تيسير التحرير الْبَحْث الْخَامِس
(يرد على الْعَام التَّخْصِيص، فَأكْثر الْحَنَفِيَّة) عِنْدهم
التَّخْصِيص (بَيَان أَنه) أَي الْعَام (أُرِيد بعضه بمستقل)
وَهُوَ مَا كَانَ مُبْتَدأ بِنَفسِهِ غير مُتَعَلق بصدر
الْكَلَام، احْتَرز بِهِ عَن نَحْو الِاسْتِثْنَاء وَالصّفة
(مُقَارن: أَي مَوْصُول) بِالْعَام: أَي مَذْكُور عقبه، فسره
بِهِ لِئَلَّا يتَوَهَّم إِرَادَة الْمَعِيَّة من الْمُقَارنَة
فَإِن قلت هَذَا غير مُتَصَوّر قُلْنَا يتَصَوَّر فِي فعله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ قَوْله، وَإِنَّمَا اشْترط
الْمُقَارنَة (فِي) الْمُخَصّص (الأول، فَإِن تراخي) الْبَيَان
الْمَذْكُور عَن الْعَام (فناسخ لَا) فِي الْمُخَصّص
(الثَّانِي) وَمَا بعده (وَالْوَجْه أَن الثَّانِي) إِذا
ترَاخى فَهُوَ (نَاسخ
(1/271)
أَيْضا) فالمقارنة شَرط فِيهِ أَيْضا
(إِلَّا الْقيَاس) اسْتثِْنَاء من قَوْله: فَإِن تراخي فناسخ
فَإِنَّهُ بَيَان لَا يتَصَوَّر ناسخيته وَإِن تراخي بِحَسب
الظَّاهِر (إِذْ لَا يتَصَوَّر تراخيه) بِحَسب الْحَقِيقَة
وَبِاعْتِبَار وضع الشَّارِع لعُمُوم علته الْمَوْجُودَة فِي
الْمَنْصُوص عَلَيْهِ للمقيس الْمُوجبَة لمشاركته الْمَقِيس
عَلَيْهِ فِي الحكم وَإِن خَفِي ذَلِك قبل الِاجْتِهَاد، فعلى
مَا ذكر يجوز التَّخْصِيص بالمخصص الثَّانِي الْمُتَأَخر وَلَا
نسخ، وعَلى مَا ذكر المُصَنّف بحثا لَا يجوز لِأَنَّهُ نَاسخ
(وَصرح الْمُحَقِّقُونَ بِأَن تفرع عدم جَوَاز ذكر بعض) من
المخصصات (دون بعض على منع تَأْخِير تَخْصِيص الْمُخَصّص
ضَرُورِيّ) فَإِن عِلّة منع تَأَخره لُزُوم النّسخ، فَتبين
مِنْهُ إِذا كَانَ للعام عدَّة مخصصات وَجب ذكر الْكل وَلم يجز
ذكر بَعْضهَا دون بعض فَإِنَّهُ لَا بُد أَن يذكر الْمَتْرُوك
ثَانِيًا مَفْصُولًا فَيلْزم النّسخ، وَهَذَا يدل على مَا ذكره
المُصَنّف من أَن تراخي الْمُخَصّص الثَّانِي أَيْضا يُوجب
النّسخ كَمَا لَا يخفى (أَو جهل) تراخيه كَمَا جهل مقارنته
مَعْطُوف على قَوْله تراخي (فَحكم التَّعَارُض) يجْرِي بَين
الْعَام وَمَا جهل تراخيه فِي الْقدر الَّذِي اخْتلف فِيهِ
الحكم (كترجيح الْمَانِع) مِنْهُمَا: أَي الْمحرم على
الْمُبِيح (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتأت التَّرْجِيح فَالْحكم
(الْوَقْف) كَمَا فِي البديع، أَو التساقط كَمَا فِي أصُول
ابْن الْحَاجِب، وحاصلهما وَاحِد (وَوَجَب نسخ الْخَاص
بِالْعَام الْمُتَأَخر عَنهُ) كقلبه، وَبِه قَالَ القَاضِي
وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَفِي البديع جعل هَذَا قَول
الْعِرَاقِيّين من الْحَنَفِيَّة، ثمَّ قَالَ وَالشَّافِعِيّ
وَالْقَاضِي أَبُو زيد وَجمع من مَشَايِخنَا الْخَاص مُبين
مُطلقًا: يَعْنِي سَوَاء كَانَ الْخَاص مُتَقَدما أَو
مُتَأَخِّرًا، أَو مَجْهُولا، أَو وردا مَعًا
(وَالشَّافِعِيَّة) قَالَ الشَّارِح: أَي أَكْثَرهم (وَبَعض
الْحَنَفِيَّة) قَالُوا: التَّخْصِيص (قصر الْعَام على بعض
مُسَمَّاهُ، وَقيل) على بعض (مسمياته) كَمَا فِي أصُول ابْن
الْحَاجِب والبديع بِنَاء (على إِرَادَة أَجزَاء مُسَمَّاهُ)
تَنْزِيلا لأجزائه منزلَة مسميات لَهُ، إِذْ لَا مسميات للفظ
الْوَاحِد غير أَن مَا يتَنَاوَلهُ الْعَام الْمُسْتَغْرق لما
يصلح لَهُ أَجزَاء لَهُ (وَهُوَ) أَي كَون المُرَاد هَذَا
(يُحَقّق مَا أسلفناه) فِي الْكَلَام على تَعْرِيف الْعَام من
(أَن دلَالَته) أَي الْعَام (على الْأَفْرَاد تضمنية أَو) على
إِرَادَة (الْآحَاد الْمُشْتَركَة فِي الْمُشْتَرك) بِكَسْر
الرَّاء فِي الأول وَفتحهَا فِي الثَّانِي، وَهُوَ الْمَعْنى
الْكُلِّي الَّذِي يصدق على الآخر كل وَاحِد من تِلْكَ
الْآحَاد، وَهِي جزئيات لَهُ كَمَا مَشى عَلَيْهِ الْفَاضِل
الْأَبْهَرِيّ (وَإِضَافَة المسميات إِلَيْهِ) أَي الْعَام
(حِينَئِذٍ) أَي حِين يكون المُرَاد هَذَا (بِعُمُوم نسبته)
لِأَن الْمُتَبَادر من الْإِضَافَة الْمَذْكُورَة أَن تكون
مسميات اللَّفْظ الْعَام، وَلَا يَصح ذَلِك لِأَن أَفْرَاد
الْكُلِّي لَا يكون مسميات اللَّفْظ الْمَوْضُوع لَهُ فَلَا
بُد من صرفهَا عَن تِلْكَ النِّسْبَة الْخَاصَّة إِلَى نِسْبَة
عَامَّة، وَهِي مُلَاحظَة كَونهَا مسميات فِي الْجُمْلَة لَا
بِالنّظرِ إِلَى لفظ الْعَام، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله
(فَإِنَّهَا) أَي تِلْكَ الْآحَاد (مسميات فِي نفس الْأَمر)
لأساميها
(1/272)
(لَا بِهِ) أَي لَيْسَ بمسميات بِلَفْظ
الْعَام، وَهَذَا التَّعْرِيف يصدق على الْقصر الْكَائِن فِي
الْعَام المُرَاد بِهِ الْخُصُوص ابْتِدَاء: وَهُوَ لَيْسَ
بِمُرَاد عُمُومه لَا حكما وَلَا تناولا، والمخصوص من عُمُومه
مُرَاد تناولا حكما (وَيكون) التَّخْصِيص (بمستقل كالعقل
والسمعي الْمُنْفَصِل، ومتصل) مَعْطُوف على مُسْتَقل
(وَالْعَام فِيهِ) أَي فِي تَعْرِيف التَّخْصِيص (حَقِيقَة
لِأَنَّهُ) أَي التَّخْصِيص (حكم على الْمُسْتَغْرق) بِأَنَّهُ
أُرِيد مِنْهُ الْبَعْض، تَعْرِيض بِنَفْي مَا ذكره الْمُحَقق
التَّفْتَازَانِيّ أَن المُرَاد بِهِ مَا هُوَ عَام على
تَقْدِير عدم الْمُخَصّص فَإِن قلت أَنكُمْ اعتبرتم
الْمُقَارنَة فِي الْمُخَصّص، فَلَا يُمكن إِرَادَة
الِاسْتِغْرَاق لما يصلح لَهُ مَعَ وجود مَا يدل على خُرُوج
الْبَعْض قلت عَام بِحَسب التَّنَاوُل وَمُقْتَضى الْوَضع
فَقبل بَيَان إِرَادَة الْبَعْض يفهم مِنْهُ إِرَادَة الْكل،
وَقد عرفت أَن المُرَاد من الْمُقَارنَة أَن يكون مَوْصُولا
بِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ اسْتعْمل فِي الْعُمُوم من غير أَن يحكم
عَلَيْهِ من حَيْثُ الْعُمُوم كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاء،
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله حكم على الْمُسْتَغْرق فَتدبر (فمخرج
الْبَعْض مُطلقًا) سَوَاء كَانَ مُتَّصِلا أَو لَا، من عقل أَو
حس، أَو لفظ، أَو عَادَة (مُخَصص) على هَذَا الِاصْطِلَاح
(وَيُقَال) التَّخْصِيص (لقصر اللَّفْظ مُطلقًا) أَي عَاما
كَانَ أَو غَيره (على بعض مُسَمَّاهُ) فتحقق فِي خَاص
مُسْتَعْمل فِي بعض أَجزَاء مُسَمَّاهُ (وَلَا يخفى مَا فِي)
لفظ (قصر) من الْقُصُور فِي أَدَاء الْمَقْصُود (إِذْ لَا ينفى
النّسخ) فِيمَا إِذا نسخ بعض مَا يتَنَاوَلهُ الْعَام،
وَالْمرَاد بِعَدَمِ نَفْيه إِيَّاه عدم إِخْرَاجه عَن
التَّعْرِيف وَأجَاب الْأَبْهَرِيّ بِمَنْع وُرُوده لِأَن
الْعَام إِذا ورد عَلَيْهِ النّسخ فِي الْبَعْض لم يكن
مَقْصُورا على بعض مسمياته حِين أطلق، بل أُرِيد بِهِ الْكل
أَولا، ثمَّ رفع الْبَعْض أَو انْتهى حكمه، بِخِلَاف
التَّخْصِيص، فَإِنَّهُ لم يرد بِالْعَام حِين أطلق إِلَّا
الْبَعْض، أما بِحَسب الحكم كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاء، وَأما
بِحَسب الذَّات كَمَا فِي غَيره انْتهى، وَأَنت خَبِير بِأَن
قَوْله أُرِيد بِهِ الْكل أَولا، ثمَّ رفع اعْتِرَاف بورود
النَّقْض بِاعْتِبَار الْحَالة الثَّانِيَة فَإِنَّهُ بعد نسخ
لفظ مَقْصُور على بعض أَفْرَاد مُسَمَّاهُ، لِأَنَّهُ بعد
ذَلِك لم يبْق ذَلِك الْبَعْض مرَادا من الْعَام فَتَأمل
(وَمنعه) أَي التَّخْصِيص (شذوذ بِالْعقلِ لِأَنَّهُ) أَي
التَّخْصِيص بِالْعقلِ (لَو صَحَّ صحت إِرَادَته) أَي إِرَادَة
مَا قضى الْعقل بِإِخْرَاجِهِ من الْعَام، وَاللَّازِم
مُنْتَفٍ، أما الْمُلَازمَة فَلِأَن الْخَارِج بِالْعقلِ من
مسمياته، وَأما الانتفاء فَلِأَنَّهُ لَا يَصح لعاقل إِرَادَة
مَا يُخَالف الْعقل (ولكان) التَّخْصِيص بِالْعقلِ
(مُتَأَخِّرًا) عَن الْعَام ضَرُورَة تَأْخِير الْبَيَان عَن
الْمُبين (وَالْعقل مُتَقَدم) والتخصيص بِهِ فِي رتبته (ولصح
نسخه) أَي كَون الْعقل نَاسِخا، لِأَنَّهُ بَيَان والنسخ قسم
من الْبَيَان (أُجِيب بِمَنْع الْمُلَازمَة) فِي الأول (بل
اللَّازِم) فِي الأول (دلَالَته) أَي لَا نسلم أَنه لَو صَحَّ
التَّخْصِيص بِالْعقلِ صَحَّ أَن يُرَاد
(1/273)
مَا أخرجه الْعقل، فَإِن التَّخْصِيص فرع
الْعُمُوم، والعموم دلَالَة اللَّفْظ على الِاسْتِغْرَاق، لَا
فرع صِحَة إِرَادَة الِاسْتِغْرَاق (وَهِي) أَي الدّلَالَة
الْمَذْكُورَة (ثَابِتَة بعد الْإِخْرَاج) فضلا عَمَّا قبله
فَإِن الدّلَالَة على مَا وضع لَهُ اللَّفْظ من لَوَازِم
الْوَضع، والإخراج لَا ينفى الْوَضع (و) فِي الثَّانِي
اللَّازِم (تَأَخّر بَيَانه) أَي بَيَان الْعقل (لَا ذَاته)
أَي لَا تَأَخّر الْعقل نَفسه، وَبَيَانه مُتَأَخّر عَن
الْعَام (و) فِي الثَّالِث عدم لُزُوم صِحَة النّسخ من صِحَة
التَّخْصِيص (لعجز الْعقل عَن دَرك الْمدَّة الْمقدرَة للْحكم)
فالعقل يصلح مُخَصّصا لعدم عَجزه عَن معرفَة عدم صَلَاحِية مَا
يُخرجهُ الحكم الْمَنْسُوب إِلَى الْعَام، وَلَا يصلح نَاسِخا
لعَجزه عَمَّا ذكره والنسخ لَا يتَحَقَّق بِدُونِهِ،
وَبِالْجُمْلَةِ لَا تلازم بَين الصلاحيتين، وَمَا ذكره سَنَد
لمنع الْمُلَازمَة (وَأجِيب عَن الأول أَيْضا بِأَن
التَّخْصِيص للمفرد، وَهُوَ كل شَيْء) مثلا فِي قَوْله
تَعَالَى - {خَالق كل شَيْء} -، (وَيصِح إِرَادَة الْجَمِيع)
أَي جَمِيع مَا يُطلق عَلَيْهِ لفظ شَيْء (بِهِ) أَي بِكُل
شَيْء، وَلَا مَحْذُور إِذا قطع النّظر عَن نِسْبَة الْخلق
إِلَيْهِ (إِلَّا أَنه إِذا وَقع) كل شَيْء (فِي التَّرْكِيب،
وَنسب إِلَيْهِ مَا يمْتَنع) نسبته (إِلَى الْكل) أَي إِلَى كل
أَفْرَاده (منعهَا) أَي منع الْعقل إِرَادَته (وَهُوَ معنى
تَخْصِيص الْعقل، وَدفع) الأول (أَيْضا) كَمَا فِي الشَّرْح
العضدي (بِأَن التَّحْقِيق صِحَّتهَا) أَي إِرَادَة الْكل (فِي
التَّرْكِيب أَيْضا لُغَة غير أَنه يكذب) أَي يصير التَّرْكِيب
كَاذِبًا حِينَئِذٍ لعدم مطابقته الْوَاقِع (وَهُوَ) أَي
وَكذبه (غَيرهَا) أَي غير صِحَة الْإِرَادَة لُغَة (وَلَا يخفى
أَن المُرَاد) من تَخْصِيص الْعقل (حكم الْعقل بِإِرَادَة
الْبَعْض لامتناعه) أَي الحكم (فِي الْكل فِي نفس الْأَمر
مِمَّن يمْتَنع عَلَيْهِ الْكَذِب) فَلم يَصح إِرَادَة الْكل
فِي التَّرْكِيب لُغَة أَيْضا لِامْتِنَاع الحكم، لِأَن أصل
اللُّغَة أَيْضا من حَيْثُ أَنه عَاقل مُمْتَنع أَن يقْصد مَا
يحيله الْعقل، وَلقَائِل أَن يَقُول مَقْصُود الْمُحَقق
صِحَّتهَا فِي التَّرْكِيب لُغَة فِي الْجُمْلَة بِالنّظرِ
إِلَى نفس الْكَلَام من غير مُلَاحظَة حَال الْمُتَكَلّم
وَغَيره فِيمَا إِذا لم يكن اسْتِحَالَة النِّسْبَة إِلَى
الْكل بديهيا كَمَا إِذا قيل كل مفهومين يَجْتَمِعَانِ حَتَّى
النقيضين، ويكفيه هَذَا الْمِقْدَار، لِأَن الْمُسْتَدلّ يدعى
السَّلب الْكُلِّي، فالإيجاب الجزئي يصلح سندا لمنع بطلَان
الثَّانِي، وَهُوَ انْتِفَاء صِحَة إِرَادَة مَا قضى الْعقل
بِإِخْرَاجِهِ مُطلقًا فَتدبر. (قَالُوا) أَي المانعون من
التَّخْصِيص بِالْعقلِ (تَعَارضا) أَي الْعَام، وَالْعقل
(فتساقطا) احْتِرَازًا عَن التَّرْجِيح بِلَا مُرَجّح (أَو
يقدم الْعَام، لِأَن أَدِلَّة الْأَحْكَام النَّقْل لَا الْعقل
قُلْنَا فِي إِبْطَاله) أَي الْعقل (إِبْطَاله) أَي النَّقْل
(لِأَن دلَالَته) أَي النَّقْل (فرع حكمه) أَي الْعقل (بهَا)
أَي بدلالته (فَإِذا حكم) الْعقل (بِأَنَّهَا) أَي دلَالَته
(على وَجه كَذَا) كالخصوص هُنَا (لزم) حكمه وَهُوَ الْمَطْلُوب
(وَأَيْضًا يجب تَأْوِيل
(1/274)
الْمُحْتَمل) إِذا عَارضه مَا لَا يحْتَمل
التَّأْوِيل (وَهُوَ) أَي الْمُحْتَمل هُنَا (النَّقْل)
لِأَنَّهُ يحْتَمل غير ظَاهره، وَهُوَ الْخُصُوص، بِخِلَاف
الْعقل فَإِنَّهُ قَاطع فَتعين تَأْوِيل النَّقْل بالتخصيص،
وَذكر السُّبْكِيّ أَنه لَا نزاع فِي أَن مَا يُسمى مُخْتَصًّا
بِالْعقلِ خَارج، وَإِنَّمَا النزاع فِي أَن اللَّفْظ هَل
يَشْمَلهُ، فَمن قَالَ يَشْمَلهُ سَمَّاهُ تَخْصِيصًا، وَمن
قَالَ لَا كَمَا هُوَ ظَاهر كَلَام الشَّافِعِي رَحمَه الله
لَا يُسَمِّيه تَخْصِيصًا وَدَعوى الْغَزالِيّ الْإِجْمَاع على
أَن الْعقل مُخَصص مَحْمُول على أَن مَا يُسمى مُخَصّصا خَارج
(و) منع التَّخْصِيص قوم (آخَرُونَ مُطلقًا) أَي سَوَاء كَانَ
بِالْعقلِ أَو غَيره (لِأَنَّهُ) أَي التَّخْصِيص (كذب)
إِشَارَة إِلَى مَا ذكرنَا فِي نفي الْمجَاز فِي الْكتاب
وَالسّنة من أَنه كذب، لِأَنَّهُ يصدق نفي رُؤْيَة حَقِيقَة
الْحَيَوَان المفترس فِي قَوْلك: رَأَيْت أسدا، فَيكون
إِثْبَاتهَا كذبا، وَكَذَلِكَ هَهُنَا يصدق نفي رُؤْيَة
حَقِيقَة التَّخْصِيص نظرا إِلَى مَا أَفَادَهُ الْعَام: أَي
الِاسْتِغْرَاق، ثمَّ أَشَارَ إِلَى مَا ذكر فِي الْجَواب
ثمَّة من أَن الْكَذِب إِنَّمَا يلْزم إِذا أُرِيد رُؤْيَة
حَقِيقَة لفظ الْأسد، لَا الرجل الشجاع بقوله (قُلْنَا يصدق)
التَّخْصِيص إِذا كَانَ الْعَام (مجَازًا) وَمعنى قَوْله كذب
أَنه مُسْتَلْزم للكذب الْعَام الْمُفِيد للاستغراق (قيل)
الْقَائِل الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ (يُزَاد) فِي الدَّلِيل
بعد قَوْله كذب (أَو بداء) بِالدَّال الْمُهْملَة وَالْمدّ،
وَهُوَ ظُهُور الْمصلحَة بعد خفائها ليشْمل الْإِنْشَاء
(وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يرد (خص) الِامْتِنَاع (الْخَبَر)
لِأَنَّهُ الَّذِي يَتَأَتَّى فِيهِ الْكَذِب (وَلَيْسَ)
الْأَمر كَذَلِك (لَكِن صرح بِأَن الْخلاف لَيْسَ إِلَّا فِي
الْخَبَر) والمصرح الْآمِدِيّ وَغَيره (وَاعْترض أَبُو
إِسْحَاق) . قَالَ الشَّارِح: وَالظَّاهِر أَنه الشِّيرَازِيّ
الشَّافِعِي الْمَشْهُور، والاعتراض الْمَنْع، وَالْأَصْل
فِيهِ أَن الطَّرِيق إِذا اعْترض فِيهِ بِنَاء أَو غَيره منع
السابلة من سلوكه كَذَا فِي الْقَامُوس، وَلذَا تعدى إِلَى (من
أوهم كَلَامه أَنه) أَي الْخلاف (فِي الْأَمر أَيْضا) وَإِذا
لم يكن الْخلاف إِلَّا فِي الْخَبَر، فَذكر الْكَذِب كَاف فِي
الِاسْتِدْلَال (والقاطع فِيهَا) أَي فِي هَذِه المسئلة (الله
خَالق كل شَيْء، وَهُوَ على كل شَيْء قدير) للْقطع بِأَن ذَاته
تَعَالَى، وتقدس منزه عَن المخلوقية والمقدورية، وَكَذَلِكَ
الممتنعات كاجتماع النقيضين، فالتخصيص مَقْطُوع بِهِ، وَقد مر
أَن الْمُتَكَلّم يدْخل فِي عُمُوم خطابه إِذا كَانَ من
أَفْرَاد الْعَام (وَلنَا فِي) منع (التَّرَاخِي أَن
إِطْلَاقه) أَي الْعَام (بِلَا مخرج إِفَادَة إِرَادَة الْكل)
أَي مُفِيد إِرَادَته على الْإِسْنَاد الْمجَازِي، أَو
الْمجَاز فِي الظّرْف (فَمَعَ عدمهَا) أَي عدم إِرَادَة الْكل
فِي نفس الْأَمر (يلْزم أَخْبَار الشَّارِع) فِي الْخَبَر
(وإفادته) الْإِنْشَاء لثُبُوت (مَا لَيْسَ بِثَابِت) صلَة
الإفادة، وصلَة الْأَخْبَار مَحْذُوف يفسره الْمَذْكُور
(وَذَلِكَ كذب) فِي الْخَبَر (وَطلب للْجَهْل الْمركب من
(1/275)
الْمُكَلّفين) فِي الْإِنْشَاء: أما
الْكَذِب فِي الاخبار فَظَاهر، وَأما طلب الْجَهْل الْمركب فِي
الْإِنْشَاء فَلِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِم أَن يعتقدوا عُمُوم
ذَلِك الْمُكَلف بِهِ من حَيْثُ أَنه يتَعَلَّق بِهِ حكم الله،
وَهُوَ غير وَاقع فِي نفس الْأَمر، فالجهل بِاعْتِبَار عدم
علمهمْ لما هُوَ مَطْلُوب فِي نفس الْأَمر، وَهُوَ الْمَخْصُوص
وَأما التَّرْكِيب فالاعتقاد مَا هُوَ خلاف نفس الْأَمر
(وَهَذَا) الدَّلِيل بِعَيْنِه (يجْرِي فِي الْمُخَصّص
الثَّانِي) وهلم جرا (كَالْأولِ، وَمُقْتَضى هَذَا) الدَّلِيل
(وجوب وصل أحد الْأَمريْنِ) بِالْعَام (من) الْبَيَان
(الإجمالي كَقَوْل أبي الْحُسَيْن، أَو التفصيلي، ثمَّ
يتَأَخَّر) الْبَيَان التفصيلي (فِي) الْمُخَصّص (الأول) أَي
الإجمالي إِذا وَقع (إِلَى) وَقت (الْحَاجة) إِلَيْهِ لتمكن
الْإِمْسَاك (بعده) أَي الْبَيَان الإجمالي (لِأَنَّهُ) أَي
الْبَيَان التفصيلي (حِينَئِذٍ) أَي حِين الإجمالي مَوْصُولا
بِالْعَام (بَيَان الْمُجْمل) وَهُوَ جَائِز التَّأَخُّر إِلَى
وَقت الْحَاجة إِلَى الْفِعْل كَمَا هُوَ الْمُخْتَار (وَلَا
يبعد إرادتهموه) بإشباع ضم الْمِيم لإلحاق الضَّمِير
الْمَنْصُوب الْمُتَّصِل: أَي إِرَادَة الْحَنَفِيَّة وجوب وصل
أحد الْأَمريْنِ من الْبَيَان الإجمالي، والتفصيلي بِالْعَام
باشتراطهم مُقَارنَة الْمُخَصّص الأول للعام (كَهَذا الْعَام
مرَادا بعضه) تَصْوِير للمخصص الإجمالي (وَبِه) أَي بِلُزُوم
وصل أحد الْأَمريْنِ (تَنْتفِي اللوازم الْبَاطِلَة) من
الْكَذِب وَطلب الْجَهْل الْمركب على تَقْدِير تراخي
الْمُخَصّص مُطلقًا (وإلزام الْآمِدِيّ) وَغَيره الْحَنَفِيَّة
بِنَاء على امْتنَاع تَأَخّر الْمُخَصّص (امْتنَاع تَأْخِير
النّسخ بِجَامِع الْجَهْل بالمراد) من الْعَام قبل الْعلم
بالمخصص وبدء الْمَنْسُوخ قبل الْعلم بالناسخ، وَلَا يمْتَنع
تَأَخّر النّسخ اتِّفَاقًا (لَيْسَ) أَي إِلْزَامه (لَازِما،
لِأَن) الْجَهْل (الْبَسِيط غير مَذْمُوم على) الْإِطْلَاق
(وَلذَا طلب) الْبَسِيط (عندنَا فِي الْمُتَشَابه) فَقُلْنَا
يجب اعْتِقَاد حَقِيقَته إِجْمَالا، وَترك طلب تَأْوِيله كَمَا
قرر فِي مَوْضِعه (بِخِلَاف) الْجَهْل (الْمركب) فَإِنَّهُ
مَذْمُوم مُطلقًا، وَاللَّازِم فِي تَأْخِير بَيَان
التَّخْصِيص طلب الْجَهْل الْمركب فَافْتَرقَا (وللتمكن من
الْعَمَل المطابق) لما فِي نفس الْأَمر بالمنسوخ فِي تَأْخِير
النّسخ (إِلَى سَماع النَّاسِخ) بِخِلَاف تَأْخِير الْمُخَصّص
فَإِنَّهُ لَا يتَمَكَّن أَن يعْمل بِالْعَام من غير الْعلم
المُرَاد مِنْهُ (وَقَوْلهمْ) أَي المجوزون للتراخي كالشافعية
لَا يلْزم من إِطْلَاق الْعَام بِلَا مخرج إِفَادَة إِرَادَة
وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ على مَا مر (بل) إِنَّمَا يُطلق
(لتفهيم إِرَادَة الْعُمُوم) حَالَة كَونه مُشْتَمِلًا (على
احْتِمَال الْخُصُوص أَن أُرِيد الْمَجْمُوع) من فهم إِرَادَة
الْعُمُوم مَعَ تَجْوِيز التَّخْصِيص (معنى الصِّيغَة) أَي
صِيغَة الْعَام، الْقَائِم مقَام فَاعل أُرِيد الْجُمْلَة
بِاعْتِبَار مضمونها أَو لفظ الْمَجْمُوع، وَمعنى الصِّيغَة
حَال عَنهُ (فَبَاطِل) لِأَن الصِّيغَة لم تُوضَع للمجموع قطعا
(أَو) أُرِيد (هُوَ) أَي معنى الصِّيغَة (الأول) أَي كالعموم
(وَالِاحْتِمَال ب) ثَابت (خَارج) أَي بِقَرِينَة خارجية،
نَحْو كَثْرَة تَخْصِيص العمومات
(1/276)
(لزم) ذَلِك الْخَارِج وجود الْعَام فِي
الْخَارِج (وَإِن لم يلْزم تعقله) أَي الْعَام (لَا يُفِيد.
وَفِي نُسْخَة الشَّارِح لزم أَن تعينه: أَي هَذَا
الِاحْتِمَال قرينَة لَازِمَة وَإِن لم يلْزم تعقله، وَقَوله
لزم إِلَى آخِره جَزَاء الشَّرْط على ثَانِي شقي الترديد
(ولزومها) فِي ذَلِك الْخَارِج (مَمْنُوع) لَا دَلِيل عَلَيْهِ
(إِلَّا إِن كَانَ) أَي تحقق وَثَبت وَالْأَظْهَر أَن
الْمَعْنى إِلَّا إِذا كَانَ ذَلِك الْخَارِج (مَا تقدم من
غَلَبَة التَّخْصِيص) ومجاوزة الْحَد (فِي بحث القطعية) أَي
قَطْعِيَّة دلَالَة الْعَام فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يحصل لَهُ
دَلِيل (وعملت) مِمَّا تقدم (أَنَّهَا إِنَّمَا تفِيد) عدم
الْقطع بِسَبَبِهِ احْتِمَال التَّخْصِيص (فِي الْعَام فِي
الْجُمْلَة) وَقد سبق أَن قَوْلهم أَن الْعَام يحْتَمل
الْمجَاز مَعْنَاهُ أَن الْعَام من حَيْثُ هُوَ عَام من قطع
النّظر عَن عدم الْقَرِينَة يحْتَملهُ، وَأما إِذا علم عدمهَا
فِي الْعَام الْمعِين فَلَا يحْتَملهُ التَّخْصِيص مجَازًا،
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لَا فِي خُصُوص) الْعَام
(الْمُسْتَعْمل) فَإِنَّهُ إِذا كَانَ مَقْرُونا
بِالْقَرِينَةِ الصارفة عَن الْحَقِيقَة تعين الْمجَاز وَإِن
لم يكن هُنَاكَ قرينَة، كَذَا تعين الْحَقِيقَة فَلَا يحْتَمل
التَّخْصِيص وَلَا الْمجَاز (قَالُوا) أَي المجيزون للتراخي
(وَقع) التَّرَاخِي (فَإِن وَأولَات الْأَحْمَال) أَجلهنَّ أَن
يَضعن حَملهنَّ (خص بِهِ) عُمُوم قَوْله تَعَالَى - {وَالَّذين
يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} -، فَإِنَّهُ يعم
أولات الْأَحْمَال وَغَيره، فأولات الْأَحْمَال مَعَ كَونه
مُتَأَخِّرًا خصصه، وَبَين أَن المُرَاد بِهِ غير أولات
الْأَحْمَال (قُلْنَا الأولى) وَهِي أولات الْأَحْمَال
(مُتَأَخِّرَة) فِي النُّزُول عَن الثَّانِيَة (لقَوْل ابْن
مَسْعُود من شَاءَ باهلته أَن سُورَة النِّسَاء) يُرِيد سُورَة
الطَّلَاق (الْقصرى) نزلت (بعدالتي فِي سُورَة الْبَقَرَة)
ذكره مُحَمَّد فِي الأَصْل، وَيُؤَيِّدهُ مَا فِي أبي دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من شَاءَ لَاعَنته لأنزلت سُورَة
النِّسَاء الْقصرى بعد أَرْبَعَة أشهر وَعشرا، وَفِي
البُخَارِيّ مَا يُفِيد هَذَا (فَيكون) مَا فِي الْقصرى (نسخا)
لما فِي الْبَقَرَة لَا تَخْصِيصًا، وَفِي البُخَارِيّ عَن
عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ مَا يُقرر النّسخ الْمَذْكُور
(وَكَذَا وَالْمُحصنَات من الَّذين) أُوتُوا الْكتاب (بعد
وَلَا تنْكِحُوا المشركات) كَمَا ذكره جمَاعَة من الْمُفَسّرين
فإخراج الكتابيات نسخ، وَهَذَا يدل على كَون أهل الْكتاب من
الْمُشْركين، وتأويله أَن يُقَال أَن مِنْهُم من قَالَ ثَالِث
ثَلَاثَة، وَنَحْو هَذَا، أَو يُقَال المُرَاد من الْمُشرك
الْكَافِر، وَفِيه مَا فِيهِ (وَكَذَا جعل السَّلب للْقَاتِل
مُطلقًا) أَي سَوَاء نفله الإِمَام أم لَا إِذا كَانَ
الْقَاتِل من أهل السهْم كَمَا هُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد
(أَو بِرَأْي الإِمَام) كَمَا هُوَ قَول أَصْحَابنَا وَمَالك،
وسلب الْمَقْتُول ثِيَابه وسلاحه، ومركبه بِمَا عَلَيْهِ من
الْآلَة وَمَا مَعَه من مَال (بعد) قَوْله تَعَالَى -
{وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء (فَأن لله خمسه} } -
الْآيَة، فَيكون اخْتِصَاص الْقَاتِل بالسلب نسخا (وكل متراخ)
مخرج لبَعض الْعَام السَّابِق يكون نَاسِخا لذَلِك الْبَعْض
لَا مُخْتَصًّا (قَالُوا) أَيْضا، قَالَ تَعَالَى لنوح -
{فاسلك فِيهَا من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} - (وَأهْلك
(1/277)
وتراخى إِخْرَاج ابْنه) كنعان بقوله - {يَا
نوح إِنَّه لَيْسَ من أهلك} (قُلْنَا هُوَ) أَي تراخي إِخْرَاج
ابْنه تراخي (بَيَان الْمُجْمل) لَا تراخي مُخَصص الْعَام
(لِأَنَّهُ) أَي لفظ الْأَهْل (شاع فِي النّسَب وَغَيره
كَالزَّوْجَةِ، والأتباع الموافقين) قَالَ تَعَالَى -
{فَلَمَّا قضى مُوسَى الْأَجَل وَسَار بأَهْله} - الْآيَة
(وَبَين تَعَالَى بقوله - {لَيْسَ من أهلك} - إِرَادَته أحد
المفهومين: وَهُوَ المتبعون، أَو هُوَ) أَي هَذَا الْبَيَان
الْمُتَأَخر (لاستثناء مَجْهُول مِنْهُ) أَي من عُمُوم أهلك،
وَهُوَ (إِلَّا من سبق عَلَيْهِ) القَوْل مِنْهُم، فَهُوَ
بَيَان مُجمل، وعَلى اصْطِلَاح أَكثر الشَّافِعِيَّة وَبَعض
الْحَنَفِيَّة من بَيَان بعض المُرَاد بالتخصيص الإجمالي
للْعُمُوم (وَقَوله) أَي قَول نوح عَلَيْهِ السَّلَام (إِن
ابْني من أَهلِي لظن إيمَانه عِنْد مُشَاهدَة الْآيَة) أَي
طغيان المَاء وغزارة فيضة من السَّمَاء وَالْأَرْض، أَو ظن
إيمَانه مُطلقًا، لِأَنَّهُ لم يعلم كفره، لِأَنَّهُ كَانَ من
الْمُنَافِقين على مَا قيل، ويناسبه - {فَلَا تسألن مَا لَيْسَ
لَك بِهِ علم} - وَهَذَا على تَقْدِير فهم إِرَادَة المتبعين
من الْأَهْل (أَو ظن إِرَادَة النّسَب) بالأهل (وَأما -
{إِنَّكُم وَمَا تَعْبدُونَ من دون الله حصب جَهَنَّم} -
(فعمومه فِي معبود المخاطبين بِهِ) وهم قُرَيْش وَهُوَ
الْأَصْنَام كَمَا ذكره السُّهيْلي (فَلم يتَنَاوَل عِيسَى
وَالْمَلَائِكَة) حَتَّى يُقَال أَنهم أخرجُوا متراخيا بقوله
تَعَالَى - {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى أُولَئِكَ
عَنْهَا مبعدون} - فَيكون فِيهِ حجَّة لجَوَاز تراخي
الْمُخَصّص (وَاعْتِرَاض ابْن الزبعري) بِكَسْر الزاء
الْمُعْجَمَة وَفتح الْمُوَحدَة وَسُكُون الْمُهْملَة، وَعَن
أبي عُبَيْدَة فتح الزاء، وأصل الزبعري الْكثير الشّعْر فِي
الرَّأْس والأذنين، وَقَالَ الْفراء: السَّيئ الْخلق، واسْمه
عبد الله كَانَ من أَعْيَان قُرَيْش فِي الْجَاهِلِيَّة وفحول
