تيسير التحرير (صِيغَة الْأَمر لَا تحْتَمل التَّعَدُّد
الْمَحْض)
بِأَن لَا يكون هُنَاكَ جِهَة وَاحِدَة (لأفراد مفهومها)
مُتَعَلق بالتعدد (فَلَا تصح إِرَادَته) أَي التَّعَدُّد
الْمَحْض من صيغته (كَالطَّلَاقِ) أَي كَمَا لَا تصح إِرَادَة
الطَّلَاق (من اسقنى خلافًا للشَّافِعِيّ) رَحمَه الله
فَإِنَّهُ ذهب إِلَى أَنَّهَا تحتمله، وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا
تحتمله (لِأَنَّهَا مختصرة من طلب الْفِعْل بِالْمَصْدَرِ
النكرَة) حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ: طلق أَو وَقع طَلَاقا
(وَهُوَ) أَي الْمصدر النكرَة (فَرد) من
(1/355)
حَيْثُ أَنه لَا تركيب فِيهِ من جِهَة
مَعْنَاهُ، وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ (فَتجب مُرَاعَاة
فردية مَعْنَاهُ) (فَلَا تحْتَمل ضد مَعْنَاهُ) وَهُوَ
التَّعَدُّد الْمَحْض، وَالْعدَد فِيهِ تركيب من الْأَفْرَاد
(وَصِحَّة إِرَادَة الثِّنْتَيْنِ فِي الْأمة، وَالثَّلَاث فِي
الْحرَّة للوحدة الجنسية) لِأَن الثِّنْتَيْنِ كل جنس طَلَاق
الْأمة وَتَمَامه كَمَا أَن الثَّلَاث كَذَلِك فِي الْحرَّة
فَإِنَّهُ لوحدته كل مِنْهُمَا فَرد وَاحِد من أَجنَاس
التَّصَرُّفَات الشَّرْعِيَّة فَيَقَع بِالنِّيَّةِ (بِخِلَاف
الثِّنْتَيْنِ فِي الْحرَّة) فَإِنَّهُ (لَا جِهَة لوحدته)
فيهمَا لَا حَقِيقَة وَلَا حكما (فَانْتفى) كَونه مُحْتَمل
اللَّفْظ فَلَا ينَال بِالنِّيَّةِ وَالْحَاصِل أَن الْفَرد
الْحَقِيقِيّ مُوجبه والفرد الاعتباري محتمله، وَالْعدَد
الْمَحْض لَا مُوجبه وَلَا يحْتَملهُ، وَمُوجب اللَّفْظ يثبت
بِاللَّفْظِ من غير افتقار إِلَى النِّيَّة، ومحتمله لَا يثبت
إِلَّا بِالنِّيَّةِ، وَمَا لَا يحْتَملهُ لَا يثبت وَإِن نوى،
لِأَن النِّيَّة لتعيين مُحْتَمل اللَّفْظ، لَا لإِثْبَات مَا
لَا يحْتَملهُ (وَبعد أَنه لَا يلْزم اتِّحَاد مَدْلُول
الصِّيغَة وتعدده) أَي تعدد مدلولها، بل قد يكون وَاحِدًا،
وَقد يكون مُتَعَددًا (فقد يبعد نفي الِاحْتِمَال) أَي
احْتِمَال التَّعَدُّد (لثُبُوت الْفرق لُغَة بَين أَسمَاء
الْأَجْنَاس الْمعَانِي، وَبَعض) أَسمَاء الْأَجْنَاس
(الْأَعْيَان) إِذْ لَا يُقَال لِرجلَيْنِ رجل، وَيُقَال
للْقِيَام الْكثير قيام كالأعيان المتماثلة الْأَجْزَاء
كَالْمَاءِ وَالْعَسَل، فَإِذا صدق الطَّلَاق على طَلْقَتَيْنِ
كَيفَ لَا يحْتَملهُ) أَي الطَّلَاق هَذَا الْعدَد (لكِنهمْ)
أَي الْحَنَفِيَّة (استمروا على مَا سَمِعت) من عدم
الِاحْتِمَال (فِي الْكل) أَي كل أَسمَاء الْأَجْنَاس
الْمعَانِي والأعيان حَتَّى قَالُوا تَفْرِيعا على ذَلِك
(فَلَو حلف لَا يشرب مَاء انْصَرف) حلفه (إِلَى أقل مَا يصدق
عَلَيْهِ) مَاء وَهُوَ قَطْرَة عِنْد الْإِطْلَاق (وَلَو نوى
مياه الدُّنْيَا صَحَّ فيشرب مَا شَاءَ) مِنْهَا، وَلَا
يَحْنَث لصدق أَنه لم يشْربهَا (أَو) قدرا من الأقدار المتخللة
بَين الحدين كَمَا لَو نوى (كوزا لَا يَصح) ذَلِك مِنْهُ لخلو
الْمَنوِي عَن صفة الفردية حَقِيقَة وَحكما.
مسئلة
(الْفَوْر) وَهُوَ امْتِثَال الْمَأْمُور بِهِ عقبه (ضَرُورِيّ
للقائل بالتكرار) لِأَنَّهُ يلْزم استغراق الْأَوْقَات
بِالْفِعْلِ الْمَأْمُور بِهِ على مَا مر (وَأما غَيره) أَي
غير الْقَائِل بالتكرار (فإمَّا) أَي فَيَقُول الْمَأْمُور
بِهِ لَا يَخْلُو من أَنه إِمَّا (مُقَيّد بِوَقْت يفوت
الْأَدَاء) أَي أَدَاؤُهُ (بفوته) أَي بفوت ذَلِك الْوَقْت
وَيَأْتِي تَفْصِيله فِي الْمَحْكُوم عَلَيْهِ (أَولا) أَي أَو
غير مُقَيّد بِوَقْت كَذَا، وَإِن كَانَ وَاقعا فِي وَقت لَا
محَالة (كالأمر بالكفارات وَالْقَضَاء) للصَّوْم وَالصَّلَاة
(فَالثَّانِي) أَي غير الْمُقَيد بِمَا ذكر (لمُجَرّد الطّلب
فَيجوز التَّأْخِير) على وَجه لَا يفوت الْمَأْمُور بِهِ كَمَا
يجوز البدار بِهِ، وَهُوَ الصَّحِيح عِنْد الْحَنَفِيَّة، وعزى
إِلَى الشَّافِعِي وَأَصْحَابه، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ،
والآمدي، وَابْن الْحَاجِب،
(1/356)
والبيضاوي. وَقَالَ ابْن برهَان لم ينْقل
عَن الشَّافِعِي وَأبي حنيفَة رحمهمَا الله نَص، وَإِنَّمَا
فروعهما تدل على ذَلِك (وَقيل يُوجب الْفَوْر) والامتثال بِهِ
(أول أَوْقَات الْإِمْكَان) للْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ، وعزى
إِلَى الْمَالِكِيَّة والحنابلة وَبَعض الْحَنَفِيَّة
وَالشَّافِعِيَّة. وَقَالَ (القَاضِي) الْأَمر يُوجب (إِمَّا
إِيَّاه) أَي الْفَوْر (أَو الْعَزْم) على الْإِتْيَان بِهِ
فِي ثَانِي حَال (وَتوقف إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي أَنه لُغَة
للفور أم لَا، فَيجوز التَّرَاخِي) تَفْرِيع على الشق
الثَّانِي (وَلَا يحْتَمل وُجُوبه) أَي التَّرَاخِي (فيمتثل)
الْمَأْمُور (بِكُل) من الْفَوْز والتراخي لعدم رُجْحَان
أَحدهمَا عِنْده (مَعَ التَّوَقُّف فِي أثمه بالتراخي) لَا
بالفوز لعدم احْتِمَال وجوب التَّرَاخِي (وَقيل بِالْوَقْفِ
فِي الِامْتِثَال) أَي لَا يدْرِي أَنه إِن بَادر يَأْثَم، أَو
إِن أخر (لاحْتِمَال وجوب التَّرَاخِي لنا) على الْمُخْتَار،
وَهُوَ أَنه لمُجَرّد الطّلب أَنه (لَا تزيد دلَالَته على
مُجَرّد الطّلب) بفور أَو تزاخ لَا بِحَسب الْمَادَّة وَلَا
بِحَسب الصِّيغَة (بِالْوَجْهِ السَّابِق) وَهُوَ أَن هَيْئَة
الْأَمر لَا دلَالَة لَهَا إِلَّا على مُجَرّد الْفِعْل،
فَلَزِمَ أَن تَمام مَدْلُول الصِّيغَة طلب الْفِعْل فَقَط
(وَكَونه) أَي الْأَمر دَالا (على أَحدهمَا) أَي الْفَوْر أَو
التَّرَاخِي (خَارج) عَن مَدْلُوله (يفهم بِالْقَرِينَةِ
كاسقني) فَإِنَّهُ يدل على الْفَوْر لِأَن طلب السَّقْي عَادَة
إِنَّمَا يكون عِنْد الْحَاجة إِلَيْهِ عَاجلا (وَافْعل بعد
يَوْم) يدل على التَّرَاخِي بقوله بعد يَوْم (قَالُوا) أَي
الْقَائِلُونَ بالفور (كل مخبر) بِكَلَام خبري: كزيد قَائِم
(ومنشئ كبعت وَطَالِق يقْصد الْحَاضِر) عِنْد الْإِطْلَاق عَن
الْقَرَائِن حَتَّى يكون موجدا للْبيع وَالطَّلَاق بِمَا ذكر
(فَكَذَا الْأَمر) وَالْجَامِع بَينه وَبَين الْخَبَر كَون كل
مِنْهُمَا من أَقسَام الْكَلَام، وَبَينه وَبَين سَائِر
الإنشاءات الَّتِي يقْصد بهَا الْحَاضِر كَون كل مِنْهُمَا
إنْشَاء (قُلْنَا) مَا ذكرت (قِيَاس فِي اللُّغَة) إِذْ قست
الْأَمر فِي إفادته الْفَوْر على الْخَبَر والإنشاء للجامع
الْمَذْكُور: وَهُوَ مَعَ اتِّحَاد الحكم غير جَائِز سِيمَا
(مَعَ اخْتِلَاف حكمه فَإِنَّهُ) أَي الحكم (فِي الأَصْل)
وَهُوَ الْخَبَر والإنشاء (تعين) الزَّمَان (الْحَاضِر)
للظرفية (وَيمْتَنع فِي الْآمِر غير الِاسْتِقْبَال فِي)
إِيقَاع (الْمَطْلُوب) لِأَن الْحَاصِل لَا يطْلب (والحاضر
الطّلب) الْقَائِم بالآمر (وَلَيْسَ الْكَلَام فِيهِ) أَي فِي
الطّلب، بل فِي الْمَطْلُوب (فَإِن كَانَ) الزَّمَان
الْمَطْلُوب فِيهِ إِيجَاد الْمَأْمُور بِهِ (أول زمَان
يَلِيهِ) أَي يَلِي زمَان الطّلب مُتَّصِلا بِهِ (فالفور) أَي
فَوَجَبَ الْفَوْر (أَو) الْمَطْلُوب فِيهِ (مَا بعده) أَي مَا
بعد أول زمَان يَلِي الطّلب (فوجوب التَّرَاخِي، أَو) إِن
كَانَ الْمَطْلُوب فِيهِ (مُطلقًا) غير مُتَعَيّن من قبل
الْآمِر (فَمَا يعنيه) الْمَأْمُور من الْوَقْت (لَا على أَنه)
أَي التَّرَاخِي (مَدْلُول الصِّيغَة قَالُوا) ثَالِثا
(النَّهْي يُفِيد الْفَوْر، فَكَذَا الْأَمر) وَالْجَامِع
بَينهمَا كَونهمَا طلبا (قُلْنَا) قِيَاس فِي اللُّغَة
وَأَيْضًا الْفَوْر (فِي النَّهْي ضَرُورِيّ) لِأَن
الْمَطْلُوب التّرْك مستمرا على مَا مر (بِخِلَاف الْأَمر،
(1/357)
وَالتَّحْقِيق أَنه تحقق الْمَطْلُوب بِهِ)
أَي بِالنَّهْي (وَهُوَ الِامْتِثَال بالفور) مُتَعَلق بتحقق
الْمَطْلُوب فالفوز ثَبت لضَرُورَة الِامْتِثَال (لَا أَنه)
أَي النَّهْي (يفِيدهُ) أَي الْفَوْر (وَقَوْلنَا ضَرُورِيّ
فِيهِ أَي فِي امتثاله قَالُوا) ثَالِثا (الْأَمر نهي عَن
الأضداد: وَهُوَ) أَي النَّهْي (للفور فَيلْزم فعل الْمَأْمُور
بِهِ على الْفَوْر ليتَحَقَّق امْتِثَال النَّهْي عَنْهَا (أَي
أضداد الْمَأْمُور بِهِ (وَتقدم نَحوه) من قَوْله: الْأَمر نفي
عَن أضداده وَهُوَ دائمي فتكرر فِي الْمَأْمُور بِهِ (وَمَا
هُوَ التَّحْقِيق فِيهِ) من أَنه إِذا كَانَ الْأَمر فِيهِ
دَائِما كَانَ نهيا عَن أضداده دَائِما أَو فِي وَقت معِين
فَفِيهِ نهي الضِّدّ لَا فِي سَائِر الْأَوْقَات، أَو مُطلقًا
فَفِي وَقت الضِّدّ: أَي ضد، وَيُقَال هَهُنَا إِن كَانَ
الْأَمر فوريا كَانَ النَّهْي كَذَلِك إِلَى آخِره (قَالُوا)
رَابِعا (ذمّ) الله تَعَالَى إِبْلِيس (على عدم الْفَوْر)
بقوله {مَا مَنعك أَلا تسْجد إِذْ أَمرتك} حَيْثُ قَالَ -
{وَإِذ قُلْنَا للْمَلَائكَة اسجدوا لآدَم} - فَدلَّ على أَنه
على الْفَوْر وَإِلَّا لما اسْتحق الذَّم لِأَنَّهُ لم يضيق
عَلَيْهِ (قُلْنَا) هَذَا الْأَمر (مُقَيّد) وَفِي نُسْخَة "
ذَلِك مُقَيّد بِوَقْت " أَي وَقت نفخ الرّوح فِيهِ بعد تسويته
(فَوته) صفة وَقت: أى ابليس الِامْتِثَال متجاوزا (عَنهُ
بِدَلِيل: فاذا سويته) ونفحت فِيهِ من روحي فقعوا لَهُ ساجدين،
إِذْ التَّقْدِير فقعوا لَهُ ساجدين وَقت تسويتي إِيَّاه ونفخي
فِيهِ الرّوح، إِذْ الْعَامِل فِي إِذا فقعوا (قَالُوا)
خَامِسًا (لَو جَازَ التَّأْخِير) للْمَأْمُور بِهِ (لوَجَبَ)
انتهاؤه (إِلَى) وَقت (معِين أَو إِلَى آخر أزمنة الْإِمْكَان،
وَالْأول) أَي وجوب التَّأْخِير إِلَى وَقت معِين (مُنْتَفٍ)
لِأَن الْكَلَام فِي غير الموقت شرعا، وَلَا دَلِيل عَلَيْهِ
من الْخَارِج، وَكبر السن، وَالْمَرَض الشَّديد لَا يعين، إِذْ
كم من شباب يَمُوت فَجْأَة، وشيح ومريض يعِيش مُدَّة.
(وَالثَّانِي) أَي وجوب التَّأْخِير إِلَى آخر أزمنة
الْإِمْكَان تَكْلِيف (مَا لَا يُطَاق) لكَونه غير معِين عِنْد
الْمُكَلف، فالتكليف بإيقاع الْفِعْل فِي وَقت مَجْهُول
تَكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق (أُجِيب بِالنَّقْضِ) الإجمالي
(بِجَوَاز التَّصْرِيح بِخِلَافِهِ) بِأَن يَقُول الشَّارِع
افْعَل وَلَك التَّأْخِير فَإِنَّهُ جَائِز إِجْمَاعًا وَمَا
ذكر من الدَّلِيل جَار فِيهِ (و) بِالنَّقْضِ التفصيلي
(بِأَنَّهُ إِنَّمَا يلْزم) تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق
(بِإِيجَاب التَّأْخِير إِلَيْهِ) أَي إِلَى آخر أزمنة
الْإِمْكَان (أما جَوَازه) أَي التَّأْخِير (إِلَى وَقت
يُعينهُ الْمُكَلف فَلَا) يلْزم مِنْهُ تَكْلِيف مَا لَا
يُطَاق (لتمكنه من الِامْتِثَال) فِي أَي وَقت شَاءَ إِيقَاع
الْفِعْل فِيهِ (قَالُوا) سادسا (وَجَبت المسارعة) إِلَى
الْمَأْمُور بِهِ لقَوْله تَعَالَى {وسارعوا} إِلَى مغْفرَة من
ربكُم: أَي إِلَى سَببهَا، لِأَن نَفسهَا لَيست فِي قدرَة
العَبْد، وَمن سَببهَا فعل الْمَأْمُور بِهِ، وَإِنَّمَا
تتَحَقَّق المسارعة بالفور وَقَوله تَعَالَى (فاستبقوا)
الْخيرَات، وَالْكَلَام فِي الْمُسَابقَة مثله فِي المسارعة
(الْجَواب جَازَ) كَونه فيهمَا (تَأْكِيدًا لإيجابه) أَي
الْفَوْر بِأَن يكون أَصله مفادا (بالصيغة) كَمَا قَالُوا (و)
جَازَ كَونه فيهمَا (تأسيسا) بِنَاء على أَن الصِّيغَة غير
متعرضة لإيجابه، وَيكون الْإِيجَاب مفادا
(1/358)
بهما كَمَا قُلْنَا (فَلَا يُفِيد) شَيْء
مِنْهُمَا (أَنه) أَي الْفَوْر (مُوجبهَا) أَي الصِّيغَة كَمَا
هُوَ مطلبهم لعدم انتهاض الِاسْتِدْلَال مَعَ احْتِمَال خلاف
الْمَقْصُود (فَكيف والتأسيس مقدم) على التَّأْكِيد
(فَانْقَلَبَ) دليلهم لِأَن حمل الْآيَتَيْنِ على التأسيس
الَّذِي هُوَ الأَصْل يسْتَلْزم عدم إِفَادَة الصِّيغَة
الْفَوْر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (إِذْ أَفَادَ) دليلهم
(حِينَئِذٍ نَفْيه) أَي نفى كَون الصِّيغَة دَالَّة على
الْفَوْر قَالَ (القَاضِي ثَبت حكم خِصَال الْكَفَّارَة)
وَهُوَ أَنه لَو أَتَى بأحدها أجر وَلَو أخل بهَا عصى (فِي
الْفِعْل والعزم) مُتَعَلق بثبت، وَمعنى ثُبُوت حكمهَا فِيهَا
أَنه كَمَا يجب هُنَاكَ الْإِتْيَان بأحدها يجب هَهُنَا
الْإِتْيَان بِأَحَدِهِمَا (وَهُوَ) أَي حكمهَا فِيهَا
(الْعِصْيَان بتركهما) أَي الْفِعْل والعزم (وَعَدَمه) أَي عدم
الْعِصْيَان بإتيانه (بِأَحَدِهِمَا فَكَانَ) الْفِعْل على
الْفَوْر أَو الْعَزْم عَلَيْهِ فِي ثَانِي الْحَال فَوْرًا
(مُقْتَضَاهُ) أَي الْأَمر وَأورد عَلَيْهِ عدم تأثيم من أَتَى
بالعزم وَلم يَأْتِ بِالْفِعْلِ أصلا، وَهُوَ خلاف الاجماع
وَأجِيب بِأَن مُرَاده التَّخْيِير بَينهمَا مَا لم يتضيق
الْوَقْت فَإِنَّهُ إِذا أضَاف تعين الْوَقْت (وَالْجَوَاب
الْجَزْم بِأَن الطَّاعَة) الَّتِي هِيَ الِامْتِثَال إِنَّمَا
هِيَ (بِالْفِعْلِ بِخُصُوصِهِ) فَهُوَ مُقْتَضى أذ (فوجوب
الْعَزْم لَيْسَ مُقْتَضَاهُ) أَي الْأَمر (على التَّخْيِير)
بَينه وَبَين الْفِعْل (بل هُوَ) أَي الْعَزْم (على) فعل (مَا
ثَبت وُجُوبه من أَحْكَام الْإِيمَان) ثَبت مَعَ ثُبُوت
الْإِيمَان، لَا الِاخْتِصَاص لَهُ بِصِيغَة الْأَمر قَالَ
(الإِمَام الطّلب مُحَقّق وَالشَّكّ فِي جَوَاز التَّأْخِير
فَوَجَبَ الْفَوْر) ليخرج عَن الْعهْدَة بِيَقِين (وَاعْترض)
على هَذَا بِأَنَّهُ (لَا يلائم مَا تقدم لَهُ) أَي للْإِمَام
(من التَّوَقُّف فِي كَونه) أَي الْأَمر (للفور، وَأَيْضًا
وجوب الْمُبَادرَة يُنَافِي قَوْله) أَي الإِمَام (أقطع
بِأَنَّهُ) أَي الْمُكَلف (مهما أَتَى بِهِ) أَي الْمَأْمُور
بِهِ فَهُوَ (موقع بِحكم الصِّيغَة للمطلوب) كَذَا ذكره
الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ، فَأجَاب عَنهُ المُصَنّف بقوله
(وَأَنت إِذا وصلت قَوْله) أَي الإِمَام (للمطلوب) مَعَ مَا
قبله (يُنَافِي قَوْله) وَهُوَ (وَإِنَّمَا التَّوَقُّف فِي
أَنه لَو أخر) الْمُكَلف عَن أول زمَان الْإِمْكَان (هَل
يَأْثَم بِالتَّأْخِيرِ مَعَ أَنه ممتثل لأصل الْمَطْلُوب)
قطعا وَإِن احْتمل عدم الِامْتِثَال بِاعْتِبَار وَصفه، وَهُوَ
كَونه على الْفَوْر نظرا إِلَى احْتِمَال كَونه مُوجب الْأَمر
(لم تقف عَن الْجَزْم بالمطابقة) بَين كَلَامه جَوَاب إِذا،
ومجموع الشَّرْط وَالْجَزَاء خبر أَنْت ثمَّ بَين وَجه
التَّوْفِيق بقوله (فَإِن وجوب الْفَوْر بعد مَا قَالَ) من
الشَّك فِي جَوَاز التَّأْخِير (لَيْسَ إِلَّا احْتِيَاطًا،
لاحْتِمَال الْفَوْر لَا أَنه مُقْتَضى الصِّيغَة فَإِن الشَّك
فِي جَوَاز التَّأْخِير) إِنَّمَا حصل (بِالشَّكِّ فِي
الْفَوْر) أَي كَون الْأَمر حِينَئِذٍ مُفِيدا للفور (ثمَّ
كَونه ممتثلا بِحكم الصِّيغَة يُنَافِي الْإِثْم) لِأَن
الصِّيغَة دلّت على إِيقَاع الْفِعْل قطعا وَقد أَتَى بِهِ،
ودلالتها على الْفَوْر غير مَعْلُوم وَلَا مظنون، وَلَا
يُؤَاخذ العَبْد بترك مثله فَلم يكن حكم الصِّيغَة إِلَّا
إِيقَاع الْفِعْل فَلَا وَجه لاحْتِمَال الْإِثْم (إِلَّا أَن
يُرَاد)
(1/359)
بالإثم الْمَذْكُور فِي كَلَامه (إِثْم ترك
الِاحْتِيَاط) . قَالَ الشَّارِح وَبعد تَسْلِيم أَن الْفَوْر
احْتِيَاط فكون تَركه مؤثما مَحل نظر انْتهى، وَفِي قَوْله
وَبعد تَسْلِيم إِشَارَة إِلَى منع كَون الِاحْتِيَاط فِي
الْفَوْر، وَلَا وَجه لمَنعه إِلَّا بِاعْتِبَار وجوب
التَّأْخِير وَقد علمت أَنه لَا يُقيد بِهِ (نعم لَو قَالَ)
الإِمَام (الْقَضَاء بالصيغة لَا بِسَبَب جَدِيد أمكن) هَذَا
فِي نُسْخَة الشَّارِح وَلَيْسَ فِي النُّسْخَة الَّتِي
اعتمادي عَلَيْهَا " نعم لَو قَالَ إِلَى آخِره " وَذكر فِي
تَوْجِيهه مَا حَاصله إرجاع ضمير أمكن إِلَى عدم الْمُنَافَاة
بَين الِامْتِثَال والتأثيم بِالتَّأْخِيرِ لجَوَاز جعله
ممتثلا بِحكم الصِّيغَة من حَيْثُ الْقَضَاء، وآثما بِتَرْكِهِ
الِامْتِثَال بِحكم الصِّيغَة من حَيْثُ الْأَدَاء، ثمَّ رد
هَذَا التَّوْجِيه أَولا وَثَانِيا، وَالَّذِي يظْهر أَنه
كَانَت هَذِه الزِّيَادَة ثمَّ غيرت وَلم يطلع الشَّارِح على
التَّغْيِير وَهُوَ الصَّوَاب (وَأجِيب) عَن اسْتِدْلَال
الإِمَام بِأَنَّهُ (لَا شكّ) فِي جَوَاز التَّأْخِير (مَعَ)
وجود (دليلنا) الْمُفِيد لَهُ الرافع للشَّكّ.
(تَنْبِيه: قيل مسئلة الْأَمر للْوُجُوب شَرْعِيَّة لِأَن
محمولها الْوُجُوب، وَهُوَ) حكم (شَرْعِي، وَقيل لغوية وَهُوَ
ظَاهر) كَلَام (الْآمِدِيّ وَأَتْبَاعه) وَالصَّحِيح عَن أبي
إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ (إِذْ كرروا قَوْلهم فِي الْأَجْوِبَة
قِيَاس فِي اللُّغَة، وَإِثْبَات اللُّغَة بلوازم الْمَاهِيّة،
وَهُوَ) أَي كَونهَا لغوية (الْوَجْه، إِذْ لَا خلل) فِي ذَلِك
وَإِن كَانَ محمولها الْوُجُوب (فَإِن الْإِيجَاب لُغَة
الْإِثْبَات والإلزام، وإيجابه سُبْحَانَهُ لَيْسَ إِلَّا
إِلْزَامه، وإثباته على المخاطبين بِطَلَبِهِ الحتم، فَهُوَ)
أَي الْوُجُوب الشَّرْعِيّ (من أَفْرَاد) الْوُجُوب
(اللّغَوِيّ) وَلما كَانَ هُنَا مَظَنَّة سُؤال، وَهُوَ أَنه
يَنْبَغِي أَن تكون شَرْعِيَّة لِأَنَّهُ مَأْخُوذ فِي
مَفْهُوم الْوُجُوب (وَاسْتِحْقَاق الْعقَاب بِالتّرْكِ لَيْسَ
جُزْء الْمَفْهُوم) للْوُجُوب (بل) لَازم (مُقَارن بِخَارِج)
أَي دَلِيل خَارج من مَفْهُوم الْوُجُوب (عَقْلِي أَو عادي
لأمر كل من لَهُ ولَايَة الْإِلْزَام، وَهُوَ) أَي الْخَارِج
الْمَذْكُور (حسن عِقَاب مخالفه) أَي كَالَّذي يُخَالف أَمر من
لَهُ ولَايَة الْإِلْزَام (وتعريف الْوُجُوب) لَهُ بِأَنَّهُ
(طلب) للْفِعْل (ينتهض تَركه سَببا للعقاب) كَمَا هُوَ
الْمَذْكُور فِي كَلَام الْقَوْم (تجوز لإيجابه تَعَالَى: أَو)
لإِيجَاب (من لَهُ ولَايَة إِلَّا لزام بِقَرِينَة ينتهض إِلَى
آخِره فَيصدق إِيجَابه تَعَالَى فَردا من مطلقه) أَي الْوُجُوب
اللّغَوِيّ تَقْدِيره فَيصدق على إِيجَابه: فَيكون مَنْصُوبًا
بِنَزْع الْخَافِض، وَيجوز أَن يكون يصدق بِمَعْنى يَشْمَل،
وَقَوله فَردا حَال عَن إِيجَابه (وَظهر أَن الِاسْتِحْقَاق)
للعقاب بِالتّرْكِ (لَيْسَ لَازم التّرْك) مُطلقًا (بل) هُوَ
لَازم (لصنف مِنْهُ) أَي من الْوُجُوب (لتحَقّق الْأَمر مِمَّن
لَا ولَايَة لَهُ مُفِيدا للْإِيجَاب (فَيتَحَقَّق هُوَ) أَي
الْوُجُوب فِيهِ (وَلَا اسْتِحْقَاق) للعقاب (بِتَرْكِهِ)
لِأَنَّهُ (بِلَا ولَايَة) لِلْأَمْرِ عَلَيْهِ.
(1/360)
مسئلة
(الْآمِر) لشخص (بِالْأَمر) لغيره (بالشَّيْء لَيْسَ آمرا
بِهِ) أَي بذلك الشَّيْء (لذَلِك الْمَأْمُور) بالواسطة
(وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْمَأْمُور بالواسطة مَأْمُورا
للْآمِر الأول بذلك الشَّيْء (كَانَ مر عَبدك بِبيع ثوبي
تَعَديا) على صَاحب العَبْد بِالتَّصَرُّفِ فِي عَبده بِغَيْر
إِذْنه (وناقض) أَمر السَّيِّد بِالْأَمر لعَبْدِهِ (قَوْلك
للْعَبد لَا تبعه) لوُرُود الْأَمر وَالنَّهْي على فعل وَاحِد
وَنقل الشَّارِح عَن السُّبْكِيّ منع لُزُوم التَّعَدِّي بِأَن
التَّعَدِّي أَمر عبد الْغَيْر بِغَيْر أَمر سَيّده، وَهنا
أمره بِأَمْر سَيّده: فَإِن أمره للْعَبد مُتَوَقف على أَمر
سَيّده انْتهى، وَلَيْسَ بِشَيْء لِأَن النزاع فِي أَن مُجَرّد
قَوْله: مر عَبدك إِلَى آخِره هَل هُوَ أَمر للْعَبد بِبيع
الثَّوْب أم لَا؟ فَإِن السَّيِّد إِذا أَمر عَبده بِمُوجب مر
عَبدك هَل يتَحَقَّق عِنْد ذَلِك أَمر العَبْد من قبل
الْقَائِل مر عَبدك بِجعْل السَّيِّد سفيرا أَو وَكيلا
فَافْهَم وَأما الْكَلَام فِي المناقضة فَمَا أَفَادَهُ بقوله:
(وَلَا يخفى منع بطلَان التَّالِي، إِذْ لَا يُرَاد بالمناقضة
هُنَا إِلَّا مَنعه) أَي الْمَأْمُور من البيع (بعد طلبه) أَي
الْمَبِيع (مِنْهُ) أَي الْمَأْمُور بِالْبيعِ (وَهُوَ) أَي
مَنعه مِنْهُ بعد طلبه مِنْهُ (نسخ) لطلبه على مَا هُوَ
الْمُخْتَار: هَذَا، وَقيل الْأَمر بالشَّيْء أَمر بِهِ
(قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ أَمر بِهِ (فهم ذَلِك)
أَي مَا ذكر من أَنه أَمر بِهِ (من أَمر الله تَعَالَى رَسُوله
بِأَن يَأْمُرنَا) فَإِنَّهُ يفهم مِنْهُ أَن الله تَعَالَى
أمرنَا بِمَا يَأْمر بِهِ الرَّسُول (و) من أَمر (الْملك
وزيره) بِأَن يَأْمر فلَانا بِكَذَا فَإِنَّهُ يفهم مِنْهُ أَن
الْآمِر هُوَ الْملك (أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي فهم ذَلِك فيهمَا
(من قرينَة أَنه) أَي الْمَأْمُور أَولا (رَسُول) ومبلغ عَن
الله وَالْملك (لَا من لفظ الْأَمر الْمُتَعَلّق بِهِ) أَي
بالمأمور الأول، وَمحل النزاع إِنَّمَا هُوَ هَذَا مَا لَو
قَالَ: قل لفُلَان افْعَل كَذَا فَالْأول آمُر، وَالثَّانِي
مبلغ بِلَا نزاع: كَذَا نقل عَن ابْن السُّبْكِيّ وَابْن
الْحَاجِب، وَاخْتَارَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ
التَّسْوِيَة بَينهمَا.
مَسْأَلَة
(إِذا تعاقب أَمْرَانِ) غير متعاطفين (بمتماثلين) أَي بفعلين
من نوع وَاحِد، نَحْو: صل رَكْعَتَيْنِ صل رَكْعَتَيْنِ (فِي
قَابل للتكرار) ظرفان للتماثلين: أَي يكون تماثلهما فِي فعل
قَابل للتكرار، احْتِرَازًا من نَحْو مَا أَشَارَ إِلَيْهِ
بقوله (بِخِلَاف: صم الْيَوْم) صم الْيَوْم فَإِنَّهُ لَا يعود
التّكْرَار فِي صَوْم الْيَوْم الْمعِين (وَلَا صَارف عَنهُ)
أَي عَن التّكْرَار (من تَعْرِيف) الْمَأْمُور بِهِ بعد ذكره
مُنْكرا (كصل الرَّكْعَتَيْنِ) بعد صل رَكْعَتَيْنِ (أَو) من
(عَادَة كاسقني مَاء) اسْقِنِي
(1/361)
مَاء (فَإِنَّهُ) أَي حكم مَا ذكره وَهُوَ
كَون الثَّانِي مؤكدا للْأولِ فِي مثلهَا (اتِّفَاق) أما فِي
الأولى فَلَمَّا ذكر، وَأما فِي الثَّانِيَة فَلِأَن دفع
الْحَاجة بِمرَّة وَاحِدَة غَالِبا، وستظهر فَائِدَة مَا فِي
الْقُيُود (قيل بِالْوَقْفِ) فِي كَونه تأسيسا أَو تَأْكِيدًا،
وَهُوَ لأبي بكر الصَّيْرَفِي وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ
(وَقيل تَأْكِيد) وَهُوَ لبَعض الشَّافِعِيَّة والجبائي (وَقيل
تأسيس) وَهُوَ للأكثرين (لِأَنَّهُ) أَي التأسيس (أفود، وَوضع
الْكَلَام للإفادة وَلِأَنَّهُ الأَصْل: وَالْأول) وَهُوَ أَنه
أفود وَوضع الْكَلَام للإفادة (يُغني عَن هَذَا) أَي لِأَنَّهُ
الأَصْل (وَالْكل) أَي كل مِنْهُمَا (لَا يُقَاوم الأكثرية)
للتكرير فِي التَّأْكِيد بِالنِّسْبَةِ إِلَى التأسيس معَارض
بِمَا فِي التَّأْكِيد بِالنِّسْبَةِ إِلَى التأسيس وَالْحمل
على الْمَعْنى الْأَغْلَب (ومعارض بِالْبَرَاءَةِ
الْأَصْلِيَّة) أَي التأسيس معَارض بِمَا فِي التَّأْكِيد من
الْمُوَافقَة للْأَصْل: وَهِي بَرَاءَة ذمَّة الْمُكَلف من
تعلق التَّكْلِيف بهَا مرّة ثَانِيَة (بعد منع الإصالة) أَي
أَن الأَصْل فِي الْكَلَام الإفادة (فِي التّكْرَار) إِنَّمَا
ذَلِك فِي غير التّكْرَار بِشَهَادَة الْكَثْرَة (فيتزجح)
التَّأْكِيد (وَإِذا منع كَون التأسيس أَكثر فِي مَحل النزاع)
وَهُوَ تعاقب أَمريْن بمتماثلين فِي قَابل للتكرار لَا صَارف
عَنهُ (سقط مَا قيل) أَي مَا قَالَه الْوَاقِف (تعَارض
التَّرْجِيح) فِي التأسيس والتأكيد (فالوقف) لثُبُوت أرجحية
التَّأْكِيد عَلَيْهِ لما عرفت (وَفِي الْعَطف كوصل
رَكْعَتَيْنِ) بعد صل رَكْعَتَيْنِ (يعْمل بهما) أَي
الْأَمريْنِ، لِأَن التَّأْكِيد بالْعَطْف لم يعْهَد أَو يقل،
وَقيل يكون الثَّانِي عين الأول، وَالْأول هُوَ الْوَجْه
(إِلَّا أَن ترجح التَّأْكِيد) فِي الْعَطف بمرجح (فبه) أَي
فَيعْمل بالتأكيد (أَو) يُوجد (التعادل) بَين المرجحات من
الْجَانِبَيْنِ (فبمقتضى خَارج) أَي فَالْعَمَل بِمُقْتَضى
خَارج عَن المعادلين إِن وجد، وَإِلَّا فالوقف، قيل بترجيح
التأسيس لما فِيهِ من الِاحْتِيَاط وَأجِيب بِأَن الِاحْتِيَاط
قد يكون فِي الْحمل على التَّأْكِيد لاحْتِمَال الْحُرْمَة فِي
الْمرة الثَّانِيَة: هَذَا فِي الْأَمريْنِ بمتماثلين، فَإِن
كَانَا مُخْتَلفين عمل بهما اتِّفَاقًا، ثمَّ هَذَا كُله فِي
المتعاقبين فَإِن تراخي أَحدهمَا عَن الآخر عمل بهما سَوَاء
تماثلا أَو اخْتلفَا بعطف أَو بِغَيْر عطف.
