تيسير التحرير مَبْحَث الْأَمر
(وَأما الْأَمر فلفظه) أَي أَمر (حَقِيقَة فِي القَوْل
الْمَخْصُوص) أَي صِيغَة افْعَل ونظائرها (اتِّفَاقًا) ثمَّ
قيل (مجَاز فِي الْفِعْل) أَي الْفِعْل الَّذِي يعزم عَلَيْهِ
كَقَوْلِه تَعَالَى - وشاورهم فِي الْأَمر - (وَقيل مُشْتَرك
لَفْظِي فيهمَا) أَي مَوْضُوع لكل وَاحِد من القَوْل
الْمَخْصُوص، وَالْفِعْل بِوَضْع على حِدة (وَقيل) مُشْتَرك
(معنوي) بَينهمَا (وَقيل) مَوْضُوع (للْفِعْل الْأَعَمّ من
اللساني) وَغَيره (ورد) هَذَا (بِلُزُوم كَون الْخَبَر
وَالنَّهْي أمرا) حِينَئِذٍ، لِأَن كلا مِنْهُمَا فعل
اللِّسَان (وَقيل) مَوْضُوع (لأَحَدهمَا الدائر) بَين القَوْل
الْخَاص وَالْفِعْل (وَدفع بِلُزُوم كَون اللَّفْظ الْخَاص
لَيْسَ أمرا لِأَنَّهُ) أَي اللَّفْظ الْخَاص (لَيْسَ إِيَّاه)
أَي الْأَحَد الدائر، بل هُوَ وَاحِد معِين (وَإِنَّمَا يتم)
هَذَا الدّفع
(1/334)
بِنَاء (على أَن الْأَعَمّ مجَاز فِي فَرده
مَا لم يؤول) فِي الْأَعَمّ بِأَن يُقَال لَيْسَ الْمُسْتَعْمل
فِيهِ اللَّفْظ لَا الْمَاهِيّة من حَيْثُ هِيَ والخصوصية تفهم
من الْقَرِينَة، وَلَا يخفى مَا فِيهِ من التَّكَلُّف
(وَيدْفَع) كَون الْأَعَمّ مجَازًا إِلَّا بالتأويل (بِأَنَّهُ
تَكْلِيف لَازم للوضع) أَي لوضع اسْم الْجِنْس (للماهية) من
حَيْثُ هِيَ (فيؤيد) لُزُوم هَذَا التَّكْلِيف (نَفْيه) أَي
نفي الْوَضع للماهية (وَقد نفيناه) أَي الْوَضع لَهَا قَرِيبا،
وَإِذا كَانَ كَذَلِك (فَمَعْنَى) وضع لفظ الْأَمر
(لأَحَدهمَا) وَضعه (لفرد مِنْهُمَا على الْبَدَل) وَهُوَ معنى
الْوَضع الْمُفْرد الشَّائِع (وَدفع) كَون الْأَعَمّ مجَازًا
فِي فَرده أَيْضا (على تَقْدِيره) أَي تَقْدِير الْوَضع
للماهية (بِأَنَّهُ) أَي كَون الْأَعَمّ مجَازًا فِي أَفْرَاده
(غلط) نَاشِئ (من ظن كَون الِاسْتِعْمَال فِيمَا وضع لَهُ)
اللَّفْظ فِي تَعْرِيف الْحَقِيقَة اسْتِعْمَاله (فِي
الْمُسَمّى دون أَفْرَاده وَلَا يخفى ندرته) أَي ندرة هَذَا
الِاسْتِعْمَال، وَيلْزم مِنْهُ ندرة الْحَقَائِق، وَكَون كل
الْأَلْفَاظ مجازات بِدُونِ التَّأْوِيل إِلَّا النَّادِر
(لنا) على الْمُخْتَار: وَهُوَ لفظ الْأَمر حَقِيقَة فِي
القَوْل الْمَخْصُوص مجَاز فِي الْفِعْل أَنه (يسْبق القَوْل
الْمَخْصُوص) إِلَى الْفَهم عِنْد إِطْلَاق لفظ الْأَمر على
أَنه مُرَاد دون الْفِعْل (فَلَو كَانَ كَذَلِك) أَي لفظ
الْأَمر مُشْتَركا لفظيا أَو معنويا بَينهمَا (لم يسْبق معِين)
مِنْهُمَا إِلَى الْفَهم الْمُتَبَادر، بل يتَبَادَر كل
مِنْهُمَا على طَرِيق الِاحْتِمَال (وَاسْتدلَّ) أَيْضا على
الْمُخْتَار (لَو كَانَ) لفظ الْأَمر (حَقِيقَة فيهمَا لزم
الِاشْتِرَاك) أَيْضا (فيخل بالفهم) للتردد بَينهمَا (فعورض
بِأَن الْمجَاز) أَيْضا (مخل) بالفهم لتجويز الْمُخَاطب كَونه
مرَادا بِاللَّفْظِ (وَلَيْسَ بِشَيْء، لِأَن الحكم بِهِ) أَي
بالمجاز (بِالْقَرِينَةِ) الظَّاهِرَة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم
تظهر (فبالحقيقة) أَي فَيحكم الْعقل بِالْحَقِيقَةِ فَإِنَّهَا
المُرَاد (فَلَا إخلال وَالْأَوْجه أَنه) أَي الِاسْتِدْلَال
(لَا يبطل التواطؤ) أَي الِاشْتِرَاك الْمَعْنَوِيّ، لِأَنَّهُ
غير مخل بالفهم كَسَائِر أَسمَاء الْأَجْنَاس الْمُشْتَركَة
بَين الْأَفْرَاد (فَلَا يلْزم الْمَطْلُوب) وَهُوَ أَن لفظ
الْأَمر مجَاز فِي الْفِعْل (فَإِن نظمه) أَي الْمُسْتَدلّ
التواطؤ (فِي الِاشْتِرَاك) بِإِرَادَة الْأَعَمّ من
اللَّفْظِيّ والمعنوي (قدم) أَي النّظم الْمَذْكُور (الْمجَاز
على التواطؤ، وَهُوَ) أَي تَقْدِيم الْمجَاز عَلَيْهِ
(مُنْتَفٍ) لمُخَالفَته الأَصْل بِلَا مُوجب، بِخِلَاف
تَقْدِيم التواطؤ عَلَيْهِ (قد صرح بِهِ) أَي بالانتفاء
الِاشْتِرَاك (اللَّفْظِيّ) دَلِيله أَن لفظ الْأَمر (يُطلق
لَهما) أَي القَوْل وَالْفِعْل (وَالْأَصْل) فِي الْإِطْلَاق
(الْحَقِيقَة قُلْنَا أَيْن لُزُوم) الِاشْتِرَاك
(اللَّفْظِيّ) من هَذَا الدَّلِيل: أَي لَا يسْتَلْزم أَصَالَة
الْحَقِيقَة خُصُوص الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ لتحققهما فِي
الِاشْتِرَاك (الْمَعْنَوِيّ) أَي الِاشْتِرَاك الْمَعْنَوِيّ،
دَلِيله أَنه (يُطلق لَهما) وَالْإِطْلَاق إِمَّا على
الْحَقِيقَة، وَهِي إِمَّا بالاشتراك اللَّفْظِيّ أَو
الْمَعْنَوِيّ، وَإِمَّا على الْمجَاز (وَهُوَ) أَي
الْمَعْنَوِيّ (خير من اللَّفْظِيّ وَالْمجَاز أُجِيب لَو
صَحَّ) هَذَا على إِطْلَاقه (ارتفعا) أَي
(1/335)
الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ وَالْمجَاز
(لجَرَيَان مثله) أَي مثل هَذَا الِاسْتِدْلَال (فِي كل
مَعْنيين للفظ) وَاللَّازِم مُنْتَفٍ (والحل أَن ذَلِك) أَي
كَون الْمَعْنَوِيّ خيرا (عِنْد التَّرَدُّد) بَينه وَبَينهمَا
(لَا مَعَ دَلِيل أَحدهمَا كَمَا ذكرنَا) من تبادر القَوْل
الْمَخْصُوص (وَاسْتدلَّ) على الْمُخْتَار أَيْضا (لَو كَانَ)
لفظ الْأَمر (حَقِيقَة فِي الْفِعْل اشتق بِاعْتِبَارِهِ) أَي
الْفِعْل، فَيُقَال: أَمر وآمر (مثلا كَأَكْل وآكل) أَي كَمَا
اشتق أكل وآكل من الْأكل لما كَانَ مَوْضُوعا للْفِعْل
(وَيُجَاب إِن اشتق فَلَا إِشْكَال) يَعْنِي عدم الِاشْتِقَاق
لَيْسَ بمجزوم بِهِ، فعلى تَقْدِير وجود الِاشْتِقَاق بطلَان
اللَّازِم غير مُسلم (وَإِلَّا) وَإِن لم يشتق، وَهُوَ
الظَّاهِر (فكالقارورة) أَي فلمانع من الِاشْتِقَاق كَمَا
امْتنع أَن تطلق القارورة على غير الزّجاج مِمَّا يصلح مقرا
للمائعات مَعَ أَن الْقيَاس يَقْتَضِي صِحَة إِطْلَاقهَا نظرا
إِلَى الْمُنَاسبَة الاشتقاقية، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك
(لدليلنا) على أَنه حَقِيقَة فِي الْفِعْل وَاعْترض الشَّارِح
عَلَيْهِ بِأَن الْمَانِع من إِطْلَاق القارورة على غير
الظّرْف الزّجاج انْتِفَاء الزّجاج الَّذِي الظَّاهِر
اشْتِرَاطه فِي إِطْلَاقهَا على الْغَيْر، وَالْمَانِع من
إِطْلَاق أَمر وآمر على مَدْلُول أكل وآكل، وَلَا دَلِيل على
مخدوش يُفِيد تَقْدِير الْمَانِع فِي هَذَا، وَمن ادَّعَاهُ
فَعَلَيهِ الْبَيَان انْتهى وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه كَلَام
على السَّنَد الْأَخَص بِمَنْع الْمُلَازمَة بَين صِحَة
الِاشْتِقَاق وتحقيقه، إِذْ يَكْفِي فِيهِ أَن يُقَال لم لَا
يجوز أَن يكون عدم التحقق لمَانع كَمَا أَن الْقيَاس يَقْتَضِي
صِحَة إِطْلَاق القارورة المشتقة من الْقَرار لما يقر فِيهِ
الْمَائِع على الزجاجي وَغَيره وَلم يتَحَقَّق لمَانع وَإِن
كَانَ مُجَرّد عدم الِاسْتِعْمَال، وَيحْتَمل أَن يكون
الْمَانِع قصد الِاخْتِصَاص إِلَى غير ذَلِك، وَانْتِفَاء
الزّجاج لَا دخل لَهُ فِي الْمَقْصُود، إِذْ لَيْسَ هُوَ
مُعْتَبرا فِي مبدأ الِاشْتِقَاق. (و) اسْتدلَّ أَيْضا للمختار
(بِلُزُوم اتِّحَاد الْجمع) أَي جمع أَمر بِمَعْنى القَوْل
الْمَخْصُوص، وَالْفِعْل لَو كَانَ حَقِيقَة فيهمَا (وَهُوَ)
أَي اتِّحَاد الْجمع (مُنْتَفٍ، لِأَنَّهُ) أَي الْجمع (فِي
الْفِعْل أُمُور، و) فِي (القَوْل أوَامِر) قيل عَلَيْهِ أَن
كَون أوَامِر جمع أَمر مَمْنُوع، لِأَن فعلا لَا يجمع على
فواعل، بل هِيَ جمع آمرة كضوارب جمع ضاربة، وَهَذَا بحث لَا
يضرّهُ، لِأَن الِاخْتِلَاف ثَابت على حَاله، لِأَن كَونه
حَقِيقَة فيهمَا يَسْتَدْعِي وجود جمع وَاحِد مُسْتَعْمل
فيهمَا وَلَيْسَ كَذَلِك (وَيُجَاب بِجَوَاز اخْتِلَاف جمع لفظ
وَاحِد بِاعْتِبَار معنيية) وللشارح هَهُنَا مَا يقْضِي مِنْهُ
الْعجب حَيْثُ فسر معنييه بالحقيقي والمجازي وَمثل
بِالْأَيْدِي والأيادي بِاعْتِبَار الْجَارِحَة وَالنعْمَة،
وَالْمَقْصُود فِي الْجَواب تَجْوِيز الِاخْتِلَاف بِاعْتِبَار
الْمَعْنيين الحقيقيين، فَإِن الِاخْتِلَاف بِاعْتِبَار
الْحَقِيقِيّ والمجازي هُوَ مطلب الْمُسْتَدلّ، وَهَذَا
الْجَواب رد عَلَيْهِ من قبل الْقَائِل بالاشتراك اللَّفْظِيّ
(و) اسْتدلَّ أَيْضا للمختار (بِلُزُوم إنصاف من قَامَ بِهِ
فعل بِكَوْنِهِ) أَي من قَامَ بِهِ ذَلِك الْفِعْل (مُطَاعًا)
إِذا لم يُخَالف (أَو مُخَالفا) إِذا خُولِفَ كَمَا فِي قَول
الْقَائِل
(1/336)
بِأَن الْأَمر بقوله افْعَل يُوصف بهما،
وَاللَّازِم مُنْتَفٍ (وَيُجَاب بِأَنَّهُ) أَي اللُّزُوم
الْمَذْكُور إِنَّمَا يثبت (لَو كَانَ) الاتصاف بالكون
مُطَاعًا أَو مُخَالفا (لَازِما عَاما) لِلْأَمْرِ بِاعْتِبَار
كل مَا يُطلق عَلَيْهِ حَقِيقَة (لكنه) لَيْسَ كَذَلِك
إِنَّمَا هُوَ (لَازم أحد المفهومين) وَهُوَ القَوْل
الْمَخْصُوص لَا غير (و) اسْتدلَّ للمختار أَيْضا (بِصِحَّة
نَفْيه) أَي الْأَمر عَن (الْفِعْل) فَيُقَال أَن الْفِعْل
لَيْسَ بِأَمْر وأفراد الْحَقِيقَة لَا يَصح نفي الْحَقِيقَة
عَنْهَا (وَهُوَ) أَي هَذَا الدَّلِيل (مصادرة) على
الْمَطْلُوب، إِذْ صِحَة نفي مَا يُطلق عَلَيْهِ لفظ الْأَمر
حَقِيقَة عَن الْفِعْل فرع تَسْلِيم أَن الْفِعْل لَيْسَ أحد
معنييه، وَهَذَا عين الْمُتَنَازع فِيهِ، ومنشأ الْغَلَط صِحَة
نفي الْأَمر بِمَعْنى القَوْل الْمَخْصُوص عَن الْفِعْل (وحد)
الْأَمر (النَّفْسِيّ) هُوَ نوع تعلق من أَنْوَاع تعلق
الْكَلَام النَّفْسِيّ بِأَنَّهُ (اقْتِضَاء فعل غير كف على
جِهَة الاستعلاء) وَهَذَا الْحَد لِابْنِ الْحَاجِب، فالاقتضاء
جنس يَشْمَل الْأَمر وَالنَّهْي والالتماس وَالدُّعَاء، وَغير
كف يخرج النَّهْي، وعَلى جِهَة الاستعلاء بِمَعْنى طلب
الْعُلُوّ وعد نَفسه عَالِيا على الْمَطْلُوب مِنْهُ يخرج
الالتماس لِأَنَّهُ على سَبِيل التَّسَاوِي، وَالدُّعَاء