الشُّعَرَاء، وَكَانَ يهاجي للْمُسلمين ثمَّ أسلم عَام
الْفَتْح وَحسن إِسْلَامه، وَله أشعار يعْتَذر فِيهَا مَا سبق
مَذْكُورَة فِي السِّيرَة لِابْنِ إِسْحَاق (جدل متعنت) : روى
عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه جَاءَ عبد الله بن
الزبعري إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ يَا
مُحَمَّد تزْعم أَن الله أنزل عَلَيْك - {إِنَّكُم وَمَا
تَعْبدُونَ من دون حصب جَهَنَّم أَنْتُم لَهَا وَارِدُونَ} -
قَالَ نعم، قَالَ فقد عبدت الشَّمْس وَالْقَمَر
وَالْمَلَائِكَة وَعِيسَى وعزير، فَكل هَؤُلَاءِ فِي النَّار
مَعَ آلِهَتنَا، فَنزلت - {إِن الَّذين سبقت لَهُم منا الْحسنى
أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون، وَلما ضرب ابْن مَرْيَم مثلا} -
إِلَى قَوْله - {خصمون} - وَهَذَا حَدِيث حسن، وَمَا قيل من
أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ " مَا أجهلك بلغته، مَا
لما لَا يعقل فشيء لَا يعرف وَلَا أصل لَهُ " كَذَا ذكره
الْحفاظ: كالسبكي وَغَيره، وَهَهُنَا رِوَايَات أخر طويناها
وَمَا ذكرنَا أصح (قَالُوا فِيهِ) أَي
(1/278)
فِي نسخ مَا ذكر بِمَا ذكر (إبِْطَال
الْقَاطِع بالمحتمل) وَهُوَ مُمْتَنع فَتعين تَخْصِيص الْعَام
بِهِ فَإِن قلت كَيفَ حكم بقطعية الأول وَاحْتِمَال الثَّانِي
مَعَ اشتراكهما فِي الْعُمُوم وَاحْتِمَال التَّخْصِيص قلت
الأول لَا صَارف لَهُ عَن ظَاهره، وَالثَّانِي لَهُ صَارف
وَهُوَ الأول (قُلْنَا) هَذَا: أَعنِي كَونه مُحْتملا
(مَبْنِيّ على ظنية دلَالَة الْعَام، وَهُوَ) أَي كَونه ظَنِّي
الدّلَالَة (مَمْنُوع) ، بل هُوَ قَطْعِيّ الدّلَالَة أَيْضا
كَمَا هُوَ فَهُوَ إبِْطَال الْقَاطِع بالقاطع، وَلَا خلاف فِي
جَوَازه (وَلَو سلم) أَن الْعَام ظَنِّي الدّلَالَة (فَلَا
مُخَصص فِي الشَّرْع بخاص) من كل وَجه (بل) التَّخْصِيص
(بالاستقراء) لَا يكون إِلَّا (بعام خصوصه بِالنِّسْبَةِ)
إِلَى مَا هُوَ مُخْتَصّ بِهِ: يَعْنِي خُصُوصِيَّة الْمُخَصّص
لكَونه جزئيا إضافيا لما خصص بِهِ لَا بِاعْتِبَار أَنه خَاص
اصْطِلَاحا، فَيلْزم عَلَيْكُم إبِْطَال الْقَاطِع بالمحتمل
فِي الْقدر الَّذِي أخرج من الأول (كلا تقتلُوا النِّسَاء) أَي
كَمَا لَو قَالَ الشَّارِع هَذَا مَعَ قَوْله: - {اقْتُلُوا
الْمُشْركين} - فَإِن ذَلِك عَام فِي نَفسه خَاص بِالنِّسْبَةِ
إِلَى الْآيَة، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم نهى عَن قتل النِّسَاء (وَمَا استدلوا بِهِ من وَأولَات
الْأَحْمَال، وَالْمُحصنَات) على تَخْصِيص الْعَام بالمخصص
المتراخي على مَا سبق ذكره مَعْطُوف على قَوْله لَا تقتلُوا
فَإِن كلا مِنْهُمَا خَاص بِالنِّسْبَةِ (فاللازم) على
تَقْدِير التَّسْلِيم 0 إبِْطَال ظَنِّي بظني) لكَون كل من
الْمُتَقَدّم والمتأخر عَاما، لَا إبِْطَال قَطْعِيّ بقطعي
كَمَا زعمتم (وَأما اشْتِرَاط الِاسْتِقْلَال) فِي الْمُخَصّص
(فلتغير دلَالَته) أَي لتغيير دلَالَة الْعَام من الْقطع
(إِلَى الظَّن) فَإِنَّهُ لَو لم يكن مُسْتقِلّا كالاستثناء
وَبدل الْبَعْض لَا يتَغَيَّر، بل يتقى على قطعيته، فَدلَّ
الْكَلَام على أَن المستقل بِغَيْر إِلَى الظَّن، وَغير
المستقل غير مغير وَمنع كل مِنْهُمَا، وَقيل الْمخْرج لبَعض
مِنْهُ معِين قَابل للتَّعْلِيل إِذا كَانَ مقترنا يُغَيِّرهُ
إِلَى الظَّن مُسْتقِلّا كَانَ أَولا، وَأما المتراخي فَغير
المستقل مِنْهُ لَا يُغير، والمستقل نَاسخ، وَيلْزمهُ عدم
التَّغْيِير إِلَى الظَّن (لَا يَحْتَاجهُ) أَي لَا يحْتَاج
إِلَى الشَّرْط الْمَذْكُور (الْقَائِل بظنيته من
الْحَنَفِيَّة) كَأبي مَنْصُور وَمن مَعَه، لِأَن ظنية دلَالَة
الْعَام مَوْجُودَة بِلَا مغير (وَلَا خلاف فِي عدم تغيره) أَي
الْعَام (بِالْعقلِ) أَي بالمخصص الْعقلِيّ من الْقطع (إِلَى
الظَّن كخروج الصَّبِي وَالْمَجْنُون من خطاب الشَّرْع إِلَّا
أَن يخرج الْعقل (مَجْهُولا) فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ تبطل حجيته
فِي الْبَاقِي لعدم تعينه بِنَاء على مجهولية الْمخْرج فضلا
عَن الْقطع إِلَى الظَّن (تَفْصِيل) الْمخْرج لبَعض أَفْرَاد
الْعَام (الْمُتَّصِل) بِهِ أَقسَام يرتقى عَددهَا (إِلَى
خَمْسَة: الأول الشَّرْط) وَهُوَ (مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ
الْوُجُود) أَي وجود الشَّيْء بِأَن لَا يُوجد بِدُونِ وجوده
(وَلَا دخل لَهُ فِي التَّأْثِير والإفضاء، فَخرج جُزْء
السَّبَب) لِأَنَّهُ وَإِن توقف عَلَيْهِ السَّبَب لَكِن لَا
دخل لَهُ فِي الْإِفْضَاء إِلَيْهِ، وَقد علم بذلك خُرُوج
سَبَب الشَّيْء بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ بِالطَّرِيقِ الأولى
(و) خرج (الْعلَّة) لِأَنَّهَا وَإِن توقف عَلَيْهَا
الْوُجُود: لَكِنَّهَا مُؤثرَة (وَقَول الْغَزالِيّ) فِي
تَعْرِيف
(1/279)
الشَّرْط (مَا لَا يُوجد الْمَشْرُوط دونه،
وَلَا يلْزم أَن يُوجد الْمَشْرُوط عِنْده) أَي الشَّرْط أورد
عَلَيْهِ أَنه دوري لتعقل تعقل الْمَشْرُوط على الشَّرْط: لَا
أَنه مُشْتَقّ مِنْهُ (دفع دوره بِإِرَادَة مَا صدق عَلَيْهِ
الْمَشْرُوط) بِلَفْظِهِ (أَي الشَّيْء) الَّذِي يُضَاف
إِلَيْهِ الشَّرْط، وَيُقَال شَرط الشَّيْء كَذَا: وَهُوَ لَا
يتَوَقَّف فِي تعقله على تعقل الشَّرْط، وَإِنَّمَا
الْمَوْقُوف على تعقله مَفْهُوم الشَّرْط (وَيرد عَلَيْهِ) أَي
على طرده (جُزْء السَّبَب المتحد) لِأَن الْمُسَبّب لَا يُوجد
بِدُونِهِ وَلَا يلْزم أَن يُوجد عِنْده، وَهُوَ لَيْسَ
بِشَرْط، (وَقيل مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ تَأْثِير الْمُؤثر
كَالْوضُوءِ يتَوَقَّف عَلَيْهِ تَأْثِير الْمُؤثر فِي
الصَّلَاة) . قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: إِذا كَانَ
الْوضُوء شرطا فِي الصَّلَاة لم يزدْ أَنه يتَوَقَّف عَلَيْهِ
تَأْثِير الصَّلَاة فِي الشَّيْء، بل تَأْثِير الْمُؤثر فِي
الصَّلَاة. وَقَالَ الْأَبْهَرِيّ: يحْتَمل أَن يُقَال أَنه
شَرط لتأثير الصَّلَاة فِي الحكم وَهُوَ الصِّحَّة (وَيرد
عَلَيْهِ) أَي على الْعَكْس عَكسه (الْحَيَاة للْعلم
الْقَدِيم) فَإِنَّهَا شَرط لتحققه لَا لتأثيره، لِأَنَّهُ
لَيْسَ للْعلم تَأْثِير، إِذْ لَيْسَ هُوَ صفة مُؤثرَة:
اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال المُرَاد تَعْرِيف شَرط
الْمُؤثر، لَا الشَّرْط مُطلقًا (وَهُوَ) أَي الشَّرْط
(عَقْلِي: كالحياة للْعلم) إِذْ الْعقل يحكم بِأَن الْعلم لَا
يُوجد بِدُونِ الْحَيَاة (وشرعي: كالطهارة) للصَّلَاة، فَإِن
الشَّرْع هُوَ الْحَاكِم بذلك (وَأما اللّغَوِيّ) وَهُوَ مثل
قَوْلنَا: إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق، فَإِن أهل اللُّغَة
وضعُوا هَذَا التَّرْكِيب ليدل على أَن مَا دخلت عَلَيْهِ إِن
شَرط، وَالْمُعَلّق بِهِ جَزَاء (فَإِنَّمَا هُوَ الْعَلامَة)
بِكَوْنِهِ دَلِيلا على ظُهُور الحكم عِنْد ظُهُوره،
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَتَسْمِيَة نَحْو: إِن جَاءَ
فَأكْرمه، وَإِن دخلت فطالق بِهِ) أَي بِالشّرطِ (مَعَ أَنه
سَبَب جعلي) للثَّانِي (لصيرورته عَلامَة على الثَّانِي) أَي
الْجَزَاء (وَإِنَّمَا يسْتَعْمل) هَذَا الشَّرْط (فِيمَا لَا
يتَوَقَّف الْمُسَبّب بعده على غَيره) . وَفِي الشَّرْح العضدي
وَيسْتَعْمل فِي شَرط يشبه بِالسَّبَبِ من حَيْثُ أَنه يستتبع
الْوُجُود: وَهُوَ الشَّرْط الَّذِي لم يبْق للمسبب أَمر
يتَوَقَّف عَلَيْهِ، فَإِذا وجد ذَلِك الشَّرْط فقد وجدت
الْأَسْبَاب والشروط كلهَا فيوجد الْمَشْرُوط، فَإِذا قيل: إِن
طلعت الشَّمْس فالبيت مضيء: فهم مِنْهُ أَنه لَا يتَوَقَّف
إضاءته إِلَّا على طُلُوعهَا (وَقد يتحد) أَي يكون الشَّرْط
أمرا وَاحِدًا (وَقد يَتَعَدَّد) الشَّرْط (معنى) أَي تعددا
بِحَسب الْمَعْنى لَا بِحَسب اللَّفْظ (جمعا) أَي حَال كَونه
ذَلِك المتعدد الْمَعْنَوِيّ يتَوَقَّف الْمَشْرُوط على
اجْتِمَاع آحاده فِي التحقق (وبدلا) بِأَن يتَوَقَّف على
وَاحِد من ذَلِك المتعدد على سَبِيل الْبَدَلِيَّة، فَهَذِهِ
ثَلَاثَة أَقسَام (وَكَذَا الْجَزَاء) يتحد ويتعدد جمعا وبدلا،
فَهَذِهِ ثَلَاثَة أُخْرَى (فَهِيَ) أَي جَمِيع الْأَقْسَام
الْحَاصِلَة من ضرب ثَلَاثَة فِي ثَلَاثَة (تِسْعَة بِلَا
توقف) أَي تَتَعَدَّد بِغَيْر توقف فِي تعدده الْمَعْنَوِيّ
(على) تكْرَار (أَدَاة) أَي أَدَاة الشَّرْط لفظا (بل) يَكْفِي
تعددها (معنى، وَلذَا) أَي وَلعدم توقف التَّعَدُّد على
الْمَعْنَوِيّ تكَرر الْأَدَاء (اخْتلف) الْجَواب (لَو دخلت
إِحْدَاهمَا فِي قَوْله: إِن دخلتما)
(1/280)
الدَّار (فطالقان) أَي فأنتما طالقان، ثمَّ
صور الِاخْتِلَاف الْمَذْكُور بقوله (أتطلق) الدَّاخِلَة
(للاتحاد عرفا) أَي لِأَن الْمَفْهُوم فِي الْعرف من
التَّعْلِيق الْمَذْكُور كَون شَرط طَلَاق كل مِنْهُمَا متحدا
وَهُوَ دخولهما فِي الدَّار من غير أَن يشْتَرط فِي طلاقهما
اجْتِمَاع دُخُولهَا مَعَ دُخُول الْأُخْرَى فَكَأَنَّهُ قَالَ
لكل مِنْهُمَا: إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق (أَولا) تطلق
وَاحِدَة مِنْهُمَا (حَتَّى يدخلا، لِأَن الشَّرْط دخولهما)
جَمِيعًا كَمَا هُوَ ظَاهر اللَّفْظ (أَو يطلقان) جَمِيعًا
وَإِن لم تدخل الْأُخْرَى (لِأَنَّهُ أَي دخولهما الَّذِي هُوَ
(الشَّرْط) مُتَعَدد (بَدَلا) فتحقق كل من الدخولين كَاف فِي
تحقق الْجَزَاء الَّذِي هُوَ طالقان، وَهَذَا ثَالِث
الْأَقْوَال (وَنَحْو) أَنْت (طَالِق إِن دخلت الدَّار) إِن
دخلت (شَرط للمتقدم) أَي أَنْت طَالِق (معنى للْقطع بتقييده)
أَي لأَنا نعلم قطعا أَن قَوْله طَالِق الْمُتَقَدّم يتَقَيَّد
(بِهِ) أَي بِأَن دخلت: وَلَا يَعْنِي بِالشّرطِ إِلَّا مَا
يتَقَيَّد بِهِ الحكم (وَعند النُّحَاة) إِن دخلت فِي هَذَا
التَّعْلِيق شَرط (لمَحْذُوف مَدْلُول على لَفظه) بالمتقدم
(فَلم يجْزم) الْمُتَقَدّم (بِهِ) أَي بِالشّرطِ أَشَارَ إِلَى
أَنه دعاهم إِلَى ذَلِك أَمر لَفْظِي، وَهُوَ الْعَمَل (على
تَقْيِيده) أَي مَعَ تَقْيِيد الْمُتَقَدّم بِالشّرطِ، فَلَا
خلاف بَين النَّحْوِيين والأصوليين بِحَسب الْمَعْنى (وَإِن
أطلق) الْمُتَقَدّم (لفظا) أَولا، فَإِن التَّقْيِيد يلْحقهُ
ثَانِيًا لتقدم جَوَاب من حَيْثُ الْمَعْنى هَذَا بِنَاء على
مَا ذكره ابْن الْحَاجِب وَمن وَافقه بِنَاء على مَذْهَب
الْبَصرِيين وَأما عِنْد الْكُوفِيّين فَهُوَ جَوَاب فِي
اللَّفْظ أَيْضا لم يجْزم وَلم يصدر بِالْفَاءِ لتقدمه وَعند
البصرية لَا يقدر مَعَ هَذَا الْمُقدم جَوَاب آخر للشّرط وَإِن
لم يكن جَوَابا لَهُ، فَإِنَّهُ يغنى عَنهُ مثل استجارك
الَّذِي هُوَ كالعوض من الْمُقدر (وَإِذا تعقب) الشَّرْط
(جملا) متعاطفة، كلا آكل، وَلَا أشْرب إِن فعلت كَذَا (قيدها)
جَمِيعًا (عِنْد الْحَنَفِيَّة بِخِلَاف الِاسْتِثْنَاء)
فَإِنَّهُ يخْتَص بالأخيرة (عِنْدهم) إِلَّا بِدَلِيل فِيمَا
قبلهَا، وَجه الْفرق بِنَاء على أَن الْجَزَاء هُوَ الْجُمْلَة
الأولى أَن الشَّرْط مقدم عَلَيْهَا معنى، وَالْبَاقِي
مَعْطُوف على الْجَزَاء بِخِلَاف الِاسْتِثْنَاء، فَإِنَّهُ
مُتَأَخّر لفظا وَمعنى فَهُوَ قيد لما يتَّصل بِهِ، وتفصيله
مَذْكُور فِي مَحَله
(الثَّانِي) من الْأَقْسَام الْخَمْسَة من الْبَيَان
الْمُتَّصِل (الْغَايَة) ولفظها: إِلَى، وَحَتَّى، نَحْو
(أكْرم بني تَمِيم إِلَى أَن يدخلُوا وَلَا يخفى عدم صدق
تَعْرِيف التَّخْصِيص) وَهُوَ مَا سبق قصر اللَّفْظ مُطلقًا
على بعض مُسَمَّاهُ (على إِخْرَاج الشَّرْط والغاية) لعدم
إِخْرَاج شَيْء مِنْهُمَا بعض الْمُسَمّى، فَإِن مفادهما عدم
ثُبُوت حكم الْعَام لَهُ على بعض التقادير على مَا سيشير
إِلَيْهِ (لِأَنَّهُ) أَي الْإِكْرَام مثلا (لكل بني تَمِيم
على تَقْدِير و) هُوَ تَقْدِير عدم دُخُولهمْ (لَا قصر) أَي
لَا قصر الْإِكْرَام (على بَعضهم دَائِما) بِأَن يَنْفِي
الْبَعْض الآخر عَنْهُم دَائِما (وَحَقِيقَته) أَي حَقِيقَة
إِخْرَاج الشَّرْط والغاية (تَخْصِيص عُمُوم التقادير عَن أَن
يثبت مَعهَا) أَي مَعَ التقادير كلهَا (الحكم) وَكلمَة عَن
مُتَعَلقَة بالتخصيص بِاعْتِبَار
(1/281)
تضمنه معنى التجاوز، فَإِنَّهُ إِذا خصص
الْعُمُوم تجَاوز التقادير عَن أَن يثبت مَعهَا الحكم عُمُوما
(وَقد يتَّفق) عُمُوم التقادير (تَخْصِيص الآخر) وَهُوَ
تَخْصِيص عُمُوم الْأَفْرَاد: أَي تصاريفه مُوَافقَة، وَيجوز
أَن يكون تَخْصِيص الآخر يتَّفق، وَيقدر مَعَ تَخْصِيص عُمُوم
التقادير كَقَوْلِك: أكْرم بني تَمِيم إِن دخلُوا، أَو إِلَى
أَن يدخلُوا، وَأَرَدْت بِهِ الْمُسلمين مِنْهُم (وَقد لَا)
يتَّفق تَخْصِيص الْعُمُوم الآخر: كأكرم بني تَمِيم إِذا
دخلُوا (وَقد يتضادان) أَي الشَّرْط والغاية (تَخْصِيصًا)
بِأَن يخرج الشَّرْط بعض التقادير عَن الحكم، وتقتضي الْغَايَة
دُخُول ذَلِك الْبَعْض فِيهِ، هَذَا هُوَ الظَّاهِر من هَذِه
الْعبارَة، وَكَيف يتَصَوَّر وُقُوع مثل هَذَا فِي كَلَام
الْعَاقِل: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون هَذَا الِاقْتِضَاء
بِحَسب اللوازم الْخفية فَتَأمل، وَيحْتَمل كَون ضمير ويتضادان
للعمومين، وَوَجهه أَيْضا غير ظَاهر (وتجري أَقسَام الشَّرْط)
التِّسْعَة الْمَذْكُورَة: أَي أَمْثَالهَا (فِي الْغَايَة)
فقد يكون متحدا ومتعددا جمعا وبدلا فتأتي الْأَقْسَام
التِّسْعَة: وَهِي كالاستثناء فِي الْعود إِلَى الْجَمِيع أَو
إِلَى الْأَخِيرَة، والمذاهب الْمذَاهب، وَالْمُخْتَار
الْمُخْتَار: كَذَا فِي الشَّرْح العضدي
(الثَّالِث) من الْأَقْسَام الْخَمْسَة (الصّفة) نَحْو (أكْرم
الرِّجَال الْعلمَاء) قصر الْعلمَاء الرِّجَال على بعض
أَفْرَاده فَخرج غَيرهم، وَيجب فِيهِ الِاتِّصَال بالموصوف،
كالغاية بِمَا هِيَ غَايَة لَهُ (وَفِي تعقبه) أَي الْوَصْف
(مُتَعَددًا كتميم وقريش الطوَال) فعلوا كَذَا خلاف فِي
تَقْيِيده الْأَخير أَو الْمَجْمُوع (كالاستثناء، وَالْأَوْجه
الِاقْتِصَار) على الْأَخير كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاء (وَلَا
يخفى أَن الْإِخْرَاج بِالصّفةِ وَالشّرط والغاية، وَالْبدل)
واللقب (يُسمى تَخْصِيصًا) كَمَا تَقول الشَّافِعِيَّة وَمن
وافقهم (أَولا) يُسمى تَخْصِيصًا (لَا يتَصَوَّر من
الْحَنَفِيَّة لنفي الْمَفْهُوم) الْمُخَالف عِنْدهم
(وَلَيْسَ) الْإِخْرَاج بأحدها (تَخْصِيصًا إِلَّا بِهِ) أَي
بِاعْتِبَار الْمَفْهُوم.
(الرَّابِع بدل الْبَعْض) من الْكل، نَحْو: أكْرم بني تَمِيم
(الْعلمَاء مِنْهُم) : ذكره ابْن الْحَاجِب. وَقَالَ
السُّبْكِيّ: وَلم يذكرهُ الْأَكْثَرُونَ، لِأَن الْمُبدل
مِنْهُ فِي نِيَّة الطرح، فَلَا يتَحَقَّق فِيهِ لمحل يخرج
مِنْهُ فَلَا تَخْصِيص بِهِ، وَفِيه نظر، لِأَن الَّذِي
عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ: كالزمخشري أَن الْمُبدل مِنْهُ فِي
غير بدل الْغَلَط لَيْسَ فِي حكم المهدر، بل هُوَ للتمهيد
والتوطئة، وليفاد بمجموعها فضل تَأْكِيد وتبيين لَا يكون فِي
الْإِفْرَاد.
(الْخَامِس: الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل، وَالْمرَاد) بِهِ
هَهُنَا (أدوات الْإِخْرَاج لَا الْإِخْرَاج الْخَاص وَإِن
كَانَ) الْإِخْرَاج الْخَاص قد (يُرَاد بِهِ) أَي بِلَفْظ
الِاسْتِثْنَاء (كالمستثنى) أَي كَمَا يُرَاد بِهِ
الْمُسْتَثْنى، وَهُوَ الْمخْرج، وَمِنْه تَفْسِيره بالمذكور
بعد إِلَّا (إِذْ الْكَلَام فِي تَفْصِيل مَا هُوَ) أَي
الْإِخْرَاج الْخَاص يتَحَقَّق (بِهِ، لَا) فِي نفس
(التَّخْصِيص الْخَاص) الَّذِي هُوَ الْإِخْرَاج الْخَاص
(وَهُوَ) أَي مَا بِهِ الْإِخْرَاج (إِلَّا غير
(1/282)
الصّفة وَأَخَوَاتهَا) وَهِي: غير، وَسوى،
وَعدا، وخلا، وحاشا، وَلَيْسَ، وَلَا يكون، وَإِلَّا، وسيما،
وبيد، وبله، وَلما. وَفِي بَعْضهَا خلاف بَين أهل
الْعَرَبيَّة، قيد إِلَّا بِغَيْر الصّفة، لِأَنَّهَا صفة تدخل
فِي الْمُخَصّص الوضعي (وَأَنَّهَا) أَي إِلَّا وَأَخَوَاتهَا
(تسْتَعْمل فِي إِخْرَاج مَا بعْدهَا) حَال كَونه (كَائِنا بعض
مَا قبلهَا عَن حكمه) أَي حكم مَا قبلهَا (وَهَذَا الْإِخْرَاج
يُسمى اسْتثِْنَاء مُتَّصِلا) وَيسْتَعْمل (فِي إِخْرَاجه) أَي
مَا بعْدهَا حَال كَونه (كَائِنا خِلَافه) أَي خلاف مَا ذكر
بِأَن لَا يكون بعض مَا قبلهَا (عَن حكمه) أَي حكم مَا قبلهَا
(وَيُسمى) هَذَا الْإِخْرَاج اسْتثِْنَاء (مُنْقَطِعًا) ،
وَلَا يسْتَعْمل فِي الْمُنْقَطع سوى: إِلَّا، وَغير، وَسوى،
وبيد (وَشَرطه) أَي الْمُنْقَطع (كَونه) أَي الْمُسْتَثْنى
(مِمَّا يقارنه) أَي الْمُسْتَثْنى مِنْهُ (كثيرا) ليَكُون من
توابعه حَتَّى يستحضره بِذكرِهِ (كجاءوا) أَي الْقَوْم (إِلَّا
حمارا، وَمِنْه) أَي الْمُنْقَطع قَول الشَّاعِر:
(وبلدة لَيْسَ بهَا أنيس
(إِلَّا اليعافير وَإِلَّا العيس)
لِأَنَّهُ حصر الأنيس) فيهمَا وهما ليسَا فِيهِ، والحصر فيهمَا
بعد نفي مَا عداهما يشْعر بِأَنَّهُمَا قد خلفتا أهل الْبَلَد
وصارتا بِمَنْزِلَة أَهلهَا، واليعافير جمع يَعْفُور: وَهُوَ
الْحمار الوحشي، وَقيل تَيْس من تيوس الظباء، والعيس
بِالْكَسْرِ: الْإِبِل الْبيض يخالط بياضها شقرة، وَقيل
الْجَرَاد (بِخِلَاف إِلَّا الْأكل) فَلَا يُقَال: جَاءُوا
إِلَّا الْأكل (أَو) كَون الْمُسْتَثْنى بِحَيْثُ (يَشْمَلهُ
حكمه) أَي الْمُسْتَثْنى مِنْهُ (كصونت الْخَيل إِلَّا
الْحمير) أَو الْبَعِير، لِأَن التصويت يَشْمَل الْحَيَوَانَات
(بِخِلَاف الصهيل أَو) كَون الْمُسْتَثْنى بِحَيْثُ (ذكر) قبله
(حكم) مَعْنَاهُ (يضاده) أَي الْمُسْتَثْنى (كَمَا نفع إِلَّا
مَا ضرّ، وَمَا زَاد إِلَّا مَا نقض) . قَالَ سِيبَوَيْهٍ: مَا
الأولى نَافِيَة، وَالثَّانيَِة مَصْدَرِيَّة، وفاعل زَاد ونفع
مُضْمر، وَالتَّقْدِير: مَا زَاد فلَان شَيْئا إِلَّا
نُقْصَانا، وَمَا نفع إِلَّا مضرَّة، فالمستثنى، وَهُوَ
النُّقْصَان والمضرة حكم مُخَالف للمستثنى مِنْهُ، وَهُوَ
الزِّيَادَة والنفع، فالاستثناء مُنْقَطع انْتهى، وَفِيه
أَيْضا الْمُقَارنَة بَين الْمُسْتَثْنى والمستثنى مِنْهُ
بِاعْتِبَار أَنه يفهم أحد الضدين عِنْد ذكر الآخر. وَقَالَ
الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ فِي الْمِثَال الثَّانِي: لَكِن
النُّقْصَان فعل، أَو لَكِن النُّقْصَان أمره وشأنه، وَلَيْسَ
الْمَعْنى: مَا زَاد شَيْئا غير النُّقْصَان ليَكُون مُتَّصِلا
عرفا أهـ. فَبين الْكَلَامَيْنِ تدافع، لِأَن سِيبَوَيْهٍ فسره
بِهَذَا الْمَعْنى وَحكم بالانقطاع، وَلَك أَن تَقول: يحْتَمل
أَن يكون مُرَاد سِيبَوَيْهٍ: مَا زَاد شَيْئا غير النُّقْصَان
مِمَّا يقْصد، أَو زِيَادَة كَمَا هُوَ الْمُتَبَادر، فَلَا
شكّ فِي انْقِطَاعه حِينَئِذٍ: غير أَنه يحْتَمل الِاتِّصَال
كَمَا أَفَادَهُ المُصَنّف رَحمَه الله بقوله (أما مَا زَاد
إِلَّا مَا نقص فَيحْتَمل الِاتِّصَال، لِأَنَّهُ) أَي
النُّقْصَان (زِيَادَة حَال بعد التَّمام) وَيقرب مِنْهُ مَا
عَن
(1/283)
ابْن مَالك: إِذا قلت مَا زَاد فكأنك قلت
مَا عرض لَهُ عَارض ثمَّ استثنيت من الْعَارِض النَّقْص:
هَذَا، وَالْمرَاد من التَّمام تِلْكَ الْحَالة الَّتِي كَانَت
لَهُ قبل النَّقْص وَلَا يخفى عَلَيْك أَن مثل هَذَا
الِاعْتِبَار فِي الْمِثَال الأول رَكِيك، لِأَنَّهُ يُرَاد
بِمَا زَاد أَنه على حَاله عرفا، وَلَا يُرَاد بِمَا نفع كَونه
على حَاله فَقَوْل الشَّارِح: إنَّهُمَا شَيْئَانِ لَيْسَ
بِشَيْء (وَالْمرَاد من الْإِخْرَاج إفادته) أَي الْمخْرج (عدم
الدُّخُول) أَي دُخُول الْمُسْتَثْنى (فِي الحكم اشْتهر) لفظ
الْإِخْرَاج (فِيهِ) أَي فِي عدم الدُّخُول (اصْطِلَاحا) فَلَا
ضير فِي ذكره فِي التَّعْرِيف، وَإِنَّمَا احْتِيجَ لبَيَان
المُرَاد (إِذْ حَقِيقَته) أَي حَقِيقَة الْإِخْرَاج إِنَّمَا
تتَحَقَّق (بعد الدُّخُول، وَهُوَ) أَي الْإِخْرَاج حَقِيقَة
(من الْإِرَادَة) صلَة الْإِخْرَاج: أَي إِخْرَاج
الْمُسْتَثْنى من المُرَاد (بِحكم الصَّدْر) مُتَعَلق بالإرادة
(مُنْتَفٍ) إِذْ لَا يُمكن أَن يُرَاد تنَاول الحكم الْوَاقِع
فِي صدر الْكَلَام الْمُسْتَثْنى، ثمَّ يخرج مِنْهُ للُزُوم
التَّنَاقُض (و) الْإِخْرَاج (من التَّنَاوُل) أَي تنَاول
اللَّفْظ، وَالدّلَالَة عَلَيْهِ (لَا يُمكن) لِأَن
التَّنَاوُل بَاقٍ بعد الاسثتناء أَيْضا، لِأَنَّهُ بعلة
الْوَضع، فَلَا يَنْقَطِع عَن الْمَوْضُوع (فَقيل) لفظ
الِاسْتِثْنَاء (مُشْتَرك فيهمَا) أَي الْمُتَّصِل والمنقطع
(لَفْظِي) لَا طَلَاقه على كل مِنْهَا حَقِيقَة من غير أَن
يشْتَرك بَينهمَا معنى، وَعدم تَرْجِيح أَحدهمَا على الآخر
ليَكُون حَقِيقَة ومجازا (وَقيل متواطئ) أَي مَوْضُوع للقدر
الْمُشْتَرك بَينهمَا كَمَا سَيَجِيءُ، والتواطؤ خير من
الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ، وَالْمجَاز (وَالْمُخْتَار) أَنه
فِي الْمُتَّصِل حَقِيقَة، و (فِي الْمُنْقَطع مجَاز) وَنَقله
الْآمِدِيّ عَن الْأَكْثَرين (قَالُوا) وَمِنْهُم ابْن
الْحَاجِب (فعلى التواطؤ أمكن حَده) أَي الْمُنْقَطع (مَعَ
الْمُتَّصِل بِحَدّ وَاحِد بِاعْتِبَار) الْمَعْنى
(الْمُشْتَرك بَينهمَا) أَي الْمُتَّصِل والمنقطع (مُجَرّد
الْمُخَالفَة) بِالْجَرِّ عطف بَيَان للمشترك (الْأَعَمّ من
الْإِخْرَاج وَعَدَمه) قيل الْأَعَمّ أفعل التَّفْضِيل، وَهُوَ
معرف بِاللَّامِ، وَقد أجْرى على الْمُخَالفَة فَيجب تأنيثه،
وَيمْتَنع فِيهِ من أُجِيب بِأَنَّهُ صفة لمُجَرّد، وَمن
لبَيَان الْمُخَالفَة، لَا صلَة الْأَعَمّ. وَقَالَ الشَّارِح
فِيهِ تَأمل (فَيُقَال مَا دلّ على الْمُخَالفَة بإلا غير
الصّفة إِلَى آخِره) أَي وَأَخَوَاتهَا، وَقَوله بإلا غير
الصّفة إِخْرَاج سَائِر أَنْوَاع التَّخْصِيص (وعَلى أَنه) أَي
لفظ الِاسْتِثْنَاء (مُشْتَرك) لَفْظِي بَينهمَا (أَو مجَاز
فِي الْمُنْقَطع لَا يُمكن) حد الْمُنْقَطع مَعَ الْمُتَّصِل
بِحَدّ وَاحِد (لِأَن مفهومية) أَي الِاسْتِثْنَاء (حِينَئِذٍ
حقيقتان مُخْتَلِفَتَانِ، فَيحد كل) من الْمُتَّصِل والمنفصل
(بِخُصُوصِهِ، فيزاد) على الْحَد الْوَاحِد السَّابِق (فِي) حد
(الْمُنْقَطع) قيد (من غير إِخْرَاج لإِخْرَاج الْمُتَّصِل
وَلَا شكّ أَن هَذَا) أَي امْتنَاع الْجمع بَين الشَّيْئَيْنِ
فِي تَعْرِيف وَاحِد (إِنَّمَا هُوَ فِي تَعْرِيف ماهيتين
مختلفتين كَمَا لَو كَانَ التَّعْرِيف للاستثناء بِمَعْنى
الاخراجين المسميين بالمتصل والمنقطع) فَإِن الْإِخْرَاج فِي
الْمُتَّصِل إِخْرَاج بعض مَا تنَاوله صدر الْكَلَام من حكمه.
(1/284)
وَفِي الْمُنْقَطع إِخْرَاج مَا لَا
يتَنَاوَلهُ الصَّدْر من حكمه وَلَا شكّ أَنَّهُمَا حقيقتان
بِمَعْنى ماهيتان مُخْتَلِفَتَانِ مُمْتَنع اجْتِمَاعهمَا فِي
حد وَاحِد فَإِن قلت قد يجمع بَين الماهيات الْمُخْتَلفَة فِي
تَعْرِيف وَاحِد كتعريف الْحَيَوَان المندرج تَحْتَهُ
الْحَيَوَان: الْإِنْسَان، وَالْفرس وَغَيرهمَا بالجسم النامي
الحساس إِلَى آخِره قلت المُرَاد: تَعْرِيف الماهيتين بِحَيْثُ
يتَمَيَّز كل مِنْهُمَا على جَمِيع مَا عداهُ لَا يُقَال يجوز
أَن يذكر كل مِنْهُمَا بِجَمِيعِ قيوده بِأَو الترديدية،
لِأَنَّهُ لَا يتَعَيَّن حِينَئِذٍ اخْتِصَاص شَيْء من الترديد
بِشَيْء مِنْهُمَا بِعَيْنِه من نفس التَّعْرِيف وَالْحق أَن
الْكَلَام فِي الْحَد الأسمى فَلَا يتَصَوَّر وحدته إِلَّا
بِأَن يُوجد مُسَمّى وَاحِد، وضع الِاسْم بإزائه، والمفروض
فِيمَا نَحن فِيهِ خِلَافه فَافْهَم (وَبِأَن وضع لفظ
مرَّتَيْنِ لشيئين) حَتَّى كَانَ مُشْتَركا لفظيا بَينهمَا
(أَو) وضع لفظ (مرّة لمشترك بَينهمَا) أَي بَين شَيْئَيْنِ
حَتَّى كَانَ متواطئا (أَو) وضع (لأَحَدهمَا ويتجوز بِهِ فِي
الآخر لَا يتَعَذَّر تَعْرِيفه على تَقْدِير تَقْدِير) بِأَن
يُقَال فِيمَا نَحن فِيهِ الِاسْتِثْنَاء على تَقْدِير وَضعه
للمتصل مَعْنَاهُ، وَكَذَا قَوْله على تَقْدِير مكررا، مثل
قَوْلهم: رتبته بَابا بَابا، وَجَاءُوا وَاحِدًا وَاحِدًا:
فَهُوَ حَال عَن تَعْرِيفه: يَعْنِي مفصلا على هَذَا الْوَجْه.