مسئلة
(اخْتلف الْقَائِلُونَ بالنفسي) أَي بِالْأَمر النَّفْسِيّ،
وَهُوَ الَّذِي حد فِيمَا سبق باقتضاء فعل غير كف على جِهَة
الاستعلاء، وستظهر فَائِدَة تَقْيِيد الِاخْتِلَاف بهم
(فاختيار الإِمَام وَالْغَزالِيّ وَابْن الْحَاجِب أَن الْأَمر
بالشَّيْء فَوْرًا لَيْسَ نهيا عَن ضِدّه) أَي ضد ذَلِك
الشَّيْء (وَلَا يَقْتَضِيهِ) أَي لَا يَقْتَضِي الْأَمر
بالشَّيْء النَّهْي عَن ضِدّه (عقلا، والمنسوب إِلَى
الْعَامَّة) أَي عَامَّة الْعلمَاء
(1/362)
وجماهيرهم (من الشَّافِعِيَّة
وَالْحَنَفِيَّة والمحدثين أَنه) أَي الْأَمر بالشَّيْء (نهى
عَنهُ) أَي عَن ضد ذَلِك الشَّيْء (إِن كَانَ) الضِّدّ
(وَاحِدًا) فَالْأَمْر بِالْإِيمَان نهى عَن الْكفْر
(وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن وَاحِدًا (فَعَن الْكل) أَي
فَهُوَ نهى عَن كلهَا، فَالْأَمْر بِالْقيامِ نهى عَن
الْقعُود، والاضطجاع، وَالسُّجُود وَغَيرهَا (وَقيل) نهى (عَن
وَاحِد غير معِين) من أضداده (وَهُوَ بعيد) جدا (وَأَن
النَّهْي) عَن الشَّيْء (أَمر بالضد المتحد) فِي الضدية،
فالنهي عَن الْكفْر أَمر بِالْإِيمَان (وَإِلَّا) بِأَن كَانَ
لَهُ أضداد (فَقيل) قَالَه بعض الْحَنَفِيَّة والمحدثين هُوَ
أَمر (بِالْكُلِّ) أى بأضدادها كلهَا (وَفِيه بعد، والعامة) من
الحنيفة وَالشَّافِعِيَّة والمحدثين هُوَ أَمر (بِوَاحِد غير
معِين) من أضداده (وَالْقَاضِي) قَالَ (أَولا كَذَلِك) أَي
الْأَمر بالشَّيْء نهى عَن ضِدّه، وَالنَّهْي عَن الشَّيْء
أَمر بضده (وآخرا يتضمنان) أَي يتَضَمَّن الْأَمر بالشَّيْء
النَّهْي عَن ضِدّه، ويتضمن النَّهْي عَن الشَّيْء الْأَمر
بضده (وَمِنْهُم من اقْتصر على الْأَمر) أَي قَالَ الْأَمر
بالشَّيْء نهى عَن ضِدّه، وَسكت عَن النَّهْي وَهُوَ معزو
للأشعري ومتابعيه (وعمم) الْأَمر فِي أَنه نهى عَن الضِّدّ
(فِي) الْأَمر (الإيجابي و) الْأَمر (الندبى، فهما نهيا
تَحْرِيم وَكَرَاهَة فِي الضِّدّ) نشر على تَرْتِيب اللف
(وَمِنْهُم من خص أَمر الْوُجُوب) بِكَوْنِهِ نهيا عَن الضِّدّ
دون أَمر النّدب (وَاتفقَ الْمُعْتَزلَة لنفيهم) الْكَلَام
(النَّفْسِيّ على نفي العينية فيهمَا) أَي على أَن الْأَمر
بالشَّيْء لَيْسَ نهيا عَن ضِدّه وَلَا بِالْعَكْسِ لعدم
إِمْكَان ذَلِك لفظا فيهمَا (وَاخْتلفُوا هَل يُوجب كل من
الصيغتين) أَي صِيغَة الْأَمر وَالنَّهْي (حكما فِي الضِّدّ:
فَأَبُو هَاشم وَأَتْبَاعه) قَالُوا (لَا) يُوجب شَيْئا
مِنْهُمَا حكما فِيهِ (بل) الضِّدّ (مسكوت) عَنهُ (وَأَبُو
الْحُسَيْن وَعبد الْجَبَّار) قَالَا الْأَمر (يُوجب حرمته)
أَي الضِّدّ (وَعبارَة) طَائِفَة (أُخْرَى) الْأَمر (يدل
عَلَيْهَا) أَي حُرْمَة ضِدّه (و) عبارَة طَائِفَة (أُخْرَى)
الْأَمر (يقتضيها) أَي حُرْمَة ضِدّه: فَمن قَالَ يُوجب
أَشَارَ إِلَى ثُبُوتهَا ضَرُورَة تحقق حكم الْأَمر
كَالنِّكَاحِ أوجب الْحل فِي حق الزَّوْج بصيغته، وَالْحُرْمَة
فِي حق الْغَيْر بِحكمِهِ دون صيغته، وَمن قَالَ يدل أَشَارَ
إِلَى أَنَّهَا تثبت بطرِيق الدّلَالَة كالنهي عَن التأفيف يدل
على حُرْمَة الضَّرْب، وَمن قَالَ يقتضى أَشَارَ إِلَى
ثُبُوتهَا بِالضَّرُورَةِ المنسوبة إِلَى غير لفظ الْأَمر:
كَذَا ذكره الشَّارِح. (وفخر الْإِسْلَام وَالْقَاضِي أَبُو
زيد وشمس الْأَئِمَّة) السَّرخسِيّ رَحِمهم الله، وَصدر
الْإِسْلَام (وأتباعهم) من الْمُتَأَخِّرين قَالُوا: الْأَمر
(يَقْتَضِي كَرَاهَة الضِّدّ وَلَو كَانَ) الْأَمر (إِيجَابا،
وَالنَّهْي) يَقْتَضِي (كَونه) أَي الضِّدّ (سنة مُؤَكدَة
وَلَو) كَانَ النَّهْي (تَحْرِيمًا، وحرر أَن المسئلة فِي أَمر
الْفَوْر لَا التَّرَاخِي) ذكره شمس الْأَئِمَّة وَصدر
الْإِسْلَام وَصَاحب القواطع وَغَيرهم: كَذَا ذكره الشَّارِح
(وَفِي الضِّدّ) الوجودي (المستلزم للترك
(1/363)
لَا التّرْك) ثمَّ قَالُوا (وَلَيْسَ
النزاع فِي لَفْظهمَا) أَي الْأَمر وَالنَّهْي بِأَن يُقَال:
لفظ النَّهْي أَمر، وَبِالْعَكْسِ للْقطع بِأَن الْأَمر
مَوْضُوع لصيغة افْعَل وَنَحْوه، وَالنَّهْي للا تفعل وَنَحْوه
(وَلَا المفهومين) وَلَيْسَ النزاع فِي أَن مَفْهُوم أَحدهمَا،
وَهُوَ الصِّيغَة الْمَخْصُوصَة لَيْسَ مَفْهُوم الآخر، وَهُوَ
الصِّيغَة الْأُخْرَى (للتغاير) بَين المفهومين (بل) النزاع
(فِي أَن طلب الْفِعْل الَّذِي هُوَ الْأَمر عين طلب ترك ضِدّه
الَّذِي هُوَ النَّهْي، وَقَول فَخر الْإِسْلَام وَمن مَعَه)
وَالْأَمر بالشَّيْء يقتضى كَرَاهَة ضِدّه إِلَى آخِره كَمَا
مر آنِفا (لَا يسْتَلْزم) كَون المُرَاد بِالْأَمر أوالنهي
(اللَّفْظِيّ) حَتَّى يلْزم أَن تكون صِيغَة الْأَمر صِيغَة
الْمنْهِي عَنهُ وَبِالْعَكْسِ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ صِيغَة
الْأَمر مستلزما للكراهة مَعَ قطع النّظر عَن مُلَاحظَة
الضَّرُورَة كَانَت الْكَرَاهَة مدلولا التزاميا بِصِيغَة (بل
هُوَ) أَي أحد قوليه وَمن مَعَه (كالتضمن فِي قَول القَاضِي
آخرا) فِي أَن مآلهما وَاحِد: وَهُوَ أَنه يسْتَلْزم الْأَمر
بالشَّيْء النَّهْي عَن ضِدّه ضَرُورَة، وَكَذَلِكَ النَّهْي
عَن الشَّيْء يسْتَلْزم كَون ضد ذَلِك الشَّيْء مَأْمُورا بِهِ
ضَرُورَة وَلذَا اقتصروا على كَونه سنة مُؤَكدَة: إِذْ لَا
ضَرُورَة فِي إِثْبَات الْوُجُوب لَهُ، لِأَن حرمته
تَسْتَلْزِم تَركه، وَتَركه لَا يسْتَلْزم فعل ضِدّه الوجودي
لجَوَاز أَن لَا يفعل شَيْئا من الضدين، لكنه علم من عَادَته
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يعْمل بضد مَا نهى عَنهُ
أَلْبَتَّة فَيكون سنة مُؤَكدَة (وَمرَاده) أَي فَخر
الْإِسْلَام من الْأَمر الَّذِي يقتضى كَرَاهَة الضِّدّ (غير
أَمر الْفَوْر لتنصيصه) أَي فَخر الْإِسْلَام (على تَحْرِيم
الضِّدّ المفوت) إِذا كَانَ الْأَمر للْوُجُوب حَيْثُ قَالَ:
التَّحْرِيم إِذا لم يكن مَقْصُودا بِالْأَمر لم يعْتَبر
إِلَّا من حَيْثُ يفوت الْأَمر، فَإِن لم يفوتهُ كَانَ
مَكْرُوها: كالأمر بِالْقيامِ لَيْسَ بنهي عَن الْقعُود قصدا،
حَتَّى لَو قعد ثمَّ قَامَ لم تفْسد صلَاته بِنَفس الْقعُود
وَلكنه يكره انْتهى، وَسَيَأْتِي لَهُ زِيَادَة تَفْصِيل، وَجه
التَّعْلِيل أَن الِاشْتِغَال بالضد فِي الْأَمر الفوري مفوت
لَهُ، فضد كل أَمر فوري حرَام لَا مَكْرُوه (وعَلى هَذَا)
الَّذِي تحرر مُرَاد فَخر الْإِسْلَام (يَنْبَغِي تَقْيِيد
الضِّدّ) فِيمَا إِذا قيل الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه
(بالمفوت، ثمَّ إِطْلَاق الْأَمر عَن كَونه) أَي الْأَمر
(فوريا) فَيُقَال: الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه المفوت
لَهُ، وَالنَّهْي عَن الشَّيْء أَمر بضده المفوت عَدمه لَهُ،
وَلذَا قَالَ صدر الشَّرِيعَة: أَن الضدان فَوت الْمَقْصُود
بِالْأَمر يحرم، وَإِن فَوت عَدمه الْمَقْصُود بِالنَّهْي يجب،
وَإِن لم يفوت فِي الْأَمر يَقْتَضِي الْكَرَاهَة، وَفِي
النَّهْي كَونه سنة مُؤَكدَة (وَفَائِدَة الْخلاف) فِي كَون
الْأَمر بالشَّيْء نهيا عَن ضِدّه (اسْتِحْقَاق الْعقَاب بترك
الْمَأْمُور بِهِ فَقَط) إِذا قيل بِأَنَّهُ لَيْسَ بنهي عَن
ضِدّه (أَو بِهِ) أَي بترك الْمَأْمُور بِهِ (وبفعل الضِّدّ
حَيْثُ عصى أمرا ونهيا) إِذا قيل بِأَنَّهُ نهي عَن ضِدّه،
وعَلى هَذَا الْقيَاس فِي جَانب النَّهْي (للنافين) كَون
الْأَمر نهيا عَن ضِدّه وَبِالْعَكْسِ (لَو كَانَا) أَي
النَّهْي عَن الضِّدّ وَالْأَمر بالضد (إيَّاهُمَا) أَي عين
الْأَمر
(1/364)
بالشَّيْء وَالنَّهْي عَن الشَّيْء (أَو)
لم يَكُونَا عينهما بل كَانَا (لازميهما لزم تعقل الضِّدّ فِي
الْأَمر وَالنَّهْي و) تعقل (الْكَفّ) فِي الْأَمر وَالْأَمر
فِي النَّهْي (لاستحالتهما) أَي لِاسْتِحَالَة الْأَمر
وَالنَّهْي عل ذَلِك التَّقْدِير (مِمَّن لم يتعقلهما) أَي
الضِّدّ والكف فِي الْأَمر والضد وَالْأَمر فِي النَّهْي
(وَالْقطع بتحققهما) أَي الْأَمر وَالنَّهْي (وَعدم خطورهما)
أَي الضِّدّ والكف فِي الْأَمر والضد وَالْأَمر فِي النَّهْي
حَاصِل (وَاعْترض) على هَذَا الِاسْتِدْلَال (بِأَن مَا لَا
يخْطر) بالبال إِنَّمَا هُوَ (الأضداد الْجُزْئِيَّة) كلهَا
وتعقله أَي الضِّدّ وَلَيْسَت مرَادا للقائل بِكَوْنِهَا نهيا
عَن الضِّدّ (وَالْمرَاد) بالضد فِي كَلَامه (الضِّدّ الْعَام)
وَهُوَ مَا لَا يُجَامع الْمَأْمُور بِهِ الدائر فِي الأضداد
الْجُزْئِيَّة كلهَا (وتعقله) أَي الضِّدّ الْعَام (لَازم)
لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي (إِذْ طلب الْفِعْل مَوْقُوف على الْعلم
بِعَدَمِهِ) أَي الْفِعْل (لانْتِفَاء طلب الْحَاصِل) أَي
الْمَعْلُوم حُصُوله، وَفِيه أَن هَذَا يَقْتَضِي عدم الْعلم
بحصوله، لَا الْعلم بِعَدَمِهِ (وَهُوَ) أَي الْعلم بِعَدَمِهِ
(ملزوم الْعلم بالخاص) أَي بالضد الْخَاص (وَهُوَ) أَي الضِّدّ
الْخَاص (ملزوم للعام) أَي للضد الْعَام فَلَا بُد من تعقل
الضِّدّ الْعَام فِي الْأَمر بالشَّيْء، وَكَذَلِكَ لَا بُد
مِنْهُ فِي النَّهْي عَن الشَّيْء لانْتِفَاء طلب التّرْك
مِمَّن لم يعلم بِوُجُود الْفِعْل وَالْعلم بِوُجُودِهِ ملزوم
للْعلم بالضد الْخَاص: وَهُوَ ملزوم للعام، وَلما كَانَ
تَقْرِير الِاعْتِرَاض فِي جَانب النهى نَظِير تَقْرِيره فِي
جَانب الْأَمر بتغيير يسير اكْتفى بِمَا فِي جَانب الْأَمر
وَترك الآخر للمقايسة، وَفِيه أَن لُزُوم الضِّدّ الْخَاص فِي
الأول غير بعيد، لِأَن الْعَالم بِعَدَمِ الْفِعْل عَادَة لم
يشغل الْمَأْمُور بضده بِخِلَاف الْعَالم بِوُجُودِهِ:
فَإِنَّهُ لَيْسَ كَذَلِك (وَلَا يخفى مَا فِي هَذَا
الِاعْتِرَاض من عدم التوارد أَولا) لِأَن شَرط التوارد
الَّذِي هُوَ مدَار الِاعْتِرَاض كَون مورد الْإِيجَاب
وَالسَّلب للمتخاصمين بِحَيْثُ يكون قَول كل مِنْهُمَا على طرف
النقيض لقَوْل الآخر، والمستدل نفي خطور الضِّدّ الْخَاص على
الْإِطْلَاق، فَقَوْل الْمُعْتَرض أَولا أَن مَا لَا يخْطر
بالبال: إِنَّمَا هُوَ الأضداد الْجُزْئِيَّة مُوَافقَة مَعَه
فِيهَا، فَلَا تتَحَقَّق المناظرة بَينهمَا بِاعْتِبَارِهِ:
نعم يُجَاب عَنهُ بِأَن مُرَاد الْمُعْتَرض من ذَلِك بَيَان
غلط الْمُسْتَدلّ من حَيْثُ أَنه اشْتبهَ عَلَيْهِ مُرَاد
الْقَائِل بِأَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن الضِّدّ، فَزعم أَن
مُرَاده الأضداد الْجُزْئِيَّة وَلَيْسَ كَذَلِك، بل الضِّدّ
الْعَام، وَلَا يَصح نفي خطور الضِّدّ الْعَام لما ذكر،
فَحِينَئِذٍ تَنْعَقِد المناطرة بَينهمَا ويتحقق التوارد،
فمقصود المُصَنّف أَنه إِذا نَظرنَا إِلَى أول كَلَام
الْمُعْتَرض لم نجد التوارد، وَإِذا نَظرنَا إِلَى آخر كَلَامه
وجدنَا التَّنَاقُض فَلَا خير فِي أول كَلَامه مَعَ قطع النّظر
عَن آخِره وَلَا فِي آخِره إِذا انْضَمَّ مَعَ أَوله لوُجُود
التَّنَاقُض، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وتناقضه فِي نَفسه
ثَانِيًا) ثمَّ بَين التَّنَاقُض بقوله (إِذْ فرضهم) أَي
الْقَائِلين بِأَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن ضِدّه، فَإِن
الِاعْتِرَاض الْمَذْكُور من قبلهم لَا يخْطر أَن مَا فِي
كَلَام النافين
(1/365)
هُوَ الأضداد (الْجُزْئِيَّة فَلَا تخطر)
أَي فَقَوْلهم لَا تخطر (تَسْلِيم) لعدم خطورها بالبال أصلا
(وَقَوله) أَي الْمُعْتَرض الْعلم بِعَدَمِ الْفِعْل (ملزوم
الْعلم بالخاص) أَي بالضد الْخَاص وَهُوَ أَي الضِّدّ الْخَاص
ملزوم للعام: أَي للضد الْخَاص (يُنَاقض مَا لَا يخْطر إِلَى
آخِره) أَي الأضداد الْجُزْئِيَّة. لِأَن الْإِيجَاب الجزئي
نقيض السَّلب الْكُلِّي عِنْد اتِّحَاد النِّسْبَة، ثمَّ
أَشَارَ إِلَى مَا فِي الشَّرْح العضدي وَغَيره فِي جَوَاب
هَذَا الِاعْتِرَاض بقوله (وَأجِيب بِمَنْع التَّوَقُّف)
لِلْأَمْرِ بِالْفِعْلِ (على الْعلم بِعَدَمِ التَّلَبُّس)
بذلك الْفِعْل فِي حَال الْأَمر بِهِ (لِأَن الْمَطْلُوب
مُسْتَقْبل فَلَا حَاجَة لَهُ) أَي للطَّالِب (إِلَى
الِالْتِفَات إِلَى مَا فِي الْحَال) أَي حَال الطّلب من وجود
الْفِعْل وَعَدَمه (وَلَو سلم) توقف الْأَمر بِالْفِعْلِ على
الْعلم بِعَدَمِ التَّلَبُّس بِهِ (فالكف) عَن الْفِعْل
الْمَطْلُوب (مشَاهد) مَخْصُوص فقد تحقق مَا توقف عَلَيْهِ
الْأَمر بِالْفِعْلِ من الْعلم بِعَدَمِ التَّلَبُّس بِهِ
(وَلَا يسْتَلْزم) شُهُود الْكَفّ عَن الْفِعْل الْمَأْمُور
بِهِ (الْعلم بِفعل ضد خَاص لحصوله) أَي لحُصُول شُهُود
الْكَفّ (بِالسُّكُونِ) عَن الْحَرَكَة اللَّازِمَة لمباشرة
الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ (وَلَو سلم) لُزُوم تعقل الضِّدّ
فِي الْجُمْلَة (فمجرد تعقله الضِّدّ لَيْسَ ملزوما ل) تعلق ال
(طلب بِتَرْكِهِ) الَّذِي هُوَ معنى النَّهْي عَن الضِّدّ
(لجَوَاز الِاكْتِفَاء) فِي الْأَمر بالشَّيْء (بِمَنْع ترك
الْفِعْل) الْمَأْمُور بِهِ فَترك الْمَأْمُور بِهِ ضد لَهُ،
وَقد تعقل حَيْثُ منع عَنهُ، لكنه فرق بَين الْمَنْع عَن
التّرْك وَبَين طلب الْكَفّ عَن التّرْك تَوْضِيحه أَن الْأَمر
بِفعل غير مجوز تَركه قد يخْطر بِبَالِهِ تَركه من حَيْثُ أَنه
لَا يجوزه ملحوظا بالتبع لَا قصدا، وَبِهَذَا الِاعْتِبَار
يُقَال منع تَركه، وَلَا يُقَال: طلب الْكَفّ عَن تَركه،
لِأَنَّهُ لَا يحْتَاج إِلَى توجه قصدي، وَإِلَيْهِ أَشَارَ
بقوله (إِمَّا لما قيل لَا نزاع فِي أَن الْأَمر بِشَيْء نهى
عَن تَركه) اللَّام فِي لما قيل مُتَعَلق بِجَوَاز
الِاكْتِفَاء كَأَن قَائِلا يَقُول من أَيْن لَك الحكم
بِجَوَاز الِاكْتِفَاء بِمَا ذكر من غير تعلق الطّلب
بِتَرْكِهِ، فَيَقُول لَوْلَا جَوَاز ذَلِك لم يتَّفق الْكل
على أَن الْأَمر بِشَيْء إِلَى آخِره، لِأَن عدم جَوَاز
الِاكْتِفَاء يسْتَلْزم تعلق الطّلب بِالتّرْكِ قصدا، وَهُوَ
ضد الْمَأْمُور بِهِ، فَيثبت أَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن
ضِدّه وَهُوَ عين المنازع فِيهِ، فَلَزِمَ تَأْوِيل قَوْلهم
لَا نزاع إِلَى آخِره بِأَن المُرَاد مِنْهُ الْمَنْع عَن ترك
الْفِعْل وَهُوَ كَاف فِي الْأَمر بالشَّيْء (وَإِمَّا
لِأَنَّهُ) أَي منع تَركه (بِطَلَب آخر) غير طلب الْفِعْل
الْمَأْمُور بِهِ (لخطور التّرْك عَادَة) فَإِن من يطْلب
الْفِعْل من غير تَجْوِيز تَركه يخْطر التّرْك بِبَالِهِ
غَالِبا من حَيْثُ كَونه مَطْلُوب التّرْك (وَطلب ترك تَركه)
أَي ترك الْمَأْمُور بِهِ إِنَّمَا يكون امتثاله (الْكَائِن
بِفِعْلِهِ) أَي بِأَن يفعل الْمَأْمُور بِهِ حَال كَونه طلب
ترك التّرْك (وزان) قَوْله (لَا تتْرك) فَإِن قَوْله افْعَل
هَذَا وَلَا تتْرك بِمَعْنى افعله واترك تَركه، وَحَاصِل طلب
الْفِعْل وَطلب ترك تَركه وَاحِد فَإِن قلت إِمَّا الثَّانِيَة
عديل أما الأولى، فَمَا وَجه تَعْلِيل جَوَاز الِاكْتِفَاء
بِهِ مَعَ أَنه أثبت هُنَا
(1/366)
طلبان قلت الثَّانِيَة فِي معنى الأولى
بِاعْتِبَار اشتراكهما فِي عدم ملزومية الطّلب الأول للطلب
الثَّانِي كَمَا هُوَ الْخصم فَتَأمل (وَكَذَا الضِّدّ المفوت)
أَي مثل ترك الْفِعْل للضد المفوت للْفِعْل مَطْلُوب بِطَلَب
آخر لخطور تَركه عَادَة وَطلب تَركه بِفعل الْمَأْمُور بِهِ
(فَالْأَوْجه أَن الْأَمر بالشَّيْء مُسْتَلْزم النَّهْي عَن
تَركه غير مَقْصُود) استلزاما بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ فَإِن
اللَّازِم (بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ) هُوَ أَن يكون تصور
الْمَلْزُوم وَاللَّازِم مَعًا كَافِيا فِيهِ للجزم باللزوم،
بِخِلَاف اللَّازِم بِالْمَعْنَى الْأَخَص، فَإِن الْعلم
بالملزوم هُنَاكَ يسْتَلْزم الْعلم باللازم (وَكَذَا) الْأَمر
بالشَّيْء نهي (عَن الضِّدّ المفوت لخطوره كَذَلِك) أَي إِذا
لوحظ معنى الْأَمر بالشَّيْء ولوحظ معنى النَّهْي عَن ضِدّه
المفوت لَهُ حكم الْعقل باللزوم بَينهمَا (فَإِنَّمَا التعذيب
بِهِ) أَي بالضد المفوت (لتفويته) أَي تَفْوِيت الْمَأْمُور
بِهِ، لَا من حَيْثُ ترك الِامْتِثَال لحكم آخر غير
الْمَأْمُور بِهِ (فَأَما ضد) أَي خطور ضد (بِخُصُوصِهِ) إِذا
كَانَ للْمَأْمُور بِهِ أضداد (فَلَيْسَ لَازِما عَادَة)
لِلْأَمْرِ بالشَّيْء (للْقطع بِعَدَمِ خطور الْأكل من تصور
الصَّلَاة) عِنْد الْأَمر بهَا (فِي الْعَادة) . قَالَ
(القَاضِي: لَو لم يكن) الْأَمر بالشَّيْء (إِيَّاه) أَي نهيا
عَن ضِدّه (فضده أَو مثله أَو خِلَافه) أَي لَكَانَ إِمَّا
مثله أَو ضِدّه أَو خِلَافه، وَاللَّازِم بأقسامه بَاطِل كَمَا
فِي الشَّرْح العضدي، أما الْمُلَازمَة فَلِأَن كل متغايرين
إِمَّا أَن يتساويا فِي صِفَات النَّفس أَو لَا، وَالْمعْنَى
بِصِفَات النَّفس: مَا لَا يحْتَاج الْوَصْف بِهِ إِلَى تعقل
أَمر زَائِد كالإنسانية للْإنْسَان، والحقيقة، والوجود،
والشبيه لَهُ، بِخِلَاف الْحَدث والتحيز، فَإِن تَسَاويا
فمثلان: كسوادين أَو بياضين، وَإِلَّا فإمَّا أَن يتنافيا
بأنفسهما أَي يمْتَنع اجْتِمَاعهمَا فِي مَحل وَاحِد بِالنّظرِ
إِلَى ذاتهما أَولا، فَإِن تنافيا بأنفسهما: كالسواد
وَالْبَيَاض فضدان، وَإِلَّا فخلافان: كالسواد والحلاوة
انْتهى، وَأما بطلَان اللَّازِم فَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله
(والأولان) أَي كَونهمَا ضدين، وكونهما مثلين (باطلان) أَي
منفيان (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يَكُونَا كَذَلِك بِأَن
يَكُونَا ضدين أَو مثلين (امْتنع اجْتِمَاعهمَا) لِاسْتِحَالَة
اجْتِمَاع الضدين والمثلين (واجتماع الْأَمر بالشَّيْء مَعَ
النَّهْي عَن ضِدّه لَا يقبل التشكيك) أَي لَا شكّ فِيهِ
لِأَنَّهُ ضَرُورِيّ كَمَا فِي تحرّك، وَلَا تسكن (وَكَذَا
الثَّالِث) أَي كَونهمَا خلافين بَاطِل أَيْضا (وَإِلَّا)
بِأَن يَكُونَا خلافين (جَازَ كل) أَي اجْتِمَاع كل من الْأَمر
بالشَّيْء وَالنَّهْي عَن ضِدّه (مَعَ ضد الآخر كالحلاوة
وَالْبَيَاض) إِذْ يجوز أَن تَجْتَمِع الْحَلَاوَة مَعَ ضد
الْبيَاض وَهُوَ السوَاد وَبِالْعَكْسِ (فيجتمع الْأَمر
بالشَّيْء مَعَ ضد النَّهْي عَن ضِدّه وَهُوَ) أَي ضد النَّهْي
عَن ضِدّه (الْأَمر بضده وَهُوَ) أَي الْأَمر بالشَّيْء مَعَ
الْأَمر بضد ذَلِك الشَّيْء (تَكْلِيف بالمحال لِأَنَّهُ) أَي
الْأَمر بالشَّيْء حِينَئِذٍ (طلبه) أَي طلب ذَلِك الشَّيْء
(فِي وَقت طلب فِيهِ عَدمه) أَي عدم ذَلِك الشَّيْء فقد طلب
مِنْهُ الْجمع بَين الضدين
(1/367)
فتعينت العينية (أُجِيب بِمَنْع كَون لَازم
كل خلافين ذَلِك) أَي جَوَاز اجْتِمَاع كل مَعَ ضد الآخر
(لجَوَاز تلازمهما) أَي الخلافين على مَا هُوَ التَّحْقِيق من
عدم اشْتِرَاط جَوَاز الانفكاك فِي المتغايرين كالجوهر مَعَ
الْعرض وَالْعلَّة مَعَ الْمَعْلُول (فَلَا يُجَامع) أحد
الخلافين على تَقْدِير تلازمهما (الضِّدّ) للْآخر، لِأَن أحد
المتلازمين إِذا اجْتمع مَعَ ضد آخر لزم اجتماعه مَعَ الضدين
جَمِيعًا، وَهُوَ ظَاهر (وَإِذن) أَي وَإِذا كَانَ الْأَمر على
مَا حققناه فِي الخلافين (فالنهي) الَّذِي ادّعى كَون الْأَمر
إِيَّاه (إِذا كَانَ ترك ضد الْمَأْمُور بِهِ اخترناهما) أَي
اخترنا كَونه وَالْأَمر بالشَّيْء (خلافين) من شقوق الترديد
(وَلَا يجب اجتماعه) أَي اجْتِمَاع النَّهْي اللَّازِم
لِلْأَمْرِ (مَعَ ضد طلب الْمَأْمُور بِهِ) على مَا زَعمه
القَاضِي (كَالصَّلَاةِ مَعَ إِبَاحَة الْأكل) أَي كالأمر
بِالصَّلَاةِ وَالنَّهْي عَن الْأكل فَإِنَّهُمَا خلافان،
وَلَا يلْزم من كَونهمَا خلافين اجْتِمَاع الصَّلَاة
الْمَأْمُور بهَا مَعَ إِبَاحَة الْأكل الَّتِي هِيَ ضد
النَّهْي عَن الْأكل (وَبعد تَحْرِير مَحل (النزاع) وَبَيَان
المُرَاد من الْمنْهِي عَنهُ بِحَيْثُ لَا يشْتَبه (لَا يتَّجه
الترديد) فِي المُرَاد بِالنَّهْي عَن الضِّدّ على مَا فِي
الشَّرْح العضدي (بَينه) أَي بَين مَا ذكر (وَبَين فعل ضد
ضِدّه الَّذِي) فعل ضِدّه، الَّذِي صفة فعل ضد ضِدّه
(يتَحَقَّق بِهِ ترك ضِدّه) أَي ضد الْمَأْمُور بِهِ (وَهُوَ)
أَي وَفعل ضد ضِدّه (عينه) أَي عين فعل الْمَأْمُور بِهِ
(فحاصله) أَي حَاصِل الْمَجْمُوع أَعنِي الْأَمر بالشَّيْء نهى
عَن ضِدّه و (طلب الْفِعْل طلب عينه) أَي عين الْفِعْل، فَإِن
ضد ضِدّه المفوت هُوَ عينه (وَأَنه) أَي الْحَاصِل الْمَذْكُور
(لعب) إِذْ لَا يُقَال بَين الشَّيْء ونفيه مثل هَذَا
الْكَلَام إِلَّا بطرِيق اللّعب وَاللَّهْو (ثمَّ إِصْلَاحه)
أَي إصْلَاح الترديد على وَجه لَا يكون لعبا (بِأَن يُرَاد
بِأَن طلب الْفِعْل لَهُ اسمان، أَمر بِالْفِعْلِ، وَنهى عَن
ضِدّه وَهُوَ) أَي النزاع (حِينَئِذٍ لغَوِيّ) رَاجع إِلَى
تَسْمِيَة الْأَمر بالشَّيْء نهيا عَن ضِدّه هَل هِيَ ثَابِتَة
فِي اللُّغَة أم لَا؟ (وَلَهُم) أَي الْقَائِلين الْأَمر
بالشَّيْء غير النَّهْي عَن ضِدّه، وهم القَاضِي وموافقوه
(أَيْضا فعل السّكُون عين ترك الْحَرَكَة وَطَلَبه) أَي فعل
السّكُون (استعلاء وَهُوَ الْأَمر طلب تَركهَا) أَي الْحَرَكَة
(وَهُوَ) أَي طلب تَركهَا (النَّهْي، وَهَذَا) الدَّلِيل
(كَالْأولِ يعم النَّهْي) إِذْ يُقَال أَيْضا بِالْقَلْبِ
(وَالْجَوَاب بِرُجُوع النزاع لفظيا) كَمَا ذكره ابْن
الْحَاجِب وَغَيره فِي الشَّرْح العضدي رَجَعَ النزاع لفظيا
فِي تَسْمِيَة فعل الْمَأْمُور بِهِ تركا لضده وَفِي تَسْمِيَة
طلبه نهيا، وَكَانَ طَرِيق ثُبُوته النَّقْل لُغَة وَلم يثبت
(مَمْنُوع بل هُوَ) أَي النزاع (فِي وحدة الطّلب الْقَائِم
بِالنَّفسِ) بِأَن يكون طلب الْفِعْل عين طلب ترك ضِدّه
(وتعدده) بِأَن يَكُونَا متغايرين بِالذَّاتِ (بِنَاء على أَن
الْفِعْل) الْمَأْمُور بِهِ (أَعنِي الْحَاصِل بِالْمَصْدَرِ)
فَإِنَّهُ الْمَطْلُوب إِيقَاعه من الْمُكَلف لَا الْمصدر
الْمَبْنِيّ
(1/368)
للْفَاعِل وَلَا الْمَبْنِيّ للْمَفْعُول
إِذْ هما نسبتان عقليتان لازمتان للحاصل بِالْمَصْدَرِ
فَإِنَّهُ إِذا صدر عَن الْفَاعِل وَتعلق بالمفعول ثَبت
بِالضَّرُورَةِ للْفَاعِل وصف اعتباري: وَهُوَ كَونه بِحَيْثُ
صدر عَنهُ ذَلِك الْحَدث، وَآخر للْمَفْعُول وَهُوَ كَونه
بِحَيْثُ وَقع عَلَيْهِ وَلَا شَيْء مِنْهُمَا بموجود فِي
الْخَارِج، وَإِنَّمَا الْمَوْجُود فِيهِ نفس ذَلِك الْحَدث
الْمُسَمّى بالحاصل بِالْمَصْدَرِ، وَإِن أردْت زِيَادَة
تَحْقِيق لَهُ فَعَلَيْك برسالة الْفُقَهَاء فِي تَحْقِيقه
(وَترك أضداده) أَي الْمَأْمُور بِهِ (وَاحِد فِي الْوُجُود)
أَي يوجدان (بِوُجُود وَاحِد أَو لَا) فعلى الأول يلْزم
اتِّحَاد الطّلب الْمُتَعَلّق بِالْفِعْلِ مَعَ الطّلب
الْمُتَعَلّق بترك أضداده، وعَلى الثَّانِي يلْزم تغاير
الطلبين بِالذَّاتِ لتغاير متعلقيهما بِالذَّاتِ (بل الْجَواب
مَا تضمنه دَلِيل النافين من الْقطع بِطَلَب الْفِعْل مَعَ عدم
خطور الضِّدّ) وَهَذَا فِي غير نَحْو الْحَرَكَة والسكون
(وَأَيْضًا فَإِنَّمَا يتم) الِاسْتِدْلَال بِمَا ذكر من
قَوْله: أَي فعل السّكُون عين ترك الْحَرَكَة إِلَى آخِره
(فِيمَا أَحدهمَا) أَي الْمَأْمُور بِهِ وَالنَّهْي عَنهُ (ترك
الآخر) وَفِي نُسْخَة عدم للْآخر (كالحركة والسكون، لَا) فِي
(الأضداد الوجودية) يَعْنِي إِذا كَانَ للْمَأْمُور بِهِ ضد
وَاحِد مسَاوٍ النقيضه وَهُوَ فِي الْمَعْنى لَيْسَ بوجودي
لكَونه مُسَاوِيا لعدم الْمَأْمُور بِهِ، فَحِينَئِذٍ طلب
تَركه طلب للْمَأْمُور بِهِ فِي الْحَقِيقَة، وَأما إِذا كَانَ
لَهُ أضداد لَيْسَ أَحدهَا على الْوَجْه الْمَذْكُور وَهِي
حِينَئِذٍ وجودية، فَطلب ترك أَحدهَا لَا يكون طلبا
للْمَأْمُور بِهِ لنحقق تَركه فِي ضمن ضد آخر لَهُ (فَلَيْسَ)
مَا أَحدهمَا ترك الآخر (مَحل النزاع عِنْد الْأَكْثَر)
لاتفاقهم على أَن الْأَمر بالشَّيْء فِيهِ نهي عَن ضِدّه
(وَلَا تَمَامه) أَي مَحل النزاع (عندنَا) لِأَنَّهُ أَعم من
ذَلِك، هَكَذَا فِي نُسْخَة الشَّارِح وَلَيْسَ فِي النُّسْخَة
الَّتِي اعتمدنا عَلَيْهَا عِنْد الْأَكْثَر إِلَى آخِره
وَهُوَ الصَّوَاب، لِأَن نفي كَون مَا ذكر تَمام مَحل النزاع
يدل على أَنه من جملَة مَحَله، وَلَا وَجه للنزاع فِيهِ كَمَا
لَا يخفى إِلَّا أَن يتَكَلَّف، وَيُقَال فرق بَين طلب
الشَّيْء وَطلب ترك نقيضه من حَيْثُ التَّعْبِير وَإِن اتحدا
مَآلًا.