لِأَنَّهُ على سَبِيل التسفل (وسيتحقق فِي) مبَاحث (الحكم
أَنه) أَي الْأَمر النَّفْسِيّ (معنى الْإِيجَاب فَيفْسد طرده
بالندب النَّفْسِيّ) وَهُوَ لَيْسَ بِإِيجَاب (فَيجب زِيَادَة
حتما) فِي التَّعْرِيف لإخراجه، وَكَون الْأَمر النَّفْسِيّ
الْإِيجَاب بِنَاء على كَون الْأَمر حَقِيقَة فِي الْوُجُوب
دون غَيره (وَأورد اكفف) وَنَحْوه كانته وذروا ترك (على عَكسه)
فَإِنَّهَا أوَامِر، وَلَا يصدق عَلَيْهَا الْحَد لعدم
اقْتِضَاء الْفِعْل غير الْكَفّ فِيهَا (وَلَا تتْرك) وَلَا
تَنْتَهِ إِلَى آخِره (على طرده) فَإِنَّهَا نواهي وَيصدق
عَلَيْهَا الْحَد (وَأجِيب بِأَن الْمَحْدُود النَّفْسِيّ،
فيلتزم أَن معنى لَا تتْرك مِنْهُ) أَي من الْأَمر النَّفْسِيّ
(واكفف وذروا البيع نهي) فاطرد وانعكس (وَإِذا كَانَ معنى أطلب
فعل كَذَا الْحَال) خبر كَانَ: أَي الِاسْتِقْبَال (دخل) فِي
الْأَمر النَّفْسِيّ لصدقه وَإِن كَانَ خَبرا صِيغَة لِأَنَّهُ
اقْتِضَاء فعل غير كف (وَإِنَّمَا يمْتَنع) دُخُوله (فِي
الصيغي) لِأَن الْمُعْتَبر فِيهِ القَوْل الْمَخْصُوص صِيغَة
افْعَل وَنَحْوه (فَلَا يحْتَاج) إِلَى (أَن) المُرَاد من
الْكَفّ فِي التَّعْرِيف (الْكَفّ عَن مَأْخَذ الِاشْتِقَاق)
لِأَن الِاحْتِيَاج إِلَى أَفعَال (7) اكفف فرع كَونه دَاخِلا
عَن الْمُعَرّف (والأليق بالأصول تَعْرِيف الصيغي، لِأَنَّهُ
بَحثه) أَي علم الْأُصُول (عَن) الْأَدِلَّة (السمعية) وَهِي
الْأَلْفَاظ من حَيْثُ يُوصل الْعلم بأحوالها من عُمُوم وخصوص
وَغَيرهمَا إِلَى قدرَة إِثْبَات الْأَحْكَام (وَهُوَ) أَي
الْأَمر الصيغي (اصْطِلَاحا) لأهل الْعَرَبيَّة (صيغته
الْمَعْلُومَة) سَوَاء كَانَت على سَبِيل الاستعلاء أَو لَا
(ولغة هِيَ) أَي صيغته الْمَعْلُومَة مستعملة (فِي الطّلب
الْجَازِم أَو اسْمهَا) أَي اسْم تِلْكَ الصِّيغَة كصيغة نزال
(مَعَ الاستعلاء) وَهَذَا الَّذِي ذكره إِنَّمَا هُوَ لفظ
الْأَمر: أَعنِي أَمر
(1/337)
(بِخِلَاف فعل الْأَمر) نَحْو: اضْرِب
فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط فِيهِ مَا ذكر (فَيصدق) هُوَ أَي
الْأَمر بِالْمَعْنَى اللّغَوِيّ (مَعَ الْعُلُوّ وَعَدَمه،
وَعَلِيهِ) أَي على عدم اشْتِرَاط الْعُلُوّ، وَهُوَ كَون
الطَّالِب أَعلَى مرتبَة من الْمَطْلُوب مِنْهُ (الْأَكْثَر)
أَي أَكثر الْأُصُولِيِّينَ (وأهدرهما) أَي الاستعلاء والعلو
(الْأَشْعَرِيّ) وَبِه قَالَ أَكثر الشَّافِعِيَّة (وَاعْتبر
الْمُعْتَزلَة الْعُلُوّ) أَي اشترطوه إِلَّا أَبَا الْحسن
مِنْهُم، وَوَافَقَهُمْ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ، وَابْن
الصّباغ، والسمعاني من الشَّافِعِيَّة (وَلَا أَمر عِنْدهم)
أَي الْمُعْتَزلَة (إِلَّا الصِّيغَة) لإنكارهم الْكَلَام
النَّفْسِيّ (وَرجح نفي الْأَشْعَرِيّ الْعُلُوّ بذمهم) أَي
الْعُقَلَاء (الْأَدْنَى بِأَمْر الْأَعْلَى) إِذْ لَو كَانَ
الْعُلُوّ شرطا لما تحقق الْأَمر من الْأَدْنَى فلازم (و) رجح
أَيْضا نَفْيه (الاستعلاء بقوله تَعَالَى عَن فِرْعَوْن)
مُخَاطبا لِقَوْمِهِ (فَمَاذَا تأمرون) فَإِنَّهُ أطلق على
قَوْلهم الْمُقْتَضى لَهُ فعلا غير كف، وَلم يكن لَهُم استعلاء
عَلَيْهِ، بل كَانُوا يعبدونه (وَمِنْهُم من جعله) أَي مَاذَا
تأمرون متمسكا بِهِ (لنفي الْعُلُوّ) وَهُوَ ظَاهر (وَالْحق
اعْتِبَار الاستعلاء) كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْآمِدِيّ وَابْن
الْحَاجِب وَصحح فِي الْمَحْصُول (وَنفى) اشْتِرَاط (الْعُلُوّ
لذمهم الْأَدْنَى بِأَمْر الْأَعْلَى) . وَقد مر آنِفا
(وَالْآيَة) مَاذَا تأمرون (وَقَوله) أَي عَمْرو ابْن الْعَاصِ
لمعاوية:
(أَمرتك أمرا جَازِمًا فعصيتني ... وَكَانَ من التَّوْفِيق قتل
ابْن هَاشم)
لما خرج هَذَا من الْعرَاق على مُعَاوِيَة مرّة بعد مرّة، وَقد
أمْسكهُ فِيهَا، وَأَشَارَ عَلَيْهِ عَمْرو بقتْله فخالفه
وَأطلق لحلمه، أَي حضين بن الْمُنْذر يُخَاطب يزِيد بن
الْمُهلب أَمِير خُرَاسَان وَالْعراق إِلَّا أَن تَمَامه فِي
هَذَا:
(فَأَصْبَحت مسلوب الْإِمَارَة نَادِما ... )
(مجَاز عَن تشيرون وأشرت للْقطع بِأَن الصِّيغَة فِي التضرع،
والتساوي لَا تسمى أمرا) وَفِي الْكَشَّاف: تأمرون من
المؤامرة، وَهِي الْمُشَاورَة، أَو من الْأَمر الَّذِي هُوَ ضد
النَّهْي: جعل العبيد آمرين وربهم مَأْمُورا لما استولى
عَلَيْهِ فِي فرط الدهش والحيرة. وَقَالَ (القَاضِي وَإِمَام
الْحَرَمَيْنِ) وَالْغَزالِيّ (القَوْل الْمُقْتَضى) بِنَفسِهِ
(طَاعَة الْمَأْمُور بِفعل الْمَأْمُور بِهِ) فَالْقَوْل جنس
والمقتضى احْتِرَاز عَمَّا عدا الْأَمر من أَقسَام الْكَلَام،
وبنفسه لقطع وهم حمل الْأَمر على الْعبارَة، وَأَنَّهَا لَا
تَقْتَضِي بِنَفسِهَا، بل بمعناها، وَالطَّاعَة احْتِرَاز عَن
الدُّعَاء، وَالرَّغْبَة من غير جزم فِي طلب الطَّاعَة كَذَا
ذكره الشَّارِح، وَفِيه مَا فِيهِ (ويستلزم) هَذَا الْحَد
(الدّور من ثَلَاث أوجه) ذكر الطَّاعَة، والمأمور، والمأمور
بِهِ: لِأَن الطَّاعَة مُوَافقَة الْأَمر، والمأمور مُشْتَقّ
من الْأَمر فَيتَوَقَّف معرفَة كل مِنْهُمَا على معرفَة
الْأَمر (وَدفعه) أَي الدّور على مَا فِي الشَّرْح العضدي
(بِأَنا إِذا علمنَا الْأَمر من حَيْثُ هُوَ كَلَام علمنَا
الْمُخَاطب بِهِ، وَهُوَ الْمَأْمُور وَمَا يتضمنه، وَهُوَ
الْمَأْمُور بِهِ
(1/338)
وَفعله) أَي الْمَأْمُور بِهِ (وَهُوَ
الطَّاعَة وَلَا يتَوَقَّف) الْعلم بِشَيْء من هَذِه
الْأَشْيَاء (على معرفَة حَقِيقَة الْأَمر الْمَطْلُوبَة
بالتعريف، فَإِن أَرَادَ) بقوله: إِذا علمنَا الْأَمر من
حَيْثُ هُوَ كَلَام الْمَعْنى (الْحَاصِل من الْجِنْس) أَي
القَوْل، وَهُوَ الْمَعْنى الْمُقَيد (لم يلْزمه غير
الْأَوَّلين) وهما الْمُخَاطب بِهِ وَمَا يتضمنه الْكَلَام،
وَفِيه أَن لُزُوم اللَّفْظ الْمُخَاطب فِي القَوْل
اللَّفْظِيّ لكَونه مَوْضُوعا للإفادة، وَأما لُزُومه فِي
النَّفْسِيّ فَغير ظَاهر: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال لما
كَانَ بَين اللَّفْظِيّ والنفسي شدَّة ارتباط بِمَا ينْتَقل
الذِّهْن فِيهِ إِلَى مَا هُوَ لَازمه على أَنه كَلَام على
السَّنَد الْأَخَص (ثمَّ لم يفد) القَوْل (حَقِيقَة) لفظ
(الْمَأْمُور) أَي الْمَعْنى الَّذِي وضع بإزائه، وَقصد بِهِ
فِي التَّعْرِيف (من مُجَرّد فهم الْمُخَاطب) الْمَدْلُول
عَلَيْهِ بالْقَوْل (وَلَا) حَقِيقَة (الْمَأْمُور بِهِ من
حَيْثُ هُوَ كَذَلِك) أَي الْمَأْمُور بِهِ: أَي لَا يفهم ذَاك
الْمَأْمُور ملحوظا يُوصف المأمورية من فهم الْمُخَاطب، وَلَا
ذَات الْمَأْمُور بِهِ بِوَصْف كَونه مَأْمُورا بِهِ (من
معرفَة أَن للْكَلَام معنى تضمنه) كل ذَلِك ظَاهر (وَأما فعله)
أَي وَأما إفادته لفعل مضمونه (وَكَونه) أَي كَون فعله (طَاعَة
فأبعد) من كل من الْأَوَّلين (أَو) أَرَادَ الْحَاصِل من
الْجِنْس (بقيوده) أَي بقيود الْجِنْس الْمَذْكُور فِي
التَّعْرِيف (فعين الْحَقِيقَة) أَي فَهَذَا المُرَاد حَقِيقَة
الْأَمر (وَيعود الدّور) وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن
حَاصِل الدّفع منع كَون معرفَة كل مِنْهَا مَوْقُوفا على
معرفَة حَقِيقَة الْأَمر لجَوَاز أَن يتَصَوَّر كل مِنْهَا على
وَجه يميزه من غَيره من غير أَن يُوجد فِي ذَلِك التَّصَوُّر
حَقِيقَة الْأَمر الَّتِي صَارَت مَطْلُوبَة من التَّعْرِيف:
لكنه يرد عَلَيْهِ أَن سَنَده لَا يصلح للسندية (وَيبْطل طرده
بأمرتك بِفعل كَذَا) فَإِنَّهُ خبر، وَلَيْسَ بِأَمْر مَعَ صدق
الْحَد عَلَيْهِ، وَهَذَا بِنَاء على أَن الْمُعَرّف الصيغي
لَا النَّفْسِيّ كَمَا هُوَ الظَّاهِر من اللَّفْظ الْمُوَافق
لغَرَض الأصولي، فَزِيَادَة فِيهِ بِنَفسِهِ فِي التَّعْرِيف
لدفع الْوَهم الْمَذْكُور على مَا ذكره الشَّارِح غير حسن
(وَقيل هُوَ الْخَبَر عَن اسْتِحْقَاق الثَّوَاب، وَفِيه) أَي
فِي هَذَا الْحَد (جعل المباين) للمحدود، وَهُوَ الْخَبَر
(جِنْسا لَهُ) وَهُوَ بَاطِل لما بَينهمَا من التَّنَافِي:
اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُرَاد بِهِ مَا يسْتَلْزم الْإِخْبَار
عَنهُ ضمنا فَتَأمل. (و) قَالَ (الْمُعْتَزلَة) أَي جمهورهم
(قَول الْقَائِل لمن دونه افْعَل) أَي مَا وضع لطلب الْفِعْل
من الْفَاعِل (وَإِبْطَال طرده) أَي هَذَا التَّعْرِيف
(بالتهديد وَغَيره) مِمَّا لم يرد بِهِ الطّلب من هَذِه
الصِّيغَة، نَحْو - اعْمَلُوا مَا شِئْتُم، {وَإِذا حللتم
فاصطادوا} -: للْإِبَاحَة لصدق الْحَد عَلَيْهِ مَعَ أَنه
لَيْسَ بِأَمْر (مَدْفُوع بِظُهُور أَن المُرَاد) قَول
الْقَائِل (افْعَل) حَال كَونه (مرَادا بِهِ مَا يتَبَادَر
مِنْهُ) عِنْد الْإِطْلَاق، وَهُوَ الطّلب (و) إبِْطَال طرده
(بالحاكي) لأمر غَيره لمن دونه (والمبلغ) لِلْأَمْرِ من دونه
مَدْفُوع أَيْضا (بِأَنَّهُ) أَي قَول كل مِنْهُمَا (لَيْسَ
قَول الْقَائِل) أَي الَّذِي هُوَ الحاكي والمبلغ
(1/339)
فَاللَّام للْعهد (عرفا، يُقَال للتمثيل)
بِشعر أَو غَيره لغيره (لَيْسَ) مَا تمثل بِهِ (قَوْله،
وَلَيْسَ الْقُرْآن قَوْله) أَي النَّبِي (صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم) وَإِن كَانَ مبلغه فَلَا يبطل الطَّرْد (نعم الْعُلُوّ
غير مُعْتَبر) على الصَّحِيح عندنَا (و) قَالَت (طَائِفَة)
مِنْهُم: الْأَمر هُوَ (الصِّيغَة) الْمَعْلُومَة (مُجَرّدَة
عَن الصَّارِف عَن الْأَمر، وَهُوَ) أَي هَذَا الْحَد تَعْرِيف
الشَّيْء (بِنَفسِهِ، وَلَو أسْقطه) أَي لفظ مُجَرّدَة عَن
الصَّارِف عَن الْأَمر (صَحَّ) التَّعْرِيف (لفهم الصَّارِف
عَن المبادر) لِأَنَّهُ يفهم اشْتِرَاط التجرد عَن الصَّارِف