قَالَ الرضي وصابطه أَن يَتَأَتَّى للتفصيل بعده كَمَا ذكر
الْمَجْمُوع بجزئه مكررا (وَالْكَلَام) هَهُنَا (إِنَّمَا هُوَ
فِي الِاسْتِثْنَاء بِمَعْنى الأداة) يَعْنِي أَن لفظ
الِاسْتِثْنَاء يُطلق على الْإِخْرَاج الْمَذْكُور وعَلى
اللَّفْظ الدَّال عَلَيْهِ، وَكَلَام الْأُصُولِيِّينَ فِي
هَذَا الْمقَام إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَخِيرَة، فالأداة إِمَّا
مُشْتَرك وَإِمَّا متواطئ إِلَى آخِره، وَيجوز تَعْرِيفهَا على
كل تَقْدِير تَقْدِير (فَيُقَال مَا دلّ على عدم إِرَادَة مَا
بعده) حَال كَون مَا بعده (كَائِنا بعض مَا قبله، أَو) كَائِنا
(خِلَافه) أَي خلاف مَا ذكر بِأَن لَا يكون بعض مَا قبله
(بِحكمِهِ) مُتَعَلق الْإِرَادَة: أَي لم يقْصد بِحكمِهِ أَن
يَشْمَل مَا بعده ناشئة دلَالَته على الْمَعْنيين (عَن وضعين)
وضع مرّة لِأَن يدل على عدم إِرَادَة مَا بعده كَائِنا إِلَى
آخِره، وَمرَّة لمقابله (على الِاشْتِرَاك، وَيتْرك لفظ
الْوَضع) الْمَذْكُور فِي التَّعْرِيف الْمَذْكُور بِصِيغَة
التَّثْنِيَة (على) تَقْدِير (التواطؤ) وَالْبَاقِي على حَاله،
فَيُقَال مَا دلّ على عدم إِرَادَة مَا بعده كَائِنا بعض مَا
قبله أَو خِلَافه (و) يُقَال على أَنه حَقِيقَة فِي
الْمُتَّصِل مجَاز فِي الْمُنْقَطع مَا دلّ على عدم إِرَادَة
مَا بعده (كَائِنا بعضه) أَي بعض مَا قبله (بِحكمِهِ
بِوَضْعِهِ) أَي بِسَبَب وضع مَا دلّ على هَذَا الْمَعْنى
(لَهُ) أَي لهَذَا الْمَعْنى (فَقَط، وخلافه بِالْقَرِينَةِ)
أَي وَدلّ على عدم إِرَادَة مَا بعده كَائِنا خِلَافه مَا قبله
بِأَن لَا يكون بعضه بِحكمِهِ بِالْقَرِينَةِ: أَي دلَالَته
على هَذَا الْمَعْنى بِالْقَرِينَةِ لَا بِالْوَضْعِ (ثمَّ لَا
يخفى صدق تعريفنا) وَهُوَ قَوْلنَا مَا دلّ الخ بِبَعْض تصرف
(عَلَيْهَا) أَي على الأداة (على التقادير) الثَّلَاثَة (بِلَا
حَاجَة إِلَى خِلَافه) من التعاريف على
(1/285)
مَا تكلفوا فِي هَذَا الْمقَام (وَقَوله)
أَي الَّذِي جوز حَده على التواطؤ، فَقَالَ مَا دلّ على
الْمُخَالفَة (بإلا) غير الصّفة (إِلَى آخِره يُفِيد أَن
إِلَّا وَأَخَوَاتهَا مَعَ مَا دلّ غيران) أَي متغايران، لِأَن
الدَّال بِوَاسِطَة شَيْء غير ذَلِك الشي (وَلَيْسَ) كَذَلِك
لِأَن الدَّال إِنَّمَا هُوَ إِلَّا وَأَخَوَاتهَا غير أَن
الْحُرُوف لَا تستقل بِالدّلَالَةِ بِدُونِ متعلقها (وَقَوله
فِي الْمُنْقَطع من غير إِخْرَاج أَن) أَرَادَ بِهِ نفي
الْإِخْرَاج (مُطلقًا) من حَيْثُ تنَاول الصَّدْر، وَمن حَيْثُ
تنَاول الحكم (لم يصدق) التَّعْرِيف (على شَيْء من أَفْرَاد
الْمَحْدُود لِأَنَّهَا) أَي أَفْرَاده (مخرجة من الحكم) فَإِن
قلت الْإِخْرَاج مِنْهُ فِي الْمُتَّصِل بِاعْتِبَار شُمُول
صدر الْكَلَام الْمُسْتَثْنى، فَإِنَّهُ بِحَسب الظَّاهِر
يُفِيد دُخُوله فِي الحكم، وَإِن كَانَ بِحَسب الْحَقِيقَة لَا
حكم قبل الِاسْتِثْنَاء على مَا بَين فِي مَحَله دفعا للتناقض،
فَمَا معنى الْإِخْرَاج مِنْهُ فِي الْمُنْقَطع قلت قد مر أَن
المُرَاد من الْإِخْرَاج إِفَادَة عدم الدُّخُول فِي الحكم
(والإخراج فِي الِاسْتِثْنَاء بقسميه) الْمُتَّصِل والمنقطع
(لَيْسَ إِلَّا مِنْهُ) أَي من الحكم (وَحمله) أَي الْإِخْرَاج
(على أَنه من الْجِنْس فَقَط، وَأَنه) أَي كَون الْإِخْرَاج
هَذَا (الِاصْطِلَاح) أَي مُوجب الِاصْطِلَاح (بَاطِل للْقطع
بِأَن زيدا لم يخرج من الْقَوْم، وَلَا يصطلح على بَاطِل،
وَإِن أُرِيد التَّجَوُّز بِالْجِنْسِ عَن حكمه) ليَكُون
الْمجَاز لغويا، (أَو أضمر) الحكم ليَكُون من مجَاز الْحَذف
(صَار الْمَعْنى من غير إِخْرَاج من حكم الْجِنْس، وَعَاد
الأول، وَهُوَ أَن الْوَاقِع إِخْرَاج مَا بعد إِلَّا مُطلقًا)
أَي مُتَّصِلا كَانَ أَو مُنْقَطِعًا (من حكم مَا قبلهَا،
وَعَدَمه) أَي الْإِخْرَاج (من نفس الْجِنْس) أما فِي
الْمُتَّصِل فَلِأَن التَّنَاوُل بَاقٍ، وَأما فِي الْمُنْقَطع
فلعدم الدُّخُول الَّذِي الْإِخْرَاج فَرعه فَإِن قلت قد مر
أَن المُرَاد من الْإِخْرَاج إِفَادَة عدم الدُّخُول قلت
إِفَادَة الدُّخُول بِاعْتِبَار الحكم لَهُ وَجه إِذْ
يتَوَهَّم ذَلِك، وَلَا وَجه لإِفَادَة عدم دُخُوله خلاف
الْجِنْس فِي الْجِنْس، فَإِنَّهُ لَا يتَوَهَّم بِجِنْس
(وَوجه الْمُخْتَار) وَهُوَ كَون أَدَاة الِاسْتِثْنَاء
حَقِيقَة فِي الْمُتَّصِل مجَاز فِي المقطع (بِأَن عُلَمَاء
الْأَمْصَار ردُّوهُ) أَي الْمَذْكُور: يَعْنِي أَدَاة
الِاسْتِثْنَاء (إِلَى الْمُتَّصِل، وَإِن) كَانَ الْمُتَّصِل
(خلاف الظَّاهِر، فحملوا لَهُ: ألف إِلَّا كرا) من الْبر عَليّ
(على قِيمَته) صلَة لحملوا، وَلَوْلَا أَنهم قصدُوا حمل إِلَّا
على حَقِيقَته مَا صرفُوا اللَّفْظ عَن ظَاهره، فَإِن ذكر
الْكر وَإِرَادَة قِيمَته خلاف الظَّاهِر فَإِن قلت اخْتَارُوا
التَّجَوُّز فِي الْكر على التَّجَوُّز فِي إِلَّا، وَلم
يعكسوا ليَكُون الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطِعًا قلت الطَّرِيق
الجادة فِي إِخْرَاج شَيْء من حكم صدر الْكَلَام مَسْلَك
الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل لَا الْمُنْقَطع فِيمَا أمكن حمل
الْكَلَام على الِاتِّصَال لَا يعدل عَنهُ إِلَى الِانْقِطَاع،
وَإِلَيْهِ يُشِير قَوْله (وَلِأَنَّهُ يتَبَادَر من، نَحْو:
جَاءَ الْقَوْم إِلَّا قبل ذكر زيد، أَو حمَار أَنه يُرِيد أَن
يخرج بعض الْقَوْم عَن حكمهم، فيشرأب) أَي فَيطلع، فِي
الْقَامُوس اشرأب إِلَيْهِ مد عُنُقه
(1/286)
لينْظر، أَو ارْتَفع، وَالِاسْم الشرأبية
كالطمأنية (إِلَى أَنه أَيهمْ، وَلَو كَانَت) إِلَّا (حَقِيقَة
فِي إِخْرَاج الْأَعَمّ مِنْهُ) مِمَّا تنَاوله الصَّدْر (من
حكمه) أَي من حكم الصَّدْر (لم يتَبَادَر معِين) وَهُوَ مَا
تنَاوله صدر الْكَلَام (لَا يُقَال جَازَ) تبادر الْمعِين
(لعروض شهرة أوجبت الِانْتِقَال إِلَيْهِ) أَي الْمعِين،
فالتبادر لأمر عَارض لأصل الْوَضع، وَمثله لَا يكون عَلامَة
الْحَقِيقَة (لِأَنَّهُ) أَي عرُوض الشُّهْرَة فِي أحد
الْمَعْنيين الحقيقيين (نَادِر لَا يعْتَبر بِهِ) بِمُجَرَّد
الْإِمْكَان (قبل فعليته) أَي تحَققه بِالْفِعْلِ (وَإِلَّا)
لَو اعْتبر جَوَاز عرُوض الشُّهْرَة مُوجبا للتبادر (بَطل
الْحمل على الْحَقِيقَة عِنْد إمكانهما) أَي الْحَقِيقَة
وَالْمجَاز، لِأَن الْحَقِيقَة لَا تعرف إِلَّا بالتبادر عِنْد
الْإِطْلَاق، وَإِذا جوز كَون التبادر لعروض عَن الشُّهْرَة
على سَبِيل الِاحْتِمَال انسد بَاب إِثْبَات الْحَقِيقَة
(وَغير ذَلِك) من الْحمل على الِاشْتِرَاك إِذا ثَبت تبادر
المفاهيم على السوَاء بتجويز كَون تبادر أَحدهمَا لعروض
الشُّهْرَة. (وَقَالَ الْغَزالِيّ) وَالْقَاضِي (فِي) تَعْرِيف
الِاسْتِثْنَاء (الْمُتَّصِل قَول ذُو صِيغ مَخْصُوصَة دَال
على أَن الْمَذْكُور) الْمُتَّصِل (بِهِ لم يرد بالْقَوْل
الأول أَفَادَ جنسه) وَهُوَ قَول (أَنه) أَي التَّعْرِيف (لغير
الْمَعْنى المصدري) الَّذِي هُوَ الْإِخْرَاج، بل للأداة
(ومخصوصة أَي معهودة، وَهِي إِلَّا وَأَخَوَاتهَا، فالأنسب أَن
يُقَال يرد على طرده) أَي على مانعية التَّعْرِيف (الشَّرْط)
نَحْو: أكْرم النَّاس أَن علمُوا، لِأَنَّهُ يصدق عَلَيْهِ
قَول إِلَى آخِره، لِأَن لَهُ صيغا هِيَ أدوات الشَّرْط،
وَسَيذكر الْقَيْد الآخر (لَا) أَن يُقَال يرد على طرده
(التَّخْصِيص بِهِ) أَي بِالشّرطِ كَمَا قَالَ ابْن الْحَاجِب:
إِذْ لَا يصدق عَلَيْهِ قَول، وَإِنَّمَا قَالَ الْأَنْسَب
لِأَنَّهُ يُمكن تَأْوِيل مَا قَالَ (و) يرد عَلَيْهِ
(الْمَوْصُول) حَال كَونه (وَصفا) مُخَصّصا، نَحْو: أكْرم
النَّاس الَّذين علمُوا (والمستقل) نَحْو: لَا تكرم زيدا بعد
أكْرم الْقَوْم (وَدفع الْأَوَّلَانِ) أَي الايردان بِالشّرطِ
والموصول، والدافع ابْن الْحَاجِب (بِأَنَّهُمَا) أَي الشَّرْط
والموصول (لَا يخرجَانِ الْمَذْكُور) وَهُوَ الْعلمَاء فِي
المثالين (بل) يخرجَانِ (غَيره) أَي غير الْمَذْكُور، وَهُوَ
من عداهم (وَتقدم التَّحْقِيق فِيهِ) من أَن الشَّرْط مخرج بعض
التقادير، وَكَذَلِكَ الْوَصْف (والمستقل لم يوضع لإِفَادَة
الْمُخَالفَة، وَإِنَّمَا تفهم) الْمُخَالفَة (بملاحظتهما) أَي
المستقل، وَمَا خص بِهِ وَالْمرَاد من الدّلَالَة فِي
التَّعْرِيف مَا بِالْوَضْعِ (و) أورد (على عَكسه) أَي على
جامعية التَّعْرِيف (شخص جَاءُوا إِلَّا زيدا، وسائرها) أَي
خُصُوص إِلَّا، وكل من أدوات الِاسْتِثْنَاء، لِأَنَّهُ لَيْسَ
شَيْء مِنْهَا ذَا صِيغ، فَلَا يصدق الْحَد على شَيْء مِنْهَا
(ورد) هَذَا الْإِيرَاد (بِظُهُور أَن المُرَاد) بالْقَوْل
الْمَذْكُور فِي التَّعْرِيف (جنس الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل)
فَإِنَّهُ ذُو صِيغ، وكل فَرد مِنْهُ ذُو صِيغَة وَلَا يخفى
مَا فِيهِ من أَن التَّعْرِيف لَا يكون إِلَّا للْجِنْس،
وَمَعَ هَذَا لَا بُد من صدق التَّعْرِيف على
(1/287)
كل فَرد (وَلَا يخفى مَا فِيهِ، وَعدم
وُرُوده) أَي هَذَا الْإِيرَاد (على) تَقْدِير (كَونه) أَي
كَون التَّعْرِيف (تعريفا للأدوات يُفِيد الْعُمُوم) بِأَن
يكون الْمُعَرّف جنس الأدوات لَا من حَيْثُ هُوَ كَمَا هُوَ
الْمُتَعَارف فِي التعريفات، بل من حَيْثُ تحققها فِي ضمن كل
من الْأَفْرَاد، فَكل خُصُوصِيَّة من خصوصيات الأدوات لَيست من
أَفْرَاد الْمُعَرّف، فَلَا ينْتَقض بهَا التَّعْرِيف جمعا
(وعَلى) تَقْدِير (كَونه) أَي التَّعْرِيف تعريفا (لما يصدق
عَلَيْهِ أَدَاة الِاسْتِثْنَاء) بِأَن يكون الْمُعَرّف
الْفَرد الْمُنْتَشِر لجنس أَدَاة الِاسْتِثْنَاء (ليَكُون
الْمِثَال) الْمَذْكُور، وَهُوَ قَوْله: إِلَّا زيد الَّذِي
هُوَ شخص من ذَلِك الْجِنْس (من أَفْرَاد الْمُعَرّف بِخِلَاف
الأول) وَهُوَ فرض كَون التَّعْرِيف للأدوات يُفِيد الْعُمُوم،
فَإِن الْمِثَال الْمَذْكُور لَيْسَ من أَفْرَاد الْمُعَرّف:
أَي بِنَاء عَلَيْهِ (صَادِق عَلَيْهِ) خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف
تَقْدِيره والتعريف صَادِق على الْمِثَال الْمَذْكُور بِنَاء
على كَونه لما يصدق عَلَيْهِ إِلَى آخِره (إِذْ الْجِنْس) أَي
جنس الْفَرد الْمُنْتَشِر (قَول كلي لَا يتَحَقَّق خَارِجا
إِلَّا فِي ضمن أَدَاة) فَهُوَ بِاعْتِبَار كل تحقق ذُو صِيغَة
وَاحِدَة، وَلَكِن بِاعْتِبَار تحققاته ذُو صِيغ كَثِيرَة
(وَهُوَ) أَي الْجِنْس (نَفسه ذُو الصِّيَغ) وَإِن كَانَ شخصه
ذَا صِيغَة وَاحِدَة (وَيصدق على الْكُلِّي الْكَائِن فِي ضمن
إِلَّا فِي الْمِثَال) الْمَذْكُور (ذَلِك) أَي قَول ذُو صِيغ
إِلَى آخِره وَالْحَاصِل أَن الْفَرد الْمُنْتَشِر وَإِن لم
يصدق عَلَيْهِ بِاعْتِبَار تحَققه فِي ضمن هَذَا الْخَاص أَنه
قَول ذُو صِيغ إِلَى آخِره، لَكِن يصدق عَلَيْهِ بِاعْتِبَار
تحققاته فِي ضمن الخصوصيات أَنه قَول ذُو صِيغ (وَقيل) فِي
التَّعْرِيف (لفظ مُتَّصِل بجملة لَا يسْتَقلّ) صفة لفظ،
وَكَذَا قَوْله (دَال على أَن مَدْلُوله) الضَّمِير رَاجع
إِلَى لفظ (غير مُرَاد بِمَا اتَّصل) اللَّفْظ الْمَذْكُور
(بِهِ) وَهُوَ الْجُمْلَة (لَيْسَ) ذَلِك اللَّفْظ (بِشَرْط
وَلَا صفة وَلَا غَايَة) احْتِرَاز بِلَفْظ من المخصصات الحسية
أَو الْعَقْلِيَّة، وبمتصل عَن الْمُنْفَصِلَة، وَبلا يسْتَقلّ
عَن مثل قَامَ الْقَوْم وَلم يقم زيد، وبعدم إِرَادَة
مَدْلُوله عَن الْأَسْمَاء الْمُؤَكّدَة مثل: جَاءَ الْقَوْم
كلهم، وَالْبَاقِي ظَاهر (و) يرد (على طرده قَامُوا لَا زيد)
لصدق الْحَد عَلَيْهِ، وَلَيْسَ باستثناء (وَدفع بِمَا ذكرنَا)
من أَنه لم يوضع لإِفَادَة عدم الْإِرَادَة، وَإِنَّمَا لَزِمت
من ملاحظته مَعَ مَا قبله لُزُوما عقليا لَا وضعيا بِدَلِيل
جَاءَ زيد لَا عَمْرو، لِامْتِنَاع إِرَادَة عَمْرو من زيد (و)
يرد (على عَكسه) الِاسْتِثْنَاء (المفرغ للْفَاعِل) نَحْو: مَا
جَاءَ إِلَّا زيد، إِذْ لَا يصدق عَلَيْهِ الْحَد لعدم
اتِّصَاله بِالْجُمْلَةِ لِأَنَّهُ هُوَ الْفَاعِل، وَالْفِعْل
وَحده مُفْرد (وَدفع بِأَن مَا قبله) أَي مَا قبل إِلَّا زيد
(فِي تقديرها) أَي الْجُمْلَة، فَالْمُرَاد بِالْجُمْلَةِ مَا
يعم الْجُمْلَة تَقْديرا (وعَلى هَذَا) مَشى (من يقدر فَاعِلا
عَاما) وَيجْعَل مَا بعد إِلَّا بَدَلا مِنْهُ فَنَقُول
التَّقْدِير: مَا جَاءَ أحد إِلَّا زيد (وَلَعَلَّ الْمُعَرّف)
الَّذِي عرف بالتعريف الْمَذْكُور (يرَاهُ) أَي التَّقْدِير
على الْوَجْه الْمَذْكُور (ثمَّ يفْسد) عَكسه أَيْضا (بِأَن كل
مُسْتَثْنى مُتَّصِل مُرَاد بِالْأولِ) بِحَسب
(1/288)
دلَالَة لفظ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ على
إِرَادَة الْمُتَكَلّم إِيَّاه (وَيدْفَع بِمَنْعه) أَي
بِمَنْع كَون الْمُسْتَثْنى مرَادا بِالْأولِ، وَإِن كَانَ
مدلولا (وَلَو سلم) كَونه مرَادا فِي الْجُمْلَة (فَغير مُرَاد
بالحكم وَهَذَا) التَّعْرِيف (أَيْضا لما لَهُ) التَّعْرِيف
فِي (الأول) أَي تَعْرِيف الْغَزالِيّ: وَهُوَ الِاسْتِثْنَاء
بِمَعْنى الأداة (فَلَا يكون الأولى) من كل مِنْهُمَا أَن
يُقَال فِي تَعْرِيفه كَمَا قَالَ ابْن الْحَاجِب (إِخْرَاج
بَالا أَو إِحْدَى أخواتها، وَهُوَ) أَي هَذَا التَّعْرِيف
(على غير مهيعة) أَي طَرِيق كل من التعريفين السَّابِقين أَي
لَا يكون هَذَا أولى، وَالْحَال أَنه على غير مهيعهما، فَإِن
الْأَوْلَوِيَّة فرع الِاتِّحَاد فِيمَا صدق التعريفات
الثَّلَاثَة عَلَيْهِ: اللَّهُمَّ (إِلَّا معنى الأول
تَعْرِيف) الِاسْتِثْنَاء بِالْمَعْنَى (المصدري الَّذِي هُوَ
التَّخْصِيص الْخَاص) وَهُوَ مَا يكون بألا وَإِحْدَى أخواتها
(وَترك مَا بِهِ) التَّخْصِيص (وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِك) أَي
أولى هَهُنَا (فَإِن الْكَلَام فِي ذَلِك) أَي الْمُخَصّص
الْمُتَّصِل الْمُسَمّى بِالِاسْتِثْنَاءِ فِي نفس التَّخْصِيص
إِذْ الْكَلَام فِي بَيَان المخصصات (وَاعْلَم أَنه قد يعرف
مَا يُطلق عَلَيْهِ لفظ الِاسْتِثْنَاء من ماهيتي الْمُتَّصِل
والمنقطع غير أَنه) أَي لفظ الِاسْتِثْنَاء (لَيْسَ حَقِيقَة
فيهمَا) أَي الماهيتين (مُشْتَركا) بِأَن يكون مَوْضُوعا
بِإِزَاءِ كل وَاحِد مِنْهُمَا بِوَضْع على حِدة (أَو متواطئا)
بِأَن يكون مَوْضُوعا بِإِزَاءِ مَفْهُوم يعمهما (إِلَّا
اصْطِلَاحا) نحويا اسْتثِْنَاء من قَوْله متواطئا: أَي لَيْسَ
حَقِيقَة فيهمَا على التواطؤ فِي وضع إِلَّا فِي الْوَضع
الاصطلاحي (وَنظر الأصولي فِي معنى الِاسْتِثْنَاء) إِنَّمَا
هُوَ (من جِهَة اللُّغَة، وَيُمكن تعريفهما) أَي ماهيتي
الْمُتَّصِل والمنفصل (لَا من حَيْثُ هما مدلولا لفظ أصلا، أَو
مدلولا لفظ لغَوِيّ) يَعْنِي تعريفهما إِنَّمَا يتَصَوَّر على
أحد الْوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا أَن يَقع النّظر عَن كَونهمَا
مدلولي لفظ، لَا لُغَة وَلَا اصْطِلَاحا إِن لم يكن فِي نفس
الْأَمر هَهُنَا اصْطِلَاح كَمَا أَنه لَيْسَ هَهُنَا لُغَة،
وَالثَّانِي أَن يَقع النّظر عَن كَونهمَا مدلولي لُغَة وَإِن
فرض وجود اصْطِلَاح (هُوَ) أَي ذَلِك اللَّفْظ اللّغَوِيّ
(الأدوات، فالاستثناء: أَي مَا تفيده إِلَّا وَأَخَوَاتهَا)
حَقِيقَة أَو مجَازًا (الْمَعْرُوفَة) صفة لأخواتها (إِخْرَاج
بهَا) أَي بِإِحْدَى الْمَذْكُورَات، ثمَّ فسر الْإِخْرَاج
بقوله (أَي منع) أحد الْمَذْكُورَات مدخوله (من الدُّخُول
اشْتهر) لفظ الْإِخْرَاج فِي هَذَا الْمحل (فِيهِ) أَي فِي
الْمَنْع الْمَذْكُور (من الحكم أَو الصَّدْر مَعَه) أَي مَعَ
الحكم على مَا ذكر من الْوَجْهَيْنِ.
مسئلة
(الِاتِّفَاق أَن مَا بعد إِلَّا مخرج من حكم الصَّدْر: أَي لم
يرد بِهِ) أَي بِحكم الصَّدْر (فالمقر بِهِ لَيْسَ إِلَّا
سَبْعَة، فِي على عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة، وَاخْتلف فِي
تَقْدِير دلَالَته) أَي فِي تَوْجِيه دلَالَة الْكَلَام
الْمَذْكُور على سَبْعَة (فالأكثر) على أَنه (أُرِيد سَبْعَة)
بِعشْرَة مجَازًا (وَإِلَّا)
(1/289)
مَعَ دُخُولهَا (قرينته) أَي قرينَة هَذَا
المُرَاد الَّذِي هُوَ جُزْء الْمُسَمّى (والاتفاق أَن
التَّخْصِيص كَذَلِك) أَي الْمُخَصّص فِيهِ قرينَة على أَن
المُرَاد بالمخصص مَا بَقِي بعد التَّخْصِيص (وَقيل أُرِيد
عشرَة ثمَّ أخرج) ثَلَاثَة بإلا ثَلَاثَة، فَدلَّ إِلَّا على
الْإِخْرَاج وَثَلَاثَة على الْعدَد الْمُسَمّى بهَا (ثمَّ حكم
على الْبَاقِي، وَالْمرَاد أُرِيد عشرَة وَحكم على سَبْعَة
فإرادة الْعشْرَة) بِلَفْظ عشرَة (بَاقٍ بعد الحكم) على
سَبْعَة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن المُرَاد هَذَا (رَجَعَ
إِلَى إِرَادَة سَبْعَة بِهِ) أَي بِلَفْظ عشرَة (مَعَ الحكم
عَلَيْهَا) أَي على سَبْعَة (فَلم يزدْ على الأول إِلَّا) مَا
حصل (بتكلف لَا فَائِدَة لَهُ وَاخْتَارَهُ) أَي هَذَا القَوْل
(بعض الْمُتَأَخِّرين) وَهُوَ ابْن الْحَاجِب، وَاسْتدلَّ
(بِالْقطعِ باستثناء نصفهَا فِي: اشْتريت الْجَارِيَة إِلَّا
نصفهَا فَكَانَ) جَمِيع الْجَارِيَة (مرَادا) من الْجَارِيَة
(وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يرد مِنْهَا جَمِيعًا، بل نصفهَا
(كَانَ) الِاسْتِثْنَاء لنصفها (من نصفهَا فَهُوَ) أَي
الِاسْتِثْنَاء (مُسْتَغْرق) جمع الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، وَهُوَ
بَاطِل (أَو) كَانَ (الْمخْرج الرّبع لِأَن الْبَاقِي من
النّصْف بعد إِخْرَاج النّصْف مِنْهُ) أَي من النّصْف (الرّبع
ويتسلسل: أَي يَنْتَهِي إِلَى إِخْرَاج الْجُزْء غير المتجزئ
مِنْهُ) أَي من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، وَفِي تَفْسِير التسلسل
بالانتهاء إِلَى مَا ذكر مُسَامَحَة: يَعْنِي لَيْسَ المُرَاد
التسلسل إِلَى غير النِّهَايَة، يل إِلَى حد لَا يتَصَوَّر
بعده الْمخْرج والمخرج مِنْهُ (وَعلمت أَن الْإِخْرَاج مجَاز
عَن عدم الْإِرَادَة) أَي عَن عدم إِرَادَة الْمُسْتَثْنى
مِنْهُ بالمستثنى مِنْهُ (عِنْدهم، وَإِلَّا نصفهَا بَيَان
إِرَادَة النّصْف بلفظها) أَي الْجَارِيَة فَلَا يكون إِلَّا
نصفهَا مُسْتَغْرقا، وَإِنَّمَا كَانَ يلْزم ذَلِك لَو أُرِيد
بِلَفْظ الْجَارِيَة نصفهَا قبل ذكرا، ثمَّ أخرج نصفهَا من
ذَلِك المُرَاد (وَلَا يتسلسل) الإخراجيات (لعدم حَقِيقَة
الْإِخْرَاج) فَإِن مبْنى التسلسل على أَن الِاسْتِثْنَاء يخرج
بعض المُرَاد من لفظ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، وَالْمرَاد مِنْهُ
يتَعَيَّن بعده الْإِخْرَاج بِالِاسْتِثْنَاءِ، فتعقب كل
اسْتثِْنَاء اسْتثِْنَاء، وَهَذَا إِذا كَانَ هُنَاكَ حَقِيقَة
الْإِخْرَاج، وَأما إِذا كَانَ الْإِخْرَاج عبارَة عَن عدم
إِرَادَة الْبَعْض بِسَبَب الِاسْتِثْنَاء، وَبعد مَا تعين
المُرَاد بِسَبَبِهِ فقد انْتهى عمل الِاسْتِثْنَاء قبله،
وَلَا إِخْرَاج بعد ذَلِك فَافْهَم (و) ابْن الْحَاجِب قَالَ
(أَيْضا الضَّمِير) فِي نصفهَا (لِلْجَارِيَةِ) إِذْ المُرَاد
نصف جَمِيعهَا قطعا، وَيلْزم من كَون المُرَاد من الْجَارِيَة
نصفهَا أَن يرجع الضَّمِير إِلَى نصفهَا، لِأَن الْمَذْكُور
على هَذَا التَّقْدِير لَا جَمِيعهَا (وَيدْفَع) هَذَا (بِأَن
الْمرجع) لضمير نصفهَا (اللَّفْظ) أَي لفظ الْجَارِيَة
(لِأَنَّهُ) أَي الضَّمِير (لربط لفظ بِلَفْظ بِاعْتِبَار
مَعْنَاهُمَا) حَقِيقِيًّا كَانَ أَو مجازيا لَا الْمُسَمّى:
أَي (لَا) بِاعْتِبَار (الْمُسَمّى) خَاصَّة (فَيرجع) ضمير
نصفهَا (إِلَى لفظ الْجَارِيَة مرَادا بِهِ بَعْضهَا) الَّذِي
هُوَ النّصْف (وَأَيْضًا إِجْمَاع) أهل (الْعَرَبيَّة أَنه)
أَي الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل (إِخْرَاج بعض من كل) وَلَو
أُرِيد الْبَاقِي من الْجَارِيَة
(1/290)
لم يكن ثمَّة كل وَلَا بعض وَلَا إِخْرَاج،
فَأجَاب عَنهُ بقوله (وَعرفت أَنه) أَي الْإِخْرَاج (منع
دُخُوله) أَي الْمُسْتَثْنى (فِي الْكل) وَهُوَ الْمُسْتَثْنى
مِنْهُ (فالإجماع على هَذَا الْمَعْنى) وَهُوَ مَوْجُود على
قَول الْأَكْثَر، ثمَّ قَالَ ابْن الْحَاجِب (وَأَيْضًا تبطل
النُّصُوص) لِأَنَّهُ إِذا حمل على الْمَعْنى الْمجَازِي لم
تبْق نصوصية فِي مَعْنَاهُ (قُلْنَا: النَّص وَالظَّاهِر
سَوَاء بِاعْتِبَار ذاتهما) فَإِن كَون اللَّفْظ نصا فِي معنى
بِحَيْثُ لَا يحْتَمل خِلَافه لَا يتَحَقَّق قطّ بِمُجَرَّد
ذَاته، بل باقتران أَمر آخر من لفظ وَغَيره، فَلَا أثر لذات
اللَّفْظ فِي منع التَّجَوُّز بِهِ، وَلَوْلَا انضمام كلهم
أَجْمَعُونَ للفظ الْمَلَائِكَة، ويطير بجناحيه للفظ الطَّائِر
لما نَص الأول فِي الْعُمُوم، وَالثَّانِي فِيمَا أُرِيد بِهِ،
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَلَا نصوصية بِمَعْنى رفع
الِاحْتِمَال مُطلقًا إِلَّا بِخَارِج، وَلَيْسَ الْعدَد
بِمُجَرَّدِهِ) أَي مُجَرّد لَفظه (مِنْهُ) أَي من النَّص
بِمَعْنى نفي الِاحْتِمَال (فالملازمة) بَين إِرَادَة
السَّبْعَة من الْعشْرَة وَبطلَان النُّصُوص (مَمْنُوعَة) وَقد
عرفت سَنَد الْمَنْع (وَأما إِسْقَاط مَا بعْدهَا) أَي وَأما
الدَّلِيل الْخَامِس لِابْنِ الْحَاجِب، وَهُوَ أَنا نعلم فِي
الِاسْتِثْنَاء أَنه يسْقط مَا بعد إِلَّا مِمَّا قبلهَا
(فَيبقى الْبَاقِي) من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، فيسند إِلَيْهِ
الحكم (وَهُوَ) أَي إِسْقَاط مَا بعْدهَا مِمَّا قبلهَا (فرع
إِرَادَة الْكل) مِمَّا قبلهَا (فَقَوْل الْأَكْثَر يقتضى أَن
الْإِسْقَاط) الْمَذْكُور (ذكر مَا لم يرد) بالحكم، وَهُوَ
الثَّلَاثَة بعْدهَا كَمَا أَن الْإِخْرَاج عبارَة عَن عدم
الدُّخُول ابْتِدَاء وهما متقاربان معنى، وَقد مر أَنه شاع فِي
عدم الدُّخُول، فشيوع تِلْكَ الْإِرَادَة قرينَة لهَذِهِ
(ونسبته) أَي نِسْبَة مَا لم يرد بِهِ (للمسمى) أَي
الْمَوْضُوع لَهُ لفظ الْعشْرَة من حَيْثُ أَنه يفهم من ذكر
إِلَّا ثَلَاثَة أَن الثَّلَاثَة هِيَ من أَجزَاء الْعشْرَة،
وَلم يتَنَاوَلهُ حكم مَا عده من أَجْزَائِهَا مَعَ أَن لفظ
الْعشْرَة مستعملة فِي السَّبْعَة لَا فِي الْعشْرَة (ليعرف
الْبَاقِي) المُرَاد من الْمُسَمّى لَا لِأَن الْمُسَمّى قد
اسْتعْمل فِيهِ اللَّفْظ (أَو) الْإِسْقَاط (بِالنِّسْبَةِ
إِلَى مَدْلُوله) أَي اللَّفْظ، فَإِنَّهُ لما كَانَت
الثَّلَاثَة مَعَ السَّبْعَة مُشَاركَة فِي المدلولية من
اللَّفْظ بِمُوجب الْوَضع وَلم ينلها الحكم كَمَا نَالَ
السَّبْعَة قبل لَهَا أسقط مَا قبلهَا (وَإِذا لم يبطل الأول)
أَي قَول الْأَكْثَر (وَهُوَ أقل تكلفا) من الثَّانِي (تعين)
الأول للاعتبار (وَلِأَن الثَّانِي خَارج عَن قانون
الِاسْتِعْمَال، وَهُوَ) أَي قانون الِاسْتِعْمَال (إِيقَاع
اللَّفْظ فِي التَّرْكِيب ليحكم على وضعيه) أَي الْمَعْنى
الْمَوْضُوع لَهُ اللَّفْظ (أَو مُرَاده) أَي وعَلى الْمَعْنى
المُرَاد بِهِ مجَازًا (أَو بهما) أَي وليحكم بِالْمَعْنَى
الْمَوْضُوع لَهُ اللَّفْظ أَو بالمراد، لِأَن اللَّفْظ إِمَّا
مَأْخُوذ فِي جَانب الْمَحْكُوم عَلَيْهِ، أَو فِي جَانب
الْمَحْكُوم بِهِ (وَلَا مُوجب) لِلْخُرُوجِ عَن قانون
الِاسْتِعْمَال (فَوَجَبَ نَفْيه) أَي نفي القَوْل الثَّانِي
لِخُرُوجِهِ عَن القانون (وَعَن القَاضِي أبي بكر عشرَة إِلَّا
ثَلَاثَة) مَوْضُوعَة (لمدلول سَبْعَة كسبعة) أَي كَمَا وضع
لفظ سَبْعَة لَهُ، وَاخْتَارَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ (ورد
بِأَنَّهُ خَارج
(1/291)
عَن اللُّغَة، إِذْ لَا تركيب من) أَلْفَاظ
(ثَلَاثَة فِي غير المحكي، وَالْأول غير مُضَاف وَلَا مُعرب
وَلَا حرف) فَعلم أَنه يُوجد مركب من ثَلَاثَة أَلْفَاظ إِذا
كَانَ محكيا كبرق نَحره، وشاب قرناها، وَإِذا كَانَ غير المحكى
إِذا كَانَ الأول مِنْهُ غير جَامع السُّكُوت الثَّلَاثَة
كَأبي عبد الله. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: إِنَّمَا
الْكَلَام فِي التَّسْمِيَة بِثَلَاثَة أَلْفَاظ فَصَاعِدا
إِذا جعلت اسْما وَاحِدًا على طَرِيق حَضرمَوْت وبعلبك من غير
أَن يُلَاحظ فِيهَا الْإِعْرَاب وَالْبناء الأصليان، بل يكون
بِمَنْزِلَة زيد وَعَمْرو، وَيجْرِي الْإِعْرَاب الْمُسْتَحق
على حرفه الْأَخير، وَهَذَا لَيْسَ من لُغَة الْعَرَب بِلَا
نزاع صرح بِهِ صَاحب الْكَشَّاف انْتهى وَحَاصِل كَلَام
المُصَنّف رَحمَه الله: نفى مركب من ثَلَاثَة أَلْفَاظ يكون
أَولهَا جَامع السُّكُوت الثَّلَاثَة وَقَوْلنَا عشرَة إِلَّا
ثَلَاثَة يصدق على أَولهَا أَنه لَيْسَ بمضاف، وَلَا حرف،
وَلَا مُعرب لِأَنَّهُ على طَريقَة القَاضِي مَحل الْإِعْرَاب
الْحَرْف الْأَخير لَا الأول (و) رد أَيْضا (بِلُزُوم عود
الضَّمِير) فِي نَحْو إِلَّا نصفهَا (على جُزْء الِاسْم)
الَّذِي هُوَ الْجَارِيَة فِي: اشْتريت الْجَارِيَة إِلَّا
نصفهَا (وَهُوَ) جُزْء الِاسْم (كزاي زيد لعدم دلَالَته) أَي
جُزْء الِاسْم على الْمَعْنى، فَيمْتَنع عود الضَّمِير
إِلَيْهِ (وَالْحق أَنه) أَي قَول القَاضِي (أحد المذهبين)
الْمَذْكُورين (للْقطع بِأَن مفرداته) أَي مُفْرَدَات عَليّ
عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة بَاقِيَة (فِي مَعَانِيهَا) الافرادية
(وَقَوله بِإِزَاءِ سَبْعَة) إِنَّمَا هُوَ (بِاعْتِبَار
الْحَاصِل) من التَّرْكِيب سَوَاء قُلْنَا أَن الْعشْرَة
اسْتعْملت مجَازًا فِي السَّبْعَة بِقَرِينَة إِلَّا ثَلَاثَة،
أَو اسْتعْملت فِي الْعشْرَة ثمَّ أخرج الثَّلَاثَة، فَإِنَّهُ
على التَّقْدِيرَيْنِ لَا بُد من مُلَاحظَة معنى إِلَّا وَمعنى
ثَلَاثَة، وَبعد إِخْرَاج ثَلَاثَة من عشرَة يصير كَأَنَّهُ
اسْتعْمل أَولا فِي السَّبْعَة وَلَا يخفى أَن معنى
اسْتِعْمَال عشرَة فِي سَبْعَة ذكر عشرَة وَإِرَادَة سَبْعَة،
وَلَا تتمّ هَذِه الْإِرَادَة على وَجه يفهمها الْمُخَاطب
إِلَّا بعد تعقل معنى إِلَّا وَثَلَاثَة، فالتركيب الْمَذْكُور
بعد أحد التصرفين محصوله محصول السَّبْعَة من حَيْثُ الْمَآل
(وَلذَا شبه) فَقَالَ كسبعة على مَا نقل عَنهُ (فَانْتفى مَا
بناه بَعضهم) وَهُوَ صدر الشَّرِيعَة (عَلَيْهِ) أَي على قَول
القَاضِي (من أَن تَخْصِيصه) أَي الِاسْتِثْنَاء بِنَاء على
مَا ذهب إِلَيْهِ (كمفهوم اللقب) أَي كتخصيص مَفْهُوم اللقب
على مَا ذهب إِلَيْهِ بعض النَّاس: يَعْنِي أَن تَخْصِيص
الِاسْتِثْنَاء أَمر مُتَّفق عَلَيْهِ، وتخصيض مَفْهُوم اللقب
نَفَاهُ الْكل إِلَّا بعض الْحَنَابِلَة وشذوذا وَهُوَ
إِضَافَة نقيض حكم مَا عبر عَنهُ باسمه علما أَو جِنْسا إِلَى
مَا سواهُ على مَا سبق، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ عشرَة
إِلَّا ثَلَاثَة بِمَنْزِلَة سَبْعَة، فنفى الحكم عَمَّا عدا
سَبْعَة كنفي الزَّكَاة عَمَّا عدا الْغنم فِي قَوْلنَا: فِي
الْغنم زَكَاة، وَلَيْسَ فِي هَذَا شَيْء من الْإِخْرَاج،
وَلذَا قَالَ (الْمُقْتَضى أَن لَا إِخْرَاج أصلا) صفة
لمَفْهُوم اللقب (وَجهه) أَي وَجه مَا قُلْنَا من أَن قَوْله
بِإِزَاءِ سَبْعَة بِاعْتِبَار الْحَاصِل (أَن
(1/292)
الحكم لَيْسَ إِلَّا على السَّبْعَة فَأَما
باعتبارها) أَي بِاعْتِبَار كَون السَّبْعَة (مدلولا مجازيا
للتركيب) فَإِن الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ لَهُ الْعشْرَة المخرجة
مِنْهَا الثَّلَاثَة كَمَا هُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور (أَو)
بِاعْتِبَار كَون السَّبْعَة (مَا) أَي شَيْئا (يصدق على
السَّبْعَة، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ حَاصِل التَّرْكِيب حَاصِل
السَّبْعَة فَلَا يخرج القَاضِي على المذهبين (هَذَا) أَي خُذ
هَذَا، أَو الشَّأْن هَذَا (وَبَعض الْحَنَفِيَّة قَالُوا
إِخْرَاج الِاسْتِثْنَاء عِنْد الشَّافِعِي بطرِيق
الْمُعَارضَة) لِأَنَّهُ أثبت للمستثنى حكم مُخَالف لصدر
الْكَلَام كَمَا فِي الْعَام إِذا خص مِنْهُ بعضه من حَيْثُ
أَنه يثبت لذَلِك الْبَعْض حكم مُخَالف لحكمه، فتحقق
الْمُعَارضَة بَين الْحكمَيْنِ (وَعِنْدنَا بَيَان مَحْض)
لكَون الحكم الْمَذْكُور فِي الصَّدْر واردا على الْبَعْض،
وَهُوَ مَا عدا الْمُسْتَثْنى (ثمَّ أبطلوه) أَي الْحَنَفِيَّة
المذكورون مَا قَالَه الشَّافِعِي رَحمَه الله (بِأَنَّهُ لَو
كَانَ) إِخْرَاجه بطرِيق الْمُعَارضَة (وَهُوَ) أَي وَالْحَال
أَن الْإِقْرَار الْمَذْكُور (لَا يُوجب) حكمه (إِلَّا فِي
سَبْعَة ثَبت مَا لَيْسَ من محتملات اللَّفْظ، فَإِن الْعشْرَة
لَا يَقع عَلَيْهَا) أَي السَّبْعَة فَقَط (حَقِيقَة) وَهُوَ
ظَاهر (وَلَا مجَازًا) وَلَا نِسْبَة بَينهَا وَبَين الْعشْرَة
سوى العددية، وَهِي عَامَّة لَا تصلح للتجوز، وَشرط
التَّجَوُّز بِالْكُلِّيَّةِ والجزئية كَون الْجُزْء
مُخْتَصًّا بِالْكُلِّ كاختصاص الرَّقَبَة بالإنسان (بِخِلَاف
الْعَام) الْمَخْصُوص (إِذْ لَا يستلزمه) أَي ثُبُوت مَا
لَيْسَ من محتملات اللَّفْظ، لِأَنَّهُ لَا يُقَال فِي الْعَام
لَا يُطلق على بعض أَفْرَاده لَا حَقِيقَة وَلَا مجَازًا
لوُجُود العلاقة المصححة للتجوز (وَلَو سلم) جَوَاز
التَّجَوُّز بِالْعشرَةِ عَن السَّبْعَة كَمَا يشْعر قَوْلهم
عشرَة كَامِلَة رفعا لتوهم الْمجَاز (فالمجاز مَرْجُوح) لكَونه
خلاف الأَصْل (فَلَا يحمل عَلَيْهِ) مَعَ إِمْكَان الْحَقِيقَة
بِأَن يُرَاد الْعشْرَة، ثمَّ يخرج مِنْهَا الْبَعْض (كَذَا
نَقله) أَي هَذَا الْإِبْطَال (مُتَأَخّر) يَعْنِي صدر
الشَّرِيعَة (من الْحَنَفِيَّة، وَأَنه) أَي وأبطلوه
بِأَنَّهُ: أَي قَول الشَّافِعِي رَحمَه الله مَبْنِيّ (على)
قَول (الْقَائِل) بِأَن قَوْله (عشرَة) فِي الْإِقْرَار
الْمَذْكُور (مُسْتَعْمل (فِي سَبْعَة) وَالْحكم عَلَيْهَا
فَقَط من غير أَن يحكم على الثَّلَاثَة بِنَفْي وَلَا إِثْبَات
(فَتكون الثَّلَاثَة مسكوتة) وَهَذَا يُنَافِي مَا سبق من أَن
إِخْرَاج الِاسْتِثْنَاء عِنْد الشَّافِعِي رَحمَه الله بطرِيق
الْمُعَارضَة (وَكَأن هَذَا مِنْهُ) أَي من الْمُبْطل
(إِلْزَام) للشَّافِعِيّ (وَإِلَّا فالشافعي) رَحمَه الله (لَا
يَجْعَلهَا) أَي الثَّلَاثَة (مسكوتة) بل يَجْعَل لَهَا ضد حكم
الصَّدْر لما عرفت (وَغَيره) أَي غير هَذَا الْمُتَأَخر
(مِنْهُم) أَي الْحَنَفِيَّة كصاحب التَّحْقِيق، وَصَاحب
الْمنَار وشارحيه، والبديع (نَقله) أَي الْإِبْطَال
(بِالْآيَةِ هَكَذَا: لَو كَانَ) عمل الِاسْتِثْنَاء بِنَاء
(على الْمُعَارضَة ثَبت فِي قَوْله تَعَالَى) - (فَلبث فيهم
(1/293)
(ألف سنة إِلَّا خمسين عَاما) } - حكم
الْألف بجملتها) قَوْله ألف فَاعل ثَبت (ثمَّ عَارضه) أَي
الِاسْتِثْنَاء حكم االألف (فِي الْخمسين) إِلَّا خمسين
(فَيلْزم كذب الْخَبَر فِي أَحدهمَا، وَهَذَا) التَّوْجِيه
(هُوَ الْأَلْيَق بِمَعْنى الْمُعَارضَة) وَهُوَ الْمُنَافَاة
المستلزم كذب أحد المتنافيين (وَإِلَّا فَالْحكم على سَبْعَة)
فِي عَليّ عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة (و) على (تِسْعمائَة وَخمسين)
فِي الْآيَة (بالإثبات لَا يُعَارضهُ) أَي الحكم الْمَذْكُور
(نَفْيه) أَي الحكم (عَن ثَلَاثَة وَخمسين) لعدم توارد
الْإِثْبَات وَالنَّفْي على مَحل وَاحِد (وَبَنوهُ) أَي
الْحَنَفِيَّة كَون إِلَّا ثَلَاثَة وَإِلَّا خمسين نفيا على
الثَّلَاثَة والخمسة (على أَن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي
إِثْبَات وَقَلبه) أَي وعَلى أَن الِاسْتِثْنَاء من
الْإِثْبَات نفي (مَنْقُولًا عَن أهل اللُّغَة، وعَلى أَن
التَّوْحِيد) وَهُوَ الْإِقْرَار بِوُجُود الْبَارِي ووحدته
(فِي كَلمته) أَي التَّوْحِيد وَهِي: لَا إِلَه إِلَّا الله
إِنَّمَا يحصل (بِالنَّفْيِ) للألوهية عَمَّا سوى الله
(وَالْإِثْبَات) أَي إِثْبَاتهَا لله وَحده (وَإِلَّا) أَي
وَإِن لم يكن فِي هَذِه الْكَلِمَة مَجْمُوع النَّفْي
وَالْإِثْبَات (كَانَت) كلمة التَّوْحِيد (مُجَرّد نفي
الألوهية عَن غَيره) أَي عَن غير الله تَعَالَى، فَلَا يحصل
بِهِ التَّوْحِيد على مَا عرفت (فالتزمته) أَي أَنَّهَا لَا
تفِيد إِلَّا نفي الألوهية عَن غَيره تَعَالَى (الطَّائِفَة
الْقَائِلُونَ مِنْهُم) أَي الْحَنَفِيَّة (مَا بعد إِلَّا
مسكوت) عَن مَحْكُوم عَلَيْهِ بِحكم (وَإِن التَّوْحِيد)
الْمركب من النَّفْي وَالْإِثْبَات يحصل (من النَّفْي القولي)
الْمَدْلُول عَلَيْهِ بِلَا إِلَه إِلَّا الله (وَالْإِثْبَات
العلمي لأَنهم) أَي الْكفَّار (لم ينكروا ألوهيته تَعَالَى)
كَمَا يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى - {وَلَئِن سَأَلتهمْ من
خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض} - الْآيَة ونظائره (بل أشركوا،
فبالنفي عَن غَيره ينتفى) الشّرك (وَيحصل التَّوْحِيد فَلَا
تكون) كلمة التَّوْحِيد (من الدهري إِيَّاه) أَي توحيده،
لإنكاره وجود الْبَارِي تَعَالَى سَوَاء كَانَ قَائِلا بصانع
هُوَ الدَّهْر والأفلاك، أَو الأنجم، أَو الْفُصُول
الْأَرْبَعَة أَو غير ذَلِك أَولا (وَالْجُمْهُور وَمِنْهُم
طَائِفَة من الْحَنَفِيَّة) كفخر الْإِسْلَام وَمن وَافقه
ذَهَبُوا إِلَى الحكم (فِيمَا بعد إِلَّا بالنقيض) يَعْنِي
أَنه لَا يدل على أَن مَا بعْدهَا لم يثبت لَهُ مَا ثَبت لما
قبلهَا، وَيلْزم مِنْهُ أَن يثبت لَهُ نقيض مَا ثَبت لذَلِك:
وَإِلَّا يلْزم ارْتِفَاع النقيضين، وَيحْتَمل أَن يكون
الْمَعْنى وَالْجُمْهُور إِلَى آخِره حكم فِيمَا بعد إِلَّا
بالنقيض بِمُوجب اللُّغَة (وَهُوَ) مَا ذهب إِلَيْهِ
الْجُمْهُور (الْأَوْجه، لنقل الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي
إِثْبَات إِلَى آخِره) أَي إِثْبَات وَقَلبه عَن أهل اللُّغَة
(وَلَا يسْتَلْزم) هَذَا (كَون الْإِخْرَاج بطرِيق
الْمُعَارضَة لعدم اتِّحَاد مَحل النَّفْي وَالْإِثْبَات كَمَا
ذكرنَا آنِفا) من أَن الحكم على سَبْعَة وعَلى تِسْعمائَة
وَخمسين بالإثبات وَلَا يُعَارضهُ نَفْيه عَن ثَلَاثَة وَعَن
خمسين (وَنقل أَنه) أَي الِاسْتِثْنَاء (تكلم بِالْبَاقِي بعد
الثنيا) بِالضَّمِّ وَالْقصر اسْم من الِاسْتِثْنَاء من أهل
اللُّغَة أَيْضا (لَا يُنَافِيهِ) أَي كَونه من الْإِثْبَات
نفيا وَقَلبه (فَجَاز اجْتِمَاعهمَا) أَي النقلين (فَيصدق أَنه
تكلم بِالْبَاقِي بعد الثنيا بِاعْتِبَار الْحَاصِل من
(1/294)
مَجْمُوع التَّرْكِيب، وَنفي وَإِثْبَات
بِاعْتِبَار الْأَجْزَاء) يَعْنِي إِذا فصلنا أَجزَاء
الْكَلَام وجدنَا نفيا وإثباتا، وَإِذا نَظرنَا إِلَى محصله
ومآله وجدنَا تكلما بِالْبَاقِي فَإِن قلت الْمَفْهُوم من أَنه
تكلم بِالْبَاقِي إِلَى آخِره الِاقْتِصَار على حكم الصَّدْر
وَتَعْيِين مَحَله، وَهُوَ الْبَاقِي بعد إِخْرَاج مَا بعد
إِلَّا من غير تعرض لحكم مَا بعْدهَا فَكيف لَا يُنَافِيهِ قلت
الظَّاهِر من الْعبارَة مَا ذكرت لَكِن التَّوْفِيق بَين
النقلين يقتضى صرفه عَن الظَّاهِر، وَحمله على عدم دُخُول
الثَّلَاثَة مثلا فِي الحكم الْمُثبت على عشرَة فالقائل لَهُ
عَليّ عشرَة كَأَنَّهُ لم يتَكَلَّم إِلَّا بسبعة، وَذَلِكَ
قَوْله إِلَّا ثَلَاثَة، وَلَيْسَ المُرَاد أَنه لم يتَكَلَّم
إِلَّا بهَا حَقِيقَة حَتَّى يلْزم انْتِفَاء الحكم فِيمَا بعد
إِلَّا كَمَا سيشير إِلَيْهِ (وَنَحْو لَا صَلَاة إِلَّا
بِطهُور يُفِيد ثُبُوتهَا) أَي صِحَة الصَّلَاة (مَعَ
الظُّهُور فِي الْجُمْلَة) جَوَاب عَمَّا قيل فِي إِثْبَات
كَون مَا بعد إِلَّا فِي حكم الْمَسْكُوت عَنهُ، وَأَنه لَو لم
يكن كَذَلِك يلْزم صِحَة الصَّلَاة بالطهور وَلَيْسَ كَذَلِك
لاشتراطها بِشُرُوط أخر وَحَاصِل الْجَواب أَن اللَّازِم من
اعْتِبَار الحكم فِيمَا بعد إِلَّا هَهُنَا الْإِيجَاب الجزئي
لَا الْإِيجَاب الْكُلِّي، وَلَا شكّ أَن الصَّلَاة الجامعة
لبَقيَّة الشُّرُوط تصح بِطهُور فَصحت الْمُوجبَة فِي
الْجُمْلَة (وغايته) أَي غَايَة مَا يلْزم من كَلَام من قَالَ
أَن الِاسْتِثْنَاء تكلم بِالْبَاقِي بعد الثنيا أَن
الِاسْتِثْنَاء بِاعْتِبَار صدر الْكَلَام (تكلم بعام
مَخْصُوص) بِمَا عدا الْمُسْتَثْنى إِذا كَانَ الْمُسْتَثْنى
مِنْهُ عَاما، وَهَذَا لَا يُنَافِي التَّكَلُّم بِمَا خرج
عَنهُ من أَفْرَاده ثَانِيًا مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِحكم
مُخَالف للْأولِ، هَذَا وَالشَّارِح حمله على الِاسْتِثْنَاء
الْمَذْكُور فِي لَا صَلَاة إِلَى آخِره وتكلف فِي تَحْصِيل
عُمُومه بِكَوْنِهِ نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي، وَأَن هَذَا
الْمُقْتَضى للْعُمُوم مُنْتَفٍ فِي الْإِثْبَات، وَلم
يتَعَرَّض لبَيَان الْخُصُوص، ثمَّ أَفَادَ أَن الْمَعْنى لَا
جَوَاز للصَّلَاة فِي حَال من الْأَحْوَال إِلَّا فِي حَال من
الاقتران بالطهور، فَإِن لَهَا فِي هَذِه الْحَال جَوَازًا فِي
الْجُمْلَة على مَا عرفت (غير أَن قَول الطَّائِفَة
الثَّانِيَة) الحكم (الثَّانِي) وَهُوَ الَّذِي بعد
الْإِشَارَة، فَقَوْل الثَّانِي (إِشَارَة) خبر أَن (وَهُوَ)
أَي الحكم الإشاري (مَنْطُوق) فِي الْكَلَام (غير مَقْصُود
بِالسوقِ على مَا مر) فِي التَّقْسِيم الأول (وَقَول
الْهِدَايَة) وَهُوَ (فِيمَا أَنْت إِلَّا حر يعْتق لِأَن
الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات على وَجه التَّأْكِيد
كَمَا فِي كلمة الشَّهَادَة ظَاهر فِي الْعبارَة) فِي شرح
الْهِدَايَة: هَذَا هُوَ الْحق الْمَفْهُوم من تركيب
الِاسْتِثْنَاء لُغَة، ثمَّ قَالَ: وَأما كَونه إِثْبَاتًا
مؤكدا فلوروده بعد النَّفْي بِخِلَاف الْإِثْبَات الْمُجَرّد
انْتهى، كَأَنَّهُ يُرِيد أَن الْإِثْبَات بعد النَّفْي
يسْتَلْزم تكْرَار الأَصْل النِّسْبَة أَو يُنبئ عَن زِيَادَة
تَحْقِيق فِي الْمحل، وَأما كَونه ظَاهرا فِي الْعبارَة،
فَلِأَن الْمَعْنى الَّذِي لم يكن سوق الْكَلَام لَهُ لَا
يُؤَكد وَالله أعلم (وَالْأَوْجه أَنه مَنْطُوق إِشَارَة
تَارَة وَعبارَة) تَارَة (أُخْرَى بِأَن يقْصد) بِالسوقِ كَمَا
هُوَ حَال سَائِر المنطوقات وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه
مَنْطُوق (لما ذكرنَا) مِمَّا يدل على منطوقيته (وَلِأَن
النَّفْي عَمَّا بعد إِلَّا يفهم
(1/295)
من اللَّفْظ) وَلَا يَعْنِي بالمنطوقية
إِلَّا هَذَا وَالْمرَاد بِالنَّفْيِ خلاف حكم مَا قبلهَا
(وَأما الِاتِّفَاق على أَن إِلَّا لمُخَالفَة مَا بعْدهَا لما
قبلهَا وضعا فَلَا يُفِيد) الْمَقْصُود (لصدق الْمُخَالفَة)
بَين مَا بعْدهَا وَمَا قبلهَا (بِعَدَمِ الحكم عَلَيْهِ) أَي
على مَا بعد إِلَّا (فَلَا يسْتَلْزم الحكم) على مَا بعد
إِلَّا (بنقيضه) أَي بنقيض حكم مَا قبلهَا شَيْء (إِلَّا فهمه)
أَي فهم الحكم بنقيضه من اللَّفْظ (كَمَا سَمِعت) إِذْ فهم
الْمَعْنى من اللَّفْظ دَلِيل إفادته إِيَّاه (ثمَّ قد يقصدان)
أَي الْإِثْبَات وَالنَّفْي (ككلمة التَّوْحِيد) أَي كَمَا
قصدا فِي كلمة التَّوْحِيد (والمفرغ) أَي وكما قصدا فِي
الِاسْتِثْنَاء المفرغ كَمَا جَاءَ إِلَّا زيد وَفِي نَحْو مَا
جَاءَ الْقَوْم إِلَّا زيدا للْقطع بِأَن سياقها لإِثْبَات
الألوهية، ومجيء زيد بِالْمَنْعِ وَجه (فعبارة) أَي فَالْحكم
بعد إِلَّا فِيهَا عبارَة (أَو) يقْصد (غير الثَّانِي) وَهُوَ
الحكم على مَا قبلهَا لَا غير (كعلي عشرَة إِلَّا ثَلَاثَة
لفهم أَن الْغَرَض السَّبْعَة) أَي الْإِقْرَار بهَا وَلم
يقْصد أَن الثَّلَاثَة لَيست عَليّ وَإِن كَانَ يلْزم ضمنا
(فإشارة) أَي فَالْحكم على مَا بعد الْأَخير إِشَارَة (وَلما
بعد أَن يَقُول بِحَقِيقَة الْمُعَارضَة) فِي الِاسْتِثْنَاء
الْوَاقِع فِي الْكتاب وَالسّنة (مُسلم لِأَنَّهَا) أَي
الْمُعَارضَة تكون (بِثُبُوت الْحكمَيْنِ) المتناقضين (وَهُوَ)
أَي ثبوتهما (التَّنَاقُض صرح الْمُحَقِّقُونَ) جَوَاب لما
(بِنَفْي الْخلاف الْمَذْكُور) وَهُوَ أَن الْإِخْرَاج فِي
الِاسْتِثْنَاء بطرِيق الْمُعَارضَة أَولا (وباتفاق أهل
الدّيانَة أَنه) أَي الِاسْتِثْنَاء (بَيَان مَحْض كَسَائِر
التخصيصات، وَإِنَّمَا هُوَ) أَي الِاسْتِثْنَاء (صورتهَا) أَي
الْمُعَارضَة (نظرا إِلَى ظَاهر إِسْنَاد الصَّدْر) مَعَ مَا
يُخَالِفهُ فِيمَا بعد إِلَّا (وَلَا يخْتَلف فِيهِ) أَي
فِيمَا ذكر من أَنه بَيَان مَحْض، وَلَيْسَ الْمُعَارضَة
إِلَّا بِحَسب الصُّورَة (كالتخصيص بِغَيْرِهِ) أَي كَمَا لَا
يخْتَلف فِي التَّخْصِيص بِغَيْر الِاسْتِثْنَاء.
