تيسير التحرير

الْمقَالة الثَّانِيَة: فِي أَحْوَال الْمَوْضُوع

وَقد فسر الْمَوْضُوع وَبَين المُرَاد بأحواله فِي الْمُقدمَة (وَعلمت) هُنَاكَ (إِدْخَال بَعضهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ كصدر الشَّرِيعَة (الْأَحْكَام) فِي الْمَوْضُوع (فَانْكَسَرت) أَي انقسمت انقسام الْكل إِلَى الْأَجْزَاء مُشْتَمِلَة (على خَمْسَة أَبْوَاب) .
الْبَاب الأول

(فِي الْأَحْكَام وَفِيه أَرْبَعَة فُصُول) فِي الحكم، وَالْحَاكِم، والمحكوم فِيهِ، والمحكوم عَلَيْهِ.
الْفَصْل الأول

(لفظ الحكم يُقَال للوضعي) أَي للخطاب الوضعي (قَوْله) تَعَالَى بِالْجَرِّ عطف بَيَان للوضعي (النَّفْسِيّ) صفة قَوْله احْتِرَاز عَن اللَّفْظِيّ (جعلته) أَي الشَّيْء الْفُلَانِيّ (مَانِعا) من كَذَا ككشف الْعَوْرَة الْمَانِع من صِحَة الصَّلَاة (أَو) جعلت كَذَا (عَلامَة) دَالَّة (على تعلق الطّلب) لفعل أَو ترك من الْمُكَلف، وَقَوله جعلته إِلَى آخِره مقول القَوْل (كالدلوك والتغير) فَإِن دلوك الشَّمْس، وَهُوَ زَوَالهَا، وَقيل غُرُوبهَا، وَالْأول الصَّحِيح كَمَا نطق بِهِ الْأَحَادِيث عَلامَة على طلب إِقَامَة الصَّلَاة، وتغيرها للغروب عَلامَة على عدم طلب غير الوقتية (أَو) عَلامَة على (الْملك أَو زَوَاله) كَالْبيع فَإِنَّهُ عَلامَة على ملك المُشْتَرِي الْمَبِيع وَالْبَائِع الثّمن، وعَلى زَوَال ملك البَائِع عَن الْمَبِيع، وَزَوَال ملك المُشْتَرِي عَن الثّمن، وكل مِنْهَا يشْتَمل على وضع إلهي فَظهر وَجه التَّسْمِيَة (فَفِي الْمَوْقُوف عَلَيْهِ الحكم) أَي الَّذِي وضع لحكم فَكَانَ ذَلِك الحكم مَوْقُوفا عَلَيْهِ (مَعَ ظُهُور الْمُنَاسبَة) بَينهمَا (الباعثة) لشرعية الحكم عِنْد ذَلِك الْوَضع صفة الْمُنَاسبَة (وضع الْعلية) أَي الْوَضع فِيمَا ذكر وضع الْعلية، فالموضوع عِلّة كَالْقصاصِ للْقَتْل الْعمد الْعدوان، وَسَيَجِيءُ بَيَان الْمُنَاسبَة فِي مبَاحث الْقيَاس (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن بَينهمَا مُنَاسبَة ظَاهِرَة (فَمَعَ الْإِفْضَاء) أَي مَعَ إفضاء الْمَوْقُوف عَلَيْهِ إِلَى الحكم (فِي الْجُمْلَة) أَي فِي بعض الصُّور كالنصاب المفضي إِلَى وجوب الزَّكَاة فِي صُورَة السَّبَب (وضع السَّبَب، و) فِي الْمَوْقُوف عَلَيْهِ الحكم الْكَائِن (مَعَه) أَي مَعَ توقف الحكم عَلَيْهِ (جعله) أَي جعل الْمَوْقُوف عَلَيْهِ (دلَالَة عَلَيْهِ) أَي دَالَّة على الحكم (الْعَلامَة) أَي وضع الْعَلامَة مِنْهُ كالأوقات للصَّلَاة (وَفِي اعْتِبَاره) أَي الْمَوْقُوف عَلَيْهِ (دَاخِلا فِي الْمَفْعُول) أَي فِيمَا يَفْعَله الْمُكَلف سَوَاء كَانَ من أَفعَال الْخَارِج أَو الْقلب أَو الْمركب مِنْهُمَا (وضع

(2/128)


الرُّكْن فَإِن لم ينتف حكم الْمركب) الَّذِي اعْتبر الْمَوْقُوف عَلَيْهِ دَاخِلا فِيهِ (بانتفائه شرعا) أَي انْتِفَاء شَرْعِيًّا (فالزائد) أَي فَهُوَ الرُّكْن الزَّائِد (كَالْإِقْرَارِ فِي الْإِيمَان على رَأْي) لطائفة من مَشَايِخنَا (وَإِلَّا) أَي وَإِن انْتَفَى حكم الْمركب بانتفائه شرعا (فَالْأَصْل) أَي فالركن الأَصْل كالقيام حَال الْقُدْرَة فِي الصَّلَاة فَإِن الْإِيمَان لَا يَنْتَفِي بِانْتِفَاء الاقرار لعذر شرعا، وَلِهَذَا تجرى عَلَيْهِ أَحْكَامه وَإِن انْتَفَى عقلا ضَرُورَة انْتِفَاء الْكل بِانْتِفَاء الْجُزْء، بِخِلَاف الصَّلَاة فَإِنَّهَا تَنْتفِي بانتفائه (وَغير الدَّاخِل) أَي وَالْمَوْقُوف عَلَيْهِ غير الدَّاخِل فِي الْمَفْعُول (الشَّرْط) وَلما كَانَ التَّعْرِيف الْخَارِج للشّرط من التَّقْسِيم، وَهُوَ الْمَوْقُوف عَلَيْهِ غير الدَّاخِل صَادِقا على بعض أَفْرَاد السَّبَب أَشَارَ إِلَى دفع النَّقْض بقوله (وَقد يُجَامع) الشَّرْط (السَّبَب) بِأَن يكون أَمر وَاحِد يتَوَقَّف عَلَيْهِ الحكم ذَا جِهَتَيْنِ شَرط لَهُ من حيثية، وَسبب من حيثية أُخْرَى (مَعَ اخْتِلَاف النِّسْبَة كوقت الصَّلَاة) فَإِنَّهُ شَرط بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَدَائِهَا سَبَب بِالنِّسْبَةِ إِلَى وجوب أمرهَا، وَهَذَا معنى اخْتِلَاف النِّسْبَة وَأَيْضًا يَكْفِي فِي التقسيمات الاعتبارية المباينة بِاعْتِبَار الْحَيْثِيَّة، فَمن حَيْثُ أَنه مفض إِلَى الحكم سَبَب، وَمن حَيْثُ أَنه يتَوَقَّف عَلَيْهِ وَهُوَ غير دَاخل شَرط، ثمَّ لما كَانَ لَهُ كَلَام مُتَعَلق بتحقيق هَذَا الِاجْتِمَاع فِي الْفَصْل الثَّالِث أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (على مَا فِيهِ مِمَّا سَيذكرُ و) يُقَال الحكم (على أثر الْعلَّة) أَيْضا (كَنَفس الْملك) وَأَنه أثر للْبيع، وَقد يعبر عَنهُ بأثر فعل الْمُكَلف (و) يُقَال أَيْضا على (معلوله) أَي أثر الْعلَّة مثل (إِبَاحَة الِانْتِفَاع) بالمملوك بِالْبيعِ فَإِنَّهَا معلولة للْملك الَّذِي هُوَ أثر البيع (و) يُقَال أَيْضا (على وصف الْفِعْل) سَوَاء كَانَ (أثرا للخطاب الَّذِي هُوَ الْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم (كالوجوب وَالْحُرْمَة) فَإِنَّهُمَا صفتان لفعل الْمُكَلف أثران للْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم (أَولا) مَعْطُوف على أثرا للخطاب أَو غير أثر لَهُ (كالنافذ وَاللَّازِم) وَالْمَوْقُوف كعقد الْفُضُولِيّ الْمَوْقُوف على إجَازَة من لَهُ التَّصَرُّف (وَغير اللَّازِم كالوقف عِنْده) أَي أبي حنيفَة إِذا لم يحكم بلزومه قَاض يرى ذَلِك فَإِن كل وَاحِد من الْمَذْكُورَات وصف لتصرف الْمُكَلف وَلَيْسَ أثرا للخطاب. وَفِي التَّلْوِيح: التَّحْقِيق أَن إِطْلَاق الحكم على خطاب الشَّارِع، وعَلى أَثَره، وعَلى الْأَثر الْمُرَتّب على الْعُقُود والفسوخ إِنَّمَا هُوَ بطرِيق الِاشْتِرَاك انْتهى: أَي اللَّفْظِيّ (وَيُقَال) الحكم أَيْضا (على) الْخطاب (التكليفي خطابه تَعَالَى) بِالْجَرِّ عطف بَيَان للتكليفي (الْمُتَعَلّق بِأَفْعَال الْمُكَلّفين) حَال كَونه (طلبا أَو تخييرا) أَفعَال الْمُكَلف تعم الجارحية والقلبية، وَاحْترز بِقَيْد الْمُتَعَلّق بِأَفْعَال الْمُكَلّفين عَن غَيره كالمتعلق بِذَات الله وَصِفَاته وَغَيرهمَا مِمَّا يقْصد بِهِ الِاعْتِقَاد (فالتكليفي) إِطْلَاقه على مَا يعم الطلبي والتخيري (تَغْلِيب) إِذْ لَا تَكْلِيف فِي الْإِبَاحَة. قَالَ الشَّارِح: بل وَلَا فِي النّدب وَالْكَرَاهَة التنزيهية عِنْد الْجُمْهُور كَمَا سَيَأْتِي (وَلَو أُرِيد) التَّكْلِيف (بِاعْتِبَار

(2/129)


الِاعْتِقَاد) لَا بِاعْتِبَار الْعَمَل بِأَن يقْصد بِالْخِطَابِ أَن يعْتَقد الْمُكَلف مَضْمُون مُتَعَلّقه، ويؤمن بِهِ على مَا ذكره بعض الْأُصُولِيِّينَ فِي تَأْوِيل إِدْخَال نَحْو الْإِبَاحَة فِي التكليفى فَإِن العَبْد قد كلف باعتقاد إِبَاحَة الْمُبَاح وَندب الْمَنْدُوب (فَلَا تَخْيِير) أَي لَا يذكر فِي التَّعْرِيف حِينَئِذٍ: إِذْ لَا تَخْيِير فِي طلب الِاعْتِقَاد (وَهُوَ) أَي ذكر الطّلب (أوجه من قَوْلهم بالاقتضاء) بدل طلبا) إِذْ كَانَ) الْخطاب (نَفسه) أَي الِاقْتِضَاء، فَيصير الْمَعْنى خطاب الله تَعَالَى الْمُتَعَلّق بِأَفْعَال الْمُكَلّفين بِالْخِطَابِ كَذَا فسره الشَّارِح، وَفِي التَّلْوِيح الْخطاب فِي اللُّغَة تَوْجِيه الْكَلَام نَحْو الْغَيْر للإفهام، نقل إِلَى مَا يَقع بِهِ التخاطب، وَهُوَ هَهُنَا الْكَلَام النَّفْسِيّ الأزلي، وَفِي معنى الِاقْتِضَاء طلب الْفِعْل مِنْهُ مَعَ الْمَنْع عَن التّرْك وَهُوَ الْإِيجَاب أَو بِدُونِهِ وَهُوَ النّدب أَو طلب التّرْك مَعَ الْمَنْع عَن الْفِعْل: وَهُوَ التَّحْرِيم أَو بِدُونِهِ: وَهُوَ الْكَرَاهَة انْتهى، فَلَيْسَ الْخطاب نفس الِاقْتِضَاء بِالْمَعْنَى اللّغَوِيّ وَلَا بِالْمَعْنَى الْمَنْقُول إِلَيْهِ وَهُوَ ظَاهر، وَأما بِمَعْنى الْكَلَام النَّفْسِيّ فَهُوَ صفة أزلية بسيطة وحدانية، بِاعْتِبَار بعض تعلقاته اقْتِضَاء وَبَعضهَا تَخْيِير وَبَعضهَا أَخْبَار إِلَى غير ذَلِك، وَحِينَئِذٍ لَا فرق بَينه وَبَين الطّلب، وَكَأن مُرَاد المُصَنّف الأوجهية بِاعْتِبَار كلمة الْبَاء المنبئة عَن الْمُغَايرَة بِالذَّاتِ بَين الْخطاب والاقتضاء وَالله أعلم (وَالْأَوْجه دُخُول) الْخطاب (الوضعي فِي الْجِنْس) وَهُوَ الْخطاب الْمُتَعَلّق بِفعل الْمُكَلف (إِذا أُرِيد الْأَعَمّ) أَي تَعْرِيف الْأَعَمّ بِحَيْثُ يَشْمَل النَّوْعَيْنِ (وَيُزَاد) فِي التَّعْرِيف على مَا سبق (أَو وضعا، لَا) يلْتَفت إِلَى (مَا قيل) من أَنه (لَا) يُزَاد وضعا لإدخاله فَإِنَّهُ دَاخل فِيهِ بِدُونِهِ (لِأَن وضع السَّبَب الِاقْتِضَاء) للْفِعْل (عِنْده) أَي السَّبَب، فَمَعْنَى كَون الدلوك سَببا أَو دَلِيلا للصَّلَاة وجوب الْإِتْيَان بهَا عِنْده وَهُوَ الِاقْتِضَاء، وَمعنى جعل النَّجَاسَة مَانِعَة من الصَّلَاة حرمتهَا مَعهَا وجوازها دونهَا وَهُوَ التَّخْيِير، وعَلى هَذَا كَمَا ذهب إِلَيْهِ الإِمَام الرَّازِيّ وَاخْتَارَهُ السبكى وَأَشَارَ إِلَى تَوْجِيهه فِي الشَّرْح العضدي وَلم يرفضه المُصَنّف (لتقدم وَضعه) أَي السَّبَب (على هَذَا الِاقْتِضَاء) لِأَنَّهُ عِنْد تحقق الدلوك لَا عِنْد وَضعه سَببا (ولمخالفة نَحْو نفس الْملك وَوصف الْفِعْل) مِمَّا هُوَ من خطاب الْوَضع، وَلَيْسَ فِيهِ اقْتِضَاء، فَإِن كَون نَحْوهمَا من خطاب الْوَضع يدل على خلاف مَا قيل، أما كَون الْملك مِنْهُ فَلِأَنَّهُ جعل أثرا للْبيع وَنَحْوه وسببا لإباحة الِانْتِفَاع، وَأما وصف الْفِعْل كالنفوذ واللزوم فَهُوَ أَيْضا بِوَضْع الشَّارِع (وإخراجه) أَي الوضعي من الْجِنْس (اصْطِلَاحا) أَي من حَيْثُ الِاصْطِلَاح بِأَن يعْتَبر فِي الْخطاب الْمَذْكُور اصْطِلَاحا قيد يخرج خطاب الْوَضع (إِن لم يقبل المشاحة) إِذْ لَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح (يقبل قُصُور ملحظ وَضعه) أَي الِاصْطِلَاح، يَعْنِي يُقَال لصَاحب الِاصْطِلَاح هَب أَنَّك فِي سَعَة من وضع اللَّفْظ لما شِئْت غير أَنه لَا يَنْبَغِي مِنْك اخْتِيَار الْمَرْجُوح على الرَّاجِح من غير ضَرُورَة فِي وضعك (وَالْخطاب) مَحْمُول (على

(2/130)


ظَاهره) بِنَاء (على تَفْسِيره) اصْطِلَاحا (بالْكلَام الَّذِي بِحَيْثُ يُوَجه إِلَى المتهيء لفهمه) وَهَذِه الْحَيْثِيَّة إِنَّمَا تحصل للْكَلَام إِذا تمّ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ وَلم يبْق سوى التَّوْجِيه نَحْو المستعدّ لفهمه وَإِنَّمَا حمل على ظَاهره الْمَذْكُور (لِأَن النَّفْسِيّ) الَّذِي أُرِيد بِلَفْظ الْخطاب هَهُنَا متصف (بِهَذِهِ الْحَيْثِيَّة فِي الْأَزَل وَكَونه) أَي الْخطاب (تَوْجِيه الْكَلَام) نَحْو الْغَيْر للإفهام معنى (لغَوِيّ) وَلَيْسَ بِمُرَاد هُنَا (وَالْخلاف فِي خطاب الْمَعْدُوم) فِي الْأَزَل لَفْظِي، يَعْنِي أَن الْخلاف بَين الْفَرِيقَيْنِ بِحَسب اللَّفْظ لَا بِحَسب الْمَعْنى فذهاب كل مِنْهُمَا إِلَى مَا يُخَالف الآخر صُورَة (مَبْنِيّ عَلَيْهِ) أَي على تَفْسِير الْخطاب (فالمانع) كَونه تَعَالَى مُخَاطبا فِي الْأَزَل (يُرِيد) بِالْخِطَابِ الْخطاب (الشفاهي) المستلزم لحضور الْمُخَاطب عِنْده، من المشافهة (التنجيزي) صفة مُؤَكدَة للشفاهي، أَصله من نجز الْكَلَام إِذا انْقَطع فَإِن الْكَلَام الشفاهي الْمُقَارن للإفهام يَنْقَطِع، بِخِلَاف مَا يهيأ لَهُ وَلم يَقع بِهِ بعد فالمعدوم لَا يتَصَوَّر فِيهِ المشافهة والتنجيز (إِذا كَانَ مَعْنَاهُ) أَي الْخطاب عِنْده (تَوْجِيه) الْكَلَام وَهُوَ صَحِيح، إِذْ لَيْسَ موجها إِلَيْهِ فِي الْأَزَل (والمثبت) كَونه مُخَاطبا (يُرِيد الْكَلَام) المتصف (بالحيثية) الْمَذْكُورَة (وَمَعْنَاهُ) أَي حَقِيقَة هَذَا المُرَاد ومآله (قيام طلب) أَي طلب فعل أَو ترك بِذَات الطَّالِب مثلا، فَمثله كل معنى كَلَام هيء للإفهام إنشائيا كَانَ أَو خبريا وَلم يُوجد الْمُخَاطب بِهِ بعد، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (مِمَّن سيوجد ويتهيأ) لفهمه، وَلَا اسْتِحَالَة فِي طلب كَذَا من الْمَعْدُوم إِذْ لم يطْلب مِنْهُ فِي حَال عَدمه، بل طلب مِنْهُ أَن يَفْعَله بعد الْوُجُود والاستعداد وَحين يُوجد ويتهيأ لفهمه يتَعَلَّق بِهِ تعلقا آخر، وَهَذَا التَّعْلِيق حَادث فَإِن قلت فَمَا فَائِدَة التَّعَلُّق الأول قلت ظُهُور الْأَثر فِي أَوَانه وَالْكَلَام كَمَال لَا يَنْفَكّ عَنهُ الذَّات فِي الْأَزَل وَهُوَ أَمر وجداني يتكثر بِاعْتِبَار تعلقاته وتنوعات اعتباراته من الخبرية والإنشائية والماضوية والاستقبالية إِلَى غير ذَلِك فَظهر أَن الْخلاف لَفْظِي إِذْ لم يتحد مورد الْإِيجَاب وَالسَّلب فَإِن قلت بل الْخلاف معنوي إِذْ لم يثبت الْخصم صفة كَذَا قلت هَذَا خلاف آخر، إِنَّمَا الْكَلَام فِي الْخلاف الَّذِي بَينا عدم توارد الْإِيجَاب وَالسَّلب فِيهِ على نِسْبَة وَاحِدَة (وَاعْتِرَاض الْمُعْتَزلَة) على التَّعْرِيف الْمَذْكُور لمُطلق الحكم (بِأَن الْخطاب قديم عنْدكُمْ وَالْحكم حَادث) كَقَوْلِنَا (حرم شربه) أَي النيء من مَاء الْعِنَب إِذا اشتدّ (بعد أَن لم يكن حَرَامًا) فالحرمة الثَّابِتَة لَهُ المسبوقة بِالْعدمِ لَا شُبْهَة فِي حُدُوثه (مَدْفُوع بِأَن المُرَاد) أَي بقولنَا حرم بعد أَن لم يكن حَرَامًا (تعلق تَحْرِيمه) الْقَدِيم فالموصوف بالحدوث التَّعَلُّق (وَهُوَ) أَي التَّعَلُّق (حَادث، والتعلق يُقَال) على سَبِيل الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ (بِهِ) أَي بِهَذَا الْمَعْنى وَهُوَ التَّعَلُّق الْحَادِث (وَيكون الْكَلَام) أَي وَبِمَعْنى كَون الْكَلَام (لَهُ معلقات) على صِيغَة الْمَفْعُول (وَهُوَ) أَي هَذَا الْمَعْنى (أزلي) وَهَذَا الْكَوْن الأزلي إِجْمَال ينْدَرج تَحْتَهُ تعلقات كَثِيرَة