عَمَّا هُوَ الْمُتَبَادر من الصِّيغَة الْمَعْلُومَة، وَهُوَ
الطّلب، وَمَا يشار إِلَيْهِ الذِّهْن لَا حَاجَة إِلَى
التَّصْرِيح بِهِ، وَالشَّارِح جعل ضمير أسقط للفظ عَن
الْأَمر، وَذكر بعد قَول المُصَنّف عَن التبادر قَوْله الَّذِي
هُوَ الطّلب من إِطْلَاق الصَّارِف، وَهُوَ الْأَظْهر (و)
قَالَت (طَائِفَة) من معتزلة الْبَصْرَة (الصِّيغَة بِإِرَادَة
وجود اللَّفْظ ودلالته على الْأَمر والامتثال) فِي الشَّرْح
العضدي قَالَ قوم: صِيغَة افْعَل بارادات ثَلَاث: إِرَادَة
وجود اللَّفْظ، وَإِرَادَة دلالتها على الْأَمر، وَإِرَادَة
الِامْتِثَال، وَاحْترز بِالْأولَى عَن النَّائِم: إِذْ يصدر
عَنهُ صِيغَة افْعَل من غير إِرَادَة وجود اللَّفْظ، وبالثانية
عَن التهديد، والتخيير، وَالْإِكْرَام، والإهانة وَنَحْوهَا،
وبالثالثة عَن الصِّيغَة تصدر عَن الْمبلغ والحاكي فَإِنَّهُ
لَا يُرِيد الِامْتِثَال، وَإِلَى بعضه أَشَارَ بقوله (ويحترز
بالأخير) أَي الِامْتِثَال (عَنْهَا) أَي الصِّيغَة صادرة (من
نَائِم، ومبلغ، وَمَا سوى الْوُجُوب) من التهديد إِلَى آخِره،
وَفِيه اعْتِرَاض على مَا فِي الشَّرْح الْمَذْكُور حَيْثُ لم
يتَعَرَّض بِأَن الْأَخير مغن من حَيْثُ الِاحْتِرَاز عَن
غَيره مِمَّا قبله (و) أَن (مَا قبله) أَي الْأَخير (تنصيص على
الذاتي) وتصريح بأجزاء حَقِيقَة (وَأورد) على الْحَد
الْمَذْكُور أَنه (إِن أُرِيد بِالْأَمر الْمَحْدُود اللَّفْظ)
أَي الْأَمر الصيغي (أفْسدهُ) أَي الْحَد (إِرَادَة دلالتها)
أَي الصِّيغَة (على الْأَمر) لِأَن اللَّفْظ غير مَدْلُول
عَلَيْهِ (أَو) أُرِيد بِالْأَمر الْمَحْدُود (الْمَعْنى)
النَّفْسِيّ (أفْسدهُ) أَي الْحَد (جنسه) فَاعل أفسد لِأَن
الْمَعْنى لَيْسَ بِصِيغَة (وَأجِيب بِأَنَّهُ) أَي المُرَاد
بالمحدود (اللَّفْظ) وَبِمَا فِي الْحَد الْمَعْنى الَّذِي
هُوَ الطّلب (وَاسْتعْمل الْمُشْتَرك) الَّذِي هُوَ نفس
الْأَمر (فِي معنييه) الصِّيغَة الْمَعْلُومَة، والطلب
(بِالْقَرِينَةِ) الْعَقْلِيَّة فَإِن قلت الْمَذْكُور فِي صدر
التَّعْرِيف لفظ الصِّيغَة، وَفِي أثْنَاء التَّعْرِيف لفظ
الْأَمر وَلَيْسَ هَذَا من بَاب اسْتِعْمَال الْمُشْتَرك فِي
معنييه قلت مَعْلُوم أَن صَاحب التَّعْرِيف قَالَ: الْأَمر
الصِّيغَة إِلَى آخِره، غَايَة الْأَمر أَنه لم يذكرهُ
المُصَنّف هَهُنَا اعْتِمَادًا على مَا سبق (وَقَالَ قوم)
آخَرُونَ من الْمُعْتَزلَة الْأَمر (إِرَادَة الْفِعْل
(وَأورد) أَنه (غير جَامع لثُبُوت الْأَمر وَلَا إِرَادَة)
كَمَا (فِي أَمر عَبده بِحَضْرَة من توعده) أَي السَّيِّد
بالإهلاك أَن ظهر أَنه لَا يُخَالِفهُ مثلا (على ضربه) أَي ضرب
الْآمِر عَبده،
(1/340)
(فَاعْتَذر) المتوعد عَن ضربه (بمخالفته)
أَي بمخالفة العَبْد إِيَّاه فِي أمره فِي حَضرته وَلم يرد
مِنْهُ الْفِعْل، بل عَدمه ليثبت عذره فيتخلص العَبْد من وعيده
(وألزم تَعْرِيفه) أَي الْأَمر (بِالطَّلَبِ النَّفْسِيّ مثله)
أَي مثل الْإِيرَاد الْمَذْكُور: أَي كَمَا يرد على تَعْرِيف
الْأَمر بِإِرَادَة الْفِعْل أَنه غير جَامع إِلَى آخِره
كَذَلِك يرد على تَعْرِيفه بِأَنَّهُ طلب النَّفْسِيّ الْفِعْل
لثُبُوت الْأَمر وَلَا طلب كَمَا فِي الْمِثَال الْمَذْكُور
بِعَيْنِه، إِذْ الْعَاقِل لَا يطْلب هَلَاك نَفسه كَمَا
يُريدهُ (وَدفعه) على مَا فِي الشَّرْح العضدي (بتجويز طلبه)
أَي طلب الْعَاقِل الْهَلَاك لغَرَض (إِذا علم عدم وُقُوعه)
أَي الْهَلَاك (إِنَّمَا يَصح فِي اللَّفْظِيّ: أما
النَّفْسِيّ فكالإرادة) أَي فالطب النَّفْسِيّ كالإرادة
النفسية (لَا يَطْلُبهُ أَي سَبَب هَلَاكه بِقَلْبِه كَمَا لَا
يُريدهُ، وَمَا قيل) على مَا ذكره الْآمِدِيّ، وَاسْتَحْسنهُ
ابْن الْحَاجِب (لَو كَانَ) الْأَمر (إِرَادَة لوقعت
المأمورات) أَي الَّتِي أمرهَا (بِمُجَرَّدِهِ) أَي الْأَمر
(لِأَنَّهَا) أَي الْإِرَادَة (صفة تخصص الْمَقْدُور بِوَقْت
وجوده) أَي الْمَقْدُور (فوجدوها) أَي الْإِرَادَة (فرع) وجود
مَقْدُور (مُخَصص) وَالثَّانِي بَاطِل لِأَن إِيمَان الْكفَّار
الْمَعْلُوم عَدمه عِنْد الله لَا شكّ أَنه مَأْمُور بِهِ،
فَيلْزم أَن يكون مرَادا، وَهُوَ يسْتَلْزم وجوده مَعَ أَنه
محَال (لَا يلْزمهُم) أَي الْمُعْتَزلَة خبر مَا قيل
(لِأَنَّهَا) أَي الْإِرَادَة (عِنْدهم) أَي الْمُعْتَزلَة
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعباد (ميل يتبع اعْتِقَاد النَّفْع أَو
دفع الضَّرَر) فِي الْفِعْل (وبالنسبة إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى الْعلم بِمَا فِي الْفِعْل من الْمصلحَة) وَهَذَا
تَحْقِيق مَذْهَبهم فِي الإفادة.
مسئلة
(صِيغَة الْأَمر خَاص) أَي حَقِيقَة على الْخُصُوص (فِي
الْوُجُوب) فَقَط (عِنْد الْجُمْهُور) وَصَححهُ ابْن الْحَاجِب
والبيضاوي، وَقَالَ الإِمَام الرَّازِيّ هُوَ الْحق،
الْآمِدِيّ وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ أَنه مَذْهَب الشَّافِعِي
رَحمَه الله، وَقيل هُوَ الَّذِي أملاه الْأَشْعَرِيّ على
أَصْحَابه فَقَالَ (أَبُو هَاشم) فِي جمَاعَة من الْفُقَهَاء
مِنْهُم الشَّافِعِي رَحمَه الله على قَول، وَعَامة
الْمُعْتَزلَة قَالُوا حَقِيقَة (فِي النّدب) فَقَط (وَتوقف
الْأَشْعَرِيّ وَالْقَاضِي فِي أَنه) مَوْضُوع (لأيهما) أَي
الْوُجُوب وَالنَّدْب (وَقيل) توقفا فِيهِ (بِمَعْنى لَا
يدْرِي مَفْهُومه) أصلا، قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ
وَهُوَ الْمُوَافق لكَلَام الْآمِدِيّ (وَقيل مُشْتَرك)
لَفْظِي (بَينهمَا) أَي الْوُجُوب وَالنَّدْب، وَهُوَ مَنْقُول
عَن الشَّافِعِي (وَقيل) مُشْتَرك لَفْظِي بَين الْوُجُوب
وَالنَّدْب (وَالْإِبَاحَة، وَقيل) مَوْضُوع (للمشترك بَين
الْأَوَّلين) أَي الْوُجُوب، وَالنَّدْب وَهُوَ الطّلب: أَي
تَرْجِيح الْفِعْل على التّرْك: وَهُوَ مَنْقُول عَن أبي
مَنْصُور الماتريدي وعزى إِلَى مَشَايِخ سَمَرْقَنْد (وَقيل)
مَوْضُوع (لما) أَي للقدر الْمُشْتَرك (بَين الثَّلَاثَة من
الْأذن) وَهُوَ رفع الْحَرج
(1/341)
عَن الْفِعْل بَيَان للموصول، قيل وَهُوَ
مَذْهَب المرتضى من الشِّيعَة، وَقَالَ (الشِّيعَة مُشْتَرك)
لَفْظِي (بَين الثَّلَاثَة) أَي الْوُجُوب وَالنَّدْب
وَالْإِبَاحَة (والتهديد) وَقيل غير ذَلِك (لنا) على
الْمُخْتَار وَهُوَ أَنه حَقِيقَة فِي الْوُجُوب أَنه (تكَرر
اسْتِدْلَال السّلف بهَا) أَي بِصِيغَة الْأَمر مُجَرّدَة عَن
الْقَرَائِن (على الْوُجُوب) اسْتِدْلَالا (شَائِعا بِلَا
نَكِير فَأوجب الْعلم العادي باتفاقهم) على أَنَّهَا لَهُ
(كالقول) أَي كإجماعهم القَوْل: يَعْنِي أَن عدم نكيرهم مَعَ
شيوع الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور يدل على إِجْمَاعهم على ذَلِك
كَمَا يدل تصريحهم بذلك قولا (وَاعْترض بِأَنَّهُ) أَي
استدلالهم على الْوُجُوب إِنَّمَا (كَانَ بأوامر مُحَققَة
بقرائن الْوُجُوب) يَعْنِي أَن إِرَادَة الْوُجُوب بِتِلْكَ
الْأَوَامِر لم يكن بطرِيق الْحَقِيقَة، بل بالمجاز بقرائن تدل
على خُصُوص الْوُجُوب (بِدَلِيل استدلالهم بِكَثِير مِنْهَا)
أَي من صِيغ الْأَمر (على النّدب قُلْنَا تِلْكَ) الصِّيَغ
أُرِيد بهَا النّدب (بقرائن) صارفة عَن الْحَقِيقَة وَهُوَ
الْوُجُوب مُعينَة للنَّدْب، علم ذَلِك (باستقراء الْوَاقِع
مِنْهُمَا) أَي من الصِّيَغ الْمَنْسُوب إِلَيْهَا الْوُجُوب،
والصيغ الْمَنْسُوب إِلَيْهَا النّدب فِي الْكتاب وَالسّنة
وَالْعرْف: يَعْنِي علمنَا بالتتبع أَن فهم الْوُجُوب لَا
يحْتَاج إِلَى الْقَرِينَة لتبادره إِلَى الذِّهْن بِخِلَاف
النّدب فَإِنَّهُ يحْتَاج (قَالُوا) فِي الرَّد على
الْمُخْتَار مَا يفِيدهُ هَذَا الدَّلِيل (ظن فِي الْأُصُول
لِأَنَّهُ) أَي الْإِجْمَاع الْمَذْكُور (سكوتي) اخْتلف فِي
حجيته، وَمثله يكون ظنيا (وَلما قُلْنَا من الِاحْتِمَال) أَي
احْتِمَال كَون فهم الْوُجُوب بقرائن وَالظَّن لَا يَكْفِي،
لِأَن الْمَطْلُوب فِيهَا الْعلم (قُلْنَا لَو سلم) أَنه
ظَنِّي (كفى) فِي الْأُصُول (وَإِلَّا تعذر الْعَمَل
بِأَكْثَرَ الظَّوَاهِر) لِأَنَّهَا لَا تفِيد إِلَّا الظَّن،
وَالْقطع لَا سَبِيل إِلَيْهِ كَمَا لَا يخفى على المتتبع
لمسائل الْأُصُول (لَكنا نمنعه) أَي كَون المفاد بِالدَّلِيلِ
الْمَذْكُور الظَّن (لذَلِك الْعلم) أَي لحُصُول الْعلم العادي
باتفاقهم على أَنَّهَا للْوُجُوب بِسَبَب تكْرَار
الِاسْتِدْلَال وَعدم النكير وَحُصُول الْعلم بِسَبَب
الدَّلِيل يدل على كَون مفاده الْعلم إِلَّا الظَّن (ولقطعنا
بتبادر الْوُجُوب من) الْأَوَامِر (الْمُجَرَّدَة) عَن
الْقَرَائِن الصارفة عَنهُ (فَأوجب) الْقطع بتبادره (الْقطع
بِهِ) أَي الْوُجُوب (من اللُّغَة، وَأَيْضًا) قَوْله تَعَالَى
لإبليس - {مَا مَنعك أَن لَا تسْجد} - (إِذْ أَمرتك، يَعْنِي)
قلت لَك فِي ضمن خطابي الْمَلَائِكَة {اسجدوا لآدَم}
الْمُجَرّد) عَن الْقَرَائِن صفة للفظ اسجدوا، دلّ على أَن
مَدْلُول الْأَمر الْمُجَرّد عَن الْقَرِينَة الصارفة
للْوُجُوب، وَإِنَّمَا لزمَه اللوم المستعقب للطرد لَا مَكَان
حمله على النّدب الَّذِي لَا حرج فِي تَركه، وَالْقَوْل بِأَن
الْوُجُوب لَعَلَّه فهم من قرينَة حَالية أَو مقالية لم يحكها
الْقُرْآن أَو من خُصُوصِيَّة تِلْكَ اللُّغَة الَّتِي وَقع
الْأَمر بهَا احْتِمَال غير قَادِح فِي الظُّهُور، وَقَوله
تَعَالَى {وَإِذا قيل لَهُم ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} يدل
على ذَلِك لِأَنَّهُ تَعَالَى (ذمهم على مُخَالفَة ارْكَعُوا)