(تَنْبِيه: جَوَاز) بيع (مَا لَا يدْخل تَحت الْكَيْل) من
المكيلات (قلَّة) بِأَن يكون مَا دون نصف صَاع على مَا قَالُوا
(بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا عِنْد الْحَنَفِيَّة، لَا
الشَّافِعِيَّة مَعَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا
تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء،
قيل) قَالَه فَخر الْإِسْلَام وَمن وَافقه (للمعارضة عِنْده)
أَي الشَّافِعِي (فَمَعْنَى الِاسْتِثْنَاء لكم بيع طَعَام)
بِطَعَام (مسَاوٍ، فَمَا سواهُ) أَي مَا سوى الْمسَاوِي مِنْهُ
قَلِيلا أَو كثيرا. (منع) أَي مَمْنُوع (بالصدر) أَي لَا
تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ، لِأَن الِاسْتِثْنَاء
إِخْرَاج الْمكيل الْمسَاوِي خَاصَّة من عُمُوم الطَّعَام
ضَرُورَة ثُبُوت الْمُعَارضَة فِيهِ، إِذْ المُرَاد
التَّسَاوِي فِي الْكَيْل فنفى غير الْمكيل مُتَحَقق بِلَا
مُعَارضَة، فَيحرم بيع حفْنَة من الْبر بحفنتين مِنْهُ مثلا
(و) قَالَ (الْحَنَفِيَّة لَا حكم) مُتَحَقق (فِي الثَّانِي)
أَي الْمُسْتَثْنى (وَهُوَ اسْتثِْنَاء حَال الْمُسَاوَاة من)
الْأَحْوَال (الثَّلَاثَة) أَي (المجازفة وأخويها) المفاضلة
والمساواة بِنَاء على أَنه تكلم بِالْبَاقِي: فَكَأَنَّهُ نهى
عَن المجازفة والمفاضلة فَقَط (وَالْكل) أَي المجازفة وأخواها
(يسْتَند إِلَى الْكَيْل) لِأَن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ
(1/296)
طَعَام يحْتَمل المفاضلة والمساواة، وَلَا
يحتملها إِلَّا مَا يدْخل تَحت الْكَيْل عَادَة فَمَا لَا
يدْخل فِي الْكَيْل عَادَة غير مَذْكُور فِي النَّص،
وَالْأَصْل فِي الْبياعَات الْإِبَاحَة على مَا يَقع بِهِ
التَّرَاضِي، هَذَا وَلم يظْهر وَجه بِنَاء هَذَا على عدم
الحكم فِي الثَّانِي، وَلَو فرض الحكم بِجَوَاز البيع فِي
صُورَة الْمُسَاوَاة يحصل الْمَقْصُود أَيْضا لِأَن مَا لَا
يدْخل فِي الْمكيل خَارج عَن النَّفْي وَالْإِثْبَات،
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَلَا يلْزم) كَون هَذَا
الِاخْتِلَاف مَبْنِيا على الْمُعَارضَة وَعدمهَا (بل لَا يشكل
على أحد أَنه) أَي الِاسْتِثْنَاء فِي هَذَا الحَدِيث (مفرغ
للْحَال) يَعْنِي حَال الْمُسَاوَاة من جملَة أَحْوَال
الطَّعَام الْمَبِيع بِالطَّعَامِ، وَلزِمَ حمل صدر الْكَلَام
على عُمُوم الْأَحْوَال ليَصِح الِاسْتِثْنَاء الْمُتَّصِل،
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَلَزِمَ الِاتِّصَال) أَي فَلَزِمَ
حمل الْكَلَام على مَا يحصل بِهِ الِاتِّصَال (فالمبني) لهَذَا
الْخلاف (تَقْدِير نوع) الْمُسْتَثْنى (المفرغ لَهُ أَو)
تَقْدِير مَا هُوَ (أَعلَى) مِنْهُ يَعْنِي جنسه، ثمَّ لما
كَانَ لفظ التَّقْدِير موهما لتقدير لفظ وَإِعْرَابه، وَذَلِكَ
يُنَافِي تَفْرِيغ الْعَامِل للمستثنى فسر مُرَاده فَقَالَ
(أَي تَقْدِير معنى لَا) تَقْدِير ذِي (إِعْرَاب، فَمَا
فِيهَا) أَي الدَّار (إِلَّا زيد) أَي فَمَعْنَى هَذَا
التَّرْكِيب وَتَقْدِيره (أَي إِنْسَان) لِأَنَّهُ نوع لزيد
(لَا حَيَوَان) لِأَنَّهُ جنسه (والمساواة) الَّتِي هِيَ
الْمُسْتَثْنى المفرغ هَهُنَا لَا يتَحَقَّق إِلَّا
(بِالْكَيْلِ) فَلَزِمَ أَن يقدر نوعها وَهُوَ أَعم أَحْوَال
الْمكيل (فَلَا تَبِيعُوا) أَي فَالْمَعْنى حِينَئِذٍ لَا
تَبِيعُوا (طَعَاما يُكَال إِلَّا مُسَاوِيا، فالحل فِيمَا
دونه) أَي دون مَا يُكَال (بِالْأَصْلِ) فَإِن الأَصْل فِي
البيع الْحل (وقدروا) أَي كالشافعية مَا هُوَ أَعلَى مِنْهُ
فَقَالُوا (طَعَاما فِي حَال فَشَمَلَ) النَّهْي (الْقلَّة)
أَي الطَّعَام الْقَلِيل (أما ذَلِك) الْمَبْنِيّ الأول:
وَهُوَ عدم الحكم فِي الثَّانِي ووجوده فِيهِ (فمبني كَون
الْحل فِي التَّسَاوِي) عِنْد الْفَرِيقَيْنِ (بِالْأَصْلِ أَو
بالمنطوق) فَإِن قَوْلنَا بِعَدَمِ الحكم فِيمَا بعد، وَإِلَّا
فالحل فِي صُورَة الْمُسَاوَاة بِالْأَصْلِ وَإِن قُلْنَا
بِوُجُودِهِ فِيهِ فبالمنطوق (ثمَّ هُوَ) أَي كَون ذَلِك هُوَ
الْمَبْنِيّ فِي كَونه بِالْأَصْلِ أَو بالمنطوق (على) قَول
(الطَّائِفَة الأولى) من الْحَنَفِيَّة لَيْسَ فِيمَا بعد
إِلَّا حكم، أما على قَول الطَّائِفَة الْأُخْرَى فِيهِ حكم
بالنقيض، فالحل فِيهِ بالمنطوق أَيْضا.
مسئلة
(يشْتَرط فِيهِ) أَي الِاسْتِثْنَاء (الِاتِّصَال) بالمستثنى
مِنْهُ لفظا عِنْد جَمَاهِير الْعلمَاء (إِلَّا لتنفس أَو سعال
أَو أَخذ فَم وَنَحْوه) كعطاس أَو جشاء (وَعَن ابْن عَبَّاس
جَوَاز الْفَصْل بِشَهْر وَسنة و) عَنهُ جَوَازه (مُطلقًا)
وَهَذَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَام الْأَكْثَرين فِي النَّقْل
عَنهُ، كَذَا ذكره الشَّارِح وَقَالَ السُّبْكِيّ رَحمَه الله:
هِيَ رِوَايَات شَاذَّة لم تثبت عَنهُ، لَكِن رِوَايَة
الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد عَنهُ
(1/297)
إِذا حلف الرجل على يَمِين فَلهُ أَن
يسْتَثْنى وَلَو إِلَى سنة وَفِيه نزل - {وَاذْكُر رَبك إِذا
نسيت} - قَالَ الْحَاكِم على شَرط الشَّيْخَيْنِ (وَحمل) مَا
عَن ابْن عَبَّاس من جَوَاز الْفَصْل (على مَا إِذا كَانَ)
الِاسْتِثْنَاء (منويا حَال التَّكَلُّم) فَيكون مُتَّصِلا
قصدا مُتَأَخِّرًا لفظا (ويدين) الناوي لَهُ فِيمَا بَينه
وَبَين الله تَعَالَى فِي صِحَة دَعْوَى نِيَّة
الِاسْتِثْنَاء. قَالَ الإِمَام الْغَزالِيّ نقل عَن ابْن
عَبَّاس جَوَاز تَأْخِير الِاسْتِثْنَاء، وَلَعَلَّه لَا يَصح
النَّقْل عَنهُ إِذْ لَا يَلِيق ذَلِك بمنصبه وَإِن صَحَّ
فَلَعَلَّهُ أَرَادَ بِهِ إِذا نوى الِاسْتِثْنَاء أَولا، ثمَّ
أظهر نِيَّته بعده فيدين فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى
فِيمَا يرَاهُ وَأما جَوَاز التَّأْخِير بِدُونِ هَذَا
التَّأْوِيل فَيردهُ اتِّفَاق أهل اللُّغَة على خِلَافه
لِأَنَّهُ جُزْء من الْكَلَام يحصل بِهِ الْإِتْمَام، فَإِذا
انْفَصل لم يكن إتماما كالشرط وَخبر الْمُبْتَدَأ (وَهُوَ) أَي
جَوَاز فصل الِاسْتِثْنَاء إِذا كَانَ منويا حَال التَّكَلُّم
بالمستثنى مِنْهُ (قَول أَحْمد، وَعَن طَاوس وَالْحسن
تَقْيِيده) أَي جَوَاز الْفَصْل (بِالْمَجْلِسِ) وَأَنت خَبِير
بِأَن الْمجْلس قد يطول وَكَونه إتماما لما قبله بِاتِّفَاق
أهل اللُّغَة يُنَافِيهِ، نعم لَا يبعد عَن اعتبارات
الْفُقَهَاء، وَقَوْلهمْ أَن الْمجْلس جَامع المتفرقات (لنا
لَو تَأَخّر) أَي لَو جَازَ تَأْخِير الِاسْتِثْنَاء (لم يعين
تَعَالَى لبر أَيُّوب صلوَات الله عَلَيْهِ وَسَلَامه أَخذ
الضغث) وَهِي الحزمة الصَّغِيرَة من الْحَشِيش وَنَحْوه وَضرب
زَوجته بِهِ فِي حلفه أَي يضْربهَا مائَة سَوط ضَرْبَة لما
ذهبت لِحَاجَتِهِ فأبطأت على مَا روى، بل كَانَ يَقُول لَهُ
استثن من غير هَذِه الْحِيلَة، وَقد يُقَال إِن ذكر مخلص
مَخْصُوص عَن الْحِنْث لَا يُنَافِي جَوَاز مَا عداهُ:
اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال ترك مَا هُوَ الْأَعْلَى إِلَى
الْأَدْنَى لَا يَلِيق بِهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ بِأَنَّهُ
حِيلَة الِاسْتِثْنَاء، وَالِاسْتِثْنَاء لَيْسَ بحيلة، وَفِيه
مَا فِيهِ (وَلم يقل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) من حلف
على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا (فليكفر) عَن يَمِينه
وليفعل الَّذِي هُوَ خير، رَوَاهُ مُسلم (مُقْتَصرا) على
الْأَمر بالتفكير مَعَ أَنه كَانَ يحب لأمته مَا هُوَ
الْأَيْسَر كَمَا سيصرح بِهِ (إِذْ لم يتَعَيَّن) التَّكْفِير
(مخلصا) من عُهْدَة الْيَمين خُصُوصا (مَعَ اخْتِيَاره
الْأَيْسَر لَهُم دَائِما) على مَا يدل عَلَيْهِ صِحَاح
الْأَخْبَار، مَعَ أَن الِاسْتِثْنَاء أولى لعدم الْحِنْث
فِيهِ (بِلَا تَفْصِيل بَين) اسْتثِْنَاء (منوي) وَغير منوي
(وَمُدَّة) أَي وَبَين مُدَّة قَصِيرَة وَمُدَّة طَوِيلَة
(وَغَيرهمَا) أَي الْمَنوِي والمدة مِمَّا هُوَ من وَظِيفَة
الشَّارِع بَيَانه كَكَوْنِهِ يدين فِيمَا بَينه وَبَين الله
وَلَا يصدق قَضَاء (وَأَيْضًا لم يجْزم بِطَلَاق، وعتاق،
وَكذب، وَصدق، وَلَا عقد) أَي وَلم يجْزم بانعقاد عقد بيع
وَنِكَاح وَغَيرهمَا لَا مَكَان لُحُوق الِاسْتِثْنَاء وَدَعوى
الحاقة (وَدفع أَبُو حنيفَة رَحمَه الله عتب الْمَنْصُور) أبي
جَعْفَر الدوانيقي ثَانِي خلفاء العباسية فِي مُخَالفَة جده
ابْن عَبَّاس فِي جَوَاز الِانْفِصَال (بِلُزُوم عدم لُزُوم
عقد الْبيعَة) فَقَالَ هَذَا يرجع عَلَيْك أفترضي لمن
يُبَايِعك بِالْإِيمَان أَن يخرج من عنْدك فيستثنى،
فَاسْتَحْسَنَهُ، ذكره فِي الْكَشَّاف وَغَيره، وَقيل أَن
(1/298)
الَّذِي أغراه مُحَمَّد بن إِسْحَاق صَاحب
الْمَغَازِي وَأَنه لما أَجَابَهُ الإِمَام بذلك قَالَ: نعم
مَا قلت وَغَضب على ابْن إِسْحَاق وَأخرجه من عِنْده (قَالُوا)
أَي المجيزون للانفصال (ألحق صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن
شَاءَ الله تَعَالَى بقوله لأغزون قُريْشًا بعد سنة قُلْنَا
بِتَقْدِير اسْتِئْنَاف لأغزون) ثَانِيًا جمعا بَين هَذَا
وَبَين أدلتنا (وَحمله) أَي الْفَصْل (على السُّكُوت الْعَارِض
مَعَ نقل هَذِه الْمدَّة مُمْتَنع) كَمَا حمله على هَذَا
الْمحمل ابْن الْحَاجِب بِنَاء على الِاحْتِجَاج بِهِ بِلَفْظ
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لأغزون قُريْشًا " ثمَّ سكت
ثمَّ قَالَ " إِن شَاءَ الله " حَدِيث غَرِيب اخْتلف فِي وَصله
وإرساله، هَذَا وَإِنَّمَا يتم الِاسْتِدْلَال بِهِ إِذا لم
يغزهم كَمَا فِي رِوَايَة لأبي دَاوُد ثمَّ لم يغزهم (قَالُوا)
أَيْضا (سَأَلَهُ الْيَهُود عَن مُدَّة أهل الْكَهْف، فَقَالَ
غَدا أُجِيبكُم بتأخر الْوَحْي بضعَة عشر يَوْمًا، ثمَّ أنزل -
{وَلَا تقولن لشَيْء} - الْآيَة فَقَالَهَا) أَي كلمة إِن
شَاءَ الله وَلم يكن هُنَاكَ مَا يرتبط بِهِ هَذَا
الِاسْتِثْنَاء إِلَّا قَوْله: غَدا أُجِيبكُم وَلَوْلَا صِحَة
الِانْفِصَال لما قَالَهَا (قُلْنَا) يجوز أَن يلْحق بمستأنف
نَحْو: أُجِيبكُم (كَالْأولِ جمعا) بَين الْأَدِلَّة (وَيجوز
فِيهِ) أَي فِي هَذَا (أمتثل إِن شَاءَ الله تَعَالَى) أَي
أعلق كلما أَقُول إِنِّي فَاعل بِمَشِيئَة الله تَعَالَى
(وَكَون ابْن عَبَّاس عَرَبيا) فصيحا، وَقد قَالَ بِهِ
فَيمْتَنع (معَارض بعلي وَغَيره من الصَّحَابَة) الفصحاء
حَيْثُ لم يَقُولُوا بِهِ: وَإِلَّا ثقل عَنْهُم كَمَا عَنهُ
(أَو مُرَاده) أَي ابْن عَبَّاس بِجَوَاز الِانْفِصَال فِي
الِاسْتِثْنَاء جَوَاز انْفِصَال الِاسْتِثْنَاء (الْمَأْمُور
بِهِ) يَعْنِي التَّعْلِيق بِمَشِيئَة الله تَعَالَى
الْمَدْلُول لِلْآيَةِ بِأَن يَقُول أَولا أفعل، ثمَّ يَقُول
بعد حِين إِن شَاءَ الله ليَكُون إِثْبَاتًا بِالسنةِ، لَا أَن
يكون هَذَا القَوْل رَافعا للإثم وَمُسْقِطًا لِلْكَفَّارَةِ
إِذا قَالَ وَالله لَأَفْعَلَنَّ كَذَا وَلم يَفْعَله، ثمَّ
قَالَ بعد حِين إِن شَاءَ الله تَعَالَى، والمحقق
التَّفْتَازَانِيّ لَهُ فِي هَذَا الْجَواب تَفْصِيل: ذكره فِي
حَاشِيَته على الْمُخْتَصر (وَقيل لم يقلهُ) أَي جَوَاز
الْفَصْل (ابْن عَبَّاس) وَيُؤَيِّدهُ مَا روى عَنهُ من أَنه
مَخْصُوص برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقَوْله
تَعَالَى - {وَاذْكُر رَبك إِذا نسيت} - أَي إِذا نسيت
الِاسْتِثْنَاء إِن ذكرت، وَلَيْسَ لغيره الِاسْتِثْنَاء
إِلَّا مَوْصُولا بِيَمِينِهِ (وحكاية) مَا جرى بَين أبي
حنيفَة رَحمَه الله و (الْمَنْصُور تبعدهما) أَي كَون المُرَاد
الِاسْتِثْنَاء الْمَأْمُور بِهِ وَعدم القَوْل وَهُوَ ظَاهر
(وَاعْلَم أَن الْتِزَام الْجَواب عَن فَصله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم) بِمَا ذكر (بِنَاء) أَي مبْنى (على أَن الْمَعْنى) أَي
معنى إِن شَاءَ الله تَعَالَى (إِلَّا أَن يَشَاء الله
خِلَافه) قَالَ الْعَلامَة الْبَيْضَاوِيّ: الِاسْتِثْنَاء من
النَّهْي: أَي وَلَا تقولن لشَيْء تعزم عَلَيْهِ إِنِّي فَاعله
فيام يسْتَقْبل إِلَّا أَن يَشَاء الله: أَي متلبسا بمشيئته،
فَالْمَعْنى قَائِلا إِن شَاءَ الله انْتهى فَالْمَعْنى لَا
تقل ذَلِك فِي حَال من الْأَحْوَال إِلَّا فِي حَال كونك
قَائِلا إِن شَاءَ الله، وَلَا شكّ أَن مَنْطُوق إِن شَاءَ
الله لَيْسَ إِلَّا أَن يَشَاء خِلَافه فَلَا يكون بِمَعْنَاهُ
إِلَّا بطرِيق اللُّزُوم، فَإِنَّهُ إِذا علق فعله
بِالْمَشِيئَةِ الْمُتَعَلّقَة بذلك
(1/299)
الْفِعْل يلْزم أَن لَا يتَحَقَّق عِنْد
تعلق الْمَشِيئَة بِخِلَافِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: أَفعلهُ
إِلَّا أَن يَشَاء خِلَافه وَهَذَا الِاعْتِبَار يكون مِمَّا
نَحن فِيهِ، وَإِذا كَانَ الْمَعْنى على هَذَا (فَهُوَ)
اسْتثِْنَاء (من الْأَحْوَال) وَقد عرفت تَفْسِيره (أَو)
بِنَاء على أَنه (لَا فرق) بَين الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء فِي
وجوب الِاتِّصَال وَعَدَمه (وَإِلَّا) أَي لم يكن أحد
الْوَجْهَيْنِ (فَلَيْسَ) إِن شَاءَ الله (من مَفْهُوم مَحل
النزاع) أَي من جزئياته، فَإِن الْمُتَنَازع فِيهِ فصل
الِاسْتِثْنَاء كَمَا إِذا قُلْنَا أَن معنى الْآيَة إِلَّا
وَقت أَن يَشَاء الله أَن يَقُوله بِمَعْنى أَن يَأْذَن لَك
فِيهِ على مَا ذكره الْعَلامَة، فَإِن الْمَعْنى حِينَئِذٍ لَا
تقل إِنِّي فَاعل ذَلِك إِلَّا وَقت إِذْنه بالْقَوْل
الْمَذْكُور، وَلَا يدل هَذَا على لُزُوم الِاسْتِثْنَاء، غير
أَنه لَا يلائم هَذَا مَا روى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
من أَنه لما نزل قَالَ: إِن شَاءَ الله فَتَأمل.
مسئلة
الِاسْتِثْنَاء (الْمُسْتَغْرق بَاطِل) لِأَنَّهُ لَا يبْقى
بعده شَيْء يصير متكلما، وتركيب الِاسْتِثْنَاء وضع للمتكلم
بِالْبَاقِي بعد الثنيا وَحكى ابْن الْحَاجِب وَغَيره فِيهِ
الِاتِّفَاق. قَالَ الشَّارِح: وَهُوَ مَحْمُول على مَا إِذا
كَانَ الصَّدْر أَو مساويه (وفصله) أَي الْمُسْتَغْرق
(الْحَنَفِيَّة إِلَى مَا) أَي مُسْتَغْرق ملبس (بِلَفْظ
الصَّدْر) بِأَن يكون لفظ الْمُسْتَثْنى عين لفظ الْمُسْتَثْنى
مِنْهُ (أَو مساويه) فِي الْمَفْهُوم، وَقد اتحدا فِيمَا
يصدقان عَلَيْهِ: كعبيدي أَحْرَار إِلَّا عَبِيدِي، أَو
مماليكي (فَيمْتَنع و) إِلَى (مَا بِغَيْرِهِمَا: كعبيدي
أَحْرَار إِلَّا هَؤُلَاءِ، أَو إِلَّا سالما، وغانما، وراشدا،
وهم) أَي الْمشَار إِلَيْهِم بهؤلاء فِي الشق الأول لمسمين فِي
الشق الثَّانِي (الْكل، وَكَذَا نسَائِي) طَوَالِق (إِلَّا
فُلَانَة، وفلانة، وفلانة، فَلَا) يمْتَنع: فَلَا يعْتق وَاحِد
مِنْهُم، وَلَا تطلق وَاحِدَة مِنْهُنَّ (وَالْأَكْثَر على
جَوَاز) اسْتثِْنَاء (الْأَكْثَر) فَيبقى الْأَقَل من
الْمُسْتَثْنى مِنْهُ (و) على جَوَاز اسْتثِْنَاء (النّصْف)
فَيبقى النّصْف (ومنعهما) أَي الْأَكْثَر وَالنّصف
(الْحَنَابِلَة، وَالْقَاضِي، وَقيل إِن كَانَ (الْمُسْتَثْنى
مِنْهُ (عددا صَرِيحًا) يمْتَنع فِيهِ اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر
وَالنّصف كعشرة إِلَّا سِتَّة، أَو إِلَّا خَمْسَة، وَإِن
كَانَ غير صَرِيح فَلَا يمتنعان فِيهِ: كأكرم بني تَمِيم
إِلَّا الْجُهَّال، وهم النّصْف أَو الْأَكْثَر، فَعلم مِنْهُ
أَن مَبْنِيّ الِامْتِنَاع ظَاهر العنوان وَالْعرْف، وَمن
هُنَا يعلم وَجه قَول الْحَنَفِيَّة فِي تَجْوِيز
الِاسْتِغْرَاق بِعَين لفظ الصَّدْر ومساويه فَافْهَم (لنا فِي
غير الْعدَد - {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان
إِلَّا من اتبعك} - وهم) أَي متبعوه (أَكثر) مِمَّن لم يتبعهُ
(لقَوْله تَعَالَى - {وَمَا أَكثر النَّاس} - الْآيَة)
وَالْمرَاد بعبادي الْإِنْس فَلَا يرد أَن الْعباد بِاعْتِبَار
الْمَلَائِكَة أَكْثَرهم غير متبعين، وَلَا يُقَال المُرَاد
بِأَكْثَرَ النَّاس الموجودون فِي زَمَانه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم
(1/300)
فَلَا يسْتَلْزم كَون المتبعين أَكثر
لجَوَاز أَن يكون الموجودون فِي غير زَمَانه أَكْثَرهم
مُؤمنُونَ لأَنا نقُول: لَيْسَ اللَّام فِي النَّاس للْعهد، بل
للْجِنْس بِدَلِيل مَا صَحَّ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من
أَن حِصَّة الْجنَّة من كل ألف وَاحِد، وَالْبَاقِي حِصَّة
النَّار (وكلكم جَائِع إِلَّا من أطعمته) كَمَا فِي صَحِيح
مُسلم وَغَيره، فَإِن من أطْعمهُ الله أَكثر مِمَّن لم يطعمهُ
(وَمن الْعدَد إِجْمَاع) فُقَهَاء (الْأَمْصَار على لُزُوم
دِرْهَم فِي عشرَة دَرَاهِم إِلَّا تِسْعَة) فَهَذَا دَلِيل
على جَوَاز اسْتثِْنَاء الْأَكْثَر، لِأَنَّهُ لَو لم يجز
كَانَ يلْزم الْكل بِمُوجب الْإِقْرَار بِالْعشرَةِ من غير
اسْتثِْنَاء صَحِيح (قَالُوا) عَليّ (عشرَة إِلَّا تِسْعَة،
وَنصف، وَثلث، وَثمن دِرْهَم مستقبح عَادَة) إِذْ جعل
الدِّرْهَم أَرْبَعَة وَعشْرين جُزْءا، وَنصفه اثْنَا عشر،
وَثلثه ثَمَانِيَة، وثمنه ثَلَاثَة، وَالْمَجْمُوع ثَلَاثَة
وَعِشْرُونَ فِيمَا يبْقى فِي جَانب الْمُسْتَثْنى مِنْهُ
إِلَّا ثلث ثمن دِرْهَم، وَفِي بعض النّسخ مستهجن (أُجِيب
استقباجه لَا يُخرجهُ عَن الصِّحَّة كعشرة إِلَّا دانقا،
ودانقا إِلَى عشْرين) دانقا، وَهُوَ سدس الدِّرْهَم فَإِنَّهُ
مستقبح وَلَيْسَ استقباحه لأجل أَن الْمُسْتَثْنى أَكثر،
لِأَنَّهُ ثلث الْكل، بل لأجل التَّطْوِيل وَإِلَيْهِ أَشَارَ
بقوله (وَالْحَاصِل صرف الْقبْح إِلَى كَيْفيَّة اسْتِعْمَال
اللَّفْظ، لَا إِلَى مَعْنَاهُ) .
مسئلة
(الْحَنَفِيَّة) قَالُوا (شَرط إِخْرَاجه) أَي المستنثى من
الْمُسْتَثْنى مِنْهُ (كَونه) أَي الْمُسْتَثْنى بَعْضًا (من
الْمُوجب) أَي مِمَّا أوجبه الصَّدْر وتناوله (قصدا لَا ضمنا)
وتبعا (فَلِذَا) الشَّرْط (أبطل أَبُو يُوسُف اسْتثِْنَاء
الْإِقْرَار من الْخُصُومَة فِي التَّوْكِيل بهَا) أَي
بِالْخُصُومَةِ بِأَن يَقُول: وكلت بِالْخُصُومَةِ إِلَّا
الْإِقْرَار (لِأَن ثُبُوته) أَي ثُبُوت الْإِقْرَار للْوَكِيل
(بتضمن الْوكَالَة) بِالْخُصُومَةِ (إِقَامَته) أَي الْمُوكل
الْوَكِيل (مقَام نَفسه) لَا لِأَن الْإِقْرَار يدْخل فِي
الْخُصُومَة قصدا وبالذات (إِذْ الْخُصُومَة لَا تنتظمه) أَي
لَا يتَنَاوَل الْإِقْرَار بِمُوجب مَفْهُومه لِأَنَّهُ مسَاوٍ
لَهُ وموافقه، وَالْخُصُومَة مُنَازعَة وإنكار (وَإِنَّمَا
أجَازه) أَي اسْتثِْنَاء الْإِقْرَار مِنْهَا (مُحَمَّد)
لوَجْهَيْنِ: الأول (لاعتبارها) أَي الْخُصُومَة (مجَازًا فِي
الْجَواب) مُطلقًا لِأَن حَقِيقَة الْخُصُومَة مهجورة شرعا
لقَوْله تَعَالَى - {وَلَا تنازعوا} -: فيصار إِلَى الْمجَاز،
والعلاقة كَون الْخُصُومَة سَببا إِلَى الجوانب (فَكَانَ)
الاقرار (من أَفْرَاده) أَي الْجَواب الْمُطلق قَالُوا
وَالِاسْتِثْنَاء على هَذَا بَيَان تَغْيِير فَيصح مَوْصُولا
لَا مَفْصُولًا وَالْوَكِيل بِالْخُصُومَةِ يملك الْإِقْرَار
عِنْد الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة الْوَجْه الثَّانِي أَن
اسْتثِْنَاء الْإِقْرَار عمل بِحَقِيقَة اللُّغَة، فَيكون
اسْتِثْنَاؤُهُ تقريرا مُوجب التَّوْكِيل بِالْخُصُومَةِ.
فَهُوَ بِالْحَقِيقَةِ بَيَان تَقْرِير لَا اسْتثِْنَاء فَيصح
مَوْصُولا ومفصولا: كَذَا ذكره الشَّارِح وَفِي الْوَجْه
(1/301)
الثَّانِي مَا لَا يخفى (وعَلى هَذَا)
الَّذِي ذكر لمُحَمد (صَحَّ اسْتثِْنَاء الْإِنْكَار أَيْضا
عِنْده) أَي عِنْد مُحَمَّد من التَّوْكِيل بِالْخُصُومَةِ
لشمُول الْمَعْنى الْمجَازِي إِيَّاه، وَعدم لُزُوم
الِاسْتِغْرَاق (وَبَطل عِنْد أبي يُوسُف لِأَنَّهُ) أَي
اسْتثِْنَاء الْإِنْكَار (مُسْتَغْرق) لِأَنَّهُ لم يبْق بعده
لُزُوم شَيْء بعد استثنائه من الْخُصُومَة لما عرفت.
مسئلة
(إِذا تعقب) الِاسْتِثْنَاء (جملا) متعاطفة (بِالْوَاو
وَنَحْوهَا) وَهِي الْفَاء، وَثمّ، وَحَتَّى، وَمِنْهُم من قيد
بِالْوَاو كإمام الْحَرَمَيْنِ والآمدي وَابْن الْحَاجِب،
وَمِنْهُم من أطلق العاطف، كَالْقَاضِي أبي بكر، وَمِنْهُم من
أطلق كَونه عقب الْجمل من غير ذكر للْعَطْف كَالْإِمَامِ
الرَّازِيّ (فالشافعية قَالُوا يتَعَلَّق) الِاسْتِثْنَاء
الْمَذْكُور (بِالْكُلِّ) أَي بِكُل وَاحِد من تِلْكَ الْجمل
(ظَاهرا) لَا نصا إِذْ لَا دَلِيل للْقطع، فِي الشَّرْح العضدي
لَا خلاف فِي إِمْكَان رده إِلَى الْجَمِيع وَلَا إِلَى
الْأَخير خَاصَّة، إِنَّمَا الْخلاف فِي الظُّهُور، فَقَالَ
الشَّافِعِي ظَاهر فِي رُجُوعه إِلَى الْجَمِيع خَاصَّة،
وَالْحَنَفِيَّة إِلَى الْأَخِيرَة، وَالْقَاضِي الْغَزالِيّ
وَغَيرهمَا بِالْوَقْفِ بِمَعْنى لَا يدْرِي أَنه حَقِيقَة فِي
أَيهمَا. وَقَالَ المرتضى: أَنه مُشْتَرك بَينهمَا،
فَيتَوَقَّف إِلَى ظُهُور الْقَرِينَة، وَهَذَانِ: يَعْنِي
مَذْهَب الْوَقْف والاشتراك موافقان الْحَنَفِيَّة فِي الحكم
وَإِن خالفا فِي المأخذ: يَعْنِي أَنه يُفِيد الْإِخْرَاج عَن
مَضْمُون الْجُمْلَة الْأَخِيرَة دون غَيرهَا، لَكِن عِنْدهمَا
لعدم الدَّلِيل فِي الْغَيْر، وَعِنْدهم لدَلِيل الْعَدَم،
وَهَذَا مُقْتَضى اخْتِلَاف المأخذ. وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن:
إِن تبين اسْتِقْلَال الثَّانِيَة عَن الأولى بالاضراب عَن
الأولى فللأخيرة، وَإِلَّا فللجميع، وَظُهُور الاضرابات بِأَن
يختلفا نوعا أَو اسْما مَعَ أَنه لَيْسَ فيهمَا الِاسْم
الثَّانِي ضمير الِاسْم الأول أَو يختلفا حكما مَعَ أَن
الجملتين فِي الْأَقْسَام الثَّلَاثَة غير مشتركتين فِي غَرَض.
وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ بِأَن يختلفا نوعا من
جِهَة الخبرية والإنشائية، وكونهما أمرا ونهيا وَنَحْو ذَلِك،
أَو اسْما بِأَن يكون الِاسْم الَّذِي يصلح مستترا مِنْهُ فِي
أَحدهمَا غير الَّذِي فِي الْأُخْرَى أَو حكما بِأَن يكون
مَضْمُون هَذِه مُخَالفا لمضمون الْأُخْرَى (وَقَول أبي
الْحُسَيْن) وَعبد الْجَبَّار وَفِي الْمَحْصُول أَنه حق (إِن
ظهر الإضراب عَن الأول) وَقد عرفت تَفْسِيره (فللأخير) أَي
فالاستثناء مُتَعَلق بالأخير فَقَط (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم
يظْهر الإضراب عَن الأول (فللكل) أَي فَيتَعَلَّق بِكُل
مِنْهُمَا، وَعدم الظُّهُور (ككون الثَّانِي ضمير الأول) كَانَ
الظَّاهِر فِي مثله رُجُوع الِاسْتِثْنَاء إِلَيْهِمَا
جَمِيعًا (وَلَو اخْتلفَا) أَي الكلامان (فِيمَا يذكر) أَي فِي
النَّوْع، وَالْحكم، وَالِاسْم (أَو اشْتَركَا) أَي الكلامان
(فِي الْغَرَض) المسوق لَهُ الْكَلَام (وَمِنْه) أَي من هَذَا
الْقَبِيل (قَوْله تَعَالَى (وَلَا تقبلُوا لَهُم
(1/302)
شَهَادَة أبدا وَأُولَئِكَ هم
الْفَاسِقُونَ} ) فَإِنَّهُمَا اخْتلفَا نوعا إنْشَاء، وخبرا
واشتركا فِي الْغَرَض، وَهُوَ الإهانة والانتقام. وَقَول أبي
الْحُسَيْن مُبْتَدأ خَبره (لَا يزِيد عَلَيْهِ) أَي على قَول
الشَّافِعِي (إِلَّا بتفصيل الْقَرِينَة) لموافقته إِيَّاه فِي
كَونه ظَاهرا فِي الرُّجُوع إِلَى الْكل مُحْتَاجا فِي الصّرْف
إِلَى الْأَخير إِلَى الْقَرِينَة غير أَنه فصل الْقَرِينَة
الدَّالَّة على تعْيين الْأَخير بِظُهُور الإضراب وَقسم مَا
بِهِ يظْهر (إِلَى اخْتِلَافهمَا) أَي الْكَلَامَيْنِ (نوعا
بالإنشائية، والخبرية، وَالْأَمر، وَالنَّهْي، ويقتضى) قَول
أبي الْحُسَيْن (فِي أكْرم بني تَمِيم، وَبَنُو تَمِيم مكرمون
إِلَّا زيدا أَن إكرامه) أَي زيد (مَطْلُوب غير وَاقع) لوُجُود
الِاخْتِلَاف نوعا (أَو) عدم رُجُوع الِاسْتِثْنَاء إِلَى
الْجُمْلَة الطلبية أَو اخْتِلَافهمَا (اسْما بِوُجُود الِاسْم
الصَّالح لتَعَلُّقه) أَي الِاسْتِثْنَاء (فِي) الْجُمْلَة
(الثَّانِيَة غير) الِاسْم (الأول) فِي الْجُمْلَة الأولى
(أَو) اخْتِلَافهمَا (حكما) وَقد مر تَفْسِيره، وَإِنَّمَا لم
يزدْ قَول أبي الْحُسَيْن على قَول الشَّافِعِي رَحمَه الله
(إِذْ حَاصله) أَي قَول أبي الْحُسَيْن (تعلقه) أَي
الِاسْتِثْنَاء (بِالْكُلِّ إِلَّا بقاصر) على الْأَخِيرَة
(غير أَنه) أَي أَبَا الْحُسَيْن (جعل ذَلِك) الِاخْتِلَاف
بَينهمَا (قاصرا) للاستثناء على الْأَخِيرَة (فَإِن لم
يُوَافق) أَبُو الْحُسَيْن على صِيغَة الْمَجْهُول (عَلَيْهِ)
أَي على جعل ذَلِك قاصرا بِأَن لم يَجعله الشَّافِعِي رَحمَه
الله قاصرا (فَالْخِلَاف فِي شَيْء آخر) وَهُوَ خُصُوص هَذَا
الْقَاصِر بعد الِاتِّفَاق على أَنه إِن لم يكن قاصرا على
الْأَخِيرَة، فَهُوَ رَاجع إِلَى الْكل (وَالْحَنَفِيَّة،
وَالْغَزالِيّ، والباقلاني، والمرتضى) على أَن الِاسْتِثْنَاء
يتَعَلَّق (بالأخيرة إِلَّا بِدَلِيل فِيمَا قبلهَا، قيل)
كَمَا فِي الشَّرْح العضدي (فالحنفية لظُهُور الِاقْتِصَار)
على الْأَخِيرَة كَمَا سَيَأْتِي (وَالْآخرُونَ لعدم ظُهُور
الشُّمُول) للْكُلّ (أما للاشتراك) اشتراكا لفظيا (بَين
إِخْرَاجه) أَي الِاسْتِثْنَاء (مِمَّا يَلِيهِ) وَهُوَ
الْأَخير (فَقَط و) بَين إِخْرَاجه من (الْكل) فَإِنَّهُ ثَبت
عوده إِلَى مَا يَلِيهِ فَقَط كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى -
{فَأسر بأهلك بِقطع من اللَّيْل وَلَا يلْتَفت مِنْكُم أحد
إِلَّا أمرأتك} -، وَقد يتَعَيَّن عوده إِلَى مَا عدا
الْأَخِيرَة، نَحْو قَوْله تَعَالَى - {فَمن شرب مِنْهُ
فَلَيْسَ مني وَمن لم يطعمهُ فَإِنَّهُ مني إِلَّا من اغترف
غرفَة بِيَدِهِ} - وَعوده إِلَى الْكل كَمَا فِي قَوْله
تَعَالَى - {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر} -
إِلَى قَوْله - {إِلَّا من نَاب} -، وَالْأَصْل فِي
الْإِطْلَاق الْحَقِيقَة (أَو لعدم الْعلم بِأَنَّهُ) أَي
الِاسْتِثْنَاء (كَذَلِك) أَي مُشْتَرك كَمَا ذكر، أَو رَاجع
إِلَى مَا يَلِيهِ، أَو الْمَعْنى رَاجع إِلَى الْكل (أَو)
إِلَى (مَا يَلِيهِ) لَا غير لُغَة كَمَا هُوَ قَول الباقلاني
وَالْغَزالِيّ، (فَلَزِمَ مَا يَلِيهِ) أَي فَلَزِمَ رُجُوعه
إِلَى مَا يَلِيهِ على قَول الْكل وَلَا يخفى أَنه لَا يلْزم
على تَقْدِير الِاشْتِرَاك، لَا على تَقْدِير عدم الْعلم تعين
مَا يَلِيهِ، بل اللَّازِم التَّوَقُّف إِلَى أَن تتَحَقَّق
الْقَرِينَة الْمعينَة فَإِن قلت الْقرب قرينَة مرجحة قُلْنَا
سبق الأولى فِي قابلية الرُّجُوع إِلَيْهِ ليعارضه
(1/303)
كَمَا ذهب إِلَيْهِ كثير من الْمُفَسّرين:
اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال الْقرب أقوى (وَمَا قيل) وقائله
ابْن الْحَاجِب (الْمُخْتَار أَنه مَعَ قرينَة الِانْقِطَاع)
أَي انْقِطَاع الْأَخِيرَة عَمَّا قبلهَا (للأخيرة و) مَعَ
قرينَة (الِاتِّصَال) بِمَا قبلهَا تكون (للْكُلّ، وَإِلَّا)
أَي وَإِن لم يكن إِحْدَى القرينتين (فالوقف) فِيمَا عدا
الْأَخير لَازم، فَقَوله مَا قيل مُبْتَدأ وَمَا بعده مقول
القَوْل، وَالْخَبَر قَوْله (مَذْهَب الْوَقْف) بِحَذْف
الْمُضَاف: أَي أهل الْوَقْف، أَو الْإِضَافَة بَيَانِيَّة،
ثمَّ أثبت كَونه مَذْهَب الْوَقْف بقوله (للاتفاق) الْكَائِن
بَين هَذَا الْقَائِل والذاهبين إِلَى الْوَقْف (على أَن
إِخْرَاجه) أَي الِاسْتِثْنَاء (من) الْجُمْلَة (الْأَخِيرَة)
عِنْد عدم الْقَرِينَة لما عرفت (وَالْعَمَل بِالْقَرِينَةِ)
عِنْد وجودهَا، فالمآل وَاحِد (وَاعْلَم أَن الْمُدَّعِي فِي
كتب الْحَنَفِيَّة أَنه من الْأَخِيرَة، وَمَا زيد) على هَذَا
الْقدر (من) قيد (ظُهُور الْعَدَم) أَي عدم الْإِخْرَاج مِمَّا
قبل الْأَخِيرَة الْمشَار إِلَيْهِ بِظُهُور الِاقْتِصَار على
مَا مر لم يصرحوا بِهِ بل (أَخذ من استدلالهم) أَي
الْحَنَفِيَّة (بِأَن شَرطه) أَي الِاسْتِثْنَاء من شَيْء
(الِاتِّصَال) بذلك (وَهُوَ) أَي الِاتِّصَال (مُنْتَفٍ فِي
غير لأخيرة) لتخلل الْأَخِيرَة بَين الِاسْتِثْنَاء وَمَا
قبلهَا (وَمُقْتَضَاهُ) أَي هَذَا الِاسْتِدْلَال (عدم
الصِّحَّة مُطلقًا) فِيمَا عدا الْأَخِيرَة (وَهُوَ) أَي
عدمهَا فِيمَا عَداهَا (بَاطِل، إِذْ لَا يمْتَنع)
الِاسْتِثْنَاء بالِاتِّفَاقِ (فِي الْكل) بِأَن يكون من كل
وَاحِدَة من تِلْكَ الْجمل (بِالدَّلِيلِ) على مَا ذكر (وَأما
دَفعه) أَي دفع هَذَا الِاسْتِدْلَال (بِأَن الْجَمِيع
كالجملة) الْوَاحِدَة (ف) هُوَ (قَول الشَّافِعِيَّة: الْعَطف
يصير المتعدد) أَي الْجمل الْمَعْطُوف بَعْضهَا على بعض (إِلَى
آخِره) أَي كالمفرد، وَلَا شكّ أَنه لَا يعود فِيهِ إِلَى
جزئه، فَكَذَا فِي الْجمل لَا يعود إِلَى بَعْضهَا (وسنبطل)
هَذَا القَوْل (و) من استدلالهم (بقَوْلهمْ عمله) أَي
الِاسْتِثْنَاء (ضَرُورِيّ لعدم استقلاله) بِنَفسِهِ، إِذْ لَا
بُد لَهُ من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، والضرورة تدفع بِالْعودِ
إِلَى وَاحِدَة مِنْهَا (والأخيرة منتفية اتِّفَاقًا، وَمَا)
يثبت (بالضررة) يقدر (بِقَدرِهَا) أَي بِقدر الضَّرُورَة
فَتعين الْأَخِيرَة (وَمنع) هَذَا (بِأَنَّهُ) أَي عمله (وضعي)
لَا ضَرُورِيّ (قُلْنَا لَو سلم) أَنه وضعي (فَلَمَّا يَلِيهِ
فَقَط) أَي فَإِن أردتم أَنه مَوْضُوع لما يَلِيهِ فَقَط
فَهُوَ الْمَطْلُوب (أَو الْكل) أَي أَو أَنه مَوْضُوع للْكُلّ
(فَمَمْنُوع) أَي بَاطِل للاتفاق على أَنه يسْتَعْمل فِيمَا
يَلِيهِ فَقَط، وَالْأَصْل فِيهِ الْحَقِيقَة (فاللازم)
بِمُوجب الدَّلِيل (لُزُومه) أَي لُزُوم كَون الِاسْتِثْنَاء
(من الْأَخِيرَة والتوقف فِيمَا قبلهَا) أَي فِي كَونه
اسْتثِْنَاء مِمَّا قبل الْأَخِيرَة (إِلَى الدَّلِيل) أَي
إِلَى وجود الدَّال على عوده إِلَيْهِ (وَأَيْضًا بِدفع
الدَّلِيل الْمعِين لَا ينْدَفع الْمَطْلُوب) لجَوَاز ثُبُوته
بِغَيْرِهِ (فَلْيَكُن الْمَطْلُوب مَا ذكرنَا) من أَنه يثبت
فِي الْأَخِيرَة إِلَّا بِدَلِيل فِيمَا قبلهَا من غير
ادِّعَاء ظُهُور فِي عدم تعلقه بِمَا قبلهَا، إِذْ الْغَرَض لم
يتَعَلَّق إِلَّا بِعَدَمِ رُجُوعه إِلَى الْكل إِلَّا
بِدَلِيل فِي
(1/304)
خُصُوص موارده، كَذَا نقل عَن المُصَنّف
(وَمن أدلتهم) أَي الْحَنَفِيَّة (حكم الأولى مُتَيَقن
وَرَفعه) أَي حكمهَا (عَن الْبَعْض) أَي عَن بعض الأولى
(بِالِاسْتِثْنَاءِ مَشْكُوك للشَّكّ فِي تعلقه) أَي
الِاسْتِثْنَاء (بِهِ) أَي الْبَعْض، إِمَّا (لوجه
الِاشْتِرَاك) أَي لما يُفِيد كَون الِاسْتِثْنَاء مُشْتَركا
بَين أَن يكون للأخيرة فَقَط، وَبَين أَن يكون للْكُلّ: وَهُوَ
أَنه (اسْتعْمل فيهمَا) لما علم بالاستقراء (وَالْأَصْل) فِي
الِاسْتِعْمَال (الْحَقِيقَة، وَهُوَ) أَي هَذَا الْوَجْه
(إِنَّمَا يُفِيد لُزُوم التَّوَقُّف فِيهَا) أَي فِيمَا قبل
الْأَخِيرَة، بل فِي الْكل، لَوْلَا تَيَقّن الْأَخِيرَة لما
ذكر (لَا ظُهُور الْعَدَم) فِيمَا قبل الْأَخِيرَة (أَو دافعه)
أَي لوجه دَافع الِاشْتِرَاك الْقَائِل (الْمجَاز خير) من
الِاشْتِرَاك فَلْيَكُن فِيمَا قبل الْأَخِيرَة مجَازًا
(فيفيده) أَي ظُهُور الْعَدَم فِيمَا قبل الْأَخِيرَة إِلَى
ظُهُور الدَّلِيل على تعلقه فِيمَا قبلهَا (وإبطاله) أَي هَذَا
الدَّلِيل من قبل الشَّافِعِيَّة (بقَوْلهمْ: لَا يَقِين) فِي
حكم الأولى (مَعَ تجويزه) أَي تَجْوِيز كَون الِاسْتِثْنَاء
(للْكُلّ يدْفع بِمَا تقدم فِي اشْتِرَاط اتِّصَال الْمُخَصّص)
من أَن إِطْلَاق الْعَام بِلَا مخرج إِفَادَة إِرَادَة الْكل،
فَلَو لم يكن المُرَاد فِي نفس الْأَمر يلْزم إِخْبَار
الشَّارِع وإفادته لثُبُوت مَا لَيْسَ بِثَابِت، ودلك كذب
وَطلب للْجَهْل الْمركب من الْمُكَلّفين (أَو) يدْفع
(بِإِرَادَة الظُّهُور بِهِ) أَي بِالْيَقِينِ (وَمَا قيل) فِي
معارضتهم (الْأَخِيرَة أَيْضا كَذَلِك) أَي حكمهَا مُتَيَقن
وَرَفعه عَن الْبَعْض بِالِاسْتِثْنَاءِ مَشْكُوك (لجَوَاز
رُجُوعه) أَي الِاسْتِثْنَاء (إِلَى الأولى بِالدَّلِيلِ
قُلْنَا الرّفْع) أَي رفع الحكم عَن الْبَعْض (ظَاهر فِي
الْأَخِيرَة، وَلذَا) أَي ولظهوره فِيهَا (لزم) أَي
الِاسْتِثْنَاء، أَو الرّفْع (فِيهَا) أَي الْأَخِيرَة
(اتِّفَاقًا) كَمَا مر (فَلَو تمّ) مَا قيل فِي الْمُعَارضَة
(توقف) الِاسْتِثْنَاء (فِي الْكل، وَهُوَ) أَي التَّوَقُّف
فِي الْكل (بَاطِل وَحَاصِله) أَي حَاصِل مَا قُلْنَا من
ظُهُور الرّفْع فِي الْأَخِيرَة، لَا حَاصِل قَول
الشَّافِعِيَّة كَمَا توهمه الشَّارِح فَإِنَّهُ مَعَ بعده لَا
معنى لَهُ (تَرْجِيح الْمجَاز) أَي تَرْجِيح كَون
الِاسْتِثْنَاء إِذا رَجَعَ إِلَى الْكل مجَازًا على كَونه
حَقِيقَة كَمَا زعم الْخصم (فَفِيمَا يَلِيهِ) أَي فالاستثناء
فِيمَا يَلِيهِ (حَقِيقَة وَفِي الْكل مجَاز وَأما فِي
غَيرهمَا) أَي فِي غير مَا يَلِيهِ وَالْكل (فَيمْتَنع للفصل)
بَينه وَبَين الْمُسْتَثْنى مِنْهُ (حَقِيقَة) وَهُوَ ظَاهر
(وَحكما) لِأَن الْفَاصِل، وَهُوَ مَا يَلِيهِ لَا حَظّ لَهُ
من حكم الِاسْتِثْنَاء فَهُوَ فصل حَقِيقَة وَحكما، بِخِلَاف
مَا إِذا كَانَ الِاسْتِثْنَاء من الْكل، فَإِن مَا يَلِيهِ
وَإِن كَانَ فصلا بَينه وَبَين مَا قبله من حَيْثُ الْحَقِيقَة
لكنه لَيْسَ بفصل من حَيْثُ الحكم لشمُول الِاسْتِثْنَاء لَهُ
(وَفِي الْمجَاز) عِنْد رُجُوعه إِلَى الْكل (يتَوَقَّف)
رُجُوعه إِلَيْهِ (على الْقَرِينَة) فَإِن لم تكن تتَعَيَّن
الْحَقِيقَة (والعلاقة) بَين الْمَعْنى الْمجَازِي، وَهُوَ
الصّرْف إِلَى الْكل، والحقيقي وَهُوَ الْعود إِلَى مَا
يَلِيهِ (تشبيهه) أَي الْكل (بِهِ) أَي بِمَا يَلِيهِ (لجمع
(1/305)
الْعَطف) أَي لِأَن الْعَطف جمع بَين
المتعاطفات، فَجَعلهَا فِي رُتْبَة وَاحِدَة من حَيْثُ
الْمَعْنى فاشتراكها فِي تِلْكَ الرُّتْبَة وَجه الشّبَه
(بِخِلَاف الِاتِّصَال الصُّورِي) بَينهَا بِحَسب التَّكَلُّم
لعدم الْفَصْل فَإِنَّهُ لَا يصلح علاقَة للمجاز (لِأَنَّهُ)
أَي الِاتِّصَال الصُّورِي (يتَحَقَّق) فِي الْجمل المتعاقبة
(بِلَا عطف) وَهُنَاكَ يتَعَيَّن الِاسْتِثْنَاء للأخيرة
اتِّفَاقًا من غير تَجْوِيز لما قبلهَا وَلَو مجَازًا (و)
يتَحَقَّق أَيْضا (مَعَ الاضراب) الْمعِين كَونه للأخيرة على
مَا سبق فَلَا يصلح علاقَة (وَمَا قيل فِي وَجهه) أَي وَجه
التَّوَقُّف فِي غير الْأَخِيرَة (الأشكال) بِفَتْح الْهمزَة
جمع شكل (يُوجب الْإِشْكَال) بِكَسْر الْهمزَة الِاشْتِبَاه،
فِي الشَّرْح العضدي: الِاتِّصَال يَجْعَلهَا كالواحدة،
والانفصال يَجْعَلهَا كالأجانب، والأشكال بِمُوجب الشَّك
انْتهى، فَكل شبه مِنْهُمَا شكل، وَلِهَذَا تعَارض
الِاشْتِبَاه يُوجب التَّوَقُّف (فَمَعْنَاه) أَن الِاشْتِبَاه
(يخرج من) الْجُمْلَة (الأولى) نظرا إِلَى الِاتِّصَال (وَلَا)
يخرج) مِنْهَا نظرا إِلَى الِانْفِصَال، أَو الْمَعْنى أَنه
يخرج من الأولى فِي بعض الاستعمالات وَلَا يخرج مِنْهَا فِي
الْأُخَر (فتوقف فِيهِ) أَي فِي إِخْرَاجه فِي غير الْأَخِيرَة
(وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن مَعْنَاهُ هَذَا، بل يعْتَبر
الْإِشْكَال بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَخِيرَة أَيْضا (اقْتضى)
مَا قيل (أَن يتَوَقَّف فِي الْأَخِيرَة أَيْضا) وَهُوَ بَاطِل
لما عرفت (الشَّافِعِيَّة) قَالُوا: أَولا (الْعَطف يصير
المتعدد كالمفرد) وَقد مر (أُجِيب) بِأَن ذَلِك (فِي) عطف
(الْمُفْردَات) بَعْضهَا على بعض، لِأَن الْعَطف فِي
الْأَسْمَاء الْمُخْتَلفَة كالجمع فِي الْأَسْمَاء المتفقة،
فَيصير الْمَجْمُوع كصيغ الْجمع الْوَاحِدَة، وَهَذَا هُوَ
الْإِبْطَال الْمَوْعُود (وَمَا يُقَال هِيَ) أَي الْجمل
(مثلهَا) أَي الْمُفْردَات (إِذْ الِاسْتِثْنَاء فِيهَا) أَي
الْجمل (من المتعلقات) أَي متعلقات الْمسند إِلَيْهِ، أَو
الْمسند (أَو) من (الْمسند إِلَيْهِ) فَإِذا قطع النّظر عَن
سَائِر أَجزَاء الْجمل المتعاطفة مَا عدا مَا اسْتثْنى مِنْهُ
صَارَت مثل الْمُفْردَات، فِي الشَّرْح العضدي: لَا فرق بَين
الَّذين قتلوا، وسرقوا، وزنوا إِلَّا من تَابَ، وَبَين اضْرِب
الَّذين هم قتلة، وسراق وزناة إِلَّا من تَابَ، وَلَا شكّ أَنه
لَا يعود من الْمُفْرد إِلَى جُزْء، فَكَذَا فِي الْجمل
المعطوفة، ثمَّ أجَاب عَنهُ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ أَن
ذَلِك فِي الْمُفْردَات، أَو مَا فِي حكمهَا الَّتِي لَهَا
مَحل من الْإِعْرَاب أَو الَّتِي وَقعت صلَة للموصول أَو نَحْو
ذَلِك انْتهى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (أُجِيب بِأَنَّهُ)
أَي كَونهَا مثلهَا (إِذا اتّحدت جِهَة النِّسْبَة فِيهَا) أَي
الْجمل بِأَن تكون نِسْبَة تِلْكَ الْجمل متشاركة فِي جِهَة
وَاحِدَة ككونها خَبرا، أَو صفة، أَو صلَة إِلَى غير ذَلِك
(وَهُوَ) أَي اتِّحَاد جِهَة النِّسْبَة فِيهَا (الدَّلِيل)
على تعلقه بِالْكُلِّ (ككونها) أَي الْجمل (صلَة) للموصول
كَمَا مر آنِفا (للْقطع بِأَن نَحْو: ضرب بَنو تَمِيم، وَبكر
شجعان لَيْسَ فِي حكمه) أَي الْمُفْرد (قَالُوا) ثَانِيًا (لَو
قَالَ) وَالله (لَا أكلت وَلَا شربت إِن شَاءَ الله تَعَالَى
تعلق) إِن شَاءَ الله (بهما) أَي بالجملتين
(1/306)
اتِّفَاقًا (أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي إِن
شَاءَ الله (شَرط) لَا اسْتثِْنَاء، وَهُوَ يتَعَلَّق بِغَيْر
المتعدد بِخِلَاف الِاسْتِثْنَاء (فَإِن ألحق) الِاسْتِثْنَاء
(بِهِ) أَي بِالشّرطِ (فَقِيَاس فِي اللُّغَة) وَهُوَ غير
صَحِيح (وَلَو سلم صِحَّته) أَي صِحَة الْإِلْحَاق (فَالْفرق)
بَين الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء (أَن الشَّرْط مُقَدّر
تَقْدِيمه) أَي تعْيين تَقْدِيمه معنى لتقدمه رُتْبَة بِحَسب
التحقق (وَلَو سلم عدم لُزُومه) أَي تَقْدِيم الشَّرْط
(فلقرينة الِاتِّصَال) أَي فَتعلق الشَّرْط بِكُل مِنْهُمَا
لوُجُود الْقَرِينَة الدَّالَّة على اتِّصَاله بِكُل مِنْهَا
(وَهُوَ) تِلْكَ الْقَرِينَة والتأنيث بِاعْتِبَار الْخَبَر
(الْحلف) الْوَاقِع (على الْكل) على مَا هُوَ الْعَادة فِي
مثله (قَالُوا) ثَالِثا (قد يتَعَلَّق الْغَرَض بِهِ) أَي
الِاسْتِثْنَاء (كَذَلِك) أَي بِأَن يكون مُتَعَلقا بِالْكُلِّ
(وتكراره) أَي الِاسْتِثْنَاء للْكُلّ (يستهجن) وَلَوْلَا أَنه
يعود إِلَى الْكل بِدُونِ التّكْرَار لما استهجن لتعينه
طَرِيقا (فَلَزِمَ ظُهُوره) أَي الِاسْتِثْنَاء (فِيهَا) أَي
فِي الْجمل كلهَا (قُلْنَا الْمُلَازمَة) بَين تكراره
والاستهجان (مَمْنُوعَة لمنع الاستهجان إِلَّا مَعَ اتِّحَاد
الحكم الْمخْرج مِنْهُ) وَالْحكم الْمخْرج مِنْهُ فِي مَحل
النزاع مُتَعَدد (وَلَو سلم) أَن التّكْرَار يستهجن مُطلقًا
(لم يتَعَيَّن) التّكْرَار (طَرِيقا) لإِفَادَة المُرَاد
(فلينصب قرينَة الْكل، أَو يُصَرح بِهِ) أَي بِالِاسْتِثْنَاءِ
من الْكل (بعده) أَي بعد الْكل، أَو الِاسْتِثْنَاء كَأَن
يَقُول إِلَّا كَذَا فِي الْجَمِيع (قَالُوا) رَابِعا هُوَ
(صَالح) للْجَمِيع (فالقصر على الْأَخِيرَة تحكم قُلْنَا
إرادتها) أَي الْأَخِيرَة (اتِّفَاق، والتردد فِيمَا قبلهَا)
والاتفاق مُرَجّح فَلَا تحكم (والصلاحية لَا توجب ظُهُوره) أَي
الِاسْتِثْنَاء (فِيهِ) أَي فِي الْكل (كالجمع الْمُنكر فِي
الِاسْتِغْرَاق) فَإِنَّهُ صَالح للْجَمِيع، وَلَيْسَ بِظَاهِر
فِيهِ (قَالُوا) خَامِسًا (لَو قَالَ عَليّ خَمْسَة، وَخَمْسَة
إِلَّا سِتَّة، فبالكل) أَي فَيتَعَلَّق بِالْجَمِيعِ
اتِّفَاقًا (قُلْنَا بعد كَونه) أَي كل مِمَّا اسْتثْنى مِنْهُ
فِي الْمِثَال (مُفردا) وكلامنا فِيمَا إِذا كَانَ جملا
(أوجبه) أَي أوجب كَون الِاسْتِثْنَاء من الْجَمِيع (تعينه
للصِّحَّة) إِذْ لَو رَجَعَ إِلَى الْأَخِيرَة لم يستقم،
فَهُوَ قرينَة الِاتِّصَال بِالْكُلِّ وَأَيْضًا مدعاكم الْعود
إِلَى كل وَاحِدَة لَا إِلَى الْجَمِيع. وَفِي الشَّرْح العضدي
النزاع فِيمَا يصلح للْجَمِيع وللأخيرة، وَهَذَا لَا يصلح لكل
وَاحِدَة.
(تَنْبِيه: بنى على الْخلاف) الْمَذْكُور (وجوب رد شَهَادَة
الْمَحْدُود فِي قذف عِنْد الْحَنَفِيَّة) إِذا تَابَ من ذَلِك
بِأَن أكذب نَفسه عِنْد من قذفه وَأصْلح عمله (لقصر)
الِاسْتِثْنَاء الْمَدْلُول عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى {إِلَّا
الَّذين تَابُوا} على مَا يَلِيهِ) هُوَ {وَأُولَئِكَ هم
الْفَاسِقُونَ} فينتفى عَنهُ الْفسق لَا غير، وَيبقى عدم قبُول
شَهَادَته مُؤَبَّدًا (خلافًا للشَّافِعِيّ رَحمَه الله)
وَمَالك وَأحمد رَحِمهم الله (ردا لَهُ) أَي للاستثناء
(إِلَيْهِ) أَي مَعَ مَا يَلِيهِ (مَعَ لَا تقبلُوا) فينتفى
عَنهُ الْفسق وَتقبل
(1/307)
شَهَادَته (وَلَوْلَا منع الدَّلِيل)
الدَّال على اخْتِصَاصه بالأخير (من تعلقه) أَي الِاسْتِثْنَاء
(بِالْأولِ) أَي فَاجْلِدُوهُمْ (تعلق بِهِ) أَيْضا عِنْدهم،
لِأَنَّهُ على تَقْدِير عدم دَلِيل الْقصر كَانَ الظَّاهِر
رُجُوعه إِلَى الْكل (ثمَّ قيل الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطع)
قَالَه القَاضِي أَبُو زيد، وفخر الْإِسْلَام، وشمس
الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ (لِأَن الْفَاسِقين لم يتَنَاوَل
التائبين) لِأَن التائب لَا يبْقى فَاسِقًا بعد التَّوْبَة،
وَالْحمل على الْمجَاز بِاعْتِبَار مَا كَانَ بعيد، وَأَنت
خَبِير بِأَن الْفَاسِقين لَيْسَ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، بل
أُولَئِكَ قطعا فَمَا معنى (وَالْأَوْجه أَنه مُتَّصِل) مخرج
(من أُولَئِكَ) لَا من الْفَاسِقين، ثمَّ فسر الْمشَار
إِلَيْهِ بقوله (أَعنِي الَّذين يرْمونَ) لِأَنَّهُ يصدق
عَلَيْهِ مَفْهُوم الدّين يرْمونَ بعد التَّوْبَة فَيخرج
مِنْهُ بِاعْتِبَار حكم الْفسق لتوبتهم.
مسئلة
(إِذا خص الْعَام كَانَ مجَازًا فِي الْبَاقِي عِنْد
الْجُمْهُور) من الأشاعرة ومشاهير الْمُعْتَزلَة (وَبَعض
الْحَنَفِيَّة) كصاحب البديع، وَصدر الشَّرِيعَة (إِلَّا أَنه
لَا تَخْصِيص لأكثرهم) أَي الْحَنَفِيَّة (إِلَّا بمستقل على
مَا سبق) فَهُوَ بعد إِخْرَاج بعضه بِغَيْر مُسْتَقل حَقِيقَة
على قَوْلهم كَمَا صرح بِهِ صدر الشَّرِيعَة (وَبَعْضهمْ) أَي
الْحَنَفِيَّة (كالسرخسي والحنابلة) وَأكْثر الشَّافِعِيَّة،
بل جَمَاهِير الْفُقَهَاء على مَا ذكر إِمَام الْحَرَمَيْنِ
(حَقِيقَة) فِي الْبَاقِي (وَبَعْضهمْ) أَي الْحَنَفِيَّة
(وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ حَقِيقَة فِي الْبَاقِي مجَاز فِي
الِاقْتِصَار) عَلَيْهِ (وَالشَّافِعِيَّة) نقلوا (عَن
الرَّازِيّ من الْحَنَفِيَّة، وَهُوَ) الشَّيْخ الإِمَام أَبُو
بكر أَحْمد (الْجَصَّاص إِن كَانَ الْبَاقِي كَثْرَة يعسر
ضَبطهَا فحقيقة وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْبَاقِي كَذَلِك
(فمجاز) . وَقَالَ الْغَزالِيّ كل عدد لَو اجْتَمعُوا فِي
صَعِيد يعسر على النَّاظر عَددهمْ بِمُجَرَّد النّظر كالألف
فَهُوَ غير مَحْصُور، وَإِن سهل كالعشرة وَالْعِشْرين فمحصور،
وَمن الطَّرفَيْنِ أوساط يلْحق أَحدهمَا بِالظَّنِّ، وَمَا
وَقع فِيهِ الشَّك استفت فِيهِ الْقلب كَذَا ذكره الشَّارِح
(وَالْحَنَفِيَّة) نقلوا (عَنهُ) أَي الْجَصَّاص (إِن كَانَ
جمعا فَقَط) أَي من غير تَقْيِيد بالقيد السَّابِق فحقيقة
وَإِلَّا بمجاز (وَأَبُو الْحُسَيْن إِن خص بِمَا لَا
يسْتَقلّ) من شَرط، أَو صفة، أَو اسْتثِْنَاء) أَو غَايَة
(فحقيقة) وَإِن خص بمستقل من سمع أَو عقل فمجاز (القَاضِي إِن
خص بِشَرْط أَو اسْتثِْنَاء) فحقيقة وَإِلَّا فمجاز (وَقيل إِن
خص بلفظي) مُتَّصِل أَو مُنْفَصِل فحقيقة وَإِلَّا فمجاز (عبد
الْجَبَّار أَن خص بِشَرْط أَو صفة) فحقيقة وَإِلَّا فمجاز،
فَهَذِهِ ثَمَانِيَة مَذَاهِب (لنا) على الْمُخْتَار، وَهُوَ
الأول (الْفَرْض أَنه) أَي الْعَام (حَقِيقَة فِي
الِاسْتِغْرَاق على الْخُصُوص) أَي من غير اشْتِرَاك بكنه
وَبَين الْبَعْض (فَلَو كَانَ للْبَاقِي فَقَط) أَي من غير
انضمام مَا عدا الْبَاقِي إِلَيْهِ (حَقِيقَة) أَيْضا
(1/308)
(كَانَ مُشْتَركا) لفظيا (وَهُوَ) أَي
كَونه مُشْتَركا بَين الْكل وَالْبَعْض (غير الْمَفْرُوض،
وَدفع) هَذَا الِاسْتِدْلَال كَمَا فِي الشَّرْح العضدي
(بِأَنَّهُ) أَي الْعَام (فِي صُورَة التَّخْصِيص للاستغراق،
لِأَن أكْرم بني تَمِيم الطوَال على تَقْدِير من بني تَمِيم:
أَي بَعضهم) فَإِن من للتَّبْعِيض وَالتَّقْيِيد فِي معنى من
(فَلَزِمَ إِرَادَة كلهم) من قَوْلهم بني تَمِيم (وَإِلَّا)
أَي وَإِن لم يكن مرَادا (كَانَ الْمَعْنى) أكْرم (بعض بَعضهم)
لِأَن لَازم من التبعيضية صِحَة وضع بعض مَكَانهَا، وَالْفَرْض
أَن المُرَاد ببني تَمِيم الْبَعْض (ثمَّ عرض الحكم) مَعْطُوف
على لزم: أَي عرض لعمومه مصحح الحكم وَهُوَ الْوَصْف
الْمُخْتَص (فَخرج) الْبَعْض (الآخر) وَهُوَ الَّذِي لم ويصف
بِهِ (وَهَذَا) التَّوْجِيه هُوَ (لَازم فِي الْمُسْتَثْنى على
مَا قيل) من أَن المُرَاد بالمستثنى مِنْهُ الِاسْتِغْرَاق
والعموم، ثمَّ يخرج مِنْهُ الْمُسْتَثْنى، ثمَّ يحكم على
الْبَاقِي (وَيُمكن اعْتِبَاره) أَي اعْتِبَار كَون المُرَاد
جَمِيع مَا يتَنَاوَلهُ، ثمَّ إِخْرَاج غير المُرَاد بالحكم
ثمَّ الحكم (فِي الْكل) أَي فِي جَمِيع العمومات المخصصة
بِأَيّ تَخْصِيص كَانَ (غير أَن وضع الْمُفْرد واستعماله
لَيْسَ إِلَّا للتركيب) لِأَن الْمَقْصُود إِفَادَة الْمعَانِي
التركيبية (وَيبعد أَن يركبه) أَي الْمُتَكَلّم الْمُفْرد مَعَ
غَيره (مرِيدا الْمَجْمُوع ليحكم على الْبَعْض، لِأَنَّهُ) أَي
قصد الْمَجْمُوع (حِينَئِذٍ) أَي حِين يُرِيد الحكم على
الْبَعْض (بِلَا فَائِدَة لصِحَّة أَن يُرَاد مِنْهُ) أَي من
اللَّفْظ الْمَوْضُوع (لُغَة الْمَحْكُوم عَلَيْهِ فَقَط)
وَهُوَ الْبَعْض بِقَرِينَة الْمُخَصّص (وَلَو كَانَ عددا)
فَانْتفى الدّفع (وَقَول السَّرخسِيّ صِيغَة الْعُمُوم)
مَوْضُوعَة (للْكُلّ وَمَعَ ذَلِك حَقِيقَة فِيمَا وَرَاء
الْمَخْصُوص لِأَنَّهَا) أَي صيغته (إِنَّمَا تتناوله) أَي مَا
وَرَاء الْمَخْصُوص (من حَيْثُ أَنه كل لَا بعض) بِمَعْنى أَن
حَقِيقَتهَا كل الْأَفْرَاد، وَعند التَّخْصِيص يصير مَا
وَرَاء الْمَخْصُوص كل الْأَفْرَاد فَيصدق أَن تنَاولهَا
إِيَّاه من حَيْثُ أَنه كل لَا من حَيْثُ أَنه كل لَا من
حَيْثُ أَنه بعض (كالاستثناء يصير الْكَلَام) يَعْنِي
الْمُسْتَثْنى مِنْهُ (عبارَة عَمَّا وَرَاء الْمُسْتَثْنى
بطرِيق أَنه) أَي مَا وَرَاء الْمُسْتَثْنى (كل، لَا بعض)
فَقَوْل السَّرخسِيّ مُبْتَدأ خَبره (إِن أَرَادَ) أَن تنَاوله
لما وَرَاء الْمَخْصُوص (بِوَضْع آخر خَاص لزم الِاشْتِرَاك)
اللَّفْظِيّ، والمفروض خِلَافه (أَو وضع الْمجَاز فنقيض
مَطْلُوبه) وَهُوَ أَنه أَي حَقِيقَته فِيهِ (فَإِن قيل لم لم
تحمله) أَي كَلَام السَّرخسِيّ (على أَنه لَا يشْتَرط
الِاسْتِغْرَاق) فِي الْعَام: وَهُوَ حَقِيقَة مَا لم
يسْتَعْمل فِي غير أَفْرَاده، والمخصوص من أَفْرَاده فَهُوَ
حَقِيقَة فِيهِ (قُلْنَا الْكَلَام فِي الْعَام إِذا خص)
وَكَانَ الِاخْتِصَاص مرَادا بِهِ وَهُوَ أَمر زَائِد على مَا
وضع لَهُ (وَإِنَّمَا يقبله) أَي التَّخْصِيص (الصِّيَغ
الْمُتَقَدّمَة: كالجمع الْمحلي وَنَحْوه) من الموصولات
وَأَسْمَاء الشَّرْط والاستفهام إِلَى غير ذَلِك (مِمَّا اتّفق
على استغراقه وَالْخلاف فِي اشْتِرَاطه) أَي الِاسْتِغْرَاق
إِنَّمَا هُوَ (فِي مُسَمّى لفظ عَام) يَعْنِي هَل يشْتَرط
فِيمَا
(1/309)
وضع لفظ الْعَام اصْطِلَاحا الِاسْتِغْرَاق
أم لَا (وَمن لم يَشْتَرِطه) أَي الِاسْتِغْرَاق فِيهِ (وَإِن
جعل من صيغته) أَي الْعَام (الْجمع الْمُنكر لَا يصحح
اعْتِبَاره) أَي اعْتِبَار مَا لَيْسَ بمستغرق (هُنَا) أَي
فِيمَا قبل التَّخْصِيص (إِذْ لَا يقبل) غير الْمُسْتَغْرق
(الْإِخْرَاج مِنْهُ) إِذْ إِخْرَاج بعض أَفْرَاد الْمَفْهُوم
فرع الْعلم باندراجه تَحْتَهُ من حَيْثُ الْإِرَادَة، وَلَا
علم بذلك فِيمَا لَا استغراق فِيهِ (وَلذَا لَا يسْتَثْنى
مِنْهُ) كَمَا مر فِي بَحثه (وَمَا قيل إِرَادَته) أَي
الْبَاقِي (لَيْسَ بِالْوَضْعِ الثَّانِي والاستعمال) فِيهِ
(بل) الْبَاقِي مُرَاد (بِالْأولِ) أَي بِالْوَضْعِ الأول، فِي
الشَّرْح العضدي وَأَيْضًا فَلم يرد الْبَاقِي بِوَضْع
وَاسْتِعْمَال ثَان، بل بِالْوَضْعِ وَاسْتِعْمَال الأول،
وَإِنَّمَا طَرَأَ عَلَيْهِ عدم إِرَادَة الْمخْرج بِخِلَاف
الْمجَاز (مَمْنُوع) أَي إِرَادَة الْبَاقِي بِالْوَضْعِ الأول
وَكَونه حَقِيقَة بذلك الِاعْتِبَار (بل الْحَقِيقَة) إِنَّمَا
يتَحَقَّق ب (بإرادته) أَي بِالْبَاقِي (الأول) أَي بِمُوجب
الْوَضع الأول (من حَيْثُ هُوَ) أَي الْبَاقِي (دَاخل فِي
تَمام) الْمَعْنى (الوضعي المُرَاد) بِاللَّفْظِ (لَا) بإرادته
(بِمُجَرَّد كَونه تَمام المُرَاد بالحكم) وَالْأَظْهَر لَا من
حَيْثُ كَونه تَمام المُرَاد، فَكَأَنَّهُ قصد أَن مُجَرّد
الْبَاقِي لَا يَكْفِي فِي الْحَقِيقَة، بل لَا بُد من
الْمَجْمُوع، أما إِذا أُرِيد مُجَرّد كَونه تَمام المُرَاد
حَقِيقَة (فَهُوَ) أَي فَهَذَا المُرَاد إِنَّمَا يحصل
(بِالثَّانِي) أَي بِالْوَضْعِ الثَّانِي (الْحَنَابِلَة
تنَاوله) أَي تنَاول الْعَام للْبَاقِي بعد التَّخْصِيص (كَمَا
كَانَ) قبله (وَكَونه) أَي تنَاوله بعض التَّخْصِيص (مَعَ
قرينَة الِاقْتِصَار) عَلَيْهِ (لَا يُغَيِّرهُ) أَي لَا يُغير
كَيْفيَّة تنَاوله (فَهُوَ حَقِيقَة قُلْنَا الْحَقِيقَة
بِالِاسْتِعْمَالِ فِي الْمَعْنى) الْمَوْضُوع لَهُ بِأَن يكون
مَجْمُوع الْمُسَمّى مرَادا (لَا) بِمُجَرَّد (التَّنَاوُل)
لَهُ من حَيْثُ الدّلَالَة على مَا يَقْتَضِيهِ الْوَضع
(لِأَنَّهُ) أَي التَّنَاوُل (لتبعيته للوضع ثَابت للمخرج)
بِفَتْح الرَّاء (بعد التَّخْصِيص) فَلَا فرق فِي هَذَا
التَّنَاوُل بَين الْبَاقِي والمخرج (و) كَذَلِك ثَابت (لَكِن
وضعي) سَوَاء كَانَ عين الْمَوْضُوع لَهُ أَو جزءه (حَال
التَّجَوُّز بِلَفْظِهِ) واستعماله فِي الْمَعْنى الْمجَازِي،
لِأَن الْعَالم بِالْوَضْعِ ينْتَقل إِلَى مَا وضع لَهُ لَا
محَالة وَإِن كَانَ المُرَاد غَيره بِمُوجب الْقَرِينَة
الصارفة (الرَّازِيّ إِذا بَقِي) من الْعَام مِقْدَار (غير
منحصر) فِي عدد (فَهُوَ) أَي ذَلِك الْبَاقِي (معنى الْعُمُوم)
فِيهِ مُسَامَحَة لِأَنَّهُ كَون اللَّفْظ دَالا على أَمر غير
منحصر فِي عدد فَتكون فِيهِ حَقِيقَة (نَقله الشَّافِعِيَّة
عَنهُ وَالْحَنَفِيَّة بِنَقْل مذْهبه أَجْدَر) من
الشَّافِعِيَّة لِأَنَّهُ مِنْهُم (وَهُوَ) أَي مذْهبه على
النقلين (بِنَاء على عدم اشْتِرَاط الِاسْتِغْرَاق) فِي
الْعُمُوم، فِي الشَّرْح العضدي الرَّازِيّ قَالَ معنى
الْعُمُوم حَقِيقَة كَون اللَّفْظ دَالا على أَمر غير منحصر
فِي عدد، فَإِذا كَانَ الْبَاقِي غير منحصر كَانَ عَاما
الْجَواب منع كَون مَعْنَاهُ ذَلِك، بل مَعْنَاهُ تنَاوله
للْجَمِيع وَكَانَ للْجَمِيع وَقد صَار لغيره فَكَانَ مجَازًا،
وَلَا يخفى أَن هَذَا منشؤه اشْتِبَاه كَون النزاع فِي لفظ
الْعَام أَو فِي الصِّيَغ
(1/310)
انْتهى، وَقَوله هَذَا إِمَّا إِشَارَة
إِلَى مَا قَالَه الرَّازِيّ، وَإِمَّا إِلَى نقل هَذَا عَنهُ
لإِثْبَات كَون الصِّيغَة حَقِيقَة فِي الْبَاقِي وَالثَّانِي
مُتَعَيّن إِذْ هُوَ لم يفرع على بَقَاء غير المنحصر كَونهَا
حَقِيقَة فِيهِ، بل وجود معنى الْعُمُوم فِيهَا وَهُوَ لَا
يسْتَلْزم كَونهَا حَقِيقَة، وَنسبَة الِاشْتِبَاه إِلَى ناقل
الْمَذْهَب أولى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَغلط) نقلهم
عَنهُ على الْوَجْه الْمَذْكُور، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله
وَالْحَنَفِيَّة إِلَى آخِره، وَزعم الشَّارِح أَن الْمَعْنى
غلط الرَّازِيّ، وَقَوله (بِأَن مُقْتَضَاهُ كَون الْخلاف)
بَين الرَّازِيّ وَغَيره (فِي لفظ الْعُمُوم لَا فِي
الصِّيغَة) يرد عَلَيْهِ، إِذْ مَعْنَاهُ أَن مَذْهَب
الرَّازِيّ إِذا كَانَ مَبْنِيا على تَفْسِير الْعُمُوم بِمَا
ذكر لزم مُخَالفَته فِيمَا وضع لَهُ للفظ الْعُمُوم، وَلَيْسَ
كَذَلِك إِذْ قد تقدر أَن خِلَافه فِي الصِّيغَة الموصوفة
بِالْعُمُومِ هَل إِذا خصص وَالْبَاقِي غير منحصر يكون
حَقِيقَة أم لَا، عِنْده نعم، وَعند غَيره مَا عرفت وَهل يغلط
الرَّازِيّ بِأَنَّهُ يلْزم عَلَيْك أَن تخالفهم فِي لفظ
الْعُمُوم لَا فِي الصِّيغَة، لَا يُقَال معنى تغليطه أَن
دخولك فِي هَذَا النَّوْع بَين الْقَوْم، فَهَذَا الْوَجْه يدل
على أَنَّك زعمت أَن خلافهم فِي لفظ الْعَام، لأَنا نقُول لَا
يُنَاسب هَذَا فِي حق الْأَئِمَّة وَالله أعلم (أَبُو
الْحُسَيْن لَو كَانَ الْإِخْرَاج بِمَا لَا يسْتَقلّ يُوجب
تجوزا) فِي اللَّفْظ (لزم كَون) لفظ (الْمُسلم للمعهود
مجَازًا) إِذا خرج من مَفْهُومه غير الْمَعْهُود بِمَا هُوَ
كالجزء لَهُ، وَهُوَ اللَّام وَقد صَار بِهِ لِمَعْنى غير مَا
وضع لَهُ إِذا لم يكن فِيهِ الْعَهْد (وَالْجَوَاب) عَنهُ
كَمَا فِي أصُول ابْن الْحَاجِب (بِأَن الْمَجْمُوع) من مُسلم
وَاللَّام هُوَ (الدَّال) فالجنس مَدْخُول اللَّام،
وَالتَّقْيِيد بالمعهود الْمخْرج لغيره اللَّام، فَلَا يلْزم
الْمجَاز وَلَا كَون الْعَام مُسْتَعْملا فِي غير مَا وضع لَهُ
وَهُوَ الْجِنْس (مندفع) خبر، وَالْجَوَاب (بِأَنَّهُ) أَي
بِكَوْن الْمَجْمُوع دَالا على الْوَجْه الْمَذْكُور (بعد
الْعلم بِأَنَّهُمَا) أَي اللَّام وَمُسلمًا (كلمتان) متلبسان
(بوضعين) لمعنييهما (ركبتا) لإِفَادَة التَّقْيِيد (مُجَرّد
اعْتِبَار يُمكن مثله فِي الْعَام الْمُقَيد بِمَا يسْتَقلّ)
إِذْ لَا تَأْثِير لعدم الِاسْتِقْلَال لإحدى الْكَلِمَتَيْنِ
من حَيْثُ الحرفية فِي هَذَا الِاعْتِبَار (وَإِلَّا) أَي
وَإِن لم يعْتَبر مثله فِي الْمُقَيد بِمَا يسْتَقلّ (فتحكم
مَحْض) أَي فتخصيص الِاعْتِبَار الْمَذْكُور بِأَحَدِهِمَا دون
الآخر تحكم لعدم الْفرق بَينهمَا، فالمخلص أَن يُقَال للمعرف
للْعهد وضعان، وضع للْجِنْس قبل دُخُول اللَّام عَلَيْهِ فِي
حَال النكارة، وَآخر للمعهود كوضع المبهمات، فَإِن مَا وضعت
لَهُ خصوصيات، وَآلَة الملاحظة عِنْد الْوَضع مَفْهُوم عَام
كَمَا هُوَ رَأْي الْمُتَأَخِّرين، وَلَيْسَ الْعَام
الْمَخْصُوص بِمَا لَا يسْتَقلّ كَذَلِك، بل هُوَ كالمخصوص
بِمَا يسْتَقلّ مُسْتَعْمل فِي غير مَا وضع لَهُ، وَهُوَ
الْبَاقِي بعد التَّخْصِيص (القَاضِي وَعبد الْجَبَّار مثله)
أَي أبي الْحُسَيْن (فِيمَا لم يخرجَاهُ) مَا لم يسْتَقلّ،
وَهُوَ الصّفة والغاية عِنْد القَاضِي، وَالِاسْتِثْنَاء
والغاية عِنْد عبد الْجَبَّار من حَيْثُ الدَّلِيل، وَهُوَ
لُزُوم كَون نَحْو الْمُسلم مجَازًا فِي الْمَعْهُود، وَمن
حَيْثُ الْجَواب، وَهُوَ منع لُزُومه لما ذكر (الْمُخَصّص
بِاللَّفْظِ مثله) أَي أبي الْحُسَيْن دَلِيلا وجوابا على مَا
عرفت
(1/311)
(وَهُوَ) أَي دَلِيل هَذَا (أَضْعَف)
لشمُول اللَّفْظِيّ الْمُتَّصِل والمنفصل، وَدَلِيله لَا
يُنَاسب إِلَّا الْمُتَّصِل (الإِمَام الْجمع كتعداد الْآحَاد)
. قَالَ أهل الْعَرَبيَّة: معنى الرِّجَال فلَان، وَفُلَان،
وَفُلَان إِلَى أَن يستوعب، وَإِنَّمَا وضع الرِّجَال اختصارا
(وَفِيه) أَي فِي تعدادها (إِذا بَطل إِرَادَة الْبَعْض لم يصر
الْبَاقِي مجَازًا) فَكَذَا الْجمع (أُجِيب أَن الْحَاصِل) من
التعداد فِي الْجمع أَمر (وَاحِد) وَهُوَ مَجْمُوع مَا يصلح
لَهُ الْعَام لوضعه (للاستغراق، فَفِي بعضه) أَي فاستعماله فِي
بعض ذَلِك الْحَاصِل (فَقَط) من غير أَن يُرَاد بِهِ الْبَعْض
الآخر (مجَاز) بِخِلَاف الْآحَاد المتعددة فَإِنَّهُ لم يرد
بِلَفْظ مِنْهَا بعض مَا وضع لَهُ، وَإِذا بطلت بعض
الْحَقَائِق لم يلْزم بطلَان حَقِيقَة أُخْرَى، على أَنه قد
منع كَون الْجمع كتكرار الْآحَاد من كل وَجه، وَلَيْسَ مُرَاد
أهل الْعَرَبيَّة ذَلِك، بل بَيَان أهل الْحِكْمَة فِي وَضعه
(وَمَا قيل) من أَنه (يُمكن) أَن يكون (اللَّفْظ) الْوَاحِد
حَقِيقَة ومجازا (بحيثيتين) أَي باعتبارهما، فَلْيَكُن الْعَام
الْمَخْصُوص كَذَلِك، فَيكون مجَازًا من حَيْثُ أَنه لَيْسَ
مَوْضُوعه الأَصْل حَقِيقَة من حَيْثُ أَنه بَاقٍ على أصل
وَضعه وَلم ينْقل نقلا كليا كَمَا اخْتَارَهُ السُّبْكِيّ
(فتانك) الحيثيتان إِنَّمَا هما (بِاعْتِبَار وضعي
الْحَقِيقِيّ والمجازي) يَعْنِي أَن الحيثيتين إِنَّمَا هُوَ
كَون اللَّفْظ بِحَيْثُ إِذا اسْتعْمل فِي هَذَا كَانَ
حَقِيقَة لوضعه لَهُ عينا، وَهُوَ الْوَضع الْحَقِيقِيّ، وَإِن
اسْتعْمل فِي ذَلِك كَانَ مجَازًا لوضعه لَهُ بالنوع، لَا أَنه
فِي اسْتِعْمَال وَاحِد
يكون اللَّفْظ حَقِيقَة ومجازا كل ادَّعَاهُ الإِمَام: كَذَا
ذكره الشَّارِح وَالْوَجْه أَن يعْتَبر بِالنِّسْبَةِ إِلَى
معنى وَاحِد كَالشَّمْسِ إِذا وضعت بِإِزَاءِ الصُّورَة أَيْضا
فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ ذَات حيثيتين بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ
لكَونهَا مَوْضُوعَة لَهُ بِالْوَضْعِ النوعي الْمجَازِي
لكَونه لَازم مَا وضعت لَهُ أَولا، وَهُوَ الْجَزْم (وَلَا
يلْزم) من اجْتِمَاع هَاتين الحيثيتين (اجْتِمَاعهمَا) أَي
الْحَقِيقَة وَالْمجَاز فِي اسْتِعْمَال وَاحِد (على أَنه نقل
اتِّفَاق نَفْيه) أَي الِاتِّفَاق على نفي كَون اللَّفْظ
حَقِيقَة ومجازا فِي اسْتِعْمَال وَاحِد، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا
فِي صِحَة إِرَادَة الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ والمجازي مَعًا فِي
اسْتِعْمَال وَاحِد، ثمَّ يكون حَقِيقَة ومجازا: (هَذَا) مَا
ذكر (وَلم يسْتَدلّ) الإِمَام (على شقَّه الآخر، وَهُوَ أَنه
مجَاز فِي الِاقْتِصَار) على الْبَاقِي (لظَنّه ظُهُوره) أَي
ظُهُور كَونه مجَازًا فِيهِ (وَهُوَ غلط لِأَنَّهُ لَا يكون)
الْعَام (مجَازًا بِاعْتِبَار الِاقْتِصَار إِلَّا لَو
اسْتعْمل فِي معنى الِاقْتِصَار، وانتفاؤه) أَي اسْتِعْمَاله
فِيهِ (ظَاهر، بل الِاقْتِصَار إِنَّمَا يلْزم اسْتِعْمَاله
فِي الْبَاقِي بِلَا زِيَادَة، فَهُوَ) أَي الِاقْتِصَار
(لَازم لوُجُوده) أَي وجود الِاسْتِعْمَال فِي الْبَاقِي (لَا
مُرَاد إفادته) أَي الِاقْتِصَار (بِهِ) أَي بِالْعَام
الْمَخْصُوص (وَلَو أَرَادَ بالاقتصار اسْتِعْمَاله) أَي
الْعَام (فِي الْبَاقِي بِلَا زِيَادَة، فَهُوَ شقَّه الأول،
وَعلمت مجازيته فِيهِ) أَي فِي الْبَاقِي.