(2/131)


كتحريم هَذَا، وَإِيجَاب هَذَا إِلَى غير ذَلِك وكل مِنْهُمَا قديم وَعند بروز أَثَره فِي الْوُجُود يحدث تعلق آخر (وباعتباره) أَي هَذَا الْمَعْنى (أورد وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ) على تَعْرِيف مُطلق الحكم، إِذْ لم يذكر فِيهِ بالاقتضاء أَو التَّخْيِير كَمَا فعل الْغَزالِيّ لصدقه عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ خطاب مُتَعَلق بِفعل الْمُكَلف لِأَن مِمَّا يعلمونه أفعالهم مَعَ أَنه لَيْسَ بِحكم فَلَا يكون مَانِعا، وَأما كَونه لَيْسَ بِحكم فَظَاهر (فاحترس عَنهُ) أَي فاحترز عَن مثل مَا ذكر من موادّ النَّقْض (بالاقتضاء إِلَى آخِره) إِذْ لَيْسَ فِيهِ اقْتِضَاء وَلَا تَخْيِير بل هُوَ إِخْبَار عَن أفعالهم (وَأجِيب أَيْضا) عَن هَذَا الْإِيرَاد (بمراعاة الْحَيْثِيَّة) فِي الْمُكَلّفين (أَي من حَيْثُ أَنهم مكلفون) وَالْخطاب لم يتَعَلَّق فِي هَذِه الْآيَة بأفعالهم من حَيْثُ أَنَّهَا أَفعَال الْمُكَلّفين، بل من حَيْثُ أَفعَال المخلوقين (وعَلى هَذَا) الْجَواب (فبالاقتضاء الخ لبَيَان وَاقع الْأَقْسَام) أَي لبَيَان مَا وجد من أَقسَام الْخطاب، لَا للِاحْتِرَاز لِأَن مَا يقْصد الِاحْتِرَاز مِنْهُ قد خرج بِقَيْد الْحَيْثِيَّة (فَيسلم حد الْغَزالِيّ الْمَتْرُوك مِنْهُ ذَلِك) أَي بالاقتضاء إِلَى آخِره عَن الْإِيرَاد الْمَذْكُور بمراعاة الْحَيْثِيَّة (وَأورد) أَيْضا عَن التَّعْرِيف الْمَذْكُور الحكم (الْمُتَعَلّق بِفعل الصَّبِي من مندوبية صلَاته وَصِحَّة بَيْعه) إِذا كَانَ مُمَيّزا مَأْذُونا، إِذْ لَا يصدق عَلَيْهِ الْخطاب الْمُتَعَلّق بِفعل الْمُكَلف (وَوُجُوب الْحُقُوق الْمَالِيَّة فِي ذمَّته) أَي الصَّبِي (وَقَوْلهمْ) فِي جَوَاب هَذَا الْإِيرَاد (التَّعَلُّق) أَي تعلق الْخطاب فِي الْأَحْكَام الْمَذْكُورَة لَيْسَ بِفعل الصَّبِي بل (بِفعل وليه) فَيجب على وليه أَدَاء الْحُقُوق من مَاله، وَكَذَا يسْتَحبّ لَهُ أَن يَأْمُرهُ بِالصَّلَاةِ وَصِحَّة بَيْعه مَنُوط بِإِذن لَهُ فِي البيع (دفع بِأَنَّهُ) أَي التَّعَلُّق بِفعل الْوَلِيّ (حكم آخر) مُرَتّب على الحكم الْمُتَعَلّق بِالصَّبِيِّ، وَهَذَا فِي الْمَالِيَّة، وَأما فِي الْبَدَنِيَّة فَفِي الْأَمر بِالصَّلَاةِ فَانْدفع مَا ذكر، وَأما فِي صِحَة البيع وَالصَّلَاة وَالصَّوْم فَلَا يتَعَلَّق بِفعل الْوَلِيّ خطاب (فَيجب أَن يُقَال) مَكَان الْمُكَلّفين (الْعباد) ذكره صدر الشَّرِيعَة (وَأجِيب) أَيْضا عَن الْإِيرَاد (بِمَنْع تعلق حكم بِهِ) أَي بِفعل الصَّبِي فَلم يطْلب مِنْهُ صَلَاة وَلَا صَوْم وَلَا ندبا (وَالصِّحَّة وَالْفساد) حكمان (عقليان) لَا شرعيان (للاستقلال) أَي لاستقلال الْعقل (بفهم مُطَابقَة الْأَمر) أَي مُوَافقَة الْفِعْل أَمر الشَّارِع وَهُوَ معنى الصِّحَّة (وَعدمهَا) أَي الْمُطَابقَة (فِي الْمَفْعُول) أَي فِيمَا يَفْعَله الْعباد صَبيا كَانَ أَو غَيره والظرف مُتَعَلق بالمعطوف والمعطوف عَلَيْهِ وَعدم الْمُطَابقَة معنى الْبطلَان، وَهَذَا تفسيرهما عِنْد الْمُتَكَلِّمين، وَعند الْفُقَهَاء إِيقَاع الْفِعْل على وَجه ينْدَفع بِهِ الْقَضَاء وَلَا ينْدَفع (وَإِن استعقبا) أَي الصِّحَّة وَالْفساد العقليان (حكما) شَرْعِيًّا إِذا اعتبرا فِي فعل الْمُكَلف وَهُوَ الْأَجْزَاء وَإِسْقَاط مَا فِي الذِّمَّة فِي صِحَة نَحْو: الصَّلَاة وَالصَّوْم وَعدم الْأَجْزَاء فِي إفساده وترتب الْأَثر فِي الْمُعَامَلَات كَالْبيع وَالْإِجَارَة (أَو) هما حكمان (وضعيان) وضع الشَّارِع الصِّحَّة للأجزاء فِي الْعِبَادَة ولترتب الْأَثر فِي الْمُعَامَلَة

(2/132)


وَالْفساد لما يقابلهما (وَكَون صلَاته) أَي الصَّبِي (مَنْدُوبَة) مَعْنَاهُ (أَمر وليه بأَمْره) أَي بِأَن يَأْمُرهُ بِالصَّلَاةِ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " مروا الصَّبِي بِالصَّلَاةِ إِذا بلغ سبع سِنِين وَإِذا بلغ عشر سِنِين فَاضْرِبُوهُ عَلَيْهَا " (لَا خطاب الصَّبِي بهَا ندبا) لِأَن الْأَمر بِالْأَمر بالشَّيْء لَيْسَ أمرا بذلك الشَّيْء على مَا هُوَ الْمُخْتَار، كَذَا ذكره الشَّارِح، وَلَا حَاجَة لنا إِلَيْهِ لِأَنَّهُ على غير الْمُخْتَار أَيْضا يتم الْمُدَّعِي لِأَن ذَلِك الْخلاف فِيمَا إِذا كَانَ الْمَأْمُور بِالْأَمر الثَّانِي أَهلا للتكليف (وترتب الثَّوَاب لَهُ) أَي للصَّبِيّ على فعلهَا (ظَاهر) إِذْ الثَّوَاب لَيْسَ من لَوَازِم التَّكْلِيف، بل من فَضله تَعَالَى فَإِن الله لَا يضيع أجر من أحسن عملا، وَالصَّبِيّ محسن فِي عمله (وَالْحكم الثَّابِت بِمَا سوى الْكتاب) من السّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس (دَاخل) فِي حكمه تَعَالَى (لِأَنَّهُ) أَي الحكم الثَّابِت بأحدها (خطابه تَعَالَى، وَالثَّلَاثَة) الْمَذْكُورَة (كاشفة) عَنهُ (وَبِهَذَا الْقدر) من الْكَشْف (قيل) هِيَ (مثبتة) للْحكم (وتركهم عد نظم الْقُرْآن مِنْهُ) أَي الكاشف (سد لطريق التحريف) أَي وَلم يقل لنظم الْكتاب أَنه كاشف مَعَ أَنه فِي الْكَشْف مثلهَا سدا لطريق التحريف وَالنَّفْي بِأَن يُقَال لَيْسَ كَلَامه بل هُوَ كاشف عَنهُ (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن هَذَا الْمَانِع (فَهُوَ) أَي نظم الْقُرْآن (الكاشف عَن) الْخطاب (النَّفْسِيّ) الْقَائِم (بِالذَّاتِ) الْمُقَدّس، أَو هُوَ احْتِرَاز عَن النَّفْسِيّ لَا بِالذَّاتِ، وَهُوَ النّظم فَإِنَّهُ نَفسِي بِاعْتِبَار دلَالَته على النَّفْسِيّ بِالذَّاتِ (ثمَّ قيل) التَّعْرِيف (الصَّحِيح) خطابه تَعَالَى الْمُتَعَلّق (بِفعل الْمُكَلف ليدْخل خصوصيته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي ليدْخل فِي التَّعْرِيف خطابه تَعَالَى الْمُتَعَلّق بِفعل أَو ترك مَخْصُوص بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذْ لَا يصدق عَلَيْهِ أَنه خطاب يتَعَلَّق بِأَفْعَال الْمُكَلّفين، وَكَذَا الْخطاب الْمُتَعَلّق بِصِحَّة شَهَادَة خُزَيْمَة وَحده (وَلَا يُفِيد) الْعُدُول عَن الْمُكَلّفين إِلَى الْمُكَلف ذَلِك (لِأَنَّهُ) أَي الْمُكَلف (كالمكلفين عُمُوما) أَي مثله فِي الْعُمُوم: إِذْ لَا فرق بَين الْجمع الْمحلي بلام الِاسْتِغْرَاق والمفرد الْمحلي بهَا، لِأَن اللَّام تبطل الجمعية، ويستغرق أَفْرَاد الْجِنْس كالمفرد، ثمَّ احْتَرز عَن إِفَادَة الْعُمُوم، فَقيل مُكَلّف بِغَيْر لَام الِاسْتِغْرَاق (وَيدْفَع) أصل الِاعْتِرَاض (بِأَن صدق عُمُوم الْمُكَلّفين) فِي خطابه الْمُتَعَلّق بِفعل الْمُكَلّفين (لَا يتَوَقَّف على صُدُور كل فعل) مِمَّا تعلق بِهِ الْخطاب (من كل مُكَلّف، بل لَو انقسمت الْآحَاد) من الْأَفْعَال (على الْآحَاد) من الْمُكَلّفين لاقتضى تقَابل الْجمع بِالْجمعِ توزيع الْآحَاد على الْآحَاد (صدق) الْعُمُوم (أَيْضا) فَيصدق التَّعْرِيف على الْخطاب الْمُتَعَلّق بِفعل مَخْصُوص بمكلف خَاص: هَذَا وَيجوز أَن يكون من قبيل: فلَان يركب الْخَيل وَإِن لم يركب إِلَّا وَاحِد مِنْهَا، فَالْمُرَاد تعلقه بِجِنْس فعل الْمُكَلف (ثمَّ الِاقْتِضَاء إِن كَانَ حتما لفعل غير كف) للنَّفس عَن فعل وَذَلِكَ بِعَدَمِ تَجْوِيز الطَّالِب ترك ذَلِك الْفِعْل، قيد الْفِعْل بِكَوْنِهِ غير كف، لِأَنَّهُ

(2/133)


لَو كَانَ كفا لَكَانَ تَحْرِيمًا (فالإيجاب) أَي فِي هَذَا الِاقْتِضَاء (وَهُوَ) الْإِيجَاب، وَقد عرفت أَن الِاقْتِضَاء هُوَ نفس الْكَلَام الْمَذْكُور (هُوَ) أَي الْإِيجَاب (نفس الْأَمر النَّفْسِيّ، وَيُسمى وجوبا أَيْضا بِاعْتِبَار نسبته إِلَى الْفِعْل) يَعْنِي أَن الْإِيجَاب وَالْوُجُوب متحدان بِالذَّاتِ مُخْتَلِفَانِ بِالِاعْتِبَارِ، بِاعْتِبَار الْقيام بِذَاتِهِ تَعَالَى إِيجَاب، وَبِاعْتِبَار تعلقه بِفعل العَبْد وجوب (وَهُوَ) أَي الْوُجُوب بِهَذَا الْمَعْنى (غير) المُرَاد فِي (الْإِطْلَاق الْمُتَقَدّم) فَإِن الْمَذْكُور ثمَّة أَن الْوُجُوب يُقَال لأثر الْخطاب وَهُوَ صفة فعل الْمُكَلف لَا نفس الْإِيجَاب بِاعْتِبَار نسبته إِلَى الْفِعْل، وَأورد عَلَيْهِ أَنه يُقَال أوجب الْفِعْل فَوَجَبَ، فالإيجاب صفة الْمُوجب، وَالْوُجُوب مترتب عَلَيْهِ صفة لمتعلق فعله، فَلَا اتِّحَاد، وَقَرِيب من هَذَا مَا قيل: من أَن الْإِيجَاب من مقولة الْفِعْل، وَالْوُجُوب من مقولة الانفعال، وَقد يُقَال إِن القَوْل بالاتحاد على سَبِيل الْمُسَامحَة، أَو لَيْسَ المُرَاد بهما مَا هُوَ الْمُتَبَادر مِنْهُمَا: بل أَمر وَاحِد لَهُ اعتباران بِالْقِيَاسِ إِلَى الْأَمر والمأمور بِهِ بِكُل اعْتِبَار لَهُ اسْم وَالله أعلم. (أَو) كَانَ (تَرْجِيحا) لفعل غير مُكَلّف (فالندب، أَو لكف حتما) صرح بحتما مَعَ أَنه كَانَ يفهم بِمُوجب الْعَطف لِئَلَّا يتَوَهَّم أَن المُرَاد بالْعَطْف مُجَرّد التَّشْرِيك فِي الطّلب (فالتحريم) أَي فَهَذَا الِاقْتِضَاء التَّحْرِيم (وَالْحُرْمَة) المتحدان بِالذَّاتِ المختلفان (بِالِاعْتِبَارِ غير مَا تقدم) أَي المُرَاد بِالْحُرْمَةِ هُنَا غير مَا تقدم أَن المُرَاد ثمَّة أثر الْخطاب صفة للكف، وَهَهُنَا نفس التَّحْرِيم (وَظهر مَا قدمنَا من فَسَاد تعريفهم الْأَمر وَالنَّهْي النفسيين بتركهم) لفظ (حتما) فِي تعريفي الْأَمر وَالنَّهْي النفسيين بِطَلَب صلَة التَّعْرِيف الخ أَي طلب فعل غير كف من غير ذكر حتما، وَمن غير استعلاء، وَيفْسد التّرْك الْمَذْكُور طردهما أَي طرد تَعْرِيف الْأَمر الإيجابي النَّفْسِيّ لصدقه على الندبي، وتعريف النَّهْي النَّفْسِيّ التحريمي لصدقه على الكرهي (وَكَذَا) ظهر مِمَّا ذكر الْفساد (بترك الاستعلاء فِي التَّقْسِيم) أَي تَقْسِيم الطّلب إِلَى الْأَمر وَالنَّهْي، وَالدُّعَاء والالتماس، وَاعْتِبَار الاستعلاء إِنَّمَا هُوَ فِي الْقسم الَّذِي هُوَ مقسم الْأَوَامِر والنواهي، وَفَسَاد التَّقْسِيم بِاعْتِبَار عدم امتياز الْقسم الْمَذْكُور عَن قسميه، فَإِذا لم يعْتَبر فِي جَانب الْأَمر وَالنَّهْي الاستعلاء صدق تعريفاهما المستنبطان من التَّقْسِيم على نظيريهما من الدُّعَاء والالتماس على مَا سيشير إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا ظهر هَذَا الْفساد من اعْتِبَار الحتم لكَون الاستعلاء نَظِير الحتم فِي أَن تَركه مَحل للطرد، والذهن ينْتَقل من أحد النظيرين إِلَى الآخر (لِأَنَّهُ) أَي التَّقْسِيم (يخرج التَّعْرِيف) لِأَن التَّقْسِيم عبارَة عَن ضم الْقُيُود الْمُخَالفَة إِلَى الْمقسم بِحَيْثُ يحصل بانضمام كل قيد قسم فالمجموع الْمركب من الْمقسم وَذَلِكَ الْقَيْد تَعْرِيف لذَلِك الْقسم، وَقيد الاستعلاء لَا بُد مِنْهُ فِي الْأَمر وَالنَّهْي لما عرفت (هَذَا) الَّذِي ذكرنَا فِي تَحْقِيق ماهيتي الْإِيجَاب وَالتَّحْرِيم إِنَّمَا كَانَ (بِاعْتِبَار نفسهما) وبحسب حَالهمَا فِي حدّ ذاتهما فِي نفس الْأَمر،