الْمُجَرّد، وَلَوْلَا أَن حَقِيقَته الْوُجُوب لما ترَتّب
عَلَيْهَا الذَّم (وَأما) الِاسْتِدْلَال على الْوُجُوب كَمَا
ذكره
(1/342)
ابْن الْحَاجِب وَغَيره بِمَا اشْتهر على
أَلْسِنَة الْعلمَاء وَهُوَ (تَارِك الْأَمر عَاص) مَأْخُوذ من
قَوْله تَعَالَى حِكَايَة عَن خطاب مُوسَى لهارون عَلَيْهِمَا
الصَّلَاة وَالسَّلَام - {أفعصيت أَمْرِي} - بِتَرْكِهِ
مُقْتَضَاهُ (وَهُوَ) أَي العَاصِي مُطلقًا (متوعد) لقَوْله
تَعَالَى - {وَمن يعْص الله وَرَسُوله فَإِن لَهُ نَار
جَهَنَّم} - (فنمنع كَونه) أَي العَاصِي (تَارِك) الْأَمر
(الْمُجَرّد) عَن الْقَرَائِن الْمُجَرَّدَة للْوُجُوب (بل)
العَاصِي (تَارِك مَا) هُوَ مقرون من الْأَوَامِر (بِقَرِينَة
الْوُجُوب) وَإِضَافَة أَمْرِي عهدية أُشير بهَا إِلَى أَمر
كَذَا (فَإِذا اسْتدلَّ) لعصيان تَارِك الْأَمر الْمُجَرّد
(بأفعصيت أَمْرِي: أَي اخلفني) تفسر لقَوْله أَمْرِي إِشَارَة
إِلَى قَوْله تَعَالَى - {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُون
اخلفني فِي قومِي} - (منعنَا تجرده) أَي تجرد هَذَا الْأَمر
عَن الْقَرِينَة المفيدة للْوُجُوب، فَإِن فِي السِّيَاق مَا
يُفِيد ذَلِك (فَأَما) الِاسْتِدْلَال بقوله تَعَالَى {فليحذر
الَّذين يخالفون عَن أمره} أَي يعرضون عَنهُ بترك مُقْتَضَاهُ
- {أَن تصيبهم فتْنَة} - أَي محنة الدُّنْيَا - {أَو يصيبهم
عَذَاب أَلِيم} - لِأَنَّهُ رتب على ترك مُقْتَضى أمره أحد
العذابين (فَصَحِيح، لِأَن عُمُومه) أَي عُمُوم أمره
(بِإِضَافَة الْجِنْس الْمُقْتَضى كَون لفظ أَمر لما يُفِيد
الْوُجُوب خَاصَّة يُوجِبهُ للمجردة) يَعْنِي أَن لفظ أمره
عَام لكَون إِضَافَته جنسية فَهُوَ بِمَنْزِلَة قَوْله الْأَمر
بِاللَّامِ الاستغراقية، فَلَزِمَ ترَتّب الْوَعيد على
مُخَالفَة كل فَرد من أَفْرَاد مَا وضع لَهُ لفظ أَمر من
الصِّيَغ الْمَعْلُومَة كاسجد، واركع إِلَى غير ذَلِك، وَهَذَا
الْعُمُوم يقتضى كَون لفظ أَمر مَوْضُوعا لما يُفِيد الْوُجُوب
فَقَط، وَإِلَّا لم يَتَرَتَّب الْوَعيد على مُخَالفَة كل
فَرد، إِذْ من الْجَائِز على تَقْدِير عدم لُزُوم موضوعية كل
صِيغَة مِنْهَا للْوُجُوب وَقع مُخَالفَته لمقْتَضى صِيغَة
مُجَرّدَة عَن الْقَرِينَة الْمعينَة للْوُجُوب، فالعموم
الْمَذْكُور مُوجب لكَون الصِّيغَة الْمُجَرَّدَة عَن
الْقَرَائِن للْوُجُوب: فَحِينَئِذٍ يَصح الْعُمُوم لكَون
جَمِيع أَفْرَاده حِينَئِذٍ مَوْضُوعا للْوُجُوب وَالله أعلم.
(والاستلال) للْوُجُوب أَيْضا (بِأَن الِاشْتِرَاك خلاف
الأَصْل) لَا خلاله بالفهم (فَيكون) الْأَمر (لأحد
الْأَرْبَعَة) الْوُجُوب، وَالنَّدْب، وَالْإِبَاحَة والتهديد
حَقِيقَة. وَفِي الْبَاقِي مجَازًا، وَلم يذكر غير
الْأَرْبَعَة للاتفاق على كَونه مجَازًا فِيمَا سواهَا
(وَالْإِبَاحَة والتهديد بعيد للْقطع بفهم تَرْجِيح الْوُجُوب)
يَعْنِي أَنا نقطع بِأَنَّهُ يفهم من صِيغَة الْأَمر أَن
الْأَمر طَالب لوُجُوب الْفِعْل بِمَعْنى أَنه رَاجِح عِنْدهم
وَعَن تَركه أَعم من أَن يكون مجوزا للترك أَو لَا، وَهَذَا
الْفَهم لَا يحْتَاج إِلَى قرينَة لتبادره إِلَى الذِّهْن
(وَانْتِفَاء النّدب) أَي كَونه حَقِيقَة أَيْضا ثَابت (للْفرق
بَين) قَوْلنَا (اسْقِنِي وندبتك) إِلَى أَن تسقيني، وَلَو
كَانَ لَهُ لم يكن بَينهمَا فرق (ضَعِيف لمنعهم) أَي النادبين
(الْفرق) بَينهمَا (وَلَو سلم) الْفرق (فَيكون ندبتك نصا) فِي
النّدب (واسقني) لَيْسَ بِنَصّ فِيهِ، بل (يحْتَمل الْوُجُوب)
وَالنَّدْب (وَأَيْضًا لَا ينتهض) أَي لَا يقوم بِالدَّلِيلِ
الْمَذْكُور حجَّة بِنَاء
(1/343)
(على) احْتِمَال الِاشْتِرَاك
(الْمَعْنَوِيّ إِذْ نفى) الِاشْتِرَاك (اللَّفْظِيّ لَا يُوجب
تَخْصِيص الْحَقِيقَة بأحدها) أَي الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة
وَإِذا لم يُوجب تخصيصها بأحدها يبطل نَفْيه الدَّلِيل أَيْضا
لِأَنَّهَا فرع ذَلِك الْإِيجَاب (وَلَو أَرَادَ) الْمُسْتَدلّ
بالاشتراك (مُطلق الِاشْتِرَاك) أَي مَا يُطلق عَلَيْهِ لفظ
الِاشْتِرَاك ليشْمل اللَّفْظِيّ والمعنوي (منعنَا كَون)
الِاشْتِرَاك (الْمَعْنَوِيّ بِخِلَاف الأَصْل، وَلَو قَالَ)
الْمُسْتَدلّ (الْمَعْنَوِيّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى معنوي أخص
مِنْهُ خلاف الأَصْل: إِذْ الإفهام بِاللَّفْظِ) وَالْأَصْل
فِيهِ الْخُصُوص لإفادته الْمَقْصُود من غير مُزَاحم، فَيكون
الْأَمر مَوْضُوعا للْوُجُوب الْمُشْتَرك بَين أَفْرَاده مثلا
أَدخل فِي الإفهام من كَونه لما يعم الْوُجُوب وَالنَّدْب
إِلَى غير ذَلِك لقلَّة المزاحم (اتجه) جَوَاب لَو: يَعْنِي
كَانَ كلَاما موجها، ثمَّ مثل للمعنوي الْأَعَمّ بِالنِّسْبَةِ
إِلَى الْأَخَص بقوله (كالمعنوي الَّذِي هُوَ الْمُشْتَرك بَين
الْوُجُوب وَالنَّدْب) وَهُوَ الطّلب (بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْمَعْنَوِيّ الَّذِي هُوَ وجوب فَإِنَّهُ) أَي الْمُشْتَرك
بَينهمَا (جنس بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوُجُوب، إِذْ هُوَ) أَي
الْوُجُوب (نوع) من الطّلب (فدار) معنى الْأَمر (بَين خُصُوص
الْجِنْس وخصوص النَّوْع) وخصوص النَّوْع أولى لما فِيهِ من
تقليل الِاشْتِرَاك وَاحْتج (النادب) بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ
عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا أَمرتكُم بِأَمْر فَأتوا
مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم) فَإِن رد الْأَمر إِلَى مشيئتنا
عَلامَة أَن المُرَاد بِالْأَمر مَا يُفِيد النّدب (قُلْنَا)
إفادته رد الْأَمر إِلَى مشيئتنا مَمْنُوع، بل هُوَ رد إِلَى
استطاعتنا و (هُوَ دَلِيل الْوُجُوب) لِأَن السَّاقِط عَنَّا
حِينَئِذٍ مَا لَا استطاعة لنا فِيهِ وَفِي الْمَنْدُوب
المستطاع أَيْضا سَاقِط لَا حرج فِيهِ، وَاسْتدلَّ (الْقَائِل
بِالطَّلَبِ) هُوَ الَّذِي يَقُول: حَقِيقَة الطّلب الْأَعَمّ
من الْوُجُوب وَالنَّدْب فَإِنَّهُ (ثَبت رُجْحَان) جَانب
(الْوُجُود) أَي وجود الْفِعْل على تَركه فِي قصد الْآمِر،
وَهُوَ الْمَعْنى الْمُشْتَرك بَين الْوُجُوب وَالنَّدْب
(وَلَا مُخَصص) لَهُ بِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِه ليتعين كَونه
مَطْلُوبا لَهُ دون الآخر (فَوَجَبَ كَونه) أَي الْوُجُوب
(الْمَطْلُوب مُطلقًا) حَال إِمَّا عَن الضَّمِير أَو عَن
الْخَبَر، ومآلهما وَاحِد، وَإِذا ثَبت كَون الْوُجُوب
الْمُطلق مرَادا وَجب كَونه حَقِيقَة فِيهِ (دفعا للاشتراك)
على تَقْدِير كَونه مَوْضُوعا لكل مِنْهُمَا (وَالْمجَاز) على
تَقْدِير وَضعه لأَحَدهمَا فَقَط وَلَا يخفى عَلَيْك أَن أول
الْكَلَام يدل على أَن وجوب كَونه الْمَطْلُوب مُطلقًا لثُبُوت
رُجْحَان الْوُجُود مَعَ عدم الْمُخَصّص، وَآخره يدل على أَنه
وجوب لدفع لُزُوم الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ وَالْمجَاز فبينهما
تدافع، وَقد أَشَرنَا إِلَى جَوَابه وتوضيحه أَن قَوْله دفعا
إِلَى آخِره تَعْلِيل لنفي احْتِمَال يفهم ضمنا، وَذَلِكَ
لِأَن ثُبُوت رُجْحَان الْوُجُود كَمَا يجوز أَن يكون بِسَبَب
وضع الْأَمر لمُطلق الطّلب كَذَلِك يجوز أَن يكون بِسَبَب
اسْتِعْمَاله فِي كل من نَوْعي الطّلب على سَبِيل
الِاشْتِرَاك، أَو الْحَقِيقَة وَالْمجَاز، ورجحان الْوُجُوب
لَازم على الْوَجْهَيْنِ فَكَأَنَّهُ قَالَ وَجب كَون
حَقِيقَته للطلب الْمُطلق لَا غير دفعا إِلَى آخِره
(1/344)
(قُلْنَا) بل هُوَ لأَحَدهمَا، وَهُوَ
الْوُجُوب (بمخصص وَهِي) الْمُخَصّص، والتأنيث بِاعْتِبَار
الْخَبَر وَهُوَ (أدلتنا على الْوُجُوب مَعَ أَنه) أَي جعله
للطلب (إِثْبَات اللُّغَة بِلَازِم الْمَاهِيّة) وَهُوَ
الرجحان الْمَذْكُور: وَهُوَ غير جَائِز لجَوَاز كَون
اللَّازِم أَعم، فَيكون مَاهِيَّة الْمُسَمّى أخص من الطّلب
الْمُشْتَرك بَين الْوُجُوب وَالنَّدْب (الِاشْتِرَاك بَين
الْأَرْبَعَة و) الِاشْتِرَاك بَين (الِاثْنَيْنِ) والاشتراك
بَين الثَّلَاثَة، وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ (ثَبت
الْإِطْلَاق) على الْأَرْبَعَة، وعَلى الِاثْنَيْنِ، وعَلى
الثَّلَاثَة (وَالْأَصْل الْحَقِيقَة قُلْنَا الْمجَاز خير) من
الِاشْتِرَاك (وَتَعْيِين) الْمَعْنى (الْحَقِيقِيّ) وَهُوَ
الْوُجُوب ثَابت (بِمَا تقدم) من أدلته قَالَ (الْوَاقِف
كَونهَا) أَي الصِّيغَة (للْوُجُوب أَو غَيره بِالدَّلِيلِ)
لاستعمالها فِيهِ وَفِي غَيره (وَهُوَ) الدَّلِيل على
التَّعْيِين (مُنْتَفٍ، إِذْ الْآحَاد) أَي أَخْبَار الْآحَاد
على كَونهَا للمعين (لَا تفِيد الْعلم) وَهُوَ الْمَطْلُوب فِي
هَذِه المسئلة (وَلَو تَوَاتر) الْأَخْبَار (لم يخْتَلف)
فِيهِ: أَي فِي التَّعْيِين، لَكِن الِاخْتِلَاف فِيهِ ثَابت
فَلَا تَوَاتر، وَالْعقل الصّرْف بمعزل عَن إِثْبَات هَذَا
الطّلب (قُلْنَا) لَا نسلم أَنه لم يتواتر، إِذْ (تَوَاتر
استدلالات عدد التَّوَاتُر من الْعلمَاء وَأهل اللِّسَان
تَوَاتر أَنَّهَا) أَي الصِّيغَة (لَهُ) أَي للْوُجُوب فَقَوله
تَوَاتر أَولا مُبْتَدأ وَقَوله تَوَاتر ثَانِيًا خَبره،
وَالْحمل على الْمُسَامحَة (وَلَو سلم) أَنه لم يتواتر (كفى
الظَّن) الْمُسْتَفَاد من تتبع موارد اسْتِعْمَال هَذِه
الصِّيغَة (الْقَائِل بِالْإِذْنِ كالقائل بِالطَّلَبِ) فِي
أَنه يَقُول مثل قَوْله تَعَالَى ثَبت الْإِذْن بِالضَّرُورَةِ
اللُّغَوِيَّة، وَلم يُوجد مُخَصص لَهُ بِأحد الثَّلَاثَة من
الْوُجُوب، وَالنَّدْب، وَالْإِبَاحَة، فَوَجَبَ جعله للمشترك
بَينهمَا وَهُوَ الْإِذْن بِالْفِعْلِ، وَيُجَاب بِمثل
جَوَابه.