وَأَنت خَبِير بِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّب على هَذَا النزاع
بِمرَّة (وللمعمم) الْقَائِل (فِي النَّهْي) أَنه أَمر بالضد
كَمَا أَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن الضِّدّ (دَلِيلا
القَاضِي) وهما لَو لم يكن نَفسه لَكَانَ مثله أَو ضِدّه أَو
خِلَافه إِلَى آخِره، والسكون ترك الْحَرَكَة إِلَى آخِره
(وَالْجَوَاب) عَنْهُمَا (مَا تقدم) آنِفا من جَوَاز تلازم
الخلافين وَالْقطع بِطَلَب الْفِعْل مَعَ عدم خطور الضِّدّ
(وَأَيْضًا يلْزم فِي نهي الشَّارِع كَون كل من الْمعاصِي
المضادة) للنَّهْي عَنهُ (مَأْمُور بِهِ مُخَيّرا) فَيكون
النَّهْي عَن الزِّنَا أَمر باللواط (وَلَو التزموه لُغَة)
فَقَالُوا سلمنَا أَنه يلْزم ذَلِك من حَيْثُ الدّلَالَة
اللُّغَوِيَّة (غير أَنَّهَا) أَي الْمعاصِي (مَمْنُوعَة
بشرعي) أَي بِدَلِيل شَرْعِي فَهُوَ قرينَة دَالَّة على
أَنَّهَا لَيست مُرَاد
(1/369)
الشَّارِع (كالمخرج من الْعَام) من حَيْثُ
أَن الْعَام (يتَنَاوَلهُ) لُغَة (وَيمْتَنع فِيهِ) أَي فِي
الْمخْرج (حكمه) أَي الْعَام بِدَلِيل شَرْعِي (أمكنهم) جَوَاب
لَو، وَلَا يخفى سماجة هَذَا الِالْتِزَام (وعَلى اعْتِبَاره)
أَي الِالْتِزَام الْمَذْكُور (فالمطلوب ضد لم يمنعهُ
الدَّلِيل، وَأما إِلْزَام نفي الْمُبَاح) على المعمم بِأَن
يُقَال مَا من مُبَاح إِلَّا وَهُوَ ضد الْحَرَام مَنْهِيّ
عَنهُ، وَلِهَذَا ذهب الكعبي إِلَى أَنه مَا من مُبَاح إِلَّا
هُوَ ترك حرَام فَيلْزم كَون ذَلِك الْمُبَاح مَأْمُورا بِهِ،
وَلَيْسَ هُنَاكَ منع شَرْعِي حَتَّى يكون كالمخرج من الْعَام
(فَغير لَازم) إِذْ كَون الْمُبَاح تركا لِلْحَرَامِ لَا
يسْتَلْزم كَونه ضدا لَهُ إِذْ الضدان هما المتنافيان
بأنفسهما، على أَنه إِن قَامَ دَلِيل على إِبَاحَته كَانَ
قرينَة لعدم إِرَادَته على مَا ذكر آنِفا (المضمن) أَي
الْقَائِل بِأَن الْأَمر بالشَّيْء يتَضَمَّن النَّهْي عَن
ضِدّه وَنقض هَذَا الدَّلِيل قَالَ (أَمر الْإِيجَاب طلب فعل
يذم بِتَرْكِهِ فاستلزم النَّهْي عَنهُ) أَي عَن تَركه (وَعَما
يحصل) التّرْك (بِهِ وَهُوَ) أَي مَا يحصل بِهِ التّرْك
(الضِّدّ) للْمَأْمُور بِهِ فاستلزم الْأَمر الْمَذْكُور
النَّهْي عَن ضِدّه (وَنقض) هَذَا الدَّلِيل بِأَنَّهُ (لَو
تمّ لزم تصور الْكَفّ عَن الْكَفّ) عَن الْمَأْمُور بِهِ (لكل
أَمر إِيجَابا) لِأَن الْمُسْتَدلّ ادّعى استلزام الْأَمر
النَّهْي عَن تَركه، لِأَن تَركه هُوَ الْكَفّ عَنهُ،
وَالنَّهْي عَن الشَّيْء هُوَ طلب الْكَفّ عَن الْكَفّ لَازم
لطلب الْكَفّ عَن ذَلِك الشَّيْء، فالنهى عَن الْكَفّ
الْمَأْمُور بِهِ هُوَ طلب الْكَفّ عَن الْكَفّ عَنهُ، وتصور
الْكَفّ عَن الْكَفّ، وَاللَّازِم بَاطِل للْقطع بِطَلَب
الْفِعْل مَعَ عدم خطور الْكَفّ عَن الْكَفّ (وَلَو سلم) عدم
لُزُوم تصور الْكَفّ عَن الْكَفّ (منع كَون الذَّم بِالتّرْكِ
جُزْء الْوُجُوب) أَي جُزْء الْأَمر الإيجابي أَو لَازم
مَفْهُومه لُزُوما عقليا واستلزام الْأَمر الإيجابي النَّهْي
عَن تَركه فرع كَون الذَّم بِالتّرْكِ جُزْءا أَو لَازِما
(وَإِن وَقع) الذَّم بِالتّرْكِ (جُزْء التَّعْرِيف) الرسمي
لَهُ (بل هُوَ) أَي الْوُجُوب يَعْنِي الْأَمر الإيجابي
(الطّلب الْجَازِم) الَّذِي لم يجوز طَالبه ترك الْمَطْلُوب
بِهِ (ثمَّ يلْزم تَركه) أَي ترك مَطْلُوبه (ذَلِك) أَي الذَّم
فَاعل يلْزم قدم مَفْعُوله (إِذا صدر) الْأَمر (مِمَّن لَهُ حق
الْإِلْزَام) أَي ولَايَة الْإِلْزَام واللزوم بِحَسب التحقق
فِي الْخَارِج لَا يسْتَلْزم اللُّزُوم بِحَسب التعقل، وَهَذَا
هُوَ الْمَطْلُوب (وَلَو سلم) كَون الذَّم بِالتّرْكِ جُزْء
الْوُجُوب (فَجَاز كَون الذَّم عِنْد التّرْك لِأَنَّهُ لم
يفعل) مَا أَمر بِهِ لَا لِأَنَّهُ فعل الضِّدّ المستلزم
للترك، وَكَون الضِّدّ مَنْهِيّا عَنهُ لَا يتَحَقَّق إِلَّا
بِكَوْن الذَّم لأَجله (وَلَا يخفى أَنه لَا يتَوَجَّه الذَّم
على الْعَدَم) أَي على عدم الْفِعْل (من حَيْثُ هُوَ عدم بل من
حَيْثُ هُوَ فعل الْمُكَلف) يَعْنِي لَو توجه إِنَّمَا
يتَوَجَّه من حَيْثُ أَنه فعل الْمُكَلف لَكِن هَذِه
الْحَيْثِيَّة غير مَوْجُودَة فِيهِ، فَلَا يتَوَجَّه عَلَيْهِ
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَلَيْسَ الْعَدَم فعله بل) فعله
إِنَّمَا هُوَ (التّرْك المبقى للعدم) الأَصْل (على الأَصْل)
وَحَاصِله كف النَّفس عَمَّا يقطع الْعَدَم الْأَصْلِيّ من فعل
(1/370)
ضِدّه فَتَأمل (وَمَا قيل لَو سلم) أَن
الْأَمر بالشَّيْء مُتَضَمّن للنَّهْي عَن ضِدّه (فَلَا
مُبَاح) إِذْ ترك الْمَأْمُور بِهِ وضده يعم الْمُبَاحَات،
والمفروض أَن الْأَمر يسْتَلْزم النَّهْي عَنْهَا، والمنهي
عَنهُ لَا يكون مُبَاحا (فَغير لَازم) إِذْ المُرَاد من
الضِّدّ الْمنْهِي عَنهُ المفوت لِلْأَمْرِ، وَإِلَيْهِ
أَشَارَ بقوله (وَإِلَّا) أَي وَلَو كَانَ مستلزما نفي
الْمُبَاح بِأَن يكون مُرَاد المضمن من الضِّدّ كلما يتَحَقَّق
فِيهِ ترك الْمَأْمُور بِهِ وَلم يُقيد بِمَا يفوتهُ (امْتنع)
للمضمن المعمم (التَّصْرِيح فَلَا تعقل الضِّدّ المفوت)
للْمَأْمُور بِهِ بعد الْأَمر لِأَن لَازم الْأَمر عِنْده على
ذَلِك التَّقْدِير لَا بِفعل مُطلق الضِّدّ، فَبين لَازم
الْكَلَام وَمَفْهُومه تدافع، وَمن الْمَعْلُوم عدم امْتنَاع
تصريحه بذلك (والحل) أَي حل الشُّبْهَة (أَن لَيْسَ كل ضد)
بِمَعْنى مَا يحصل بِهِ التّرْك (مفوتا) للْمَأْمُور بِهِ
(وَلَا كل مُقَدّر) من الْمُبَاحَات (ضدا كَذَلِك) أَي مفوتا
(كخطوه فِي الصَّلَاة، وابتلاع رِيقه، وَفتح عينه وَكثير) من
نظائرها فَإِنَّهَا أُمُور مغايره بِالذَّاتِ للصَّلَاة،
وَبِهَذَا الِاعْتِبَار يُطلق عَلَيْهَا الضِّدّ وَلكنهَا لَا
تفوت الصَّلَاة (وَأَيْضًا لَا يسْتَلْزم) هَذَا الدَّلِيل
(مَحل النزاع، وَهُوَ) أَي مَحل النزاع (الضِّدّ) الجزئي
لِلْأَمْرِ وَهُوَ فعل خَاص وجودي مفوت للْمَأْمُور بِهِ (غير
التّرْك) أَي ترك الْمَأْمُور بِهِ مُطلقًا، فَإِنَّهُ لَا
نزاع فِي كَونه نهيا عَنهُ، غير أَنه لَا يلْزم بِهِ إِثْم عدم
امْتِثَال الْأَمر، وَإِنَّمَا قُلْنَا مَا أَفَادَهُ
الدَّلِيل خَارج عَن مَحل النزاع (لِأَن مُتَعَلق النَّهْي
اللَّازِم) لِلْأَمْرِ ضَرُورَة (أحد الْأَمريْنِ: من التّرْك
والضد) يَعْنِي النَّهْي الَّذِي يحكم الْعقل بلزومه
لِلْأَمْرِ مُتَعَلّقه أحد الْأَمريْنِ لَا على التَّعْيِين،
فللمانع أَن يَقُول لم لَا يجوز أَن يكون تحَققه فِي ضمن
التّرْك؟ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فنختار الأول) فَيكون
النَّهْي اللَّازِم إِنَّمَا هُوَ النَّهْي عَن ترك
الْمَأْمُور بِهِ لَا النَّهْي عَن الضِّدّ، وَهُوَ لَيْسَ من
مَحل النزاع لما عرفت فَإِن قلت قد ادّعى المُصَنّف استلزام
الْأَمر للنَّهْي عَن ترك الْمَأْمُور بِهِ وَعَما يحصل بِهِ
التّرْك وَهُوَ الضِّدّ مَعًا، فَمَا وَجه تَسْلِيم استلزامه
لَهما جَمِيعًا قلت بالِاتِّفَاقِ لَيْسَ النَّهْي اللَّازِم
لِلْأَمْرِ مُتَعَددًا، وَإِلَّا يلْزم إِثْبَات أَفْرَاد
كَثِيرَة للمنهي بِعَدَد الأضداد الْجُزْئِيَّة وَاعْتِبَار
ترك الْمَأْمُور بِهِ مُتَعَلقا بِالنَّهْي مغن عَن الْكل،
لِأَنَّهُ يتَحَقَّق فِي ضمن كل ضد فَتعين لكَونه مُتَعَلقا
للنَّهْي (وَزَاد المعممون فِي النَّهْي) الْقَائِلُونَ بِأَن
النَّهْي عَن الشَّيْء يتَضَمَّن الْأَمر بضده كَمَا أَن
الْأَمر يتَضَمَّن النَّهْي عَنهُ (أَنه) أَي النَّهْي (طلب
ترك فعل وَتَركه) أَي الْفِعْل (بِفعل أحد أضداده) أَي
الْفِعْل (فَوَجَبَ) أحد أضداده: وَهُوَ الْأَمر، لِأَن مَا
لَا يحصل الْوَاجِب إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب (وَدفع) هَذَا
(بِلُزُوم كَون كل من الْمعاصِي إِلَى آخِره) أَي المضادة
مَأْمُورا بِهِ مُخَيّرا (وَبِأَن لَا مُبَاح) أَي وبلزوم أَن
لَا يُوجد مُبَاح أصلا لما مر من أَن كل مُبَاح ترك الْمحرم
وضد لَهُ فَإِن قلت غَايَة مَا يلْزم وجود أحد الْمُبَاحَات
المضادة لَا كلهَا قلت وجوب أحد الْأَشْيَاء لَا على
التَّعْيِين
(1/371)
بِحَيْثُ يحصل مَا هُوَ الْوَاجِب بأَدَاء
كل وَاحِد مِنْهَا يُنَافِي الْإِبَاحَة كَمَا فِي خِصَال
الْكَفَّارَة (وبمنع وجوب مَا لَا يتم الْوَاجِب أَو الْمحرم)
أَي الاجتناب من الْمحرم (إِلَّا بِهِ، وَفِيهِمَا) أَي فِي
لُزُوم كَون كل من الْمعاصِي إِلَى آخِره، وَأَن لَا مُبَاح
(مَا تقدم) من أَنهم لَو التزموا الأول لُغَة أمكنهم غير أَنه
غير مُرَاد بِدَلِيل شَرْعِي وَأَن الثَّانِي غير لَازم (وَأما
الْمَنْع) لوُجُوب مَا لَا يتم الْوَاجِب أَو الْمحرم إِلَّا
بِهِ (فَلَو لم يجب) أَي فَدفعهُ أَن يُقَال لَو لم يجب مَا
لَا يتم الْوَاجِب أَو الْمحرم إِلَّا بِهِ (لجَاز تَركه) أَي
ترك مَا لَا يتم إِلَّا بِهِ (ويستلزم جَوَاز) تَركه جَوَاز
(ترك الْمَشْرُوط) فِي الْوَاجِب (أَو جَوَاز فعله) أَي
الْمَشْرُوط فِي الْمحرم (بِلَا شَرطه الَّذِي لَا يتم إِلَّا
بِهِ وَسَيَأْتِي تَمَامه) فِي مسئلة مَا لَا يتم الْوَاجِب
إِلَّا بِهِ، فَلَا يمْنَع ذَلِك (بل يمْنَع أَنه) أَي
الْمَطْلُوب بِالنَّهْي (لَا يتم إِلَّا بِهِ) أَي بِفعل أحد
اضداده (بل يحصل) الْمَطْلُوب بِهِ بِهِ (بالكف) عَن الْفِعْل
المنهى عَنهُ (الْمُجَرّد) عَن فعل الضِّدّ (والمخصص فِي
العينية واللزوم) أَي المقتصر على أَن الْأَمر بالشَّيْء نهي
عَن ضِدّه أَو يستلزمه، وَلَيْسَ النَّهْي عَن الشَّيْء أمرا
بضده وَلَا يستلزمه (فإمَّا لِأَن النَّهْي طلب نفي) أَي
فإمَّا لِأَن مذْهبه: أَي النَّهْي نفي الْفِعْل: وَهُوَ عدم
مَحْض كَمَا هُوَ مَذْهَب أبي هَاشم، لَا طلب الْكَفّ عَن
الْفِعْل الَّذِي هُوَ ضِدّه فَلَا يكون أمرا بالضد وَلَا
يستلزمه، إِذْ لَا مَطْلُوب حِينَئِذٍ سوى النَّفْي الْمَحْض
(مَعَ منع أَن مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَى آخِره) أَي إِلَّا
بِهِ فَهُوَ وَاجِب، وَقد عرفت دَفعه، وَأَن مَحل الْمَنْع
أَنه لَا يتم إِلَّا بِهِ (وَإِمَّا لظن وُرُود الْإِلْزَام
الفظيع) وَهُوَ كَون الزِّنَا وَاجِبا لكَونه تركا للواط على
تَقْدِير كَون النَّهْي عَن الشَّيْء أَمر بضده أَو يستلزممه
(أَو لظن أَن أَمر الايجاب استلزم النهى) إِلَى آخِره
(باستلزام ذمّ التّرْك) أى بِسَبَب استلزام أَمر الايجاب
الذَّم على تَركه (والنهى لَا) يسْتَلْزم الْأَمر لِأَنَّهُ
طلب الْكَفّ عَن الْفِعْل، والذم إِنَّمَا يَتَرَتَّب على
الْفِعْل، فَلَو استلزم الْأَمر بشىء لَكَانَ ذَلِك الشىء هُوَ
الْكَفّ، والكف لَا يصلح مُتَعَلقا لِلْأَمْرِ: إِذْ الْأَمر
طلب فعل غير الْكَفّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لِأَنَّهُ طلب
كف عَن فعل مَعَ منع أَن مَا لَا يتم إِلَى آخِره) وَقد عرفت
دَفعه، وَمحل الْمَنْع هَهُنَا كَون ضد الْمنْهِي عَنهُ
بِحَيْثُ لَا يتم الِانْتِهَاء عَنهُ إِلَّا بِهِ يحصل
الِانْتِهَاء بِمُجَرَّد الْكَفّ عَن الْمنْهِي عَنهُ
(وَإِمَّا لظن وُرُود إبِْطَال الْمُبَاح كالكعبي) على
تَقْدِير كَون النَّهْي عَن الشَّيْء أمرا بضده، لِأَن كل
مُبَاح ترك الْمنْهِي عَنهُ: فَيلْزم كَونه مَأْمُورا بِهِ،
لِأَن ترك الشَّيْء ضد لَهُ، وَقَوله كالكعبي: أَي كمذهب
الكعبي على مَا مر من قَوْله: كل مُبَاح ترك لحرام (ومخصص أَمر
الْإِيجَاب) بِكَوْنِهِ نهيا عَن ضِدّه، أَو مستلزما لَهُ دون
أَمر النّدب ذهب إِلَيْهِ (لظن وُرُود الْأَخيرينِ) على
تَقْدِير كَون أَمر النّدب نهيا عَن الضِّدّ، وَهُوَ أَن
استلزام الذَّم للترك المستلزم للنَّهْي إِنَّمَا هُوَ فِي
أَمر الْوُجُوب وَلُزُوم إبِْطَال الْمُبَاح: إِذْ مَا من وَقت
إِلَّا
(1/372)
وَندب فِيهِ فعل، فَإِن استغراق
الْأَوْقَات بالمندوبات مَنْدُوب، بِخِلَاف الْوَاجِب
فَإِنَّهُ لَا يستغرقها، فَيكون الْفِعْل فِي غير وَقت لُزُوم
أَدَاء الْوَاجِب مُبَاحا وَلَا يلْزم نفي الْمُبَاح (وَعلمت)
أَن (مرجع) قَول (فَخر الْإِسْلَام) وَهُوَ أَن الْأَمر
يَقْتَضِي كَرَاهَة الضِّدّ وَلَو إِيجَابا وَالنَّهْي كَونه
سنة مُؤَكدَة وَلَو تَحْرِيمًا (إِلَى) قَول (الْعَامَّة) من
أَن الْأَمر بالشَّيْء نهى عَن ضِدّه إِن كَانَ وَاحِدًا
وَإِلَّا فَعَن الْكل وَأَن الْأَمر بالضد المتحد، وَفِي بعض
النّسخ المتعدد بِوَاحِد غير معِين، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ
بِرُجُوعِهِ إِلَيْهِم عدم الْمُخَالفَة بَينهم: وَإِنَّمَا
علم ذَلِك بتقييد الضِّدّ فِي الْمُتَنَازع فِيهِ بالمفوت،
وَحمل كَلَامه على المفوت، فعلى هَذَا ذكر الْكَرَاهَة فِي
جَانب الْأَمر وَالسّنة فِي جَانب النَّهْي لَا يُوجب
الِاخْتِلَاف بَين قَوْله وَقَوْلهمْ (وَلَا يخفى أَن مَا مثل
بِهِ) فَخر الْإِسْلَام (لكَرَاهَة الضِّدّ من أَمر قيام
الصَّلَاة) بَيَان للموصول مُبينًا لَهُ بقوله (لَا يفوت)
امْتِثَال الْأَمر الْمَذْكُور (بالقعود فِيهَا) أَي فِي
الصَّلَاة: إِذْ لَيْسَ الْقعُود ضدا مفوتا للْقِيَام لجَوَاز
أَن يعود إِلَيْهِ لعدم تعْيين الزَّمَان (وَيكرهُ) عطف على
قَوْله لَا يفوت (اتفاقي) خبر أَن: يَعْنِي إِنَّمَا أجتمع
كَرَاهَته مَعَ الْأَمر بِالْقيامِ اتِّفَاقًا (لَا من
مُقْتَضى الْأَمر) لِأَن مُقْتَضى الْأَمر النَّهْي عَن
الضِّدّ المفوت، وَالْقعُود بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقيام
لَيْسَ كَذَلِك لما عرفت (بل مَبْنِيّ الْكَرَاهَة) أَمر
(خَارج) عَن مُقْتَضى الْأَمر (وَهُوَ التَّأْخِير) عَن وقته
الْمسنون لَهُ (وَإِلَّا) لَو كَانَ الْقعُود مفوتا لَهُ
(فَسدتْ) وَكَانَ ذَلِك الْقعُود حَرَامًا (وَكَذَا قَول أبي
يُوسُف بِالصِّحَّةِ) أَي بِصِحَّة السَّجْدَة الْمَأْمُور
بهَا فِي الصَّلَاة (فِيمَن سجد) أَي فِي حق من سجد (على
مَكَان نجس فِي الصَّلَاة وَأعَاد) السَّجْدَة (على) مَكَان
(طَاهِر) لَيْسَ من مُقْتَضى الْأَمر (لِأَنَّهُ) أَي سُجُوده
على نجس (تَأْخِير السَّجْدَة الْمُعْتَبرَة) وَهِي المستجمعة
شَرَائِط الصِّحَّة (عَن وَقتهَا لَا تَفْوِيت) لَهَا (وَهُوَ)
أَي تَأْخِيرهَا عَن وَقتهَا الْمسنون لَهَا (مَكْرُوه وفسدت)
الصَّلَاة (عِنْدهمَا) أبي حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله
(للتفويت) لأمر الطَّهَارَة (بِنَاء على أَن الطَّهَارَة فِي
الصَّلَاة) وصف (مَفْرُوض الدَّوَام) أَي فِي جَمِيع أَجزَاء
الْوَقْت الَّذِي هُوَ فِي الصَّلَاة، وَقد فَاتَ فِي جُزْء
مِنْهَا فَإِن قلت أَبُو يُوسُف رَحمَه الله لَا يعْتَبر ذَلِك
الْجُزْء من أَجزَاء الصَّلَاة: بل هُوَ خَارج فاصل بَين
الْأَجْزَاء قلت بل هُوَ من الْأَجْزَاء بِدَلِيل ترَتّب
الْأَحْكَام اللَّازِمَة على الْمُصَلِّي بِالتَّحْرِيمِ لَهَا
فِي ذَلِك الجزيء من الْوَقْت وَذكر الشَّارِح أَن حِكَايَة
الْخلاف بَينهم هَكَذَا مَذْكُورَة فِي عير وَاحِد من الْكتب،
وَذكر الْقَدُورِيّ أَن النَّجَاسَة إِن كَانَت فِي مَوضِع
سُجُوده فروى مُحَمَّد عَن أبي حنيفَة أَن صلَاته لَا تُجزئ
إِلَّا أَن يُعِيد السُّجُود على مَوضِع طَاهِر، وَهُوَ قَول
أبي يُوسُف وَمُحَمّد، وروى عَن أبي يُوسُف عَن أبي حنيفَة
رَحمَه الله أَنَّهَا تُجزئ بِغَيْر إِعَادَة، وَجه الأولى أَن
السُّجُود كالقيام فِي
(1/373)
عدم الِاعْتِدَاد بِهِ مَعَ النَّجَاسَة،
وَوجه الْأُخْرَى أَن الْوَاجِب عِنْده أَن يسْجد على طرف
أَنفه، وَهُوَ أقل من قدر الدِّرْهَم، وَهَذَا الْقدر لَا
يمْنَع جَوَاز الصَّلَاة وَأما عِنْدهمَا فالسجود على
الْجَبْهَة وَاجِب، وَهُوَ أَكثر من قدر الدِّرْهَم فَيمْنَع
جَوَاز الصَّلَاة، ثمَّ ذكر أَنه إِذا افْتتح على مَوضِع
طَاهِر ثمَّ نقل قدمه إِلَى مَوضِع نجس ثمَّ أَعَادَهُ صحت
صلَاته إِلَى أَن يَتَطَاوَل حَتَّى يصير فِي حكم الْفِعْل
الَّذِي إِذا زيد فِي الصَّلَاة أفسدها انْتهى، وَفِي آخر
كَلَامه نظر يظْهر بملاحظة فرض دوَام الطَّهَارَة فَتَأمل
(وَأما قَوْله) أَي فَخر الْإِسْلَام (النَّهْي يُوجب فِي أحد
الأضداد السّنيَّة كنهي الْمحرم عَن الْمخيط سنّ لَهُ
الْإِزَار والرداء فَلَا يخفى بعده عَن وَجه الاستلزام) .
قَالَ الشَّارِح قلت فِي هَذَا سَهْو، فَإِن لفظ فَخر
الْإِسْلَام، وَأما النَّهْي عَن الشَّيْء فَهَل لَهُ حكم فِي
ضِدّه؟ قَالَ بَعضهم يُوجب أَن يكون ضِدّه فِي معنى سنة
وَاجِبَة، وعَلى القَوْل الْمُخْتَار يحتملان نقيض ذَلِك
انْتهى، ثمَّ فسر ذَلِك بقوله: أَي كَون الضِّدّ فِي معنى سنة
مُؤَكدَة إِذا كَانَ النَّهْي لتَحْرِيم وَوجه بِأَن النَّهْي
الثَّابِت فِي ضمن الْأَمر لما اقْتضى الْكَرَاهَة الَّتِي
هِيَ أدنى من الْحُرْمَة بِدَرَجَة، وَجب أَن يَقْتَضِي
الْأَمر الثَّابِت فِي ضمن النهى سنية الضِّدّ الَّتِى هى أدنى
من الْوَاجِب بِدَرَجَة، ثمَّ قَالَ وَهَذَا التلازم غير لَازم
كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ المُصَنّف، ثمَّ قَالَ فِي التَّحْقِيق
وَغَيره وَلم يرد بِالسنةِ مَا هُوَ المصطلح بَين الْفُقَهَاء،
وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَا هُوَ قريب من الْوُجُوب وَقَالَ
يحْتَمل لِأَنَّهُ لم ينْقل هَذَا القَوْل نصا عَن السّلف لكنه
مُقْتَضى الْقيَاس، ثمَّ ذكر من الحَدِيث مَا يدل على النَّهْي
عَن لبس الْقَمِيص والعمائم والبرانس والخفاف، وَذكر أَن هَذَا
النَّهْي ذُو ضد مُتحد، لِأَنَّهُ لَا وَاسِطَة بَين لبس
الْمخيط وَلبس غَيره، فَيلْزم وجوب لبس الْإِزَار، والرداء لَا
سنيته، على أَن لبسهما لَيْسَ مِمَّا نَحن فِيهِ لما يدل
عَلَيْهِ الحَدِيث من الْأَمر بلبسهما وَأَطْنَبَ فِي غير
طائل، وَإِذا تَأَمَّلت فِي كَلَامه وجدته إِلَى السَّهْو
أقرب، لِأَن استبعاد المُصَنّف بِسَبَب أَن أحد الأضداد إِذا
كَانَ مِمَّا لَا بُد مِنْهُ فِي الِامْتِثَال بِالنَّهْي
يلْزم كَونه وَاجِبا وَإِلَّا فَلَا يدل على سنيته أَيْضا،
وَقَوله لَيْسَ مِمَّا نَحن فِيهِ غير مُوجبَة لجَوَاز تعدد
دَلِيل السّنيَّة، فسبحان من جرأ الضَّعِيف على الْقوي لعدم
مَعْرفَته مقَامه (وَأما النَّهْي) بالتفسير الْمُقَابل
لِلْأَمْرِ (فالنفسي طلب كف عَن فعل) فَخرج الْأَمر لِأَنَّهُ
طلب فعل غير كف (على جِهَة الاستعلاء) فَخرج بِهِ الالتماس
وَالدُّعَاء (وإيراد كف نَفسك) عَن كَذَا طرده لصدقه عَلَيْهِ
(إِن كَانَ) مورده مَادَّة للنقض (لَفظه) أَي لفظ كف نَفسك
كَذَا (فَالْكَلَام فِي النَّفْسِيّ) أَي فَنَقُول لَا
مَحْذُور لعدم صدقه عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَلَب كف، بل
لَيْسَ بِطَلَب (أَو) كَانَ مورده (مَعْنَاهُ التزامناه) أَي
صدق التَّعْرِيف عَلَيْهِ حَال كَونه (نهيا) نفسيا من جملَة
أَفْرَاد الْمُعَرّف (وَكَذَا معنى أطلب الْكَفّ) نهى
(1/374)
نَفسِي: أَي مَعْنَاهُ التضمني، وَهُوَ
الطّلب. لَا المطابقي، لِأَنَّهُ إِخْبَار، وَالنَّهْي
مَضْمُون إنشائي (لوحدة معنى اللَّفْظَيْنِ) أَي كف نَفسك،
وأطلب الْكَفّ، وَمعنى كل وَاحِد من الْمَذْكُورين لدلالتها
على قيام طلب الْكَفّ بالقائل (وَهُوَ) أَي ذَلِك الْمَعْنى
هُوَ (النَّهْي النَّفْسِيّ واللفظي، وَهُوَ غَرَض الأصولي)
لِأَنَّهُ يبْحَث عَن الدّلَالَة اللفظية السمعية (مَبْنِيّ
تَعْرِيفه) أَي اللَّفْظِيّ (أَن لذَلِك الطّلب) الْمَذْكُور
(صِيغَة تخصه) أَي لَا تسْتَعْمل فِي غير حَقِيقَة، إِذْ لَو
لم يكن هَذَا الِاخْتِصَاص لم يقصدوا تَعْرِيفه (وَفِي ذَلِك)
أَي فِي أَن لَهُ صِيغَة تخصه من الْخلاف (مَا فِي الْأَمر)
وَالصَّحِيح فِي كليهمَا نعم (وَحَاصِله) تَعْرِيف النَّهْي
اللَّفْظِيّ ذكر (مَا يعينها) أَي يُمَيّز تِلْكَ الصِّيغَة من
غَيرهَا من الصِّيَغ (فسميت) الْمَذْكُورَات لذَلِك (حدودا،
وَالأَصَح) مِنْهَا صِيغَة (لَا تفعل) كَذَا ونظائرها (أَو
اسْمه) أَي اسْم لَا تفعل من أَسمَاء الْأَفْعَال (كمه)
فَإِنَّهُ بِمَعْنى لَا تفعل (حتما) حَال من لَا تفعل بِمَعْنى
وجوبا، وَحَقِيقَة كَونه لطلب الْكَفّ من غير تَجْوِيز
الْفِعْل، وَكَذَا (استعلاء) وَقد مر تَفْسِيره، وَالْخلاف فِي
اشْتِرَاطه كالأمر وَأَنه الْمُخْتَار (وَهِي) أَي هَذِه
الصِّيغَة خَاص (للتَّحْرِيم) لَا للكراهة (أَو الْكَرَاهَة)
دون التَّحْرِيم، أَو مُشْتَرك لَفْظِي بَين التَّحْرِيم
وَالْكَرَاهَة، أَو معنوي، أَو وضع للقدر الْمُشْتَرك
بَينهمَا، وَهُوَ طلب الْكَفّ استعلاء، أَو مُتَوَقف فيهمَا
بِمَعْنى لَا نَدْرِي لأيهما وضعت (كالأمر) أَي كصيغة الْأَمر
اكْتفى بِهِ عَن التَّفْصِيل الْمَذْكُور لما مر فِي الْأَمر.
قَالَ الشَّارِح: ثمَّ يزِيد إِلَّا من يُنَافِي الْمذَاهب
الْمَذْكُورَة ثمَّة (وَالْمُخْتَار) أَنَّهَا حَقِيقَة
(للتَّحْرِيم لفهم الْمَنْع الحتم) أَي بِغَيْر تَجْوِيز
الْفِعْل (من) الصِّيغَة (الْمُجَرَّدَة) عَن الْقَرَائِن،
وَهُوَ أَمارَة الْحَقِيقَة (ومجاز فِي غَيره) أَي التَّحْرِيم
لعدم التبادر وَالْحَاجة إِلَى الْقَرِينَة، ثمَّ هَذَا الْحَد
النَّفْسِيّ غير منعكس لصدقه على الْكَرَاهَة النفسية، فَلِذَا
قَالَ (فمحافظة عكس) حد النَّهْي (النَّفْسِيّ بِزِيَادَة) قيد
(حتم) بعد قَوْله طلب كف. وَالْمرَاد بِالْعَكْسِ هَهُنَا
المانعية (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يزدْ (دخلت الْكَرَاهَة
النفسية فالنهي) النَّفْسِيّ (نفس التَّحْرِيم وَإِذا قيل
مُقْتَضَاهُ) أَي إِذا قيل التَّحْرِيم مُقْتَضى النَّهْي
(يُرَاد) بِالنَّهْي النَّهْي (اللَّفْظِيّ، وَتَقْيِيد
الْحَنَفِيَّة التَّحْرِيم بقطعي الثُّبُوت و) تقييدهم
(كَرَاهَته) أَي كَرَاهَة التَّحْرِيم (بظنيه) أَي بظني
الثُّبُوت (لَيْسَ خلافًا) فِي أَن النَّهْي النَّفْسِيّ نفس
التَّحْرِيم (وَلَا تعدد) فِي حَقِيقَة النَّهْي (فِي نفس
الْأَمر) فَإِن الثَّابِت فِي نفس الْأَمر إِنَّمَا هُوَ طلب
التّرْك حتما لَا غَيره، وَهَذَا الطّلب قد يُسْتَفَاد بطرِيق
قَطْعِيّ فَهُوَ قَطْعِيّ وَقد يُسْتَفَاد بطرِيق ظَنِّي فظني
(وَكَون تقدم الْوُجُوب) للمنهي عَنهُ قبل النَّهْي عَنهُ
(قرينَة الْإِبَاحَة) أَي كَون النَّهْي للْإِبَاحَة (حكى
الْأُسْتَاذ) أَبُو إِسْحَاق الاسفراني
(1/375)
(نَفْيه) أَي نفي كَونه قرينَة لَهَا
(إِجْمَاعًا، وَتوقف الإِمَام) أَي إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي
ذَلِك (لَا يتَّجه إِلَّا بالطعن فِي نَقله) أَي فِي نقل
الْأُسْتَاذ الْإِجْمَاع (وَنقل الْخلاف) أَي وَنقل الْموقف
الَّذِي لم يقبل حِكَايَة الْإِجْمَاع الْخلاف فِي كَونه
قرينَة. قَالَ الشَّارِح: وَظَاهر كَلَام الإِمَام أَنه لم
يُقَلّد إِلَّا تخمينا فَلَا يقْدَح (إِذْ بِتَقْدِير صِحَّته)
أَي الْإِجْمَاع على ذَلِك (يلْزم استقراؤهم) أَي أهل
الْإِجْمَاع (ذَلِك) أَي تتبعهم مواقع تحقق النَّهْي بعد
الْوُجُوب استقراء مُفِيدا لنفي كَون تقدم الْوُجُوب قرينَة
لكَون النَّهْي للْإِبَاحَة بوجدانهم كَون للْإِبَاحَة تَارَة
وللتحريم، أَو الْكَرَاهَة أُخْرَى (وموجبها) أَي مُوجب صِيغَة
النَّهْي (الْفَوْر والتكرار: أَي الِاسْتِمْرَار خلافًا
لشذوذ) ذَهَبُوا إِلَى أَن مُوجبهَا مُطلق الْكَفّ من غير
دلَالَة على الدَّوَام والمرة. قَالَ الشَّارِح: وَنَصّ فِي
الْمَحْصُول على أَنه الْمُخْتَار وَفِي الْحَاصِل أَنه الْحق،
لِأَنَّهَا قد تسْتَعْمل لكل مِنْهُمَا، وَالْمجَاز والاشتراك
اللَّفْظِيّ خلاف الأَصْل، فَيكون الْمُقدر الْمُشْتَرك،
وأجيبوا بِأَن الْعلمَاء لم يزَالُوا يستدلون بِالنَّهْي على
وجوب التّرْك مَعَ اخْتِلَاف الْأَوْقَات من غير تَخْصِيص
بِوَقْت دون وَقت، وَلَوْلَا أَنه للدوام لما صَحَّ ذَلِك.