(2/134)


وَأما بِحَسب اطلاعنا عَلَيْهِمَا فَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (أما بِاعْتِبَار الِاتِّصَال) إِلَيْنَا بالألفاظ الدَّالَّة عَلَيْهِمَا (فَكَذَلِك عِنْد غير الْحَنَفِيَّة) أَي تَفْسِير الْإِيجَاب بِطَلَب الْفِعْل غير الْكَفّ من غير مُلَاحظَة حَال الدَّال، وَهَكَذَا فِي التَّحْرِيم (وَأما هم) أَي الْحَنَفِيَّة فلاحظوا ذَلِك فَقَالُوا (فَإِن ثَبت الطّلب الْجَازِم بقطعي) متْنا وَدلَالَة من كتاب أَو سنة أَو إِجْمَاع (فالافتراض) إِن كَانَ الْمَطْلُوب غير كف (وَالتَّحْرِيم) إِن كَانَ كفا (أَو) ثَبت الطّلب الْجَازِم (بظني) دلَالَة من كتاب أَو دلَالَة، أَو ثبوتا من سنة أَو إِجْمَاع (فالإيجاب) فِي غير الْكَفّ (وَكَرَاهَة التَّحْرِيم) فِي الْكَفّ (ويشار كانهما) أَي الْإِيجَاب وَكَرَاهَة التَّحْرِيم الافتراض وَالتَّحْرِيم (فِي اسْتِحْقَاق الْعقَاب بِالتّرْكِ) لما هُوَ الْمَطْلُوب مِنْهُ (وَعنهُ) أَي عَن التشارك فِي الِاسْتِحْقَاق. (قَالَ مُحَمَّد كل مَكْرُوه حرَام) مرِيدا بِهِ (نوعا من التَّجَوُّز) فِي لفظ حرَام بِاعْتِبَار التشارك الْمَذْكُور (وَقَالا) أَي أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف (على الْحَقِيقَة) الْمَكْرُوه (إِلَى الْحَرَام أقرب) مِنْهُ إِلَى الْمحل، وَإِنَّمَا قُلْنَا نوعا من التَّجَوُّز (للْقطع بِأَن مُحَمَّدًا لَا يكفر جَاحد الْوُجُوب وَالْمَكْرُوه) كَمَا يكفر جَاحد الْفَرْض وَالْحرَام (فَلَا اخْتِلَاف) بَينه وَبَينهمَا فِي الْمَعْنى (كَمَا يظنّ) .
مسئلة

(أَكثر الْمُتَكَلِّمين) ذَهَبُوا إِلَى أَنه (لَا تَكْلِيف إِلَّا بِفعل) كسبي سَوَاء كَانَ فعل الْجَوَارِح أَو الْقلب (وَهُوَ) أَي الْفِعْل الْمُكَلف بِهِ (فِي النَّهْي كف النَّفس عَن الْمنْهِي) جَوَاب سُؤال وَهُوَ أَن الْمُكَلف بِهِ فِي النَّهْي عدم الْإِتْيَان بالمنهي عَنهُ وَهُوَ أَمر أُصَلِّي حَاصِل وَلَيْسَ بِفعل وَحَاصِل الْجَواب أَن الْمُكَلف بِهِ لَيْسَ الْعَدَم الْأَصْلِيّ، بل هُوَ كف النَّفس عَن ميلها إِلَى الْمنْهِي عَنهُ، والكف فعل، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (ويستلزم) كَون الْفِعْل الْمُكَلف بِهِ فِي النَّهْي كف النَّفس (سبق الداعية) أَي دَاعِيَة النَّفس إِلَى الْمنْهِي عَنهُ (فَلَا تَكْلِيف قبلهَا) أَي الداعية (تنجيزا) إِذْ لَو طلب مِنْهُ مُنجزا كف النَّفس عَن فعل لَيْسَ لَهَا دَاعِيَة لزم التَّكَلُّف بِمَا لَا يُطَاق: إِذْ لَا يتَصَوَّر كف النَّفس عَن شَيْء لم ترده وَلم تمل إِلَيْهِ فَإِذن يكون نَحْو: لَا تقربُوا الزِّنَا تَعْلِيق الْكَفّ أَي إِذا طلبته نَفسك فكفها عَنهُ، فَظهر فَائِدَة قَوْله تنجيزا فَإِن قيل لزم حِينَئِذٍ فَوَات فَضِيلَة امْتِثَال نهي شرب الْخمر لأبي بكر رَضِي الله عَنهُ لما قيل من أَنه لم تطلب نَفسه الْخمر فِي الْجَاهِلِيَّة وَلَا فِي الْإِسْلَام قُلْنَا لَا نقض فِيهِ مَعَ وجود مَا هُوَ أَعلَى مِنْهُ فِيهِ، وَهُوَ هَذَا النَّوْع من الْعِصْمَة (وَكثير من الْمُعْتَزلَة) مِنْهُم أَبُو هَاشم قَالُوا: الْمُكَلف بِهِ فِي النَّهْي (عَدمه) أَي الْفِعْل (لنا لَا تَكْلِيف إِلَّا بمقدور) كَمَا سَيَأْتِي (والعدم غَيره) أَي غير مَقْدُور

(2/135)


(إِذْ لَيْسَ) الْعَدَم (أَثَرهَا) أَي الْقُدْرَة (وَلَا استمراره) أَي وَلَا اسْتِمْرَار الْعَدَم أثر الْقُدْرَة، لِأَن الْعَدَم نفي مَحْض، وَلما نظر فِي هَذَا ابْن الْحَاجِب وَغَيره وَقرر فِي الشَّرْح العضدي بِأَنا لَا نسلم أَن اسْتِمْرَار الْعَدَم لَا يصلح أثر للقدرة إِذْ يُمكنهُ أَن لَا يفعل فيستمر، وَأَيْضًا يَكْفِي فِي طرف النَّفْي أثرا أَنه لم يَشَأْ فَلم يفعل، وَذَلِكَ لِأَن الْفَاء المتوسطة بَين عدم الْمَشِيئَة وَعدم الْفِعْل تدل على ترَتّب الثَّانِي على الأول، والمترتب على الشَّيْء أثر لَهُ، وَفِيه نظر: إِذْ الترتب إِنَّمَا يسْتَلْزم المعلولية، وكل مَعْلُول لَا يلْزم أَن يكون أثر الْعلية: أَلا ترى أَن الْمَشْرُوط مَعْلُول الشَّرْط، وَلَا يُقَال أَنه أثر لَهُ. وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: وَحَاصِله أَنا لَا نفسر الْقَادِر بِالَّذِي إِن شَاءَ فعل وَإِن شَاءَ ترك بل بِالَّذِي إِن شَاءَ فعل وَإِن لم يَشَأْ لم يفعل، فَدخل فِي الْمَقْدُور عدم الْفِعْل إِذْ ترَتّب على عدم الْمَشِيئَة وَكَانَ الْفِعْل مِمَّا يَصح ترتبه على الْمَشِيئَة، وَتخرج العدميات الَّتِي لَيست كَذَلِك: أَشَارَ المُصَنّف إِلَيْهِ ورده، فَقَالَ (وَتَفْسِير الْقَادِر بِمن إِن شَاءَ فعل، وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يَشَأْ (لم يفعل، لَا) بِمن إِن شَاءَ فعل (وَإِن شَاءَ ترك، وَكَونه لم يَشَأْ فَلم يفعل) كَمَا يَقْتَضِيهِ التَّفْسِير الأول بِإِدْخَال الْفَاء الدَّاخِلَة على ترَتّب مدخولها على مَا قبله الموهمة كَون الْعَدَم أثرا لعدم الْمَشِيئَة (لَا يُوجب اسْتِمْرَار) الْعَدَم (الْأَصْلِيّ أثر الْقُدْرَة بِهِ) أَي الْمُكَلف: أَي يُوجب كَون الِاسْتِمْرَار الْمَذْكُور أثرا لَهَا (فَيكون ممتثلا للنَّهْي) فَقَوله تَفْسِير الْقَادِر مُبْتَدأ عطف عَلَيْهِ كَونه إِلَى آخِره، وَقَوله لَا يُوجب خَبره (بل عدم مَشِيئَة الْفِعْل أصلا) بِأَن لم يتَعَلَّق بِهِ مَشِيئَة لَا وجودا وَلَا عدما (صُورَة عدم الشُّعُور بالتكلف) يَعْنِي أَنَّك بدلت إِن شَاءَ ترك فِي تَفْسِير الْقَادِر بِأَن لم يَشَأْ لم يفعل ليصير عدم الْفِعْل مَقْدُورًا للمكلف، وَلَيْسَ الْأَمر كَمَا زعمت: إِذْ الْمُكَلف لَا يَخْلُو من أَن يكون لَهُ شُعُور بِالنَّهْي أَو لَا، وعَلى الثَّانِي جعل اسْتِمْرَار الْعَدَم الْأَصْلِيّ أثر الْقُدْرَة، وامتثالا للنَّهْي مِمَّا لَا يرتضيه عَاقل: إِذْ الِامْتِثَال للنَّهْي فرع الشُّعُور بِهِ، وَأثر قدرَة الْفَاعِل الْمُخْتَار يجب أَن يكون مشعورا بِهِ إِذا كَانَ مَقْصُود الْحُصُول بِهِ، وَأما على الأول فَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَأما مَعَه) أَي مَعَ الشُّعُور بِالنَّهْي (فَلَيْسَ الثَّابِت) من حَيْثُ قصد الِامْتِثَال اللَّازِم للشعور بِهِ بِمُوجب الْإِيمَان (إِلَّا مَشِيئَة عدم الْفِعْل وَإِن عبر عَنهُ) أَي عَن مَشِيئَة عدم الْفِعْل، والتذكير لكَونه مصدرا (بِعَدَمِ مَشِيئَته) أَي الْفِعْل تسامحا (فَيتَحَقَّق التّرْك) حِينَئِذٍ فَلَا فَائِدَة فِي الْعُدُول عَن الأول إِلَى الثَّانِي (وَهُوَ) أَي التّرْك (فعل إِذا طلبته) النَّفس (ويثاب) الْمُكَلف (على هَذَا الْعَزْم) الَّذِي هُوَ مَشِيئَة عدم الْفِعْل إِن كَانَ لله من غير طلب النَّفس إِيَّاه (لَا) يُثَاب (على امْتِثَال النَّهْي) حِينَئِذٍ (إِذْ لم يُوجد) الِامْتِثَال بِمُجَرَّد الْعَزْم بل عِنْد الطّلب والكف وَأَيْضًا لَا نسلم الْفرق بَين التفسيرين بِأَن يصير الِاسْتِمْرَار على الأول مَقْدُورًا دون الثَّانِي، إِذْ

(2/136)


لم يعْتَبر فِي شَيْء مِنْهَا تحقق الْمَشِيئَة بل يَكْفِي فَرضهَا، والمكلف الَّذِي لَا شُعُور لَهُ بالمنهي عَنهُ، وبعدمه يصدق عَلَيْهِ إِن شَاءَ فعل وَإِن شَاءَ ترك بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاسْتِمْرَار الْمَذْكُور وَالْفِعْل وَالتّرْك ملحوظ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُتَعَلق الْعَدَم المستمر فَتدبر.
مسئلة

(الْقُدْرَة شَرط التَّكْلِيف بِالْعقلِ) أَي بِالدَّلِيلِ الْعقلِيّ (عِنْد الْحَنَفِيَّة والمعتزلة لقبح التَّكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق) مثلا (عقلا واستحالة نِسْبَة الْقَبِيح) اللَّازِمَة للتكليف بِمَا لَا يُطَاق (إِلَيْهِ تَعَالَى) وَهَذَا الدَّلِيل يُفِيد كَونهَا شَرط جَوَاز التَّكْلِيف، وَيلْزم مِنْهُ كَونهَا شَرط وُقُوعه بِالطَّرِيقِ الأولي، (و) شَرطه (بِالشَّرْعِ) أَي بِالدَّلِيلِ السمعي عِنْد الأشاعرة، وَالدَّلِيل (للأشاعرة) قَوْله تَعَالَى {لَا يُكَلف الله} الْآيَة) أَي نفسا إِلَّا وسعهَا وَلَا يخفى أَنه يُفِيد كَونهَا شرطا للوقوع: إِذْ مَدْلُول قَوْله تَعَالَى - {لَا يُكَلف الله} - عدم وُقُوع التَّكْلِيف، لَا عدم جَوَازه، وسيشير إِلَيْهِ (فِي الْمُمكن) لذاته ظرف لاشْتِرَاط الْقُدْرَة بِالشَّرْعِ عِنْد الأشاعرة: إِذْ فِي اشْتِرَاطهَا بِالشَّرْعِ فِي غير الْمُمكن لذاته خلاف كَمَا سَيذكرُهُ (كحمل جبل) بدل من الْمُمكن، أَو مُبْتَدأ خَبره مَحْذُوف لَا يُكَلف بِهِ عقلا عِنْد الْأَوَّلين، وَشرعا عِنْد الأشاعرة: يَعْنِي لم يَقع التَّكْلِيف بِهِ (وَلَو كلف بِهِ حسن) عِنْد الأشاعرة (وَهِي) أَي هَذِه المسئلة فرع (مسئلة التحسين والتقبيح) فَمن جَعلهمَا عقليين حكم بِعَدَمِ جَوَاز التَّكْلِيف بِمثل حمل الْجَبَل: إِذْ الْعقل يحكم بقبحه، وَمن لم يجعلهما عقليين حسن عِنْده ذَلِك لقَوْله تَعَالَى - {يفعل الله مَا يَشَاء} -، ونظائره (وَاخْتلفُوا) أَي الأشاعرة (فِي الْمحَال لذاته) كالجمع بَين النقيضين (فَقيل عدم جَوَازه) أَي التَّكْلِيف بالمحال لذاته (شَرْعِي لِلْآيَةِ) الْمَذْكُورَة (فَلَو كلف الْجمع بَين الضدين) كالحركة والسكون فِي زمَان وَاحِد لجسم وَاحِد (جَازَ) . قَالَ الشَّارِح عقلا، وَيرد عَلَيْهِ أَن الْعقل لَا يحكم بِالْجَوَازِ وَعَدَمه عِنْد الْأَشْعَرِيّ فَالظَّاهِر أَن المُرَاد شرعا، إِذْ على تَقْدِير فرض التَّكْلِيف - {لَا يسئل عَمَّا يفعل} -، وكل مَا يَفْعَله حسن شرعا: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون مُرَاده بِالْجَوَازِ عقلا أَن الْعقل لَا يحكم بقبحه: إِذْ لَا حكم لَهُ فِي التحسين والتقبيح (وَنسب) هَذَا القَوْل (للأشعري) أَي إِلَيْهِ (وَقيل) عدم جَوَازه (عَقْلِي لملزومية الطّلب تصور الْمَطْلُوب) يَعْنِي أَن التَّكْلِيف بِفعل طلب لَهُ، وَطلب الْفِعْل يسْتَلْزم أَن يتَصَوَّر الطَّالِب وُقُوعه لَا يُقَال لَا حجر فِي التَّصَوُّر، فَيجوز أَن يتَصَوَّر وُقُوع الْمحَال لِأَن المُرَاد تصَوره، على وَجه يجوز وُقُوعه فِي الْخَارِج لَا على سَبِيل فرض الْمحَال كَمَا سيشير إِلَيْهِ (على وَجه المطلوبية) أَي تصورا على وَجه تعلق الطّلب بِهِ على ذَلِك الْوَجْه (فيتصور) الْمَطْلُوب للطَّالِب

(2/137)


