُور (بِأَن ذَلِك) أَي جَرَيَان
الدَّلِيل فِيمَا (إِذا لم يتَعَيَّن) الْإِجْمَال بدليله
(لَكِن تعينه) أَي الْإِجْمَال فِي موَاضعه (ثَابت بِالْعلمِ
بالاشتراك والحقائق الشَّرْعِيَّة) إِشَارَة إِلَى مَا سبق من
أَن الأجمال قد يكون لتَعَدد مَكَان لَا يعرف إِلَّا بِبَيَان
كمشترك تعذر تَرْجِيحه، وَقد يكون لإبهام مُتَكَلم لوضعه لغير
مَا عرف كالأسماء الشَّرْعِيَّة من الصَّلَاة وَالزَّكَاة
والربا، وَقد مر بَيَانه، فَالْمُرَاد بقوله بِالْعلمِ الخ
الْعلم بِهِ مَعَ تعذر التَّرْجِيح، وَقَوله والحقائق مَعْطُوف
على الِاشْتِرَاك يَعْنِي الْإِجْمَال ثَابت بعلمنا بِأَن
الصَّلَاة مثلا لَهَا حَقِيقَة شَرْعِيَّة مُعينَة غير
اللُّغَوِيَّة مُرَادة للشارع عِنْد اسْتِعْمَالهَا وَلَا
معِين لَهَا عِنْد التخاطب بهَا، فَلَزِمَ الْإِجْمَال.
الْمَسْأَلَة (السَّادِسَة لَا إِجْمَال فِيمَا) أَي لفظ (لَهُ
مسميان لغَوِيّ وشرعي) كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْم وضعا فِي
اللُّغَة للدُّعَاء والإمساك، وَفِي الشَّرْع للمحققين
الشرعيين (بل) ذَلِك اللَّفْظ إِذا صدر عَن الشَّارِع (ظَاهر
فِي) الْمُسَمّى (الشَّرْعِيّ) فِي الْإِثْبَات وَالنَّهْي،
وَهَذَا أحد الْأَقْوَال فِي هَذِه المسئلة: وَهُوَ
الْمُخْتَار (وَثَانِيها للْقَاضِي أَنه مُجمل فيهمَا) و
(ثَالِثهَا للغزالي) وَهُوَ أَن (فِي النَّهْي مُجمل) وَفِي
الْإِثْبَات الشَّرْعِيّ (وَرَابِعهَا) لقوم مِنْهُم
الْآمِدِيّ وَهُوَ أَنه (فِيهِ) أَي فِي النَّهْي (اللّغَوِيّ)
وَفِي الْإِثْبَات الشَّرْعِيّ (لنا عرفه) أَي عرف الشَّرْع
(يقْضِي) أَي يحكم (بظهوره) أَي اللَّفْظ (فِيهِ) أَي فِي
الشَّرْع، لِأَنَّهُ صَار مَوْضُوعا فِي عرف الشَّرْع
وَالظَّاهِر من الشَّارِع، بل وَمن أهل الشَّرْع أَيْضا أَن
يُخَاطب بعرفه، كَيفَ وَلَو خَاطب بِغَيْرِهِ كَانَ مجَازًا
إِلَّا إِذا كَانَ التخاطب بذلك الْغَيْر (الْإِجْمَال) أَي
دَلِيل الْإِجْمَال فِي الْإِثْبَات وَالنَّهْي أَنه (يصلح
لكل) من الْمُسَمّى اللّغَوِيّ والشرعي وَلم يَتَّضِح وَهُوَ
معنى الْإِجْمَال، وَالْجَوَاب ظُهُوره فِي الشَّرْعِيّ. قَالَ
(الْغَزالِيّ) مَا ذكرْتُمْ من الظُّهُور فِي الْإِثْبَات
وَاضح، وَأما فِي النَّهْي فَلَا يُمكن حمله على الْمُسَمّى
(الشَّرْعِيّ) إِذْ الشَّرْعِيّ (مَا وَافق أمره) أَي