مسئلة
لَيست مبدئية لغوية، بل شَرْعِيَّة (مستطردة: أَكثر المتفقين
على الْوُجُوب) لصيغة الْأَمر على مَا ذكره ابْن الْحَاجِب
وَغَيره، وَمِنْهُم الشَّافِعِي والماتريدي على قَول متفقون
على (أَنَّهَا) أَي صِيغَة الْأَمر (بعد الْحَظْر) أَي
الْمَنْع (فِي لِسَان الشَّرْع للْإِبَاحَة) علم هَذَا
(باستقراء استعمالاته) أَي الشَّرْع لَهَا (فَوَجَبَ الْحمل)
أَي حملهَا (عَلَيْهِ) أَي على الْمَعْنى الإباحي (عِنْد
التجرد) عَن الْمُوجب لغيره (لوُجُوب الْحمل على الْغَالِب)
لِأَن الظَّاهِر كَون هَذَا الْخَاص مُلْحقًا بالغالب (مَا لم
يعلم) بِدَلِيل (أَنه) أَي هَذَا الْأَمر الْخَاص (لَيْسَ
مِنْهُ) أَي هَذَا (نَحْو: فَإِذا انْسَلَخَ الْأَشْهر الْحرم
فَاقْتُلُوا) الْمُشْركين فَإِنَّهُ للْوُجُوب وَإِن كَانَ بعد
الْحَظْر للْعلم بِوُجُوب قتل الْمُشرك إِلَّا لمَانع (وَظهر)
من استناد الْإِبَاحَة إِلَى الاستقراء الْمَذْكُور (ضعف
قَوْلهم) أَي الْقَائِلين بِالْوُجُوب بعد الْحَظْر:
كَالْقَاضِي أبي الطّيب الطَّبَرِيّ، وَأبي إِسْحَاق
الشِّيرَازِيّ، وَالْإِمَام الرَّازِيّ والبيضاوي وفخر
الْإِسْلَام
(1/345)
وَعَامة الْمُتَأَخِّرين من الْحَنَفِيَّة
(لَو كَانَ) الْأَمر للْإِبَاحَة بعد الْحَظْر (امْتنع
التَّصْرِيح بِالْوُجُوب) بعد الْحَظْر، وَلَا يمْتَنع إِذْ
لَا يلْزم من إِيجَاب الشَّيْء بعد التَّحْرِيم محَال، وَوجه
الضعْف أَنا مَا ادعينا الْمُنَافَاة بَين الْإِيجَاب
اللَّاحِق وَالتَّحْرِيم السَّابِق، بل الاستقراء دَعَانَا
إِلَى ذَلِك (وَلَا مخلص) من كَونه للْإِبَاحَة (إِلَّا
بِمَنْع صِحَة الاستقراء إِن تمّ) منع صِحَّته: وَهُوَ مَحل
نظر (وَمَا قيل أَمر الْحَائِض وَالنُّفَسَاء) بِالصَّلَاةِ
وَالصَّوْم بعد تحريمهما عَلَيْهِمَا فِي الْحيض وَالنّفاس
(بِخِلَافِهِ) أَي يُفِيد الْوُجُوب بعد الْحَظْر لَا
الْإِبَاحَة (غلط لِأَنَّهُ) أَي أَمرهمَا بهما (مُطلق) عَن
التَّرْتِيب على سبق الْحَظْر (وَالْكَلَام) المنازع فِيهِ من
أَن الْأَمر بعد الْحَظْر للْإِبَاحَة: إِنَّمَا هُوَ (فِي)
الْأَمر (الْمُتَّصِل بِالنَّهْي إِخْبَارًا) كَمَا روى عَنهُ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قد كنت نَهَيْتُكُمْ) عَن زِيَارَة
الْقُبُور فقد أذن لمُحَمد فِي زِيَارَة قبر أمه فزوروها
فَإِنَّهَا تذكر الْآخِرَة: رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ
حسن صَحِيح (و) فِي الْأَمر (الْمُعَلق بِزَوَال سَببه) أَي
سَبَب الْحَظْر نَحْو قَوْله تَعَالَى {وَإِذا حللتم فاصطادوا}
، فالصيد كَانَ حَلَالا على الْإِطْلَاق ثمَّ حرم بِسَبَب
الْإِحْرَام، ثمَّ علق الْحل بِالْإِذْنِ فِيهِ بِالْحلِّ
المستلزم زَوَال السَّبَب الْمَذْكُور (وَيدْفَع) هَذَا
التغليط (بوروده) أَي الْأَمر للحائض فِي الصَّلَاة (كَذَلِك)
أَي مُعَلّقا بِسَبَب زَوَال الْحَظْر (فَفِي الحَدِيث)
الْمُتَّفق عَلَيْهِ (فَإِذا أَدْبَرت عَنْك الْحَيْضَة فاغسلي
عَنْك الدَّم وَصلي) إِلَّا أَن الْحَيْضَة لم تذكر بهَا
صَرِيحًا بعد أَدْبَرت اكْتِفَاء بضميرها الْمُسْتَتر فِيهِ
لتقدم ذكرهَا فِي قَوْله: فَإِذا أَقبلت الْحَيْضَة فدعى
الصَّلَاة، وَهَذَا الْمِقْدَار كَاف فِي دفع التغليط، لِأَن
المغلط غلط بِاعْتِبَار أَمرهمَا بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْم
جَمِيعًا (وَالْحق أَن الاستقراء دلّ على أَنه) أَي الْأَمر
(بعد الْحَظْر لما اعْترض) أَي طَرَأَ الْحَظْر (عَلَيْهِ،
فَإِن) اعْترض (على الْإِبَاحَة) بِأَن كَانَ ذَلِك
الْمَحْظُور مُبَاحا، قبل الْحَظْر ثمَّ اتَّصل بِهِ الْأَمر
(كاصطادوا) فَإِن الصَّيْد كَانَ مُبَاحا قبل الْإِحْرَام
فَصَارَ مَحْظُورًا بِهِ، فَأمر بِهِ بعد التَّحَلُّل (فلهَا)
جَوَاب أَن: أَي فَالْأَمْر حِينَئِذٍ للْإِبَاحَة (أَو)
اعْترض (على الْوُجُوب: كاغسلي عَنْك الدَّم وَصلي فَلهُ) أَي
فَالْأَمْر للْوُجُوب، لِأَن الصَّلَاة كَانَت وَاجِبَة ثمَّ
حرمت بِالْحيضِ (فلنختر ذَلِك) أَي التَّفْصِيل الْمَذْكُور،
وَفِي الشَّرْح العضدي وَهُوَ غير بعيد، وَمَا اخْتَارَهُ
المُصَنّف أقرب إِلَى التَّحْقِيق (وَقَوْلهمْ) أَي
الْقَائِلين بِأَنَّهُ للْوُجُوب بعد الْحَظْر (الْإِبَاحَة
فِيهَا) أَي فِي هَذِه الْأَشْيَاء من الِاصْطِيَاد وَنَحْوه
(ل) دَلِيل وَهُوَ (أَن الْعلم بِأَنَّهَا) أَي الْمَذْكُورَات
(شرعت لنا) أَي لمصْلحَة انتفاعنا بهَا (فَلَا تصير) وَاجِبَة
(علينا) بِالْأَمر فَإِنَّهُ يَنْقَلِب علينا حِينَئِذٍ لنقل
الْوَاجِب وَاحْتِمَال الْفَوات الْمُوجب للعقوبة، وَهَذَا لَا
يَلِيق بشأن مَا شرع للِانْتِفَاع بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِه
الْأمة (لَا يدْفع استقراء أَنَّهَا) أَي صِيغَة الْأَمر
(لَهَا) أَي للْإِبَاحَة (فَإِنَّهُ) أَي هَذَا الاستقراء
(مُوجب للْحَمْل على الْإِبَاحَة فِيمَا لَا قرينَة مَعَه) تدل
على
(1/346)
الْحمل على الْوُجُوب (و) مُوجب للْحَمْل
بِنَاء (على مَا اخترنا على مَا اعْترض عَلَيْهِ) من
الْإِبَاحَة وَالْوُجُوب، هَذَا من تَمام المسئلة على مَا فِي
نُسْخَة اعتمدنا عَلَيْهَا، وَفِي نُسْخَة الشَّارِح زِيَادَة:
وَهِي (ثمَّ إِنَّمَا يلْزم من قدم الْمجَاز الْمَشْهُور لَا
أَبَا حنيفَة إِلَّا أَن تَمام الْوَجْه عَلَيْهِ فِيهَا)
انْتهى، وَفسّر من قدم بِأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَمن وافقهما،
وَفسّر الْوَجْه بِوَجْه هَذِه المسئلة، وَفسّر ضمير عَلَيْهِ
بِأبي حنيفَة وَلم يبين المُرَاد بِهَذَا الْكَلَام وَلَا يخفى
عَلَيْك أَن حمل الْأَمر بعد الْحَظْر على الْإِبَاحَة لَا
يلْزم أَن يكون بطرِيق التَّجَوُّز لجَوَاز كَونه فِي لِسَان
الشَّرْع فِي خُصُوص هَذَا الْمحل حَقِيقَة على أَنه لَو سلم
لَيْسَ من بَاب تَقْدِيم الْمجَاز الْمَشْهُور، بل من بَاب
الْحمل على الْمجَاز بِالْقَرِينَةِ وَكَأَنَّهُ وَالله أعلم
غير الْمَتْن فِي هَذَا الْمحل وَكَانَ قد كتب عَلَيْهِ
الشَّرْح قبل التَّغْيِير وَلم يُغَيِّرهُ وَرَأَيْت أَن
الصَّوَاب تَركه.