(مثبتا) إِذْ هُوَ مَطْلُوبه من حَيْثُ الثُّبُوت والوقوع (وَهُوَ) أَي تصور الْمحَال مثبتا (تصور الْمَلْزُوم ملزوما لنقيض اللَّازِم) فَإِنَّهُ إِذا فرض أَرْبَعَة مَوْصُوفَة بنقيض لازمها الَّذِي هُوَ الزَّوْجِيَّة تحقق تصور الْمَلْزُوم الَّذِي هُوَ الْأَرْبَعَة مَوْصُوفا لكَونه ملزوما لنقيض اللَّازِم: أما ملزوميتها فبحسب نفس الْأَمر، وَأما ملزوميتها للنقيض فبمقتضى الْفَرْض، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وتصور أَرْبَعَة لَيْسَ زوجا) فِي الْمَآل (تصور أَرْبَعَة لَيست أَرْبَعَة) إِذْ الزَّوْجِيَّة لَازِمَة لَهَا، وَانْتِفَاء اللَّازِم يسْتَلْزم انْتِفَاء الْمَلْزُوم (ونوقض) هَذَا الدَّلِيل (بِلُزُوم امْتنَاع الحكم بامتناعه) أَي الْمُمْتَنع صلَة للْحكم (خَارِجا) ظرف للامتناع: يَعْنِي كَمَا أَن تصور الْمحَال مثبتا مُسْتَلْزم لما ذكرْتُمْ كَذَلِك الحكم بامتناع الْمُمْتَنع فِي الْخَارِج مُسْتَلْزم لَهُ (لِأَنَّهُ) أى الحكم بامتناع خَارِجا (فرع تصَوره) أى الْمُمْتَنع (خَارِجا) فالممتنع لَازمه عدم التحقق فِي الْخَارِج، وَإِذا تصورته مثبتا لزم تصور وُقُوعه فِيهِ، والوقوع فِيهِ نقيض اللاوقوع فِيهِ فَلَزِمَ تصور الْمَلْزُوم ملزوما لنقيض اللَّازِم (أُجِيب) عَن النَّقْض الْمَذْكُور (بِأَن اللَّازِم) للْحكم بالامتناع على الْمُمْتَنع (تصَوره) أَي تصور الْمُمْتَنع الْمَحْكُوم عَلَيْهِ مُطلقًا (لَا) تصَوره (بِقَيْد إثْبَاته) بِأَن يجوز الْعقل ثُبُوته فِي الْخَارِج ملزوما للوازمه كَمَا يلْزم عِنْد طلب الْفِعْل (وَهُوَ) أَي تصَوره بِقَيْد الْإِثْبَات (الْمُمْتَنع) لَا تصَوره مُطلقًا (فيتصور) الْحَاكِم (الْجمع بَين المختلفات) الْغَيْر المتضادة كالحلاوة وَالْبَيَاض فِي الحكم بِأَن الضدين لَا يَجْتَمِعَانِ (وبنفيه) أَي الِاجْتِمَاع (عَنْهُمَا) أَي الضدين وَالْحَاصِل أَن الَّذِي لَا وجود لَهُ فِي الْخَارِج، وَأَنت قصدت الحكم عَلَيْهِ بِنَفْي الْوُجُود مثلا لَا يحْتَاج إِلَى تصور مورد النَّفْي على وَجه يجوز ثُبُوته فِي الْخَارِج بل يَكْفِيك تصَوره على وَجه الْفَرْض، فَإِذا قصدت أَن تحكم على الضدين بِنَفْي الِاجْتِمَاع تتَصَوَّر لَهما اجتماعا كاجتماع المختلفات الْغَيْر المتضادة، ثمَّ تنفيه (وَهُوَ) أَي تصور الْجمع بَينهمَا على الْوَجْه الْمَذْكُور (كَاف) فِي الحكم الْمَذْكُور (بِخِلَاف مَا) أَي تصور (يستدعيه طلب إثْبَاته) أَي الْفِعْل (فِي الْخَارِج) فَإِنَّهُ لَا بُد فِيهِ من تصَوره بِقَيْد الْإِثْبَات، وَقد عرفت مَعْنَاهُ: هَذَا كَلَام الْقَوْم فِي هَذَا الْمقَام، ثمَّ أَفَادَ مَا هُوَ التَّحْقِيق عِنْده بقوله (وَالْحق أَنا نعلم بِالضَّرُورَةِ إِمْكَان كلفتك الْجمع بَينهمَا) أَي الضدين: يَعْنِي أَن كَلَامهم يَسْتَدْعِي عدم إِمْكَان التَّكْلِيف بالمحال لملزومية الطّلب إِلَى آخِره، وَالْعلم الضَّرُورِيّ يحكم بإمكانه فاستدلالهم هَذَا مصادم للْعلم الضَّرُورِيّ فَلَا يعْتَبر (وَهُوَ) أَي وُقُوع مُتَعَلق هَذَا الْإِمْكَان (أما فرع قَوْله) تَعَالَى (النَّفْسِيّ ذَلِك) أَي معنى كلفتك الْجمع بَينهمَا على رَأْي من يثبت الْكَلَام النَّفس لَهُ (أَو) فرع (الْعلم) بِمَعْنى هَذَا على رَأْي من لم يثنه (فَإِن استدعى) هَذَا التَّكْلِيف (قدرا من التعقل) للطَّالِب أَو للمكلف: يَعْنِي تصور الْمَطْلُوب على وَجه المطلوبية مثبتا وَإِلَّا فَأصل التحقق

(2/138)


لَا شُبْهَة فِيهِ فَلَا يُنَاسب كلمة الشَّك، وَحِينَئِذٍ قَوْله (فقد تحقق) لَك الْقدر غير مُسْتَقِيم: إِذْ تَجْوِيز وُقُوع الْمحَال محَال، وَقد يُجَاب عَنهُ بِأَن الحكم بالتحقق على تَقْدِير الاستدعاء يسْتَلْزم الحكم بِهِ مُطلقًا غير أَنه لَا يَسْتَقِيم حِينَئِذٍ قَوْله (وَلَا حَاجَة لنا إِلَى تَحْقِيقه) أَي تصَوره مثبتا بِحَيْثُ يجوز الْعقل وُقُوعه وَلَا مخلص إِلَّا بِالْتِزَام حمله كلمة الشَّك على خلاف الظَّاهِر، وَإِرَادَة قدر مَا من التعقل وَالله أعلم (وَأَيْضًا يُمكن تصور الثُّبُوت بَين الخلافين فيكلف بِهِ) أَي بالثبوت (بَين الضدين) مَعْطُوف على قَوْله وَالْحق وَحَاصِله أَي الْمَنْع توقف التَّكْلِيف بِالْجمعِ بَين الضدين على تصَوره وَاقعا، بل يَكْفِي فِيهِ تصور الِاجْتِمَاع كَمَا يَكْفِي فِي الحكم على مَا ذكر (وَحَدِيث تصور المستحيل) الْمَدْلُول عَلَيْهِ بقوله وَهُوَ تصور الْمَلْزُوم ملزوما لنقيض اللَّازِم إِلَى آخِره (بِمَا فِيهِ) أَي مَعَ مَا فِيهِ من الْبَحْث المفاد بقوله وَأجِيب إِلَى آخِره (لَا وُقُوع لَهُ بعد مَا ذكرنَا) من أَنا نعلم بِالضَّرُورَةِ إِمْكَان كلفتك الْجمع بَينهمَا (وَلَا خلاف فِي وُقُوع التَّكْلِيف بالمحال لغيره كَمَا) أَي كالفعل الَّذِي (علم) الله (سُبْحَانَهُ عدم كَونه) أَي تحَققه فِي الْخَارِج، وَمَعَ هَذَا كلف بِهِ، وَلما استدلوا بِهَذَا التَّكْلِيف على جَوَاز التَّكْلِيف بالمحال لذاته وَكَانَ ذَلِك غير موجه أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَالْوَجْه أَنه) أَي مَا علم الله سُبْحَانَهُ عدم كَونه (لم يَتَّصِف بالاستحالة) الَّتِي هِيَ مَحل النزاع (لذَلِك) أَي لعلمه سُبْحَانَهُ بِعَدَمِ كَونه (لِاسْتِحَالَة اجتماعه) أَي اجْتِمَاع كَونه محالا (مَعَ الْإِمْكَان) الثَّانِي الْمَوْجُود فِيهِ اتِّفَاقًا (بل هُوَ) أَي مَا علم سُبْحَانَهُ عدم كَونه (مُمكن مَقْطُوع بِعَدَمِ وُقُوعه فاستدل الْمُجِيز) لوُقُوع التَّكْلِيف بالمستحيل لذاته (بِهِ) أَي بِوُقُوع التَّكْلِيف بالممكن الْمَقْطُوع بِعَدَمِ وُقُوعه كَلَام وَقع (فِي غير مَحل النزاع، و) مَعَ كَونه كلَاما فِي غير مَحل النزاع (يَقْتَضِي وُقُوع تَكْلِيف المستحيل لنَفسِهِ اتِّفَاقًا) فَلَا وَجه لجعله دَلِيلا على جَوَاز وُقُوع التَّكْلِيف بالمحال لذاته وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذا لم يفرق بَين الْمحَال لغيره والمحال لذاته ويجعله محالا لذاته، وَمَا علم سُبْحَانَهُ عدم كَونه قد كلف بِهِ اتِّفَاقًا لزم من هَذَا الِاتِّفَاق على وُقُوع التَّكْلِيف بالمستحيل لذاته (والاتفاق) بَين الأشاعرة (على نَفْيه) أَي وُقُوع التَّكْلِيف بالمستحيل لذاته كغيرهم (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الِاتِّفَاق مِنْهُم على نَفْيه (ناقضوا الْآيَة) أَي لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا لدلالته على نفي الْوُقُوع صَرِيحًا (وَالْخلاف فِي جَوَازه) لَا غير (وَكَذَا استدلالهم) على جَوَاز التَّكْلِيف بالمحال لذاته (بِأَن الْقُدْرَة مَعَ الْفِعْل) فَقبل الْفِعْل لَا قدرَة لَهُ وصدور الْفِعْل من غير قدرَة محَال، وَقد كلف بِالْفِعْلِ قبله اتِّفَاقًا كَلَام فِي غير مَحل النزاع وَيَقْتَضِي الِاتِّفَاق على وُقُوع التَّكْلِيف بالمحال وَقَوله (وَهُوَ مَخْلُوق لَهُ تَعَالَى) لإِفَادَة أَن الْمَعِيَّة لَا تضر لكَون الْفِعْل يُوجد بتأثير قدرَة الْخَالِق من غير تَأْثِير لقدرة الْمَخْلُوق وَمن غير مدخلية لَهَا فَلَيْسَتْ من أَجزَاء الْعلَّة فليزم تقدمها غير أَنه لَو فرض مدخليتها أَيْضا لم يلْزم

(2/139)


تقدمها زَمَانا، وَالْمرَاد معيتها زَمَانا، فَالْوَجْه أَن يَجْعَل دَلِيلا مُسْتقِلّا كَمَا فِي الشَّرْح العضدي، وَأما فَائِدَة إِثْبَات هَذِه الْقُدْرَة فَسَيَأْتِي بَيَانهَا (وَمِنْه) أَي وَمِمَّا ذكر من أَن الْقُدْرَة مَعَ الْفِعْل وَأَن الْفِعْل مَخْلُوق لَهُ تَعَالَى، وَمن هَذَا الِاسْتِدْلَال (ألزم الْأَشْعَرِيّ القَوْل بِهِ) أَي بتكليف الْمحَال وَإِلَّا فَهُوَ لم يُصَرح بِهِ (وَيلْزم) أَيْضا من هَذَا الِاسْتِدْلَال (كَون كل مَا كلف بِهِ محَال لذاته) قَالَ الشَّارِح: أَي فَهُوَ محَال لذاته، وَالْوَجْه الظَّاهِر محالا انْتهى وَلَا يخفى سماجة هَذَا التَّأْوِيل فَالْوَجْه أَن يُقَال سقط الْألف عَن الْقَلَم سَهوا، وَإِنَّمَا يلْزم ذَلِك لِأَن كَون الْقُدْرَة مَعَ الْفِعْل مُوجب للاستحالة الذاتية على رَأْيه، وَهَذَا مَوْجُود فِي كل تَكْلِيف (وَقَوْلهمْ) أَي المجيزين لوُقُوع التَّكْلِيف بالمحال لذاته (وَقع) التَّكْلِيف بِهِ إِذا (كلف أَبُو لَهب) أَي كلفه الله تَعَالَى (بالتصديق بِمَا أخبر) بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِجْمَاعًا (وَأخْبر) أَي أخبرهُ الله تَعَالَى وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَنه) أَي أَبَا لَهب (لَا يصدقهُ) التزاما لإخباره بِأَنَّهُ من أهل النَّار بقوله - {سيصلى نَارا ذَات لَهب} - (وَهُوَ) أَي تَكْلِيفه بالتصديق بِمَا أخبر على الْعُمُوم لَا بِخُصُوص هَذَا الْأَخْبَار (تَكْلِيف بِأَن يصدقهُ فِي أَنه لَا يصدقهُ وَهُوَ) أَي تَصْدِيقه فِي أَنه لَا يصدقهُ (محَال لنَفسِهِ) لِأَن تحَققه يسْتَلْزم عدم تحَققه إِذْ مُتَعَلّقه عدم التَّصْدِيق الْمُطلق الَّذِي هُوَ من أَفْرَاده، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لاستلزام تَصْدِيقه عدم تَصْدِيقه) وَكَانَ مُقْتَضى الظَّاهِر الْإِضْمَار بِأَن يَقُول عَدمه، لَكِن لما كَانَ لُزُوم عَدمه فِي ضمن عدم التَّصْدِيق مُطلقًا أَشَارَ إِلَيْهِ بِوَضْع الْمظهر مَوضِع الْمُضمر بِأَن يَقُول عَدمه
وَيرد عَلَيْهِ أَن المستلزم لعدم التَّصْدِيق وَتحقّق مَضْمُون مُتَعَلّقه فِي الْخَارِج، لَا فِي ذهن الْمُصدق والتصديق الْمَذْكُور إِنَّمَا يسْتَلْزم تحقق الْمَضْمُون فِي الذِّهْن لَا فِي الْخَارِج، فغاية الْأَمر لُزُوم كَون التَّصْدِيق لما فِي نفس الْأَمر وَيُجَاب بِأَن الْمُكَلف بِهِ التَّصْدِيق اليقيني الْمُطلق لما فِي نفس الْأَمر قطعا، وَأَيْضًا كَيفَ يصدق بِعَدَمِ تَصْدِيقه إِيَّاه مُطلقًا حَال كَونه مُصدقا إِيَّاه فِي أَنه لَا يصدقهُ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال يجوز أَن لَا يكون عَالما بِعِلْمِهِ (غلط) خبر الْمُبْتَدَأ: أَعنِي قَوْلهم، لم يُصَرح بِوَجْه الْغَلَط لِكَثْرَة وجوهه مَعَ الِاعْتِمَاد على مَا يفهم بطرِيق الْإِشَارَة: مِنْهَا أَنه مَبْنِيّ على أَنه تَعَالَى أخبر بِأَنَّهُ لَا يصدق وَجعل هَذَا الْخَبَر بِخُصُوصِهِ مُتَعَلق إيمَانه وَلم يثبت شَيْء مِنْهُمَا، أما الأول فَلِأَن صلية النَّار يحْتَمل أَن يكون بالارتداد بعد التَّصْدِيق فَلَا ينتهض حجَّة، وَأما الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَا يجب أَن يكون كل مَا أخبر بِهِ مُطلقًا للْإيمَان تَفْصِيلًا، وَمِنْهَا أَنه لَو سلم تَكْلِيفه بالتصديق الْمَذْكُور لم يكن محالا لذاته إِذْ لَا يسْتَلْزم تحَققه عدم تحَققه إِلَّا بِشُبْهَة كَونه مطابقا للْوَاقِع، وَهَذَا الْكَوْن خَارج عَن ذَاته فَلَا يسْتَلْزم تحَققه لذاته عدم تحَققه فَلَا يكون محالا لذاته (بل هُوَ) أَي تَكْلِيف أبي لَهب بالتصديق تَكْلِيف (بِمَا علم الله عدم وُقُوعه فَهُوَ) محَال (لغيره) وَهُوَ تعلق الْعلم

(2/140)


الأزلي بِعَدَمِ تَصْدِيقه فَإِنَّهُ يَسْتَحِيل انقلابه جهلا سَوَاء (كلف) أَبُو لَهب (بتصديقه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قبل علمه) أَي أبي لَهب بِأَنَّهُ تعلق علم لله بِعَدَمِ صدقه (أَو) كلف (بعده) أَي بعد علمه بذلك، أما الأول فَظَاهر، وَأما الثَّانِي فَلِأَن علم أبي لَهب بِأَن تَصْدِيقه مَعْلُوم الْعَدَم عِنْد الله لَا يَجعله محالا لذاته بل لَا يَجعله مُضْطَرّا فِي عدم التَّصْدِيق كَمَا حقق فِي مَحَله (فَهُوَ) أَي هَذَا الدَّلِيل لَهُم (تشكيك بعد) النَّص (الْقَاطِع) فِي أَنه لم يَقع وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {لَا يُكَلف الله} الْآيَة فَهُوَ) أَي التَّكْلِيف بالمحال لذاته (مَعْلُوم الْبطلَان) . قَالَ الشَّارِح عقلا غير وَاقع شرعا انْتهى، وَأَنت خَبِير بِأَن المُصَنّف لم يثبت بُطْلَانه عقلا فَارْجِع إِلَى قَوْله وَالْحق الخ.
مسئلة

(نقل عَن الْأَشْعَرِيّ بَقَاء التَّكْلِيف) بِالْفِعْلِ أَي كَونه مَطْلُوبا من الْمُكَلف (حَال) مُبَاشرَة ذَلِك (الْفِعْل) كَمَا كَانَ قبل الْمُبَاشرَة لَهُ (واستبعد) هَذَا مِنْهُ (بِأَنَّهُ) أَي الْأَشْعَرِيّ (إِن أَرَادَ) بِبَقَائِهِ فِي هَذَا الْحَال (أَن تعلقه) أَي التَّكْلِيف (لنَفسِهِ) أَي لذاته لِأَن حَقِيقَته الطّلب الْمُضَاف إِلَى الْمَطْلُوب، وَهَذِه الْإِضَافَة والتعلق لَا يَنْفَكّ عَن حَقِيقَته. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ لَو انْقَطع التَّكْلِيف بعد الْفِعْل لزم أَن يتَعَدَّى الطّلب الْقَائِم بِذَاتِهِ تَعَالَى وَهُوَ محَال، لِأَن صِفَاته كَمَا هِيَ أزلية أبدية، وَجَوَابه أَن الْكَلَام فِي الْأَزَل كَسَائِر صِفَاته وَاحِد لَا تعدد فِيهِ، وَكَونه أمرا أَو نهيا من الْعَوَارِض الَّتِي تتجدد لَهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُتَعَلّقه، فَلَا يلْزم من انْتِفَاء الطّلب انْتِفَاء كَلَامه الْقَائِم بِذَاتِهِ تَعَالَى (فَحق) أَي فَهَذَا الْمَعْنى حق (لَكِن يشكل عَلَيْهِ) أَي على هَذَا المُرَاد (انْقِطَاعه بعده) أَي بعد صُدُور الْفِعْل (اتِّفَاقًا) وَذَلِكَ التَّعَلُّق الَّذِي يَقْتَضِيهِ الذَّات لَا يَنْفَكّ عَنْهَا مَا دَامَت الذَّات بَاقِيَة، وَعدم انْقِطَاعه بعده خلاف الْإِجْمَاع (أَو) أَرَادَ بذلك (تَنْجِيز التَّكْلِيف) أَي إِرَادَة إِيقَاعه مُنجزا كَمَا هُوَ الْمُتَبَادر من عباراته (فَبَاطِل) أَي فَهَذَا المُرَاد بَاطِل (لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ) أَي التَّكْلِيف بِهَذَا الْمَعْنى حَال الْفِعْل تَكْلِيف (بإيجاد الْمَوْجُود) هَذَا كَلَامهم، وَتعقبه المُصَنّف بقوله (وَلَيْسَ) الْأَمر كَذَلِك (لِأَن ذَلِك) أَي التَّكْلِيف بإيجاد الْمَوْجُود إِنَّمَا يكون (بعده) أَي الْفِعْل (وكلامنا) فِي التَّكْلِيف بِهِ (حَال هَذَا الإيجاد، وَمَا يُقَال إِحَالَة للصورة) أَي لأجل إِحَالَة صُورَة هَذِه المسئلة، وَبَيَان كَونهَا محالا (الْفِعْل إِن كَانَ آنيا) أَي دفعي الْوُجُود لَا زمانيا تدريجيا ممتدا على طبق أَجزَاء الزَّمَان: قَوْله الْفِعْل إِلَى آخِره بدل من الْمَوْصُول أَو ضَمِيره (لم يتَصَوَّر لَهُ) أَي لذَلِك الْفِعْل (بَقَاء) إِذا الْمَفْرُوض أَن حُدُوثه ووجوده لَيْسَ إِلَّا فِي آن وَاحِد (يكون مَعَه) أَي مَعَ ذَلِك الْبَقَاء (التَّكْلِيف، وَإِن) كَانَ (طَويلا)