الشَّارِع (وَهُوَ) مَا وَافق أمره (الصَّحِيح) فالشرعي هُوَ
الصَّحِيح (وَيمْتَنع) الْوِفَاق (فِي النَّهْي) لِأَن
الْمنْهِي عَنهُ مُخَالف لِلْأَمْرِ، لِأَن النَّهْي يدل على
فَسَاده (أُجِيب) عَنهُ بِأَنَّهُ (لَيْسَ الشَّرْعِيّ
الصَّحِيح) أَي لَا يعْتَبر الصِّحَّة فِي الْمُسَمّى
الشَّرْعِيّ لَا جَزَاء وَلَا شرطا (بل) الشَّرْعِيّ
(الْهَيْئَة) بِالنّصب عطف على خبر لَيْسَ، وَلَا يضر
انْتِقَاض النَّفْي ببل، لِأَن عَملهَا للفعلية: يَعْنِي
لَيْسَ الْمُسَمّى الشَّرْعِيّ هُوَ الصَّحِيح، بل مَا
يُسَمِّيه الشَّارِع
(1/172)
بذلك الِاسْم من الهيآت الْمَخْصُوصَة
حَيْثُ يَقُول هَذِه صَلَاة صَحِيحَة، وَهَذِه صَلَاة فَاسِدَة
(وَالرَّابِع) أَي وَالْقَوْل الرَّابِع (مثله) أَي مثل
القَوْل الثَّالِث فِي الْإِثْبَات وَقد عرفت أَن الثَّالِث
أَنه فِي الْإِثْبَات الشَّرْعِيّ (غير أَنه) فِي اللَّفْظ فِي
هَذَا القَوْل (فِي النَّهْي) مُتَعَيّن (للغوي إِذْ لَا
ثَالِث) للغوي والشرعي (وَقد تعذر الشَّرْعِيّ) لما عرفت فِي
الثَّالِث، فَلَا إِجْمَال حَيْثُ تعين اللّغَوِيّ (وَجَوَابه
مَا تقدم) من قَوْله أُجِيب لَيْسَ الشَّرْعِيّ الصَّحِيح
إِلَى آخِره، وَأَنه يلْزم أَن يكون معنى قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم " لَا صَلَاة لِجَار الْمَسْجِد " الحَدِيث،
ودعى الصَّلَاة للحائض وَنَحْوهمَا لَا دُعَاء ودعى الدُّعَاء
إِلَى غير ذَلِك، وبطلانه ظَاهر، وَلَك أَن تَقول لم لَا يجوز
أَن يكون مُرَاد هَذَا الْقَائِل كَون اللَّفْظ فِي النَّهْي
للهيئة الْمُجَرَّدَة عَن اعْتِبَار الصِّحَّة من حَيْثُ أَنه
فَرد من أَفْرَاد الْمَعْنى اللّغَوِيّ، فاللفظ مُسْتَعْمل فِي
الْفَرد الْمُنْتَشِر، والخصوصية مَأْخُوذَة من الْقَرِينَة
فَلَا مجَاز وَلَا إِجْمَال فَتَأمل ذَلِك، كَيفَ وَإِن لم
يؤول كَلَامه بِمثلِهِ، لَكِن إِن ظَاهر الْبطلَان لَا يَقُول
بِهِ عَاقل (فَأَما الْحَنَفِيَّة فاعتبروا وصف الصِّحَّة فِي
الِاسْم الشَّرْعِيّ على مَا يعرف) فِي مَبْحَث النَّهْي،
لَكِن لَهُم تَفْصِيل فِي تَفْسِيرهَا كَمَا أَفَادَ بقوله
(فالصحة فِي) بَاب (الْمُعَامَلَة ترَتّب الْآثَار) واستتباع
الْغَايَة الْمَطْلُوبَة مِنْهَا كَمَا فِي قَوْله (مَعَ عدم
وجوب الْفَسْخ) أَي فسخ تِلْكَ الْمُعَامَلَة الَّتِي ترَتّب
عَلَيْهَا الْآثَار، احْتِرَازًا عَن ترَتّب الْأَثر الَّذِي