مسئلة
(لَا شكّ فِي تبادر كَون الصِّيغَة) أَي صِيغَة الْأَمر (فِي
الْإِبَاحَة وَالنَّدْب مجَازًا بِتَقْدِير أَنَّهَا خَاص فِي
الْوُجُوب) فِي التَّوْضِيح: اعْلَم أَن الْأَمر إِذا كَانَ
حَقِيقَة فِي الْوُجُوب فَإِنَّهُ إِذْ أُرِيد بِهِ
الْإِبَاحَة أَو النّدب يكون بطرِيق الْمجَاز لَا محَالة،
لِأَنَّهُ أُرِيد بِهِ غير مَا وضع لَهُ فقد ذكر فَخر
الْإِسْلَام فِي هَذِه المسئلة اخْتِلَافا، فَعِنْدَ
الْكَرْخِي والجصاص مجَاز فيهمَا، وَعند الْبَعْض حَقِيقَة،
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَحكى فَخر الْإِسْلَام على
التَّقْدِير) الْمَذْكُور وَهُوَ تَقْدِير كَونهَا خَاصّا فِي
الْوُجُوب (خلافًا فِي أَنَّهَا مجَاز) فيهمَا (أَو حَقِيقَة
فيهمَا) وَلَعَلَّ ذكر التبادر فِي كَلَام المُصَنّف يكون
إِشَارَة إِلَى احْتِمَال كَونهَا حَقِيقَة فيهمَا بالتأويل
الْآتِي، وَحَيْثُ كَانَ القَوْل بِكَوْنِهَا حَقِيقَة فيهمَا
مُحْتَاجا إِلَى التَّأْوِيل كَونهَا حَقِيقَة فيهمَا بالتأويل
الْآتِي، وَحَيْثُ كَانَ القَوْل بِكَوْنِهَا حَقِيقَة فيهمَا
مُحْتَاجا إِلَى التَّأْوِيل (فَقيل أَرَادَ) فَخر
الْإِسْلَام، أَو الَّذِي حكى عَنهُ بِمحل الْخلاف (لفظ أَمر)
يَعْنِي أَمر (وَبعد) أَي نسب إِلَى الْبعد كَونه مُرَاده
(بنظمه الْإِبَاحَة) أَي بِسَبَب أَنه نظم الْإِبَاحَة مَعَ
النّدب فِي سلك وَاحِد، وَلَا مُنَاسبَة بَين لفظ الْأَمر
وَالْإِبَاحَة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَالْمَعْرُوف) بَين
الْأُصُولِيِّينَ (كَون الْخلاف فِي النّدب فَقَط) وَصُورَة
الْخلاف (هَل يصدق أَنه) أَي الْمَنْدُوب (مَأْمُور بِهِ
حَقِيقَة) أم لَا (وَسَيذكر) فِي فصل الْمَحْكُوم بِهِ (وَقيل)
أَرَادَ بِالْأَمر (الصِّيغَة) كافعل، لَا لفظ الْأَمر
(وَالْمرَاد) أَي مُرَاد الْقَائِل حَقِيقَة فيهمَا (أَنَّهَا)
أَي الصِّيغَة (حَقِيقَة خَاصَّة للْوُجُوب عِنْد التجرد) عَن
الْقَرِينَة الصارفة لَهَا عَنهُ (وللندب وَالْإِبَاحَة
مَعهَا) أَي الْقَرِينَة المفيدة أَنَّهَا لَهما كَمَا أَن
الْمُسْتَثْنى مِنْهُ حَقِيقَة فِي الْكل بِدُونِ
الِاسْتِثْنَاء، وَفِي الْبَاقِي مَعَ الِاسْتِثْنَاء (وَدفع)
هَذَا القَوْل فِي التَّلْوِيح (باستلزامه رفع الْمجَاز)
بِالْكُلِّيَّةِ، وَكَون اللَّفْظ حَقِيقَة فِي الْمَعْنى
(1/347)
المجازى عِنْد الْقَرِينَة المفيدة أَنه
المُرَاد (وَبِأَنَّهُ يجب فِي الْحَقِيقَة اسْتِعْمَاله) أَي
اللَّفْظ (فِي) الْمَعْنى (الوضعي بِلَا قرينَة) وَلَا
يسْتَعْمل صِيغَة الْأَمر فيهمَا بِلَا قرينَة (وَقيل بل
الْقِسْمَة) للفظ بِاعْتِبَار اسْتِعْمَاله فِي الْمَعْنى
(ثلاثية) وَهِي أَنه إِن اسْتعْمل فِي معنى خَارج عَمَّا وضع
لَهُ فَجَاز وَإِلَّا فَإِن اسْتَعْملهُ فِي عين مَا وضع لَهُ
فحقيقة، وَإِلَّا فحقيقة قَاصِرَة، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ
بقوله (بِإِثْبَات الْحَقِيقَة القاصرة: وَهِي مَا) أَي
اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل (فِي الْجُزْء) أَي جُزْء مَا وضع لَهُ
لوُجُوب اسْتِعْمَال الْمجَاز فِي غير الْمَعْنى الوضعي
والجزئي لَيْسَ غيرا وَلَا عينا. قَالَ صدر الشَّرِيعَة:
الْجُزْء عِنْد فَخر الْإِسْلَام لَيْسَ عينا وَلَا غيرا على
مَا عرف من تَفْسِير الْغَيْر فِي علم الْكَلَام، فَإِذا تقرر
هَذَا (فالكرخي والرازي وَكثير) على أَنَّهَا فِي النّدب
وَالْإِبَاحَة (مجَاز إِذْ ليسَا) أَي النّدب وَالْإِبَاحَة
(جزئي الْوُجُوب لمنافاته) أَي الْوُجُوب (فصلهما) أَي فصل
النّدب وَالْإِبَاحَة، وَمَا يُنَافِي فصل الْمَاهِيّة لَا
يكون جُزْءا مِنْهَا (وَإِنَّمَا بَينهمَا) أَي بَين الْوُجُوب
وَبَين الْإِبَاحَة وَالنَّدْب قدر (مُشْتَرك هُوَ الْإِذْن)
فِي الْفِعْل، ثمَّ امتاز الْوُجُوب بفصل هُوَ امْتنَاع
التّرْك، وَالنَّدْب بِجَوَازِهِ مرجوحا، وَالْإِبَاحَة
بِجَوَازِهِ مُسَاوِيا (وَالْقَائِل) بِأَن صِيغَة الْأَمر
فيهمَا (حَقِيقَة) يَقُول (الْأَمر فِي الْإِبَاحَة إِنَّمَا
يدل على الْمُشْتَرك الْإِذْن) فِي الْفِعْل عطف بَيَان
للمشترك (وَهُوَ) أَي الْمُشْتَرك (الْجُزْء) من الْوُجُوب
(فحقيقة قَاصِرَة) أَي فيهمَا حَقِيقَة قَاصِرَة (وَثُبُوت
إِرَادَة مَا بِهِ المباينة) للْوُجُوب من جَوَاز التّرْك
مرجوحا وتساويا (وَهُوَ) أَي مَا بِهِ المباينة (فصلهما) أَي
النّدب وَالْإِبَاحَة إِنَّمَا تدل عَلَيْهِ (بِالْقَرِينَةِ
لَا بِلَفْظ الْأَمر) أَي صيغته، وَفِي التَّلْوِيح للْقطع
بِأَن الصِّيغَة لطلب الْفِعْل، وَلَا دلَالَة لَهَا على
جَوَاز التّرْك أصلا، وَإِنَّمَا يثبت جَوَاز التّرْك بِحكم
الأَصْل، إِذْ لَا دَلِيل على حُرْمَة التّرْك (ومبناه) أَي
هَذَا الْكَلَام (على أَن الْإِبَاحَة رفع الْحَرج عَن
الطَّرفَيْنِ) الْفِعْل وَالتّرْك (وَكَذَا النّدب) رفع
الْحَرج عَن الطَّرفَيْنِ (مَعَ تَرْجِيح الْفِعْل،
وَالْوُجُوب) رفع الْحَرج (عَن أَحدهمَا) أَي أحد
الطَّرفَيْنِ: وَهُوَ الْفِعْل، لِأَنَّهَا لَو فسرت بمعان أخر
على مَا فصلت فِي التَّلْوِيح لَا يَتَأَتَّى بِمَا ذكر (وَمن
ظن جزئيتهما) أَي الْإِبَاحَة وَالنَّدْب للْوُجُوب (فَبنى
الْحَقِيقَة) أَي كَونه حَقِيقَة قَاصِرَة (عَلَيْهِ) أَي على
كَونهمَا جُزْءا (غلط لترك) الظَّان الْمَذْكُور فِي جَعلهمَا
جُزْءا من الْوُجُوب (فصلهما) المنافى للْوُجُوب إِذْ لَو لم
يتْركهُ لما حكم بالجزئية وَقد عرفت أَن مَا حَكَاهُ فَخر
الْإِسْلَام من القَوْل بِكَوْن صِيغَة الْأَمر حَقِيقَة فِي
الْإِبَاحَة وَالنَّدْب لما كَانَ مُحْتَاجا إِلَى التَّأْوِيل
تصدى لتوجيهه صدر الشَّرِيعَة وَثلث الْقِسْمَة كَمَا سَمِعت
وَجعل صِيغَة الْأَمر فِي الْإِبَاحَة وَالنَّدْب حَقِيقَة
قَاصِرَة لكَون مَدْلُول الصِّيغَة هُنَاكَ إِنَّمَا هُوَ جنس
حقيقتهما: وَهُوَ الْإِذْن الْمَذْكُور على مَا مر بَيَانه عَن
التَّلْوِيح. وَقَالَ هَذَا بحث دَقِيق مَا مَسّه إِلَّا
خاطري، وَقَررهُ
(1/348)
الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ وَبَالغ فِي
مساعدته حَتَّى قَالَ: فَإِن قلت قد صَرَّحُوا بِاسْتِعْمَال
الْأَمر فِي النّدب وَالْإِبَاحَة وإرادتهما مِنْهُ، وَلَا
ضَرُورَة فِي حمل كَلَامهم على أَن المُرَاد أَنه يسْتَعْمل
فِي جنسهما عُدُولًا عَن الظَّاهِر: وَمَا ذكر من أَن الْأَمر
لَا يدل على جَوَاز التّرْك أصلا، إِن أَرَادَ بِحَسب
الْحَقِيقَة فَغير مُفِيد، وَإِن أَرَادَ بِحَسب الْمجَاز
فمحال، لم لَا يجوز أَن يسْتَعْمل اللَّفْظ الْمَوْضُوع لطلب
الْفِعْل جزما فِي طلبه مَعَ إجَازَة التّرْك وَالْإِذْن فِيهِ
مرجوحا أَو مُسَاوِيا بِجَامِع اشتراكهما فِي جَوَاز الْفِعْل
جرما فِي طلبه مَعَ إجَازَة التّرْك قلت هُوَ كَمَا صَرَّحُوا
بِاسْتِعْمَال الْأسد فِي الْإِنْسَان الشجاع من حَيْثُ أَنه
من أَفْرَاد الشجاع لَا من حَيْثُ أَنه مَدْلُول بِهِ على
ذاتيات الْإِنْسَان، فاستعماله صِيغَة الْأَمر فِي النّدب
وَالْإِبَاحَة من حَيْثُ أَنَّهُمَا من أَفْرَاد جَوَاز
الْفِعْل وَالْإِذْن وَتثبت خُصُوصِيَّة كَونه مَعَ جَوَاز
التّرْك بِالْقَرِينَةِ كَمَا أَن الْأسد يسْتَعْمل فِي
الشجاع، وَيعلم كَونه إنْسَانا بِالْقَرِينَةِ انْتهى، وَتعقب
المُصَنّف صدر الشَّرِيعَة بقوله (وَلَا يخفى أَن الدّلَالَة
على الْمَعْنى وَعدمهَا) أَي عدم الدّلَالَة على الْمَعْنى
(لَا دخل لَهَا فِي كَون اللَّفْظ مجَازًا، وَعَدَمه) أَي عدم
كَونه مجَازًا بِأَن تكون حَقِيقَة قَاصِرَة أَو غير قَاصِرَة
(بل) مدَار كَونه مجَازًا أَو حَقِيقَة (اسْتِعْمَال اللَّفْظ
فِيهِ) أَي فِي الْمَعْنى (وإرادته) أَي الْمَعْنى (بِهِ) أَي
بِاللَّفْظِ، فَإِن كَانَ الْمَعْنى الْمُسْتَعْمل فِيهِ مَا
وضع لَهُ أَو جزءه كَانَ حَقِيقَة على الِاصْطِلَاح
الْمَذْكُور، وَإِن كَانَ غَيرهمَا كَانَ مجَازًا، وَكم بَين
الدّلَالَة والاستعمال: أَلا ترى أَن اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل
فِيمَا وضع لَهُ يدل على الْجُزْء اللَّازِم وَلَيْسَ بمستعمل
فِي شَيْء مِنْهُمَا حِينَئِذٍ (وَلَا شكّ أَنه) أَي الْأَمر
(اسْتعْمل فِي الْإِبَاحَة وَالنَّدْب بِالْفَرْضِ) على مَا
هُوَ الْمَفْرُوض، فَإِن المنازع فِيهِ إِنَّمَا هُوَ الْأَمر
الْمُسْتَعْمل فيهمَا مَعَ تَسْلِيم كَونه مَوْضُوعا للْوُجُوب
هَل حَقِيقَة فيهمَا أَو مجَاز؟ وَصدر الشَّرِيعَة بصدد
تَوْجِيه كَونه حَقِيقَة فيهمَا: فَقَوله أَن لأمر يدل على
جُزْء من الْإِبَاحَة، وَهُوَ جَوَاز الْفِعْل لَا يُغْنِيه،
لِأَن ذَلِك الْجُزْء مَدْلُول لَهُ وَلَيْسَ بمستعمل فِيهِ
حَتَّى يكون حَقِيقَة قَاصِرَة فِي الْجُزْء، وَلَا يلْزم
مِنْهُ كَونه حَقِيقَة فِي الْإِبَاحَة والنزاع فِيهَا
(فَيكون) الْأَمر (مجَازًا) فيهمَا (وَإِن لم يدل الْأَمر
حِينَئِذٍ) أَي حِين اسْتعْمل فيهمَا (إِلَّا على جزئه) أَي
جُزْء كل من الْإِبَاحَة وَالنَّدْب (إِطْلَاق الْفِعْل) عطف
وَبَيَان لفعله، ثمَّ أَشَارَ إِلَى مَا أجَاب بِهِ الْمُحَقق
التَّفْتَازَانِيّ عَنهُ بقوله (وَكَون اسْتِعْمَاله) أَي
الْأَمر (فيهمَا) أَي النّدب وَالْإِبَاحَة (من حَيْثُ هما)
النّدب وَالْإِبَاحَة (من أَفْرَاد الْجَامِع) بَينهمَا وَبَين
الْوُجُوب (وَهُوَ) أَي الْجَامِع (الْإِذْن) فِي الْفِعْل
(كاستعمال الْأسد فِي الرجل الشجاع من حَيْثُ هُوَ) أَي الرجل
الشجاع (من أَفْرَاده) أَي من أَفْرَاد الشجاع الْمُطلق كَمَا
تقرر من أَن الْمُسْتَعَار لَهُ فِي اسْتِعْمَاله إِنَّمَا
هُوَ شخص من أَفْرَاد الشجاع الْمُطلق، وخصوصية كَونه رجلا
يفهم
(1/349)
من الْقَرَائِن كَمَا سَيَجِيءُ، وَفسّر
الشَّارِح ضمير أَفْرَاده بالأسد وَلَا معنى لَهُ (وَيعلم
أَنه) أَي الْمُسْتَعْمل فِيهِ (إِنْسَان بِالْقَرِينَةِ لَا
يصرف عَنهُ) خبر الْمُبْتَدَأ: أَعنِي قَوْله، وَكَون
اسْتِعْمَاله إِلَى آخِره، وَالضَّمِير الْمَرْفُوع للكون
الْمَذْكُور، وَالْمَجْرُور للاستعمال فِي الْإِبَاحَة
وَالنَّدْب (إِلَى كَون الِاسْتِعْمَال فِي جُزْء مَفْهُومه)
أَي مَفْهُوم الْأَمر وَهُوَ جَوَاز الْفِعْل: إِذْ فرق بَين
أَن يكون الْمُسْتَعْمل فِيهِ فَردا من أَفْرَاد مَفْهُوم
وَبَين أَن يكون عين ذَلِك الْمَفْهُوم (وَلَا) يصرف أَيْضا
(كَون دلَالَته على مُجَرّد الْجُزْء) بِحَيْثُ لَا يتَعَدَّى
إِلَى ماهو فَرد لَهُ عَن اسْتِعْمَاله فِي الْإِبَاحَة
وَالنَّدْب إِلَى اسْتِعْمَاله فِي جُزْء مَفْهُومه (بل هُوَ)
أَي الْجُزْء الْمَذْكُور (لمُجَرّد تسويغ الِاسْتِعْمَال فِي
تَمَامه) أَي تَمام الْمَعْنى الْمجَازِي الْمُسْتَعْمل فِيهِ:
لِأَنَّهُ العلاقة بَينه وَبَين الْمَوْضُوع لَهُ، وَلَا ينافى
دلَالَة اللَّفْظ بمعونة الْقَرِينَة على غير ذَلِك الْجُزْء
أَيْضا، وَهَذِه إِشَارَة إِلَى مَا فِي التَّلْوِيح من منع
كَون الْأَمر بِحَيْثُ لَا يدل إِلَّا على الطّلب (وَهُوَ) أَي
الِاسْتِعْمَال فِي تَمام الْمَعْنى الْمجَازِي (منَاط
المجازية دون الدّلَالَة لثبوتها) أَي الدّلَالَة (على)
الْمَعْنى (الوضعي) أَي تَمام مَا وضع لَهُ اللَّفْظ (مَعَ
مجازيته) أَي مجازية اللَّفْظ وَكَونه مُسْتَعْملا فِي غير مَا
وضع لَهُ، كَيفَ لَا يدل عَلَيْهِ وَهُوَ الْوَاسِطَة فِي
الِانْتِقَال إِلَى الْمَعْنى الْمجَازِي (كَمَا قدمنَا،
والقرينة) إِنَّمَا هِيَ (للدلالة على أَن اللَّفْظ لم يرد
بِهِ الْمَعْنى الوضعي) لَا للدلالة على الوضعي أَو جزئه
(وَالْمرَاد بحيوان فِي قَوْلنَا: يكْتب حَيَوَان إِنْسَان
اسْتِعْمَالا لاسم الْأَعَمّ فِي الْأَخَص بِقَرِينَة يكْتب)
إِشَارَة إِلَى مَا فِي التَّلْوِيح من قَوْله: فَإِن قلت فعلى
هَذَا لَا فرق بَين قَوْلنَا هَذَا الْأَمر للنَّدْب،
وَقَوْلنَا هُوَ للْإِبَاحَة: إِذْ المُرَاد أَنه يسْتَعْمل
فِي جَوَاز الْفِعْل مَعَ قرينَة دَالَّة على أَوْلَوِيَّة
الْفِعْل، وَالْمرَاد بِكَوْنِهِ للْإِبَاحَة أَنه خَال عَن
ذَلِك كَمَا إِذا قُلْنَا: يَرْمِي حَيَوَان، ويطير حَيَوَان،
فَإِنَّهُ مَدْلُول اللَّفْظ إِلَّا أَن الأول مُسْتَعْمل فِي
الْإِنْسَان، وَالثَّانِي فِي الطير انْتهى. (وَتقدم) فِي
أَوَائِل الْكَلَام فِي الْأَمر (أَنه) اسْتِعْمَال الْأَعَمّ
فِي الْأَخَص (حَقِيقَة) لِأَن الخصوصية لَيست مِمَّا اسْتعْمل
فِيهِ اللَّفْظ: بل هِيَ مَدْلُول عَلَيْهَا بِالْقَرِينَةِ
وَلَا يخفى أَنه إِذا كَانَ الْأَمر مُسْتَعْملا على هَذَا
المنوال فِي الْإِبَاحَة وَالنَّدْب كَانَ بِهَذَا
الِاعْتِبَار حَقِيقَة قَاصِرَة فيهمَا: فغاية مَا يتَوَجَّه
عَلَيْهِ أَنه خلاف مَا هُوَ الْوَاقِع بِحَسب الظَّاهِر
الْمُتَبَادر وَهُوَ أَن اسْتِعْمَاله فيهمَا إِنَّمَا هُوَ
بِاعْتِبَار خصوصيتهما لَا بِاعْتِبَار كَونهمَا فردين لجَوَاز
الْفِعْل، والخصوصية تُوجد من الْقَرِينَة، وَصدر الشَّرِيعَة
إِنَّمَا قصد نوع تَأْوِيل لكَلَام ذَلِك الْقَائِل إِلَّا أَن
يَجعله مذهبا لنَفسِهِ، كَيفَ وَقد صرح بِخِلَافِهِ وارتكاب
خلاف الظَّاهِر لِئَلَّا يكون الْكَلَام فَاسِدا مَحْضا لَيْسَ
ببدع فِي الْأَمر: فَالْأولى أَن يحمل تغليط المُصَنّف فِيمَا
سبق على من ظن جزئية الْإِبَاحَة وَالنَّدْب من الْوُجُوب من
غير ذَلِك الْقَائِل، وَيَبْنِي كَون الْأَمر حَقِيقَة
قَاصِرَة عَلَيْهِ
(1/350)
وَقَوله لَا يخفى إِلَى هُنَا على إِرَادَة
تَحْقِيق على كَلَام الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ.