(2/141)


كَالصَّوْمِ (أَو ذَا أَفعَال) كَالصَّلَاةِ (فحال فعله) أَي فَفِي حَال إِيقَاعه (انْقَضى) ذَلِك الْفِعْل شَيْئا فَشَيْئًا) إِذْ هُوَ حِينَئِذٍ غير قار الذَّات لم تَجْتَمِع أجزاؤه فِي الْوُجُود لأجزاء الْحَرَكَة وَالزَّمَان (فالمنقضي سقط تَكْلِيفه) فَلَا بَقَاء لَهُ (وَمَا لم يُوجد) من أَجْزَائِهِ (بَقِي) التَّكْلِيف فِي حَقه، وَهَذَا الْبَقَاء كالبقاء قبل الشُّرُوع فِي الْفِعْل فَلَيْسَ من مَحل النزاع (لَا يُفِيد) خبر مَا يُقَال (ذَلِك) أَي إِحَالَة الصُّورَة (لِأَن الْمُمكن آنيا) كَانَ (أَو زمانيا) لَا بُد لَهُ من حَال عدم وَحَال بروز) من الْعَدَم إِلَى الْوُجُود (وَإِن لم يدْرك) مِقْدَار زمَان بروزه (لسرعته وَحَال تقرر وجوده، والبقاء إِنَّمَا هُوَ مَحْكُوم بِهِ للتكليف لَا للْفِعْل) ثمَّ فسر بَقَاء التَّكْلِيف بِالْفِعْلِ بقوله (أَي التَّكْلِيف السَّابِق على الْفِعْل يبْقى مَعَ الْحَالة الثَّانِيَة) من الْأَحْوَال الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة (وَإِن سبقت) الْحَالة الثَّانِيَة (اللحظة) فِي السرعة، واللحظة فِي الأَصْل: النظرة بمؤخر الْعين، وَالْمرَاد هَهُنَا طرفَة الْعين وَالْحَاصِل أَن التَّكْلِيف بَاقٍ بعد الْحَالة الأولى قبل الثَّانِيَة، وَلَو كَانَ مَا دون طرفَة الْعين (وَهُوَ) أَي هَذَا التَّحْقِيق على هَذَا الْوَجْه (صَحِيح) مَبْنِيّ على أصُول الْأَشْعَرِيّ وَغَيره من أهل الْحق فَيكون كالمنصوص عَلَيْهِ مِنْهُم (وَيكون نصا من الْأَشْعَرِيّ) على (أَن التَّكْلِيف سبقه) أَي الْفِعْل بِاعْتِبَار تقرر وجوده (لَا) أَنه (مَعَ الْمُبَاشرَة) للْفِعْل (كَمَا نسب إِلَيْهِ لِأَنَّهُ) أَي مَا نسب إِلَيْهِ من أَن التَّكْلِيف مَعَه (بَاطِل وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْأَمر كَذَلِك، بل كَانَ مَعَ الْمُبَاشرَة (انْتَفَت الْمعْصِيَة) إِذْ الْمعْصِيَة تَقْتَضِي عدم سبق التَّكْلِيف والمكلف لَا يَخْلُو من أحد الْأَمريْنِ: إِمَّا أَنه يَأْتِي بالمأمور بِهِ أَو لَا، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ لَا مَعْصِيّة: أما على الأول فَظَاهر، وَأما على الثَّانِي فَلِأَن انْتِفَاء الْمُبَاشرَة يسْتَلْزم انْتِفَاء التَّكْلِيف حِينَئِذٍ (وَنسب هَذَا الْخبط) إِلَى الْأَشْعَرِيّ نِسْبَة ناشئة (عَن) قَوْله (أَن الْقُدْرَة مَعَ الْفِعْل) فَلَا قدرَة قبل الْفِعْل وَبعده (وَلَا تَكْلِيف إِلَّا بمقدور. قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ) فِي الْبُرْهَان: والذهاب إِلَّا أَن التَّكْلِيف عِنْد الْفِعْل (مَذْهَب لَا يرتضيه لنَفسِهِ عَاقل) إِذْ هُوَ خارق للاجماع، لِأَن الْقَاعِد فِي الْحَال قعوده مُكَلّف بِالْقيامِ إِلَى الصَّلَاة بِاتِّفَاق أهل الْإِسْلَام وَأَيْضًا التَّكْلِيف طلب والطلب يَسْتَدْعِي مَطْلُوبا وَعدم حُصُوله وَقت الطّلب (وينفي) هَذَا أَيْضا (تَكْلِيف الْكَافِر بِالْإِيمَان قبله) أَي الْإِيمَان وَهُوَ ظَاهر (وَالتَّحْقِيق أَن الْقُدْرَة صفة لَهَا صَلَاحِية التَّأْثِير) فِي المعدومات الممكنة بالإيجاد (و) الْقُدْرَة (الَّتِي يُقَام بهَا) الْفِعْل (جزئي حَقِيقِيّ مِنْهَا) أَي من الْقُدْرَة الْكُلية الْمَذْكُورَة فَإِن قلت الْمَذْكُورَة قَائِمَة بالشخص فِي الْخَارِج وكل مَا يقوم بِهِ جزئي حَقِيقِيّ قلت هُوَ كَذَلِك، لَكِن قطع النّظر عَن تعينها الْحَاصِل بِسَبَب خُصُوصِيَّة الْمحل وَحكم بكليتها الْمَفْهُوم الْكُلِّي الْقَائِم بِالْفِعْلِ (والمتقدم والمتأخر) بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا الجزئي الْحَقِيقِيّ من الجزئيات الصادرة فِي الإيجادات المتعاقبة (الْأَمْثَال) وَلَيْسَ بَينهمَا اتِّحَاد (فَالشَّرْط)

(2/142)


للتكليف (مثل سَابق) على الْمثل الْمُقَارن للْفِعْل (وَقد علمت) من قَوْلنَا الْقُدْرَة صفة لَهَا صَلَاحِية التَّأْثِير (أَن الصلاحية لَازِمَة لماهيتها) أَي الْقُدْرَة (فتلزم) الصلاحية الْمَذْكُورَة (كل فَرد) من أفرادها ضَرُورَة عدم تخلفه اللَّازِم عَن أَفْرَاد الْمَلْزُوم (وَذَلِكَ) الْمثل السَّابِق (مَدْلُول عَلَيْهِ بسلامة آلَات الْفِعْل وَصِحَّة أَسبَابه فَلِذَا فَسرهَا) أَي الْقُدْرَة الَّتِي هِيَ شَرط الْفِعْل (الْحَنَفِيَّة بِهِ) أَي بِمَا ذكر من سَلامَة الْأَسْبَاب والآلات (وَأما دَفعه) أَي قَول الْأَشْعَرِيّ من الْمُعْتَزلَة (بِأَن عِنْد الْمُبَاشرَة) للْفِعْل (مَعَ الداعية) إِلَيْهِ (وَالْقُدْرَة) عَلَيْهِ (يجب) الْفِعْل (فَلَا يدْخل تَحت الْقُدْرَة) لعدم التَّمَكُّن من التّرْك وَلَا تَكْلِيف إِلَّا بمقدور، وَفِيه أَن قَوْله وَالْقُدْرَة مَعْطُوف على الداعية، فليزم مقارنتها مَعَ الْمُبَاشرَة فَمَا معنى قَوْله لَا يدْخل تَحت الْقُدْرَة فَتَأمل (فمدفوع بِأَنَّهُ) أَي وجوب الْفِعْل حِينَئِذٍ (وجوب) تَأْثِير (عَن اخْتِيَار سَابق فِي الْفِعْل وَعدم) للْفِعْل السَّابِق (مَعَ إِمْكَان) للْفِعْل وَالتّرْك (مصحح للتكليف حِينَئِذٍ وَلَيْسَ) هَذَا الدّفع بجيد (لِأَن الْوُجُوب لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِالْفِعْلِ) على التَّمام، وَإِنَّمَا قَالَ (فِي التَّحْقِيق) إِشَارَة إِلَى مَا اشْتهر من أَن كل مُمكن محفوف بوجوبين: وجوب سَابق نظرا إِلَى علته التَّامَّة لكَون الْأَسْبَاب العادية مُؤثرَة فِي نفس الْأَمر، وجوب لَاحق للوجود أَو بعد الْوُجُود لَا يَنْفِي إِمْكَان عدم ذَلِك الْوُجُود من الأَصْل بِأَن يبْقى إِمْكَان عدم بَقَائِهِ كَلَام ظاهري (وَالْقُدْرَة) للْعَبد (لَا يُقَام بهَا الْفِعْل عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة والأشاعرة، وَمعنى الْإِقَامَة بهَا كَونهَا مُؤثرَة فِيهِ (بل تصاحبه) أَي تقارن الْقُدْرَة الْفِعْل كَمَا قارنته لسَائِر الْأَسْبَاب العادية (إِذْ لَا يُقَام) الْفِعْل (إِلَّا بقدرته تَعَالَى، وَلَا تَأْثِير أصلا لقدرة العَبْد فِيهِ) أَي الْفِعْل (فَلَيْسَ شَرط التَّكْلِيف إِلَّا مَا ذكرنَا) من سَلامَة آلَات الْفِعْل وَصِحَّة أَسبَابه (وَلَا يَسْتَدْعِي) مَا ذكر من الشَّرْط وَغَيره (الْمَعِيَّة) أَي كَون التَّكْلِيف مَعَ الْفِعْل بتأثير قدرته تَعَالَى من غير مدخلية للْعَبد يحْتَاج إِلَى تَأْوِيل، أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (فَإِن عِنْده) أَي عِنْد مَا ذكر من سَلامَة الْآلَات وَصِحَّة الْأَسْبَاب (يخلق بقدرته) تَعَالَى (عَادَة) بِمَعْنى أَن عَادَته جرت بِأَنَّهُ يخلق أَفعَال الْعباد مَقْرُونا بذلك، فحاصل الِاشْتِرَاط التلازم لَا التَّوَقُّف (عِنْد الْعَزْم) أَي عزم العَبْد على الْفِعْل (المصمم) صفة مُؤَكدَة للعزم والظرف الثَّانِي بدل من الأول بدل الاشتمال أَو الْبَعْض، ثمَّ لما أَفَادَ عدم جودة الدّفع الْمَذْكُور بِاعْتِبَار تَأَخّر الْوُجُوب الْمَذْكُور عَن الْفِعْل أَرَادَ أَن يُفِيد أَن الِاخْتِيَار السَّابِق الَّذِي حكم بِكَوْنِهِ منشأ للْوُجُوب الْمَذْكُور إِنَّمَا يعْتَبر لِأَن يكون فعل الْمُكَلف امتثالا وَإِذا اعْتَبرهُ سَابِقًا على التَّكْلِيف لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ ذَلِك الْقَصْد فَقَالَ (وَأَيْضًا سبق الِاخْتِيَار التَّكْلِيف بسبق مَا قارنه) أَي التَّكْلِيف وَهُوَ مُبَاشرَة الْفِعْل كَمَا يفِيدهُ القَوْل بِأَن التَّكْلِيف عِنْد الْمُبَاشرَة (لَا يُوجب وُقُوع) وجوب (الْفِعْل امتثالا لِأَنَّهُ) أَي الِامْتِثَال إِنَّمَا

(2/143)


يتَحَقَّق (بِاخْتِيَارِهِ) أَي الْمُكَلف (بعد علمه بالتكليف) وَهُوَ مُنْتَفٍ حَيْثُ كَانَ الْفِعْل مُقَارنًا للتكليف.
(تَنْبِيه: قسم الْحَنَفِيَّة الْقُدْرَة إِلَى مُمكنَة) على صِيغَة الْفَاعِل فِي التَّلْوِيح، وَهُوَ شَرط لوُجُوب أَدَاء كل وَاجِب فضلا من الله لَا لنَفس الْوُجُوب لِأَنَّهُ قد يَنْفَكّ عَن وجوب الْأَدَاء فَلَا حَاجَة إِلَى الْقُدْرَة إِذْ هُوَ ثَابت بِالسَّبَبِ والأهلية (وَهِي السَّابِقَة) أَي الَّتِي سبق ذكرهَا أَو السَّابِقَة فِي التحقق على الْفِعْل: أَي سَلامَة آلَات الْفِعْل وَصِحَّة أَسبَابه (وميسرة) على صِيغَة الْفَاعِل أَيْضا وَهِي مَا يُوجب يسر الْأَدَاء على العَبْد بعد مَا ثَبت الْإِمْكَان بِالْقُدْرَةِ الممكنة، فِي التَّوْضِيح فالممكنة أدنى مَا يتَمَكَّن بِهِ الْمَأْمُور من أَدَاء الْمَأْمُور بِهِ من غير حرج غَالِبا، وَإِنَّمَا قيدنَا بِهَذَا لأَنهم جعلُوا الزَّاد وَالرَّاحِلَة دَاخِلَة من الممكنة، وَالْمُصَنّف أَرَادَ تقسيمها فَقَالَ (وَالْأولَى) أَي الممكنة (إِن كَانَ الْفِعْل) يتَحَقَّق (مَعهَا) إِذا اتّصف الْمَأْمُور (بالعزم) على ذَلِك الْفِعْل (غَالِبا) أَي فِي غَالب الْأَوْقَات قَيده بذلك إِذْ قد يعزم مَعَ الزَّاد وَالرَّاحِلَة وَلَا يَقع: أَي الْمَعْنى غَالِبا على الظَّن كوقت الصَّلَاة قبل التَّعْلِيق على مَا فسر بِهِ الشَّارِح (فَالْوَاجِب) عِنْد هَذَا الْقسم من الْقُدْرَة (الْأَدَاء) أَي إِيقَاع الْفِعْل فِي وقته الْمعِين لَهُ شرعا (عينا) أَي الْأَدَاء بِعَيْنِه لَا قَضَاء (فَإِن لم) يؤد (بِلَا تَقْصِير) مِنْهُ فِي ترك الْأَدَاء (حَتَّى انْقَضى وقته) أَي الْأَدَاء لم (يَأْثَم وانتقل الْوُجُوب إِلَى قَضَائِهِ) أَي ذَلِك الْفِعْل (إِن كَانَ لَهُ) أَي لذَلِك الْفِعْل (ثمَّة خلف، وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن لَهُ خلف (فَلَا قَضَاء وَلَا إِثْم أَو) إِن لم يؤد (بتقصير) مِنْهُ (أَثم على الْحَالين) أَي فِيمَا لَهُ خلف وَمَا لَا خلف لَهُ كَصَلَاة الْعِيدَيْنِ (وَإِن لم يكن) الْفِعْل مَعهَا (غَالِبا) قيد للنَّفْي لَا للمنفي (وَجب الْأَدَاء لخلفه) أَي الْمَقْصد من إِيجَاب الْأَدَاء على الْمَأْمُور مَعَ عدم تحققها غَالِبا لَيْسَ إِلَّا وجوب الْقَضَاء الَّذِي هُوَ خلف الْأَدَاء (لَا لعَينه) أَي الْأَدَاء (كالأهلية) أَي كصيرورة الْمُكَلف أَهلا للْوُجُوب (فِي الْجُزْء الْأَخير من الْوَقْت) فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ الْأَدَاء لَا لعَينه لعدم سَعَة الْوَقْت إِيَّاه بِحَسب الْغَالِب الْمُعْتَاد، فَلَا يرد عَلَيْهِ إِمْكَان الامتداد والبسط فِي ذَلِك الْجُزْء كَمَا حكى عَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام (خلافًا لزفَر لاعتباره إِيَّاهَا) أَي الْأَهْلِيَّة (قبله) أَي قبل الْجُزْء الْأَخير (عِنْدَمَا يَسعهُ) أَي الْأَدَاء وَالشَّافِعِيّ مَا يسع رَكْعَة فَيَقُول يجب الْقَضَاء ابْتِدَاء من غير وجوب الْأَدَاء إِذا أحدث الْأَهْلِيَّة فِي الْجُزْء الْأَخير، وَعلل الْمَذْهَب بقوله (لِأَنَّهُ لَا قطع بالأخير) أَي الْجُزْء الَّذِي يظنّ أَنه الْأَخير لَا قطع بِكَوْنِهِ أخيرا (لَا مَكَان الامتداد) وَهُوَ الْمُسَمّى يبسط الزَّمَان وعَلى تَقْدِير أَن يَمْتَد ذَلِك الْجُزْء لم يكن جُزْءا أخيرا، فَأَي جُزْء كَانَ مَعَه سَلامَة الْآلَات يجب عِنْده الْأَدَاء وَإِن كَانَ الْجُزْء الْأَخير بِنَاء على الْإِمْكَان الْمَذْكُور (وَلَا يشْتَرط بَقَاؤُهَا) أَي الْقُدْرَة الممكنة (للْقَضَاء) كالأداء فَيجب

(2/144)