فِي الْفَاسِد، فَإِنَّهُ يجب فَسخهَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ
بقوله (وَالْفساد عِنْدهم) أَي عِنْد الْحَنَفِيَّة ترَتّب
الْآثَار (مَعَه) أَي مَعَ وجوب الْفَسْخ (وَإِن كَانَ)
الصَّحِيح (عبَادَة فالترتب) أَي فالصحة فِيهِ ترَتّب الْأَثر
بِدُونِ قيد آخر، والأثر بَرَاءَة الذِّمَّة فِي الدُّنْيَا
وَالثَّوَاب فِي الْآخِرَة (فيراد) بِالِاسْمِ الشَّرْعِيّ
(فِي النَّفْي) وَهُوَ يَشْمَل النَّهْي أَيْضا (الصُّورَة)
وَهِي مُجَرّدَة ذَلِك الْمُسَمّى خَالِيَة عَن وصف الصِّحَّة
(مَعَ النِّيَّة فِي الْعِبَادَة) أَي فِيمَا إِذا كَانَ
الْمُسَمّى الشَّرْعِيّ الْمَنْفِيّ عبَادَة (وَيكون) الِاسْم
الشَّرْعِيّ حِينَئِذٍ (مجَازًا شَرْعِيًّا) مرعيا فِيهِ
الْعَلامَة بَين الْمَعْنى الْمجَازِي وَبَين مَا وضع لَهُ
الِاسْم فِي عرف الشَّرْع مُسْتَعْملا (فِي جُزْء الْمَفْهُوم)
الشَّرْعِيّ وَذَلِكَ لِأَن الْمنْهِي عَنهُ لَا ثَوَاب لَهُ
فَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الْأَثر، والترتب عين الصِّحَّة فِي
الْعِبَادَة بِخِلَاف الْمُعَامَلَة، فَإِنَّهُ جُزْء مفهومها
فِيهَا وَهُوَ يتَحَقَّق فِي الْفَاسِد أَيْضا، فالفاسد فِي
الْمُعَامَلَات غير صَحِيح يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الْأَثر كالملك
فِي البيع الْفَاسِد إِذا اتَّصل بِهِ الْقَبْض بِخِلَاف
الْبَاطِل، فَإِنَّهُ مُقَابل للصحيح وَالْفَاسِد.
الْمَسْأَلَة (السَّابِعَة إِذا حمل الشَّارِع لفظا شَرْعِيًّا
على) لفظ شَرْعِي (آخر) حمل مواطأة وَكَانَ بَين مفيديهما
تبَاين فِي الْوَاقِع، فَحمل من بَاب التَّشْبِيه البليغ كزيد
أَسد (وَأمكن فِي وَجه الشّبَه محملان) محمل (شَرْعِي) ومحمل
(ولغوي لزم الشَّرْعِيّ كالطواف صَلَاة) تَمَامه الطّواف
بِالْبَيْتِ صَلَاة إِلَّا أَن
(1/173)
الله تَعَالَى قد أحل لكم فِيهِ الْكَلَام،
فَمن تكلم فَلَا يتَكَلَّم إِلَّا بِخَير، وَقَالَ الْحَاكِم
صَحِيح الْإِسْنَاد حمل الشَّارِع لفظ الصَّلَاة الْمَوْضُوع
شرعا للأركان الْمَخْصُوصَة على الطّواف الْمَوْضُوع شرعا
للأشراط الْمَخْصُوصَة وَلَا اتِّحَاد بَينهمَا، فاحتيج إِلَى
أَن يصرف عَن الظَّاهِر، وَحمل على أَنه كَالصَّلَاةِ فاحتجنا
إِلَى بَيَان وَجه الشّبَه، وَله وَجْهَان، فَأَشَارَ
إِلَيْهِمَا بقوله (تصح) فِي وَجه الشّبَه أَن يكون الْمَعْنى