مسئلة
قَالَ (الْأَكْثَر إِذا تعلق) النَّهْي (بِالْفِعْلِ) بِأَن
طلب الْكَفّ عَنهُ (كَانَ) النَّهْي (لعَينه) أَي لذات
الْفِعْل أَو جزئه بِأَن يكون منشأ النَّهْي قبيحا ذاتيا
(مُطلقًا) أَي حسيا كَانَ ذَلِك الْفِعْل كَالزِّنَا وَالشرب،
أَو شَرْعِيًّا كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْم (وَيَقْتَضِي)
النَّهْي (الْفساد شرعا وَهُوَ) أَي الْفساد شرعا) (الْبطلَان)
وَهُوَ (عدم سببيته لحكمه) بِأَن لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ
ثَمَرَته الْمَقْصُودَة مِنْهُ (وَقيل) يَقْتَضِي الْفساد
(لُغَة) أَي اقْتِضَاء بِحَسب اللُّغَة، بِمَعْنى أَن من يعرف
اللُّغَة إِذا سمع النَّهْي اللَّفْظِيّ يفهم أَن مُتَعَلّقه
بَاطِل لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ حكمه (وَقيل) يَقْتَضِي
الْفساد (فِي الْعِبَادَات فَقَط) فَحِينَئِذٍ لَا يكون
الِاقْتِضَاء لُغَة بل شرعا، وَعَلِيهِ أَبُو الْحسن
الْبَصْرِيّ وَالْغَزالِيّ والرازي (وَالْحَنَفِيَّة كَذَلِك)
أَي ذَهَبُوا إِلَى أَن النَّهْي الْمُتَعَلّق بِأَفْعَال
الْمُكَلّفين دون اعتقاداتهم على مَا فِي التَّلْوِيح يكون
لعين الْفِعْل (فِي الْحسي) وَهُوَ (مَا لَا يتَوَقَّف
مَعْرفَته على الشَّرْع كَالزِّنَا وَالشرب) أَي شرب الْخمر
فَإِنَّهُ لَا تتَوَقَّف معرفَة حقيقتهما على الشَّرْع: إِذْ
يعرفهما من يعلم الشَّرْع وَمن لَا يعلم، فِي التَّلْوِيح فسر
الشَّرْعِيّ بِمَا يتَوَقَّف تحَققه على الشَّرْع، والحسي
بِخِلَافِهِ وَاعْترض بِأَن مثل الصَّلَاة وَالْبيع يتَحَقَّق
من غير توقف على الشَّرْع وَأجِيب بِأَن المستغني عَن الشَّرْع
نفس الْفِعْل، وَأما مَعَ وصف كَونه عبَادَة أَو عقدا
يتَوَقَّف على شَرَائِط
(1/376)
وَيَتَرَتَّب عَلَيْهِ أَحْكَام فَلَا
يتَحَقَّق بِدُونِ الشَّرْع، ورد بِأَن المتوقف حِينَئِذٍ وصف
كَونه عبَادَة فَفِي الْحسي أَيْضا وصف كَون الزِّنَا مثلا
مَعْصِيّة لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِالشَّرْعِ، ففسره المُصَنّف
بِمَا يكون لَهُ مَعَ تحَققه الْحسي تحقق شَرْعِي بأركان
وشرائط اعتبرها الشَّرْع بِحَيْثُ لَو انْتَفَى بَعْضهَا لم
يحل الشَّارِع ذَلِك الْفِعْل وَلم يحكم بتحققه كَالصَّلَاةِ
بِلَا طَهَارَة، وَالْبيع الْوَارِد على مَا لَيْسَ بِمحل
انْتهى، وَيُمكن أَن يحمل عَلَيْهِ مَا ذكره المُصَنّف بِأَن
يُرَاد بمعرفته معرفَة تحَققه على وَجه يَتَرَتَّب عَلَيْهِ
الحكم فمعرفة تحقق الصَّلَاة على وَجه يَتَرَتَّب عَلَيْهَا
أَنَّهَا مجزئة يتَوَقَّف على معرفَة شرائطها الشَّرْعِيَّة،
بِخِلَاف الزِّنَا فَإِن الْعلم بتحققه الْحسي الْمُتَرَتب
عَلَيْهِ الحكم لَا يتَوَقَّف على الشَّرْع (إِلَّا بِدَلِيل
أَنه) أَي الْمنْهِي عَنهُ (لوصف ملازم أَو) منفك عَنهُ
(مجاور) لَهُ فَيكون النَّهْي حِينَئِذٍ لغيره، وَهُوَ ذَلِك
المجاور (كنهي قرْبَان الْحَائِض) فَإِن النَّهْي عَن وَطئهَا
إِنَّمَا هُوَ لِمَعْنى الْأَذَى، وَهُوَ مجاور للْوَطْء غير
مُتَّصِل بِهِ، وَلَيْسَ بِلَازِم لَهُ: إِذْ قد يَنْفَكّ
عَنهُ مَا فِي حَالَة الطُّهْر (أما) الْفِعْل (الشَّرْعِيّ)
وَهُوَ مَا تتَوَقَّف مَعْرفَته على الشَّرْع (فلغيره) أَي
فالنهي عَنهُ لغيره من جِهَة كَونه (وَصفا لَازِما للتَّحْرِيم
أَو كَرَاهَته) أَي كَرَاهَة التَّحْرِيم (بِحَسب الطَّرِيق)
الموصلة لَهُ إِلَيْنَا من قطع أَو ظن (للُزُوم الْمنْهِي)
تَعْلِيل للُزُوم ذَلِك الْوَصْف التَّحْرِيم الَّذِي هُوَ
مثار النَّهْي للمنهي (كَصَوْم) يَوْم (الْعِيد) فَإِن
الصَّوْم الشَّرْعِيّ لَا يعرف إِلَّا من قبل الشَّرْع وَقد
نهى لِمَعْنى اتَّصل بِالْوَقْتِ الَّذِي هُوَ مَحل الْأَدَاء
وَصفا لَازِما لَهُ وَهُوَ كَونه يَوْم ضِيَافَة الله تَعَالَى
لِعِبَادِهِ، وَفِي الصَّوْم إِعْرَاض عَنْهَا فَكَانَ
حَرَامًا للْإِجْمَاع عَلَيْهِ لَا أَنه مَكْرُوه تَحْرِيمًا
لثُبُوته بِخَبَر الْآحَاد (أَو) فلغيره من جِهَة كَونه وَصفا
(مجاورا) لَهُ (مُمكن الانفكاك) عَنهُ (فالكراهة) أَي فالنهي
عَن الْفِعْل لمجاور كَذَا نفس الْكَرَاهَة كَمَا قَالَ نفس
التَّحْرِيم (وَلَو) كَانَ طَرِيق ثُبُوت النهى (قطيعا
كَالْبيع وَقت النيداء) أى أَذَان الْجُمُعَة بعد زَوَال
الشَّمْس، فان النهى عَنهُ لوصف مجاور مُمكن الانفكاك مشار
إِلَيْهِ بقوله (لترك السَّعْي) أَي للإخلال بالسعي الْوَاجِب،
أما الانفكاك فَلِأَن البيع يُوجد بِدُونِ الْإِخْلَال بالسعي
بِأَن يتبايعا فِي الطَّرِيق ذَاهِبين إِلَيْهَا، والإخلال
بالسعي يُوجد بِدُونِ البيع بِأَن يمكثا فِي الطَّرِيق من غير
بيع، وَلما لم يكن البيع الْمنْهِي عَنهُ للمجاور الْمُمكن
الانفكاك منافيا لحكم الْخطاب الأول: أَعنِي وجوب السَّعْي
وَكَانَ مخلا بِهِ فِي الْجُمْلَة فتنزل عَن مرتبَة الْحُرْمَة
والبطلان إِلَى الْكَرَاهَة فهم ضمنا إِذا كَانَ الْمنْهِي
عَنهُ منافيا لحكم الْخطاب الأول كَانَ بَاطِلا وَصرح بِمَا
علم ضمنا فَقَالَ (فَإِن نافى) الْمنْهِي عَنهُ الشَّرْعِيّ
بِاعْتِبَار حكمه حكم (الأول فَبَاطِل) أَي فَذَلِك الْمنْهِي
عَنهُ بَاطِل إِن فعل لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ ثَمَرَة
(كَنِكَاح الْمَحَارِم) فَإِنَّهُ (لَيْسَ حكمه) أَي حكم هَذَا
النِّكَاح (إِلَّا الْحل المنافى
(1/377)
لمقتضاه أَي لمقْتَضى الْخطاب الأول،
وَهُوَ التَّحْرِيم المؤبد فنكاحهن بَاطِل وَلما كَانَ هَهُنَا
مَظَنَّة سُؤال، وَهُوَ أَنه إِذا كَانَ بَاطِلا كَيفَ يسْقط
بِهِ الْحَد وَيثبت بِهِ النّسَب أجَاب بقوله (وَعدم الْحَد
وَثُبُوت النّسَب حكم الشُّبْهَة) أَي صُورَة العقد
عَلَيْهِنَّ، وَعدم الْحَد قَول أبي حنيفَة وسُفْيَان
الثَّوْريّ وَزفر، وَثُبُوت النّسَب، وَوُجُوب الْعدة قَول
الْمَشَايِخ تَفْرِيعا على هَذَا القَوْل، وَمِنْهُم من منع
ثُبُوته لَا وُجُوبهَا، لِأَن أقل مَا يبتنى عَلَيْهِ
كِلَاهُمَا وجود الْحل من وَجه، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي
الْمَحَارِم فَلَا إِشْكَال حِينَئِذٍ وَأما على قَول أبي
يُوسُف وَمُحَمّد وَالْأَئِمَّة الثَّلَاثَة فَلَا إِشْكَال
أَيْضا إِذا علم بِالتَّحْرِيمِ لإيجابهم الْحَد عَلَيْهِ،
وَعدم وجوب الْغرَّة، وَعدم ثُبُوت النّسَب (وَيجب مثله) أَي
مثل هَذَا الْبطلَان (فِي الْعِبَادَات) سَوَاء كَانَ
الْمنْهِي عَنهُ لوصف ملازم أَولا لعدم سببيتها لحكمها الَّذِي
شرعت لَهُ، وَهَذَا بحث المُصَنّف، وَاخْتَارَهُ ورتب عَلَيْهِ
خلافًا لَهُم فِي بعض الْفُرُوع (كَصَوْم الْعِيد) فَإِن
النَّهْي عَنهُ لِمَعْنى ملازم، وَهُوَ الْإِعْرَاض عَن
ضِيَافَة الله تَعَالَى، فَكَانَ بَاطِلا لما ذكر،
وَالْإِجْمَاع العقد على حرمته، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله
(لعدم الْحل وَالثَّوَاب) وَمَا انْتَفَى فِيهِ صفة الْحل
إِجْمَاعًا وَلم يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الثَّوَاب، وَالَّذِي لم
يشرع إِلَّا لَهُ فَهُوَ حقيق بِأَن يحكم بِبُطْلَانِهِ، ثمَّ
فِيهِ على عدم حل الشُّرُوع فِيهِ عدم لُزُوم الْقَضَاء
بالإفساد، فَقَالَ (فَوَجَبَ عدم الْقَضَاء بالإفساد، لِأَن
وُجُوبه) أَي الْقَضَاء بالإفساد (يتبعهُ) أَي يتبع حل
الشُّرُوع فِيهِ فَإِن قيل فعلى هَذَا يَنْبَغِي أَن لَا يَصح
نَذره: إِذْ لَا يَصح نذر فِي مَعْصِيّة الله تَعَالَى كَمَا
فِي صَحِيح مُسلم فَالْجَوَاب مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله
(وَصِحَّة نَذره لِأَنَّهُ) أَي نَذره (غير مُتَعَلّقه)
بِفَتْح اللَّام، وَهُوَ مُبَاشرَة الصَّوْم فِي يَوْم
الْعِيد: كَذَا فِي التَّلْوِيح وَالْحَاصِل أَن للصَّوْم
جِهَة طَاعَة وجهة مَعْصِيّة، وانعقاد النّذر بِاعْتِبَار
الْجِهَة الأولى حَتَّى قَالُوا: لَو صرح بِذكر الْمنْهِي
عَنهُ، بِأَن يَقُول: لله عَليّ صَوْم يَوْم النَّحْر لم يَصح
نَذره فِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة كَمَا لَو قَالَت:
لله عَليّ أَن أَصوم أَيَّام حيضي، بِخِلَاف مَا لَو قَالَت
غَدا، وَكَانَ الْغَد يَوْم نحر أَو حيض وَأما ضرب أَبِيه أَو
شَتمه فَلَا جِهَة فِيهِ لغير الْمعْصِيَة، فَلَا يَصح النّذر
بِهِ أصلا وَتَحْقِيق ذَلِك أَن النّذر إِيجَاب بالْقَوْل
وبالفعل أمكن التَّمْيِيز بَين الْمنْهِي عَنهُ والمشروع،
والشروع إِيجَاب بِالْفِعْلِ، وَفِي الْفِعْل لَا يُمكن
التَّمْيِيز بَين الْجِهَتَيْنِ انْتهى، وَإِنَّمَا ارتكبوا
ذَلِك (ليظْهر) أَثَره (فِي الْقَضَاء تحصيلا للْمصْلحَة)
وَهُوَ أَن ينْعَقد النّذر واضطر إِلَى الْقَضَاء لتعذر
الْأَدَاء (فَيجب) على هَذَا (أَن لَا يبرأ) النَّاذِر (بصومه)
لكِنهمْ يَقُولُونَ بِخُرُوجِهِ عَن نَذره بصيامه مَعَ
الْعِصْيَان، لِأَنَّهُ نذر مَا هُوَ نَاقص وَأَدَّاهُ كَمَا
الْتَزمهُ، وَلما كَانَ الْقَضَاء مَبْنِيا على أَن مُوجب
النّذر وجوب أَدَائِهِ قَالَ. (فَإِن لزم فِيهَا) أَي صِحَة
هَذَا النّذر (وجوب الْأَدَاء) للمنذور (أَولا) بِأَن يكون
الْخطاب
(1/378)
الْمُتَعَلّق بِمُوجب النّذر ابْتِدَاء طلب
فعل عين الْمَنْذُور، فَإِذا لم يؤده حِينَئِذٍ يجب خَلفه من
الْقَضَاء كَمَا هُوَ الْمُتَعَارف فِي الْقَضَاء، وَلَا يكون
المنظور أَولا ظُهُور الْأَثر فِي الْقَضَاء بِحَيْثُ لَا يبرأ
بصومه (وَجب نَفيهَا) أَي صِحَة النّذر، لِأَنَّهُ نذر
بِمَعْصِيَة وَهُوَ مَنْهِيّ عَنهُ، وَمَا ذكر من وجوب بطلَان
مثل صَوْم يَوْم الْعِيد، وَوُجُوب عدم الْقَضَاء بالإفساد لما
عَرفته، وَعدم صِحَة النّذر بِمُجَرَّد ظُهُور الْأَثر فِي
الْقَضَاء وَعدم وجوب الْأَدَاء أَولا، وَعدم الْبَرَاءَة
بصومه إِنَّمَا هُوَ مُقْتَضى رَأْي المُصَنّف رَحمَه الله
بِمُوجب الدَّلِيل (خلافًا لَهُم) أَي للحنفية فِي ذَلِك كُله،
فَإِنَّهُم يَقُولُونَ بأضداد ذَلِك على مَا هُوَ الْمَذْكُور
فِي المطولات من كتبهمْ. وَفِي الشَّرْح تَفْصِيل لَهَا (وَمَا
خَالف) مَا ذكرنَا من وجوب بطلَان الْعِبَادَات الَّتِي تعلق
بهَا نهي التَّحْرِيم (فلدليل) يَقْتَضِي مُخَالفَة ذَلِك
(كَالصَّلَاةِ) النَّافِلَة (فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة
على ظنهم) أَي الْحَنَفِيَّة فَإِنَّهُم حكمُوا بِصِحَّتِهَا
مَعَ النَّهْي الْمحرم أَو الْمُوجب لكَرَاهَة التَّحْرِيم،
فَفِي صَحِيح مُسلم وَالسّنَن الْأَرْبَع " ثَلَاث سَاعَات
كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينهانا أَن نصلي
فِيهِنَّ وَأَن نقبر فِيهِنَّ مَوتَانا: حِين تطلع الشَّمْس
بازغة حَتَّى ترْتَفع، وَحين يقوم قَائِم الظهيرة حَتَّى
تَزُول، وَحين تضيف الشَّمْس للغروب حَتَّى تغرب " وَفِي
قَوْله إِلَى ظنهم إِشَارَة إِلَى أَنه خلاف مَا يرضيه، ثمَّ
أَشَارَ إِلَى رفع منشأ ظنهم بقوله (وَكَون مسماها) أَي
الصَّلَاة (لَا يتَحَقَّق إِلَّا بالأركان) وَالنَّهْي عَن
مُسَمّى الصَّلَاة فرع تحَققه، وَإِلَّا فَإِن كَانَ مِمَّا
لَا يتَحَقَّق على تَقْدِير الْإِتْيَان بصورته يلْزم عدم
الْفَائِدَة للنَّهْي، فَثَبت أَنه إِذا أَتَى بِصُورَة
الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة يتَحَقَّق هُنَاكَ
حَقِيقَة الصَّلَاة بأركانها والشروع فِي النَّفْل يلْزم،
فَعِنْدَ الْإِفْسَاد يجب الْقَضَاء، فَأَشَارَ إِلَى دفع
هَذَا بقوله (لَا يقتضى) أَي الْكَوْن الْمَذْكُور (وجوب
الْقَضَاء) عِنْد الْإِفْسَاد (لِأَنَّهُ) أَي وجوب الْقَضَاء
عِنْده (بِوُجُوب الْإِتْمَام قبل الْإِفْسَاد، وَالثَّابِت)
بِالنَّهْي الْمَذْكُور (نقيضه) أَي نقيض وجوب الْإِتْمَام
وَهُوَ حرمته، بل حُرْمَة الشُّرُوع فِيهِ وَلَا بُد فِي
إتْمَام هَذَا الْبَحْث من الْتِزَام أحد الْأَمريْنِ: منع
اقْتِضَاء النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات
الْمَذْكُورَة تحقق أَرْكَانهَا عِنْد الْإِتْيَان بصورتها على
وَجه تتَحَقَّق حَقِيقَتهَا. أَو منع كَون الشُّرُوع فِي
النَّفْل ملزما على الْإِطْلَاق: بل إِذا لم يكن مَنْهِيّا
عَنهُ (وَيلْزم) كَون مسماها لَا يتَحَقَّق إِلَّا بالأركان
(أَن تفْسد) الصَّلَاة (بعد رَكْعَة) لِأَنَّهُ قبل الرَّكْعَة
لَا تتَحَقَّق أَرْكَان الصَّلَاة من الْقيام وَالرُّكُوع
وَالسُّجُود، وَبعد مَا تتَحَقَّق الرَّكْعَة فَيتَحَقَّق مَا
يُطلق عَلَيْهِ لفظ الصَّلَاة بتحقق ارْتِكَاب الْمنْهِي
الْمُوجب للإفساد (وَهُوَ) أَي الْفساد بعد رَكْعَة (مُنْتَفٍ
عِنْدهم) وَحِينَئِذٍ (فَالْوَجْه أَن لَا يَصح الشُّرُوع
لانْتِفَاء فَائِدَته) أَي الشُّرُوع (من الْأَدَاء
وَالْقَضَاء) لما قُلْنَا (وَلَا مخلص) مِمَّا أوردنا
عَلَيْهِم من بطلَان الصَّلَاة وَعدم وجوب الْقَضَاء
(1/379)
(إِلَّا بجعلها) أَي كَرَاهَة الصَّلَاة
النَّافِلَة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة (تنزيهية، وَهُوَ)
أَي جعلهَا تنزيهية (مُنْتَفٍ إِلَّا عِنْد شذوذ) من النَّاس
لَا يعْتد بهم فَلَا يخلص وَالله أعلم أما البيع فَحكمه
الْملك، وَيثبت) الْملك (مَعَ الْحُرْمَة فَيثبت) البيع مَعَ
النَّهْي (مستعقبا لَهُ) أَي للْملك حَال كَونه (مَطْلُوب
التفاسخ رفعا للمعصية إِلَّا بِدَلِيل الْبطلَان) اسْتثِْنَاء
من ثُبُوت البيع مَعَ النَّهْي، وَذَلِكَ لعدم قابلية الْمحل
(وَهُوَ) أَي كَون ثُبُوت الْملك مَطْلُوب التفاسخ (فَسَاد
الْمُعَامَلَة عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة فِيهِ مُسَامَحَة،
فَإِن فَسَادهَا سَبَب لطلب التفاسخ لَا عينه، وَإِنَّمَا قيد
بالمعاملة، فَإِن الْعِبَادَة فَسَادهَا وبطلانها سَوَاء،
وَإِنَّمَا الْفرق بَين الْفساد والبطلان فِي الْمُعَامَلَات
(بِخِلَاف بيع المضامين) جمع مَضْمُون، من ضمن الشَّيْء
بِمَعْنى تضمنه، وَهُوَ مَا تضمنه صلب الْفَحْل من الْوَلَد،
فَيَقُول: بِعْت الْوَلَد الَّذِي يحصل من هَذَا الْفَحْل
فَإِنَّهُ (بَاطِل) لقِيَام الدَّلِيل على ثُبُوت الْبطلَان
فِيهِ مَعَ النَّهْي عَنهُ، وَقد صَحَّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم نهى عَن بيع المضامين، ثمَّ بَين سَبَب الْبطلَان بقوله
(لعدم الْمحل) أَي محليته الشَّرْعِيَّة للْبيع، لِأَن المَاء
قبل أَن يخلق مِنْهُ الْحَيَوَان لَيْسَ بِمَال، وَالْمحل شَرط
لصِحَّة البيع فَكَانَ بَاطِلا بِالضَّرُورَةِ (أما الأول) أَي
ثُبُوت حكم البيع، وَهُوَ الْملك مَعَ الْحُرْمَة (فلعدم
النَّافِي) لَهُ كَمَا هُوَ الأَصْل (وَوُجُود الْمُقْتَضى)
لَهُ (وَهُوَ الْوَضع الشَّرْعِيّ) لِأَن الشَّرْع وضع
الْإِيجَاب وَالْقَبُول لإِثْبَات الْملك غير أَنه نهى عَنهُ
إِذا كَانَ بِصفة كَذَا، وَهَذَا الْقدر لَا يُوجب تخلف
مُقْتَضى ذَلِك الْوَضع (للْقطع بِأَن الْقَائِل لَا
تَفْعَلهُ) أَي لَا تفعل مَا جعلته سَببا لكذا (على هَذَا
الْوَجْه، فَإِن فعلت) ذَلِك على هَذَا الْوَجْه (ثَبت حكمه
وعاقبتك) لعدم امْتِثَال النَّهْي (لم يُنَاقض) نَفسه فِي
الحكم بِأَن التَّصَرُّف الْوَاقِع على هَذَا الْوَجْه
مَنْهِيّ عَنهُ ومنتهض سَببا لكذا، وَقد يُقَال أَن مَا
ذكرْتُمْ إِنَّمَا يتم إِذا جعله الشَّارِع سَببا للْحكم
مُطلقًا سَوَاء وَقع على الْوَجْه الْمنْهِي الَّذِي يرتضيه:
اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يتَحَقَّق فِي خصوصيات المُرَاد مَا يدل
على جعله سَببا على الْإِطْلَاق فَتَأمل (وَقَوْلهمْ) أَي
الشَّافِعِيَّة النَّهْي عَن البيع (ظَاهر فِي عدم ثُبُوته)
أَي الْملك فِي البيع الْوَاقِع على الْوَجْه الْمنْهِي عَنهُ
(شرعا) أَي ثبوتا شَرْعِيًّا، أَو فِي الشَّرْع (مَمْنُوع)
فَإِن أثر النَّهْي لَيْسَ إِلَّا فِي التَّحْرِيم، وَقد ذكر
أَنه لَا يضاد ثُبُوت حكمه وَلَا يخفى أَن الْمَنْع إِنَّمَا
يَصح إِذا كَانَ مقصودهم بِهَذَا إِثْبَات لطلب: أَعنِي بطلَان
البيع، وَأما إِذا قصدُوا بِهِ تَقْوِيَة مَعَ وجود
الْمُقْتَضى وَهُوَ الْوَضع الشَّرْعِيّ، وَعدم تَسْلِيم جعله
سَببا على الْإِطْلَاق بِقَرِينَة النَّهْي: فَلَا يتَّجه
الْمَنْع (فَيثبت الْملك شرعا فِي بيع الرِّبَا) أَي فِي بيع
مُشْتَمل على اشْتِرَاط زِيَادَة بِلَا عوض حَقِيقَة أَو
شُبْهَة (وَالشّرط) أَي وَفِي البيع الْمَشْرُوط بِشَرْط
مُخَالف لما يَقْتَضِيهِ العقد حَال كَونه (مَطْلُوب
(1/380)
الْفَسْخ) رفعا للمعصية (وَيلْزمهُ) أَي
بيع الرِّبَا وَالشّرط (الصِّحَّة) وَهُوَ أَن يرجع إِلَى
الصِّحَّة وَلَا يبْقى مَطْلُوب الْفَسْخ (بِإِسْقَاط
الزِّيَادَة فِي) بيع الرِّبَا وَإِسْقَاط (الشَّرْط)
الْمُفْسد فِي البيع الْمَشْرُوط بِهِ (لِأَنَّهُ) أَي كل
وَاحِد مِنْهُمَا (الْمُفْسد) للْبيع (وَأما الثَّانِي) أَي
لُزُوم التفاسخ (فلرفع الْمعْصِيَة وَيُصَرح بِثُبُوت
الاعتبارين) استعقاب الحكم وَطلب الْفَسْخ (طَلَاق الْحَائِض)
الْمَدْخُول بهَا وَقت الْحيض (ثَبت حكمه) وَهُوَ وُقُوع
الطَّلَاق (وَأمر) الزَّوْج الْمُطلق فِي الْحيض (بالرجعة
رفعا) للمعصية (بِالْقدرِ الْمُمكن) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن
ابْن عمر " أَنه طلق امْرَأَته وَهِي حَائِض فَذكر ذَلِك عمر
للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتغيظ مِنْهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قَالَ ليراجعها ثمَّ يمْسِكهَا حَتَّى
تطهر، ثمَّ تحيض فتطهره فَإِن بدا لَهُ أَي يطلقهَا
فَلْيُطَلِّقهَا قبل أَن يَمَسهَا فَتلك الْعدة كَمَا أَمر
الله تَعَالَى " وَإِنَّمَا قَالَ بِالْقدرِ الْمُمكن لِأَن
رفع الطَّلَاق الْوَاقِع حَال الْحيض بِالْكُلِّيَّةِ غير
مُمكن لِأَنَّهُ نقص بِهِ عدد الطَّلَاق إِجْمَاعًا، لكنه لما
كَانَ منشأ النَّهْي إطالة الْعدة بِالرُّجُوعِ يرْتَفع ذَلِك
جعلت الرّجْعَة رفعا لَهُ بِاعْتِبَار ارْتِفَاع محذوره
(بِخِلَاف مَا لَا يُمكن) رَفعه (كحل مَذْبُوح ملك الْغَيْر)
صفة مَذْبُوح لعدم إِفَادَة إِضَافَة ملك إِلَى الْغَيْر
التَّعْرِيف، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا قدرَة للْعَبد على رفع
الْمعْصِيَة اللَّازِمَة من ذبحه مَمْلُوك الْغَيْر بِغَيْر
إِذْنه بإعادته ملك الْغَيْر وَبِه الرّوح " وَعنهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنه زار قوما من الْأَنْصَار فِي دَرَاهِم
فذبحوا لَهُ شَاة فصنعوا لَهُ مِنْهَا طَعَاما فَأخذ من
اللَّحْم شَيْئا فلاكه فمضغه سَاعَة لَا يسيغه: فَقَالَ مَا
شَأْن هَذَا اللَّحْم؟ قَالُوا شَاة لفُلَان ذبحناها حَتَّى
يَجِيء فنرضيه من ثمنهَا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أطعموها الأسرى " فَقَوله أطعموها دلّ على
أَنهم ملكوها بالإهلاك ولزمهم الضَّمَان غير أَنه ملك خَبِيث
لمَكَان الْمعْصِيَة فِي طَرِيق ثُبُوته، وَمثل ذَلِك لَا
يَلِيق بِغَيْر الأسرى (قَالُوا) أَي الذاهبون إِلَى أَنه يدل
على الْبطلَان مُطلقًا (لم تزل الْعلمَاء) فِي الْأَعْصَار
(يستدلون بِهِ) أَي بِالنَّهْي (على الْفساد: أَي الْبطلَان)
من غير إِنْكَار عَلَيْهِم، فَهُوَ إِجْمَاع مِنْهُم على أَنه
يدل على الْبطلَان (قُلْنَا) مَا ذكرْتُمْ من الِاسْتِدْلَال
إِنَّمَا هُوَ (فِي الْعِبَادَات) على الْإِطْلَاق لِأَن
الْمَقْصُود مِنْهَا الثَّوَاب وَلَا ثَوَاب مَعَ النَّهْي (و)
يسْتَدلّ على الْبطلَان بِالنَّهْي (مَعَ) وجود (الْمُقْتَضى)
للبطلان (فِي غَيرهَا) أَي الْعِبَادَات من الْمُعَامَلَات:
يَعْنِي لَا يثبت فِي الْمُعَامَلَات الْبطلَان بِمُجَرَّد
النَّهْي لعدم انحصار فائدتها فِي الثَّوَاب، فَلَا يلْزم عدم
الثَّوَاب الْبطلَان لوُجُود فَائِدَة أُخْرَى غير الثَّوَاب
غير مُنَافِيَة للنَّهْي (وَإِلَّا) أَي لم يُوجد الْمُقْتَضِي
فِي غير الْمُعَامَلَات (فعلى مُجَرّد التَّحْرِيم) أَي
فالإجماع على أَنه يدل على مُجَرّد التَّحْرِيم، أَو
فَإِنَّمَا يستدلون بِهِ على مُجَرّد تَحْرِيم الْمنْهِي عَنهُ
(وَلَو صرح بَعضهم بِالْبُطْلَانِ) أَي بِأَنَّهُ يدل على
الْبطلَان (فكقولكم) أَي الشَّافِعِيَّة يرد عَلَيْهِ مَا يرد
عَلَيْكُم فَلَا يصلح لِأَن
(1/381)
يحتجوا بِهِ علينا (وَبِه) أَي بِهَذَا
الدَّلِيل (اسْتدلَّ للغة) أَي لِأَنَّهُ يدل على الْبطلَان
لُغَة (وَمنع بِأَن فهمه) أَي الْبطلَان مِنْهُ إِنَّمَا يكون
(شرعا) لِأَن بُطْلَانه عبارَة عَن سلب أَحْكَامه وَلَيْسَ فِي
لفظ النَّهْي مَا يدل على هَذَا لُغَة قطعا (قَالُوا) أَي
الذاهبون إِلَى أَنه يدل على الْبطلَان لُغَة (لأمر يَقْتَضِي
الصِّحَّة فضده) وَهُوَ النَّهْي يَقْتَضِي (ضدها) أَي ضد
الصِّحَّة: وَهُوَ الْفساد والبطلان (أُجِيب بِمَنْع اقتضائه)
أَي الْأَمر الصِّحَّة (لُغَة وَلَو سلم) اقْتِضَاء الْأَمر
الصِّحَّة (فَيجوز اتِّحَاد أَحْكَام المتقابلات) لجَوَاز
اشتراكها فِي لَازم وَاحِد وَلَا يخفى بعده هَهُنَا: إِذْ كَون
الْأَمر مقتضيا للصِّحَّة إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار كَون
الْمَأْمُور بِهِ مَطْلُوبا لِلْأَمْرِ وَالظَّاهِر كَون
الْمَطْلُوب غير مسلوب الحكم، وَهَذَا الِاعْتِبَار لَا
يتَصَوَّر فِيمَا هُوَ مَطْلُوب الْكَفّ، بل الظَّاهِر كَونه
مسلوب الحكم فَتَأمل (وَلَو سلم) أَي أَحْكَام المتقابلة
متقابلة (فاللازم عدم اقْتِضَاء الصِّحَّة لَا اقْتِضَاء
عدمهَا) أَي الصِّحَّة، وَالْأول أَعم، والأعم لَا يسْتَلْزم
الْأَخَص (وَدَلِيل تفصيلهم) أَي الْحَنَفِيَّة (فِيمَا) يكون
النهى عَنهُ لقبح (لعَينه وَغَيره) أَي وَفِيمَا يكون النَّهْي
عَنهُ لقبح غَيره (أما فِي الْحسي) وَقد مر (فَالْأَصْل) أَي
فالقبح فِيهِ لعَينه، لِأَن الأَصْل فِي الْقبْح أَن يكون قبحه
لعَينه مَا لم يصرف عَنهُ صَارف، وَلَيْسَ فِيهِ، أَو لِأَن
الأَصْل أَن يثبت الْقبْح باقتضاء النَّهْي فِي الْمنْهِي
عَنهُ فِي غَيره فَلَا يتْرك الأَصْل من غير ضَرُورَة وَلَا
ضَرُورَة: وَهَذَا أظهر (وَأما فِي الشَّرْعِيّ) وَقد مر
تَفْسِيره أَيْضا فالقبح فِيهِ لغيره، وَإِلَيْهِ أَشَارَ
بقوله (فَلَو) كَانَ الْمنْهِي عَنهُ (لعَينه) أَي لقبحه
الذاتي (امْتنع الْمُسَمّى شرعا) لِامْتِنَاع وجود الْقبْح
شرعا، وَالنَّهْي دلّ على وجوده إِذْ لَا ينْهَى عَن
الْمَعْدُوم (فَحرم نفس الصَّوْم) فِي الْأَيَّام المنهية
(وَالْبيع) وَقت النداء (لكنهما ثابتان) شرعا (فَكَانَ)
الشَّرْعِيّ (مَشْرُوعا بِأَصْلِهِ، لَا وَصفه بِالضَّرُورَةِ،
وَقيل لَو كَانَ) الْقبْح فِي الْمنْهِي عَنهُ الشَّرْعِيّ
لعَينه (امْتنع النَّهْي لِامْتِنَاع الْمنْهِي عَنهُ
حِينَئِذٍ لَكِن النَّهْي وَاقع، فَكَذَا الْمنْهِي عَنهُ
(وَدفع بِأَن امْتِنَاعه) أَي الْمنْهِي عَنهُ شرعا (لَا
يمْنَع تصَوره) أَي إِمْكَان وجود الْمنْهِي عَنهُ (حسا
وَهُوَ) أَي تصَوره حسا (مصحح النَّهْي وَهُوَ) أَي هَذَا
الدّفع (بِنَاء على أَن الِاسْم الشَّرْعِيّ) مَوْضُوع
(للصورة) سَوَاء تحقق مَعَ صور الْحَقِيقِيَّة الشَّرْعِيَّة
مَا اعْتَبرهُ الشَّارِع من الْأَركان والشرائط أَولا (وهم)
أَي الْحَنَفِيَّة (يمنعونه) أَي ينفون كَونه للصورة مُطلقًا
(بل) هُوَ عِنْدهم لَهَا (بِقَيْد الِاعْتِبَار) يَعْنِي
مُسَمّى الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة لَيْسَ مُجَرّد صورها، بل
يُقيد اعْتِبَار الشَّارِع إِيَّاهَا بِأَن يكون مستجمعا
للأركان والشرائط (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ للصورة مُطلقًا
(النَّهْي عَن صَلَاة الْحَائِض و) النَّهْي عَن (صَوْم
الْعِيد وَلُزُوم كَون مثل الطَّهَارَة) من شُرُوط الصَّلَاة
(جُزْء مَفْهُوم الْمَشْرُوط) الَّذِي هُوَ الصَّلَاة لما ذكر
من أَن الِاسْم
(1/382)
الشَّرْعِيّ مَوْضُوع للصورة بِقَيْد
الِاعْتِبَار واندراج الْمَشْرُوط فِي الِاعْتِبَار والاندراج
فِي الْمُسَمّى يسْتَلْزم كَون المندرج جُزْءا مِنْهُ (و)
لُزُوم (بطلَان صَلَاة فَاسِدَة) للتنافي بَين كَونهَا صَلَاة
وَكَونهَا فَاسِدَة، لِأَن الِاعْتِبَار الْمَذْكُور مخرج لما
فسد من مُسَمّى لفظ الصَّلَاة (يُوجِبهُ) خبر الْمُبْتَدَأ:
أَي يُوجب مَا ذكر أَن الِاسْم بِإِزَاءِ الْهَيْئَة مُطلقًا
(الْجَواب) أَنه (إِنَّمَا يُوجب) النَّهْي عَن الصَّلَاة
وَالصَّوْم، وَقَوْلهمْ صَلَاة فَاسِدَة (صِحَة التَّرْكِيب)
أَي تركيب لَا تصلي الْحَائِض وَلَا تصم يَوْم الْعِيد إِلَى
غير ذَلِك (وَلَا يسْتَلْزم) صِحَة التَّرْكِيب (الْحَقِيقَة)
أَي كَون الِاسْم حَقِيقَة فِي الصُّورَة فَقَط (فالاسم مجَاز
شَرْعِي فِي الْجُزْء الَّذِي هُوَ الصُّورَة للْقطع بِصدق لم
يصم للمسك) عَن الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع (حمية) مَعَ وجود
الصُّورَة والمنفي عدم الْمجَاز وللزوم اتِّحَاد مسماها: أَي
الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة لُغَة وَشرعا فِي بَعْضهَا: أَي فِي
بعض تِلْكَ الْأَسْمَاء: وَهُوَ فِيمَا إِذا كَانَ الْمَعْنى
اللّغَوِيّ عين صُورَة الْمُسَمّى الشَّرْعِيّ وَهُوَ أَي
الِاتِّحَاد الْمَذْكُور مُنْتَفٍ لما مر (والوضع لما وجد
شَرطه لَا يسْتَلْزم اعْتِبَار الشَّرْط جُزْءا) مِنْهُ
فَانْتفى لُزُوم جزئية الشَّرْط من الْمَشْرُوط (وَلَا يخفى
أَنه آل كَلَامهم) أَي الْحَنَفِيَّة على هَذَا الْجَواب
(إِلَى أَن مصحح النَّهْي جُزْء الْمَفْهُوم) أَي اسْتِعْمَال
لفظ الصَّلَاة وَالصَّوْم فِي جُزْء مفهومهما (وَهُوَ) أَي
جُزْء الْمَفْهُوم (مُجَرّد الْهَيْئَة فَسَلمُوا قَول الْخصم)
لموافقتهم لَهُ على أَن الْمُصَحح النَّهْي الْوُجُود الْحسي
للمنهي وَإِن اخْتلفُوا فِي أَن الِاسْم حَقِيقَة شَرْعِيَّة
للصورة فَقَط أَو بِقَيْد الِاعْتِبَار (غير أَن ضعف
الدَّلِيل) الْمعِين (لَا يبطل الْمَدْلُول) لجَوَاز ثُبُوته
بِغَيْرِهِ (ويكفيهم) أَي الْحَنَفِيَّة (مَا ذَكرْنَاهُ
لَهُم) من أَنه لَو كَانَ لعَينه لامتنع الْمُسَمّى
لِامْتِنَاع مشروعيته مَعَ كَونه قبيحا لعَينه.