الْقَضَاء وَإِن كَانَ فِي وَقت عدم الْقُدْرَة عَلَيْهِ (لِأَن اشْتِرَاطهَا) للْأَدَاء (لاتجاه التَّكْلِيف وَقد تحققت) الْقُدْرَة على الْأَدَاء عِنْد توجه الْخطاب (وَوُجُوب الْقَضَاء بَقَاء ذَلِك الْوُجُوب) وَشرط حُدُوث الشَّيْء لَا يسْتَلْزم وجوده عِنْد بَقَاء ذَلِك الشَّيْء (لِاتِّحَاد سَببهَا) أَي الْأَدَاء وَالْقَضَاء (عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة (فَلم يتَكَرَّر) الْوُجُوب (لتكرر) الْقُدْرَة توضيحة أَن شَرط وجوب الْأَدَاء وَسَببه إِذا تحقق صَار الْفِعْل مَطْلُوبا من الْمُكَلف وجوبا على سَبِيل الْأَدَاء مَا دَامَ الْوَقْت مَوْجُودا وَبعد مضيه لَا يرْتَفع طلبه غير أَنه قبل مضيه كَانَ مَطْلُوبا على سَبِيل الْأَدَاء وَبعده على سَبِيل الْقَضَاء فَأصل الطّلب بَاقٍ على حَاله وَلَا يحدث بعده وجوب آخر، لِأَن تعدد الحكم يسْتَلْزم تعدد السَّبَب، وَحَيْثُ لم يتَكَرَّر الْوُجُوب لم تَتَكَرَّر الْقُدْرَة عِنْد حُدُوث الْوُجُوب (فوجوب الصَّلَوَات الْكَثِيرَة) قَضَاء (فِي آخر نفس) من الْحَيَاة (عين وُجُوبهَا) أَدَاء (المستكمل لشرطه) من سَلامَة الْأَسْبَاب والآلات (لكنه) أَي الَّذِي أخر إِلَى آخر نفس (قصر) حَتَّى ضَاقَ الْوَقْت عَنْهَا (وَأَيْضًا لَو لم يجب) الْقَضَاء (إِلَّا بقدرة متجددة لم يَأْثَم بترك) للْقَضَاء (بِلَا عذر) يَعْنِي لَو شَرط فِي وجوب الْقَضَاء وجود الْقُدْرَة فِي وَقت يُمكن الْقَضَاء فِيهِ لزم أَن لَا يَأْثَم بترك الْقَضَاء بِلَا عذر إِذا أدْرك ذَلِك الْوَقْت وَهُوَ غير قَادر، فَالْمُرَاد بالعذر الْمَنْفِيّ مَا عدا عدم الْقُدْرَة (وَذَلِكَ) أَي عدم الْإِثْم بِالتّرْكِ (يبطل معنى وُجُوبهَا، قَضَاء) يرد عَلَيْهِ أَن من يشْتَرط بَقَاء الْقُدْرَة فِي وجوب الْقَضَاء لَا يُبَالِي من بطلَان معنى وُجُوبهَا قَضَاء: اللَّهُمَّ أَلا أَن يُرَاد بطلَان معنى وُجُوبهَا مُطلقًا إِذا ترك الْأَدَاء بِعُذْر وَلم يقدر بعد فَالْمُرَاد بِمَعْنى الْوُجُوب لُزُوم الْإِثْم عِنْد التّرْك فَتَأمل، فعلى عدم اشْتِرَاط الْقُدْرَة فِي وجوب الْقَضَاء يلْزم تَخْصِيص النَّص الدَّال على عدم التَّكْلِيف بِغَيْر الوسع، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فيخص لَا بكلف الله الْآيَة الْأَدَاء كَمَا أوجبته) أَي ذَلِك التَّخْصِيص (نُصُوص قَضَاء الصَّوْم) كَقَوْلِه تَعَالَى - {فَعدَّة من أَيَّام أخر} - (وَالصَّلَاة) كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " من نَام عَن صَلَاة أَو نَسِيَهَا فليصلها إِذا ذكرهَا " (الْمُوجبَة) صفة النُّصُوص (الْإِثْم بِتَرْكِهِ) أَي الْقَضَاء بِلَا عذر (المستلزم لتَعَلُّقه) أَي الْوُجُوب بِالْقضَاءِ (فِي آخر نفس) والمعين يخص لَا يُكَلف الخ تَخْصِيصًا كَائِنا على طبق مَا اقتضته هَذِه النُّصُوص، ثمَّ اسْتدلَّ على إِيجَابهَا الْإِثْم بِالتّرْكِ الْمَذْكُور بقوله (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يَأْثَم بِالتّرْكِ بِلَا عذر (انْتَفَى إِيجَابهَا) أَي نُصُوص الْقَضَاء (الْقَضَاء) لانْتِفَاء لَازِمَة وَهُوَ الْإِثْم بِالتّرْكِ بِلَا عذر (وَأَيْضًا الْإِجْمَاع على التأثيم) بِالتّرْكِ بِلَا عذر (إِجْمَاع عَلَيْهِ) أَي تَخْصِيص الْآيَة كَمَا ذكر استلزاما (وَمن الممكنة الزَّاد وَالرَّاحِلَة) أَي ملكهمَا ذاتا أَو مَنْفَعَة بِالْإِجَارَة بِحَيْثُ يتَوَصَّل بهما إِلَى الْحَج (لِلْحَجِّ) إِذْ لَا يتَمَكَّن مِنْهُ أَكثر النَّاس بِدُونِ الْحَرج إِلَّا بهما (وَالْمَال) أَي ملك

(2/145)


نِصَاب صَدَقَة الْفطر على الْوُجُوب الْمَعْرُوف (لصدقة الْفطر فَلَا تسْقط) صَدَقَة الْفطر (بهلاكها) أَي هَذِه الْقُدْرَة بِوَاسِطَة هَلَاك المَال (الثَّانِيَة) من قسمي الْقُدْرَة (الميسرة) وَهِي مَا يُوجب الْيُسْر على العَبْد فِي أَدَاء الْوَاجِب (الزَّائِدَة على الأولى باليسر فضلا مِنْهُ تَعَالَى) على الْعباد (كَالزَّكَاةِ زَادَت) الْقُدْرَة الْمُتَعَلّق بهَا وُجُوبهَا (على أصل الْإِمْكَان) للْفِعْل (كَون الْمخْرج قَلِيلا جدا من كثير) أَي قَلِيلا على سَبِيل الْمُبَالغَة كَائِنا من مَال كثير، وَقَوله كَون الْمخْرج بَدَلا من ضمير زَادَت (وَكَونه) أَي الْمخْرج وَاقعا (مرّة بعد الْحول الْمُمكن من استنمائه فتقيد الْوُجُوب بِهِ) أَي باليسر (فَسقط) الْوُجُوب (بِالْهَلَاكِ) أَي بِهَلَاك المَال لفَوَات الْقُدْرَة الميسرة الَّتِي هِيَ وصف النَّمَاء بَقَاء، وبقاؤها كابتدائها فِي الِاشْتِرَاط، فابتداؤها شَرط ابْتِدَاء الْوُجُوب، وبقاؤها شَرط بَقَائِهِ لما سَيظْهر (وانتفى) الْوُجُوب (بِالدّينِ) المطالب من جِهَة الْعباد لمنافاته الْيُسْر والغنى لكَون المَال مَشْغُولًا بِالْحَاجةِ الْأَصْلِيَّة، وَإِنَّمَا لم يقل فَسقط بِالْهَلَاكِ وَالدّين، لِأَن السُّقُوط فرع الثُّبُوت، وبالدين لم يجب من الِابْتِدَاء كَذَا ذكره الشَّارِح، وَفِيه أَن هَذَا إِنَّمَا يتم فِيمَا إِذا كَانَ الدّين قبل الْقُدْرَة الميسرة، وَأما إِذا حدث بعْدهَا وَبعد ثُبُوت الْوُجُوب فَلَا، على أَن الْهَلَاك أَيْضا كَذَلِك فَلَا فرق بَينهمَا وَالْحق أَن الدّين الْحَادِث لَا أثر لَهُ فِي السُّقُوط، وَالْمرَاد بِالْهَلَاكِ مَا كَانَ بعد الْوُجُوب، وَإِنَّمَا قيدناه بدين الْعباد لِأَن غَيره كالنذور وَالْكَفَّارَات لَا تنَافِي الْوُجُوب (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يسْقط بِهَلَاك النّصاب وَلم ينتف بِالدّينِ (انْقَلب) الْيُسْر (عسرا) أَي يصير الْوَاجِب الْمُقَيد باليسر غير مُقَيّد بِهِ (بِخِلَاف الِاسْتِهْلَاك) أَي إِتْلَاف النّصاب قصدا بِغَيْر توفر شُرُوط الْوُجُوب فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يسْقط بِهِ (لتعديه) أَي الْمَالِك (على حق الْفُقَرَاء) بِحَيْثُ أَلْقَاهُ فِي الْبَحْر أَو أنفقهُ فِي حَاجته إِلَى غير ذَلِك، وَاشْتِرَاط الْقُدْرَة الميسرة كَانَ نظرا لَهُ، وَقد خرج بِالتَّعَدِّي عَن اسْتِحْقَاقه النّظر (وَهُوَ) أَي سُقُوط الْوُجُوب بِهَلَاك النّصاب (بِنَاء على أَنه) أَي الْوَاجِب شرعا (جُزْء من الْعين) أَي من عين النّصاب كَمَا يدل عَلَيْهِ ظَاهر قَوْله تَعَالَى - {وَآتوا الزَّكَاة} -: إِذْ مُتَعَلق الإيتاء هُوَ الْجُزْء الْمعِين من المَال الْمَوْجُود فِي الْأَعْيَان لَا الْأَمر الاعتباري الْمَوْجُود فِي الذِّمَّة، وَإِذا كَانَ الْوَاجِب الْجُزْء الْعَيْنِيّ وَقد هلك عين المَال الَّذِي هُوَ النّصاب جَمِيعًا، وَمن ضَرُورَته هَلَاك كل جُزْء مِنْهُ لم يبْق للْوُجُوب مَحل فَيسْقط الْوُجُوب بِالْهَلَاكِ، وَهَذَا بِنَاء على الظَّاهِر، وَالتَّحْقِيق أَن مَحل الْوُجُوب نفس الإيتاء: إِذْ مُتَعَلق الْأَحْكَام أَفعَال الْمُكَلّفين (وَلذَا) أَي وَلكَون الزَّكَاة جُزْءا من الْعين (سَقَطت بِدفع النّصاب) أَي بالتصدق بِهِ (بِلَا نِيَّة) أصلا أَو بِلَا نِيَّة الْفَرْض بِأَن يَنْوِي النَّفْل لوصول الْجُزْء الْوَاجِب إِلَى مُسْتَحقّه وَهُوَ لَا يحْتَاج إِلَى نِيَّة تخصه من بَين الْأَجْزَاء بِكَوْنِهِ قربَة: إِذْ الْمَفْرُوض التَّصَدُّق

(2/146)


بِكُل جُزْء، وَإِنَّمَا الْحَاجة عِنْد الْمُزَاحمَة بَينه وَبَين سَائِر الْأَجْزَاء (وَكَذَا الْكَفَّارَة) للْيَمِين وُجُوبهَا بقدرة ميسرَة (بِدَلِيل تَخْيِير الْقَادِر على الْأَعْلَى بَينه) أَي الْأَعْلَى (وَبَين الْأَدْنَى) إِذْ التَّحْرِير وَالْكِسْوَة وَالْإِطْعَام مُتَفَاوِتَة فِي الْمَالِيَّة فَإِن فِيهِ رفقا للمخير فِي الترفق بِمَا هُوَ الْأَيْسَر عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَة على الْأَعْلَى، بِخِلَاف صَدَقَة الْفطر فَإِن التَّخْيِير فِيهَا بَين المتماثلة فِي الْمَالِيَّة إِذْ نصف صَاع من الْبر مثل الصَّاع من الشّعير أَو التَّمْر فَلَا يُفِيد التَّخْيِير فِيهَا التَّيْسِير قصدا، بل التَّأْكِيد، فوجوبها بقدرة مُمكنَة، ثمَّ أيد الدَّلِيل الْمَذْكُور بِمَا يُفِيد إِرَادَة التَّيْسِير من الشَّارِع فِي الْكَفَّارَة الْمَذْكُورَة بقوله (فَلم يشْتَرط فِي أَجزَاء الصَّوْم) فِي الْكَفَّارَة (الْعَجز المستدام) إِلَى الْمَوْت عَن الْإِطْعَام وأخويه (كَمَا) شَرط (فِي الْفِدْيَة) فِي صَوْم رَمَضَان بِالنِّسْبَةِ إِلَى الشَّيْخ الْعَاجِز عَنهُ (وَالْحج عَن الْغَيْر) الْحَيّ الْقَادِر على النَّفَقَة الْعَاجِز عَن الْحَج بِنَفسِهِ (فَلَو أيسر) الْمُكَفّر بالصيام لعَجزه عَن الْخِصَال الثَّلَاث (بعده) أَي الصّيام (لَا يبطل) التَّكْفِير بِهِ بِخِلَاف الشَّيْخ الْمَذْكُور فَإِنَّهُ إِذا قدر على الصّيام بعد الْفِدْيَة بطلت وَوَجَب عَلَيْهِ الْقَضَاء، بِخِلَاف المحجوج عَنهُ الْمَذْكُور فَإِنَّهُ إِذا قدر عَلَيْهِ بِنَفسِهِ وَجب عَلَيْهِ، وَلَو شَرط فيهمَا دوَام الْعَجز لبطل ترَتّب الصَّوْم عَلَيْهِ، لِأَن الْعلم بِهِ لَا يتَحَقَّق إِلَّا فِي آخر الْعُمر فَالْمُعْتَبر فيهمَا الْعَجز فِي الْحَال مَعَ احْتِمَال حُصُول الْقُدْرَة فِي الِاسْتِقْبَال (وَلَو فرط) الْمُوسر الَّذِي وَجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة بِالْمَالِ (حَتَّى هلك المَال انْتقل) وجوب التَّكْفِير بِهِ عَنهُ (إِلَى الصَّوْم) أَي إِلَى التفكير بِهِ (بِخِلَاف الْحَج) فَإِنَّهُ لَو فرط من وَجب عَلَيْهِ الْحَج حَتَّى عجز لَا يسْقط، فَإِن لم يقدر عَلَيْهِ بعد ذَلِك حَتَّى يَمُوت أوخذ بِهِ فِي الْآخِرَة لِأَنَّهُ مَبْنِيّ على الْقُدْرَة الممكنة كَمَا مر (وَإِنَّمَا سَاوَى الِاسْتِهْلَاك) لِلْمَالِ (الْهَلَاك) فِي سُقُوط الْكَفَّارَة بِالْمَالِ وَلم يساوه فِي سُقُوط الزَّكَاة مَعَ تساويهما فِي الْبناء على الْقُدْرَة الميسرة (لعدم تعين المَال) فِي الْكَفَّارَة للتكفير بِهِ فَلَا يكون الِاسْتِهْلَاك مُتَعَدِّيا (بِخِلَافِهِ) أَي المَال (فِي الزَّكَاة) فَإِن الْوَاجِب جُزْء من النّصاب اتِّفَاقًا، فَإِذا اسْتَهْلكهُ فقد اسْتهْلك الْوَاجِب فَافْتَرقَا (وَنقض) الدَّلِيل الدَّال على كَون وجوب الْكَفَّارَة مَبْنِيا على الْقُدْرَة الميسرة لَا الدَّال على كَون وجوب الزَّكَاة مَبْنِيا عَلَيْهَا على مَا توهم الشَّارِح، وَهُوَ ظَاهر من السباق والسياق وَغَيرهمَا (بِوُجُوبِهَا) أَي الْكَفَّارَة بِالْمَالِ (مَعَ الدّين بِخِلَاف الزَّكَاة) بِأَن يُقَال لَو قصد من التَّخْيِير الْمَذْكُور التَّيْسِير على الْمُكَفّر لما أوجب عَلَيْهِ المَال مَعَ الدّين كَمَا لم يُوجب الزَّكَاة عَلَيْهِ مَعَه (أُجِيب) عَن النَّقْض (بِمَنْعه مَعَه) أَي بِمَنْع وجوب الْكَفَّارَة بِالْمَالِ مَعَ الدّين (كَقَوْل بَعضهم) أَي الْمَشَايِخ فَلَا نقض (و) أُجِيب (بِالْفرقِ) بَينهمَا على قَول الْأَخيرينِ (بِأَن وجوب الزَّكَاة للإغناء) أَي إغناء الْمُحْتَاج عَن الِاحْتِيَاج (شكرا لنعمة الْغنى وَهُوَ) أَي الْغنى

(2/147)


(مُنْتَفٍ بِالدّينِ) إِن استغرق الدّين النّصاب (أَو يقدر) الْغَنِيّ (بِقَدرِهِ) أَي الدّين إِن لم يسْتَغْرق (وَالْكَفَّارَة) إِنَّمَا شرعت (للزجر) للْحَالِف عَن هتك حُرْمَة اسْم الله تَعَالَى (والستر) لجنايته عَلَيْهِ لما فِيهَا من معنى الْعِبَادَة (والإغناء غير مَقْصُود بهَا) أَي الْكَفَّارَة بِالذَّاتِ (وَلذَا) أَي لما ذكر من الزّجر والستر الخ (تأدت) أَي الْكَفَّارَة (بِالْعِتْقِ وَالصَّوْم) لوُجُود الزّجر والستر فيهمَا وَالله أعلم.
مسئلة

(قيل) وَالْقَائِل الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب وَغَيرهمَا (حُصُول الشَّرْط الشَّرْعِيّ) لفعل الْمُكَلف (لَيْسَ شرطا للتكليف بِهِ) فَيجوز التَّكْلِيف بِهِ وَإِن لم يحصل شَرطه، وَالشّرط على مَا اخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب مَا استلزم نَفْيه نفي أَمر على غير جِهَة السَّبَبِيَّة، فَإِن كَانَ ذَلِك بِحكم الْعقل فعقلي، أَو الشَّرْع فشرعي، أَو اللُّغَة فلغوي، وَالْمرَاد شَرط صِحَة الْفِعْل كالإيمان للطاعات وَالطَّهَارَة للصَّلَاة (خلافًا للحنفية، وَفرض الْكَلَام فِي بعض جزئيات مَحل النزاع) يَعْنِي أَن النزاع فِي مُطلق صِحَة التَّكْلِيف بِدُونِ حُصُول الشَّرْط وتصوير المسئلة فِي بعض الصُّور الجزئيات كَمَا هُوَ دأب أهل الْعلم من فرض الْمسَائِل الْكُلية فِي بعض الصُّور الْجُزْئِيَّة تَقْرِيبًا للفهم وتسهيلا للمناظرة (وَهُوَ) أَي الْبَعْض الْمَذْكُور (تَكْلِيف الْكفَّار بالفروع) كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَالْحج (وَلَا يحسن) كَون الْخلاف على هَذَا النمط من الْإِطْلَاق وَلَا يَلِيق (بعاقل) مُخَالفَة هَذَا الأَصْل الْكُلِّي على صرافته فضلا على الْأَئِمَّة الْمُحَقِّقين، أَو الْمَعْنى لَا يحسن أَن يظنّ بعاقل مثل ذَلِك، على أَن كتبهمْ الْمَشْهُورَة لَيْسَ فِيهَا ذَلِك، وعزى أَيْضا إِلَى أبي حَامِد الإسفرايني من الشَّافِعِيَّة وَبَعض أَئِمَّة الْمَالِكِيَّة وَعبد الْجَبَّار وَأبي هَاشم من الْمُتَكَلِّمين (بل هِيَ) أَي مسئلة تَكْلِيف الْكفَّار بالفروع (تَمام مَحَله) أَي النزاع (وَالْخلاف) بَين الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة (فِيهَا) أَي المسئلة الْمَذْكُورَة (غير مَبْنِيّ على ذَلِك) الأَصْل الْكُلِّي (المستلزم عدم جَوَاز التَّكْلِيف بِالصَّلَاةِ حَال الْحَدث) وَمَا أشبه ذَلِك، فَإِنَّهُ لَا يحسن أَن ينْسب إِلَى عَاقل كَمَا قَالَه المُصَنّف، لله دره (بل) الْخلاف وَاقع (ابْتِدَاء فِي جَوَاز التَّكْلِيف بِمَا شَرط فِي صِحَّته الْإِيمَان حَال عَدمه) أَي الْإِيمَان، لَا بِنَاء على عُمُوم الأَصْل الْمَذْكُور ليَكُون من فروعه هَذَا، وَيحْتَمل أَن يكون قَوْله ابْتِدَاء مَرْفُوعا على أَن يكون الْمَعْنى بل الْخلاف مُبْتَدأ فِيمَا ذكر (فمشايخ سَمَرْقَنْد) مِنْهُم أَبُو زيد وشمس الْأَئِمَّة وفخر الْإِسْلَام يَقُولُونَ لَا يجوز التَّكْلِيف جَوَازًا وقوعيا بِمَا شَرط فِيهِ الْإِيمَان قبله (لخصوصية فِيهِ) أَي الْإِيمَان (لَا لجِهَة عُمُومه) أَي الْإِيمَان (وَهُوَ) أَي عُمُومه (كَونه شرطا وَهِي) أَي الخصوصية فِيهِ (أَنه أعظم