كَونهَا مثلهَا (ثَوابًا أَو لاشْتِرَاط الطَّهَارَة) عطف على
ثَوابًا لكَونه معلولا لَهُ للشبيه الْمَفْهُوم من فحوى
الْكَلَام: أَي شبه للثَّواب: أَي الْمُشَاركَة فِيهِ، أَو
للمشاركة فِي اشْتِرَاط الطَّهَارَة، فَقَوله تصح إِلَى آخِره
مستأنفة لبَيَان المحملين (وَهُوَ) أَن الْمحمل على أحد
الْأَمريْنِ: الثَّوَاب أَو الِاشْتِرَاط هُوَ الْمحمل
(الشَّرْعِيّ) لِأَن حَاصله يرجع إِلَى بَيَان حكم شَرْعِي،
أَو لِأَن الملحوظ فيهمَا المعنيان الشرعيان (أَو لوُقُوع
الدُّعَاء فِيهِ) أَي فِي الطّواف وَالدُّعَاء هُوَ معنى
الصَّلَاة لُغَة فالمشبه حِينَئِذٍ بِالْمَعْنَى الشَّرْعِيّ
والمشبه بِهِ مَا صدق عَلَيْهِ بِالْمَعْنَى اللّغَوِيّ، وَوجه
الشّبَه اشْتِمَال كل مِنْهُمَا على الدُّعَاء وَإِن كَانَ فِي
أَحدهمَا من قبيل اشْتِمَال الظّرْف على المظروف، وَفِي الآخر
من قبيل الْفَرد على الطبيعة (وَهُوَ) أَي الْحمل على هَذَا
الْمَعْنى هُوَ الْمحمل (اللّغَوِيّ) لبنائه على الْمَعْنى
اللّغَوِيّ، أَو لِأَن فَائِدَة الْخطاب حِينَئِذٍ لَيست
بَيَان حكم شَرْعِي، بل مُجَرّد اشتمالهما على الدُّعَاء وَهِي
مِمَّا يفاد فِي المحاورات اللُّغَوِيَّة، وَلَا يخفى مَا
فِيهِ (والاثنان جمَاعَة) معطوفة على قَوْله الطّواف صَلَاة:
أَي الِاثْنَان كالجماعة، يَصح أَن يكون من حَيْثُ الثَّوَاب
مثلهَا (فِي) مِقْدَار (ثَوَابهَا و) فِي (سنة تقدم الامام)
إِضَافَة سنة بَيَانِيَّة، وإذافة تقدم إِضَافَة الْمصدر إِلَى
الْفَاعِل (و) فِي (الْمِيرَاث) حَتَّى يحجب الِاثْنَان من
الْأُخوة للْأُم من الثُّلُث إِلَى السُّدس كالثلاثة
فَصَاعِدا، وَهَذَا هُوَ الشَّرْعِيّ (أَو يصدق) عَلَيْهِ
مَفْهُوم الْجَمَاعَة (عَلَيْهِمَا) أَي الِاثْنَيْنِ (لُغَة)
أَي بِاعْتِبَار الْمَعْنى اللّغَوِيّ، فَقَوله أَو يصدق
مَعْطُوف على مجرور فِي، لِأَنَّهُ فِي تَأْوِيل الْمصدر،
وَالْمعْنَى أَو فِي صدقه عَلَيْهِمَا صدقا بِحَسب اللُّغَة،
وَالْحجّة (لنا) فِي نفي الْإِجْمَال مُطلقًا (عرفه) النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا هُوَ الْمُعْتَاد مِنْهُ
(تَعْرِيف الْأَحْكَام) الشَّرْعِيَّة وتبينها، فالمحمل
الشَّرْعِيّ على طبقه دون الْمحمل اللّغَوِيّ فَيتَعَيَّن،
فَلَا إِجْمَال (وَأَيْضًا لم يبْعَث) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(لتعريف اللُّغَة) فَبعد حمل كَلَامه عَلَيْهِ ومرجع الْمحمل