(1/312)
مَسْأَلَة
قَالَ (الْجُمْهُور الْعَام الْمَخْصُوص بمجمل) أَي بمبهم غير
معِين، من الْإِجْمَال اللّغَوِيّ (لَيْسَ حجَّة، كلا تقتلُوا
بَعضهم) مَعَ اقْتُلُوا الْمُشْركين (وبمبين حجَّة) وَقَالَ
(فَخر الْإِسْلَام حجَّة فيهمَا) أَي فِي الْوَجْهَيْنِ (ظنية
الدّلَالَة بعد أَن كَانَ قطعيها) أَي الدّلَالَة قبل
التَّخْصِيص بِأَحَدِهِمَا (وَقيل يسْقط الْمُجْمل) الَّذِي خص
بِهِ الْعَام عَن دَرَجَة الِاعْتِبَار (وَالْعَام) يَنْفِي
(كَمَا كَانَ) قبل لُحُوقه بِهِ، وَعَلِيهِ أَبُو الْمعِين من
الْحَنَفِيَّة وَابْن برهَان من الشَّافِعِيَّة (وَفِي
الْمُبين) قَالَ (أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ إِن كَانَ
الْعَام منبئا عَنهُ) أَي عَن الْبَاقِي بعد التَّخْصِيص
(بِسُرْعَة) فَهُوَ حجَّة (كالمشركين من أهل الذِّمَّة) أَي
فِيمَا إِذا خصوا بِأَهْل الذِّمَّة بِلَفْظ مُتَّصِل، أَو
مُنْفَصِل، أَو بِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُنبئ عَن الْحَرْبِيّ:
أَي ينْتَقل الذِّهْن إِلَيْهِ إِذا أطلق الْمُشْركُونَ
(وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يُنبئ عَنهُ (فَلَيْسَ حجَّة كالسارق
لَا يُنبئ عَن سَارِق نِصَاب و) عَن سَارِق (من حرز لعدم
الِانْتِقَال) أَي انْتِقَال الذِّهْن (إِلَيْهِمَا) أَي
النّصاب والحرز من إِطْلَاق السَّارِق قبل بَيَان الشَّارِع،
فَإِذا أبطل الْعَمَل فِي صُورَة انتفائهما لم يعْمل بِهِ فِي
صُورَة وجودهما. قَالَ (عبد الْجَبَّار، وَإِن لم يكن) الْعَام
(مُجملا) قبل التَّخْصِيص (فَهُوَ حجَّة) ، نَحْو الْمُشْركين
(بِخِلَاف) الْمُجْمل قبله، نَحْو أقِيمُوا (الصَّلَاة
فَإِنَّهُ بعد تَخْصِيص الْحَائِض) أَي بعد إِخْرَاج صَلَاة
الْحَائِض (مِنْهُ) أَي من الصَّلَاة بِالنَّصِّ الآخر
(يفْتَقر) إِلَى الْبَيَان كَمَا كَانَ مفتقرا قبله، وَلذَلِك
بَينه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ " صلوا كَمَا
رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ". قَالَ (الْبَلْخِي من مجيزي
التَّخْصِيص بِمُتَّصِل) أَي غير مُسْتَقل كالشرط وَالصّفة
(حجَّة أَن خص بِهِ) أَي بالمتصل لَيْسَ بِحجَّة أَن خص بمنفصل
كالدليل الْعقلِيّ (وَقيل حجَّة فِي أقل الْجمع) وَهُوَ
اثْنَان أَو ثَلَاثَة على الْخلاف، لَا فِيمَا زَاد عَلَيْهِ.
وَقَالَ (أَبُو ثَوْر لَيْسَ بِحجَّة مُطلقًا) سَوَاء خص
بِمُتَّصِل أَو بمنفصل أنبأ عَن الْبَاقِي أَو لَا، احْتَاجَ
إِلَى الْبَيَان أَولا (وَقيل عَنهُ) أَي عَن أبي ثَوْر لَيْسَ
حجَّة (إِلَّا فِي أخص الْخُصُوص) أَي الْوَاحِد (إِذا علم)
أَي إِذا كَانَ الْمَخْصُوص مَعْلُوما (كالكرخي والجرجاني
وَعِيسَى بن أبان أَي يصير) الْعَام الْمَخْصُوص (مُجملا
فِيمَا سواهُ) أَي أخص الْخُصُوص، فَيتَوَقَّف الِاحْتِجَاج
وَالْعَمَل بِهِ (إِلَى الْبَيَان) قَالَ الشَّارِح: أَن أخص
الْخُصُوص وَهُوَ الْوَاحِد غير معِين، فَلَا يُمكن الْعَمَل
بِهِ قبل الْبَيَان أَيْضا انْتهى؛ وَهُوَ لَا يُنَافِي كَلَام
المُصَنّف، لِأَن الْمَفْهُوم مِنْهُ ثُبُوت الحكم فِي أخص
الْخُصُوص بِغَيْر توقف إِلَى الْبَيَان وَلَو على سَبِيل
الْإِبْهَام، فَلْيَكُن الْعَمَل بِهِ على سَبِيل التَّعْيِين
مُحْتَاجا إِلَى الْبَيَان (لنا) على الأول (اسْتِدْلَال
الصَّحَابَة بِهِ) أَي بِالْعَام الْمَخْصُوص
(1/313)
بمبين مَعَ التّكْرَار والشيوع، وَعدم
النكير من أحد مِنْهُم فَكَانَ إِجْمَاعًا (وَلَو قَالَ: أكْرم
بني تَمِيم، وَلَا تكرم فلَانا وَفُلَانًا فَترك) إكرام أحد
مِمَّن عداهما (قطع بعصيانه) فَدلَّ على ظُهُوره فِي الْعُمُوم
(وَلِأَن تنَاول الْبَاقِي بعده) أَي التَّخْصِيص (بَاقٍ،
وحجيته) أَي الْعَام (فِيهِ) أَي الْبَاقِي (كَانَ
بِاعْتِبَارِهِ) أَي التَّنَاوُل (وَبِهَذَا) الدَّلِيل
الْأَخير: كَذَا ذكره الشَّارِح وَالصَّوَاب أَن الْمَعْنى
وَبِهَذَا الْمَجْمُوع كَمَا سَيظْهر (اسْتدلَّ الْمُطلق)
لحجيته (وَيدْفَع) اسْتِدْلَال الْمُطلق بِهِ (باستدلالهم) أَي
الصَّحَابَة (والعصيان) بترك مَا علق بِالْعَام الْمَخْصُوص
كِلَاهُمَا (فِي الْمُبين، وَالْحجّة فِيهِ) أَي الْبَاقِي
(قبله) أَي التَّخْصِيص إِنَّمَا كَانَ (لعدم الْإِجْمَال)
فَلَا يكون حجَّة فِي الْمَخْصُوص بمجمل لتحَقّق الْإِجْمَال
حِينَئِذٍ (وبقاؤه) أَي التَّنَاوُل إِنَّمَا هُوَ أَيْضا (فِي
الْمُبين لَا الْمُجْمل) . قَالَ (فَخر الْإِسْلَام: وَالْعَام
عِنْده كالخاص) فِي قَطْعِيَّة الدّلَالَة كَمَا تقدم قَالَ
وَالْحَالة هَذِه (للمخصص شبه الِاسْتِثْنَاء لبيانه) أَي
الْمُخَصّص (عدم إِرَادَة الْمخْرج) مِمَّا تنَاوله الْعَام
كَمَا أَن الِاسْتِثْنَاء كَذَلِك (و) شبه (النَّاسِخ) بصيغته
(لاستقلاله) بِنَفسِهِ فِي الإفادة (فَيبْطل) الْمُخَصّص (إِذا
كَانَ مَجْهُولا) . قَالَ الشَّارِح: أَي متناولا لما هُوَ
مَجْهُول عِنْد السَّامع (للثَّانِي) أَي لشبه النَّاسِخ
(وَيبقى الْعَام على قطعيته لبُطْلَان النَّاسِخ الْمَجْهُول)
وَعدم تعدِي جهالته إِلَى الْمَعْلُوم لكَونه مُسْتقِلّا،
بِخِلَاف الِاسْتِثْنَاء فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَة وصف قَائِم
بصدر الْكَلَام فهما بِمَنْزِلَة كَلَام وَاحِد فيؤثر جَهَالَة
الْمُسْتَثْنى فِي الْمُسْتَثْنى مِنْهُ، فَيتَوَقَّف على
الْبَيَان للإجمال (وَيبْطل الأول) أَي الْعَام (للْأولِ) أَي
لشبهه بِالِاسْتِثْنَاءِ لتعدي جهالته إِلَيْهِ كَمَا فِي
اسْتثِْنَاء الْمَجْهُول (وَفِي) الْمُخَصّص (الْمَعْلُوم شبه
النَّاسِخ) من حَيْثُ كَونه مُسْتقِلّا (يُبطلهُ) أَي الْعَام
(لصِحَّة تَعْلِيله) أَي الْمُخَصّص الْمَعْلُوم شبه النَّاسِخ
من هَذِه الْحَيْثِيَّة كَمَا هُوَ الأَصْل فِي النُّصُوص
المستقلة وَإِن كَانَ النَّاسِخ لَا يُعلل (وَجَهل قدر
الْمُتَعَدِّي إِلَيْهِ) بِالتَّعْلِيلِ (فيجهل الْمخْرج)
بِهَذَا السَّبَب (وَشبه الِاسْتِثْنَاء) من حَيْثُ إِثْبَات
الحكم فِيمَا وَرَاء الْمَخْصُوص وَعدم دُخُول الْمَخْصُوص
تَحت حكم الْعَام (يبْقى قطعيته) فَلَا يبطل الْعَام فِي
الْوَجْهَيْنِ، وَيتْرك إِلَى الظنية للشبهين (وَهُوَ) أَي
هَذَا الدَّلِيل (ضَعِيف، لِأَن إِعْمَال الشبهين عِنْد
الْإِمْكَان، وَهُوَ) إِمْكَان إعمالها (مُنْتَفٍ فِي
الْمَجْهُول) لِأَن الْعَمَل بالمخصوص بِالْمَجْهُولِ مَوْقُوف
على الْبَيَان، فِيهِ أَن توقف الْعَمَل بِهِ على الْبَيَان
لَا يسْتَلْزم عدم حجيته، أَلا ترى أَن أقِيمُوا الصَّلَاة
كَانَ قبل الْبَيَان حجَّة غير أَن احْتِيَاجه بِاعْتِبَار
الْكَيْفِيَّة، واحتياج هَذَا من حَيْثُ الكمية فَتَأمل (بل
الْمُعْتَبر الأول) أَي الشبة بِالِاسْتِثْنَاءِ (لِأَنَّهُ)
أَي الشّبَه بِهِ (معنوي) فَإِن الِاسْتِثْنَاء يخرج من
الْعَام كالمستقل غير أَنه لم يسم تَخْصِيصًا اصْطِلَاحا
(وَشبه النَّاسِخ طرد) وَهُوَ مشاركتهما فِي أَمر لَفْظِي على
سَبِيل الِاتِّفَاق من غير مُنَاسبَة
(1/314)
معنوية يعْتد بهَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ
بقوله (لِأَنَّهُ فِي مُجَرّد اللَّفْظ) أَي كَون كل مِنْهُمَا
لَا يحْتَاج فِي صِحَة التَّكَلُّم بِهِ إِلَى غَيره (وعَلى
هَذَا) يَعْنِي كَون الْمُعْتَبر فِيهِ شبه الِاسْتِثْنَاء
(تبطل حجيته) فِي الْمَجْهُول (كالجمهور) أَي كَمَا قَالَ
الْجُمْهُور (وصيرورته ظنيا فِي الْمَعْلُوم لما تحقق من عدم
إِرَادَة مَعْنَاهُ) أَي الْعَام بالتخصيص بالمعلوم (مَعَ
احْتِمَال قِيَاس آخر مخرج) مِنْهُ بَعْضًا آخر (وَهَذَا)
الِاحْتِمَال لتَضَمّنه) أَي الْمُخَصّص (حكما) شَرْعِيًّا،
وَالْأَصْل فِي النُّصُوص التَّعْلِيل للتضمن للْأَحْكَام
الشَّرْعِيَّة (لَا لشبه النَّاسِخ باستقلال صيغته) لكَونه
طرديا كَمَا ذكر (وَكَون السمعي حجَّة) فِي إِثْبَات حكم (فرع
معلومية مَحل حكمه، وَالْقطع) حَاصِل (بنفيها) أَي معلومية
مَحل حكمه (فِي نَحْو: لَا تقتلُوا بَعضهم، فَإِن دفع) هَذَا
(بثبوتها) أَي الحجية مَعَ انْتِفَاء معلومية مَحل حكم
الْمُخَصّص (فِي نَحْو: وَحرم الرِّبَا) من قَوْله - {وَأحل
الله البيع} - (للْعلم بِحل البيع قُلْنَا أَن علموه) أَي
المخاطبين الرِّبَا (نوعا مَعْرُوفا من البيع) كَمَا يعرفهُ
الْيَوْم (فَلَا إِجْمَال) لمعلوميته (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم
يعلموه إِلَى آخِره (فكحرم بعض البيع) أَي فَهُوَ مُجمل
يتَوَقَّف الْعَمَل بِهِ على الْبَيَان مَعَ اعْتِبَار
حَقِيقَة المُرَاد بِهِ (وَإِخْرَاج سَارِق أقل من) مِقْدَار
قيمَة (الْمِجَن) الْمشَار إِلَيْهِ فِي حَدِيث أَيمن لم تقطع
الْيَد على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا
فِي عَن الْمِجَن، وثمنه يَوْمئِذٍ دِينَار كَمَا أَشَارَ
إِلَيْهِ بقوله (مدعى كل معلومية كمية ثَلَاثَة أَو عشرَة) عطف
بَيَان لكمية (فَلَيْسَ) تَخْصِيص عُمُوم الْآيَة بِهِ
(مِنْهُ) أَي من التَّخْصِيص بالمجمل فَلَا يسْقط الِاحْتِجَاج
بِآيَة السّرقَة على قطع السَّارِق (أَو) سلمنَا أَنه مِنْهُ
لكِنهمْ (توقفوا أَولا) فِي الْعَمَل بِآيَة السّرقَة (حَتَّى
بَان) مِقْدَار قيمَة الْمِجَن (على الِاخْتِلَاف) فعملوا بهَا
عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد رَحِمهم الله فِي أظهر
رواياته يقطع إِذا سرق ثَلَاثَة دَرَاهِم أَو ربع دِينَار،
وَعِنْدنَا بِعشْرَة دَرَاهِم (وَقَوله) أَي قَول فَخر
الْإِسْلَام فِي التَّخْصِيص بالمعلوم يبطل الْعُمُوم لصِحَّة
تَعْلِيله (وبالتعليل لَا يدْرِي قدر الْمُتَعَدِّي إِلَيْهِ
إِن أَرَادَ) بِهِ لَا يدْرِي ذَلِك (بِالْفِعْلِ) أَي وَقت
التَّعْلِيل (لَيْسَ بضائر) الأولى فَلَيْسَ: أَي لَا يضر
شَيْء من الْأَحْوَال (إِلَّا إِذا لزم فِي حجيته) أَي
الْكَلَام الْمَخْصُوص (فِي الْبَاقِي تعين عدده) أَي
الْبَاقِي (لَكِن اللَّازِم) فِي حجيته فِيهِ (تعين النَّوْع
وَالتَّعْلِيل يفِيدهُ) أَي يعين النَّوْع (لِأَنَّهَا) أَي
الْعلَّة لإِخْرَاج الْبَعْض حِينَئِذٍ (وصف ظَاهر منضبط،
فَمَا تحققت فِيهِ) من المندرج تَحت الْعَام (ثَبت خُرُوجه،
وَمَا لَا) يتَحَقَّق فِيهِ (فتحت الْعَام) بَاقٍ (أَو)
أَرَادَ أَنه (قبله) أَي قبل التَّعْلِيل (أَي بِمُجَرَّد علم
الْمُخَصّص) أَي بِالْعلمِ بِهِ من غير أَن يتَعَيَّن الْوَصْف
الْمُعَلل بِهِ بعد (يجب التَّوَقُّف) فِي الْبَاقِي (للْحكم
بِأَنَّهُ) أَي الْمخْرج (مُعَلل ظَاهرا) إِذْ الأَصْل فِي
الْأَحْكَام التَّعْلِيل (وَلَا يدْرِي إِلَى آخِره) أَي
(1/315)
قدر الْمُتَعَدِّي إِلَيْهِ نوعا، وَفِي
نسخ الْمَتْن هَهُنَا أَو لَا يدْرِي وَهُوَ سَهْو من
النَّاسِخ: إِذْ لَا معنى لَهُ إِلَّا بتكلف رَكِيك لَا
يحْتَاج إِلَيْهِ (فَقَوْل الْكَرْخِي وَغَيره من الواقفية)
كالجرجاني وَعِيسَى ابْن أبان على مَا سبق ذكره مَعَ تَفْسِير
لمرادهم، وَقَول الْكَرْخِي خبر مَحْذُوف: أَي فَهَذَا قَول
الْكَرْخِي، وَالْجُمْلَة جَزَاء الشَّرْط على الشق الْأَخير
من الترديد (لِأَن مَعْنَاهُ) أَي معنى قَول الْكَرْخِي
(يتَوَقَّف) الْعَمَل بِالْعَام الْمَذْكُور (لذَلِك) أَي
لِأَنَّهُ لَا يدْرِي قدر المتعدى إِلَيْهِ (إِلَى أَن يستنبط)
الْوَصْف المناط لإِخْرَاج الْبَعْض (فَيعلم الْمخْرج
بِالْقِيَاسِ حِينَئِذٍ لما ذكرنَا فِي الْمَجْهُول) . قَوْله
لما ذكرنَا إِلَى آخِره تَعْلِيل لما فهم ضمنا من سُقُوط
الحجية قبل الْعلم بِمِقْدَار المتعدى إِلَيْهِ، والموصول
إِشَارَة إِلَى قَوْله: وَكَون السّمع حجَّة فرع معلومتيه
بنفيها الخ (وَزِيَادَة الْعَمَل) الْإِضَافَة بَيَانِيَّة
(بِالْعَام) صلَة الْعَمَل (قبل الْبَحْث عَن الْمُخَصّص) ظرف
للْعَمَل، ثمَّ فسر الْمُخْتَص بقوله أَعنِي (أَعنِي الْقيَاس
الَّذِي حكم بِهِ) أَي الَّذِي تضمنه الْمُخَصّص (للْحكم
بمعلولية التَّخْصِيص) لما ذكر من الأَصْل فِي الْأَحْكَام
التَّعْلِيل، قَوْله للْحكم تَعْلِيل القَوْل لقَوْله حكم
بِهِ، وَقَوله وَزِيَادَة الْعَمَل مَعْطُوف على مَا ذكرنَا:
أَي ولزيادة أَمر آخر: وَهُوَ عدم جَوَاز الْعَمَل بِالْعَام
قبل الْبَحْث عَن الْمُخَصّص على مَا سبق أَنه أجمع عَلَيْهِ
لعدم الِاعْتِدَاد بقول الصَّيْرَفِي، وَقَوله أَعنِي تَفْسِير
للمخصص فَمَا نَحن فِيهِ (وَهُوَ) أَي قَول فَخر الْإِسْلَام
(حِينَئِذٍ) أَي حِين فسر بِمَا ذكر (أحسن) لكنه لم يردهُ
وَإِلَّا لم يعسر لكَونه حجَّة ظنية (وَقَول الْإِسْقَاط)
للعام الْمَخْصُوص (مُطلقًا) أَي فِي أخص الْخُصُوص وَغَيره
(إِن صَحَّ) أَن أحدا ذهب إِلَيْهِ (وَهُوَ) أَي القَوْل بِهِ
(بعيد) وَإِن نَقله الْآمِدِيّ وَغَيره (سَاقِط لقطعيته) أَي
الْعَام (فِي أخص الْخُصُوص) مَعْلُوما كَانَ الْمُخْتَص أَو
مَجْهُولا للْقطع بتناوله بعد التَّخْصِيص لَا يتَطَرَّق
إِلَيْهِ احْتِمَال الْخُرُوج (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن
كَذَلِك وَجَاز إِخْرَاجه (كَانَ) التَّخْصِيص (نسخا) لَا
تَخْصِيصًا.
مسئلة
(الْقَائِلُونَ بِالْمَفْهُومِ) الْمُخَالف (خصوا بِهِ) أَي
بِالْمَفْهُومِ (الْعَام) فِي الشَّرْح العضدي من قَالَ
بِالْمَفْهُومِ جوز تَخْصِيص الْعَام بِالْمَفْهُومِ كَمَا
جوزه بالمنطوق (كفى الْغنم زَكَاة) فَإِن الْغنم عَام
مُسْتَغْرق لما يصلح لَهُ إِذا ضم (مَعَ فِي الْغنم
السَّائِمَة زَكَاة) فَإِن هَذَا بمفهومه يدل على أَنه لَيْسَ
فِي المعلوفة الزَّكَاة، وَبِهَذَا الْمَفْهُوم يخص عُمُوم
الأول، وَفِي الشَّرْح الْمَذْكُور، فَإِن قيل لَا نسلم
الْمُعَارضَة، فَإِن الْمَنْطُوق أقوى، والأضعف يمحى مَعَ
الْأَقْوَى فَلَا يُعَارضهُ قُلْنَا الْجمع بَين
الدَّلِيلَيْنِ أولى من إبِْطَال أَحدهمَا وَإِن كَانَ أَضْعَف
كَغَيْرِهِ من المخصصات: فَإنَّا نعمل بهما جمعا بَين
الْأَدِلَّة
(1/316)
وَلَا يشْتَرط التَّسَاوِي: أَي بَين
الْعَام وَالْمَفْهُوم، لِأَن كلا مِنْهُمَا ظَنِّي الدّلَالَة
عِنْد الْقَائِلين بِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لجمع
الظنية إيَّاهُمَا) أَي الْعَام وَالْمَفْهُوم، لِأَن كلا
مِنْهُمَا ظَنِّي الدّلَالَة (ومساواتهما) أَي الْمَخْصُوص
والمخصوص بِهِ (ظنا) تَمْيِيز عَن نِسْبَة الْمُسَاوَاة إِلَى
الضَّمِير: أَي مُسَاوَاة ظنيهما قُوَّة (لَيْسَ شرطا) فِي
التَّخْصِيص حَتَّى لَا يصلح الأضعف لِأَن تَخْصِيص الْأَقْوَى
من خبر الْوَاحِد (للاتفاق عَلَيْهِ) أَي التَّخْصِيص (بِخَبَر
الْوَاحِد للْكتاب بعد تَخْصِيصه) أَي اتَّفقُوا على أَنه يجوز
تَخْصِيص الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد بعد أَن خصص بقطعي، مَعَ
أَن الْكتاب إِن خصص أقوى من خبر الْوَاحِد، وَإِنَّمَا
ارتكبوا ذَلِك (للْجمع) بَين الْأَدِلَّة المتعارضة،
وَإِنَّمَا قَالَ بعد تَخْصِيصه ليَصِح دَعْوَى الِاتِّفَاق،
فَإِنَّهُ لَا يجوز عندنَا تَخْصِيص الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد
ابْتِدَاء كَمَا سَيَأْتِي (وَالتَّحْقِيق أَن مَعَ ظنية
الدّلَالَة فيهمَا) أَي الْعَام وَالْمَفْهُوم الْمُخَالف
(يُقَوي ظن الْخُصُوص) فِي الْعَام (لغلبته) أَي الْخُصُوص
(فِي الْعَام) فَلَا يكون الْعَام أقوى من الْمَفْهُوم ظنا.
مَسْأَلَة
(الْعَادة) وَهِي الْأَمر المتكرر وَلَو من غير علاقَة عقلية
وَالْمرَاد هُنَا (الْعرف العملي) لقوم (مُخَصص) للعام
الْوَاقِع فِي تخاطبهم (عِنْد الْحَنَفِيَّة، خلافًا
للشَّافِعِيَّة كحرمت الطَّعَام، وعادتهم) أَي المخاطبين (أكل
الْبر انْصَرف) الطَّعَام (إِلَيْهِ) أَي الْبر (وَهُوَ) قَول
الْحَنَفِيَّة (الْوَجْه، إِمَّا) تَخْصِيص الْعَام
(بِالْعرْفِ القولي) وَهُوَ أَن يتعارف عِنْد قوم فِي إِطْلَاق
لفظ إِرَادَة بعض أَفْرَاده مثلا بِحَيْثُ لَا يتَبَادَر عِنْد
سَمَاعه إِلَّا ذَلِك (فاتفاق) أَي فتخصيص الْعَام بِهِ عِنْد
ذَلِك مُتَّفق عَلَيْهِ (كالدابة على الْحمار، وَالدِّرْهَم
على النَّقْد الْغَالِب لنا الِاتِّفَاق على فهم) لحم
(الضَّأْن بِخُصُوصِهِ فِي: اشْتَرِ لَحْمًا وَقصر الْأَمر)
بشرَاء اللَّحْم (عَلَيْهِ) أَي الضَّأْن (إِذا كَانَت
الْعَادة أكله فَوَجَبَ) كَون الْعرف العملي مُخَصّصا (كالقولي
لِاتِّحَاد الْمُوجب) وَهُوَ تبادره بِخُصُوصِهِ من من
إِطْلَاق اللَّفْظ (وإلغاء الْفَارِق) بَينهمَا
(بِالْإِطْلَاقِ والعموم) مَحل الِاتِّفَاق، فَإِن لَحْمًا فِي
اشْتَرِ لَحْمًا مُطلق، وَلَيْسَ بعام وَهُوَ ظَاهر والعموم
فِي الْمُبْتَاع فِيهِ فِي حرمت الطَّعَام لظُهُور أَنه لَا
أثر لهَذَا الْفَارِق (وَكَون دلَالَة الْمُطلق على الْمُقَيد
دلَالَة الْجُزْء على الْكل و) دلَالَة (الْعَام على الْفَرد
قلبه) فَإِن لَحْمًا جُزْء من لحم الضَّأْن، وَالطَّعَام
الدَّال على كل طَعَام لاستغراقه الْأَفْرَاد كل وَالْبر جُزْء
مِنْهُ (كَذَلِك) أَي فَارق ملغى، إِذْ لَا أثر لَهُ بعد
اشتراكهما فِي تبادر الْخُصُوص (تَنْبِيه: مثل جمع من
الْحَنَفِيَّة) مِنْهُم فَخر الْإِسْلَام (لذَلِك) أَي للتخصيص
بِالْعَادَةِ (بِالنذرِ بِالصَّلَاةِ وَالْحج ينْصَرف إِلَى
الشَّرْعِيّ) مِنْهُمَا (وَقد يخال) أَي يظنّ كل مِنْهُمَا
(غير مُطَابق)
(1/317)
لَهُ، وَإِنَّمَا هما مثالان للتخصيص
بِالْعرْفِ القولي (وَالْحق صدقهما) أَي التَّخْصِيص بِكُل من
العرفين (عَلَيْهِمَا) أَي المثالين، وَلَا يُقَال وضع
الْحَنَفِيَّة لهَذِهِ المسئلة يُشِير إِلَى مَا يخال (إِذْ
وضعهم) لَهَا هَكَذَا (تتْرك الْحَقِيقَة) بِخَمْسَة أَشْيَاء
(عَاما) كَانَ اللَّفْظ (أَو غَيره بِدلَالَة الْعَادة) هَذَا
أحد الْخَمْسَة (وبدلالة اللَّفْظ فِي نَفسه) هَذَا
ثَانِيهمَا، وفسروه كَمَا قَالَ (أَي إنباء الْمَادَّة) أَي
مَادَّة اللَّفْظ (عَن كَمَال فيخص) اللَّفْظ (بِمَا فِيهِ) من
الْكَمَال (كحلفه لَا يَأْكُل لَحْمًا: وَلَا نِيَّة معممة)
أَي وَالْحَال لَيْسَ هُنَاكَ نِيَّة تَقْتَضِي عُمُوم
اللَّحْم لما يصلح لَهُ (لَا يدْخل السّمك) فِي حلفه إِلَّا
فِي رِوَايَة شَاذَّة عَن أبي يُوسُف لقَوْله تَعَالَى -
{لتأكلوا مِنْهُ لَحْمًا طريا} - أَي من الْبَحْر سمكًا،
وَإِنَّمَا لم يدْخل (لإنبائه) أَي اللَّحْم (عَن الشدَّة
بِالدَّمِ) لدلَالَة مادته على الشدَّة وَالْقُوَّة، فَإِنَّهُ
سمى لَحْمًا لقُوَّة فِيهِ لتولده من الدَّم الَّذِي هُوَ أقوى
الأخلاط فِي الْحَيَوَان، وَلَيْسَ للسمك دم لعيشه فِي المَاء
وحله بِلَا ذَكَاة، فَإِن الدموي لَا يعِيش فِيهِ وَلَا يحل
بِدُونِهَا (وَقد يدْخل) هَذَا (فِي الْعرفِيّ) فِي
التَّحْقِيق عَامَّة الْعلمَاء تمسكوا فِي هَذِه المسئلة
بِالْعرْفِ (نعم لَو انْفَرد) إنباء اللَّفْظ بِالْإِخْرَاجِ
من الْعَام أَو الْمُطلق (أخرج) يَعْنِي إِمْكَان حُصُول
الْخُرُوج بالإنباء لَا يَنْفِي دُخُوله فِي الْعرفِيّ،
غَايَته أَنه إِذا انْفَرد أخرج (وَلَو عَارضه) أَي الإنباء
عرف (قدم الْعرف) على الإنباء لرجحان اعْتِبَاره عَلَيْهِ
(وَقَوله كل مَمْلُوك لي حر لَا يعْتق مكَاتبه) وَيعتق مدبره
وَأم وَلَده لنُقْصَان الْملك فِي الْمكَاتب لعدم مملوكيته يدا
لَا رَقَبَة، وَلِهَذَا لَا يحل وَطْء الْمُكَاتبَة وَلم
يتَنَاوَل الْملك عِنْد الْإِطْلَاق إِلَّا الْكَامِل عرفا،
(أَو) إنباء الْمَادَّة (عَن نقص) فِي الْمُسَمّى (فِي
يتَنَاوَل) اللَّفْظ الْمُسَمّى (ذَا كَمَال كحلفه لَا يَأْكُل
فَاكِهَة لَا يَحْنَث بالعنب، لِأَن التَّرْكِيب دَال على
التّبعِيَّة والقصور فِي الْمَقْصُود الْأَصْلِيّ) من
المأكولات: وَهُوَ التغذي، لِأَن الْفَاكِهَة اسْم من التفكه،
وَهُوَ التنعم، وَهُوَ إِنَّمَا يكون بِأَمْر زَائِد على
الْمُحْتَاج إِلَيْهِ أَصَالَة مِمَّا يكون بِهِ القوام
فَإِنَّهُ لَا يُسمى منعما، وَالْعِنَب مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ
القوام حَتَّى يَكْتَفِي بِهِ فِي بعض الْمَوَاضِع، وَمثله
الرطب وَالرُّمَّان، وَهَذَا عِنْد أبي حنيفَة رَحمَه الله،
وَقَالا: يَحْنَث لوُجُود معنى التفكه فِيهِ، بل هِيَ أعز
الْفَوَاكِه والتنعم بهَا يفوق التنعم بغَيْرهَا من
الْفَوَاكِه، وَقَالَ الْمَشَايِخ هَذَا اخْتِلَاف زمَان فَفِي
زَمَانه مَا كَانَت تعد من الْفَوَاكِه، وَفِي زَمَاننَا تعد
مِنْهَا (وَبِمَعْنى من الْمُتَكَلّم) هَذَا ثَالِث
الْخَمْسَة: أَي وبدلالة معنى من صِفَات الْمُتَكَلّم (كَانَ
خرجت فطالق عقيب تهيئها لخرجة لجت فِيهَا) أَي حرصت على تِلْكَ
الخرجة (لَا يَحْنَث بِهِ) أَي بخروجها (بعد سَاعَة، وَتسَمى
يَمِين الْفَوْر) هُوَ مَأْخُوذ من فوران الْقدر، سميت
بِاعْتِبَار صدورها من فوران الْغَضَب، أَو لِأَن الْفَوْر
استعير للسرعة، ثمَّ سمى بِهِ الْحَالة الَّتِي لَا لبث
فِيهَا، يُقَال أخرج من فوره: أَي من سَاعَته، وَأول من
استخرجها أَبُو حنيفَة
(1/318)
وَكَانُوا قبل ذَلِك يَقُولُونَ بتأييده
كلا أفعل كَذَا، وَلَا أفعل الْيَوْم كَذَا: وَهِي مُؤَبّدَة
لفظا مُؤَقَّتَة معنى لتقييده بِالْحَال لكَونهَا جَوَابا
لكَلَام يتَعَلَّق بِالْحَال كَذَا قَالُوا (وَحَقِيقَته) أَي
حَقِيقَة الْمُخَصّص فِي هَذَا الْقسم (دلَالَة حَالهمَا) أَي
الْمُتَكَلّم، والمخاطب ككونها ملحة على الْخُرُوج فِي تِلْكَ
الْحَالة، وَكَونه ملحا على الْمَنْع حِينَئِذٍ (وبدلالة مَحل
الْكَلَام) لكَون الْمحل غير قَابل للْحَقِيقَة، فَإِن
الْعَاقِل لَا يقْصد مَا لَا يقبله الْمحل صِيَانة لكَلَامه من
اللَّغْو وَالْكذب، فَتعين إِرَادَة الْمَعْنى الْمجَازِي،
وَهَذَا رَابِع الْخَمْسَة (كَأَنَّمَا الْأَعْمَال
بِالنِّيَّاتِ، وَرفع الْخَطَأ) فَإِن نفس الْعَمَل يُوجد
بِدُونِ النِّيَّة وَنَفس الْخَطَأ لم يرفع فَتعذر إِرَادَة
الْحَقِيقَة (وَقد يدرج هَذَا فِي) الْمُخَصّص (الْعقلِيّ)
فَإِن الْعقل يحِيل إِرَادَة الْحَقِيقَة لما ذكر قيل لَا نسلم
هَذَا فِي الْأَعْمَال، إِذْ لَا يلْزم تَقْدِير الْمُتَعَلّق
الْعَام كالحصول لجَوَاز تَقْدِيره مُتَعَلق خَاص بِقَرِينَة
الْمقَام، نَحْو: مَا الْأَعْمَال مُعْتَبرَة لشَيْء من
الْأَشْيَاء إِلَّا بِالنِّيَّاتِ. قَالَ النَّوَوِيّ رَحمَه
الله: بل التَّقْدِير مَا الْأَعْمَال محسوبة بِشَيْء من
الْأَشْيَاء كالشروع فِيهَا والتلبس بهَا إِلَّا بِالنِّيَّاتِ
(وبالسياق) أَي وبدلالة سوق الْكَلَام على أَن المُرَاد غير
الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ بِأَن يكون هُنَاكَ قرينَة لفظية
سَابِقَة عَلَيْهِ أَو مُتَأَخِّرَة عَنهُ، والسباق بِالْبَاء
الْمُوَحدَة مُخْتَصّ بالمتقدمة، وَهَذَا خَامِس الْخَمْسَة
(كطلق امْرَأَتي إِن كنت رجلا، فَإِنَّهُ لَا يُفِيد
التَّوْكِيل بِهِ) أَي بتطليقها الَّذِي هُوَ حَقِيقَة طلق
امْرَأَتي لقَرِينَة السِّيَاق على مَا يدل عَلَيْهِ قَوْله
إِن كنت رجلا عرفا (وَيَأْتِي التَّخْصِيص بِفعل الصَّحَابِيّ)
فِي المسئلة الثَّالِثَة وَفِي مبَاحث السّنة.