(2/148)


الْعِبَادَات فَلَا يَجْعَل شرطا تَابعا فِي التَّكْلِيف) لما دونه، لما فِيهِ من قلب الْأُصُول وَعكس الْمَعْقُول، وَفِيه أَن هَذَا إِنَّمَا يتم إِن اكْتفى فِي إِيجَابه بِمَا يعلم ضمنا، وَأما إِذا أفرد بِإِيجَاب مُسْتَقل قصد بِهِ الذَّات فَلَا نسلم أَنه غير لَائِق، غَايَة الْأَمر أَن يكون لَهُ دليلان: ضمني وصريح (وَمن عداهم) أَي مَشَايِخ سَمَرْقَنْد (متفقون على تكليفهم) أَي الْكفَّار (بهَا) أَي الْفُرُوع (وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي أَنه) أَي التَّكْلِيف (فِي حق الْأَدَاء كاعتقاد) أَي طلب مِنْهُم فِي تِلْكَ الْمرتبَة أَدَاء الصَّلَاة امتثالا كَمَا طلب مِنْهُم الِاعْتِقَاد بحقيقتها ووجوبها (أَو) فِي حق (الِاعْتِقَاد، فالعراقيون) قَالُوا الْكفَّار مخاطبون (بِالْأولِ) أَي الْأَدَاء والاعتقاد (كالشافعية فيعاقبون) أَي الْكفَّار على قَوْلهم (على تَركهمَا) أَي الْأَدَاء والاعتقاد (والبخاريون) قَالُوا مخاطبون (بِالثَّانِي) أَي بالاعتقاد فَقَط (فَعَلَيهِ فَقَط) أَي فيعاقبون على ترك الِاعْتِقَاد فَقَط لَا على ترك الْأَدَاء (وَلَيْسَ) جَوَاب هَذِه المسئلة (مَحْفُوظًا عَن أبي حنيفَة وَأَصْحَابه) نصا (بل أَخذهَا) أَي هَذِه الْمقَالة: وَهِي أَن الْكفَّار غير مخاطبين بالعبادات فِي حق الْأَدَاء (هَؤُلَاءِ) البخاريون (من قَول مُحَمَّد) فِي الْمَبْسُوط (فِيمَن نذر صَوْم شهر فَارْتَد ثمَّ أسلم لم يلْزمه) الْمَنْذُور (فَعلم أَن الْكفْر يبطل وجوب أَدَاء الْعِبَادَات) لعدم الْفرق بَين الْوَاجِب بِالنذرِ وَسَائِر الْوَاجِبَات فِي الْوُجُوب (بِخِلَاف الِاسْتِدْلَال بِسُقُوط الصَّلَاة أَيَّام الرِّدَّة) على عدم تَكْلِيف الْكَافِر بِمَا شَرط فِيهِ الْإِيمَان (لجَوَاز سُقُوطه) أَي وجوب الْقَضَاء (بِالْإِسْلَامِ) بعد الْكفْر الْعَارِض (كالإسلام) أَي كسقوطه بِالْإِسْلَامِ (بعد) الْكفْر (الْأَصْلِيّ) بقوله تَعَالَى - {إِن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف} - وَيدل عَلَيْهِ السّنة وَالْإِجْمَاع (وَلَو قيل الرِّدَّة تبطل الْقرب) لعدم أَهْلِيَّة الْكَافِر للقربة (والتزام الْقرْبَة فِي الذِّمَّة قربَة فَيبْطل) الِالْتِزَام الْمَذْكُور وَهُوَ وجوب الْمَنْذُور، و (لم يلْزم ذَلِك) جَوَاب لَو: أَي لَو قيل مَا ذكر لقيل فِي جَوَابه لم يلْزم الِاسْتِدْلَال على الْمَطْلُوب بمسئلة النّذر لوُجُود مسَائِل أُخْرَى يسْتَدلّ بهَا وَلَا يرد عَلَيْهَا شَيْء، وَقد ذكر فِي الشَّرْح عدَّة: مِنْهَا دُخُول الْكَافِر مَكَّة ثمَّ إِسْلَامه ثمَّ إِحْرَامه فَإِنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ دم لِأَنَّهُ لم يجب عَلَيْهِ الدُّخُول محرما إِلَى غير ذَلِك، وَفِيه مَا فِيهِ (وَظَاهر) قَوْله تَعَالَى وويل للْمُشْرِكين (الَّذين لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة) وَقَوله تَعَالَى حِكَايَة عَن الْكفَّار قَالُوا (لم نك من الْمُصَلِّين) دَلِيل (للعراقيين) لدلالتهما على أَن ترك الصَّلَاة وَالزَّكَاة صَار سَببا لتعذيبهم، وَلَا يتَصَوَّر ذَلِك إِلَّا بكونهما واجبتين عَلَيْهِم (وخلافه) أَي وَخلاف ظَاهر كل مِنْهُمَا كَأَن يكون المُرَاد بِالْأولَى عدم فعل مَا يُزكي أنفسهم: وَهُوَ الْإِيمَان وَالطَّاعَة، وبالثانية عدم كَونهم من الْمُؤمنِينَ كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " نهيت عَن قتل الْمُصَلِّين " إِذْ المُرَاد بِهِ المعتقدون فَرضِيَّة الصَّلَاة (تَأْوِيل) بعيد لم يُعينهُ دَلِيل (وترتيب الدعْوَة فِي حَدِيث معَاذ) لما بَعثه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ لَهُ " ادعهم إِلَى شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي

(2/149)


رَسُول الله فَإِن هم أطاعوك لذَلِك فأعلمهم أَن الله قد افْترض خمس صلوَات فِي كل يَوْم وَلَيْلَة، فَإِن هم أطاعوك لذَلِك فأعلمهم أَن الله قد افْترض عَلَيْهِم صَدَقَة فِي أَمْوَالهم تُؤْخَذ من أغنيائهم وَترد على فقرائهم " أخرجه السِّتَّة (لَا يُوجب توقف التَّكْلِيف) بأَدَاء الشَّرَائِع على الْإِجَابَة بِالْإِيمَان أَلا ترى أَنه ذكر افتراض الزَّكَاة بعد الصَّلَاة وَلَا قَائِل بالترتيب بَينهمَا، غَايَة مَا فِيهِ تَقْدِيم الأهم مَعَ رِعَايَة التَّخْفِيف فِي التَّبْلِيغ (وَأما) أَنهم مخاطبون (بالعقوبات والمعاملات فاتفاق) وَقَالُوا فِي وَجه الْعُقُوبَات لِأَنَّهَا تُقَام زاجرة عَن ارْتِكَاب أَسبَابهَا وباعتقاد حرمتهَا يتَحَقَّق ذَلِك، وَالْكفَّار أليق بِهِ من الْمُؤمنِينَ، وَفِي وَجه الْمُعَامَلَات لِأَن الْمَطْلُوب بهَا معنى دُنْيَوِيّ، وَذَلِكَ بهم أليق لأَنهم آثروا الدُّنْيَا على الْآخِرَة، وَلِأَنَّهُم التزموا بِعقد الذِّمَّة مَا يرجع إِلَيْهَا.
الْفَصْل الثَّانِي

فِي الْحَاكِم (الْحَاكِم لَا خلاف فِي أَنه الله رب الْعَالمين، ثمَّ الأشعرية) قَالُوا (لَا يتَعَلَّق لَهُ تَعَالَى حكم) بِأَفْعَال الْمُكَلّفين (قبل بَعثه) لرَسُول إِلَيْهِم (وبلوغ دَعْوَة) من الله إِلَيْهِم (فَلَا يحرم كفر وَلَا يجب إِيمَان) قبلهمَا فضلا عَن سَائِر الْأَحْكَام (والمعتزلة) قَالُوا (يتَعَلَّق) لَهُ تَعَالَى حكم (بِمَا أدْرك الْعقل فِيهِ) من فعل الْمُكَلف (صفة حسن أَو قبح) وَسَيَأْتِي تفسيرهما (لذاته) وصف لأحد الْأَمريْنِ، وَالضَّمِير للموصول الْمعبر بِهِ عَن فعل الْمُكَلف كحسن الصدْق النافع وقبح الْكَذِب المضر، فَإِن الْعقل إِذا نظر فِي ذاتهما وجد فيهمَا الْحسن والقبح، وَهَذَا (عِنْد قدمائهم و) عِنْد (طَائِفَة) مِنْهُم يتَعَلَّق بِمَا أدْرك الْعقل فِيهِ صفة حسن أَو قبح (لصفة) توجب ذَلِك فِيهِ بِمَعْنى أَن لَهَا مدخلًا فِي ذَلِك لَا أَنَّهَا تستقل بِدُونِ الذَّات (والجبائية) أَي أَبُو عَليّ الجبائي وَأَتْبَاعه بِمَا أدْرك فِيهِ ذَلِك (لوُجُوده واعتبارات) مُخْتَلفَة كلطم الْيَتِيم فَإِنَّهُ بِاعْتِبَار كَونه تأديبا حسن، وَبِاعْتِبَار مُجَرّد التعذيب قَبِيح (وَقيل) وقائله أَبُو الْحُسَيْن مِنْهُم بِمَا أدْرك فِيهِ الْقبْح (لصفة فِي الْقَبِيح) فَقَط (وَعدمهَا) أَي الصّفة الْمُوجبَة للقبح (كَاف فِي) ثُبُوت (الْحسن وَمَا لم يدْرك فِيهِ) الْعقل صفة حسن أَو قبح كَصَوْم آخر يَوْم من رَمَضَان وَفطر أول يَوْم من شَوَّال إِنَّمَا يتَعَلَّق بِهِ الحكم (بِالشَّرْعِ، والمدرك) من الصِّفَات (أما حسن فعل بِحَيْثُ يقبح تَركه فَوَاجِب) أَي فَذَلِك الْفِعْل وَاجِب (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن حسنه بِحَيْثُ يقبح تَركه (فمندوب أَو) الْمدْرك حسن (ترك على وزانه) أَي على وزان الْمدْرك حسن فعله بِأَن يكون حسن تَركه بِحَيْثُ يقبح فعله (فَحَرَام و) إِلَّا فَهُوَ (مَكْرُوه، وَالْحَنَفِيَّة) قَالُوا (للْفِعْل) صفة حسن وقبح (كَمَا تقدم) فِي ذيل النَّهْي وكل مِنْهُمَا (فلنفسه وَغَيره) الضميران للْفِعْل (وَبِه) أَي بِسَبَب

(2/150)


مَا فِي الْفِعْل من الصّفة (يدْرك الْعقل حكمه تَعَالَى فِيهِ) أَي فِي الْفِعْل (فَلَا حكم لَهُ) أَي لِلْعَقْلِ إِن الحكم إِلَّا لله، غير أَن الْعقل (إِنَّمَا اسْتَقل بدرك بعض أَحْكَامه تَعَالَى) وَلذَا قَالَ المُصَنّف على مَا نَقله الشَّارِح: وَهَذَا عين قَول الْمُعْتَزلَة لَا كَمَا يحرفه بَعضهم (ثمَّ مِنْهُم كَأبي مَنْصُور من أثبت وجوب الْإِيمَان وَحُرْمَة الْكفْر وَنسبَة مَا هُوَ شنيع إِلَيْهِ تَعَالَى كالكذب والسفه وَهُوَ) أَي هَذَا الْمَجْمُوع (وجوب شكر الْمُنعم، وَزَاد أَبُو مَنْصُور) وَكثير من مَشَايِخ الْعرَاق (إِيجَابه) أَي الْإِيمَان (على الصَّبِي الْعَاقِل) الَّذِي يناظر فِي وحدانية الله تَعَالَى (ونقلوا عَنهُ) أَي أبي حنيفَة (لَو لم يبْعَث الله للنَّاس رَسُولا لوَجَبَ عَلَيْهِم مَعْرفَته بعقولهم، والبخاريون) قَالُوا (لَا تعلق) لحكم الله بِفعل الْمُكَلف قبل بعثة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتبليغه حكم الله فِي ذَلِك (كالأشاعرة وَهُوَ الْمُخْتَار وَحَاصِل مُخْتَار فَخر الْإِسْلَام وَالْقَاضِي أبي زيد) وشمس الْأَئِمَّة الْحلْوانِي (النَّفْي) لوُجُوب الْإِيمَان (عَن الصَّبِي) الْعَاقِل (لرِوَايَة عدم انْفِسَاخ النِّكَاح) أَي نِكَاح المراهقة وَهِي المقاربة للبلوغ إِذا كَانَت بَين أبوين مُسلمين تَحت زوج مُسلم (بِعَدَمِ وصف المراهقة الْإِسْلَام) مفعول للوصف بِأَن كَانَت عَاقِلَة فاستوصفته فَلم تقدر على وَصفه، ذكره فِي الْجَامِع الْكَبِير، إِذْ لَو كَانَت الصبية الْعَاقِلَة مكلفة بِالْإِيمَان لبانت كَمَا بلغت غير واصفة وَلَا قادرة على وَصفه، وَأما نفس الْوُجُوب فثابت كَمَا يَأْتِي فِي الْفَصْل الرَّابِع (و) حَاصِل مختارهما (فِي الْبَالِغ) النَّاشِئ على شَاهِق وَنَحْوه إِذا (لم تبلغه دَعْوَة) أَنه (لَا يُكَلف بِهِ) أَي الْإِيمَان (بِمُجَرَّد عقله مَا لم تمض مُدَّة التَّأَمُّل وقدرها) أَي الْمدَّة مفوض (إِلَيْهِ تَعَالَى) فَإِن مَضَت مُدَّة علم ربه أَنه قدر على ذَلِك وَلم يُؤمن يُعَاقِبهُ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا وَمَا قيل من أَنَّهَا مقدرَة بِثَلَاثَة أَيَّام اعْتِبَارا بالمرتد فَإِنَّهُ يُمْهل ثَلَاثَة أَيَّام قِيَاس مَعَ الْفَارِق، والعقول مُتَفَاوِتَة فَرُبمَا عَاقل يَهْتَدِي فِي زمَان قَلِيل إِلَى مَا لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ غَيره فِي زمَان كثير (فَلَو مَاتَ قبلهَا) أَي تِلْكَ الْمدَّة (غير مُعْتَقد إِيمَانًا وَلَا كفرا لَا عِقَاب عَلَيْهِ، أَو) مَاتَ (مُعْتَقدًا الْكفْر) واصفا لَهُ أَو غير واصف (خلد) فِي النَّار لِأَن اعْتِقَاد الْكفْر دَلِيل خطور الصَّانِع بِبَالِهِ، وَوُقُوع الِاسْتِدْلَال مِنْهُ فَلم يبْق لَهُ عذر، (وَكَذَا) يخلد فِي النَّار (إِذا مَاتَ بعْدهَا) أَي الْمدَّة (غير مُعْتَقد) إِيمَانًا وَلَا كفرا وَإِن لم تبلغه الدعْوَة، لِأَن الْإِمْهَال وَإِدْرَاك مُدَّة التَّأَمُّل بِمَنْزِلَة دَعْوَة الرَّسُول فِي حق تَنْبِيه الْقلب من نَومه الْغَفْلَة فَلَا يعْذر (وَبِهَذَا) التَّحْرِير (يبطل الْجمع) الَّذِي ذكره الشَّيْخ أكمل الدّين بَين مَذْهَب الأشاعرة وَغَيرهم (بِأَن قَول الْوُجُوب) أَي قَول من يَقُول بِالْوُجُوب قبل الْبعْثَة (مَعْنَاهُ تَرْجِيح الْعقل الْفِعْل) وَقَول (الْحُرْمَة) مَعْنَاهُ (تَرْجِيحه) أَي الْعقل (التّرْك) فمرجع كَلَام الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم وَاحِد، وَإِنَّمَا بَطل الْجمع لِأَنَّك قد عرفت الْفرق بَين اعتباري الْفَرِيقَيْنِ فِي ثُبُوت الْأَحْكَام، وَمَا

(2/151)