(تَنْبِيه: لما قَالَت الْحَنَفِيَّة بِحسن بعض الْأَفْعَال
وقبحها لنَفسهَا وَغَيرهَا كَانَ تعلق النَّهْي الشَّرْعِيّ
بِاعْتِبَار الْقبْح مَسْبُوقا بِهِ) أَي الْقبْح (ضَرُورَة
حِكْمَة الناهي) لِأَن الْحَكِيم لَا يُنْهِي عَن الشَّيْء
إِلَّا لقبحه، والقبح إِنَّمَا يعرف بِهَذَا الْوَجْه (لَا)
أَنه يكون (مَدْلُول الصِّيغَة، فانقسم مُتَعَلّقه) أَي
النَّهْي (إِلَى حسي فقبحه لنَفسِهِ إِلَّا بِدَلِيل) يدل على
أَنه لغيره (وَلَا جِهَة محسنة) لذَلِك الْحسي الْقَبِيح
لنَفسِهِ (فَلَا تقبل حرمته النّسخ) لِأَن نسخ حرمتهَا
مُسْتَلْزم شرعيتها، والمفروض انه لَيْسَ لَهَا جِهَة حسن
أصلا، وَمَا لَيْسَ فِيهِ جِهَة حسن لَا يصلح للمشروعية (وَلَا
يكون سَبَب نعْمَة) وكل مَشْرُوع لَا بُد أَن يكون سَبَب
نعْمَة (كالعبث) أَي اللّعب لخلوه عَن الْفَائِدَة (وَالْكفْر)
لما فِيهِ من الكفران الْمنَافِي لشكر النعم الْوَاجِب عقلا
قبح مَا لَا فَائِدَة فِيهِ وكفران الْمُنعم مركوز فِي الْعقل
بِحَيْثُ لَا يتَصَوَّر جَرَيَان النّسخ فِيهِ (بِخِلَاف
الْكَذِب الْمُتَعَيّن طَرِيقا لعصمة نَبِي) فَإِن فِيهِ جِهَة
محسنة (أَو) قبحه (لجِهَة لم يرجح عَلَيْهَا غَيرهَا) من
الْجِهَات
(1/383)
(فَكَذَلِك) أَي لَا تقبل حرمته النّسخ
وَلَا يكون سَبَب نعْمَة (وَيُقَال فِيهِ قبح لعَينه شرعا
كَالزِّنَا للتضييع) فَإِنَّهُ فعل حسي مَنْهِيّ عَنهُ لجِهَة
فِيهِ لم يرجح عَلَيْهَا غَيرهَا: وَهِي تَضْييع النَّسْل،
لِأَن الشَّرْع قصر انْتِفَاء النَّسْل بِالْوَطْءِ على مَحل
مَمْلُوك (فَلم يبحه) الله تَعَالَى (فِي مِلَّة) من الْملَل
فَإِن قيل ثُبُوت حُرْمَة الْمُصَاهَرَة نعْمَة، لِأَنَّهَا
تلْحق الأجنبيات بالأمهات والأجانب بِالْآبَاءِ، وَقد ثبتَتْ
مسببة عَن الزِّنَا عِنْد الْحَنَفِيَّة فَتعلق بِهِ خطاب
الْوَضع من حَيْثُ جعله سَببا لَهَا فَلَزِمَ مشروعيته من
هَذَا الْوَجْه وَأجِيب بِأَنَّهَا لم تثبت مسببة عَن الزِّنَا
من حَيْثُ ذَاته، بل من حَيْثُ أَنه سَبَب للْمَاء الَّذِي
هُوَ سَبَب الْمعْصِيَة الْحَاصِلَة بِالْوَلَدِ الَّذِي هُوَ
مُسْتَحقّ للكراهة، وَمِنْهَا حُرْمَة الْمَحَارِم إِلَى آخر
مَا ذكرُوا فِي مَحَله، وَفِيه مَا فِيهِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ
بقوله (وَثُبُوت حُرْمَة الْمُصَاهَرَة عِنْده) أَي الزِّنَا
(بِأَمْر آخر) لَا بِالزِّنَا (كثبوت ملك الْغَاصِب عِنْد
زَوَال الِاسْم وتقرر الضَّمَان فِيمَا يجب بِملك) شُبْهَة،
جَوَاب هَذَا الْإِشْكَال بِجَوَاب إِشْكَال آخر: وَهُوَ أَن
الْغَصْب تعد على الْغَيْر فَلهُ جِهَة قبح لم يرجح عَلَيْهَا
غَيرهَا وَقد جَعَلُوهُ مَشْرُوعا بعد النَّهْي حَيْثُ
جَعَلُوهُ سَببا للْملك الْمَغْصُوب إِذْ تصرف فِيهِ الْغَاصِب
تَصرفا بِهِ تغير بِحَيْثُ زَالَ اسْمه، وَكَانَ ذَلِك
الْمَغْصُوب مِمَّا يَصح تملكه احْتِرَازًا عَن نَحْو الْمُدبر
وَالْملك نعْمَة، وَذَلِكَ أَنه لم يثبت بِعَين الْغَصْب، بل
بِأَمْر آخر وَهُوَ أَن لَا يلْزم اجْتِمَاع الْبَدَلَيْنِ فِي
ملك الْمَغْصُوب مِنْهُ إِن قُلْنَا يبْقى ملكه فِي عين
الْمَغْصُوب عِنْد تقرر الضَّمَان وصيرورة قِيمَته دينا فِي
ذمَّة الْغَاصِب، وَفِي الْمَبْسُوط وَلَكِن هَذَا غلط، لِأَن
الْملك عندنَا يثبت من وَقت الْغَصْب، وَلِهَذَا يَقع بيع
الْغَاصِب وَيسلم الْكسْب لَهُ انْتهى، وَقد يُقَال ثُبُوته من
وَقت الْغَصْب بطرِيق الِاسْتِنَاد وَهُوَ لَا يُنَافِي
ثُبُوته عِنْد زَوَال الِاسْم، وَإِلَيْهِ أَشَارَ المُصَنّف
رَحمَه الله إِلَى رد مَا ذكر من أَن سَبَب الْملك غير
الْغَصْب أَمر آخر بقوله (وَالْمُخْتَار) أَن (الْغَصْب عِنْد
الْفَوات سَبَب الضَّمَان مَقْصُودا جبرا) للفائت رِعَايَة
للعدل: يَعْنِي لَا نقُول سَبَب الْملك أَمر آخر غير الْغَصْب،
بل إِنَّمَا هُوَ الْغَصْب لَكِن عِنْد الْفَوات، فالفوات
شَرط، وَالسَّبَب هُوَ الْغَصْب، وَطَرِيق سببيته أَنه قصد
أَولا سببيته للضَّمَان جبرا (فاستدعى) كَون سَبَب الضَّمَان
(تقدم الْملك) أَي ملك الْمَغْصُوب للْغَاصِب، لِأَنَّهُ مَعَ
بَقَائِهِ فِي ملك الْمَغْصُوب مِنْهُ لَا يُمكن إِثْبَات
الضَّمَان فِي ذمَّة الْغَاصِب لما ذكر (فَكَانَ) الْغَصْب
(سَببا لَهُ) أَي للْملك (غير مَقْصُود) سببيته بِالذَّاتِ (بل
بِوَاسِطَة سببيته) أَي الْغَصْب (لمستدعيه) أَي الْملك وَهُوَ
الضَّمَان (وَهَذَا قَوْلهم) أَي حَاصِل قَول الْحَنَفِيَّة
(فِي الْفِقْه هُوَ) أَي الْغَصْب (بعرضية) أَي فِي معرض (أَن
يصير سَببا) لملك الْمَغْصُوب، لِأَنَّهُ مستبعد للإفضاء إِلَى
الْملك غير أَنه مُتَوَقف على تحقق الْفَوات الَّذِي هُوَ شَرط
الضَّمَان (لَا يُقَال لَا أثر لِلْعِلَّةِ الْبَعِيدَة) فِي
الحكم (فَيصدق نفي سببيته) أَي الْغَصْب (للْملك) لِأَنَّهُ
سَبَب بعيد لَهُ (فَالْحق الأول (
(1/384)
أَي كَون السَّبَب للْملك أمرا آخر وَهُوَ
الضَّمَان لَا نفس الْغَصْب، لأَنا نقُول لَيْسَ الْحق الأول
(لِأَن) نفي سببيته (الصَّادِق) نَفيهَا (الْمُطلق) المتحقق
فِي ضمن انْتِفَاء سَبَبِيَّة مَقْصُودَة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ
بقوله (وسببيته) أَي الْغَصْب للْملك مُقَيّدَة (بِقَيْد
كَونه) أَي الْملك (غير مَقْصُود مِنْهُ) أَي الْغَصْب، بل
لثُبُوته لضَرُورَة الْقَضَاء بِالْقيمَةِ، وَكَون الْحق هُوَ
الأول إِنَّمَا يَتَأَتَّى بالسلب الْكُلِّي لسببيته مُطلقًا،
كَيفَ (ولولاه) أَي سببيته: أَي الْغَصْب لملك الْغَاصِب
للْمَغْصُوب (لم يَصح) أَي لم ينفذ (بيع الْغَاصِب)
للْمَغْصُوب قبل الضَّمَان لانْتِفَاء مَا عدا وجوب السَّبَب
من شُرُوط النّفُوذ فَإِن قيل يشكل بِعَدَمِ نُفُوذ عتقه قيل
لَا، لِأَن الْمُسْتَند ثَابت من وَجه دون وَجه فَيكون
نَاقِصا، والناقص يَكْفِي لنفوذ البيع لَا الْعتْق
كَالْمكَاتبِ يَبِيع وَلَا يعْتق (وَلم يسلم لَهُ الْكسْب
السَّابِق) أَي مَا كسب العَبْد الْمَغْصُوب قبل الضَّمَان،
وَاسْتشْكل أَيْضا بِعَدَمِ ملك الْغَاصِب زوائده
الْمُنْفَصِلَة كَالْوَلَدِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَعدم
ملك زوائده الْمُنْفَصِلَة لِأَنَّهُ) أَي ملك الْمَغْصُوب ملك
(ضَرُورِيّ) لما ذكر أَنه ثَبت شرطا لوُجُود الضمأن، وَمَا
ثَبت ضَرُورَة يقْتَصر على قدر الضَّرُورَة (والمنفصل) من
الزِّيَادَة (لَيْسَ تبعا) للْمَغْصُوب (بِخِلَاف الزِّيَادَة
الْمُتَّصِلَة) كالسمن وَالْجمال (وَالْكَسْب) فَإِن كلا
مِنْهَا تبع مَحْض: أما الْمُتَّصِلَة فَظَاهر، وَأما الْكسْب
فَلِأَنَّهُ بدل الْمَنْفَعَة وَالْحكم يثبت فِي التبع
بِثُبُوتِهِ فِي الأَصْل سَوَاء ثَبت فِي الْمَتْبُوع
مَقْصُودا بِسَبَبِهِ أَو شرطا لغيره، و (بِخِلَاف الْمُدبر)
إِنَّمَا كرر قَوْله بِخِلَاف مَعَ أَن كسب الْمُدبر مثل مَا
قبله فِي مُخَالفَة حكمه للمنفصل لِأَنَّهُ يسْتَشْكل بِهِ
إِذْ لَا يثبت للْملك فِي الْمُدبر للْغَاصِب وَإِن أدّى
الضَّمَان لَكِن تحقق فِيهِ معنى فقهي أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله
(فَإِنَّهُ) أَي الْغَاصِب إِنَّمَا (يملك كَسبه) أَي الْمُدبر
(إِن كَانَ) لَهُ كسب (بِنَاء على أَنه) أَي الْمُدبر (خرج
عَن) ملك (الْمولى تَحْقِيقا) شَرط (الضَّمَان بِقدر
الْإِمْكَان) تَعْلِيل لملك الْكسْب وَالْخُرُوج من الْمولى
على سَبِيل التَّنَازُع: إِذْ الضَّمَان يُنَافِي اجْتِمَاع
الْبَدَلَيْنِ وَعدم حُصُول ملك الْغَاصِب، وَاسْتشْكل أَيْضا
على الأَصْل الْمَذْكُور بِملك الْكَافِر مَال الْمُسلم إِذا
أحرزه بدار الْحَرْب، فَإِن الِاسْتِيلَاء فعل حسي مَنْهِيّ
عَنهُ لذاته فَلَا يكون مَشْرُوعا بعد النَّهْي وَقد خَالفه
الْحَنَفِيَّة حَيْثُ جَعَلُوهُ بعد النَّهْي سَببا للْملك،
وَأَشَارَ إِلَى الْجَواب عَنهُ بقوله (وَأما الْكَافِر)
الْمَالِك مَال الْمُسلم (بالإحراز) بدار الْحَرْب (فإمَّا
لعدم النَّهْي) أَي فاعتبار الشَّرْع سَببه إحرازه واستيلاؤه
للْملك إِمَّا لِأَنَّهُ لم يتَوَجَّه لَهُ خطاب وَنهي بِنَاء
على عدم خطابهم بالفروع) على مَا ذهب إِلَيْهِ بعض
الْحَنَفِيَّة، وَإِذا اختير هَذَا التَّأْوِيل (فَلَيْسَ)
كَون إحرازهم سَببا للْملك (من الْبَاب) المبحوث عَنهُ فِي
هَذَا الْمقَام (وَأما) لِأَنَّهُ يملك ذَلِك بِالِاسْتِيلَاءِ
(عِنْد ثُبُوت الْإِبَاحَة) أَي
(1/385)
إِبَاحَة ذَلِك المَال لَهُ (بانتهاء ملك
الْمُسلم) أَي بِسَبَب انْتِهَاء ملكه الْمُوجب رُجُوع المَال
إِلَى الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة (بِزَوَال ملك الْمُسلم
بِزَوَال الْعِصْمَة) مُتَعَلق بالانتهاء فَإِن مالكية
الْمُسلم لمَاله ملزوم للعصمة الملزومة للإحراز بدار
الْإِسْلَام، وَزَوَال اللَّازِم يسْتَلْزم زَوَال
الْمَلْزُوم، وَزَوَال الْعِصْمَة (بالإحراز بِدَرَاهِم) أَي
بِسَبَب إِحْرَاز الْكَافِر مَال الْمُسلم بدار الْحَرْب،
وَإِنَّمَا كَانَ إحرازهم لَهُ بهَا مزيلا للعصمة (لانْقِطَاع
الْولَايَة) أَي ولَايَة التَّبْلِيغ والإلزام: فَكَانَ
استيلاؤهم على هَذَا المَال وعَلى الصَّيْد سَوَاء، وَإِذا
كَانَ انْتهى سقط النَّهْي فَلم يكن الِاسْتِيلَاء مَحْظُورًا
فصلح أَن يكون سَببا للْملك، ثمَّ يتَخَلَّص من هَذَا أَن مَا
هُوَ مَحْظُور وَهُوَ ابْتِدَاء الِاسْتِيلَاء بدار
الْإِسْلَام لَيْسَ بِسَبَب الْملك وَهُوَ سَبَب الْملك،
وَهُوَ حَال الْبَقَاء والإحراز بدار الْكفْر لَيْسَ بمحظور
فَلَا يرد النَّقْض، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (والاستيلاء
ممتد فبقاؤه كابتدائه) فَصَارَ بعد الْإِحْرَاز بدار الْحَرْب
كَأَنَّهُ استولى على مَال غير مَعْصُوم ابْتِدَاء بدار
الْحَرْب فصلح سَببا للْملك فَإِن قيل سفر الْمعْصِيَة بِقطع
الطَّرِيق وَإِلَّا بَاقٍ فعل حسي مَنْهِيّ عَنهُ لذاته
فَكَانَ مُقْتَضى هَذَا أَن لَا يَجْعَل سَببا للرخصة الَّتِي
هِيَ نعْمَة وَقد جعلتموه سَببا، فَالْجَوَاب منع كَونه
مَنْهِيّا عَنهُ لذاته كَمَا قَالَ (والترخص بسفر الْمعْصِيَة
للْعلم بِأَنَّهُ) أَي النَّهْي (فِيهِ) أَي سفر الْمعْصِيَة
(لغيره) أَي لغير ذَات السّفر (مجاورا) للسَّفر (من الْقَصْد
للمعصية) وَهَذَا الْقَصْد لَيْسَ بِلَازِم لذاته (إِذْ قد لَا
تفعل) الْمعْصِيَة، بِلَا يتبدل بِقصد الطَّاعَة (وَيدْرك
الْآبِق الْأذن) بِالسَّفرِ من مَوْلَاهُ، فَيخرج عَن
الْعِصْيَان، فَلَا يُؤثر هَذَا المجاور فِي كَونه سَببا
للرخصة من حَيْثُ هُوَ سير مديد، لِأَنَّهُ من هَذِه
الْحَيْثِيَّة مُبَاح (وَكَذَا وَطْء الْحَائِض عرف) كَونه
مَنْهِيّا عَنهُ (للأذى) لقَوْله تَعَالَى - {قل هُوَ أَذَى} -
وَهُوَ مجاور فِي الْمحل قَابل للانفكاك (فاستعقب الْإِحْصَان،
وَتَحْلِيل الْمُطلقَة) ثَلَاثًا وَصَارَ كَمَا إِذا حرم
بِالْيَمِينِ ثمَّ عطف على قَوْله إِلَى حسي قَوْله (وَإِلَى
شَرْعِي فالقطع بِأَنَّهُ) أَي الْقبْح فِيهِ (لغيره) أَي غير
الْمنْهِي عَنهُ، وَإِلَّا لم يشرع قطيعا (وَلَا ينتهض)
الْمنْهِي عَنهُ الشَّرْعِيّ (سَببا) للنعمة (إِذا رتب)
الشَّارِع عَلَيْهِ (حكما يُوجب كَونه) أَي الْمنْهِي عَنهُ
(لعينة) أَي الْمنْهِي عَنهُ (أَيْضا كَنِكَاح الْمَحَارِم)
فَإِنَّهُ فعل (شَرْعِي عقل قبحه: لِأَنَّهُ طَرِيق القطيعة)
للرحم الْمَأْمُور بصلتها لما فِيهِ من الامتهان بالاستفراش
وَغَيره (فحين أخرجن عَن الْمَحَلِّيَّة) لنكاحه (صَار)
نِكَاحه إياهن (عَبَثا، فقبح لعَينه فَبَطل) فَقَوله إِذا رتب
إِلَى آخِره بِمَنْزِلَة الِاسْتِثْنَاء من كَون النَّهْي فِي
الشَّرْعِيّ لغيره، وَقَوله أَيْضا إِلْحَاق لهَذِهِ الصُّورَة
بالحسي الْمَذْكُور (ثمَّ الْإِخْرَاج) عَن محلية إنكاحه
(لَيْسَ) وَاقعا على وَجه (وَإِلَّا لَازِما) أَي على وَجه
اللُّزُوم (لما مهدناه من أَنه) أَي الشَّارِع (لم يَجْعَل
لَهُ) أَي للنِّكَاح (حكما إِلَّا الْحل فنافى) حكمه (مُقْتَضى
النَّهْي) وَهُوَ
(1/386)
التَّحْرِيم المؤبد فَكَانَ الْمنْهِي
عَنهُ بَاطِلا (وَكَذَا الصَّلَاة بِلَا طَهَارَة بَاطِلَة
لمثله) أَي لانْتِفَاء أَهْلِيَّة العَبْد لَهَا بِلَا
طَهَارَة شرعا فَصَارَ فعلهَا بِدُونِ الطَّهَارَة عَبَثا فقبح
لعَينه (وَكَانَ يجب مثله) أَي بطلَان الصَّلَاة (فِي
الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة لَكِن الظَّن الْمُتَقَدّم) أوجب
خِلَافه إِشَارَة إِلَى مَا سبق من قَوْله وَمَا خَالف فلدليل
كَالصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة على ظنهم: أَي
الْحَنَفِيَّة، فَإِنَّهُم حكوا بِصِحَّتِهَا مَعَ النَّهْي
الْمحرم، أَو الْمُوجب لكَرَاهَة التَّحْرِيم للْحَدِيث
الْمَذْكُور فِيمَا سبق، وَذَلِكَ لِأَن مُقْتَضى النَّهْي
التَّحْرِيم الْمنَافِي للْجُوَاز (وروى عَن أبي حنيفَة
بُطْلَانهَا كَمَا اخترناه وَهُوَ قَول زفر) والدراية تقَوِّي
هَذِه الرِّوَايَة، فَلْيَكُن التعويل عَلَيْهَا (فَإِن لم
يرتب) الشَّارِع على الْمنْهِي عَنهُ حكما يُوجب كَون النَّهْي
عَن الْمنْهِي عَنهُ لعَينه (ظهر أَنه لم يعْتَبر فِيهِ جِهَة
توجب قبحا فِي عينه كَالْبيع) الْفَاسِد فِي وَقت النداء
للْجُمُعَة (على مَا تقدم فَينْعَقد سَببا) لحكمه كالملك
(فَظهر أَن الِاخْتِلَاف) فِي المنهيات الشرعيات من حَيْثُ
الانتهاض سَببا وَعَدَمه (لَيْسَ مُرَتبا على أَن النَّهْي عَن
الشَّرْعِيّ يدل على الصِّحَّة) للمنهي عَنهُ كَمَا هُوَ معزو
إِلَى الْحَنَفِيَّة وَإِلَّا لما اخْتلفت فِي انتهاضها
مسَائِل على أَن النَّهْي إخْرَاجهَا عَن الْمَحَلِّيَّة لما
ذكر لم تنتهض إِلَّا وانتهضت (وَقَوْلهمْ) أَي الْحَنَفِيَّة
النَّهْي فِي المشروعيات (يدل على مشروعيته) أَي الْفِعْل
الْمنْهِي عَنهُ (بِأَصْلِهِ لَا بوصفه إِنَّمَا يُفِيد صِحَة
الأَصْل) أَي أصل الْفِعْل (وَلَا يخْتَلف فِيهِ) أَي فِي كَون
الأَصْل صَحِيحا (لِأَنَّهُ) أَي الأَصْل (غير الْمنْهِي
عَنهُ) الَّذِي هُوَ مَجْمُوع الأَصْل وَالْوَصْف (فَلَا
يستعقب) كَون الْمنْهِي عَنهُ يدل على مَشْرُوعِيَّة الْفِعْل
بِأَصْلِهِ (صِحَّته) أَي الأَصْل (بِوَصْف يلازمه) أَي
الأَصْل، لَا يُقَال دلّ على صِحَة الأَصْل، وَالْوَصْف
الملازم لَا يُفَارق الأَصْل فِي الْوُجُود فَلَا يُفَارِقهُ
فِي الصِّحَّة أَيْضا لجَوَاز أَن يكون الشَّيْء بِالنّظرِ
إِلَى نَفسه صَحِيحا، وبالنظر إِلَى وَصفه فَاسِدا وَإِن كَانَ
ذَلِك الْوَصْف لَازِما لذاته، وَالله أعلم.
تمّ الْجُزْء الأول ويليه الْجُزْء الثَّانِي، وأوله: الْفَصْل
الْخَامِس فِي الْمُفْرد بِاعْتِبَار اسْتِعْمَاله.
(1/387)
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْفَصْل الْخَامِس
فِي الْمُفْرد بِاعْتِبَار اسْتِعْمَاله (هُوَ) أَي الْمُفْرد
(بِاعْتِبَار اسْتِعْمَاله يَنْقَسِم إِلَى حَقِيقَة ومجاز
فالحقيقة) فعيلة بِمَعْنى فَاعل، من حق: إِذا ثَبت، أَو مفعول،
من حققت الشَّيْء أحقه بِالضَّمِّ: إِذا أثْبته: فَالْمَعْنى
الْكَلِمَة الثَّابِتَة أَو المثبتة فِي مَكَانهَا
الْأَصْلِيّ، وَالتَّاء للنَّقْل من الوصيفه إِلَى الاسمية
الصرفة، وللتأنيث عِنْد السكاكي: أما إِذا كَانَ بِمَعْنى
فَاعل فَظَاهر لِأَنَّهُ يذكر وَيُؤَنث حِينَئِذٍ جرى على
موصوفه أَولا وَأما إِذا كَانَ بِمَعْنى مفعول، فالتأنيث
بِاعْتِبَار مَوْصُوف مؤنث لَهَا: أَي الْكَلِمَة غير مجراة
هِيَ عَلَيْهِ، وَفِيه تكلّف مُسْتَغْنى عَنهُ، وَهِي
اصْطِلَاحا (اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِيمَا وضع لَهُ أَو مَا
صدق) مَا وضع لَهُ (عَلَيْهِ) فالمستعمل فِيهِ حِينَئِذٍ فَرد
من أَفْرَاد الْمَوْضُوع لَهُ (فِي عرف بِهِ) أَي بذلك الْعرف
(ذَلِك الِاسْتِعْمَال) أَي بِنَاء الِاسْتِعْمَال على ذَلِك
الْعرف، والظرف مُتَعَلق بِالْوَضْعِ، فَخرج بِالْمُسْتَعْملِ
المهمل والموضوع قبل الِاسْتِعْمَال، وَبِقَوْلِهِ فِيمَا وضع
لَهُ الْمجَاز والغلط كَمَا سَيَأْتِي (وتنقسم) الْحَقِيقَة
(بِحَسب ذَلِك) الْوَضع (إِلَى لغوية) بِأَن يكون الْوَاضِع
أهل اللُّغَة (وشرعية) بِأَن يكون الشَّارِع (كَالصَّلَاةِ)
حَقِيقَة لغوية: فالدعاء شَرْعِيَّة فِي الْأَركان
الْمَخْصُوصَة (وعرفية عَامَّة) بِأَن يكون يكون أهل الْعرف
الْعَام (كالدابة) فِي ذَوَات الْأَرْبَع والحافر (وخاصة)
بِأَن يكون أهل الْعرف الْخَاص (كالرفع) للحركة والحرف
المخصوصين: فَإِن أهل الْعَرَبيَّة وضعوه لَهما (وَالْقلب)
كجعل الْمَعْلُول عِلّة وَعَكسه فَإِن الْأُصُولِيِّينَ وضعوه
لَهُ (وَيدخل) فِي الْحَقِيقَة اللَّفْظ (الْمَنْقُول) وَهُوَ
(مَا وضع لِمَعْنى بِاعْتِبَار مُنَاسبَة لما كَانَ) اللَّفْظ
مَوْضُوعا (لَهُ أَولا) وَسَيَأْتِي تَفْصِيله (والمرتجل)
وَهُوَ الْمُسْتَعْمل فِي وضعي لم يسْبق بآخر (والأعم)
الْمُسْتَعْمل (فِي الْأَخَص كَرجل فِي زيد) نقل عَن المُصَنّف
أَنه قَالَ: لِأَن الْمَوْضُوع للأعم حَقِيقَة فِي كل فَرد من
أَفْرَاده كالإنسان فِي زيد، لَا يعرف القدماء غير هَذَا إِلَى
أَن أحدث التَّفْصِيل بَين أَن يُرَاد بِهِ خُصُوص الشَّخْص
(2/2)
يَجْعَل خُصُوص عوارضه الشخصية مرَادا مَعَ
الْمَعْنى الْأَعَمّ، فَيكون مجَازًا، أَو لَا فَيكون حَقِيقَة
وَكَأن هَذِه الْإِرَادَة قَلما تخطر عِنْد الْإِطْلَاق حَتَّى
ترك الأقدمون ذَلِك التَّفْصِيل، بل الْمُتَبَادر من مُرَاد من
يَقُول لزيد يَا إِنْسَان: يامن صدق عَلَيْهِ هَذَا اللَّفْظ
لَا يُلَاحظ أَكثر من ذَلِك انْتهى (وَزِيَادَة أَولا) بعد
قَوْله فِيمَا وضع لَهُ كَمَا ذكره الْآمِدِيّ وَغَيره (تخل
بعكسه) أَي التَّعْرِيف (لصدق الْحَقِيقَة) فِي نفس الْأَمر
(على الْمُشْتَرك) الْمُسْتَعْمل (فِي) الْمَعْنى (الْمُتَأَخر
وَضعه لَهُ) وَهَذِه الزِّيَادَة تمنع صدق الْحَد عَلَيْهِ
(وَلَيْسَ فِي اللَّفْظ) دلَالَة على (أَنه) أَي الْقَيْد
الَّذِي زيد (بِاعْتِبَار وضع الْمجَاز) أَي إِنَّمَا أَتَى
بِهِ بِسَبَب اعْتِبَار الْوَضع فِي الْمجَاز لما ذكرُوا من
أَن اللَّفْظ مَوْضُوع بِإِزَاءِ الْمَعْنى الْمجَازِي وضعا
نوعيا لكنه وضع ثانوي وَلَا بُد لَهُ من تقدم وضع عَلَيْهِ
فَذكر أَولا ليخرج الْمجَاز، كَذَا ذكره بعض الأفاضل،
فَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَن لَا يكون من شَأْنه الثانوية
فَلَا يشكل بِالْمَعْنَى الثَّانِي للمشترك، لِأَن الثانوية
لَيست لَازِمَة لحقيقته وَإِن تحققت فِيهِ غير أَن هَذَا
التَّأْوِيل مِمَّا لَا يدل عَلَيْهِ اللَّفْظ كَمَا ذكره
المُصَنّف رَحمَه الله (على أَنه لَو فرض) وضع الْمجَاز (جَازَ
أولية وضع الْمجَاز كاستعماله) أَي كَمَا يجوز أولية
اسْتِعْمَال الْمجَاز بِالنِّسْبَةِ إِلَى اسْتِعْمَال
الْحَقِيقَة بِأَن يوضع اللَّفْظ فيستعمل فِيمَا بَينه وَبَين
مَا وضع لَهُ علاقَة قبل أَن يسْتَعْمل فِيمَا وضع لَهُ،
كَذَلِك يجوز أولية وضع الْمجَاز قبل وَضعه لمعناه بِأَن
يَقُول وضعت هَذَا اللَّفْظ لِأَن يَسْتَعْمِلهُ فِيمَا بَينه
وَبَين مَا سأضعه لَهُ مُنَاسبَة مُعْتَبرَة، كَذَا نقل عَن
المُصَنّف فِي تَوْجِيه هَذَا الْمحل (وَبلا تَأْوِيل) أَي
وَزِيَادَة السكاكي بِلَا تَأْوِيل بعد ذكر الْوَضع ليحترز
بِهِ عَن الِاسْتِعَارَة لعد الْكَلِمَة مستعملة فِيمَا هِيَ
مَوْضُوعَة لَهُ، لَكِن بالتأويل فِي الْوَضع: وَهُوَ أَن
يستعار الْمَعْنى الْمَوْضُوع لَهُ لغيره بطرِيق الادعاء
مُبَالغَة ثمَّ يُطلق عَلَيْهِ اللَّفْظ فَيكون مُسْتَعْملا
فِيمَا وضع لَهُ بِتَأْوِيل، وَهَذِه الزِّيَادَة وَاقعَة
(بِلَا حَاجَة) إِلَيْهَا فِي صِحَة الْحَد (إِذْ حَقِيقَة
الْوَضع لَا تَشْمَل الادعائي) كَمَا سيتضح قَرِيبا وَقد
يعْتَذر عَنهُ فِي ذَلِك بِأَنَّهُ أَرَادَ دفع الْوَهم
لمَكَان الِاخْتِلَاف فِي الِاسْتِعَارَة هَل هُوَ مجَاز
لغَوِيّ أَو حَقِيقَة لغوية (وَالْمجَاز) فِي الأَصْل مفعل:
أما مصدر بِمَعْنى اسْم الْفَاعِل من الْجَوَاز بِمَعْنى
العبور والتعدي، سميت بِهِ الْكَلِمَة المستعملة فِي غير مَا
وضعت لَهُ لما فِيهَا من التَّعَدِّي من محلهَا الْأَصْلِيّ.
أَو اسْم مَكَان سميت بِهِ لكَونهَا مَحل التَّعَدِّي للمعنى
الْأَصْلِيّ أَو من جعلت كَذَا مجَازًا إِلَى حَاجَتي أَو
طَرِيقا لَهَا، على أَن معنى جَازَ الْمَكَان سلكه، فَإِن
الْمجَاز بِاعْتِبَار مَعْنَاهُ الْأَصْلِيّ طَرِيق إِلَى
مَعْنَاهُ الْمُسْتَعْمل فِيهِ (مَا اسْتعْمل لغيره) أَي لفظ
مُسْتَعْمل لغير مَا وضع لَهُ وَمَا صدق عَلَيْهِ (لمناسبة)
بَينه وَبَين ذَلِك الْغَيْر (اعْتِبَار) بَين أهل
الْعَرَبيَّة (نوعها) أَي نوع تِلْكَ الْمُنَاسبَة، وَسبب
اعْتِبَار النَّوْع أَنه وجد فِي كَلَام الْعَرَب اسْتِعْمَال
الْكَلِمَة فِي معنى وجد فِيهِ فَرد من أَفْرَاد ذَلِك
(2/3)
النَّوْع من الْمُنَاسبَة (وينقسم)
الْمجَاز إِلَى لغَوِيّ وشرعي، وعرفي عَام وخاص (كالحقيقة
لِأَن الِاسْتِعْمَال فِي غير مَا وضع لَهُ، إِمَّا لمناسبة
لما وضع لَهُ لُغَة أَو شرعا، أَو عرفا خَاصّا أَو عَاما
(وَتدْخل الْأَعْلَام فيهمَا) أَي فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز،
فالمرتجل فِي الْحَقِيقَة وَهُوَ ظَاهر وَالْمَنْقُول إِن لم
يكن مَعْنَاهُ الثَّانِي من أَفْرَاد الْمَعْنى الأول: فَهُوَ
حَقِيقَة فِي الأول مجَاز فِي الثَّانِي من جِهَة الْوَضع
الثَّانِي وَإِن كَانَ مَعْنَاهُ الثَّانِي من أَفْرَاد
مَعْنَاهُ الأول، فَإِن كَانَ إِطْلَاقه عَلَيْهِ بِاعْتِبَار
أَنه من أَفْرَاد الأول فَهُوَ حَقِيقَة من جِهَة الْوَضع
الأول مجَاز فِي الثَّانِي من جِهَة الْوَضع الأول ومجاز فِي
الأول حَقِيقَة فِي الثَّانِي من جِهَة الْوَضع الثَّانِي
وَإِن كَانَ مَعْنَاهُ الثَّانِي من أَفْرَاد مَعْنَاهُ الأول،
فَإِن كَانَ إِطْلَاقه عَلَيْهِ بِاعْتِبَار أَنه من أَفْرَاد
الأول، فَهُوَ حَقِيقَة من جِهَة الْوَضع الأول، مجَاز من
جِهَة الْوَضع الثَّانِي، وَإِن كَانَ بِاعْتِبَار أَنه من
أَفْرَاد الثَّانِي فحقيقة من جِهَة الْوَضع الثَّانِي، مجَاز
من جِهَة الْوَضع الأول، كَذَا ذكره الشَّارِح من غير تَنْقِيح
وَلَا يخفى أَن الْأَعْلَام على تَقْدِير دُخُولهَا فِي
الْحَقِيقَة وَالْمجَاز كَغَيْرِهَا إِن اسْتعْملت فِيمَا وضعت
لَهُ فِي عرف ذَلِك الِاسْتِعْمَال فحقيقة، وَإِن اسْتعْملت
فِي غير ذَلِك فمجاز، سَوَاء كَانَت مرتجلة أَو منقولة إِلَى
فَرد من أَفْرَاد الْمَعْنى الأول أَو إِلَى غَيره، فَإِذا
كَانَ مدَار الِاسْتِعْمَال على الْوَضع الثَّانِي، وَأُرِيد
بِالْعلمِ الْمَنْقُول مَا وضع لَهُ أَولا، أَو فَرد مَا وضع
أَولا من حَيْثُ أَنه فَرد فَجَاز ايضا، وَإِن كَانَ مَدَاره
على الْوَضع الأول وَأُرِيد بِهِ مَا وضع لَهُ ثَانِيًا من
حَيْثُ انه وضع لَهُ ثَانِيًا من حَيْثُ أَنه وَله ضع لَهُ
ثَانِيًا فمجاز أَيْضا، وَإِن كَانَ فَردا لما وضع لَهُ أَولا
فَردا فالمدار على الِاسْتِعْمَال فِيمَا وضع لَهُ فِي عرف
التخاطب وجودا وعدما فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي الْعلم
وَغَيره (و) لزم (على من أخرجهَا) أَي الْأَعْلَام مِنْهُمَا
كالآمدي والرازي (تَقْيِيد الْجِنْس) الْمَأْخُوذ فِي تعريفهما
بِغَيْر الْعلم، قَالَ الشَّارِح وَاقْتصر الْبَيْضَاوِيّ على
أَنَّهَا لَا تُوصَف بالمجاز بِالذَّاتِ لِأَنَّهَا لم تنقل
لعلاقة، وَفِيه نظر انْتهى (وَخرج عَنْهُمَا) أَي الْحَقِيقَة
وَالْمجَاز (الْغَلَط) كخذ هَذَا الْفرس مُشِيرا إِلَى الْكتاب
أما عَن الْحَقِيقَة فَظَاهر، وَأما عَن الْمجَاز فَلِأَنَّهُ
لم يسْتَعْمل فِي غير الوضعي لعلاقة، لِأَن الِاسْتِعْمَال
عبارَة عَن ذكر اللَّفْظ وَإِرَادَة الْمَعْنى بِهِ وَلم
يتَحَقَّق، فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ الْمَعْنى تعلّقت بِهِ
إِرَادَة الْمُتَكَلّم لَكِن من حَيْثُ أَنه جرى الْفرس على
لِسَانه خطأ فَهُوَ حَال الْإِعْرَاب أَو اللَّفْظ بِاعْتِبَار
تغير حكم إعرابه والتعريف للْأولِ، فَلَا ينْتَقض بِخُرُوج
الْمجَاز بِالنُّقْصَانِ، وَالزِّيَادَة كَقَوْلِه - {واسئل
الْقرْيَة} - وَلَيْسَ كمثله ذكره الشَّارِح، وَقَالَ
المُصَنّف (ومجاز الْحَذف حَقِيقَة) مستعملة فِيمَا وضع لَهُ
(لِأَنَّهُ) أَي مجَاز الْحَذف إِنَّمَا هُوَ (الْمَذْكُور)
الْمُسْتَعْمل فِي مَعْنَاهُ كَلَفْظِ الْقرْيَة المُرَاد بِهِ
الْمَكَان الَّذِي وَضعه بإزائه، وَإِنَّمَا سمي مجَازًا
(بِاعْتِبَار تغير إعرابه) وَهُوَ الْجَرّ إِلَى النصب لِأَن
التَّقْدِير اسئل أهل الْقرْيَة (وَلَو أُرِيد بِهِ) أَي
بالمذكور وَهُوَ الْقرْيَة فِي هَذَا الْمِثَال (الْمَحْذُوف)
بِذكر
الاثْنَي
(2/4)
الْمحل وَإِرَادَة الْحَال (كَانَ)
الْمَذْكُور هُوَ الْمجَاز (الْمَحْدُود) ويشمله التَّعْرِيف
الْمَذْكُور (ومجاز الزِّيَادَة قيل) فِي تَعْرِيفه هُوَ (مَا
لم يسْتَعْمل لِمَعْنى) كالكاف فِي كمثله، لِأَن الْمَعْنى
لَيْسَ مثله من غير زِيَادَة فِيهِ (وَمُقْتَضَاهُ) أَي
مُقْتَضى هَذَا القَوْل (أَنه لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا)
لِأَن الِاسْتِعْمَال فِي الْمَعْنى مَأْخُوذ فِي كل مِنْهُمَا
(وَلما لم ينقص) مجَاز الزِّيَادَة (عَن التَّأْكِيد قيل لَا
زَائِد) فِي كَلَام الْعَرَب، فَالْمُرَاد بِنَفْي الزِّيَادَة
نفي كَونه لَغوا لَا فَائِدَة لَهُ أصلا فِي الْمَعْنى،
وبإثباتها عدم اسْتِعْمَاله فِي معنى حَقِيقَة أَو مجَازًا،
فَلَا تدافع بَينهمَا، ثمَّ أَشَارَ إِلَى مَا هُوَ
التَّحْقِيق عِنْده بقوله (وَالْحق أَنه) أَي مجَاز
الزِّيَادَة (حَقِيقَة لوضعه لِمَعْنى التَّأْكِيد) واستعماله
فِيهِ كَمَا وضع لغيره من التَّشْبِيه وَغَيره وَاسْتعْمل
فِيهِ (لَا مجَاز لعدم العلاقة) الَّتِي هِيَ شَرط فِي
الْمجَاز بَين مَعْنَاهُ الْمَشْهُور وَبَين التَّأْكِيد (فَكل
مَا اسْتعْمل زَائِدا مُشْتَرك) بَين التَّأْكِيد وَغَيره
(وزائد باصطلاح النَّحْوِيين) عطف على قَوْله حَقِيقَة،
ومرادهم من الزِّيَادَة عدم إفادته غير التاكيد، لَا عدم
إفادته مُطلقًا، فَإِنَّهُ يُنَافِي بلاغة الْكَلَام (وَاعْلَم
أَن الْوَضع يكون لقاعدة) لَيست اللَّام صلَة الْوَضع لِأَن
الْقَاعِدَة لَيست مَا وضع لَهُ، بل هِيَ لَام الْغَرَض، فَإِن
الْمَقْصد من هَذَا النَّوْع من الْوَضع تَحْصِيل قَاعِدَة
كُلية يعلم مِنْهَا وضع أَلْفَاظ كَثِيرَة بِإِزَاءِ معَان
كَثِيرَة كَقَوْلِه: وضعت كل اسْم فَاعل بِإِزَاءِ ذَات ثَبت
لَهَا مبدأ الِاشْتِقَاق بِمَعْنى الْحُدُوث وَقَوله (كُلية)
صفة كاشفة، لِأَنَّهُ لَا تكون الْقَاعِدَة إِلَّا كُلية
(جزئيات موضوعها) أَي مَوْضُوع تِلْكَ الْقَاعِدَة وَهُوَ فِي
الْمِثَال الْمَذْكُور كل اسْم فَاعل (أَلْفَاظ مَخْصُوصَة)
كضارب وناصر وكل وَاحِد مِنْهُمَا مَوْضُوع لِمَعْنى مَخْصُوص
(ولمعنى خَاص) مَعْطُوف على قَوْله لقاعدة: أَي الْغَرَض من
الْقسم الثَّانِي من الْوَضع إِفَادَة معنى خَاص وضع اللَّفْظ
بإزائه بِخِلَاف الأول، فَإِن الْغَرَض مِنْهُ إِفَادَة معَان
كَثِيرَة بِأَلْفَاظ كَثِيرَة (وَهُوَ) أَي الْوَضع لمُعين
خَاص (الْوَضع الشخصي، وَالْأول) أَي الْوَضع لقاعدة إِلَى
آخِره الْوَضع (النوعي) لكَون كل من الْمَوْضُوع لَهُ فِيهِ
مفهوما كليا ينْدَرج تَحْتَهُ أَفْرَاد كَثِيرَة بِخِلَاف
الأول (وينقسم) النوعي (إِلَى مَا) أَي إِلَى وضع نَوْعي (يدل
جزئي مَوْضُوع مُتَعَلقَة) قد عرفت أَن الْوَضع النوعي
مُتَعَلقَة الْقَاعِدَة الْكُلية وَأَن لَهَا مَوْضُوعا،
لِأَنَّهَا قَضِيَّة كُلية وَأَن لموضوعها جزئيات: أَي أفرادا
هى أَلْفَاظ مَخْصُوصَة، فَإِن كَانَ جزئي مَوْضُوع مُتَعَلّقه
دَالا (بِنَفسِهِ) فَهُوَ الْقسم الْمشَار إِلَيْهِ بقوله
(وَهُوَ) مَا يدل إِلَى آخِره (وضع قَوَاعِد التراكيب)
الْقَوَاعِد مُتَعَلقَة بالتراكيب كَقَوْلِه: وضعت هَذِه
الْهَيْئَة التركيبية للنسبة الإسنادية، وَهَذِه للنسبة
الإضافية إِلَى غير ذَلِك (والتصاريف) أَي وقواعد مُتَعَلقَة
بالتصاريف، والتصريف تَحْويل مبدأ الِاشْتِقَاق إِلَى
أَمْثِلَة مُخْتَلفَة كالفعل وَاسم الْفَاعِل وَالْمَفْعُول
وَغَيرهَا (و) إِلَى مَا يدل جزئي مَوْضُوع مُتَعَلّقه
(بِالْقَرِينَةِ وَهُوَ) أَي مَا يَد بِالْقَرِينَةِ (وضع
الْمجَاز كَقَوْل الْوَاضِع: كل مُفْرد
(2/5)
بَين مُسَمَّاهُ و) بَين (غَيره) من
الْمعَانِي الْمُنَاسبَة لَهُ أَمر (مُشْتَرك) يَعْنِي علاقَة
ذَات نِسْبَة إِلَى كل من الْمُسَمّى وَذَلِكَ الْغَيْر
(اعتبرته) صفة لمشترك، ثمَّ فسر اعْتِبَاره لذَلِك الْمُشْتَرك
بقوله (أَي استعملته) أَي الْفَرد (فِي الْغَيْر
بِاعْتِبَارِهِ) أَي اسْتِعْمَاله فِي ذَلِك الْغَيْر
بِاعْتِبَار ذَلِك الْمُشْتَرك الْمُوجب للمناسبة بَينهمَا
(فَلِكُل) من النَّاس أَن يسْتَعْمل (ذَلِك) الْمُفْرد فِي
ذَلِك الْغَيْر // بِاعْتِبَار الْمُشْتَرك بَينهمَا (مَعَ
قرينَة) صارفة عَن الْمُسَمّى مُعينَة لذَلِك الْمَعْنى
(وَلَفظ الْوَضع حَقِيقَة عرفية فِي كل من الْأَوَّلين) الشخصي
والنوعي الدَّال جُزْء مَوْضُوع مُتَعَلّقه بِنَفسِهِ لتبادر
كل مِنْهُمَا إِلَى الْفَهم من إِطْلَاق لفظ الْوَضع، توصيف
الشخصي بالأولوية بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّالِث فَلَا
يُنَافِي ثانويته فِي التَّقْسِيم الأول (مجَاز فِي الثَّالِث)
النوعي الدَّال جزئي مَوْضُوع مُتَعَلّقه بِالْقَرِينَةِ (إِذْ
لَا يفهم) من إِطْلَاق الْوَضع (بِدُونِ تَقْيِيده) أَي
الْوَضع بالمجاز كَأَن يُقَال: وضع الْمجَاز (فَانْدفع)
بِهَذَا التَّحْقِيق (مَا قيل) على حد الْحَقِيقَة، وقائله
الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ (أَن أُرِيد بِالْوَضْعِ) الْوَضع
(الشخصي خرج من الْحَقِيقَة) كثير من الْحَقَائِق (كالمثنى
والمصغر) وكل مَا تكون دلَالَته بِحَسب الْهَيْئَة لَا
الْمَادَّة لِأَنَّهَا، مَوْضُوعَة بالنوع لَا بالشخص (أَو)
أُرِيد بِهِ مُطلق الْوَضع (الْأَعَمّ) من الشخصي والنوعي (دخل
الْمجَاز) فِي تَعْرِيف الْحَقِيقَة لِأَنَّهُ مَوْضُوع بالنوع
وَحَاصِل الدّفع اخْتِيَار الشق الثَّالِث، وَهُوَ الْمَعْنى
الْعرفِيّ الَّذِي يعم الْأَوَّلين: أَعنِي تعْيين اللَّفْظ
للدلالة على الْمُسَمّى بِنَفسِهِ (وَظهر اقْتِضَاء الْمجَاز
وضعين) وضعا (للفظ) لمسماه الَّذِي يسْتَعْمل فِيهِ حَقِيقَة
(و) وضعا (لِمَعْنى نوع العلاقة) أَي لِمَعْنى بَينه وَبَين
الْمُسَمّى نوع من العلاقة الْمُعْتَبرَة عِنْد أَرْبَاب
الْعَرَبيَّة، والعلاقة بِكَسْر الْعين مَا ينْتَقل الذِّهْن
بواسطته عَن الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ إِلَى الْمجَازِي، وَهِي
فِي الأَصْل مَا يعلق الشَّيْء بِغَيْرِهِ، وَأما بِفَتْحِهَا
فَهُوَ تعلق الْخصم بخصمه، والمحب بمحبوبه: كَذَا قيل، وَفِي
الْقَامُوس العلاقة بِالْكَسْرِ: الْحبّ اللَّازِم للقلب،
وبالفتح، الْمحبَّة وَنَحْوهَا، وبالكسر فِي السَّوْط وَنَحْوه