مسئلة
(الصِّيغَة أَي الْمَادَّة) لم يقل ابْتِدَاء الْمَادَّة:
لِأَن الْمَذْكُور فِي كَلَام الْقَوْم لفظ الصِّيغَة،
فَأَرَادَ تَفْسِيرهَا (بِاعْتِبَار الْهَيْئَة الْخَاصَّة)
مَوْضُوعَة (لمُطلق الطّلب، لَا بِقَيْد مرّة) أَي لَيست لطلب
الْفِعْل مَعَ قيد هُوَ إِيقَاعه مرّة وَاحِدَة (وَلَا
تكْرَار) وَلَيْسَت لَهُ مَعَ كَونه يُوقع مكررا (وَلَا
يحْتَملهُ) أَي التّكْرَار أَيْضا بِأَن يُرَاد بهَا لعدم
دلالتها عَلَيْهِ، وَفِيه إِن أُرِيد عدم دلالتها بِمُوجب أهل
الْوَضع فَمُسلم لَكِن الْخصم لَا يَدعِيهِ، وَلَا حَاجَة
إِلَى ذكره بعد بَيَان مَا وضعت لَهُ، وَإِن أُرِيد عدمهَا
بمعاونة الْقَرِينَة، فَغير مُسلم (وَهُوَ الْمُخْتَار عِنْد
الْحَنَفِيَّة) والآمدي وَابْن الْحَاجِب وَإِمَام
الْحَرَمَيْنِ والبيضاوي، وَقَالَ السُّبْكِيّ وَأرَاهُ رَأْي
أَكثر أَصْحَابنَا، (و) قَالَ (كثير) مِنْهُم أَنَّهَا (للمرة)
وَعَزاهُ أَبُو إِسْحَق الاسفرايني إِلَى أَكثر
الشَّافِعِيَّة، وَقَالَ أَنه مُقْتَضى كَلَام الشَّافِعِي
رَحمَه الله، وَأَنه الصَّحِيح الْأَشْبَه بمذاهب الْعلمَاء
(وَقيل للتكرار أبدا) أَي مُدَّة الْعُمر مَعَ الْإِمْكَان
كَمَا ذكره أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ وَغَيره ليخرج أزمنة
ضروريات الْإِنْسَان، وعَلى هَذَا جمَاعَة من الْفُقَهَاء
والمتكلمين: مِنْهُم أَبُو إِسْحَق الاسفرايني (وَقيل) الْأَمر
(الْمُعَلق) على شَرط أَو صفة للتكرار لَا الْمُطلق، وَهُوَ
معزو إِلَى بعض الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة (وَقيل)
الْأَمر الْمُطلق للمرة (ويحتمله) أَي التّكْرَار، وَهُوَ معزو
إِلَى الشَّافِعِي رَحمَه الله (وَقيل بِالْوَقْفِ) إِمَّا على
أَن مَعْنَاهُ (لَا نَدْرِي) أَو وضع للمرة أَو للتكرار أَو
للمطلق (أَو) على أَن مَعْنَاهُ (لَا يدْرِي مُرَاده) أَي
مُرَاد الْمُتَكَلّم بِهِ (للاشتراك) بَينهمَا، وَهُوَ قَول
القَاضِي أبي بكر وَجَمَاعَة، وَاخْتَارَهُ إِمَام
الْحَرَمَيْنِ (لنا) على الْمُخْتَار وَهُوَ الأول (إطباق
الْعَرَبيَّة على أَن هَيْئَة الْأَمر لَا دلَالَة لَهَا
إِلَّا على الطّلب فِي خُصُوص زمَان وخصوص الْمَطْلُوب) من
قيام وقعود وَغَيرهمَا، إِنَّمَا هُوَ (من الْمَادَّة وَلَا
دلَالَة لَهَا) إِلَّا (على غير مُجَرّد الْفِعْل) أَي الْمصدر
(فَلَزِمَ) من مَجْمُوع الْهَيْئَة والمادة (أَن تَمام
مَدْلُول الصِّيغَة طلب الْفِعْل فَقَط والبراءة) أَي
الْخُرُوج عَن عُهْدَة الْأَمر تحصل (بِمرَّة) أَي بِفعل
الْمَأْمُور بِهِ مرّة وَاحِدَة (لوُجُوده) أَي لتحَقّق مَا
هُوَ الْمَطْلُوب بإدخاله فِي الْوُجُود مرّة (فَانْدفع دَلِيل
الْمرة) وَهُوَ أَن الِامْتِثَال يحصل بِمرَّة فَيكون لَهَا،
وَذَلِكَ لِأَن حُصُوله بهَا لَا يستدعى اعْتِبَارهَا جُزْءا
من مَدْلُول الْأَمر، لِأَن هَذَا حَاصِل على تَقْدِير
الْإِطْلَاق، لِأَنَّهُ لَا يُوجد الْمَأْمُور بِهِ بِدُونِ
الْمرة، وَالزِّيَادَة عَلَيْهَا غير مَطْلُوبَة بِهِ
(وَاسْتدلَّ) للمختار أَيْضا (مدلولها) أَي الصِّيغَة (طلب
حَقِيقَة الْفِعْل فَقَط والمرة والتكرار
(1/351)
خارجان) عَن حَقِيقَته، فَيجب أَن يحصل
الِامْتِثَال بِهِ فِي أَيهمَا وجد وَلَا تتقيد بِأَحَدِهِمَا
(وَدفع) كَمَا فِي الشَّرْح العضدي (بِأَنَّهُ) (اسْتِدْلَال
بالنزاع) أَي بِالْأَمر الْمُتَنَازع فِيهِ بَين الْقَوْم
فَإِن مِنْهُم من يَقُول هِيَ الْحَقِيقَة الْمقيدَة بالوحدة،
وَمِنْهُم من يَقُول الْمقيدَة بالتكرار (وبأنهما من صِفَاته)
أَي وَاسْتدلَّ أَيْضا بِأَن الْمرة والتكرار من صِفَات
الْفِعْل: كالقلة وَالْكَثْرَة (وَلَا دلَالَة للموصوف على
خُصُوص صفته بِالصِّفَاتِ الْمُقَابلَة (على الصّفة) الْمعينَة
مِنْهَا (وَدفع) هَذَا أَيْضا على مَا فِي الشَّرْح
الْمَذْكُور (بِأَنَّهُ إِنَّمَا يقتضى) مَا ذكر (انْتِفَاء
دلَالَة الْمَادَّة: أَي الْمصدر على ذَلِك) أَي الْمرة
والتكرار (وَالْكَلَام فِي الصِّيغَة) هَل هِيَ تدل على شَيْء
مِنْهُمَا أم لَا، وَاحْتِمَال الصِّيغَة لَهما لَا يمْنَع
ظُهُور أَحدهمَا، وَالْمُدَّعِي الدّلَالَة ظَاهرا لَا نصا
(قَالُوا) أَي المكررون (تكَرر) الْمَطْلُوب (فِي النَّهْي
فَعم) فِي الْأَزْمَان (فَوَجَبَ) التّكْرَار أَيْضا (فِي
الْأَمر لِأَنَّهُمَا) أَي الْأَمر وَالنَّهْي (طلب قُلْنَا)
هَذَا (قِيَاس فِي اللُّغَة لِأَنَّهُ فِي دلَالَة اللَّفْظ)
وَقد تقدم بُطْلَانه (و) أُجِيب أَيْضا (بِالْفرقِ) بَينهمَا
(بِأَن النَّهْي لتَركه) أَي الْفِعْل (وتحققه) أَي التّرْك
(بِهِ) أَي التّرْك (فِي كل الْأَوْقَات) لَا يُقَال كَمَا أَن
الْفِعْل يتَحَقَّق فِي بعض الْأَوْقَات كَذَلِك التّرْك
يتَحَقَّق فِي بَعْضهَا لِأَن الْمصلحَة غَالِبا فِي انتفائه
رَأْسا، وَذَلِكَ لَا يحصل فِي تَركه فِي بعض الْأَوْقَات
(وَالْأَمر لَا يُنَافِيهِ) أَي الْفِعْل (ويتحقق) الْفِعْل
(بِمرَّة، وَيَأْتِي) فِي هَذَا أَيْضا (أَنه مَحل النزاع)
لِأَن كَونه لمُجَرّد إثْبَاته الْحَاصِل بِمرَّة عين النزاع،
إِذْ الْمُخَالف يَقُول بل لإثباته دَائِما (وَأما) الْفرق
بَينهمَا كَمَا فِي الْمُخْتَصر وَغَيره (بِأَن التّكْرَار
مَانع من) فعل (غير الْمَأْمُور بِهِ) لِأَنَّهُ يسْتَغْرق
وقته، وَمن شَأْن الْبشر أَنه يشْغلهُ شَأْن عَن شَأْن آخر
عَادَة (فيتعطل) مَا سواهُ من الْمَأْمُور بِهِ والمصالح
(بِخِلَاف النَّهْي) فَإِن دوَام التّرْك لَا يشْغلهُ عَن
شَيْء من الْأَفْعَال (فمدفوع بِأَن الْكَلَام فِي مَدْلُوله)
أَي لفظ الْأَمر، وَفِي أَنه هَل يدل على التّكْرَار أم لَا
(وَلَيْسَ) مَدْلُوله (ملزوم الْإِرَادَة للتكرار) أَي
إِرَادَة الْمُتَكَلّم التّكْرَار لَيْسَ بِلَازِم لكَون
التكرارمدلولا للفظ فَيجوز أَن يكون اللَّفْظ دَالا على
التّكْرَار، لَكِن الْمُتَكَلّم لَا تتَعَلَّق بِهِ إِرَادَته
(فَيجب انتفاؤها) أَي إِرَادَة التّكْرَار على تَقْدِير كَونه
مدلولا (للمانع) مِنْهَا: وَهُوَ مَا ذكر من لُزُوم التعطيل،
فالدليل الْمَذْكُور يدل على عدم الْإِرَادَة، لَا الدّلَالَة
(قَالُوا) أَي المكررون أَيْضا الْأَمر (نهى عَن أضداده) وَهِي
كل مَا لَا يجْتَمع مَعَ الْمَأْمُور بِهِ، وَمِنْه تَركه
(وَهُوَ) أَي النَّهْي (دائمي) أَي يمْنَع من الْمنْهِي عَنهُ
دَائِما (فيتكرر) الْأَمر (فِي الْمَأْمُور) بِهِ إِذا لم
يتَكَرَّر، ويكتفي بإيقاعه مرّة وَاحِدَة فِي وَقت وَاحِد لم
يمْنَع من أضداده فِي سَائِر الْأَوْقَات (قُلْنَا تكَرر)
النَّهْي (الْمَضْمُون فرع تكَرر) الْأَمر (المتضمن فإثبات
تكرره) أَي تكْرَار الْأَمر المتضمن (بِهِ) أَي
(1/352)
بتكرار النَّهْي الْمَضْمُون (دور) لتوقف
كل من التكررين على الآخر (وَلَيْسَ) هَذَا الْجَواب (بِشَيْء)
لأَنا نقُول (بل إِذا كَانَ) تكَرر النَّهْي الْمَضْمُون
(فَرعه) أَي فرع تكَرر الْأَمر المتضمن (وتحققنا ثُبُوته) أَي
ثُبُوت تكَرر الْفَرْع (استدللنا بِهِ) أَي بتكرره (على أَن
الأَصْل كَذَلِك) أَي متكرر أَيْضا (من قبيل) الْبُرْهَان
(الانىّ) وَهُوَ الِاسْتِدْلَال بالأثر على الْمُؤثر (بل)
يلْزم (للفرعية) أَي لفرعية تكَرر النَّهْي لتكرر الْأَمر
(إِذا كَانَ) الْأَمر (دَائِما كَانَ) نهيا عَن أضداده
(دَائِما أَو) كَانَ الْأَمر (فِي) وَقت (معِين فَفِيهِ) نفى
ذَلِك الْوَقْت الْمعِين (نهى الضِّدّ) لَا فِي سَائِر
الْأَوْقَات (أَو) كَانَ الْأَمر (مُطلقًا فَفِي وَقت
الْفِعْل) نهى الضِّدّ (الْمُعَلق) أَي الْقَائِل بِأَن
الْأَمر الْمُعَلق على شَرط أَو صفة يدل على التّكْرَار. قَالَ
(تكَرر) الْمَأْمُور (فِي نَحْو: وَإِن كُنْتُم جنبا) فاطهروا:
فتكرر وجوب التَّطْهِير بِتَكَرُّر الْجَنَابَة (قُلْنَا
الشَّرْط هُنَا عِلّة فيتكرر) الْمَأْمُور بِهِ (بتكررها
اتِّفَاقًا) ضَرُورَة تكَرر الْمَعْلُول بِتَكَرُّر علته (لَا)
يثبت عِنْد ذَلِك التّكْرَار (بالصيغة، وَأما غَيره) أَي مَا
لَا يكون عِلّة (كاذا دخل الشَّهْر فَأعتق: فخلاف) أَي فَفِيهِ
خلاف فِي كَونه للتكرار (وَالْحق النَّفْي) أَي نفي التّكْرَار