اللّغَوِيّ، وَهُوَ كَون الطّواف صَلَاة لوُقُوع الدُّعَاء
فِيهِ، وَكَون الِاثْنَيْنِ جمَاعَة لصدقه عَلَيْهِمَا
تَعْرِيف بِهِ، وَبَيَان اللُّغَة الصَّلَاة من حَيْثُ
إِنَّهَا تصدق على الطّواف من حَيْثُ اشتماله على الدُّعَاء،
وللغة الْجَمَاعَة من حَيْثُ إِنَّهَا تصدق على الِاثْنَيْنِ
(قَالُوا) أَي المجملون (يصلح) اللَّفْظ (لَهما) أَي للمحمل
الشَّرْعِيّ واللغوي لِأَنَّهُ هُوَ الْمَفْرُوض، وَلم
يَتَّضِح دلَالَته على أَحدهمَا لعدم الدَّلِيل، كَمَا أَشَارَ
إِلَيْهِ بقوله (وَلَا معرف) لأَحَدهمَا بِعَيْنِه (قُلْنَا
(1/174)
مَا ذكرنَا) دلَالَته من أَن عرفه تَعْرِيف الْأَحْكَام لَا
اللُّغَة (معرف) لتعيين المُرَاد مِنْهُمَا.
المسئلة (الثَّامِنَة إِذا تساوى إِطْلَاق لفظ لِمَعْنى
ولمعنيين) بِأَن أطلق لِمَعْنى وَاحِد تَارَة ولمعنيين تَارَة
أُخْرَى، وَلَيْسَ أحد الاستعمالين أرجح من الآخر (فَهُوَ) أَي
اللَّفْظ الْمَذْكُور (مُجمل) لتردده بَين الْمَعْنى والمعنيين
على السوَاء (كالدابة للحمار، وَله) أَي للحمار (مَعَ الْفرس
وَمَا رجح بِهِ) القَوْل بظهوره فِي الْمَعْنيين (من كَثْرَة
الْمَعْنى) فَإِن الْمَعْنيين أَكثر فَائِدَة (إِثْبَات
الْوَضع بِزِيَادَة الْفَائِدَة) وَقد علم بُطْلَانه، فالترجيح
بِهِ بَاطِل، كَذَا قَالُوا، وَاعْترض المُصَنّف عَلَيْهِ
بقوله (وَهُوَ) أَي الحكم بِأَنَّهُ إِثْبَات الْوَضع إِلَى
آخِره (غلط بل هُوَ) أَي مَا رجح بِهِ (إِرَادَة أحد
المفهومين) أَي دَلِيل إِرَادَته (بهَا) أَي بِزِيَادَة
الْفَائِدَة وَلَا مَحْذُور فِيهِ (نعم هُوَ) أَي مَا رجح بِهِ
(معَارض بِأَن الْحَقَائِق) أَي الْأَلْفَاظ المستعملة فِي
مَعَانِيهَا الَّتِي وضعت بإزائها إِطْلَاقهَا (لِمَعْنى)
وَاحِد (أغلب) وَأكْثر من إِطْلَاقهَا لمعنيين فَصَاعِدا
(وَقَوْلهمْ) أَي المجملين (يحْتَمل) اللَّفْظ الْمَذْكُور
الِاحْتِمَالَات (الثَّلَاثَة) الِاشْتِرَاط اللَّفْظِيّ
والتواطؤ وَالْمجَاز فِي أحد الاطلاقين (كَمَا فِي
وَالسَّارِق) على مَا تقدم (انْدفع) بِمَا ذكرنَا ثمَّة،
فَارْجِع ليه ولتعلم أَن اللَّفْظ إِذا أطلق تَارَة لِمَعْنى
وَأُخْرَى لذَلِك الْمَعْنى بِعَيْنِه مَعَ معنى آخر، فالإجمال
فِيهِ بِاعْتِبَار هَذَا الآخر فَقَط، لِأَن ذَلِك الْمَعْنى
لَا شكّ فِي كَونه مرَادا وَالله أعلم بِالصَّوَابِ. |