(وَهِي) أَي العلاقة (بالاستقراء) خَمْسَة: (مشابهة صورية)
بَين مَحل الْحَقِيقَة وَالْمجَاز (كإنسان للمنقوش) أَي
كمشابهة الْإِنْسَان للصورة المنقوشة فِي الْجِدَار وَغَيره
(أَو) مشابهة بَينهمَا (فِي معنى مَشْهُور) أَي صفة غير الشكل
ظَاهِرَة الثُّبُوت بِمحل الْحَقِيقَة، لَهَا بِهِ مزِيد
اخْتِصَاص وشهرة لينتقل الذِّهْن عِنْد إِطْلَاق اللَّفْظ من
الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ إِلَى تِلْكَ الصّفة فِي الْجُمْلَة:
فيفهم الْمَعْنى الْمجَازِي بِاعْتِبَار ثُبُوت الصّفة لَهُ
(كالشجاعة للأسد) فَإِنَّهَا صفة مَشْهُورَة لَهُ (بِخِلَاف
البخر) فَإِنَّهُ غير مَشْهُور بِهِ فَلَا يَصح إِطْلَاق
الْأسد على الرجل الأبخر للاشتراك فِي البخر (ويخص) هَذَا
النَّوْع من الْمجَاز (بالاستعارة) أَي باسم الِاسْتِعَارَة
(فِي عرف) لأهل علم الْبَيَان وَإِن كَانَ كل مجَاز فِيهِ
اسْتِعَارَة للفظ من مَحَله الْأَصْلِيّ بِحَسب اللُّغَة
بِخِلَاف
(2/6)
ذِي اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِيمَا شبه
بِمَعْنَاهُ الْأَصْلِيّ لعلاقة المشابهة: وَكَثِيرًا مَا
يُطلق على اسْتِعْمَال الْمُشبه بِهِ فِي الْمُشبه، وَمَا عدا
هَذَا النَّوْع يُسمى مجَازًا مُرْسلا (والكون) عَلَيْهِ أَي
(كَون) الْمَعْنى (الْمجَازِي سَابِقًا) أَي فِي زمَان سَابق
متلبسا (بالحقيقي) أَي بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيّ بِنَاء (على
اعْتِبَار الحكم) وَإِن لم يكن كَذَلِك بِنَاء على اعْتِبَار
حَال الْمُتَكَلّم (كآتوا الْيَتَامَى) أَمْوَالهم، فَإِنَّهُم
موصوفون باليتم حَال الْخطاب بِهَذَا الْكَلَام، لكِنهمْ
لَيْسُوا بموصوفين بِهِ حَال تعلق الإيتاء بهم: بل هم بالغون
راشدون عِنْد ذَلِك، فَالْمُعْتَبر فِي اسْتِعْمَال اللَّفْظ
حَال الحكم لِأَنَّهُ لم يذكر إِلَّا ليثبت الحكم لمعناه،
فَالْمَعْنى الْمجَازِي لِلْيَتَامَى نظرا إِلَى اعْتِبَار
الحكم الْمبلغ، وَقد كَانُوا متلبسين بِالْمَعْنَى
الْحَقِيقِيّ وَهُوَ الْيُتْم قبل زمَان الحكم بالإيتاء،
وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله سَابِقًا خبر الْكَوْن، وَقَوله
بالحقيقي حَالا، وعَلى اعْتِبَار الحكم صلَة لسابقا (وَالْأول)
أَي كَون الْمَعْنى الْمجَازِي (آيلا إِلَيْهِ) أَي إِلَى
الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ (بعده) أَي بعد اعْتِبَار الحكم (وَإِن
كَانَ) أَي تحقق الْمَعْنى (الْحَقِيقِيّ حَال التَّكَلُّم)
بِالْجُمْلَةِ الْمُشْتَملَة على هَذَا الْمجَاز (كقتلت
قَتِيلا، وَإِنَّمَا لم يكن) هَذَا (حَقِيقَة لِأَن المُرَاد)
قتلت (حبا) يصير قَتِيلا بعد الْقَتْل، فَكَانَ مجَازًا
بِاعْتِبَار أَوله بعد الْقَتْل إِلَى الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ،
ثمَّ ظَاهر هَذَا الْكَلَام أَنه لَا بُد من الصيرورة إِلَيْهِ
فَلَا يَكْتَفِي بِمُجَرَّد توهمها، وَبِه جزم كثير. وَقَالَ
بَعضهم يَكْفِي توهمها، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَكفى) فِي
مجَاز الأول (توهمه) أَي الأول إِلَيْهِ (وَإِن لم يكن) أَي
وَإِن لم يتَحَقَّق الأول إِلَيْهِ (كعصرت خمرًا فأريقت فِي
الْحَال، وَكَونه) أَي الْحَقِيقِيّ الَّذِي يؤول إِلَيْهِ
ثَانِيًا (لَهُ) أَي للمعنى الْمجَازِي ثبوتا (بِالْقُوَّةِ)
حَاصله (الاستعداد) أَي كَون الْمَعْنى الْمجَازِي مستعدا
لحُصُول الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ لَهُ (فيساوي) هَذَا الْكَوْن
الْمعِين بالاستعداد (الأول على) سَبِيل (التَّوَهُّم) على
قَول من يَكْتَفِي بِهِ، إِذْ لَا يلْزم من مُجَرّد الاستعداد
الْحُصُول والمناقشة بِأَن توهم إتصاف الشَّيْء بالشَّيْء لَا
يسْتَلْزم استعداده فِي نفس الْأَمر لَا يلائم هَذَا الْمقَام
(وعَلى اعْتِبَار حَقِيقَة الْحُصُول لَا) يُسَاوِي الاستعداد
الأول: بل الاستعداد أَعم (فَهُوَ) أَي اعْتِبَار تحقق
الصيرورة إِلَيْهِ فِي الأول (أولى) لِأَنَّهُ من العلاقات
وَالْأَصْل فِيهَا عدم الِاتِّحَاد (وَيصرف الْمِثَال) أَي
عصرت خمرًا فأريقت فِي الْحَال (للاستعداد) لَا للْأولِ
لوُجُود التَّوَهُّم فِيهِ، دون التحقق (والمجاورة) وَهَذِه
هِيَ العلاقة الْخَامِسَة (وَمِنْهَا) أَي من الْمُجَاورَة
(الْجُزْئِيَّة للمنتفى عرفا بانتفائه) أَي كَون الشَّيْء
جُزْءا للشَّيْء الَّذِي يَنْتَفِي عرفا بِانْتِفَاء ذَلِك
الْجُزْء، وَإِنَّمَا قَالَ عرفا، لِأَن انْتِفَاء الْمركب من
الشَّيْء وَغَيره بِانْتِفَاء ذَلِك الشَّيْء ضرورى غير أَنه
لَا يُقَال عرفا بِانْتِفَاء بعض الْأَجْزَاء انْتَفَى ذَلِك
الشىء كَمَا إِذا انْتَفَى ظفر زيد مثلا لَا يُقَال انْتَفَى
زيد عرفا (كالرقبة) فَإِنَّهَا جُزْء للذات وَهِي تَنْتفِي
بانتفائها، فَيجوز ذكرهَا وَإِرَادَة
(2/7)
الذَّات كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى -
{فَتَحْرِير رَقَبَة} - (لَا الظفر) أَي وَلَيْسَ الظفر
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذَّات كَذَلِك لما ذكر فَلَا يَصح
إِطْلَاقه عَلَيْهَا (بِخِلَاف) اسْتِعْمَال (الْكل فِي
الْجُزْء) فَإِنَّهُ يَصح مُطلقًا، وَلَا يشْتَرط فِيهِ أَن
يكون الْجُزْء بِهَذِهِ المثابة (وَمِنْه) أَي من إِطْلَاق
اسْم الْكل على الْجُزْء (الْعَام لفرده) أَي ذكر الْعَام
لإِرَادَة فَرد مِنْهُ كَقَوْلِه تَعَالَى {الَّذين قَالَ
لَهُم النَّاس} بِنَاء على أَن المُرَاد بِالنَّاسِ نعيم بن
مَسْعُود الْأَشْجَعِيّ كَمَا ذكره ابْن عبد الْبر عَن
طَائِفَة من الْمُفَسّرين وَابْن سعد فِي الطَّبَقَات وَجزم
بِهِ السُّهيْلي، وَمَا قيل من أَنه من بَاب الْكُلِّي والجزئي
لَا من بَاب الْكل والجزء مَدْفُوع بِمَا ذكر فِي أول مبَاحث
الْعَام (و) مِنْهُ (قلبه) أَي إِطْلَاق فَرد من الْعَام على
الْعَام نَحْو (علمت نفس) فَإِن المُرَاد كل نفس (والذهنية)
أَي وَمن الْمُجَاورَة الْمُجَاورَة الْجُزْئِيَّة الذهنية
(كالمقيد على الْمُطلق كالمشفر) بِكَسْر الْمِيم، وَهُوَ شفة
الْبَعِير (على الشّفة مُطلقًا ولاجتماع الاعتبارين)
التَّشْبِيه والمجاورة الذهنية من حَيْثُ الْإِطْلَاق
وَالتَّقْيِيد (صَحَّ) إِطْلَاق المشفر على شفة الْإِنْسَان
(اسْتِعَارَة) إِذا قصد تشبيهها بمشفر الْإِبِل فِي الْغَلَط
كَمَا صَحَّ أَن يكون مجَازًا مُرْسلا من بَاب إِطْلَاق
الْمُقَيد على الْمُطلق (وَقَلبه) أَي إِطْلَاق الْمُطلق على
الْمُقَيد (وَالْمرَاد أَن يُرَاد خُصُوص الشَّخْص) كزيد (باسم
الْمُطلق) كَرجل (وَهُوَ) أَي القَوْل بِأَن هَذَا مجَاز لبَعض
الْمُتَأَخِّرين (مستحدث، والغلط) فِيهِ جَاءَ (من ظن) أَن
المُرَاد بِوُقُوع (الِاسْتِعْمَال فِيمَا وضع لَهُ) وُقُوعه
(فِي نفس الْمُسَمّى) الْكُلِّي (لَا) فِي (أَفْرَاده)
فاستعماله فِي فَرد الْمُسَمّى من حَيْثُ الخصوصية الشخصية
اسْتِعْمَال فِيمَا وضع لَهُ مَعَ زِيَادَة أَمر آخر، وَهُوَ
الشَّخْص والمركب مِمَّا وضع لَهُ وَغَيره مُغَاير لما وضع
لَهُ، فَيكون مجَازًا (ويلزمهم أَن أَنا) حَال كَونه صادرا (من
مُتَكَلم خَاص وَهَذَا) حَال كَونه مُشْتَمِلًا (لمُعين مجَاز)
خبر أَن، لِأَن كلا مِنْهُمَا مَوْضُوع لِمَعْنى كلي فاستعماله
فِي جُزْء من حَيْثُ إِنَّه جُزْء اسْتِعْمَال فِي غير مَا وضع
لَهُ، وعَلى هَذَا رَأْي الْمُتَقَدِّمين وَأما على رَأْي
الْمُتَأَخِّرين فَهُوَ مَوْضُوع لكل وَاحِد من خصوصيات
الْمَفْهُوم الْكُلِّي فالوضع عَام لكَون آلَة مُلَاحظَة
الْأَشْخَاص مفهوما عَاما، والموضوع لَهُ خَاص على مَا حقق فِي
مَوْضِعه (وَكثير) مَعْطُوف على مَحل اسْم أَن الْمُتَقَدّم
الْمَبْنِيّ، وَذَلِكَ كَسَائِر الْمُضْمرَات والموصولات
(والاتفاق) أَي اتِّفَاق الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين (على
نَفْيه) أَي نفي كَون اسْتِعْمَال الْمَذْكُورَات فِي
الخصوصيات مجَازًا، أما فِي المبهمات على رَأْي
الْمُتَأَخِّرين فَظَاهر، وَأما على رَأْي غَيرهم فَلَمَّا
سيشير إِلَيْهِ بقوله (فَإِنَّمَا هُوَ) أَي اسْتِعْمَال
الْمُطلق فِي فَرد مِنْهُ (حَقِيقَة كَمَا ذكرنَا أول
الْبَحْث، و) من الْمُجَاورَة (كَونهمَا) أَي الْحَقِيقِيّ
والمجازي (عرضين فِي مَحل) وَاحِد (كالحياة للْعلم) أَي
المستعملة فِي الْعلم بِهَذِهِ العلاقة (أَو) كَونهمَا عرضين
(فِي محلين متشابهين ككلام السُّلْطَان) الْمُسْتَعْمل
(لكَلَام
(2/8)
وزيره) فَإِن مَحل الْكَلَامَيْنِ وَإِن لم
يَكُونَا متحدين: لكنهما متشابهان فِي نَفاذ الحكم وَغَيره
(أَو) كَونهمَا (جسمين فيهمَا) أَي فِي محلين متشابهين
(كالرواية للمزادة) وَهِي فِي الأَصْل اسْم للبعير الَّذِي
يحمل المزادة: أَي المزود الَّذِي يَجْعَل فِيهِ الزَّاد: أَي
الطَّعَام للسَّفر كَذَا ذكره الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ.
وَقَالَ السَّيِّد الشريف: والمزادة ظرف المَاء يستقى بِهِ على
الدَّابَّة الَّتِي تسمى راوية. قَالَ أَبُو عبيد: لَا تكون
المزادة إِلَّا من جلدين تفأم بجلد ثَالِث بَينهمَا لتتسع
وَجَمعهَا المزاود والمزايد، وَأما الظّرْف الَّذِي يَجْعَل
فِيهِ الزَّاد فَهُوَ المزود وَجمعه المزاود (وكونهما) أَي
الْحَقِيقِيّ والمجازي (متلازمين ذهنا) بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ
(كالسبب للمسبب) نَحْو: رعينا الْغَيْث مرَادا بِهِ النَّبَات
الَّذِي سَببه الْغَيْث (وَقَلبه) أَي إِطْلَاق اسْم
الْمُسَبّب على السَّبَب (وَشَرطه) أَي شَرط قلبه (عِنْد
الْحَنَفِيَّة الِاخْتِصَاص) أَي اخْتِصَاص الْمُسَبّب
بِالسَّبَبِ (كإطلاق الْمَوْت على الْمَرَض) المهلك (والنبت
على الْغَيْث) والاختصاص بِحَسب الْأَغْلَب، فَلَا يرد أَن
الْمَوْت قد يَقع بِدُونِ الْمَرَض والنبت قد ينْبت بِدُونِ
الْغَيْث (والملزوم على اللَّازِم كنطقت الْحَال) أَي دلّت
فَإِن النُّطْق ملزوم الدَّالَّة وَقَلبه كشد الْإِزَار
الاعتزال النِّسَاء كَقَوْلِه:
(قوم إِذا حَاربُوا شدو مآزرهم ... دون النِّسَاء وَلَو باتت
باطهار)
(أَو) متلازمين (خَارِجا: كالغائط على الفضلات) لِأَن
الْغَائِط وَهُوَ الْمَكَان المنخفض من الأَرْض مِمَّا يقْصد
عَادَة لإزالتها (وَهُوَ) أَي إِطْلَاق الْغَائِط عَلَيْهَا
(الْمحل) أَي إِطْلَاق الْمحل (على الْحَال، وَقَلبه) أَي
الْحَال على الْمحل كَقَوْلِه تَعَالَى - {وَأما الَّذين
ابْيَضَّتْ وُجُوههم فَفِي رَحْمَة الله} - الَّتِي هِيَ
الْجنَّة الَّتِي تحل فِيهَا الرَّحْمَة (وأدرج فِي) التجاور
(الذهْنِي أحد المتقابلين فِي الآخر) فَإِن بَينهمَا مجاورة
فِي الْجنان، حَتَّى أَن الذِّهْن ينْتَقل من مُلَاحظَة
السوَاد مثلا إِلَى الْبيَاض (وَمنع) الإدراج الْمَذْكُور
(بامتناع إِطْلَاق الْأَب على الابْن) مَعَ أَن بَينهمَا
تقَابل التضايف ومجاورة فِي الْوُجُود ذهنا وخارجا (وَإِنَّمَا
هُوَ) أَي إِطْلَاق أحد المتقابلين على الآخر (من قبيل
الِاسْتِعَارَة بتنزيل التضاد منزلَة التناسب لتمليح) أَي
إتْيَان بِمَا فِيهِ ملاحة وظرافة (أَو تهكم) أَي سخرية
واستهزاء (أَو تفاؤل كالشجاع على الجبان) فَإِنَّهُ إِن كَانَ
الْغَرَض مِنْهُ مُجَرّد الملاحة، لَا السخرية فتمليح،
وَإِلَّا فتهكم (والبصير على الْأَعْمَى) وَهُوَ صَالح
للْكُلّ، وَالْفرق بَينهمَا بِحَسب الْمقَام (أَو) متلازمين
(لفظا) بِمَعْنى إِذا ذكر الْمَوْضُوع لَهُ معبرا عَنهُ باسمه
ذكر الْمَعْنى الْمجَازِي معبرا عَنهُ باسم الْمَوْضُوع لَهُ
غَالِبا على سَبِيل المشاكلة، فَيكون بَين اللَّفْظَيْنِ تلازم
والتغاير بَينهمَا اعتباري بِاعْتِبَار الْمُسْتَعْمل فِيهِ
كَقَوْلِه تَعَالَى {وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة} أطلق
السَّيئَة على الْجَزَاء مَعَ أَنه حسن لوُقُوعه فِي صحبتهَا،
وَقد يُقَال إِنَّمَا سمى جزاؤها سَيِّئَة لِأَنَّهُ يسوء من
ينزل بِهِ، فعلى
(2/9)
هَذَا لَيْسَ مِمَّا نَحن فِيهِ (وَمَا ذكر
من) كَون (الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان من العلاقة مُنْتَفٍ) لما
مر من أَنه حَقِيقَة (وَالْمجَاز) أَي إِطْلَاق لفظ الْمجَاز
(فِي متعلقهما) أَي الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان (مجَاز) لعدم
اسْتِعْمَاله فِي غير مَا وضع لَهُ، والعلاقة المشابهة فِي
التَّعَدِّي من أَمر أُصَلِّي إِلَى غير أُصَلِّي (ويجمعها)
أَي العلاقات (قَول فَخر الْإِسْلَام اتِّصَال) بَينهمَا
(صُورَة أَو معنى) لِأَن كل مَوْجُود لَهُ صُورَة وَمعنى، لَا
ثَالِث لَهما والعلاقة اتِّصَال: وَهُوَ إِمَّا بَين
الصُّورَتَيْنِ وَإِمَّا بَين الْمَعْنيين (زَاد) فَخر
الْإِسْلَام فِي نُسْخَة (فِي الصورى) أَي قَالَ بعد قَوْله
اتِّصَال صُورَة (لَا تدخله شُبْهَة الِاتِّحَاد) بَين طرفِي
الِاتِّصَال (فَانْدفع) بِهَذَا (لُزُوم إِطْلَاق بعض
الْأَعْضَاء على بعض) فَإِن الِاتِّصَال بَينهمَا تدخله
شُبْهَة الِاتِّحَاد بِاعْتِبَار الصُّورَة الاجتماعية، حَتَّى
يُقَال للمجموع شخص وَاحِد (وَلم يحققوا علاقَة التغليب) .
قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: وَأما بَيَان مجازية
التغليب والعلاقة فِيهِ وَأَنه من أَي أَنْوَاعه فَمَا لم أر
أحدا حام حوله (ولعلها) أَي العلاقة (فِي العمرين) لأبي بكر
وَعمر (المشابهة سيرة) فِيمَا يتَعَلَّق بخلافة النُّبُوَّة
(وخصوص الْمُغَلب) أَي تعْيين كَون الْمُغَلب اسْم عمر مَعَ
أَن العلاقة الْمَذْكُورَة لَا تعين أحد الاسمين بِخُصُوصِهِ
للتغليب (للخفة) فَإِن لفظ عمر أخف من لفظ أبي بكر (وَهُوَ)
أَي تَغْلِيب لفظ عمر على لفظ أبي بكر (عكس التَّشْبِيه) فَإِن
شَأْن التَّشْبِيه أَن يُغير اسْم مَا هُوَ أَعلَى فِي وَجه
التَّشَبُّه عَمَّا هُوَ أدنى فِيهِ (و) العلاقة (فِي القمرين
الإضاءة، وَالْخُصُوص) أَي وخصوص الْمُغَلب وَهُوَ تَخْصِيص
لفظ الْقَمَر، فَإِن كَانَ لفظ الْقَمَر أخف (للتذكير) فَإِن
الْقَمَر مُذَكّر وَالشَّمْس مؤنث (منكوسا) أَي معكوسا
بِالنّظرِ إِلَى التَّشْبِيه فَإِن الشَّمْس هِيَ الْمُشبه
بِهِ (وَأما الخافقان فَلَا تَغْلِيب) فِيهِ بِنَاء (على أَنه)
أَي الخافق مَوْضُوع (للضدين وَقد نقل) كَونه لَهما. قَالَ
ابْن السّكيت: الخافقان أفقا الْمشرق وَالْمغْرب لِأَن
اللَّيْل وَالنَّهَار يخفقان فيهمَا: أَي يضطربان وَهُوَ معنى
مَا قيل هما الهوا آن المحيطان بجانبي الأَرْض جَمِيعًا.
وَقَالَ الْأَصْمَعِي: هما طرفا السَّمَاء وَالْأَرْض، وَأما
من جعل الخافق حَقِيقَة فِي الْمغرب، من خَفَقت النُّجُوم إِذا
غَابَتْ، لِأَنَّهُ تحقق مِنْهُ الْكَوَاكِب تلمع فقد غلب
أَحدهمَا على الآخر.
(تَنْبِيه: يُقَال) أَي يُطلق (الْحَقِيقَة وَالْمجَاز على غير
الْمُفْرد بالاشتراك الْعرفِيّ، فعلى الْإِسْنَاد) أَي
فَيُقَال عَلَيْهِ (عِنْد قوم) كصاحب التَّلْخِيص (وعَلى
الْكَلَام على) اصْطِلَاح (الْأَكْثَر) مِنْهُم الشَّيْخ عبد
القاهر والسكاكي (وَهُوَ) أَي إطلاقهما على الْكَلَام (أقرب)
من إطلاقهما على الْإِسْنَاد، وَيَأْتِي وَجهه (فالحقيقة
الْجُمْلَة الَّتِي أسْند فِيهَا الْفِعْل أَو مَعْنَاهُ) من
الْمصدر وَاسم الْفَاعِل وَالْمَفْعُول وَالصّفة المشبهة،
وَاسم التَّفْضِيل والظرف (إِلَى مَا) أَي شَيْء (هُوَ) أَي
الْفِعْل أَو مَعْنَاهُ (لَهُ) أَي لذَلِك الشَّيْء: كالفاعل
فِيمَا بني لَهُ وَالْمَفْعُول فِيمَا بني لَهُ، وَمعنى كَونه
أَن يكون
(2/10)
مَعْنَاهُ قَائِما بِهِ ووصفا لَهُ وَحقه
أَن يسند إِلَيْهِ سَوَاء كَانَ بِاخْتِيَارِهِ كضرب أَولا
كمات (عِنْد الْمُتَكَلّم) مُتَعَلق لَهُ: أَي فِي اعْتِقَاده
وَزَادُوا على هَذَا قيد فِي الظَّاهِر ليدْخل فِيهِ مَا يفهم
من كَلَام ظَاهر كَلَامه أَي اعْتِقَاده أَنه لَهُ، وَلَيْسَ
فِي نفس الْأَمر اعْتِقَاده كَذَلِك كَمَا دخل بقوله عِنْد
الْمُتَكَلّم مَا لَيْسَ لَهُ فِي نفس الْأَمر، لكنه لَهُ
عِنْد الْمُتَكَلّم، وَعند المُصَنّف رَحمَه الله أَنه لَا
حَاجَة إِلَى زِيَادَة هَذَا الْقَيْد وَلذَا قَالَ (وَلَا
حَاجَة إِلَيّ فِي الظَّاهِر لِأَن الْمُعَرّف) على صِيغَة
الْمَجْهُول (الْحَقِيقَة فِي نَفسهَا) يَعْنِي الْمَذْكُور
فِي التَّعْرِيف بِدُونِ قيد فِي الظَّاهِر كَاف فِي تَصْوِير
مَاهِيَّة الْحَقِيقَة من حَيْثُ هِيَ، وَإِنَّمَا الْحَاجة
إِلَى الْقَيْد الْمَذْكُور فِي الحكم بِأَن الْإِسْنَاد
الَّذِي دلّ عَلَيْهِ كَلَام الْمُتَكَلّم هَل هُوَ مُعْتَقد
الْمُتَكَلّم ليتَحَقَّق هُنَاكَ فَرد من الْحَقِيقَة،
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (ثمَّ الحكم بوجودها) أَي
الْحَقِيقَة (بدليله) أَي الْوُجُود فشيء آخر (غير ذَلِك) أَي
غير الْحَقِيقَة فِي نَفسهَا، وَيلْزم من هَذَا أَنه إِذا ظهر
لنا من ظَاهر حَال الْمُتَكَلّم أَن الْفِعْل لهَذَا الْفَاعِل
فِي اعْتِقَاده وَلَيْسَ كَذَلِك فِي نفس الْأَمر لم يتَحَقَّق
هُنَاكَ فَرد الْحَقِيقَة فِي نفس الْأَمر، وَإِن كَانَ فِي
ظننا أَنه تحقق ويلتزمه المُصَنّف رَحمَه الله، لكنه بَقِي
شَيْء: وَهُوَ أَن نَحْو زيد إِنْسَان جسم خَارج، مَعَ أَن
ظَاهر كَلَام الشَّيْخ عبد القاهر والسكاكي أَنه حَقِيقَة لَا
تدخل فِي التَّعْرِيف، وَذهب صَاحب التَّلْخِيص إِلَى أَنه
لَيْسَ بِحَقِيقَة وَلَا مجَاز (وَالْمجَاز) الْجُمْلَة
الَّتِي أسْند فِيهَا الْفِعْل أَو مَعْنَاهُ (إِلَى غَيره)
أَي غير مَا هُوَ لَهُ عِنْد الْمُتَكَلّم (لمشابهة الملابسة)
بَين الْفِعْل أَو مَعْنَاهُ، وَبَين غير مَا هُوَ لَهُ:
يَعْنِي ينزل غير مَا هُوَ لَهُ فِي مَوضِع مَا هُوَ لَهُ
لِكَوْنِهِمَا متشاركين فِي معنى الملابسة: يَعْنِي كَمَا أَن
الْفِعْل أَو مَا فِي مَعْنَاهُ ملابس لما هُوَ لَهُ كَذَلِك
ملابس لذَلِك الْغَيْر (أَو الْإِسْنَاد كَذَلِك) مَعْطُوف على
قَوْله الْجُمْلَة الخ: أَي الْحَقِيقَة أما أَن تفسر
بِالْجُمْلَةِ الْمَذْكُورَة، وَإِمَّا أَن تفسر بِإِسْنَاد
الْفِعْل أَو مَعْنَاهُ إِلَى مَا هُوَ لَهُ عِنْد
الْمُتَكَلّم، وعَلى هَذَا الْقيَاس تَعْرِيف الْمجَاز
(وَالْأَحْسَن فيهمَا) أَي فِي تعريفي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز
أَن يُقَال (مركب) نسب فِيهِ أَمر إِلَى مَا هُوَ لَهُ عِنْد
المتكل، أَو إِلَى غير مَا هُوَ لَهُ عِنْده لمشابهة الملابسة
(وَنسبَة ليدْخل) الْمركب (الإضافي) فِي نَحْو (إنبات الرّبيع)
فَإِنَّهُ لَا يدْخل فِي تعريفهم لعدم الْإِسْنَاد فِيهِ،
وَمِنْه - شقَاق بَينهمَا} - ومكر اللَّيْل وَالنَّهَار،
وَذَلِكَ لشمُول النِّسْبَة التَّامَّة وَغير التَّامَّة
بِخِلَاف الْإِسْنَاد، وَإِنَّمَا قَالَ الْأَحْسَن، لجَوَاز
سهل الْإِسْنَاد على الْمَعْنى الْأَعَمّ وَإِن كَانَ خلاف
الظَّاهِر، وَأَيْضًا لَا مساحة فِي الِاصْطِلَاح، وَزَاد
السكاكي فِي تَعْرِيف الْمجَاز قَوْله بِضَرْب من التَّأْوِيل
لِئَلَّا ينْتَقض بِمَا إِذا قصد الْمُتَكَلّم صُدُور الْكَذِب
عَنهُ فيسند إِلَى غير مَا هُوَ لَهُ عِنْده من غير مُلَاحظَة
الملابسة الْمَذْكُورَة فَإِنَّهُ لَيْسَ بمجاز، وَالْمُصَنّف
رَحمَه الله أخرجه بقوله لمشابهته الملابسة وَلَا يخفى أَنه
غير دَاخل فِي الْحَقِيقَة أَيْضا فَيبقى وَاسِطَة بَينهمَا
(ويسميان) أَي هَذِه الْحَقِيقَة وَهَذَا الْمجَاز (عقليين)
لِأَن
(2/11)
الْحَاكِم بِأَنَّهُ ثَابت فِي مَحَله أَو
مجَاز عَنهُ إِنَّمَا هُوَ الْعقل لَا الْوَضع كَمَا فِي
اللغوين (وَوجه الأقربية) أَي أقربية إِطْلَاق الْحَقِيقَة
وَالْمجَاز على الْكَلَام من إطلاقهما على الْإِسْنَاد
(اسْتِقْرَار أَنه) أَي الْوَصْف بهما (للفظ) يَعْنِي قد
اسْتَقر فِي الأذهان أَنَّهُمَا من أَوْصَاف اللَّفْظ
(والمركب) بِاعْتِبَار هَيئته النوعية (مَوْضُوع للتركيبي) أَي
للمعنى التركيبي وضعا (نوعيا) لِأَن الْمَوْضُوع والموضوع لَهُ
لَو حظا فِي هَذَا الْوَضع: يَعْنِي أَنه كلي (بدل أَفْرَاده)
يَعْنِي أَن الْمركب الْمَذْكُور كلي، وكل مركب خَاص فَرد من
أَفْرَاده وَكَذَلِكَ الْمَعْنى التركيبي، وَالْمَقْصُود وضع
كل مركب خَاص بِإِزَاءِ معنى تركيبي خَاص، وتفصيل هَذِه
الأوضاع غير مُمكن، فَجعل آلَة مُلَاحظَة الخصوصيات عنوان
الْمركب الْكُلِّي وَآلَة مُلَاحظَة الْمعَانِي التركيبية
عنوانا آخر مثله، فوضعوا ذَلِك لأفراد هَذَا دفْعَة وَاحِدَة،
فَصَارَ هَذَا الْوَضع الْكُلِّي الإجمالي بدل وضع الْأَفْرَاد
للإفراد تَفْصِيلًا (بِلَا قرينَة) مُتَعَلق بِالْوَضْعِ
الْمَذْكُور: أَي وضع الْمركب الْمَذْكُور للدلالة على
الْمَعْنى التركيبي بِنَفسِهِ بِلَا قرينَة، وَفِي نُسْخَة
الشَّارِح تدل إِفْرَاده بِلَا قرينَة من الدّلَالَة وَهُوَ
الأوفق بِمَا سبق، فالمجاز مُتَعَلق بِالدّلَالَةِ (فَهِيَ)
أَي تِلْكَ المركبات من المستعملة فِيمَا وضعت لَهَا بِلَا
قرينَة (حقائق فَإِذا اسْتعْمل) الْمركب (فِيمَا) أَي فِي معنى
غير مَا وضع لَهُ حَال كَونه متلبسا (بهَا) أَي بِالْقَرِينَةِ
(فمجاز) أَي فَذَلِك الْمركب مجَاز (و) يُسمى (الْأَوَّلَانِ)
أَي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي الْمُفْرد (لغويين تعميما للغة
فِي الْعرف) بِأَن يُرَاد بهَا معنى عَام يتَحَقَّق فِي عرف
أَرْبَاب الْعَرَبيَّة وَغَيرهم أَو الْمَعْنى أَن التَّعْمِيم
إِنَّمَا هُوَ فِي الْعرف (وتوصف النِّسْبَة بهما) أَي
بِالْحَقِيقَةِ وَالْمجَاز فَيُقَال: نِسْبَة حَقِيقَة وَنسبَة
مجَاز (وتنسب) النِّسْبَة إِلَيْهِمَا، فَيُقَال نِسْبَة
حَقِيقِيَّة وَنسبَة مجازية (لنسبتها) أَي لأجل نِسْبَة
النِّسْبَة (إِلَى الْحَقِيقَة وَالْمجَاز) لَا يظْهر وَجه
لوضع الْمظهر مَوضِع الْمُضمر إِلَّا أَن يُقَال: المُرَاد
بهما هَهُنَا غير مَا أُرِيد بهما أَولا: أَي الثَّابِت فِي
مَحَله والمجاوز عَنهُ فَيكون نِسْبَة النِّسْبَة إِلَيْهِمَا
من قبيل نِسْبَة الْأَخَص إِلَى الْأَعَمّ (واستبعاده) قَالَ
الشَّارِح: أَي الْمجَاز الْعقلِيّ والأولي: أَي وصف
النِّسْبَة بهما (باتحاد جِهَة الْإِسْنَاد) كَمَا ذكره ابْن
الْحَاجِب من أَنه لَيْسَ للإسناد جهتان: جِهَة الْحَقِيقَة،
وجهة الْمجَاز كالأسد، وَالْمجَاز لَا يتَحَقَّق إِلَّا عِنْد
اخْتِلَاف الْجِهَتَيْنِ، وَفِي الشَّرْح العضدي: فَإِن قلت
فقد قَالَ عبد القاهر فِي نَحْو أحياني اكتحالي بطلعتك: أَن
الْمجَاز فِي الْإِسْنَاد فَإِن موجد الشرور هُوَ الله قُلْنَا
هَذَا بعيد لِاتِّحَاد جِهَة الْإِسْنَاد، فَإِنَّهُ لَا فرق
فِي اللُّغَة بَين قَوْلك سرني رؤيتك، وَمَات زيد وَضرب
عَمْرو، فَإِن جِهَة الْإِسْنَاد وَاحِدَة لَا يخْطر بالبال
عِنْد الِاسْتِعْمَال غَيرهَا. وَقَالَ الْمُحَقق
التَّفْتَازَانِيّ فِي حَاشِيَة عَلَيْهِ فِي منع كَون
أَمْثَال هَذِه الصُّور من قبيل الْمجَاز إِلَّا بِاعْتِبَار
الْمُفْردَات، وَهَذَا حق فِي مثل: شابت لمة اللَّيْل، لِأَن
اللمة مجَاز عَن سَواد أَجزَاء اللَّيْل، والشيب الْبيَاض
فِيهِ
(2/12)
بِخِلَاف قَامَت الْحَرْب على سَاق،
فَإِنَّهُ تَمْثِيل لحَال الْحَرْب بِحَال من يقوم على سَاقه
لَا يقْعد وَلَا مجَاز فِي شَيْء من مفرداته وَبِالْجُمْلَةِ
المركبات مَوْضُوعَة بِإِزَاءِ مَعَانِيهَا التركيبة وضعا
نوعيا بِحَيْثُ يدل عَلَيْهَا بِلَا قرينَة، فَإِن اسْتعْملت
فِيهَا فحقائق وَإِلَّا فمجازات، وَهَذَا غير الْإِسْنَاد
الْمجَازِي الَّذِي يَقُول بِهِ عبد القاهر وَمن تبعه من
الْمُحَقِّقين، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْء من اسْتِعْمَال
اللَّفْظ فِي غير مَا وضع لَهُ، بل مَعْنَاهُ أَن حق الْفِعْل
بِحكم الْعقل أَن يسند إِلَى مَا هُوَ لَهُ فإسناده إِلَى غير
مَا هُوَ لَهُ مجَاز عَقْلِي واتحاد جِهَة الْإِسْنَاد بِحَسب
الْوَضع، واللغة لَا يُنَافِي ذَلِك وَإِنَّمَا يُنَافِيهِ
اتِّحَاد جِهَته بِحَسب الْعقل وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن
إِسْنَاد الْفِعْل إِلَى مَا هُوَ متصف بِهِ محلا لَهُ فِي
الْمَبْنِيّ للْفَاعِل ومتعلقا لَهُ فِي الْمَبْنِيّ
للْمَفْعُول فَمَا يَقْتَضِيهِ الْعقل ويرتضيه، وَفِي غير
ذَلِك مِمَّا يأباه إِلَّا بِتَأْوِيل، وَلِهَذَا قَالَ
الشَّارِح الْمُحَقق وَالَّذِي يزِيل الْوَهم بِالْكُلِّيَّةِ
أَن يَجْعَل الْفِعْل مجَازًا وضعيا عَمَّا يَصح عِنْد الْعقل
إِسْنَاده إِلَى الْفَاعِل الْمَذْكُور: وَهُوَ التَّسَبُّب
العادي فَيكون أنبت مجَازًا عَن تسبب فِي الإنبات، وَصَامَ عَن
تسبب فِي الصَّوْم إِلَى غير ذَلِك، وَهَذَا مُشكل فِيمَا
أسْند إِلَى الْمصدر مثل جد جده، وَبِالْجُمْلَةِ كَلَام
المُصَنّف فِي هَذَا الْمقَام يدل على قصر بَاعه فِي علم
الْبَيَان انْتهى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (بعيد إِذْ لَا
يمْنَع اتحاده) أَي الْإِسْنَاد (بِحَسب الْوَضع) اللّغَوِيّ
(انقسامه) أَي الْإِسْنَاد (عقلا إِلَى مَا هُوَ للمسند
إِلَيْهِ) فَيكون حَقِيقَة (و) إِلَى (مَا لَيْسَ لَهُ) أَي
للمسند إِلَيْهِ فَيكون مجَازًا (ثمَّ) لَا يمْنَع (وضع
الِاصْطِلَاح) كَذَلِك بِأَن يُسمى الْإِسْنَاد إِلَى مَا هُوَ
لَهُ حَقِيقَة، وَإِلَى غير مَا هُوَ لَهُ مجَازًا (والطرفان
أَي الْمسند والمسند إِلَيْهِ، أَو الْمُضَاف والمضاف إِلَيْهِ
فِي الْمجَاز الْعقلِيّ (حقيقان كأشاب الصَّغِير الْبَيْت) أَي
وأفنى الْكَبِير كرّ الْغَدَاة وَمر العشى، فَإِن كلا من
الإشابة والإفناء مُسْتَعْمل فِي حَقِيقَته (أَو مجازان
كأحياني اكتحالي بطلعتك) فَإِن المُرَاد بِالْإِحْيَاءِ:
السرُور وبالاكتحال الرُّؤْيَة (أَو أَحدهمَا) نَحْو أَحْيَا
الرّبيع الأَرْض، فَإِن المُرَاد بِالْإِحْيَاءِ الْمَعْنى
الْمجَازِي وَهُوَ تهييج القوى النامية فِيهَا وأحداث نضارتها
بالنبات كَمَا أَن الْحَيَاة صفة تَقْتَضِي الْحس وَالْحَرَكَة
وبالربيع حَقِيقَته وكسا الْبَحْر الْفَيَّاض الْكَعْبَة:
يَعْنِي الشَّخْص الْجواد وكسا مُسْتَعْمل فِي حَقِيقَته (وَقد
يرد) الْمجَاز الْعقلِيّ (إِلَى التَّجَوُّز بالمسند) حَال
كَونه مُسْتَعْملا (فِيمَا تصح نسبته) إِلَى الْمسند إِلَيْهِ
بِقَرِينَة صارفة عَن كَونه مُسْندًا إِلَى مَا هُوَ لَهُ
وقرينة مُعينَة لما اسْتعْمل فِيهِ مَا يَصح إِسْنَاده إِلَى
الْفَاعِل الْمَذْكُور لكَونه وَصفا لَهُ أَو مُتَعَلقا بِهِ
فِي نفس الْأَمر، والراد هُوَ ابْن الْحَاجِب (وَإِلَى كَون
الْمسند إِلَيْهِ اسْتِعَارَة بِالْكِنَايَةِ) مَعْطُوف على
قَوْله إِلَى التَّجَوُّز، وَالتَّقْدِير وَقد يرد الْمجَاز
الْعقلِيّ إِلَى كَون الْمسند إِلَيْهِ اسْتِعَارَة
بِالْكِنَايَةِ على مَا هُوَ مصطلح السكاكي، وَإِلَيْهِ
أَشَارَ بقوله (كالسكاكي) أَي كرد السكاكي (وَلَيْسَ) الرَّد
إِلَى كَونه اسْتِعَارَة بِالْكِنَايَةِ على اصْطِلَاحه مغنيا)
عَن الرَّاد شَيْئا فِيمَا هُوَ
(2/13)
بصدده من رد الْإِسْنَاد الْمجَازِي إِلَى
الْحَقِيقِيّ (لِأَنَّهَا) أَي الِاسْتِعَارَة بِالْكِنَايَةِ
عَن رَأْيه (إِرَادَة الْمُشبه بِهِ بِلَفْظ الْمُشبه) فِيهِ
مُسَامَحَة، وَالْمرَاد لفظ الْمُشبه المُرَاد بِهِ الْمُشبه
بِهِ (بادعائه) أَي بادعاء كَون الْمُشبه (من أَفْرَاده) أَي
الْمُشبه بِهِ فيدعي أَن اسْم الْمنية فِي أنشبت الْمنية
أظفارها اسْم للسبع مرادف لَهُ بِتَأْوِيل، وَهُوَ أَن الْمنية
يَدعِي دُخُولهَا فِي جنس السبَاع مُبَالغَة فِي التَّشْبِيه:
فَالْمُرَاد بِالنِّيَّةِ السَّبع بادعاء سبعيتها (فَلم يخرج)
الْإِسْنَاد الْمَذْكُور (عَن كَون الْإِسْنَاد إِلَى غير من
هُوَ لَهُ) عِنْد الْمُتَكَلّم إِلَى كَونه إِلَى من هُوَ
لَهُ: فَإِن نِسْبَة إنشاب الْأَظْفَار إِلَى الْمنية لَا تصير
نسبته إِلَى من هُوَ لَهُ بِمُجَرَّد أَن يَدعِي لَهَا
السبعية: لِأَن السَّبع الادعائي لَيْسَ بِسبع حَقِيقِيّ وَلَا
تصير نسبته إِلَى مَا هُوَ لَهُ إِلَّا بِكَوْن الْمنية سبعا
حَقِيقِيًّا، وَذَلِكَ محَال (وَقد يعْتَبر) الْمجَازِي
الْعقلِيّ (فِي الْهَيْئَة التركيبية الدَّالَّة على
التَّلَبُّس الفاعلي، وَلَا مجَاز فِي الْمُفْردَات) كَمَا نسب
إِلَى الشَّيْخ عبد القاهر، وَأنكر الْمُحَقق
التَّفْتَازَانِيّ أَن يكون قولا لأحد من عُلَمَاء الْبَيَان
اعْتِبَار الْمجَاز الْعقلِيّ فِيمَا ذكر إِنَّمَا كَانَ فِي
النِّسْبَة والمركب، وَهَهُنَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْحَقِيقَة
الْعَارِضَة على الْمركب الدَّالَّة على النِّسْبَة
الْقَائِمَة بَين الْفِعْل وَمَا قَامَ بِهِ من حَيْثُ أسْند
فِيهِ إِلَى غير مَا يَقْتَضِي الْعقل إِسْنَاده إِلَيْهِ
تَشْبِيها لَهُ بالفاعل الْحَقِيقِيّ، فَشبه تلبس الْغَيْر
الفاعلي بالتلبس الفاعلي (فَهُوَ) أَي الْمجَاز (اسْتِعَارَة
تمثيلية) وَهِي أَن يستعار الدَّال على هَيْئَة منتزعة من
أُمُور من تِلْكَ الْهَيْئَة لهيئة أُخْرَى منتزعة من أُمُور
أخر كَمَا إِذا شبهت هَيْئَة تردد الْمَعْنى فِي حكم بهيئة
تردد من قَامَ ليذْهب، وَقلت أَرَاك أَيهَا الْمُفْتِي تقدم
رجلا وتؤخر أُخْرَى لَيْسَ فِي شَيْء من هَذِه الْمُفْردَات
تجوز، وَإِنَّمَا وَقع التَّجَوُّز فِي مَجْمُوع الْمركب
الدَّال على الصُّورَة الأولى حَقِيقَة باستعارة للصورة
الثَّانِيَة مُبَالغَة فِي كَمَال مشابهة الْمُسْتَعَار لَهُ
بالمستعار مِنْهُ حَتَّى كَأَنَّهُ دخل تَحت جنسه فَسُمي باسمه
فَإِن قلت هَذَا يدل على أَن التَّجَوُّز إِنَّمَا هُوَ فِي
اللَّفْظ الْمركب، وَالْكَلَام فِي اعْتِبَار الْمجَاز للهيئة
التركيبية الدَّال على التَّلَبُّس الفاعلي بِأَن يستعار
للتلبس الْغَيْر الفاعلي قلت مَا ذَكرْنَاهُ إِنَّمَا هُوَ
تَفْسِير للاستعارة التمثيلية على مَا ذكره الْقَوْم
وَالْمُصَنّف أَرَادَ إِدْخَال الْمجَاز فِي الْهَيْئَة
التركيبية تحتهَا: إِذْ الدَّال فِي الْمركب الْمَذْكُور
بِالْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُوَ الْهَيْئَة الْعَارِضَة على
مَجْمُوع مفرداتها، والتلبس الفاعلي هَيْئَة منتزعة من أُمُور،
وَكَذَا التَّلَبُّس الْغَيْر الفاعلي فَيصدق عَلَيْهِ أَنه
اسْتِعَارَة الدَّال على هَيْئَة لأخرى فَافْهَم (وَلم يقولوه)
أَي عُلَمَاء الْبَيَان بِاعْتِبَار الْمجَاز الْعقلِيّ فِي
الْهَيْئَة الْمَذْكُورَة (هُنَا) أَي فِي مَحل النزاع الَّذِي
ذكر فِيهِ هَذِه الْوُجُوه هُنَا، نَحْو: أنبت الرّبيع البقل
وَالْمعْنَى: لم يقل عُلَمَاء الْأُصُول هَذَا الِاعْتِبَار
فِي هَذَا الْبَحْث (وَلَيْسَ) هَذَا الِاعْتِبَار (بِبَعِيد)
كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ
(فَإِنَّمَا هِيَ) أَي هَذِه الإرادات المجازية (اعتبارات)
وتصرفات عقلية للمتكلم (قد
(2/14)
يَصح الْكل فِي مَادَّة) وَاحِدَة (وَقد
لَا) يَصح الْكل فِي مَادَّة وَاحِدَة: بل يَصح الْبَعْض دون
الْبَعْض (فَلَا حجر) فِي اعْتِبَارهَا عِنْد وجود مَا يصحح
ذَلِك، وَمن ثمَّة اعْتبر صَاحب الْكَشَّاف التَّجَوُّز فِي
قَوْله تَعَالَى - {ختم الله على قُلُوبهم} - من أَرْبَعَة
أوجه.