فِيهِ (فَإِن قلت: فَكيف نَفَاهُ) أَي تكَرر الحكم بتكرار
الْوَصْف الَّذِي هُوَ علته (الْحَنَفِيَّة فِي وَالسَّارِق
والسارقة) فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا (فَلم يقطعوا فِي) الْمرة
(الثَّالِثَة) يَد السَّارِق الْيُسْرَى إِذا كَانَ قد قطع فِي
الأولى يَده الْيُمْنَى. وَفِي الثَّانِيَة رجله الْيُسْرَى
مَعَ أَن السّرقَة عِلّة الْقطع (وجلدوا فِي الزَّانِي بكرا
أبدا) أَي كلما زنى ليَكُون الزِّنَا عِلّة للجلد
(فَالْجَوَاب) أَن يُقَال (أما مانعو تَخْصِيص الْعلَّة فَلم
يعلق) الْقطع عِنْدهم (بعلة) من السّرقَة وَنَحْوهَا (لِأَن
عدم قطع يَده فِي الثَّانِيَة إِجْمَاعًا نقض) لكَونهَا عِلّة
لتخلف الحكم عَنْهَا (فَوَجَبَ عدم الِاعْتِبَار) أَي عدم
اعْتِبَار علية السّرقَة للْقطع (فَبَقيَ مُوجبه) أَي النَّص
(الْقطع مرّة مَعَ السّرقَة) بِخِلَاف الْجلد فِي الزِّنَا
فَإِنَّهُ علق بعلة هِيَ الزِّنَا فيكرر بتكرره (وَالْوَجْه
الْعَام) أَي على القَوْل بِجَوَاز تَخْصِيص الْعلَّة وبعدم
جَوَازه (أَنه) أَي نَص الْقطع (مؤول إِذْ حَقِيقَته قطع
الْيَدَيْنِ بِسَرِقَة وَاحِدَة) فَإِن منطوقه قطع أَيدي كل من
السَّارِق والسارقة إطلاقا للْجمع على مَا فَوق الْوَاحِد،
وَهُوَ غير مَعْمُول بِهِ إِجْمَاعًا (بل صرف) النَّص (عَنهُ)
أَي عَن قطع الْيَدَيْنِ (إِلَى وَاحِدَة هِيَ الْيُمْنَى
بِالسنةِ) فَإِنَّهُ أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بسارق فَقطع يَمِينه، فَإِنَّهُ يدل على تعْيين الْيَمين
للْقطع وَإِلَّا فقد كَانَ عَادَته طلب الْأَيْسَر للْأمة
(وَقِرَاءَة ابْن مَسْعُود) فَاقْطَعُوا أيمانهما،
وَالْقِرَاءَة الشاذة حجَّة على الصَّحِيح (وَالْإِجْمَاع)
وَلَا عِبْرَة فِي نقل عَن
(1/353)
شذوذ من الِاكْتِفَاء بِقطع الْأَصَابِع
لِأَن بهَا الْبَطْش (فَظهر) بِهَذِهِ الْأَدِلَّة (أَن
المُرَاد) من النَّص (انقسام الْآحَاد على الْآحَاد: أَي كل
سَارِق فَاقْطَعُوا يَده الْيُمْنَى بِمُوجب حمل الْمُطلق)
وَهُوَ أَيْدِيهِمَا (عَلَيْهِ) أَي الْمُقَيد: وَهُوَ
الْيُمْنَى لما ذكرنَا (فَلَو فرضت) السّرقَة (عِلّة) للْقطع
(تعذر) الْقطع (لفَوَات مَحل الحكم) وَهُوَ الْيُمْنَى (فِي
الثَّانِيَة) مُتَعَلق بتعذر، وَذَلِكَ بقطعها فِي الأولى
(بِخِلَاف الْجلد) لعدم فَوت مَحَله وَهُوَ الْبدن بِالْجلدِ
السَّابِق (وَقطع الرجل فِي الثَّانِيَة بِالسنةِ ابْتِدَاء)
فقد روى الشَّافِعِي رَحمَه الله وَالطَّبَرَانِيّ عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ " إِذا سرق
السَّارِق فَاقْطَعُوا يَده، ثمَّ إِن سرق فَاقْطَعُوا رجله
إِلَى غير ذَلِك وبالإجماع وَقَالَ (الْوَاقِف) لَو ثَبت كَونه
للمرة أَو للتكرار (فَأَما بالآحاد) وَهِي إِنَّمَا تفِيد
الظَّن، والمسئلة علمية، أَو بالتواتر وَهُوَ يمْنَع الْخلاف،
وَالْفِعْل الصّرْف لَا مدْخل لَهُ فِيهِ، فَلَزِمَ الْوَقْف
(وَتقدم مثله) فِي مسئلة: صِيغَة الْأَمر خَاص فِي الْوُجُوب
للْوَاقِف فِي إمهاله أَو لغيره وَجَوَابه (وسؤال) الْأَقْرَع
بن حَابِس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْحَج بقوله
(ألعامنا هَذَا أم لِلْأَبَد) يَعْنِي أوجوب الْحَج
الْمَدْلُول عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى - {وَللَّه على النَّاس
حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} - فِي حَقنا
مَخْصُوص بِهَذَا الْعَام، بِمَعْنى أَنه إِذا أَتَيْنَا بِهِ
فِي هَذِه السّنة لَا يجب علينا فِي سَائِر السنين، أم يجب
علينا كل سنة؟ . وَفِي التَّلْوِيح عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي
الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ " يَا
أَيهَا النَّاس: قد فرض عَلَيْكُم الْحَج فحجوا، فَقَالَ
الْأَقْرَع بن حَابِس: أكل عَام يَا رَسُول الله؟ فَسكت حَتَّى
قَالَهَا ثَلَاثًا: فَقَالَ لَو قلت نعم لوَجَبَ وَلما
اسْتَطَعْتُم " (أوردهُ فَخر الْإِسْلَام) دَلِيلا (لاحْتِمَال
التّكْرَار) فَقَالَ: لَو لم يحْتَمل اللَّفْظ لما أشكل
عَلَيْهِ (وَهُوَ) أَي السُّؤَال الْمَذْكُور كَونه دَلِيلا
(للْوَقْف بِالْمَعْنَى الثَّانِي) وَهُوَ أَنه لَا يدْرِي
مُرَاد الْمُتَكَلّم بِهِ أهوَ الْمرة أَو التّكْرَار (أظهر)
من كَونه دَلِيلا لاحْتِمَال التّكْرَار: لِأَنَّهُ إِذا كَانَ
يحْتَمل التّكْرَار يلْزم أَن يكون ظَاهرا فِي الْمرة، فَيلْزم
كَون السُّؤَال فِي غير مَحَله لِأَنَّهُ مُوجبه للْعَمَل
بِالظَّاهِرِ وَترك السُّؤَال بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ مُرَاد
الْمُتَكَلّم خفِيا، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يكون السُّؤَال فِي
مَحل الْحَاجة (وإيراده) دَلِيلا (لإِيجَاب التّكْرَار وَجه
بِعِلْمِهِ) أَي السَّائِل (بِدفع الْحَرج) بِنَفْي الْحَرج
فِي الدّين وَفِي حمله على التّكْرَار حرج عَظِيم فأشكل
عَلَيْهِ فَسَأَلَ (وَإِنَّمَا يصحح) هَذَا التَّوْجِيه
(السُّؤَال) على تَقْدِير كَون الْأَمر للتكرار فَإِنَّهُ إِذا
علم من الْخَارِج أَن الْأَمر للتكرار، أَو يُقَال لم يكن
للسؤال وَجه: فيتعذر بِهَذَا (لَا) أَنه يصحح (كَونه دَلِيلا
لوُجُوب التّكْرَار أَو احْتِمَاله) أَي أَو كَونه دَلِيلا
لاحْتِمَال التّكْرَار لجَوَاز أَن يكون مُتَسَاوِيا السُّؤَال
عدم درايته لمراد الْمُتَكَلّم كَمَا ذكرنَا فَلَا يتَعَيَّن
كَون السُّؤَال لعلمه بِدفع الْحَرج مَعَ علمه بِكَوْن الْأَمر
للتكرار (ثمَّ
(1/354)
الْجَواب) لِلْجُمْهُورِ عَن الِاسْتِدْلَال بالسؤال
الْمَذْكُور (أَن الْعلم بتكرير) الحكم (الْمُتَعَلّق بِسَبَب
متكرر ثَابت فَجَاز كَونه) أَي سُؤال السَّائِل الْمَذْكُور
(لإشكال أَنه) أَي سَبَب الْحَج (الْوَقْت فيتكرر) وجوب الْحَج
بتكريره (أَو) أَن سَببه (الْبَيْت فَلَا) يتَكَرَّر لعدم
تكرره. قَالَ الشَّارِح: فِي أَكثر الْكتب أَن السَّائِل هُوَ
سراقَة، فَقَالَ فِي حجَّة الْوَدَاع: ألعامنا هَذَا أم
لِلْأَبَد؟ (وَبنى بعض الْحَنَفِيَّة) كفخر الْإِسْلَام، وَصدر
الشَّرِيعَة (على التّكْرَار وَعَدَمه، واحتماله) حكم
(طَلِّقِي نَفسك أَو طَلقهَا يملك) الْمَأْمُور أَن يُطلق
(أَكثر من الْوَاحِدَة) جملَة ومتفرقة (بِلَا نِيَّة على
الأول) أَي على أَن الْأَمر للتكرار، فَإِن لفظ طلق إِذا كَانَ
مَوْضُوعا لطلب التَّطْلِيق مكررا كَانَ التَّوْكِيل
بِأَكْثَرَ من الْوَاحِدَة فَيملكهُ من غير الْتِفَات إِلَى
نِيَّة الْمُوكل، لِأَن الشَّرْع يحكم بِالظَّاهِرِ (وَبهَا)
أَي وَيملك أَكثر من الْوَاحِدَة بِالنِّيَّةِ (على الثَّالِث)
أَي احْتِمَاله التّكْرَار مطابقا لنيته من اثْنَيْنِ
وَثَلَاث، فَإِن لم تكن لَهُ نِيَّة أَو نوى وَاحِدَة
فَوَاحِدَة لَا غير (وعَلى الثَّانِي) أَي عدم احْتِمَاله
التّكْرَار (وَهُوَ) أَي الثَّانِي (قَوْلهم) أَي
الْحَنَفِيَّة يملك (وَاحِدَة) سَوَاء نَوَاهَا أَو
اثْنَتَيْنِ أَو لم ينْو شَيْئا (وَالثَّلَاث بِالنِّيَّةِ لَا
الثِّنْتَيْنِ) وَإِن نواهما (وَلَا يخفى أَن المتفرع) فِي
الْمَذْكُورَات بزعمهم (تعدد الْأَفْرَاد) للطَّلَاق وَعدم
تعددها (وَلَيْسَ التّكْرَار) تعددها للْفِعْل (وَلَا ملزومه)
أَي التّكْرَار (للتعدد) أَي لتحَقّق التَّعَدُّد بِحَسب
الْأَفْرَاد (وَالْفِعْل وَاحِد فِي) إِيقَاع (التَّطْلِيق)
دفْعَة وَاحِدَة (ثِنْتَيْنِ) تَارَة (وَثَلَاثًا) أُخْرَى
فَإِن فِيهِ تعدد الطَّلَاق مَعَ عدم تكَرر فعل التَّطْلِيق
(فَهُوَ) أَي تعدد الْأَفْرَاد (لَازم التّكْرَار أَعم) مِنْهُ
لتحققه بِدُونِ التّكْرَار أَيْضا (فَلَا يلْزم من ثُبُوت
التَّعَدُّد ثُبُوته) أَي التّكْرَار، لِأَن وجود الْأَعَمّ
لَا يسْتَلْزم وجود الْأَخَص (وَلَا من انْتِفَاء التّكْرَار
انتفاؤه) أَي التَّعَدُّد، لِأَن انْتِفَاء الْأَخَص لَا
يسْتَلْزم انْتِفَاء الْأَعَمّ (فَهِيَ) أَي الصُّور
الْمَذْكُورَة بِاعْتِبَار التَّعَدُّد وَعَدَمه، ونظائرها غير
مَبْنِيَّة على الْمَذْكُور لتحققها بِدُونِ الْخلاف فِي كَون
الْأَمر للتكرار أَو لَا، بل هِيَ مسئلة (مُبتَدأَة) هَكَذَا: |