مسئلة
(إِفْرَاد فَرد من الْعَام بِحكمِهِ) أَي الْعَام: يَعْنِي
إِذا علق على عَام حكم ثمَّ علق على فَرد من أَفْرَاد ذَلِك
الْعَام ذَلِك الحكم (لَا يخصصه) أَي الْفَرد الْمَذْكُور
ذَلِك الْعَام (وَهُوَ) أَي كَون إِفْرَاد فَرد مِنْهُ
بِحكمِهِ مُخَصّصا (قلب الْمُتَعَارف فِي التَّخْصِيص، وَهُوَ)
أَي الْمُتَعَارف فِيهِ (قصره) أَي الحكم (على غير مُتَعَلق
دَلِيله) فَإِن مُتَعَلق دَلِيل التخصص هُوَ الْفَرد الَّذِي
يخرج من الْعَام وَيقصر الحكم على غَيره، وَهُوَ الْبَاقِي بعد
إِخْرَاجه من الْأَفْرَاد، وَذَلِكَ دَلِيل التَّخْصِيص يدل
على أَنه خَارج من حكم الْعَام، فَهُوَ مُتَعَلّقه (بل) حَاصِل
(هَذَا) الْإِفْرَاد (قصره) أَي الحكم (عَلَيْهِ) أَي على
مُتَعَلق دَلِيل التَّخْصِيص، وَهُوَ الْفَرد الَّذِي أفرد
بِحكمِهِ، فَلَو جعل مَا أفرد بالحكم مُخَصّصا، وَهَذَا
الْإِفْرَاد دَلِيلا للتخصيص وَلَا شكّ أَن الْمَقْصُور
عَلَيْهِ حِينَئِذٍ هُوَ عين مَا أفرد لزم الْمَقْصُور
عَلَيْهِ مُتَعَلق دَلِيل التَّخْصِيص، وَهُوَ قلب
الْمُتَعَارف (مِثَاله أَيّمَا أهاب) دبغ فقد طهر (مَعَ قَوْله
فِي شَاة مَيْمُونَة دباغها طهورها) فَلَا يخص حكم
الطّهُورِيَّة
(1/319)
بالدباغ جلد شَاة مَيْمُونَة من بَين
الأهب، وَتكلم الشَّارِح فِي الحَدِيث الثَّانِي وَذكر مَا
يُفِيد مَعْنَاهُ (وَمِنْه) أَي من إِفْرَاد فَرد من الْعَام
بِحكمِهِ (أَو شبهه) مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم (جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا
مَعَ) مَا فِي رِوَايَة لمُسلم رَوَاهُ. " وَجعلت لنا الأَرْض
كلهَا مَسْجِدا (وتربتها) لنا طهُورا إِذا لم تَجِد المَاء ".
قَالَ الشَّارِح إِنَّمَا قَالَ أَو شبهه لجَوَاز أَن يُقَال
التُّرَاب جُزْء من الأَرْض لَا جزئي لَهَا، وَإِنَّمَا
بَينهمَا شبه من حَيْثُ أَن كلا مِنْهُمَا بعض من الْمُسَمّى
(لنا لَا تعَارض) بَين إِثْبَات الحكم للْكُلّ وإثباته
للْبَعْض (فَوَجَبَ اعتبارهما فَلَا يخص الطّهُورِيَّة
التُّرَاب من أَجزَاء الأَرْض قَالُوا الْمَفْهُوم مُخَصص)
للعام كَمَا مر، وَمَفْهُوم مَا أفرد بالحكم نفى الحكم عَن
سَائِر أَفْرَاده إِذا لَا فَائِدَة لذكره إِلَّا ذَلِك
فَيخْتَص حكم الطّهُورِيَّة بِشَاة مَيْمُونَة فِي عُمُوم
أَيّمَا أهاب (قُلْنَا) دلَالَة الْمَفْهُوم (مَمْنُوع عِنْد
الْحَنَفِيَّة، وَلَو سلم فَهَذَا) أَي مَفْهُوم إِفْرَاد فَرد
من الْعَام بِحكمِهِ (مَفْهُوم لقب مَرْدُود) عِنْد
الْجُمْهُور كَمَا تقدم، وَفَائِدَة ذكر ذَلِك الْفَرد نفى
احْتِمَال تَخْصِيصه من الْعَام، وَهَذَا إِذا لم يكن لَهُ
مَفْهُوم مُخَالفَة إِلَّا اللقب وَأما إِذا كَانَ لَهُ غَيره
فَلَا يتم الْجَواب على التَّسْلِيم كَذَا ذكره الشَّارِح،
وَقد يُجَاب عَنهُ بِأَن النزاع فِي أَن مُجَرّد إِفْرَاد فَرد
من الْعَام بِحكمِهِ هَل يخصص أَولا، وَاعْتِبَار الْمَفْهُوم
أمرا زَائِدا على الْإِفْرَاد بالحكم فَتَأمل.
مسئلة
(رُجُوع الضَّمِير) الْوَاقِع بعد الْعَام (إِلَى الْبَعْض) من
أَفْرَاده (لَيْسَ تَخْصِيصًا، مثل والمطلقات) يَتَرَبَّصْنَ
(مَعَ وبعولتهن) أَحَق بردهن، فَإِن المطلقات يعم البائنات
والرجعيات وَالضَّمِير للرجعيات فَقَط لعدم إِمْكَان الرَّد
فِي البائنات (فَلَا يخص التَّرَبُّص الرجعيات) بل يتَعَلَّق
بِهن وبالبائنات عِنْد أَكثر الشَّافِعِيَّة وَاخْتَارَهُ
الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب والبيضاوي (وَأَبُو الْحُسَيْن
وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ) قَالَا (تَخْصِيص) لَهُ، قيل
وَعَلِيهِ أَكثر الْحَنَفِيَّة وَبَعض الشَّافِعِيَّة وَبَعض
الْمُعْتَزلَة، وعزى إِلَى الشَّافِعِي رَحمَه الله (وَهُوَ
الْأَوْجه، وَقيل بِالْوَقْفِ) عزى إِلَى إِمَام الْحَرَمَيْنِ
وَغَيره (لنا) على الْمُخْتَار: وَهُوَ أَنه تَخْصِيص لَهُ
(حَقِيقَته) أَي الضَّمِير (رابط لِمَعْنى مُتَأَخّر بمتقدم
أَعم من مَذْكُور أَو مُقَدّر بِدَلِيل) يدل على تَقْدِيره
(على أَنه) أَي الرابط مُتَعَلق بربط (هُوَ) أَي الْمُتَقَدّم
(فَلَا يتَصَوَّر الِاخْتِلَاف) بَينهمَا (وَمَا قيل) فِي وَجه
أَنه لَا يخص (التَّجَوُّز فِيهِ) أَي الضَّمِير (غير ملزوم
للتجوز فِي الأول) أَي الْعَام: يَعْنِي لَا يلْزم من كَون
الضَّمِير مجَازًا فِي الْبَعْض كَون الْعَام مجَازًا فِيهِ
(فبعيد إِذْ رُجُوعه) أَي الضَّمِير (إِلَى لفظ الأول
بِاعْتِبَار
(1/320)
مَعْنَاهُ فَلَا يتَصَوَّر كَونه) أَي
الضَّمِير (مجَازًا) فِي الْبَعْض ومرجعه الَّذِي هُوَ الْعَام
على حَقِيقَته وَهُوَ الْعُمُوم (فَإِذا خص) الضَّمِير
(الرجعيات) من المطلقات (مَعَ كَونه) أَي الضَّمِير (عبارَة
عَن المطلقات فهن) أَي الرجعيات (المُرَاد بِهِ) أَي الْعَام
(وَهُوَ) المطلقات وَهُوَ أَي كَونه المُرَاد بالمطلقات
الرجعيات لَا غير هُوَ (التَّخْصِيص) للمطلقات (وَبِه) أَي
بِهَذَا الْجَواب (ظهر أَن قَوْلهم) أَي الْقَائِلين بِعَدَمِ
التَّخْصِيص (فِي جَوَاب قَول الْوَاقِف) لزم تَخْصِيص
الظَّاهِر وَالضَّمِير، دفعا للمخالفة، وَتَخْصِيص أَحدهمَا
دون الآخر تحكم إِذْ (لَا ترجح لاعْتِبَار الْخُصُوص فِي
أَحدهمَا بِعَيْنِه) فَوَجَبَ التَّوَقُّف ومقول قَوْلهم (ان
دلَالَة الضَّمِير أَضْعَف) من دلَالَة الظَّاهِر لتوقف
الضَّمِير عَلَيْهِ (فالتغيير فِيهِ) أَي الضَّمِير (أسهل) من
التَّغْيِير فِي الظَّاهِر فترجح اعْتِبَار الْخُصُوص فِي
الضَّمِير (لَا يُفِيد) خبران، وَذَلِكَ لما ظهر من بَيَان
حَقِيقَة الضَّمِير المستدعى اتحادهما (وَامْتنع الْخلاف)
وَفِي نُسْخَة الِاخْتِلَاف بَين الضَّمِير ومرجعه (فِي
الْآيَة) (فَبَطل تَرْجِيحه) أَي تَرْجِيح قَول الْقَائِلين
بِعَدَمِ التَّخْصِيص (بِأَنَّهُ) أَي تَخْصِيص الضَّمِير (لَا
يسْتَلْزم تَخْصِيص الأول، بِخِلَاف قلبه) فَإِنَّهُ يسْتَلْزم
تَخْصِيص الأول تَخْصِيص الضَّمِير إِذْ يسْتَلْزم تَخْصِيص كل
مِنْهُمَا تَخْصِيص الآخر لما عرفت من وجوب الِاتِّحَاد
بَينهمَا (وَاللَّازِم فِي الْآيَة إِمَّا عوده) أَي الضَّمِير
(على مُقَدّر هُوَ المتضمن) على صِيغَة الْمَفْعُول: وَهُوَ
الرجعيات (مدلولا) تضمنيا (للمتضمن) على صِيغَة الْفَاعِل:
وَهُوَ المطلقات (وَأما عَلَيْهِ) أَي المتضمن على صِيغَة
الْفَاعِل: وَهُوَ المطلقات مرَادا بِهن الرجعيات (مجَازًا)
عَن إِطْلَاق الْكل وَإِرَادَة الْبَعْض (وَوُجُوب تربص غير
الرجعيات بِدَلِيل آخر) كالإجماع وَالْقِيَاس.
مسئلة
لما كَانَت الْمقَالة فِي المبادئ اللُّغَوِيَّة، وَكَانَ كل
مَا ذكر من الْمسَائِل مُتَعَلقَة بالألفاظ الْمَوْضُوعَة
بِاعْتِبَار ذَاتهَا، أَو دلالتها، أَو مقايستها إِلَى لفظ آخر
أَو مدلولها أَو اسْتِعْمَالهَا على التَّفْصِيل الَّذِي سبق،
وَلم تكن هَذِه المسئلة من هَذَا الْقَبِيل، أَشَارَ إِلَيْهِ
بقوله (وَلَيْسَت لغوية) وَالتَّقْدِير: هَذِه مسئلة (مبدئية)
بل استطرادية، فَإِن ذكرهَا فِي هَذِه الْمقَالة على سَبِيل
الاستطراد، لِأَنَّهَا لَو كَانَت مِمَّا تتَعَلَّق باللغة
كَانَت مثل غَيرهَا مَذْكُورَة أَصَالَة، لَا على سَبِيل
التّبعِيَّة والاستطراد، وَيجوز أَن يُرَاد بمبدئها مَا أُشير
إِلَيْهِ فِي عنوان الْمقَالة. قَالَ (الْأَئِمَّة
الْأَرْبَعَة) والأشعري وَأَبُو هَاشم وَأَبُو الْحُسَيْن
(يجوز التَّخْصِيص بِالْقِيَاسِ) قَطْعِيا كَانَ أَو ظنيا
(إِلَّا أَن الْحَنَفِيَّة) قيدوا جَوَاز التَّخْصِيص بِهِ
(1/321)
(بِشَرْط تَخْصِيص) الْعَام (بِغَيْرِهِ)
أَي غير الْقيَاس من سَمْعِي أَو عَقْلِي (وتقييده) أَي
التَّخْصِيص بِغَيْرِهِ (بالقبلية) أَي بِأَن يكون قبل
التَّخْصِيص بِالْقِيَاسِ كَمَا وَقع فِي عبارَة كثير (لَا
يتَصَوَّر) وَذَلِكَ لِأَن تَخْصِيص الْقيَاس بِإِخْرَاجِهِ
بعض أَفْرَاد الْعَام عَن حكمه إِلْحَاق لَهُ بِأَصْل مَنْصُوص
فِي حكم مُخَالف لحكم الْعَام لاشْتِرَاكهمَا فِي الْعلَّة،
فالمخصص حَقِيقَة ذَلِك النَّص، وَالْقِيَاس إِنَّمَا هُوَ
مظهر لذَلِك التَّخْصِيص، وَلَا شكّ أَن ذَلِك النَّص مُقَارن
للعام، وَإِذن لَا يتَصَوَّر مُخَصص آخر قبله، وَهُوَ ظَاهر
(وَتَقَدَّمت إِشَارَة إِلَيْهِ) فِي الْبَحْث الْخَامِس من
الْعَام حَيْثُ قَالَ عِنْد اشْتِرَاط الْحَنَفِيَّة مُقَارنَة
الْمُخَصّص الأول للُزُوم النّسخ على تَقْدِير تراخيه
وَالْوَجْه أَن الثَّانِي نَاسخ أَيْضا لَا الْقيَاس إِذْ لَا
يتَصَوَّر تراخيه (فَالْمُرَاد بالقبلية) فِي التَّخْصِيص
بِالْغَيْر (ظُهُور الْغَيْر سَابِقًا) على ظُهُوره. وَقَالَ
(ابْن سُرَيج إِن كَانَ) الْقيَاس (جليا) جَازَ تَخْصِيصه،
وَإِن كَانَ خفِيا لَا يجوز، وَفِي تَفْسِير الْجَلِيّ
مَذَاهِب، وَالرَّاجِح أَنه قِيَاس الْمَعْنى وَهُوَ
الْمَشْهُور، والخفي قِيَاس الشّبَه، وَالَّذِي مَشى عَلَيْهِ
ابْن الْحَاجِب أَنه الَّذِي قطع فِيهِ بِنَفْي تَأْثِير
الْفَارِق بَين الأَصْل وَالْفرع، والخفي مَا ظن فِيهِ ذَلِك
(وَقيل إِن كَانَ أَصله) أَي الْقيَاس: يَعْنِي الْمَقِيس
عَلَيْهِ (مخرجا من ذَلِك الْعُمُوم) أَي الْعُمُوم الَّذِي
يُرَاد تَخْصِيصه بِالْقِيَاسِ الْمَذْكُور (بِنَصّ) خصص
وَإِلَّا فَلَا، وَالْجَار مُتَعَلق بمخرجا، فَإِن الْمخْرج
بِالْقِيَاسِ حِينَئِذٍ مخرج بذلك النَّص، فَإِن حكمه مُعَلل
بعلة الْقيَاس الْمَذْكُور: وَهِي مستنبطة من ذَلِك النَّص
فَيلْزم ثُبُوت الحكم فِي الْفَرْع أَيْضا مِنْهُ (والجبائي
يقدم الْعَام مُطلقًا) جليا كَانَ الْقيَاس أَو خفِيا مخرجا
أَصله من ذَلِك الْعُمُوم أَولا، وَنَقله القَاضِي عَن
الْأَشْعَرِيّ وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ، فَلَا يخصصون الْعَام
بِالْقِيَاسِ مُطلقًا (وَتوقف إِمَام الْحَرَمَيْنِ
وَالْقَاضِي، وَقيل إِن كَانَ أَصله مُخَصّصا) أَي مخرجا من
الْعُمُوم (أَو) ثَبت (الْعلَّة بِنَصّ أَو إِجْمَاع) خصص
(وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتَحَقَّق شَيْء مِنْهَا (اعْتبرت
قَرَائِن التَّرْجِيح) فَإِن ظهر مَا يرجح الْقيَاس خص الْعَام
وَإِلَّا عمل بِعُمُومِهِ (وَاخْتَارَهُ بَعضهم) وَهُوَ ابْن
الْحَاجِب، وَإِن تَسَاويا فالوقف، وَهُوَ رَأْي الْغَزالِيّ.
وَقَالَ الرَّازِيّ أَنه حق كَذَا قيل. قَالَ السُّبْكِيّ
مَذْهَب ابْن الْحَاجِب آيل إِلَى اتِّبَاع أرجح الظنين، وَإِن
تَسَاويا فالوقف. وَقَالَ الشَّارِح لَيْسَ كَذَلِك، إِذْ لَا
وقف فِي هَذَا الْمُخْتَار لِابْنِ الْحَاجِب (لنا) على الأول
(الِاشْتِرَاك) للعام وَالْقِيَاس (فِي الظنية، أما
الثَّلَاثَة) مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد رَحِمهم الله
(فمطلقا) أَي ظَنِّي مُطلقًا فعندهم، يخص سَوَاء خص الْعَام
أَولا إِلَى آخِره، وَقد سبق أَنه قَول طَائِفَة من الحنبلية
(وَأما الطَّائِفَة من الْحَنَفِيَّة) الْقَائِلُونَ بِأَن
الْعَام قَطْعِيّ (فبالتخصيص) صَار ظنيا عِنْدهم أَيْضا لعدم
إِرَادَة مَعْنَاهُ وَاحْتِمَال إِخْرَاج بعض آخر مِنْهُ
(والتفاوت فِي الظنية غير مَانع) من تَخْصِيص
(1/322)
الأضعف للأقوى (كَمَا تقدم) فِي
التَّخْصِيص بِالْمَفْهُومِ (وَوَجهه) أَي وَجه عدم اعْتِبَار
التَّفَاوُت أَو التَّخْصِيص بِالْقِيَاسِ وَإِن كَانَ أَضْعَف
(أعمالهما) أَي الدَّلِيلَيْنِ الْعَام وَالْقِيَاس (مَا أمكن)
فَإِنَّهُ أولى من إبِْطَال أَحدهمَا، فرعاية هَذَا الْمَعْنى
أهم من الِاحْتِرَاز عَن كَون الأضعف مُخَصّصا للأقوى (أَو)
أَن يُقَال (ترجح الْمُخَصّص) على صِيغَة الْفَاعِل، وَإِن
كَانَ الْمُخَصّص على صِيغَة الْمَفْعُول أقوى مِنْهُ (هُوَ
الْوَاقِع) بالِاتِّفَاقِ (كَمَا تقدم) فِي بحث التَّخْصِيص
بِالْمَفْهُومِ بالِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ بِخَبَر الْوَاحِد
للْكتاب بعد تَخْصِيصه بقطعي (فَبَطل تَوْجِيه الْأَخير) أَي
مُخْتَار ابْن الْحَاجِب (بِكَوْن الْعلَّة كَذَلِك) أَي
ثَابِتَة بِنَصّ أَو إِجْمَاع (توجب كَون الْقيَاس كالنص
وَالْإِجْمَاع) وَإِنَّمَا بَطل (لِأَن) الْعلَّة (المستنبطة
دَلِيل، وَوُجُوب الْأَعْمَال عَام) لكل دَلِيل فَوَجَبَ
أَعمال المستنبطة كالمنصوصة (وَمَا قيل) فِي وَجه عدم
أَعمالهَا إِذا عارضت عَاما (المستنبطة إِمَّا راجحة، أَو
مُسَاوِيَة، أَو مرجوحة) بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعَام
(فالتخصيص على تَقْدِير) وَهُوَ تَقْدِير كَون المستنبطة راجحة
(وَعَدَمه) أَي التَّخْصِيص (على تقديرين) وهما تَقْدِير
الْمُسَاوَاة والمرجوحية (فيترجح) عدم التَّخْصِيص، لِأَن
وُقُوع وَاحِد من اثْنَيْنِ أقرب من وُقُوع وَاحِد معِين
وَقَوله مَا قيل مُبْتَدأ خَبره (يُوجب بطلَان الْمُخَصّص
مُطلقًا) إِذْ يُقَال كل مُخَصص إِمَّا رَاجِح على الْعَام
الْمخْرج مِنْهُ، أَو مسَاوٍ، أَو مَرْجُوح فالتخصيص على
تَقْدِير إِلَى آخِره (بل الرجحان) الْمُخَصّص على الْعُمُوم
(دائمي بأعمالهما) أَي أَعمال الدَّلِيلَيْنِ الْقيَاس،
وَالْعَام حَيْثُ أمكن (وَلما تقدم) من أَن الْوَاقِع تَرْجِيح
الْمُخَصّص وَإِن كَانَ الْمُخَصّص فِي الظَّن (ولتخصيص
الْكتاب بِخَبَر الْوَاحِد) وَهَذَا لَيْسَ بتكرار لِأَن مَا
تقدم على وَجه الْعُمُوم، وَهَذَا على وَجه الْخُصُوص. قَالَ
(الجبائي يلْزم) على تَقْدِير تَخْصِيص الْعَام بِالْقِيَاسِ
(تَقْدِيم الأضعف) وَهُوَ الْقيَاس على الْأَقْوَى، وَهُوَ
الْعَام (على مَا يَأْتِي) تَقْرِيره فِي مسئلة تعَارض
الْقيَاس وَالْخَبَر (فِي الْخَبَر، وَيَأْتِي جَوَابه، و)
يُجَاب (بِأَن ذَلِك) أَي لُزُوم مَا ذكر من تَقْدِيم الأضعف
(عِنْد إبِْطَال أَحدهمَا) من الْعَام وَالْقِيَاس (وَهَذَا)
أَي تَخْصِيص الْعَام بِالْقِيَاسِ (أعمالهما، وَبِأَنَّهُ)
أَي الجبائي (يخصص الْكتاب بِالسنةِ وبالمفهوم) الْمُخَالف
وَالسّنة أَيْضا مَعَ قصورهما فِي الْقُوَّة عَن الْكتاب وقصور
الْمَفْهُوم عَن السّنة (قَالُوا) للجبائي (أخر معَاذ
الْقيَاس) عَن السّنة (وَأقرهُ) النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم على ذَلِك. أخرج أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ
عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما بَعثه إِلَى
الْيمن: قَالَ كَيفَ تقضي إِذا عرض لَك أَمر؟ قَالَ أَقْْضِي
بِمَا فِي كتاب الله، قَالَ فَإِن لم يكن فِي كتاب الله؟ قَالَ
فبسنة رَسُول الله، قَالَ فَإِن لم يكن فِي سنة رَسُول الله؟
قَالَ أجتهد رَأْيِي فَلَا آلو: قَالَ فَضرب فِي صَدْرِي
وَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي وفْق رَسُول
(1/323)
رَسُول الله لما يرضى رَسُول الله، وَهَذَا
التَّقْدِير على تَقْدِيم الْخَبَر على الْقيَاس يدل على وجوب
تَقْدِيمه على الْقيَاس إِذا خَالفه أَو وَافقه (أُجِيب أخر
السّنة أَيْضا عَن الْكتاب وتخصيصه) أَي الْكتاب (بهَا) أَي
بِالسنةِ (اتِّفَاق) فَمَا هُوَ جوابكم فَهُوَ جَوَابنَا
(وَأَيْضًا لَيْسَ فِيهِ) أَي فِي حَدِيث معَاذ (مَا يمْنَع
الْجمع) بَين الْقيَاس وَالْعَام (عِنْد التَّعَارُض، والتخصيص
مِنْهُ) أَي من الْجمع بَينهمَا، غَايَة مَا فِيهِ عدم
إبِْطَال السّنة بِالْقِيَاسِ، وَنحن قَائِلُونَ بِهِ على أَن
حَدِيثه. قَالَ التِّرْمِذِيّ فِيهِ غَرِيب، وَإِسْنَاده
لَيْسَ عِنْدِي بِمُتَّصِل. وَقَالَ البُخَارِيّ لَا يَصح
لَكِن شهرته وتلقى الْعلمَاء لَهُ بِالْقبُولِ لَا يقعده عَن
دَرَجَة الحجية، وَمن ثمَّ أطلق جمَاعَة من الْفُقَهَاء
كالباقلاني والطبري وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ عَلَيْهِ
الصِّحَّة، وَأخرج لَهُ شَوَاهِد من الصَّحِيح وَالْحسن (وَله)
أَي الجبائي (أَيْضا دَلِيل اعْتِبَار الْقيَاس الْإِجْمَاع،
وَلَا إِجْمَاع عِنْد مُخَالفَته) أَي الْقيَاس (الْعُمُوم)
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي وجوب الْعَمَل بِهِ فَامْتنعَ الْعَمَل
بِهِ، إِذْ لَا يثبت حكم بِلَا دَلِيل (وَالْجَوَاب إِذا
ثبتَتْ حجيته) أَي الْقيَاس (بِهِ) أَي الْإِجْمَاع (ثَبت
حكمهَا) أَي جَمِيع أَحْكَام تترتب على حجيته (وَمِنْه) وَمن
حكمهَا (الْجمع) بَين مُقْتَضى الْقيَاس وَالْعَام الْمعَارض
لَهُ (مَا أمكن) وَقد أمكن كَمَا ذكرنَا (و) الْحجَّة (للمفصل
الثَّانِي) على الْمفصل الأول وَهُوَ الْمَدْلُول عَلَيْهِ
بقوله، وَقيل إِن كَانَ أَصله مخرجا أَن الْعلَّة (المؤثرة)
أَي مَا ثَبت تأثيرها بِنَصّ أَو إِجْمَاع فِيهِ مُسَامَحَة
وَالْمرَاد الْقيَاس الْمُشْتَمل على المؤثرة (والمخصص)
بِصِيغَة الْمَفْعُول أَي الْقيَاس الَّذِي خص أَصله من
الْعَام (تَرْجِعَانِ إِلَى النَّص) وَهُوَ قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (حكمي على الْوَاحِد) حكمي على الْجَمَاعَة،
فَإِذا ثَبت الْعلية، أَو الحكم فِي حق وَاحِد ثَبت فِي حق
الْجَمَاعَة بِهَذَا النَّص، وَلزِمَ تَخْصِيص الْعَام بِهِ،
وَكَانَ بِالْحَقِيقَةِ بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ بمحض
الْكَلَام أَن الْمفصل الثَّانِي يَقُول للْأولِ: وَأَنَّك
خصصت الْعَام بِقِيَاس آخر أَصله من حكمه بِنَصّ نظرا إِلَى
أَنه يرجع إِلَى كَون النَّص مُخَصّصا وَلم يخصص بِقِيَاس ثَبت
تَأْثِير علته بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاع وَهُوَ تحكم، لِأَن
تَخْصِيص هَذَا رَاجع إِلَى النَّص، وَفسّر هَذَا النَّص فِي
الشَّرْح العضدي بحكمي على الْوَاحِد إِلَى آخِره، وَيثبت
بِمَا ذكر، وتوضيحه أَن الشَّارِع إِذا أثبت حكما لشَيْء لَهُ
نَظَائِر من حَيْثُ الاشتمال على منَاط الحكم فقد أثْبته
لنظائره وَأَيْضًا فَمُقْتَضى هَذَا النَّص ثُبُوت حكم الأَصْل
فِي الصُّورَتَيْنِ لما تحققت فِيهِ عِلّة من أَفْرَاد
الْعَام، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِالنَّصِّ الْمَذْكُور مَا
ثَبت بِهِ أصل الْقيَاس فيهمَا، وَيكون قَوْله حكمي إِلَى
آخِره بَيَانا لكَون تَخْصِيص الْقيَاس فيهمَا بِمُوجب النَّص
(وَإِذا ترجح ظن التَّخْصِيص) لما كَانَ فِي هَذَا التَّفْصِيل
ثَلَاث صور: كَون أصل الْقيَاس مخرجا من ذَلِك الْعُمُوم،
وَثُبُوت الْعلَّة بِنَصّ أَو إِجْمَاع، وَأَن لَا يتَحَقَّق
(1/324)
شَيْء مِنْهُمَا، وَذكر حكم الأولى
وَالثَّانيَِة، وَهُوَ اعْتِبَار التَّخْصِيص فيهمَا لرجوع
الْقيَاس إِلَى النَّص لما ذكر بَين حكم الثَّالِثَة بِأَنَّهُ
إِذا ترجح ظن اعْتِبَار التَّخْصِيص بمرجح على ظن الْعُمُوم
(فبالإجماع على اتِّبَاع الرَّاجِح) أَي فَيجب تَخْصِيص
الْعَام بِهِ لرجحان ظَنّه وَالْإِجْمَاع على اتِّبَاع
الرَّاجِح (وَهَذَا) الْكَلَام بِنَاء (على اعْتِبَار رُجْحَان
ظن الْقيَاس) واشتراطه (فِي تَخْصِيصه) أَي فِي تَخْصِيص
الْقيَاس للعام (وَعلمت انتفاءه) أَي انْتِفَاء اعْتِبَاره
حَيْثُ قُلْنَا التَّفَاوُت فِي الظنية غير مَانع عَن
التَّخْصِيص بِهِ (أَو لُزُومه بِلَا تِلْكَ الْقُيُود) فسر
الشَّارِح بِلُزُوم التَّخْصِيص بِالْقِيَاسِ من غير اعْتِبَار
ثُبُوت الْعلَّة بِنَصّ، أَو إِجْمَاع، أَو مُرَجّح خَاص
لِأَنَّهُ دَلِيل، وكل دَلِيل يجب إعماله مَا أمكن انْتهى،
وَلَا يظْهر حِينَئِذٍ وَجه أَو الترديدية وَالْأَوْجه أَن
يُقَال: أَو بِمَعْنى بل، كَقَوْلِه تَعَالَى - {أَو
يزِيدُونَ} -، وَضمير لُزُومه لرجحان الظَّن، فَإِن غَلَبَة
التَّخْصِيص فِي الْعَام مَعَ وجوب أَعمال الدَّلِيلَيْنِ
يسْتَلْزم رُجْحَان ظن الْقيَاس والتخصيص وَالله أعلم.
قَالَ (الْوَاقِف: فِي كل مِنْهُمَا) أَي الْعَام وَالْقِيَاس
(جِهَة قطع) فِي الْعَام بِاعْتِبَار الثُّبُوت، وَفِي
الْقيَاس بِاعْتِبَار الحجية (وَظن) فِي الْعَام بِاعْتِبَار
الدّلَالَة، وَفِي الْقيَاس بِاعْتِبَار الحكم فِي الْفُرُوع
(فَيتَوَقَّف قُلْنَا لَو لم يكن مُرَجّح وَهُوَ أعمالهما)
بِحَسب الْإِمْكَان فَإِنَّهُ عِنْد ذَلِك لَا يجوز إبِْطَال
أَحدهمَا فضلا عَن إبطالهما مَعًا، وَفِي التَّوَقُّف إبطالهما
(وَأما تَخْصِيص الْقُرْآن بِخَبَر الْوَاحِد، وتقييده) أَي
الْقُرْآن (بِهِ) أَي بِخَبَر الْوَاحِد (و) تَخْصِيص (الْكتاب
بِالْكتاب وَالْإِجْمَاع، فَفِي موَاضعهَا) تَأتي مفصلة
(وَأما) تَخْصِيص الْعَام (بالتقرير) أَي تَقْرِير النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما يسْتَلْزم خُرُوج بعض الْعَام من
حكمه (كعلمه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بِفعل مُخَالف للعام
وَلم يُنكره) أَي ذَلِك الْفِعْل مَعْطُوف على علمه بِتَأْوِيل
وَعدم إِنْكَاره، وَيحْتَمل أَن يكون حَالا من الْفَاعِل أَو
الْمَفْعُول (بِكَوْن) أَيهمَا (الْفَاعِل مُخَصّصا) من ذَلِك
الْعَام مُتَعَلق بِعَدَمِ الْإِنْكَار أَي عدم إِنْكَاره على
ذَلِك الْفَاعِل بِسَبَب كَونه مُخَصّصا مِنْهُ (فَوَاجِب
عِنْد الشَّافِعِيَّة) وَمن يشْتَرط مُقَارنَة الْمُخَصّص من
الْحَنَفِيَّة (مُطلقًا) أَي سَوَاء كَانَ فعل ذَلِك الْفَاعِل
عقب ذكر الْعَام فِي مجْلِس ذكره أَولا (لِأَنَّهُ) أَي
التَّخْصِيص (أسهل من النّسخ وَأكْثر، وبشرط كَون الْعلم)
بِفعل ذَلِك الْفَاعِل (عقيب ذكر الْعَام فِي مَجْلِسه) أَي
مجْلِس ذكره (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن فِي مَجْلِسه بل بعده
(فنسخ) لذَلِك الْعُمُوم (عِنْد شارطي الْمُقَارنَة) فِي
الْمُخَصّص (من الْحَنَفِيَّة) ثمَّ على كَونه مُخَصّصا (فَإِن
علل ذَلِك) أَي تَخْصِيص الْفَاعِل من الْعَام بِمَعْنى
(تعدِي) ذَلِك التَّخْصِيص (إِلَى غير الْفَاعِل) إِذا تحقق
ذَلِك الْمَعْنى فِي ذَلِك الْغَيْر،
(1/325)
لَكِن بِشَرْط أَن لَا يستوعب ذَلِك
الْمَعْنى جَمِيع أَفْرَاد الْعَام وَإِلَّا يكون نسخا، وَإِن
لم يُعلل فالمختار عدم تعدِي حكمه إِلَى غَيره لتعذر دَلِيل
التَّعْدِيَة. قَالَ السُّبْكِيّ وَلقَائِل أَن يَقُول: إِذا
ثَبت حكمي على الْوَاحِد الحَدِيث لم يحْتَج إِلَى الْعلم
بالجامع، بل يَكْفِي عدم الْعلم بالفارق، وَالْأَصْل بعد
ثُبُوت هَذَا الحَدِيث أَن الْخلف فِي الشَّرْع شرع، فالمختار
عندنَا التَّعْمِيم وَإِن لم يظْهر الْمَعْنى مَا لم يظْهر مَا
يقتضى التَّخْصِيص انْتهى، وَفِيه نظر لِأَن عُمُوم الْعَام
يمْنَع ثُبُوت حكم ذَلِك الْفَاعِل فِي غَيره فَتَأمل
(وَيَأْتِي تَمَامه) فِي مسئلة قبل فصل التَّعَارُض بِثَلَاث
مسَائِل (وَيتَصَوَّر كَون فعل الصَّحَابِيّ) الْمُخَالف
للْعُمُوم (عِنْد الْحَنَفِيَّة مُخَصّصا إِذا عرف علمه) أَي
الصَّحَابِيّ (بِالْعَام) (إِذْ قَالُوا) أَي الْحَنَفِيَّة،
وَوَافَقَهُمْ الْحَنَابِلَة (بحجيته) أَي فعل الصَّحَابِيّ
(حملا على علمه) أَي الصَّحَابِيّ (بالمقارن) أَي الْمُخَصّص
الْمُقَارن للْعُمُوم (وَهُوَ) أَي حمل علمه فِي هَذِه
الصُّورَة على الْعلم بالمخصص (أسهل من حملهمْ) أَي
الْحَنَفِيَّة تَركه أَي الصَّحَابِيّ (مرويه على علمه)
مُتَعَلق بحملهم (بالناسخ) لِأَن التَّخْصِيص أخف من النّسخ،
فَتعين حَيْثُ أمكن.