مسئلة
(لَا خلاف أَن) الْأَسْمَاء (المستعملة لأهل الشَّرْع من نَحْو
الصَّلَاة وَالزَّكَاة) فِي غير مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّة
(حقائق شَرْعِيَّة يتَبَادَر مِنْهَا مَا علم) لَهَا من
مَعَانِيهَا الشَّرْعِيَّة (بِلَا قرينَة) سَوَاء كَانَ ذَلِك
لمناسبة بَين الشَّرْعِيّ واللغوي فَيكون مَنْقُولًا، أَو لَا
فَيكون مَوْضُوعا مُبْتَدأ (بل) الْخلاف (فِي أَنَّهَا) أَي
الْأَسْمَاء المستعملة لأهل الشَّرْع فِي مَعَانِيهَا حَقِيقَة
(عرفية للفقهاء) بسب وضعهم إِيَّاهَا لتِلْك الْمعَانِي،
فَهِيَ فِي تخاطبهم تدل عَلَيْهَا بِلَا قرينَة، وَأما
الشَّارِع فَإِنَّمَا استعملها فِيهَا مجَازًا عَن مَعَانِيهَا
اللُّغَوِيَّة بمعونة الْقَرَائِن فَلَا تحمل عَلَيْهَا إِلَّا
بِقَرِينَة (أَو) حَقِيقَة شَرْعِيَّة (بِوَضْع الشَّارِع)
حَتَّى تدل فِي كَلَامه على تِلْكَ الْمعَانِي بِلَا قرينَة
(فالجمهور) أَي قَالَ جُمْهُور الْأُصُولِيِّينَ الْوَاقِع
هُوَ (الثَّانِي) وَهُوَ أَنَّهَا حَقِيقَة شَرْعِيَّة بِوَضْع
الشَّارِع (فَعَلَيهِ) أَي فعلى الْمَعْنى الشَّرْعِيّ (يحمل
كَلَامه) أَي الشَّارِع إِذا وَقعت مُجَرّدَة عَن الْقَرَائِن
(وَالْقَاضِي أَبُو بكر) الْوَاقِع هُوَ (الأول) أَي أَنَّهَا
حَقِيقَة عرفية للفقهاء لَا للشارع (فعلى اللّغَوِيّ) يحمل
كَلَام الشَّارِع إِذا لم يكن صَارف عَنهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ
بقوله (إِلَّا بِقَرِينَة) صارفة عَن اللّغَوِيّ إِلَى
الشَّرْعِيّ. قَالَ الشَّارِح: قَالَ المُصَنّف فَإِن قلت
كَيفَ يتَفَرَّع الْحمل على الْمَعْنى اللّغَوِيّ الْحَقِيقِيّ
على كَونهَا مجازات قُلْنَا: مَعْنَاهُ أَنَّهَا مجازات عِنْد
وجود الْقَرَائِن، وَيحمل على اللّغَوِيّ عِنْد عَدمه انْتهى
قلت بَيَان الْمَتْن مغن عَن هَذَا الإطناب، وَقيل مُرَاده
أَنَّهَا تسْتَعْمل فِي الدُّعَاء، ثمَّ شَرط فِيهِ
الْأَفْعَال الرُّكُوع وَالسُّجُود وَغَيرهمَا فَتكون خَارِجَة
عَن الصَّلَاة شرطا وَلَا يخفى بعده (وَفِيه) أَي فِيمَا ذهب
إِلَيْهِ القَاضِي (نظر لِأَن كَونهَا) أَي الصَّلَاة مثلا
مَوْضُوعَة (للأفعال) الْمَعْلُومَة شرعا (فِي عهد رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يقبل التشكيك، وَأشهر) مَعْطُوف
على قَوْله لَا يقبل فَهُوَ خبر أَن: يَعْنِي أَن أحد
الْأَمريْنِ مُتَحَقق بِلَا شُبْهَة: أما الْعلم بِكَوْنِهَا
للصَّلَاة بِوَضْع الشَّارِع، وَإِمَّا بِكَوْنِهَا مجَازًا
فِي الْأَفْعَال أشهر من الْحَقِيقَة فِي زَمَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (وهم) أَي القَاضِي وَالْجُمْهُور (يقدمونه)
أَي الْمجَاز الْأَشْهر من الْحَقِيقَة (على الْحَقِيقَة)
فَكيف يحمل على اللّغَوِيّ فِي كَلَام الشَّارِع عِنْد
الْقَرِينَة (فَمَا قيل) قَائِله الْبَيْضَاوِيّ (الْحق
أَنَّهَا مجازات) لغوية (اشتهرت يَعْنِي فِي لفظ الشَّارِع)
لَا مَوْضُوعَات مُبتَدأَة لَيْسَ قولا
(2/15)
آخر: بل هُوَ (مَذْهَب القَاضِي) بِعَيْنِه
كَمَا ذكره الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: إِذْ لَا شكّ فِي
حُصُول الاشتهار بعد تَجْوِيز الشَّارِع (وَقَول فَخر
الْإِسْلَام) وَالْقَاضِي ابي زيد وشمس الْأَئِمَّة
السَّرخسِيّ (بِأَنَّهَا) أَي الصَّلَاة (اسْم للدُّعَاء، سمي
بهَا عبَادَة مَعْلُومَة) مجَازًا (لما أَنَّهَا) أَي
الصَّلَاة (شرعت للذّكر) أَي لذكر الله تَعَالَى بنعوت جَلَاله
وصفات كَمَاله قَالَ الله تَعَالَى - {أقِم الصَّلَاة لذكري} -
أَي لتذكرني فِيهَا لاشتمالها على الْأَذْكَار الْوَارِدَة فِي
أَرْكَانهَا فسميت الْعِبَادَة الْمَعْلُومَة بهَا مجَازًا من
إِطْلَاق اسْم الْجُزْء على الْكل (يُرِيد) كَونهَا (مجَازًا
لغويا هجرت حقائقها: أَي مَعَانِيهَا الْحَقِيقِيَّة لُغَة)
فَلَيْسَ مذهبا آخر كالبديع) أَي كَمَا يدل عَلَيْهِ كَلَام
صَاحب البديع (لنا) على أَنَّهَا حَقِيقَة شَرْعِيَّة بِوَضْع
الشَّارِع (الْقطع بفهم الصَّحَابَة قبل حُدُوث الاصطلاحات فِي
زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ظرف لفهم الصَّحَابَة ومفعوله
(ذَلِك) أَي الْمَعْنى الشَّرْعِيّ لَهَا (وَهُوَ) أَي فهمهم
ذَلِك (فَرعه) أَي فرع الْوَضع لَهَا (نعم لَا بُد أَولا) أَي
فِي أول خطاب الشَّارِع لمن هُوَ عَالم بِالْوَضْعِ اللّغَوِيّ
دون الشَّرْعِيّ (من نصب قرينَة النَّقْل) عَن الْمَعْنى
اللّغَوِيّ إِلَى الشَّرْعِيّ دفعا لتبادر اللّغَوِيّ (فمدار
التَّوْجِيه) فِي مَحل الِاشْتِبَاه (على أَنه إِذا لزم
تَقْدِير قرينَة غير اللّغَوِيّ) على تَقْدِير النَّقْل
وَتَقْدِير قرينَة الْمجَاز على تَقْدِير عدم النَّقْل،
فَإِنَّهُ لَا بُد من وجود الْقَرِينَة على الْوَجْهَيْنِ
(فَهَل الأولى) فِي هَذِه الْقَرِينَة (تقديرها) واعتبارها
(قرينَة تَعْرِيف النَّقْل) وتثبيته (أَو) تقديرها قرينَة
تَعْرِيف (الْمجَاز) وتعيينه (وَالْأَوْجه الأول) أَي تقديرها
قرينَة النَّقْل على اللّغَوِيّ إِلَى الشَّرْعِيّ كَمَا هُوَ
قَول الْجُمْهُور (إِذْ علم استمراره) أَي الشَّارِع (على
قَصده) أَي الشَّرْعِيّ (من اللَّفْظ أبدا إِلَّا لدَلِيل)
وقرينة صارفة عَن الشَّرْعِيّ إِلَى غَيره، واستمرار الْقَصْد
الْمَذْكُور أَمارَة نسخ إِرَادَة الأول: وَهُوَ معنى النَّقْل
(وَالِاسْتِدْلَال) للمختار كَمَا فِي الْمُخْتَصر والبديع
(بِالْقطعِ بِأَنَّهَا) فِي الشَّرْع مَوْضُوعَة (للركعات
وَهُوَ) أَي الْقطع بِأَنَّهَا لَهَا فِي الشَّرْع هُوَ
(الْحَقِيقَة) أَي دَلِيل الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة (لَا
يُفِيد) الْمَطْلُوب (لجَوَاز) كَونهَا فِي الأَصْل مجَازًا
فِيهَا، ثمَّ (طروه) أَي الْقطع بذلك (بالشهرة) أَي بشهرة
التَّجَوُّز بهَا للشرعي، فَإِن الْمجَاز إِذا شاع يصير
الْمَعْنى الْمجَازِي بِحَيْثُ يفهم بِلَا قرينَة فَيصير
حَقِيقَة (أَو بِوَضْع أهل الشَّرْع) وهم الْفُقَهَاء
إِيَّاهَا لَهَا (قَالُوا) أَي القَاضِي وموافقوه اذا أمكن عدم
النَّقْل تعين وَأمكن) عدم النَّقْل هَهُنَا (باعبارها) أى
الصَّلَاة مثلا بَاقِيَة (فِي اللُّغَوِيَّة والزيادات)
الَّتِي جَاءَت من قبل الشَّرْع على اللُّغَوِيَّة (شُرُوط
اعْتِبَار الْمَعْنى شرعا وَهَذَا) الدَّلِيل جَار (على غير
مَا حررنا عَنهُ) أَي القَاضِي من أَنَّهَا مجَاز أشهر من
الْحَقِيقَة اللُّغَوِيَّة (مخترع باختراع أَنه) أَي القَاضِي
(قَائِل بِأَنَّهَا) مستعملة (فِي حقائقها اللُّغَوِيَّة)
وَتقدم النّظر فِيهِ وَذكر الْأَبْهَرِيّ أَن للْقَاضِي
قَوْلَيْنِ: أَحدهمَا مَا حَرَّره المُصَنّف، وَالْآخر هَذَا
وَعَن الإِمَام أَنه
(2/16)
قَالَ: وَأما القَاضِي فاستمر على لجاج
ظَاهر فَقَالَ: الصَّلَاة الدُّعَاء والمسمى بهَا فِي الشَّرْع
هُوَ الدُّعَاء لَكِن إِنَّمَا يعْتَبر عِنْد وُقُوع أَفعَال
وأحوال، وطرد ذَلِك فِي الْأَلْفَاظ الَّتِي فِيهَا الْكَلَام
(وَأجِيب باستلزامه) أَي هَذَا القَوْل (عدم السُّقُوط)
للصَّلَاة الْمَفْرُوضَة عَن الْمُكَلف (بِلَا) قرينَة (دُعَاء
لافتراضه) أَي الدُّعَاء (بِالذَّاتِ و) باستلزامه (السُّقُوط)
بهَا عَن الذِّمَّة (بِفعل الشَّرْط) أَي بِمُجَرَّد أَن يفعل
الشَّرْط من غير فعل الرُّكْن (مطردا) أَي دَائِما (فِي) حق
(الْأَخْرَس الْمُنْفَرد) لصِحَّة صلَاته مَعَ انْتِفَاء
الْمَشْرُوط الَّذِي هُوَ الدُّعَاء وَإِنَّمَا قيد بالمنفرد،
لِأَنَّهُ إِذا كَانَ لَهُ إِمَام فدعاء الإِمَام دُعَاء لَهُ
وَمنع السُّبْكِيّ هَذَا بِأَن الدُّعَاء هُوَ الطّلب
الْقَائِم بِالنَّفسِ وَهُوَ يُوجد من الْأَخْرَس وَفِيه نظر،
إِذْ مُجَرّد الطّلب إِذا قَامَ بِنَفس شخص لم يصدر عَنهُ مَا
يدل عَلَيْهِ لَا يُقَال أَنه دُعَاء (ثمَّ لَا يَتَأَتَّى)
هَذَا التَّوْجِيه (فِي بَعْضهَا) أَي فِي بعض الْأَسْمَاء
الشَّرْعِيَّة كَالزَّكَاةِ، فَإِنَّهُ لُغَة النَّمَاء
وَالزِّيَادَة، وَشرعا تمْلِيك قدر مَخْصُوص من مَال مَخْصُوص
لشخص مَخْصُوص، وَلَا يُمكن أَن تحمل الزَّكَاة على النَّمَاء
وَيجْعَل الْمَذْكُور شرطا كَمَا لَا يخفى (قَالُوا) أَيْضا
(لَو نقلهَا) أَي الشَّارِع الْأَسْمَاء عَن الْمعَانِي
اللُّغَوِيَّة إِلَى الشَّرْعِيَّة (فهمها) أَي الْمعَانِي
المنقولة (لَهُم) أَي الصَّحَابَة لأَنهم كلفوا بهَا، والفهم
شَرط التَّكْلِيف (وَلَو وَقع) التفهيم (نقل) إِلَيْنَا لأننا
مكلفون بهَا أَيْضا (وَلزِمَ تواتره) أَي النَّقْل (عَادَة)
لتوفر الدَّوَاعِي عَلَيْهِ وَلم يُوجد وَإِلَّا لما وَقع
الْخلاف فِي النَّقْل (وَالْجَوَاب الْقطع بفهمهم) أَي
الصَّحَابَة الْمعَانِي الشَّرْعِيَّة من الْأَسْمَاء
الْمَذْكُورَة (كَمَا ذكرنَا وفهمنا) أَي وَالْقطع يفهمنا
تِلْكَ الْمعَانِي الشَّرْعِيَّة أَيْضا مِنْهَا (وَبعد حُصُول
الْمَقْصُود) وَهُوَ الْفَهم (لَا يلْزم تعْيين طَرِيقه) أَي
طَرِيق الْمَقْصُود من التفهيم قصدا بالعبارة وَنَحْوهَا
(وَلَو التزمناه) أَي تعْيين طَرِيقه (جَازَ) أَن يكون ذَلِك
التفهيم (بالترديد) أَي بطرِيق التّكْرَار (بالقرائن) عِنْد
سَماع تِلْكَ الْأَسْمَاء لَهُم: أَي للصحابة ثمَّ لنا مِنْهُم
(كالأطفال) يتعلمون اللُّغَات من غير تَصْرِيح لَهُم بِوَضْع
اللَّفْظ لمسماه، بل إِذا ردد اللَّفْظ وَكرر يفهمون مَعْنَاهُ
بِالْقَرِينَةِ ويحفظونه (أَو) أَن يكون (أَصله) أَي أصل
التفهيم (بإخباره) أَي الشَّارِع (ثمَّ اسْتغنى عَن إخبارهم)
أَي أَخْبَار الصَّحَابَة (لمن يليهم) مِمَّن تلقى عَنْهُم
(أَنه) أَي الشَّارِع (أخْبرهُم) أَي الصَّحَابَة فَقَوله ثمَّ
اسْتغنى على صِيغَة الْمَجْهُول، وَقَوله عَن أخبارهم قَائِم
مقَام فَاعله، وَقَوله من يليهم مفعول أَولا لأخبارهم، وَقَوله
أَنه أخْبرهُم مَفْعُوله الثَّانِي: يَعْنِي لَا يلْزم على
الصَّحَابَة أَن يخبروا من يليهم أَنه أخبرنَا الشَّارِع
بِوَضْع الْأَسْمَاء الْمَذْكُورَة لمعانيها الشَّرْعِيَّة،
وَذَلِكَ لِأَن من يليهم فَهموا من استعمالاتهم وَضعهَا كَمَا
يفهم الْأَطْفَال من غير أَن يُقَال لَهُم هَذَا مَوْضُوع لذا
أَو بأخبارهم بِالْوَضْعِ
(2/17)
من غير أَن يَقُولُوا أخبرنَا الشَّارِع
بِهِ، وَيُمكن أَن يناقش فِيهِ بِأَن شَأْن الصَّحَابَة
يَقْتَضِي أَن لَا يسكتوا عَن أَخْبَار الشَّارِع إيَّاهُم فِي
مثله، وَفِي قَوْله (لحُصُول الْقَصْد) إِشَارَة إِلَى دَفعه:
يَعْنِي أَن الْمَقْصد معرفَة الْوَضع سَوَاء حصلت بالأخبار
أَو بالقرائن كالأطفال (قَالُوا) أَي القَاضِي وَمن تبعه
ثَالِثا (لَو نقلت) الْأَسْمَاء عَن مَعَانِيهَا اللُّغَوِيَّة
إِلَى الشَّرْعِيَّة (كَانَت) الْأَسْمَاء المنقولة إِلَيْهَا
(غير عَرَبِيَّة لأَنهم) أَي الْعَرَب (لم يضعوها) على ذَلِك
التَّقْدِير، بل الشَّارِع (وَيلْزم أَن لَا يكون الْقُرْآن
عَرَبيا) لاشْتِمَاله على غير الْعَرَبِيّ، فَإِن الْمركب من
الْعَرَبِيّ وَغَيره لَيْسَ بعربي، وَقد قَالَ الله تَعَالَى -
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا} - (أُجِيب بِأَنَّهَا)
أَي الْأَسْمَاء المنقولة (عَرَبِيَّة إِذْ وضع الشَّارِع
لَهَا ينزلها) ويصيرها (مجازات لغوية) إِذا كَانَ التخاطب
بلغَة الْعَرَب فَإِن العلاقة بَين الْمَعْنى اللّغَوِيّ
والشرعي مَوْجُودَة: لِأَن النَّقْل يقتضيها (وَيَكْفِي فِي
الْعَرَبيَّة كَون اللَّفْظ مِنْهَا) أَي من الْأَلْفَاظ
الْمَوْضُوعَة للْعَرَب (و) كَون (الِاسْتِعْمَال على شَرطهَا)
أَي شَرط الْعَرَبيَّة بِأَن يكون الْمُسْتَعْمل فِيهِ إِمَّا
عين الْمَوْضُوع لَهُ، أَو مَا بَينه وَبَين الْمَوْضُوع لَهُ
نوع من العلاقات الْمُعْتَبرَة مَعَ وجود الْقَرِينَة الصارفة
والمعينة (وَلَو سلم) أَنه لَا يَكْفِي ذَلِك فِي كَونهَا
عَرَبِيَّة (لم يخل) كَونهَا غير عَرَبِيَّة (بعربيته) أَي
الْقُرْآن (إِمَّا لكَون الضَّمِير) فِي قَوْله إِنَّا
أَنزَلْنَاهُ (لَهُ) أَي لِلْقُرْآنِ (وَهُوَ) أَي الْقُرْآن
(مِمَّا يصدق الِاسْم) أَي اسْمه (على بعضه) أَي بعض الْقُرْآن
(ككله) أَي كَمَا يصدق على كُله (كالعسل) فَإِنَّهُ يصدق على
القلل مِنْهُ وَالْكثير حَتَّى لَو حلف لَا يقْرَأ الْقُرْآن
فَقَرَأَ جُزْء مِنْهُ حنث، فَيجوز أَن يُرَاد بالضمير بعض
الْقُرْآن، وَلَا ريب فِي عربيته (بِخِلَاف) نَحْو (الْمِائَة
والرغيف) مِمَّا لَا يُشَارك الْجُزْء الْكل فِي الْحَقِيقَة
وَالِاسْم: فَلَا تطلق الْمِائَة والرغيف على بعض مِنْهَا
(أَو) لكَون الضَّمِير (للسورة) بِاعْتِبَار الْمنزل، أَو
الْمَذْكُور، وَهَذَا إِنَّمَا يتم إِذا لم يكن فِي تِلْكَ
السُّورَة اسْم شَرْعِي (وَاعْلَم أَن الْمُعْتَزلَة سموا قسما
من) الْحَقَائِق (الشَّرْعِيَّة) حَقِيقَة (دينية وَهُوَ مَا
دلّ على الصِّفَات الْمُعْتَبرَة فِي الدّين وَعَدَمه) أَي عدم
الدّين (اتِّفَاقًا) أَي اعْتِبَار اتّفق عَلَيْهِ الْمذَاهب
(كالإيمان، وَالْكفْر، وَالْمُؤمن) وَالْكَافِر (بِخِلَاف
الْأَفْعَال) أَي مَا هِيَ من فروع الدّين كَمَا يتَعَلَّق
بالجوارح فَإِن فِي اعْتِبَارهَا فِي الدّين خلافًا
(كَالصَّلَاةِ والمصلى وَلَا مشاحة) فِي الِاصْطِلَاح (وَوجه
الْمُنَاسبَة) فِي تَسْمِيَة مَا ذكر دينية (أَن الْإِيمَان)
على قَوْلهم (الدّين لِأَنَّهُ) أَي الدّين اسْم (لمجموع
التَّصْدِيق الْخَاص) بِكُل مَا علم مَجِيئه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بِهِ من عِنْد الله ضَرُورَة (مَعَ المأمورات والمنهيات
لقَوْله تَعَالَى - {وَذَلِكَ دين الْقيمَة} - بعد ذكر
الْأَعْمَال) أَي قَوْله تَعَالَى - {ويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا
الزَّكَاة} - بعد قَوْله - {وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله
مُخلصين} -
(2/18)
فَذَلِك إِشَارَة إِلَى الْمَذْكُور من
الْعِبَادَات إِجْمَالا وتفصيلا، فَإِن يعبدوا فِي تَأْوِيل
الْمصدر الْمُضَاف لتقدير أَن المصدرية بعد لَام كي، والمصدر
الْمُضَاف إِلَى الْمعرفَة يُفِيد الْعُمُوم، ويقيموا
الصَّلَاة وَمَا بعده من عطف الْخَاص على الْعَام لزِيَادَة
الاهتمام فَيكون جَمِيع الْعِبَادَات الْوَاجِبَة دين الْملَّة
المستقيمة، وَكَانَ يُوجب هَذَا أَن لَا يكون الدّين إِلَّا
الْأَعْمَال، غير أَن الْإِجْمَاع على اعْتِبَار الْإِيمَان
فِي حَقِيقَة الدّين، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (والاتفاق على
اعْتِبَار التَّصْدِيق فِي مُسَمَّاهُ) أَي الدّين بِخِلَاف
الْأَفْعَال (فَنَاسَبَ تَمْيِيز الِاسْم الْمَوْضُوع لَهُ)
أَي للتصديق الْخَاص (شرعا بالدينية وَهَذِه) الْمُنَاسبَة
(على رَأْيهمْ) أَي الْمُعْتَزلَة (فِي اعْتِبَار الْأَعْمَال
جُزْء مَفْهُومه) أَي الْإِيمَان (وعَلى) رَأْي (الْخَوَارِج)
الْمُنَاسبَة فِي هَذِه التَّسْمِيَة (أظهر) مِنْهَا على رَأْي
الْمُعْتَزلَة لجعل الْمُعْتَزلَة مرتكب الْكَبِيرَة لَيْسَ
بِمُؤْمِن وَلَا كَافِر، وَجعل الْخَوَارِج مرتكبها كَافِرًا:
فَكلما زَاد اعْتِبَار الْعَمَل فِي الْإِيمَان زَاد
الِاحْتِيَاج إِلَى التَّمْيِيز (وَلَا يلْزم من نفي ذَلِك)
أَي كَون الْأَعْمَال جزم مَفْهُوم الْإِيمَان كَمَا هُوَ قَول
أَصْحَابنَا (نَفيهَا) أَي الْحَقِيقَة الدِّينِيَّة:
لِأَنَّهُ لَا يَنْفِي مَا يصلح مُنَاسبَة بِوَضْع
الِاصْطِلَاح (إِذْ يَكْفِي) فِي وَجه التَّسْمِيَة (أَنَّهَا)
أَي الدِّينِيَّة (اسْم لأصل الدّين وأساسه أَعنِي التَّصْدِيق
فَظهر أَن الْكَلَام فِي ذَلِك) أَي فِي نفي كَون الْأَعْمَال
من الْإِيمَان (مَعَ أَنه) أَي الْكَلَام فِي ذَلِك (يخرج) من
فن الْأُصُول (إِلَى فن آخر) أَي علم الْكَلَام (وَلَا
يتَوَقَّف عَلَيْهِ) أَي على ذَلِك (مَطْلُوب أصولي: بل
اصطلاحي و) أَن الْكَلَام فِي ذَلِك كَلَام (فِي غَرَض سهل
وَهُوَ إِثْبَات مُنَاسبَة تَسْمِيَة اصطلاحية لَا يُفِيد
نَفيهَا: فعلى الْمُحَقق تَركه) . قَالَ الشَّارِح وَفِي هَذَا
تَعْرِيض بِابْن الْحَاجِب قلت لَو كَانَ التَّعْرِيض بِهِ
بترك التَّعْرِيض لَكَانَ
تَتِمَّة
(كَمَا يقدم) الْمَعْنى (الشَّرْعِيّ فِي لِسَانه) أَي فِي
خطاب أهل الشَّرْع (على مَا سلف) أَي اللّغَوِيّ (كَذَا
الْعرفِيّ فِي لسانهم) أَي أهل الْعرف خَاصّا كَانَ أَو عَاما
تقدم على اللّغَوِيّ (فَلَو حلف لَا يَأْكُل بيضًا كَانَ)
الْمَحْمُول عَلَيْهِ (ذَا القشر) فِي الْمَبْسُوط فَهُوَ على
بيض الطير من الدَّجَاج والأوز وَغَيرهمَا، وَلَا يدْخل فِيهِ
بيض السّمك إِلَّا أَن ينويه: لأَنا نعلم أَنه لَا يُرَاد بِهِ
بيض كل شَيْء فَإِن بيض الدُّود لَا يدْخل فِيهِ: فَيحمل على
مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الْبيض ويؤكل عَادَة (فَيدْخل
النعام) أَي بيضه تَفْرِيع على كَون الْبيض مَحْمُولا على ذِي
القشر، وَذَاكَ مُفَرع على تَقْدِيم الْعرفِيّ: فَعلم أَن
المُرَاد دُخُوله فِيمَا إِذا كَانَ عرف خطاب الْحَالِف بِحَسب
معتادهم فِي الاطلاقات مَا يعم بيض النعام، وَأما إِذا كَانَ
الْعرف مَا هُوَ أخص من ذَلِك فَلَا يدْخل فِيهِ فيدور ذَلِك
مَعَ التعارف وَلَا شكّ أَنه مِمَّا يخْتَلف فيختلف الْجَواب
باختلافه (أَو) لَا يَأْكُل
(2/19)
(طبيخنا فَمَا طبخ من اللَّحْم فِي المَاء
ومرقه) إِذا كَانَ الْمُتَعَارف بَينهم مَا ذكر بِحَيْثُ لَا
يفهم فِي إِطْلَاقهم غَيره بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ
الْمُتَعَارف مَا هُوَ أَعم من ذَلِك فَإِنَّهُ يَحْنَث على
ذَلِك التَّقْدِير بِأَكْل كل مَا يُؤْكَل عَادَة فِي الطبائخ
سَوَاء كَانَ من اللَّحْم (أَو) غَيره أَو لَا يَأْكُل (رَأْسا
فَمَا يكبس) فِي التنانير عرف الْحَالِف وَيُبَاع مشويا من
الرُّءُوس (بقرًا وَغنما) عِنْد أبي حنيفَة آخر لِأَنَّهُمَا
الْمُتَعَارف فِي زَمَنه آخر لَا غير، وإبلا أَيْضا عِنْده
أَولا إِذْ كَانَ متعارفا لأهل الْكُوفَة ثمَّ تَرَكُوهُ
(وَلَو تعورف الْغنم فَقَط تعين) محلا لإِطْلَاق الرَّأْس
بِاعْتِبَار ذَلِك الْعرف: فَالْخِلَاف خلاف زمَان لَا برهَان
(أَو) لَا يَأْكُل (شواء خص اللَّحْم) فَلَا يَحْنَث بالمشوي
من الْبيض والباذنجان وَغَيرهمَا: لِأَن الْمُتَعَارف مُخْتَصّ
بِهِ (وَقَول فَخر الْإِسْلَام) فِي تَوْجِيه ترك الْحَقِيقَة
بِالْعرْفِ (لِأَن الْكَلَام مَوْضُوع لاستعمال النَّاس
وحاجتهم فَيصير الْمجَاز باستعمالهم كالحقيقة يحمل على ذَلِك
الْمحمل) قَوْله يحمل الخ خبر الْمُبْتَدَأ لما بَين أَن
إِطْلَاق اللَّفْظ فِي الْإِيمَان يحمل على مَا هُوَ
الْمُتَعَارف فِي زمن الْحَالِف، لَا على مَا يَقْتَضِيهِ أصل
وَضعه أَفَادَ أَن فَخر الْإِسْلَام أَرَادَ بِمَا ذكر هَذَا
الْمَعْنى فَهُوَ مجَاز لغَوِيّ مهجور الْحَقِيقَة، فَصَارَ
حَقِيقَة عرفية، وَلَا يخفى أَن مجازية مَا ذكر بِاعْتِبَار
إِرَادَة بعض أَفْرَاد الْحَقِيقَة خَاصَّة بِمُوجب الْعرف.
مسئلة
(لَا شكّ أَن الْمَوْضُوع قبل الِاسْتِعْمَال لَيْسَ حَقِيقَة
وَلَا مجَازًا لانْتِفَاء جنسهما) أَي جنس تعريفي الْحَقِيقَة
وَالْمجَاز، وَهُوَ الْمُسْتَعْمل (وَلَا) شكّ أَيْضا (فِي عدم
استلزام الْحَقِيقَة مجَازًا) لجَوَاز أَن لَا يسْتَعْمل
اللَّفْظ فِي غير مَا وضع لَهُ (وَاخْتلف فِي قلبه) أَي
استلزام الْمجَاز الْحَقِيقَة (وَالأَصَح نَفْيه) أَي نفي قلبه
(وَيَكْفِي فِيهِ) أَي فِي نفى استلزامه إِيَّاهَا (تَجْوِيز
التَّجَوُّز بِهِ) أَي بِاللَّفْظِ لما يُنَاسِبه (بعد الْوَضع
قبل الِاسْتِعْمَال) لَهُ فِيمَا وضع لَهُ (لكِنهمْ استدلوا
بِوُقُوعِهِ) أى الْمجَاز وَلَا حَقِيقَة (بِنَحْوِ ثَابت لمة
اللَّيْل) إِذا ظهر فِيهِ تباشير الصُّبْح، فَإِن هَذَا مجَاز
لَا حَقِيقَة لَهُ (وَدفع) هَذَا الِاسْتِدْلَال (بِأَنَّهُ
مُشْتَرك الْإِلْزَام) يَعْنِي أَن الِاسْتِدْلَال فرع تحقق
الْمُسْتَعْمل فِيهِ، وَبِهَذَا الدَّلِيل يُمكن نفي الْوَضع
لِأَن مَا لَا تحقق لَهُ لَا يصلح لِأَن يوضع لَهُ، لِأَن
الْوَضع لمصْلحَة الِاسْتِعْمَال فَلَا يُمكن إِثْبَات مجَاز
بِدُونِ الْحَقِيقَة بِهَذَا الدَّلِيل، وَإِلَيْهِ أَشَارَ
بقوله (لاستلزامه) أَي الْمجَاز (وضعا) إِذْ الِاسْتِعْمَال
فِي غير مَا وضع لَهُ فرع تحقق الْوَضع، وَقد عرفت أَن
امْتنَاع الِاسْتِعْمَال لما ذكر يسْتَلْزم امْتنَاع الْوَضع،
ثمَّ أَفَادَ أَن نَحْو مَا ذكر لَا يصلح للاستدلال بِهِ فِي
مَحل النزاع بقوله (والاتفاق) على (أَن الْمركب لم يوضع)
(2/20)
وضعا (شخصيا وَالْكَلَام فِيهِ) أَي فِي
الْوَضع الشخصي (وَأَيْضًا إِن اعْتبر الْمجَاز فِيهِ) أَي فِي
شابت لمة اللَّيْل (فِي الْمُفْرد) أَي فِي شابت بِأَن أُرِيد
بالشيب حُدُوث بَيَاض الصُّبْح فِي آخر سَواد اللَّيْل، وَفِي
لمة بِأَن أُرِيد بهَا سَواد آخر اللَّيْل وَهُوَ الْغَلَس
(منعنَا عدم حَقِيقَة شابت أَو لمة) لاستعمالهما فِي الْمَعْنى
الْحَقِيقِيّ لَهَا من بَيَاض الشّعْر، وَالشعر المجاور على
شحمة الْأذن فِي غير هَذَا الْمركب (أَو) اعْتبر الْمجَاز
فِيهِ (فِي نسبتهما) أَي النِّسْبَة الإسنادية للشيب إِلَى
اللمة، وَالنِّسْبَة الإضافية للمة إِلَى اللَّيْل (فَلَيْسَ)
الْمجَاز فيهمَا (النزاع) لِأَنَّهُ مجَاز عَقْلِي، والنزاع
إِنَّمَا هُوَ فِي الْمجَاز فِي الْمُفْرد (وَأما منع
الثَّانِي) أَي الْمجَاز فِي النِّسْبَة بِأَن يُقَال: لَا
مجَاز فِي النِّسْبَة (لِاتِّحَاد جِهَة الْإِسْنَاد) كَمَا
سبق فِي تَنْبِيه قَول الْحَنَفِيَّة: وَالْمجَاز على غير
الْمُفْرد (فَغير وَاقع لما تقدم) هُنَاكَ وأوضحناه فَليُرَاجع
(وَأَيْضًا) وضع (الرَّحْمَن لمن لَهُ رقة الْقلب وَلم يُطلق)
إطلاقا (صَحِيحا إِلَّا عَلَيْهِ تَعَالَى) وَالله منزه عَن
الْوَصْف بهَا (فَلَزِمَ) أَن يكون إِطْلَاقه عَلَيْهِ
تَعَالَى (مجَازًا بِلَا حَقِيقَة بِخِلَاف قَوْلهم) أَي بني
حنفية فِي مُسَيْلمَة الْكذَّاب (رَحْمَن الْيَمَامَة) .
وَقَول شَاعِرهمْ:
(وَأَنت غيث الورى لَا زلت رحمانا ... )
فَإِنَّهُ لم يُطلق عَلَيْهِ إطلاقا صَحِيحا لمُخَالفَته
اللُّغَة إِذا انفق أَهلهَا أَن لَا يُطلق إِلَّا على الله
سُبْحَانَهُ، أوقعهم فِيهِ لحاجهم فِي الْكفْر (وَلِأَنَّهُم
لم يُرِيدُوا بِهِ) أَي بِلَفْظ رَحْمَن فِي إِطْلَاقه على
مُسَيْلمَة الْمَعْنى (الْحَقِيقِيّ من رقة الْقلب) بل
أَرَادوا أَن يثبتوا لَهُ مَا يخْتَص بالإله بعد مَا أثبتوا
لَهُ مَا يخْتَص بالأنبياء وَهُوَ النُّبُوَّة وَقد يُجَاب
عَنهُ بِأَنَّهُم لم يستعملوا الرَّحْمَن الْمُعَرّف
بِاللَّامِ، وَإِنَّمَا استعملوه مُعَرفا بِالْإِضَافَة من
رَحْمَن الْيَمَامَة، ومنكرا فِي لازلت رحمانا، ودعوانا فِي
الْمُعَرّف بِاللَّامِ (قَالُوا) أَي الملزمون (لَو لم
يسْتَلْزم) الْمجَاز الْحَقِيقَة (انْتَفَت فَائِدَة الْوَضع)
وَهِي الِاسْتِعْمَال فِيمَا وضع لَهُ (وَلَيْسَ) هَذَا
(بِشَيْء) يعْتد بِهِ (لِأَن التَّجَوُّز) بِاللَّفْظِ
(فَائِدَة لَا تستدعى غير الْوَضع) أَي تتَحَقَّق هَذِه
الْفَائِدَة بِمُجَرَّد الْوَضع، وَلَا تتَوَقَّف على
الِاسْتِعْمَال فِيمَا وضع لَهُ: فَإِذا كَانَت هَذِه
الْفَائِدَة حَاصِلَة بِمُجَرَّد الْوَضع كفى بِهِ فَائِدَة
للوضع وَالله أعلم.
مسئلة
(الْمجَاز وَاقع فِي اللُّغَة وَالْقُرْآن والْحَدِيث خلافًا
للاسفرايني فِي الأول) أَي اللُّغَة، وَحكى السُّبْكِيّ
النَّفْي لوُقُوعه مُطلقًا عَنهُ وَعَن الْفَارِسِي، وَحكى
الأسنوي عَنهُ وَعَن جمَاعَة (لِأَنَّهُ قد يُفْضِي إِلَى
الْإِخْلَال بغرض الْوَضع) وَهُوَ فهم الْمَعْنى: يَعْنِي
وُقُوعه يُفْضِي إِلَى الْإِخْلَال فِي الْجُمْلَة فِي بعض
الصُّور (لخفاء الْقَرِينَة) الدَّالَّة على الْمَعْنى
الْمجَازِي، وَمَا يُفْضِي إِلَى الْإِخْلَال لَا وُقُوع لَهُ
فِيمَا يقْصد بِهِ الإفادة
(2/21)
والاستفادة (وَهُوَ) أَي خِلَافه فِي
وُقُوعه (بعيد) لَا يشْتَبه وُقُوعه (على بعض المميزين) وَذكر
لفظ الْبَعْض الَّذِي يعم من لَهُ أدنى تَمْيِيز مُبَالغَة،
فَالْمَعْنى لَا يشْتَبه على من لَهُ أدنى تَمْيِيز وَلَا يصدر
عَنهُ (فضلا عَنهُ) أَي فضلا عَن صدوره عَن الْأُسْتَاذ أبي
إِسْحَاق، ثمَّ علل الْبعد بقوله (لِأَن الْقطع بِهِ) أَي
بِوُقُوع الْمجَاز فِي اللُّغَة (أثبت من أَن يُورد لَهُ
مِثَال) أَي الْقطع الْحَاصِل بِوُجُودِهِ بِدُونِ إِيرَاد
الْمِثَال لَهُ أثبت من الْقطع الْحَاصِل بِوُجُودِهِ بسب
إِيرَاد الْمِثَال أَو الْمَعْنى الْقطع بِهِ متجاوز عَن
إيرادا لمثال لكَونه مغنيا عَنهُ، فَإِن أفعل التَّفْضِيل
يلْزمه تجَاوز الْمفضل عَن الْمفضل عَلَيْهِ، وَذَلِكَ لكثرته
وَكَمَال ظُهُوره (وَيلْزمهُ) أَي يلْزم دَلِيل النَّافِي
(نفي) وُقُوع (الْإِجْمَال مُطلقًا) فِي اللُّغَة، وَالْكتاب،
وَالسّنة للإفضاء إِلَى الْإِخْلَال بفهم الْمَعْنى المُرَاد،
وَاللَّازِم مُنْتَفٍ (و) خلافًا (للظاهرية فِي الثَّانِي) أَي
الْقُرْآن. قَالَ الشَّارِح وَكَذَا فِي الثَّالِث إِلَّا
أَنهم غير مطبقين على إِنْكَار وُقُوعه فيهمَا، وَإِنَّمَا ذهب
إِلَيْهِ أَبُو بكر بن دَاوُد الْأَصْبَهَانِيّ الظَّاهِرِيّ
فِي طَائِفَة مِنْهُم (لِأَنَّهُ) أَي الْمجَاز (كذب لصدق
نقيضه) إِذْ يَصح أَن يُقَال لمن قَالَ للبليد أَنه حمَار
كذبت: إِذْ البليد لَيْسَ بِحِمَار (فيصدقان) أَي النقيضان
إِذا وَقع فِي الْقُرْآن، أما صدق الْكَلَام الْمُشْتَمل على
الْمجَاز فلاستحالة الْكَذِب فِي حق الله تَعَالَى، وَأما صدق
نقيضه فلصدق نفي مَدْلُول اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل مجَازًا
بِحَسب نفس الْأَمر (قُلْنَا جِهَة الصدْق مُخْتَلفَة) فمتعلق
الْإِثْبَات الْمَعْنى الْمجَازِي ومتعلق النَّفْي الْمَعْنى
الْحَقِيقِيّ. فزيد حمَار صَادِق من جِهَة الْمَعْنى
الْمجَازِي، وَزيد لَيْسَ بِحِمَار صَادِق من جِهَة الْمَعْنى
الْحَقِيقِيّ وَلَا مَحْذُور فِيهِ لما ذكر أَن الْمجَاز
صَادِق أَرَادَ أَن يُحَقّق منَاط صدقه فَقَالَ (وتحقيقي صدق
الْمجَاز التَّشْبِيه وَنَحْوه من العلاقة) فَإِذا صدق كَون
زيد شَبِيها بالأسد بِأَن يكون شبهه بِهِ متحققا فِي نفس
الْأَمر بِأَن يكون شجاعا صدق قَوْلنَا زيد أَسد، وَإِذا صدق
كَون زيد منعما عَلَيْك، صدق قَوْلك: لَهُ على يَد
(وَحِينَئِذٍ) أَي وَحين كَانَ منَاط صدق الْمجَاز صدق
التَّشْبِيه هِيَ مبناه ومآله (وَهُوَ) أَي الْمجَاز (أبلغ) من
الْحَقِيقَة لما فِيهِ من تصرف عَقْلِي لَيْسَ للْحَقِيقَة
مثله (وَقَوْلهمْ) أَي الظَّاهِرِيَّة (يلْزم) على تَقْدِير
وُقُوع الْمجَاز فِي كَلَامه تَعَالَى (وَصفه تَعَالَى
بالمتجوز) لِأَن من قَامَ بِهِ فعل اشتق لَهُ مِنْهُ اسْم
فَاعل وَاللَّازِم بَاطِل لِامْتِنَاع إِطْلَاقه عَلَيْهِ
تَعَالَى اتِّفَاقًا (قُلْنَا إِن) أدرتم لُزُومه (لُغَة
منعنَا بطلَان اللَّازِم) إِذْ لَا مَانع لَهُ مِنْهُ لُغَة
(أَو) أردتم لُزُومه (شرعا منعنَا الْمُلَازمَة) لِأَن كَونه
مَوْصُوفا بالْكلَام الْمُشْتَمل على الْمجَاز لَا يَقْتَضِي
صِحَة إِطْلَاق المتجوز عَلَيْهِ شرعا، لِأَن صِحَة إِطْلَاق
الِاسْم عَلَيْهِ مَشْرُوط بِأَن لَا يكون موهما لما لَا
يَلِيق بِهِ، وَلَفظ المتجوز يُوهم أَنه يتسمح ويتوسع فِيمَا
لَا يَنْبَغِي من الْأَفْعَال والأقوال، وَهُوَ نقص (وَلنَا
الله نور السَّمَوَات) فَإِن النُّور فِي الأَصْل: كَيْفيَّة
(2/22)
تدركها الْأَبْصَار أَولا وبواسطتها سَائِر
المبصرات كالكيفية الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة
المحاذية لَهما، وَالله سُبْحَانَهُ منزه عَن ذَلِك فَهُوَ على
التَّجَوُّز بِمَعْنى منور السَّمَوَات وَقد قرئَ بِهِ،
فَإِنَّهُ تَعَالَى نورها بالكواكب وَمَا يفِيض عَنْهَا من
الْأَنْوَار وبالملائكة والأنبياء إِذْ عَم النُّور، أَي
بِمَعْنى مدبرها، من قَوْلهم للرئيس الْفَائِق فِي
التَّدْبِير: نور الْقَوْم، لأَنهم يَهْتَدُونَ بِهِ فِي
الْأُمُور أَو موجدها: فَإِن النُّور ظَاهر بِذَاتِهِ مظهر
لغيره، وأصل الظُّهُور: هُوَ الْوُجُود كَمَا أَن أصل الخفاء
هُوَ الْعَدَم وَهُوَ تَعَالَى مَوْجُود بِذَاتِهِ موجد لما
عداهُ إِلَى غير ذَلِك (ومكر الله) لِأَن الْمَكْر فِي الأَصْل
يجلب بهَا مضرَّة الْغَيْر وَهُوَ منزه سُبْحَانَهُ عَنْهَا،
وَإِنَّمَا يسند إِلَيْهِ على سَبِيل الْمُقَابلَة والازدواج
(الله يستهزئ بهم) لِأَن الِاسْتِهْزَاء السخرية ينْسب
إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ مشاكلة، أَو اسْتِعَارَة لما ينزل
إِلَيْهِم من الحقارة والهوان الَّذِي هُوَ لَازم
الِاسْتِهْزَاء إِلَى غير ذَلِك (فاعتدوا عَلَيْهِ) بِمثل مَا
اعْتدى عَلَيْكُم (و) جَزَاء (سَيِّئَة سَيِّئَة مثلهَا)
وَلَيْسَ جَزَاء الاعتداء اعتداء، بل هُوَ عدل، وَلَا جَزَاء
السَّيئَة سَيِّئَة، فهما من إِطْلَاق اسْم أحد الضدين على
الآخر بِجَامِع الْمُجَاورَة فِي التخيل (وَكثير) مِمَّا لَا
يُحْصى عدده، فَلَا يَنْفَعهُمْ التَّأْوِيل فِي بعض
الْأَمْثِلَة، كَأَن يُقَال: النُّور حَقِيقَة هُوَ الظَّاهِر
فِي نَفسه الْمظهر لغيره، لَا الْعرض الْمَذْكُور فإطلاقه
عَلَيْهِ تَعَالَى حَقِيقَة، وَقَالَ الإِمَام الرَّازِيّ:
الْمَكْر إِيصَال الْمَكْرُوه خُفْيَة، والاستهزاء إِظْهَار
الْإِكْرَام وإخفاء الأهانة فَيجوز صدورهما مِنْهُ تَعَالَى،
وَقَوله - {أتتخذنا هزوا قَالَ أعوذ بِاللَّه أَن أكون من
الْجَاهِلين} - لَا يدل على أَن كل استهزاء جهل، والاعتداء
إِيقَاع الْفِعْل المؤلم، أَو هتك حرمه الشَّيْء، والسيئة مَا
يسوء من ينزل بِهِ، وَلَا مجَاز فِي شَيْء مِنْهَا، (وَأما
واسئل الْقرْيَة فَقيل) الْقرْيَة (حَقِيقَة) وَأمر بَنو
يَعْقُوب أباهم أَن يسْأَلهَا (فتجيبه) أَي الْقرْيَة بإنطاق
الله إِيَّاهَا، فَإِنَّهُ كَانَ زمَان النُّبُوَّة وخرق
العوائد، وَضعف بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَقع للنَّبِي عِنْد التحدي
وَإِظْهَار المعجزة، وَفِي غير ذَلِك لَا يَقع عَادَة وَإِن
أمكن (وَقد مناه) أَي بَيَان مَا يتَعَلَّق بِهِ وَأَن لفظ
الْقرْيَة (حَقِيقَة مَعَ حذف الْأَهْل) وَفِي قَوْلهم كنافيها
إِشْعَار بِأَن المُرَاد سُؤال الْأَهْل أَن جَمِيع الجمادات
مُتَسَاوِيَة فِي الشَّهَادَة عِنْد الْإِطْلَاق خرقا
للْعَادَة إِظْهَارًا لصدقهم (وَلَيْسَ كمثله شَيْء) لَيْسَ
(من مَحل النزاع) وَهُوَ مجَاز العلاقة لِأَنَّهُ من مجَاز
الزِّيَادَة، أَلا ترى إِلَى تَعْلِيلهم: أَي الظَّاهِرِيَّة
بِأَنَّهُ كذب، إِذْ لَا كذب فِي مجَاز الزِّيَادَة (وَقد
أُجِيب) أَيْضا من قبلهم بِغَيْر هَذَا، فَأُجِيب (تَارَة
بِأَنَّهُ) أَي لَيْسَ كمثله شَيْء لنفي التَّشْبِيه
(حَقِيقَة) فالكاف مستعملة فِي مفهومها الوضعي (والمثل يُقَال
لنَفسِهِ) أَي لنَفس الشَّيْء وذاته فَيُقَال (لَا يَنْبَغِي
لمثلك) كَذَا: أَي لَك، قَالَ الله تَعَالَى - {فَإِن آمنُوا}
- (بِمثل مَا آمنتم بِهِ) أَي بِمَا آمنتم بِهِ: وَهُوَ
الْقُرْآن وَدين الْإِسْلَام، فَالْمَعْنى لَيْسَ كذاته شَيْء
(وَتَمَامه) أَي تَمام هَذَا الْجَواب (باشتراك) لفظ (مثل)
بَين النَّفس والتشبيه
(2/23)
إِذْ لَا ريب فِي كَونه حَقِيقَة فِي
التَّشْبِيه، فَإِن كَانَ حَقِيقَة فِي النَّفس أَيْضا ثَبت
الِاشْتِرَاك (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن فِي النَّفس
حَقِيقَة بل كَانَ مجَازًا (ثَبت نقيض مطلوبهم) أَي
الظَّاهِرِيَّة، وَهُوَ وجود الْمجَاز فِي الْقُرْآن (وَهُوَ)
أَي الِاشْتِرَاك (مَمْنُوع) أَي غير وَاقع عَدمه وَالْمجَاز
أولى مِنْهُ (وَتارَة) بِأَن لَيْسَ كمثله شَيْء (حَقِيقَة)
على أَن الْكَاف بِمَعْنى مثل وكل مِنْهُمَا غير زَائِد
(إِمَّا لنفي مثل مثله وَيلْزمهُ) أَي وَيلْزم (نفي) مثل (مثله
وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يلْزمه (تنَاقض لِأَنَّهُ) تَعَالَى
(مثل مثله) تَوْضِيحه أَنه على تَقْدِير نفي مثل مثله لَو تحقق
مثله لزم اجْتِمَاع النقيضين: انْتِفَاء وجود مثل الْمثل،
وَوُجُود مثل الْمثل، أما الأول فَلِأَنَّهُ الْمَنْطُوق
الْمَدْلُول لقَوْله - {لَيْسَ كمثله} - وَأما الثَّانِي
فَلِأَنَّهُ مَوْجُود وَهُوَ مثل مثله الْمَفْرُوض وجوده
(وللزوم التَّنَاقُض) على تَقْدِير أَن لَا يلْزمه نفي مثله
(انْتَفَى ظُهُوره) أَي ظُهُور نفي مثل مثله) (فِي إِثْبَات
مثله) دفع لما قيل من أَنه يلْزم على تَقْدِير كَون الْكَاف
بِمَعْنى الْمثل إِثْبَات الْمثل من حَيْثُ دلَالَة اللَّفْظ
ظَاهر إِذْ لَا يَنْفِي عَادَة نَظِير الشَّيْء الا اذا كَانَ
ذَلِك الشىء مَعْلُوم الْوُجُود، وَإِنَّمَا جعل دلَالَته
ظَاهرا لَا نصا لجَوَاز عقلا نفى نَظِير الشىء مَعَ كَون ذَلِك
الشَّيْء مَعْدُوما (وَبِه) أَي بِلُزُوم التَّنَاقُض على
تَقْدِير وجود الْمثل مَعَ نفي الْمثل (ينْدَفع دَفعه) أَي دفع
هَذَا الْجَواب الْقَائِل أَن الْكَاف بِمَعْنى الْمثل،
وَلَيْسَ زَائِدا والدافع ابْن الْحَاجِب (باقتضائه) أَي
الْجَواب الْمَذْكُور: وَهُوَ صلَة الدّفع (إِثْبَات الْمثل
فِي مقَام نَفْيه) أَي نفي الْمثل (و) إِذْ قد عرفت أَن لُزُوم
التَّنَاقُض صرف عَن حمل التَّرْكِيب على إِثْبَات الْمثل بِهِ
ينْدَفع (ظُهُوره) أَي ظُهُور لَيْسَ كمثله على تَقْدِير كَون
الْكَاف بِمَعْنى الْمثل (فِيهِ) أَي فِي إِثْبَات الْمثل
(وَجعل هَذَا) الدّفع (مُرَتبا على الْجَواب الأول) كَون
الْمثل بِمَعْنى الذَّات على مَا وَقع فِي حَوَاشِي الْمُحَقق
التَّفْتَازَانِيّ (سَهْو) لِأَن نفي مثل ذَاته لَا يَقْتَضِي
إِثْبَات الْمثل فِي مقَام نَفْيه (وَأما لنفي شبه الْمثل)
مَعْطُوف على قَوْله: أما لنفي مثل مثله لَا فرق بَينهمَا
بِاعْتِبَار إِرَادَة الْمثل من الْكَاف لَكِن الثَّانِي
اعْتبر فِيهِ الْمَعْنى الكوني وَحَاصِله أَنه تَارَة ينْسب
إِلَى مثل الشَّيْء أَمر إِذا نظرت فِيهِ وجدته أليق انتسابا
إِلَى ذَلِك الشَّيْء فَيكون الحكم بِهِ على الْمثل كِنَايَة
عَن الحكم بِهِ على ذَلِك الشَّيْء كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ
بقوله (فينتفى الْمثل بِأولى) أَي بطرِيق أولى (كمثلك لَا
يبخل) فَإِن مثله من حَيْثُ أَنه مثله إِذا انْتَفَى عَنهُ
الْبُخْل كَانَ ذَاته أولى بانتفائه، وَهَهُنَا إِذا فرض لذاته
المقدسة نَظِير تَعَالَى شَأْنه كَانَ ذَلِك الْمَفْرُوض عديم
النظير، فَكيف يتَصَوَّر أَن لَا يكون هُوَ تَعَالَى عديم
النظير (وَلَا شكّ أَن اقْتِضَاء شبه صفته انْتِفَاء الْبُخْل)
إِنَّمَا أضَاف اقْتِضَاء انْتِفَاء الْبُخْل إِلَى شبه صفته،
لَا إِلَى شبهه كَمَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِر، لِأَن الْبُخْل
الْمَنْفِيّ عَن شبهه إِنَّمَا هُوَ مُقْتَضى صفة كَمَال فِي
ذَات الْمُشبه وَتلك الصّفة شَبيهَة صفة من قصد انْتِفَاء بخله
أَصَالَة فَافْهَم (أولى) خبر أَن (مِنْهُ)
(2/24)
أَي من قصد اقْتِضَاء شبه صفته انْتِفَاء
الْبُخْل (اقْتِضَاء صفته) انْتِفَاء الْبُخْل، وَقَوله
اقْتِضَاء فَاعل أولى، هَذَا على رَأْي بعض النُّحَاة، وَأما
على رَأْي الْأَكْثَر، فَالْخَبَر الْجُمْلَة اقْتِضَاء صفته
مُبْتَدأ وَأولى خَبره أَو الْعَكْس كَمَا ذهب إِلَيْهِ
سِيبَوَيْهٍ (لَكِن لَيْسَ مِنْهُ) أَي من بَاب مثلك لَا يبخل
(مَا نَحن فِيهِ من نفي مثل الْمثل) لينتفي الْمثل، كلمة من
لبَيَان الْمَوْصُول (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك
بِأَن يكون مَا نَحن فِيهِ من ذَلِك الْبَاب (لم يَصح نفي مثل
لِثَابِت) مُتَعَلق بِمثل الثَّانِي: أَي لشخص ثَابت لَهُ مثل
فَاعل ثَابت وَاحِد فضلا عَن الْأَكْثَر لكنه: أَي نفي مثل لما
هُوَ ثَابت (لَهُ مثل وَاحِد لكنه) أَي نفي مثل هُوَ لما ثَابت
لَهُ مثل (صَحِيح فَإِذا قيل لَيْسَ مثل مثل زيد أحد) اسْم
لَيْسَ قدم عَلَيْهِ خَبره (اقْتضى ثُبُوت مثل لزيد) وَلقَائِل
أَن يَقُول يجوز أَن يكون لَيْسَ كمثله من قبيل مثلك لَا يبخل
وَلَا يلْزم مِنْهُ عدم صِحَة نفي مَا ذكره لجَوَاز أَن
يسْتَعْمل لَيْسَ مثل مثله تَارَة لنفي الْمثل وَتارَة لنفي
مثل الْمثل مَعَ وجود الْمثل وَيتَعَيَّن كل مِنْهُمَا بِحَسب
الْقَرَائِن، فَفِي مثلك لَا يبخل الْعلم بِوُجُود الْمثل
حَاصِل، والقرينة دَالَّة على أَن المُرَاد نفي الْبُخْل
عَمَّن أضيف إِلَيْهِ الْمثل بطرِيق أولى، فَعِنْدَ
اسْتِعْمَال لَيْسَ كمثله إِن كَانَ الْعلم بِوُجُود الْمثل
حَاصِلا لم يكن المُرَاد نفي الْمثل بطرِيق أولى، وَإِن لم
يعلم وجود الْمثل وَكَانَ سوق الْكَلَام لنفي الْمثل كَانَ
المُرَاد نَفْيه بطرِيق أولى، نعم يتَّجه أَن يُقَال هَذَا
التَّأْوِيل وَإِن جَازَ على سَبِيل التَّكْلِيف، لَكِن
الْمُتَبَادر من اللَّفْظ نفي مثل الْمثل مَعَ وجود الْمثل
كَمَا لَا يخفى على من لَهُ ذوق الْعَرَبيَّة، وسيشير إِلَيْهِ
(وَصرف) مَا حققناه من أَن مُقْتَضى لَيْسَ مثل زيد ثُبُوت مثل
لزيد وَأَنه يسْتَلْزم ثُبُوت زيد أَيْضا (لُزُوم التَّنَاقُض)
اللَّازِم من نفي مثل مثله على مَا بَيناهُ (إِلَى نفي مثل)
آخر (غير زيد) أَي صرف مَا ذكر انصراف النَّفْي عَمَّا
يسْتَلْزم التَّنَاقُض من نفي مُطلق مثل الْمثل إِلَى نفي
الْمثل الْخَاص (فَلم يتحد مَحل النَّفْي وَالْإِثْبَات) فَمحل
النَّفْي مثل الْمثل الذى غير زيد، وَمحل الْإِثْبَات مثل
الْمثل الَّذِي هُوَ زيد، وَيحْتَمل أَن يكون لُزُوم
التَّنَاقُض فَاعل صرف، الْمَعْنى صَار لُزُوم التَّنَاقُض
الْمَذْكُور قرينَة صارفة لحمل النَّفْي عَن الْإِطْلَاق إِلَى
التَّخْصِيص (وَهُوَ) أَي الصّرْف الْمَذْكُور (أظهر من صرفه)
أَي من صرف لُزُوم التَّنَاقُض (السَّابِق) أَي الَّذِي سبق
ذكره القَوْل الْمَذْكُور، يَعْنِي لَيْسَ كمثله (عَن ظُهُوره)
أَي القَوْل الْمَذْكُور (فِي إِثْبَات الْمثل) إِلَى نفي
الْمثل مُطلقًا (لأسبقية هَذَا) أَي إِثْبَات الْمثل إِلَى
الْفَهم (من التَّرْكِيب) الْمَذْكُور غير أَن الصّرْف
السَّابِق بِهِ يفتح جَوَاب الظَّاهِرِيَّة وَهَذَا يُبطلهُ
كَمَا لَا يخفى (فَالْوَجْه ذَلِك الدّفع) أَي دفع دفع ابْن
الْحَاجِب كَون التَّرْكِيب لنفي مثل مثله وَيلْزمهُ نفي مثله
باقتضائه إِثْبَات الْمثل فِي مقَام نَفْيه بِجعْل لُزُوم
التَّنَاقُض قرينَة صارفة عَن ظُهُور التَّرْكِيب فِي إِثْبَات
الْمسند.
(2/25)
مسئلة
(اخْتلف فِي كَون الْمجَاز نقليا) فَقَائِل قَالَ لَيْسَ نقليا
وَآخر قَالَ نقلي، ثمَّ اخْتلفُوا (فَقيل) يشْتَرط النَّقْل
(فِي آحاده) فَلَا بُد فِي كل فَرد من الْمجَاز من نقل عَن
الْعَرَب أَنهم استعملوه فِي خُصُوص ذَلِك الْمَعْنى
الْمجَازِي (وَقيل) يشْتَرط (فِي نوع العلاقة) فَيشْتَرط فِي
كل مجَاز أَن ينْقل عَن الْعَرَب اعْتِبَار نوع علاقته
(وَهُوَ) أَي هَذَا القَوْل هُوَ (الْأَظْهر) وَمن قَالَ لَا
يشْتَرط ذَلِك قَالَ يَكْفِي وجود علاقَة مصححة للانتقال
عَمَّا وضع لَهُ إِلَى الْمَعْنى الْمجَازِي بمعاونة
الْقَرِينَة (فالشارط) للنَّقْل فِي نوع العلاقة يَقُول معنى
اشْتِرَاطه للعلاقة (أَن يَقُول) الْوَاضِع (مَا) أَي معنى
(بَينه وَبَين) معنى (آخر) وَهُوَ مَا وضع لَهُ اللَّفْظ
(اتِّصَال كَذَا) كِنَايَة عَن العلاقة (إِلَى آخِره) أَي أجزت
أَن يسْتَعْمل فِيهِ من غير احْتِيَاج إِلَى نقل آحاده،
والشارط للنَّقْل فِي الْآحَاد يشْتَرط سَمَاعه مِنْهُم فِي
عين كل صُورَة (وَالْمُطلق) للْجُوَاز من غير اشْتِرَاط نقل
فِي الْآحَاد وَلَا فِي النَّوْع يَقُول (الشَّرْط) فِي صِحَة
التَّجَوُّز أَن يكون (بعد وضع التَّجَوُّز) أَي بعد تعْيين
الْوَاضِع اللَّفْظ للاستعمال فِي غير مَا وضع لَهُ عِنْد
الْقَرِينَة الصارفة والمعينة (اتِّصَال) بَين المتجوز بِهِ
والمجوز عَنهُ (فِي ظَاهر) الْأَوْصَاف المختصة بالمتجوز
عَنهُ، فَحَيْثُ وجد لم يتَوَقَّف على غَيره (وعَلى النَّقْل)
أَي على القَوْل بِاشْتِرَاط النَّقْل نوعا (لَا بُد من الْعلم
بِوَضْع نوعها) أَي بِتَعْيِين الْوَاضِع اللَّفْظ للاستعمال
فِي غير مَا وضع لَهُ مِمَّا لَهُ نوع اتِّصَال بالموضوع لَهُ
من الْأَنْوَاع الْمُعْتَبرَة: وَإِلَّا لَكَانَ اسْتِعْمَال
اللَّفْظ فِي ذَلِك وضعا جَدِيدا أَو غير مُعْتَد بِهِ
(وَاسْتدلَّ) للمطلق بِأَنَّهُ (على التَّقْدِيرَيْنِ) أَي
تَقْدِير شَرط نقل الْآحَاد، وَتَقْدِير شَرط نقل الْأَنْوَاع
(لَو شَرط) أَحدهمَا (توقف أهل الْعَرَبيَّة) فِي كل تجوز على
التَّقْدِير الأول، وَفِي كل نوع من التَّجَوُّز على
التَّقْدِير الثَّانِي (وَلَا يتوقفون أَي فِي) أَحْدَاث
(الْآحَاد و) لَا فِي (أَحْدَاث أَنْوَاعهَا) أَي العلاقة،
وَمن ثمَّة لم يدونوا المجازات تدوينهم الْحَقَائِق (وَهُوَ)
أَي هَذَا الدَّلِيل (منتهض) أَي قَائِم ثَابت (فِي الأول) أَي
فِي عدم اشْتِرَاط النَّقْل فِي الْآحَاد (مَمْنُوع) بطلَان
(التَّالِي) أَي لَا نسلم عدم التَّوَقُّف (فِي الثَّانِي)
وَهُوَ عدم اشْتِرَاط النَّقْل فِي الْأَنْوَاع، تَقْرِيره
وَلَو اشْترط النَّقْل فِي الْأَنْوَاع لتوقفوا فِيهَا،
لكِنهمْ لَا يتوقفون، فاستثناء نقيض التَّالِي مَمْنُوع (وعَلى
الْآحَاد) أَي وَاسْتدلَّ على عدم اشْتِرَاط النَّقْل فِي
الْآحَاد بِأَنَّهُ (لَو شَرط النَّقْل فِيهَا (لم يلْزم
الْبَحْث عَن العلاقة) لِأَن النَّقْل بِدُونِهَا مُسْتَقلَّة
بِتَصْحِيحِهِ حِينَئِذٍ فَلَا معنى للبحث فِيهَا لكنه لَازم
بإطباق أهل الْعَرَبيَّة فَلَا يشْتَرط النَّقْل فِي الْآحَاد
(وَدفع أَن أُرِيد نفي التَّالِي) أَي عدم لُزُوم الْبَحْث عَن
العلاقة (فِي) حق (غير الْوَاضِع منعناه) أَي نفي التَّالِي
لِأَنَّهُ
(2/26)
لَا يلْزم عَلَيْهِ الْبَحْث عَنْهَا (بل يَكْفِيهِ) أَي غير
الْوَاضِع (نَقله) أَي نقل كل وَاحِد من الْآحَاد عِنْد
اسْتِعْمَاله (وبحثه) عَن العلاقة (للكمال) وَهُوَ الِاطِّلَاع
على الْحِكْمَة الباعثة لاستعمال من نقل عَنهُ اللَّفْظ فِي
ذَلِك الْمعِين (أَو) أُرِيد نفي التَّالِي (فِيهِ) أَي حق
الْوَاضِع (منعنَا الْمُلَازمَة) فَإِن الْوَاضِع مُحْتَاج
إِلَى معرفَة الْمُنَاسبَة بَين الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ
والمجازي المسوغة للتجوز (و) الْوَاضِع (غير) مَحل (النزاع)
فَإِن النزاع فِي غير الْوَاضِع (قَالُوا) أَي الشارطون
للنَّقْل (لَو لم يشْتَرط) النَّقْل فِيهَا (جَازَ) أَن
يسْتَعْمل (نَخْلَة لطويل غير إِنْسَان) للمشابهة فِي الطول
كَمَا جَازَت للْإنْسَان الطَّوِيل (وشبكة للصَّيْد) للمجاورة
بَينهمَا (وَابْن لِأَبِيهِ) إطلاقا للمسبب على السَّبَب
(وَقَلبه) أَي أَب لِابْنِهِ إطلاقا للسبب على الْمُسَبّب
(وَهَذَا) الدَّلِيل (للْأولِ) أَي الْقَائِل بِاشْتِرَاط نقل
فِي الْآحَاد (وَالْجَوَاب وجوب تَقْدِير الْمَانِع) فِي
أَمْثَال هَذِه الصُّور (للْقطع بِأَنَّهُم) أَي أهل
الْعَرَبيَّة (لَا يتوقفون) عَن استعمالات مجازات لم تسمع
أعيانها بعد تحقق نوع عَن العلاقات الْمُعْتَبرَة وتخلف
الصِّحَّة عَن الْمُقْتَضى فِي بعض الصُّور لمَانع مَخْصُوص
بهَا لَا يقْدَح فِي الِاقْتِضَاء، إِذْ عدم الْمَانِع لَيْسَ
جُزْءا من الْمُقْتَضى، وَقَالَ صدر الشَّرِيعَة: إِنَّمَا لم
يجز نَخْلَة لطويل غير إِنْسَان لانْتِفَاء المشابهة فِيمَا
لَهُ مزِيد اخْتِصَاص بالنخلة وَهُوَ الطول مَعَ فروع وأغصان
فِي أعاليها وطراوة وتمايل فِيهَا، وَفِيه أَنه لَو فرض مَا
يشاركها فِيمَا ذكر لَا يسْتَعْمل فِيهَا أَيْضا فَتَأمل. |