مسئلة
(الْأَكْثَر) على (أَن مُنْتَهى التَّخْصِيص) أَي الَّذِي يجب
أَن يبْقى بعد التَّخْصِيص من أَفْرَاد الْعَام (جمع يزِيد على
نصفه) أَي على نصف أَفْرَاد الْعَام سَوَاء كَانَ جمعا كالرجال
أَو غَيره كمن وَمَا (وَلَا يَسْتَقِيم) اعْتِبَار النّصْف
(إِلَّا فِي نَحْو عُلَمَاء الْبَلَد مِمَّا ينْحَصر) وينضبط
عدده ليعلم النّصْف مِنْهُ، أورد عَلَيْهِ أَن امْتنَاع تعْيين
النّصْف فِيمَا لم يعلم عدده مُسلم، لَكِن لَا حَاجَة إِلَيْهِ
لِأَنَّهُ يُمكن أَن يعلم أَن الْبَاقِي أَكثر من النّصْف إِذا
علم قدر مَا خرج بالتخصيص كَمَا إِذا كَانَ أهل الْبَلَد غير
مَحْصُورين وَأخرج مِنْهُم عدد قَلِيل يقطع بِكَوْنِهِ دون
النّصْف، وَقد يُجَاب بِأَن المُرَاد مَا ينْحَصر أَو مَا يقوم
مقَام الانحصار فِي إفادته كَون الْبَاقِي أَكثر من النّصْف
(وَقيل) منتهاه (ثَلَاثَة، وَقيل اثْنَان، وَقيل وَاحِد) قَالَ
الشَّارِح: وَنَقله ابْن السَّمْعَانِيّ عَن سَائِر
الشَّافِعِيَّة (وَهُوَ مُخْتَار الْحَنَفِيَّة، وَمَا قيل)
كَمَا ذكره صَاحب الْمنَار وَصدر الشَّرِيعَة (الْوَاحِد
فِيمَا) أَي الْعَام الَّذِي (هُوَ جنس وَالثَّلَاثَة فِيمَا
هُوَ جمع، فمرادهم) أَي الْحَنَفِيَّة بِالْجمعِ الْجمع
(الْمُنكر صرح بِهِ) حَيْثُ قَالُوا كعبيد وَنسَاء (و) صرح
(بِإِرَادَة نَحْو الرجل وَالْعَبِيد وَالنِّسَاء والطائفة
بِالْجِنْسِ) وصرحوا أَيْضا بِأَن كلا من الرجل وَمَا بعده
مُفْرد دلَالَة وَإِن كَانَ بَعْضهَا جمعا صِيغَة كالعبيد
(وَهُوَ) أَي الْجِنْس (مُعظم) الْعَام (الاستغراقي، وَفِيه)
أَي وَفِي الْعَام الاستغراقي (الْكَلَام) فَالْمَعْنى أَن
مُنْتَهى تَخْصِيص صِيغ الْعُمُوم الاستغراقي الْوَاحِد
(وَأما) الْجمع (الْمُنكر فَمن الْخَاص
(1/326)
خُصُوص جنس على مَا أسلفناه) فِي أول
التَّقْسِيم الثَّانِي من التَّقْسِيم الثَّالِث من هَذَا
الْفَصْل (حَقِيقَة فِي كل مرتبَة) من مَرَاتِب الْجمع وَمَا
دخله التَّخْصِيص لَا يكون حَقِيقَة فِي الْبَاقِي (ثَلَاثَة
أَو أَكثر) عطف بَيَان لكل مرتبَة (لِأَنَّهَا) أَي كل مرتبَة
من مراتبه (مَا صدقاته كَرجل فِي كل فَرد زيد أَو غَيره) أَي
نِسْبَة الْجمع الْمُنكر إِلَى تِلْكَ الْمَرَاتِب كنسبة رجل
إِلَى زيد وَعَمْرو وَغَيره (وَلَو سلم) كَونه عَاما كَمَا
هُوَ قَول من لم يشْتَرط الِاسْتِغْرَاق فِي الْعُمُوم
(فعمومه) أَي عُمُوم الْجمع الْمُنكر (لَا يقبل حكم) هَذِه
(المسئلة إِذْ لَا يقبل التَّخْصِيص) وَهَذِه المسئلة فرع
قبُول التَّخْصِيص (كعموم الْمَعْنى) من غير تَبَعِيَّة
اللَّفْظ (وَالْمَفْهُوم) الْمُخَالف فَإِنَّهُمَا عمومان لَا
يقبلان التَّخْصِيص (على مَا قيل) أَشَارَ إِلَى أَن
التَّحْقِيق أَنَّهُمَا يقبلانه كالألفاظ على مَا بَين فِي
مَحَله (وَكَونه) أَي الشَّأْن (قد يدْخل عَلَيْهِم) أَي يُورد
على الْحَنَفِيَّة (أَن الِاسْتِغْرَاق) أَي الْجمع
الْمُسْتَغْرق بِاللَّامِ (لَيْسَ مسلوبا) عَنهُ (معنى
الجمعية) إِلَى الجنسية (بِاللَّامِ) مُتَعَلق بالسلب، وَهَذَا
يُنَافِي مَا سبق آنِفا (بل الْمَعْهُود الذهْنِي) هُوَ
الَّذِي يسلب عَنهُ معنى الجمعية يَعْنِي إِذا كَانَ جمعا محلى
بِاللَّامِ: أَي الجنسية (شَيْء آخر) غَايَته أَنه لَا يتم مَا
سبق فِي الْجمع الاستغراقي بِاللَّامِ على ذَلِك التَّقْدِير،
هَذَا وَقَوله وَكَونه إِلَى هَذَا وجد فِي نُسْخَة الشَّارِح
وَلَيْسَ فِي غَيره من النّسخ المصححة (وَاخْتَارَ بعض من يجوز
التَّخْصِيص بالمتصل) وَهُوَ ابْن الْحَاجِب (أَنه) أَي
مُنْتَهى التَّخْصِيص (بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالْبدل وَاحِد،
وبالصفة وَالشّرط اثْنَان، وبالمنفصل فِي المحصور الْقَلِيل
إِلَى اثْنَيْنِ، كقتلت كل زنديق وهم ثَلَاثَة أَو أَرْبَعَة)
وَقد قيل اثْنَيْنِ وَعلم ذَلِك بِكَلَام أَو حس (وَفِي غير
المحصور، وَالْعدَد الْكثير الأول) أَي جمع يزِيد على نصفه
فَإِنَّهُ يقرب من مَدْلُوله (وَعلمت أَن لَا ضَابِط لَهُ
إِلَّا أَن يُرَاد) بِعَدَمِ الْحصْر (كَثْرَة كَثِيرَة عرفا
قَالُوا) أَي الْأَكْثَر (لَو قَالَ قتلت كل من فِي
الْمَدِينَة، وَقد قتل ثَلَاثَة عد لاغيا فَبَطل) مَذْهَب
الثَّلَاثَة ثمَّ (مَذْهَب الِاثْنَيْنِ وَالْوَاحد) بطرِيق
أولى (وَالْجَوَاب أَنه) أَي عدَّة لاغيا (إِذا لم يذكر دَلِيل
التَّخْصِيص مَعَه فَإِن ذكر) دَلِيل التَّخْصِيص مَعَ الْعَام
(منعناه) أَي عدَّة لاغيا إِذا لم يذكر دَلِيل التَّخْصِيص
مَعَه (إِلَّا أَن يُرَاد انحطاط رُتْبَة) الْكَلَام عَن
دَرَجَة البلاغة (وَلَيْسَ فِيهِ الْكَلَام وَتعين
الِاثْنَيْنِ فِي الْقَلِيل كقتلت كل زنديق) عِنْد قَتله
(لاثْنَيْنِ وهم أَرْبَعَة حَتَّى امْتنع) كَون مُنْتَهى
التَّخْصِيص (مَا دونهمَا) أَي الِاثْنَيْنِ فِيهِ (وَفِي
الصّفة وَالشّرط بِلَا دَلِيل) وَكَيف لَا (وَمن الْبَين صِحَة
أكْرم النَّاس الْعلمَاء أَو إِن كَانُوا عُلَمَاء، وَلَيْسَ
فِي الْوُجُود إِلَّا عَالم لزم إكرامه وَهُوَ) أَي حمل
الْكَلَام على ذَلِك الْوَاحِد المستلزم لإكرامه لُزُوما مَعَ
عدم إِرَادَة مَا عداهُ (معنى التَّخْصِيص) بهما (ومعين
الْجمع) أَي الثَّلَاثَة (والاثنين مَا قيل فِي الْجمع) من
إزاء قلَّة ثَلَاثَة
(1/327)
أَو اثْنَان (وَلَيْسَ بِشَيْء) لِأَن
الْكَلَام فِي أقل مرتبَة يخص إِلَيْهَا الْعَام لَا فِي أقل
مرتبَة يُطلق عَلَيْهِ الْجمع الْمُنكر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ
بقوله (إِذْ لَا تلازم) بَين هذَيْن الأقلين (وَلنَا) مَا هُوَ
مُخْتَار الْحَنَفِيَّة (الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس،
وَالْمرَاد نعيم) بن مَسْعُود بِاتِّفَاق الْمُفَسّرين
وَغَيرهم (فَإِن أُجِيب بِأَن النَّاس للمعهود فَلَا عُمُوم،
فمدفوع بِأَن كَون النَّاس الْمَعْهُود لوَاحِد مثله) أَي مثل
النَّاس الْعَام، فَإِذا جَازَ أَن يُرَاد بِالنَّاسِ
الْمَعْهُود وَاحِد من مَعْنَاهُ وَالْكثير جَازَ فِي النَّاس
غير الْمَعْهُود إِرَادَة وَاحِد من مَعْنَاهُ الْكثير،
(وَأَيْضًا لَا مَانع لغَوِيّ) أَي من حَيْثُ اللُّغَة (من
الْإِرَادَة) أَي إِرَادَة وَاحِد بِالْعَام (بِالْقَرِينَةِ
وَإِنَّمَا يعد لاغيا) بِإِرَادَة وَاحِد بِهِ (إِذا لم
ينصبها) أَي الْقَرِينَة (وَنحن اشترطنا الْمُقَارنَة) أَي
مُقَارنَة الْقَرِينَة (فِي التَّخْصِيص) فَلَا مَحْذُور
(وَأما الْخَاص فَعلمت) فِي أَوَائِل هَذَا التَّقْسِيم (أَنه
يَنْتَظِم الْمُطلق وَمَا بعده) من الْعدَد، وَالْأَمر
وَالنَّهْي.
(أما الْمُطلق فَمَا دلّ على بعض أَفْرَاد) . قَالَ الشَّارِح
إِنَّمَا قَالَ بعض وَلم يقل فَرد ليشْمل الْوَاحِد
وَالْأَكْثَر فَيدْخل فِي الْمُطلق الْجمع الْمُنكر، وَأَنت
خَبِير بِأَن كلا من مَا صدقَات الْجمع الْمُنكر فَرد
بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ وَإِن اشْتَمَل على أَفْرَاد لمفرده
(شَائِع) صفة بعض احْتِرَاز عَن الْعَام وَعَن المعارف كلهَا
إِلَّا الْمَعْهُود الذهْنِي (لَا قيد مَعَه) أَي مَعَ ذَلِك
الْبَعْض فَخرج نَحْو - {رَقَبَة مُؤمنَة} - فَإِنَّهُ مُقَيّد
وَأَنه يصدق عَلَيْهِ أَنه دَال على بعض شَائِع (مُسْتقِلّا
لفظا) فَلَا يخرج الْمَعْهُود الذهْنِي، فَإِن اللَّام فِيهِ
قيد غير مُسْتَقل لفظا لعدم استقلالها فِي الدّلَالَة: وَهُوَ
من الْمُطلق، وَقَوله مُسْتقِلّا حَال من الضَّمِير الرَّاجِع
إِلَى اسْم لَا المستكن فِي الظّرْف، ولفظا تَمْيِيز عَن
نِسْبَة مُسْتقِلّا إِلَى ذِي الْحَال (فَوَضعه) أَي الْمُطلق
(لَهُ) أَي للدال على بعض أَفْرَاد إِلَى آخِره، كَذَا قَالَ
الشَّارِح، وَالصَّوَاب لبَعض أَفْرَاده إِلَى آخِره كَمَا لَا
يخفى، تمهيد لدفع من قَالَ أَنه مَوْضُوع للْحَقِيقَة من
حَيْثُ هِيَ (لِأَن الدّلَالَة) أَي فهم الْبَعْض الشَّائِع من
اللَّفْظ بِغَيْر قرينَة (عِنْد الْإِطْلَاق دَلِيله) أَي
الْوَضع، فَإِن التبادر أَمارَة الْحَقِيقَة (وَلِأَن
الْأَحْكَام) الْمُتَعَلّقَة بالمطلق إِنَّمَا هِيَ (على
الْأَفْرَاد والوضع للاستعمال) الْمَقْصُود مِنْهُ إِثْبَات
الْأَحْكَام للمستعمل فِيهِ، فالمستعمل فِيهِ يَنْبَغِي أَن
يكون الْمُثبت لَهُ الحكم: وَهُوَ الْفَرد لَا الْحَقِيقَة من
حَيْثُ هِيَ (فَكَانَت) الْأَحْكَام المثبتة للأفراد (دَلِيله)
أَي دَلِيل وضع الْمُطلق للْبَعْض الشَّائِع لَا للماهية، نعم
قد يسْتَعْمل اللَّفْظ فِي الْمَاهِيّة الْمُطلقَة كَمَا فِي
القضايا الطبيعية، وَذَلِكَ قَلِيل، وارتكاب التَّجَوُّز فِي
الْقَلِيل أَهْون، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (والقضايا
الطبيعية لَا نِسْبَة لَهَا بمقابلها) من غَايَة قلتهَا
وَكَمَال كَثْرَة مقابلها، أَلا ترى أَنَّهَا لَا تسْتَعْمل
فِي الْعُلُوم (فاعتبارها) أَي الطبيعية دون المتعارفة (دَلِيل
الْوَضع) مفعول ثَان للاعتبار لتَضَمّنه معنى الْجعل (عكس
الْمَعْقُول) الَّذِي هُوَ اعْتِبَار المتعارفة دون الطبيعية
(و) عكس (الْأُصُول) من رِعَايَة جَانب
(1/328)
الْأَحْكَام والاستعمالات وَغير ذَلِك
(فالماهية فِيهَا) أَي فإرادة الْمَاهِيّة فِي القضايا
الطبيعية (إِرَادَة) من الْمُتَكَلّم بِإِقَامَة قرينَة (لَا
دلَالَة) من اللَّفْظ بِمُوجب الْوَضع (قرينتها) أَي قرينَة
تِلْكَ الْإِرَادَة (خُصُوص الْمسند) من حَيْثُ أَنه وصف ثَابت
للطبيعة لَا للفرد كَقَوْلِك: الْإِنْسَان نوع (وَنَحْوه)
مِمَّا يدل على أَن المُرَاد نفس الطبيعة لَا الْفَرد (فَلَا
دَلِيل على وضع اللَّفْظ للماهية من حَيْثُ هِيَ إِلَّا علم
الْجِنْس إِن قُلْنَا بِالْفرقِ بَينه وبن اسْم الْجِنْس
النكرَة، وَهُوَ) أَي الْفرق بَينهمَا (الْأَوْجه إِذْ
اخْتِلَاف أَحْكَام اللَّفْظَيْنِ) اسْم الْجِنْس وَعلم
الْجِنْس: كأسد وَأُسَامَة (يُؤذن بفرق فِي الْمَعْنى)
بَينهمَا، فَإِن أُسَامَة يمْتَنع من دُخُول لَام التَّعْرِيف
وَالْإِضَافَة وَالصرْف ويوصف بالمعرفة إِلَى غير ذَلِك
بِخِلَاف أَسد، فَكَذَا قَالُوا علم الْجِنْس مَوْضُوع
للْحَقِيقَة المتحدة فِي الذِّهْن الْمشَار إِلَيْهَا من
حَيْثُ معلوميتها للمخاطب، وَاسم الْجِنْس للفرد الشَّائِع
(وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يفرق بَينهمَا فِي الْمَعْنى كَمَا
ذهب إِلَيْهِ ابْن مَالك، وَهُوَ غير الْأَوْجه (فَلَا) وضع
للْحَقِيقَة أصلا (فقد سَاوَى) الْمُطلق (النكرَة مَا لم
يدخلهَا عُمُوم، والمعرف لفظا فَقَط) كَمَا فِي (اشْتَرِ
اللَّحْم) لِأَن كلا من هَذِه الْمَذْكُورَات يدل على شَائِع
فِي جنسه وَلَا قيد مَعَه مُسْتقِلّا، لفظا وَلذَا جَازَ توصيف
الْمُعَرّف لفظا بالنكرة وتوصيفه بالمعرفة بِاعْتِبَار لَفظه،
وَكَذَا جَازَ كَون الْجُمْلَة الخبرية حَالا مِنْهُ نظرا
إِلَى اللَّفْظ، وَصفَة لَهُ نظرا إِلَى الْمَعْنى، وَالْمرَاد
بمساواته لَهما أَن كل مَا صدق عَلَيْهِ أَحدهمَا يصدق
عَلَيْهِ الآخر (فَبين الْمُطلق والنكرة عُمُوم من وَجه)
لصدقهما فِي نَحْو: تَحْرِير رَقَبَة، وانفراد النكرَة عَنهُ
إِذا كَانَت عَامَّة كَمَا إِذا وَقعت فِي سِيَاق النَّفْي،
وانفراد الْمُطلق عَنْهَا فِي نَحْو: اشْتَرِ اللَّحْم (وَدخل
الْجمع الْمُنكر) فِي الْمُطلق لصدق تَعْرِيفه عَلَيْهِ (وَمن
خَالف الدَّلِيل) الدَّال على كَون اسْم الْجِنْس للفرد
الشَّائِع: كَالْإِمَامِ الرَّازِيّ، والبيضاوي، والسبكي
(فَجعل النكرَة للماهية) فَلَزِمَ الْفرق بَينهَا وَبَين علم
الْجِنْس (أَخذ فِي) مُسَمّى (علم الْجِنْس حُضُورهَا الذهْنِي
فَكَانَ جُزْء مُسَمَّاهُ) أَي علم الْجِنْس (وَمُقْتَضَاهُ)
أَي هَذَا الْأَخْذ (أَن الحكم على أُسَامَة يَقع على مَا صدق
عَلَيْهِ) أُسَامَة (من أَسد) بَيَان للموصول، وَالْمرَاد بِهِ
الْمَاهِيّة بِنَاء على مذْهبه (وَحُضُور ذهني) أَن جعل
الْحُضُور جُزْءا من الْمَوْضُوع لَهُ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادر
من كَلَامهم، وَلذَا قَالَ فَكَانَ جُزْء أمسماه أولى (أَو)
على مَا صدق عَلَيْهِ من أَسد (مُقَيّدا بِهِ) أَي بالحضور
الذهْنِي أَن جعل قيدا خَارِجا عَن الْمَوْضُوع لَهُ، فَكَانَ
التَّقْيِيد دَاخِلا فِيهِ (وَهُوَ) أَي كَون الحكم على أحد
الْوَجْهَيْنِ (مُنْتَفٍ) فَإِن الْمُثبت لَهُ الحكم فِي نفس
الْأَمر: إِنَّمَا هُوَ ذَات الْأسد لَا مَعَ وصف الْحُضُور،
وَاعْتِبَار الْعقل على طبق مَا فِي نفس الْأَمر، والوجدان
يُؤَيّدهُ (وَلَو سلم)
(1/329)
عدم الانتفاء (فقد اسْتَقل مَا تقدم) من
تبادر الْبَعْض الشَّائِع من الْإِطْلَاق (بنفيه) أَي بِنَفْي
وضع الْمُطلق للماهية من حَيْثُ هِيَ (فَالْحق الأول) وَهُوَ
أَن لَا وضع للْحَقِيقَة إِلَّا علم الْجِنْس إِن قُلْنَا
إِلَى آخِره (وَكَذَا) خَالف الدَّلِيل (من جعلهَا) أَي
النكرَة (قسيم الْمُطلق فَهِيَ) أَي النكرَة (للفرد) الشَّائِع
(وَهُوَ) أَي الْمُطلق (للماهية) من حَيْثُ هِيَ كَمَا ذكر فِي
التَّحْقِيق عَن بَعضهم فَإِنَّهُ (مَعَ كَونه) أَي وضع
الْمُطلق لَهَا (بِلَا مُوجب يَنْفِيه اتِّفَاقهم على أَن
رَقَبَة) فِي تَحْرِير رَقَبَة (من مثله) أَي الْمُطلق (وَلَا
ريب) فِي (أَنه) أَي لفظ رَقَبَة (نكرَة والمقيد مَا) أَي لفظ
دلّ على بعض شَائِع (مَعَه) أَي مَعَ قيد ملفوظ مُسْتَقل كرقبة
مُؤمنَة، والرقبة المؤمنة (فالمعارف بِلَا قيد) مَعهَا
مُسْتَقل لفظا (ثَالِث) أَي لَا مُطلق وَلَا مُقَيّد (وَقد
يتْرك) فيهمَا الْقَيْد فِي تعريفهما، فَيُقَال مَا دلّ على
بعض شَائِع، مَا دلّ لَا على شَائِع (فَتدخل) فِيهِ المعارف
بِلَا قيد (فِي الْمُقَيد، وَلَيْسَ) دُخُولهَا فِيهِ
(بِمَشْهُور) : كَذَا ذكره التَّفْتَازَانِيّ.
مسئلة
(إِذا اخْتلف حكم مُطلق ومقيده) كأطعم فَقِيرا، واكس فَقِيرا
عَارِيا (لم يحمل) الْمُطلق على الْمُقَيد (إِلَّا ضَرُورَة)
كَأَن يمْتَنع الْعَمَل بالمطلق مَعَ الْعَمَل بالمقيد بِدُونِ
الْحمل الْمَذْكُور (كأعتق رَقَبَة، وَلَا تملك إِلَّا رَقَبَة
مُؤمنَة) فَإِن النَّهْي عَن تملك مَا عدا المؤمنة مَعَ
الْأَمر بِعِتْق الرَّقَبَة يُوجب تَقْيِيد الْمُعتقَة
بالمؤمنة ضرور أَن الْعتْق فرع التَّمَلُّك وَاعْترض عَلَيْهِ
الشَّارِح بِأَن النَّهْي عَن التَّمَلُّك لَا يَقْتَضِي
امْتنَاع تحقق عتق غير المؤمنة لجَوَاز تحقق ملكهَا قبل
النَّهْي، وَإِنَّمَا يمْنَع حُدُوث ملك الْكَافِرَة بعد
النَّهْي، ولجواز أَن يتَمَلَّك بِالْإِرْثِ فَإِن الْمنْهِي
عَنهُ الْفِعْل الِاخْتِيَارِيّ وَلَا اخْتِيَار فِي الْإِرْث
انْتهى.
وَأَنت خَبِير بِأَنَّهُ يُمكن أَن يفْرض الْخطاب فِي حق شخص
لم يملك رَقَبَة أصلا أَو غير المؤمنة والآمر عَالم بِهِ،
فَأمره بِعِتْق الرَّقَبَة وَنَهْيه عَن تملك الْكَافِرَة
دَلِيل على أَنه يطْلب مِنْهُ إِعْتَاق المؤمنة، ويفرض أَيْضا
أَنه يُرِيد الِامْتِثَال مِنْهُ على الْفَوْر، وَلَيْسَ
هُنَاكَ احْتِمَال حُدُوث الْملك بِالْإِرْثِ فَلَا إِشْكَال
فِي التَّمْثِيل (أَو اتحدا) حكم الْمُطلق وَحكم مقيده حَال
كَونهمَا (منفيين) كلاتعتق رَقَبَة كَافِرَة (فَمن بَاب آخر)
أَي من بَاب إِفْرَاد فَرد من الْعَام بِحكم الْعَام، وَتقدم
أَنه لَيْسَ بتخصيص للعام على الْمُخْتَار، لَا من بَاب
وَالْمُطلق على الْمُقَيد (أَو) حَال كَونهمَا (مثبتين متحدي
السَّبَب وردا مَعًا حمل الْمُطلق عَلَيْهِ) أَي الْمُقَيد
حَال كَون الْمُقَيد (بَيَانا) للمطلق (ضَرُورَة
(1/330)
أَن السَّبَب الْوَاحِد لَا يُوجب
المتنافيين فِي وَقت وَاحِد) فَإِنَّهُ لَو حمل الْمُطلق على
إِطْلَاقه كَانَ لَازمه الْخُرُوج عَن الْعهْدَة بِدُونِ
الْقَيْد وَمُقْتَضى الْمُقَيد أَن الْقَيْد مَطْلُوب أَيْضا
فَيلْزم اقْتِضَاء السَّبَب الْوَاحِد مطلوبية الْقَيْد، وَعدم
مطلوبيته فِي وَقت وَاحِد (كَصَوْم) كَفَّارَة (الْيَمين على
التَّقْدِير) أَي تَقْدِير وُرُود الْمُطلق، وَهُوَ قِرَاءَة
الْجُمْهُور، وَقِرَاءَة ابْن مَسْعُود: فَصِيَام ثَلَاثَة
أَيَّام مُتَتَابِعَات فِيهَا مَعًا، وَمن ثمَّ قَالَ
أَصْحَابنَا بِوُجُوب التَّتَابُع فِيهِ (أَو جهل) ورودهما
مَعًا (فَالْأَوْجه عِنْدِي كَذَلِك) أَي حمل الْمُطلق على
الْمُقَيد (حملا) لَهما (على الْمَعِيَّة تَقْدِيمًا للْبَيَان
على النّسخ عِنْد التَّرَدُّد) بَينهمَا، إِذْ لم يحمل على
الْمَعِيَّة: إِمَّا لكَون الْمُطلق مقدما فَينْسَخ الْمُقَيد
إِطْلَاقه، أَو بِالْعَكْسِ: فَينْسَخ الْمُطلق تَقْيِيد
الْمُقَيد، وَإِنَّمَا يحمل على الْمَعِيَّة (للأغلبية) إِذْ
الْبَيَان أَكثر وقوعا من النّسخ فَهُوَ أغلب (مَعَ أَن
قَوْلهم) أَي الْحَنَفِيَّة (فِي التَّعَارُض) من أَن
الدَّلِيلَيْنِ المتعارضين إِذا لم يعلم تاريخهما يجمع
بَينهمَا (يؤنسه) أَي يُؤَيّد مَا عِنْدِي ويجعله مأنوسا
(وَإِلَّا أَي وَإِن لم يجهل، بل علم تَأَخّر أَحدهمَا عَن
الآخر فَإِن كَانَ الْمُطلق فَسَيَأْتِي
وَإِن كَانَ الْمُقَيد (فالمقيد الْمُتَأَخر نَاسخ عِنْد
الْحَنَفِيَّة: أَي أُرِيد الْإِطْلَاق) أَي أَرَادَهُ أَولا
وَجعله مَشْرُوعا (ثمَّ رفع) أَي الْإِطْلَاق (بالقيد،
فَلِذَا) أَي فلكون الْمُقَيد الْمُتَأَخر نَاسِخا عِنْدهم (لم
يُقيد خبر الْوَاحِد عِنْدهم الْمُتَوَاتر، وَهُوَ) أَي
تَقْيِيد الْخَبَر الْوَاحِد الْمُتَوَاتر هُوَ (الْمُسَمّى
بِالزِّيَادَةِ على النَّص) عِنْدهم: لِأَنَّهُ ظَنِّي،
والمتواتر قَطْعِيّ، وَلَا يجوز نسخ الْقطعِي بالظني (وَهُوَ)
أَي كَون الْمُقَيد الْمُتَأَخر نَاسِخا لَهُ (الْأَوْجه،
وَالشَّافِعِيَّة) قَالُوا: وُرُود الْمُقَيد بعد الْمُطلق
(تَخْصِيص) للمطلق (أَي بَين الْمُقَيد أَنه) هُوَ (المُرَاد
بالمطلق، وَهُوَ) أَي الْبَيَان الْمَذْكُور (معنى حمل
الْمُطلق على الْمُقَيد، وَقَوْلهمْ) أَي الشَّافِعِيَّة
(أَنه) حمل الْمُطلق على الْمُقَيد (جمع بَين الدَّلِيلَيْنِ)
الْمُطلق والمقيد (مغالطة قَوْلهم) أَي الشَّافِعِيَّة فِي
بَيَان وَجه الْجمع (لِأَن الْعَمَل بالمقيد عمل بِهِ) أَي
بالمطلق من غير عكس (قُلْنَا) لَا نسلم أَنه عمل بالمطلق
مُطلقًا (بل بالمطلق الْكَائِن فِي ضمن الْمُقَيد من حَيْثُ
هُوَ كَذَلِك) أَي فِي ضمن الْمُقَيد (وَهُوَ) أَي الْمُطلق من
حَيْثُ هُوَ فِي ضمن الْمُقَيد (الْمُقَيد فَقَط، وَلَيْسَ
الْعَمَل بالمطلق كَذَلِك) أَي الْعَمَل بِهِ فِي ضمن
الْمُقَيد فَقَط (بل) الْعَمَل بِهِ (أَن يُجزئ كل مَا صدق
عَلَيْهِ) الْمُطلق (من المقيدات) بَيَان لما، يَعْنِي أَن
يحمل على إِطْلَاقه بِحَيْثُ أمكن للمكلف أَن يَأْتِي بِمَا
شَاءَ من أَفْرَاده سَوَاء كَانَ ذَلِك الْمُقَيد الْمَنْصُوص
أَو غَيره، فَيكون كل فَرد من أَفْرَاد الْمُطلق مجزئا عَمَّا
هُوَ الْوَاجِب عَلَيْهِ فَيُجزئ تَحْرِير كل من المؤمنة
والكافرة عَن الْكَفَّارَة (ومنشأ المغلطة أَن الْمُطلق
باصطلاح) وَهُوَ اصْطِلَاح المنطقيين (الْمَاهِيّة لَا بِشَرْط
شَيْء) يَعْنِي نفس الطبيعة من
(1/331)
غير أَن يعْتَبر مَعهَا غَيرهَا سَوَاء
كَانَ ذَلِك الْغَيْر وجود أَمر خَارج عَنْهَا أَو عَدمه وَلَا
شكّ أَن مَاهِيَّة الْمُطلق بِهَذَا الْمَعْنى متحققة فِي
الْمُقَيد، فَالْعَمَل بالمقيد عمل بِهِ فِي الْجُمْلَة
(لَكِن) لَيْسَ المُرَاد بِالْعَمَلِ (هُنَا) الْعَمَل بِهِ
بِهَذَا الْمَعْنى، بل المُرَاد هُنَا الْعَمَل بِهِ (بِشَرْط
الْإِطْلَاق) يَعْنِي بِهِ تَعْمِيم جَوَاز الْعَمَل بِهِ على
وَجه يعم جَمِيع أَفْرَاده، فَإِنَّهُ هُوَ الْمُتَنَازع
فِيهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيَّة أَيْضا (وَلِأَن فِيهِ) أَي فِي
حمله على الْمُقَيد (احْتِيَاطًا لِأَنَّهُ قد يكون) أَي
يحْتَمل أَن يكون الْمُكَلف (مُكَلّفا بالمقيد) فِي لأمر
بالمطلق، بِأَن يكون هُوَ المُرَاد مِنْهُ (وَاعْتِبَار
الْمُطلق) أَي اعْتِبَار الشَّارِع إِيَّاه (لَا يتَيَقَّن
مَعَه) أَي مَعَ احْتِمَال التَّكْلِيف بِهِ (بِفِعْلِهِ) أَي
بِالْعَمَلِ بالمطلق فِي ضمن غير: يَعْنِي أَن الْمُكَلف إِذا
أَتَى بالمطلق فِي ضمن غير الْمُقَيد لَا يجْزم بِأَن
الشَّارِع يعتبره بِنَاء على وجود ذَلِك الِاحْتِمَال (قُلْنَا
قضينا عهدته) أَي عُهْدَة الِاحْتِيَاط وعهدة التَّكْلِيف
بالمقيد (بِإِيجَاب الْمُقَيد، وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي أَنه)
أَي إِيجَاب الْمُقَيد هَل هُوَ (حمل) هُوَ (بَيَان) أَي مُوجب
هَذَا الْإِيجَاب حمل الْمُطلق على الْمُقَيد بِجعْل الْمُقَيد
بَيَانا للمطلق كَمَا فِي قَوْلهم (أَو نسخ) كَمَا هُوَ قَول
أَصْحَابنَا (فالمقيد) للشَّافِعِيَّة (فِي مَحل النزاع
إِثْبَات أَنه بَيَان، وَلَهُم) أَي الشَّافِعِيَّة (فِيهِ)
أَي فِي إِثْبَات (أَنه) بَيَان أَنه: أَي الْبَيَان (أسهل من
النّسخ) لِأَن الدّفع أسهل من الرّفْع (فَوَجَبَ الْحمل
عَلَيْهِ) أَي الْبَيَان أسهل من النّسخ (قُلْنَا) اعْتِبَار
الأسهل (إِذْ لَا مَانع) من الْحمل عَلَيْهِ (وَحَيْثُ كَانَ
الْإِطْلَاق مِمَّا يُرَاد) شرعا (قطعا وَثَبت) الْإِطْلَاق
(غير مقرون بِمَا يَنْفِيه وَجب اعْتِبَاره) أَي الْإِطْلَاق
(كَذَلِك) أَي على صرافته (على نَحْو مَا قدمْنَاهُ فِي
تَخْصِيص الْمُتَأَخر، وَمَا قيل) كَمَا ذكره ابْن الْحَاجِب
من أَنه (لَو لم يكن الْمُقَيد الْمُتَأَخر بَيَانا لَكَانَ كل
تَخْصِيص نسخا) للعام بِجَامِع أَن كلا مِنْهُمَا مخرج لبعضه
من الحكم (مَمْنُوع الْمُلَازمَة، بل اللَّازِم كَون كل) لفظ
مُسْتَقل مخرج لبَعض مَا يتَنَاوَلهُ الْعَام (مُتَأَخّر) عَن
الْعَام (نَاسِخا) لمحكمه فِي ذَلِك الْبَعْض (لَا تَخْصِيصًا،
وَبِه نقُول، على أَن فِي عِبَارَته) أَي الْقَائِل
الْمَذْكُور (مناقشة) تظهر (بِقَلِيل تَأمل) إِذْ لَا
يتَصَوَّر أَن يكون الشَّيْء الْوَاحِد نسخا وتخصيصا مَعًا:
غير أَن الْمَقْصُود ظَاهر: يَعْنِي كل مَا هُوَ تَخْصِيص فِي
نفس الْأَمر يلْزم أَن يكون نسخا على ذَلِك التَّقْدِير لَا
تَخْصِيصًا (ثمَّ أُجِيب) عَن هَذَا (فِي أصولهم) أَي
الشَّافِعِيَّة كَمَا فِي شرح العضدي (بِأَن فِي التَّقْيِيد
حكما شَرْعِيًّا لم يكن ثَابتا قبل) : أَي قبل التَّقْيِيد
كوجوب الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة: أَي لَا بُد فِي النّسخ من
كَون الْمُتَأَخر حكما شَرْعِيًّا، وَهَذَا يتَحَقَّق فِي
التَّقْيِيد دون التَّخْصِيص، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله
(بِخِلَاف التَّخْصِيص، فَإِنَّهُ دفع لبَعض حكم الأول) فَقَط
لَا إِثْبَات لحكم آخر (وينبو) أَي يبعد هَذَا الْجَواب (عَن
الْفَرِيقَيْنِ) الشَّافِعِيَّة، وَالْحَنَفِيَّة لاستلزامه
عدم ثُبُوت الحكم
(1/332)
الشَّرْعِيّ فِي شَيْء من التقيدات قبل
وُرُود الْمُقَيد، وَلم يقل بِهِ أحد مِنْهُمَا، أما
الشَّافِعِيَّة فَإِنَّهُم يجْعَلُونَ التَّقْيِيد بَيَانا فِي
جَمِيع صور النزاع والاتفاق وَيلْزمهُ ثُبُوت الحكم قبل وَإِن
كَانَ ظُهُوره بعد، وَأما الْحَنَفِيَّة فقد وافقوا الْخصم فِي
صُورَة الِاتِّفَاق، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَإِن الْمُطلق
مُرَاد بِحكم الْمُقَيد إِذا وَجب الْحمل) للمطلق على
الْمُقَيد (اتِّفَاقًا) لِأَن الْبَيَان يقْصد بِهِ حكم
الْمُبين، وَقد يُقَال مُرَاد الْمُجيب بالتقييد مَحل النزاع،
فَمحل الْوِفَاق خَارج المبحث فَلَا ينبو عَن الْحَنَفِيَّة،
وَالْجَوَاب رد على الشَّافِعِيَّة فَلَا يضر النبو عَنْهُم
فَتَأمل (وإلزامهم) أَي الشَّافِعِيَّة للحنفية (كَون الْمُطلق
الْمُتَأَخر نسخا) للمقيد على تَقْدِير كَون الْمُتَأَخر
نَاسِخا للمطلق، لِأَن التَّقْيِيد اللَّاحِق كَمَا يُنَافِي
الْإِطْلَاق السَّابِق وَيَرْفَعهُ كَذَلِك الْعَكْس،
وَأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِهِ (لَا أعلم فِيهِ تَصْرِيحًا
من الْحَنَفِيَّة، وَعرف) من قواعدهم (ايجابهم وصل بَيَان
المُرَاد بالمطلق) صلَة المُرَاد، وصلَة الْوَصْل محذوفة،
وَيصِح الْعَكْس، وَهَذَا إِذا لم يكن الْإِطْلَاق مرَادا
(كَقَوْلِهِم فِي تَخْصِيص الْعَام) يجب وصل الْمُخَصّص بِهِ
إِذا لم يرد الْعُمُوم بِهِ (بذلك الْوَجْه) الْمُتَقَدّم
بَيَانه فَليرْجع إِلَيْهِ (وَيَجِيء فِيهِ) أَي فِي تَأْخِير
الْمُقَيد (مَا قدمْنَاهُ من وجوب إرادتهم مثل قَول أبي
الْحُسَيْن من) وصل الْبَيَان (الإجمالي كَهَذا الْإِطْلَاق
مُقَيّد وَيصير) الْمُطلق حِينَئِذٍ (مُجملا أَو التفصيلي،
وَلنَا أَن نلتزمه) عِنْدهم أَي كَون الْمُطلق الْمُتَأَخر
نَاسِخا الْمُقَيد (على قِيَاس نسخ الْعَام الْمُتَأَخر
الْخَاص الْمُتَقَدّم) على الْمُقَيد (عِنْدهم) أَي
الْحَنَفِيَّة (وَمعنى النّسخ فِيهِ) أَي فِي نسخ الْمُطلق
الْمُتَأَخر الْمُقَيد (نسخ الْقصر على الْمُقَيد، أَو مختلفي
السَّبَب كإطلاق الرَّقَبَة فِي كَفَّارَة الظِّهَار) حَيْثُ
قَالَ تَعَالَى - {فَتَحْرِير رَقَبَة} - (وتقييدها فِي)
كَفَّارَة (الْقَتْل) حَيْثُ قَالَ تَعَالَى - {فَتَحْرِير
رَقَبَة مُؤمنَة} - (فَعَن الشَّافِعِي يحمل) الْمُطلق على
الْمُقَيد فَيجب كَونهَا مُؤمنَة فِي الظِّهَار كَمَا فِي
الْقَتْل (فَأكْثر أَصْحَابه) أَي الشَّافِعِي يَقُولُونَ
(يَعْنِي) الشَّافِعِي حمل مَا ورد فِيهِ الْمُطلق بِمَا ورد
فِيهِ الْمُقَيد قِيَاسا (بِجَامِع) بَينهمَا وَهُوَ الصَّحِيح
عِنْدهم وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب وَهُوَ فِي هَذَا حُرْمَة
سببهما: وَهُوَ الظِّهَار وَالْقَتْل (وَالْحَنَفِيَّة
يمنعونه) أَي وجود جَامع يصلح مبْنى لقياس صَحِيح (لانْتِفَاء
شَرط الْقيَاس عدم مُعَارضَة مُقْتَضى نَص) عطف بَيَان لشرط
الْقيَاس، وَذَلِكَ لِأَن الْمُطلق نَص يدل على إِجْزَاء
الْمُقَيد وَغَيره، وَالْقِيَاس يَقْتَضِي عدم إِجْزَاء
الْغَيْر (وَبَعْضهمْ) أَي الشَّافِعِيَّة نقل عَن الشَّافِعِي
أَنه يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد (مُطلقًا) من غير اشْتِرَاط
جَامع بَينهمَا (لوحدة كَلَام الله تَعَالَى فَلَا يخْتَلف)
بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيد (بل يُفَسر بعضه بَعْضًا،
وَهُوَ) أَي هَذَا القَوْل (أَضْعَف) من الأول (إِذا نَظرنَا)
لاستنباط الْأَحْكَام وَفهم المُرَاد (فِي مقتضيات الْعبارَات)
من حَيْثُ الْعَرَبيَّة: وَهِي لَا تخْتَلف بِالْإِطْلَاقِ
وَالتَّقْيِيد قطعا لَا فِي وحدة الْكَلَام الأزلي الْقَائِم،
فَإِن تِلْكَ الْوحدَة بِحَسب ذَات الصّفة: وَهُوَ لَا تنَافِي
الِاخْتِلَاف بِحَسب
(1/333)
التعلقات كَمَا عرف فِي مَحَله، كَيفَ وَإِلَّا يرْتَفع
اخْتِلَاف الْأَحْكَام مُطلقًا (وَلَو كَانَ الِاخْتِلَاف
بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيد فِي سَبَب الحكم الْوَاحِد كأدوا
عَن كل حر وَعبد) عَن عبد الله بن ثَعْلَبَة قَالَ: خطب رَسُول
الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] النَّاس قبل الْفطر بِيَوْم
أَو يَوْمَيْنِ فَقَالَ: أَدّوا صَاعا من بر أَو قَمح بَين
اثْنَيْنِ أَو صَاعا من تمر، أَو شعير عَن كل حر وَعبد صَغِير
أَو كَبِير، وَلَيْسَ فِيهِ تَقْيِيد لسَبَب وجوب صَدَقَة
الْفطر: وَهُوَ الْمخْرج عَنهُ بِقَيْد الْإِسْلَام (مَعَ
رِوَايَة من الْمُسلمين) على مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن
عمر بِلَفْظ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرض
زَكَاة الْفطر فِي رَمَضَان على النَّاس صَاعا من تمر، أَو
صَاعا من شعير عَن كل حر وَعبد ذكر أَو أُنْثَى من الْمُسلمين
(فَلَا حمل) للمطلق على الْمُقَيد فِي هَذَا عِنْد
الْحَنَفِيَّة (خلافًا للشَّافِعِيّ) رَحمَه الله (لما تقدم)
من أَن الْحمل عِنْد الْحَنَفِيَّة لأحد أَمريْن: إِمَّا
الضَّرُورَة أَو اتِّحَاد السَّبَب مَعَ اتِّحَاد الحكم، وَعند
الشَّافِعِيَّة بالجامع أَو وحدة الْكَلَام وَتَفْسِير بعضه
الْبَعْض (وَالِاحْتِيَاط الْمُتَقَدّم لَهُم) أَي
الشَّافِعِيَّة فِي الْعَمَل بالمقيد (يَنْقَلِب عَلَيْهِم)
فِي حملهمْ الْمُطلق فِي هَذَا على الْمُقَيد (إِذْ هُوَ) أَي
الِاحْتِيَاط (فِي جعل كل) من الْمُطلق والمقيد من السَّبَب
لِأَنَّهُ أَن جعل الْمُقَيد (سَببا) دون الْمُطلق على
إِطْلَاقه يفوت الْعَمَل بِحكم الله على احْتِمَال اعْتِبَار
الشَّارِع سَببه الْمُطلق لوُجُوب الصَّدَقَة فِي غير صُورَة
الْمُقَيد أَيْضا، وَقد يكون لشَيْء وَاحِد أَسبَاب
مُتعَدِّدَة، ثمَّ بَقِي شَيْء للشَّافِعِيَّة: وَهُوَ مَا
إِذا أطلق الحكم فِي مَوضِع وَقيد فِي موضِعين بقيدين متضادين،
قَالُوا من قَالَ بِالْحملِ مُطلقًا قَالَ بِبَقَاء الْمُطلق
على إِطْلَاقه، إِذْ لَيْسَ التَّقْيِيد بِأَحَدِهِمَا بِأولى
من الآخر، وَمن قَالَ بِالْحملِ قِيَاسا على مَا كَانَ الْحمل
عَلَيْهِ أولى، فَإِن لم يكن قِيَاس رَجَعَ إِلَى الأَصْل
الْإِطْلَاق. |