يثبت بِهِ بَين اللوازم المتخالفة المترتبة عَلَيْهِمَا فَإِن اخْتِلَاف اللوازم يسْتَلْزم اخْتِلَاف الملزومات، وَهَذَا كُله (بعد كَونه) أَي هَذَا الْجمع بتفسير الْوُجُوب وَالْحُرْمَة بِمَا ذكر (خلاف الظَّاهِر) إِذْ لَا يفهم من الْوُجُوب التَّرْجِيح الْمَذْكُور (وَمَا ذَكرْنَاهُ عَن البخاريين) من عدم تعلق الحكم قبل التَّبْلِيغ (نَقله الْمُحَقق ابْن عين الدولة عَنْهُم غير أَنه قَالَ أَئِمَّة بُخَارى الَّذين شهدناهم كَانُوا على القَوْل الأول: يَعْنِي قَول الأشاعرة، وحكموا بِأَن المُرَاد من رِوَايَة لَا عذر لأحد فِي الْجَهْل بخالقه لما يرى من خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض وَخلق نَفسه) أَنه لَا عذر لَهُ فِيهِ (بعد الْبعْثَة) وَالرِّوَايَة الْمَذْكُورَة فِي الْمُنْتَقى وَالْمِيزَان عَن مُحَمَّد بن سَمَّاعَة عَن أبي حنيفَة، وَفِي غَيره كجامع الْأَسْرَار عَن أبي يُوسُف عَن مُحَمَّد وَحِينَئِذٍ (فَيجب) بِنَاء على التَّفْسِير الْمَذْكُور (حمل الْوُجُوب فِي قَوْله) أَي أبي حنيفَة (لوَجَبَ عَلَيْهِم مَعْرفَته بقَوْلهمْ على يَنْبَغِي) أَي على الانبغاء: إِذْ حمله على حَقِيقَة الْوُجُوب يُنَافِي التَّقْيِيد ببعد الْبعْثَة (وَكلهمْ) أَي الْحَنَفِيَّة (على امْتنَاع تَعْذِيب الطائع عَلَيْهِ تَعَالَى، و) امْتنَاع (تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق، فتمت ثَلَاثَة) من الْأُصُول فِي مَحل النزاع، تَفْرِيع على مَا فصل من الْمذَاهب، وَهِي (أَنْصَاف الْفِعْل) بالْحسنِ والقبح، وَهَذَا هُوَ الأول (وَمنع استلزامه) أَي الاتصاف (حكما فِي العَبْد وإثباته) أَي إِثْبَات استلزام الاتصاف حكما فِي العَبْد، وَهَذَا هُوَ الثَّانِي، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة أصلان: حكما عدلا وَاحِدًا لِكَوْنِهِمَا نفيا وإثباتا لشَيْء وَاحِد وَهُوَ الاستلزام الْمَذْكُور (واستلزامه) أَي الاتصاف (منعهما) أَي تَعْذِيب الطائع وتكليف مَا لَا يُطَاق (مِنْهُ تَعَالَى) وَهَذَا هُوَ الثَّالِث (وَلَا نزاع فِي دركه) أَي الْعقل الْحسن والقبح (للْفِعْل بِمَعْنى صفة الْكَمَال و) صفة (النَّقْص) فَإِنَّهُمَا قد يستعملان فيهمَا (كَالْعلمِ وَالْجهل) أَي كَمَا إِذا قيل: الْعلم حسن، وَالْجهل قَبِيح، فَإِنَّهُ يُرَاد بهما مَا ذكر، وَالْعقل مدركهما فيهمَا (وَلَا فيهمَا) أَي وَلَا نزاع أَيْضا فِي دَرك الْعقل إيَّاهُمَا للْفِعْل (بِمَعْنى الْمَدْح والذم) أَي بِمَعْنى أَنه يمدح فَاعله، ويذم (فِي مجاري الْعَادَات) فَإِن الْعَادة أَن يمدح الْفَاعِل فِي بعض الْأَحْوَال ويذم، وَعلم الْعقل تفاصيلهما (بل) النزاع (فيهمَا) أَي فِي إِدْرَاك الْعقل الْحسن والقبح (بِمَعْنى اسْتِحْقَاق مدحه تَعَالَى وثوابه) للْفَاعِل على ذَلِك الْفِعْل (ومقابلهما) أَي وَبِمَعْنى اسْتِحْقَاق ذمه تَعَالَى وعقابه للْفَاعِل على ذَلِك وَالْحجّة (لنا فِي الأول) أَي اتصاف الْفِعْل بالْحسنِ والقبح (أَن قبح الظُّلم ومقابلة الْإِحْسَان بالإساءة مِمَّا اتّفق عَلَيْهِ الْعُقَلَاء حَتَّى من لم يتدين بدين) وَلَا يَقُول بشرع كالبراهمة (مَعَ اخْتِلَاف عاداتهم وأغراضهم) يرد عَلَيْهِ أَنه سلمنَا اتِّفَاق الْعُقَلَاء على قبح مَا ذكر بِمَعْنى أَنه يذم فَاعله، لَكِن لَا نسلم اتِّفَاقهم عَلَيْهِ بِمَعْنى اسْتِحْقَاقه الذَّم عِنْد الله تَعَالَى وَالْعِقَاب، والنزاع فِيهِ (فلولا أَنه) أَي اتصاف الْفِعْل بذلك (مدرك بِالضَّرُورَةِ فِي الْفِعْل لذاته لم يكن ذَلِك) الِاتِّفَاق من ضَرُورَة

(2/152)


الِاتِّفَاق على قبح مَا ذكر الِاتِّفَاق على حسن مَا يُقَابله (وَمنع الِاتِّفَاق على كَون الْحسن والقبح متعلقها) أَي الْأَحْكَام صادرة (مِنْهُ تَعَالَى) يَعْنِي سلمنَا الِاتِّفَاق على إِدْرَاك الْحسن والقبح فِي بعض أَفعَال الْعباد كَمَا ذكرْتُمْ لَكِن لَا نسلم الِاتِّفَاق على أَن مَا استحسنه الْعقل أَو استصحبه صَار مُتَعَلقا لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي، وَهَذَا الْمَنْع مَذْكُور فِي شرح الْمَقَاصِد (لَا يمسنا) أَي لَا يلحقنا مِنْهُ ضَرَر لأَنا لم نقل بِأَن مُجَرّد اتصاف الْعقل بالْحسنِ والقبح يسْتَلْزم كَونه مُتَعَلقا بِحكم، بل يُوقف هَذَا التَّعَلُّق على السّمع، فِيهِ أَنه قد سبق أَن الْمُتَنَازع فِيهِ الْقبْح بِمَعْنى اسْتِحْقَاق الذَّم عِنْد الله وَالْعِقَاب، وَإِذا كَانَ هَذَا الْمَعْنى ضَرُورِيًّا يلْزم كَونه مذموما عِنْده مُسْتَحقّا للعقاب، وَهَذَا عين التَّحْرِيم، وَقد يُجَاب عَنهُ أَنه لَيْسَ من الضروريات الَّتِي يُمكن عدم مطابقتها للْوَاقِع فَيحْتَاج إِلَى السّمع، وَلَو سلم فكونه مُسْتَحقّا لما ذكر لَا يسْتَلْزم توجه الْخطاب مِنْهُ تَعَالَى بِطَلَب تَركه وَالله أعلم (وَقَوْلهمْ) أَي الأشاعرة فِي دفع اتصافه بالْحسنِ والقبح (وَهُوَ) أَي مَا ذكرْتُمْ من قبح الظُّلم، والمقابلة الْمَذْكُورَة لَيْسَ الِاتِّفَاق عَلَيْهِ لكَونه مدْركا بِالضَّرُورَةِ، بل لكَونه (مِمَّا أبقت فِيهِ الْأَغْرَاض والعادات وَاسْتحق) على صِيغَة الْمَجْهُول (بِهِ) أَي بِسَبَبِهِ، وَالضَّمِير للموصول (الْمَدْح) مَرْفُوع لقِيَامه مقَام الْفَاعِل، وَهَذَا إِذا فعل مَا يُقَابله (والذم) إِذا فعله (فِي نظر الْعُقُول جَمِيعًا) ظرف للاستحقاق، فمنشأ الِاتِّفَاق اتِّبَاع الْأَغْرَاض والعادات على مُقْتَضى الطبيعة ومحبة الْمَدْح، وَكَرَاهَة الذَّم، لِأَن مَا ذكرْتُمْ من إِدْرَاك الْحسن والقبح على سَبِيل الضَّرُورَة (لتَعلق مصَالح الْكل بِهِ) أَي بِمَا ذكرْتُمْ، وَهُوَ تَعْلِيل للاتفاق الْمَذْكُور (لَا يُفِيد) خبر الْمُبْتَدَأ أَعنِي قَوْلهم: أَي القَوْل الْمَذْكُور لَا يدْفع حجتنا: إِذْ هُوَ إِنْكَار للبديهي (بل هُوَ) أَي كَون الْفِعْل بِحَيْثُ يسْتَحق فَاعله الْمَدْح أَو الذَّم، وَلَو لتَعلق الْمصَالح هُوَ (المُرَاد بالذاتي) أَي بِكَوْن الْفِعْل مَوْصُوفا بالْحسنِ أَو الْقبْح لذاته، لَا لكَون الْفِعْل مقتضيا لذاته الْحسن والقبح (للْقطع بِأَن مُجَرّد حَرَكَة الْيَد قتلا) أَي حَرَكَة قتل (ظلما) صفة لقتل (لَا تزيد حَقِيقَتهَا) أَي الْحَرَكَة الْمَذْكُورَة (على حَقِيقَتهَا) أَي حركتها قتلا (عدلا، فَلَو كَانَ الذاتي) هُوَ مَا يكون (مُقْتَضى الذَّات اتَّحد لازمها) أَي الحركتين (حسنا وقبحا) يَعْنِي إِن كَانَ لَازم أَحدهمَا الْحسن كَانَ لَازم الآخر كَذَلِك، وهما منصوبان على الظَّرْفِيَّة: أَي اتَّحد اللازمان فِي الْحسن والقبح، أَو على الحالية: أَي حَال كَونهمَا حسنا، أَو حَال كَونهمَا قبحا (فَإِنَّمَا يُرَاد) بالذاتي (مَا يجْزم بِهِ الْعقل لفعل من الصّفة) الَّتِي هِيَ الْحسن والقبح بَيَان للموصول (بِمُجَرَّد تعقله) أَي الْفِعْل حَال كَون هَذَا المجزوم بِهِ (كَائِنا) أَي ناشئا (عَن صفة نفس مَا قَامَ بِهِ) ذَلِك الْفِعْل، فههنا صفتان: إِحْدَاهمَا قَائِمَة بِالنَّفسِ الناطقة كالسماحة والجود وَمَا يقابلهما، وَالْأُخْرَى ناشئة عَن الأولى أثر

(2/153)


لَهَا يظْهر فِي الْخَارِج (فباعتبارها) أَي تِلْكَ الصّفة الناشئة عَن صفة نفس الْفَاعِل (يُوصف) ذَلِك الْفِعْل (بِأَنَّهُ عدل حسن، أَو ضِدّه) أَي ظلم قَبِيح (هَذَا) الْجَزْم من الْعقل وَالْوَصْف بذلك (باضطرار الدَّلِيل) أَي الْعقل مُضْطَر فِي ذَلِك بِسَبَب الدَّلِيل الْمُوجب لذَلِك (وَيُوجب) مَا ذكر من الْقطع بِأَن مُجَرّد الْحَرَكَة الخ، وَمن جزم الْعقل إِلَى آخِره (كَونه) أَي كَون اتصاف الْفِعْل بالْحسنِ والقبح (مُطلقًا) أَي على الْإِطْلَاق إِنَّمَا هُوَ (لخارج) أَي لأَمره خَارج عَن ذَات الْفِعْل من الوصفين الْمَذْكُورين (وَمثله) أَي مثل اتِّفَاق الْعُقَلَاء على مَا ذكر فِي إِفَادَة الْمَطْلُوب (تَرْجِيح الصدْق) أَي تَرْجِيح الصدْق على الْكَذِب (مِمَّن اسْتَوَى فِي تَحْصِيل غَرَضه) من جلب نفع أَو دفع ضرّ (هُوَ) أَي الصدْق (وَالْكذب وَلَا علم لَهُ بشريعة) مبينَة حسن الصدْق وقبح الْكَذِب، فلولا أَنَّهُمَا معلومان بِالضَّرُورَةِ لما كَانَ الْأَمر كَذَلِك (وَالْجَوَاب) عَن هَذَا من قبل الأشاعرة (بِأَن الإيثار) أَي التَّرْجِيح من الْعقل للصدق على الْكَذِب فِي فِي هَذَا (لَيْسَ لحسنه) أَي الصدْق (عِنْده تَعَالَى) بل لحسنه عندنَا (لَيْسَ يضرنا) لِأَنَّهُ لم يثبت بذلك الحكم حَتَّى يُقَال ثُبُوته مَوْقُوف على كَونه مَوْصُوفا بالْحسنِ والقبح عِنْد الله كَمَا هُوَ عندنَا، وَإِنَّمَا يضر الْمُعْتَزلَة لادعائهم استلزام الاتصاف بذلك تعلق الحكم بِهِ من غير توقف على سمع (نعم يرد عَلَيْهِ) أَي هَذَا الدَّلِيل (منع التَّرْجِيح) للصدق على الْكَذِب (على التَّقْدِير) أَي تَقْدِير مُسَاوَاة الصدْق وَالْكذب فِي حُصُول الْغَرَض: إِذْ قد يرجح الْكَذِب على ذَلِك التَّقْدِير كَمَا سيشير إِلَيْهِ (قَالُوا) أَي الأشاعرة أَولا (لَو اتّصف) الْفِعْل بالْحسنِ والقبح (كَذَلِك) أَي اتصافا ذاتيا (لم يتَخَلَّف) كل مِنْهُمَا عَمَّا اتّصف بِهِ فِي بعض الْمَوَارِد (و) قد (تخلف) قبح الْكَذِب (فِي) وَقت (تعينه) أَي الْكَذِب طَرِيقا (لعصمة نَبِي) من ظَالِم مثلا فَإِنَّهُ حسن وَاجِب (وَالْجَوَاب هُوَ) أَي الْكَذِب الْمُتَعَيّن للغرض بَاقٍ (على قبحه) وَلم يتَخَلَّف عَنهُ كإجراء كلمة الْكفْر على اللِّسَان رخصَة (و) لَكِن (حسن الإنقاذ) أَي التَّلْخِيص للنَّبِي (يَرْبُو) أَي يزِيد (قبح تَركه) أَي ترك التَّلْخِيص (عَلَيْهِ) أَي على الْكَذِب الَّذِي بِهِ الإنقاذ (وَغَايَة مَا يسْتَلْزم) هَذَا (أَنَّهُمَا) أَي الْحسن والقبح فِيهِ (لخارج لكنهما) أَي الْحسن والقبح (من جِهَتَيْنِ) فالقبح من جِهَة كَونه كذبا، وَالْحسن من جِهَة كَونه إنقاذا (ترجحت إِحْدَاهمَا) وَهِي جِهَة الْحسن على الْأُخْرَى (وَقيل هُوَ) أى تعين الْكَذِب (فرض مَا لَيْسَ بواقع: اذ لَا كذب الا وَعنهُ مندوحة التَّعْرِيض) أَي سعته: يَعْنِي كل من يكذب لَيْسَ لَهُ ضَرُورَة ملجئه إِلَى الْكَذِب: إِذْ يُمكنهُ أَن يتَكَلَّم بِمَالِه محمل صَادِق هُوَ يَقْصِدهُ، وَالنَّاس يفهمون مِنْهُ الْمحمل الآخر الَّذِي لَو قَصده لصار كَاذِبًا فسعته باستغنائه عَن

(2/154)


الْكَذِب إِنَّمَا حصل بِسَبَب التَّعْرِيض، فالإنقاذ لَا يتَوَقَّف على الْكَذِب ليتعين فيترتب عَلَيْهِ مَا ذكر (قَالُوا) أَي الأشاعرة ثَانِيًا (لَو اتّصف) الْفِعْل بالْحسنِ والقبح لذاته (اجْتمع المتنافيان فِي لأكذبن غَدا، لِأَن صدقه) أَي لأكذبن غَدا (الَّذِي بِهِ حسنه) إِنَّمَا يتَحَقَّق (بكذب غَد فيقبح) لكَونه يسْتَلْزم كذبا فَاجْتمع الْحسن والقبح فِيهِ (وَقَلبه) أَي وَلِأَن كذبه الَّذِي بِهِ قبحه بِعَدَمِ كذب غَد فَيحسن، ولكونه ترك كذب فَاجْتمع الْحسن والقبح فِي كذبه (ومبناه) أَي هَذَا الدَّلِيل (على أَن الْمَلْزُوم لخارج حسن حسن) فَإِن لم يكن لَهُ فِي حد ذَاته حسن، والملزوم لخارج قَبِيح قَبِيح، وَإِن كَانَ لَهُ حسن فِي حد ذَاته (وَجَوَابه مَا مر من عدم التَّنَافِي) بَين كَونه حسنا وقبيحا (للجهتين) أَي لَا يُنَافِي كَون الشَّيْء حسنا من جِهَة كَونه قبيحا من جِهَة أُخْرَى (لما مر من المُرَاد بالذاتي) تَعْلِيل لِإِمْكَان اعْتِبَار الْجِهَتَيْنِ الْمَفْهُوم ضمنا، كَأَنَّهُ قيل كَيفَ يُمكن ذَلِك مَعَ كَون الْحسن والقبح ذاتيين والذات جِهَة وَاحِدَة، فَالْجَوَاب أَن إِمْكَانه لِمَعْنى وَجب الْمصير إِلَيْهِ، وَذَلِكَ الْمَعْنى هُوَ الَّذِي ذكر أَنه مُرَاد بالذاتي، وَبَين مفصلا (فَلَا ينتهض) الدَّلِيل الْمَذْكُور حجَّة (على أحد، قَالُوا) أَي الأشاعرة (ثَالِثا لَو اتّصف) الْفِعْل بالْحسنِ والقبح لذاته (وهما) أَي الْحسن والقبح لذاته (عرضان قَامَ الْعرض) الَّذِي هُوَ أَحدهمَا (بِالْعرضِ) الَّذِي هُوَ الْفِعْل (لِأَن الْحسن زَائِد) على مَفْهُوم الْفِعْل (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن زَائِدا عَلَيْهِ: بل كَانَ عينه أَو جزءه (كَانَت عقلية الْفِعْل عقليته) أَي الصُّورَة الْحَاصِلَة فِي الْعقل من الْفِعْل عين الصُّورَة الْحَاصِلَة فِيهِ من الْحسن، وَلَيْسَ كَذَلِك إِذْ قد يعقل الْفِعْل وَلَا يعقل حسنه وَلَا قبحه (و) أَيْضا الْحسن وصف (وجودي لِأَن نقيضه) أَي نقيض حسن (لَا حسن) وَهُوَ (سلب وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن سلبا بل وجوديا (استلزم محلا مَوْجُودا) لِامْتِنَاع قيام الصّفة الثبوتية بِالْمحل الْمَعْدُوم، وَإِذا استلزم محلا مَوْجُودا (فَلم يصدق على الْمَعْدُوم) لاحسن، وَهُوَ بَاطِل بِالضَّرُورَةِ، وَإِذا كَانَ أحد النقيضين سلبيا كَانَ الآخر وجوديا ضَرُورَة امْتنَاع النقيضين. قَالَ الشَّارِح وَالْكَلَام فِي الْقبْح كَالْكَلَامِ فِي الْحسن، وَهُوَ مُقْتَضى كَلَام الْمَتْن حَيْثُ قَالَ: وهما عرضان الخ، غير أَن قَوْله: لِأَن الْحسن زَائِد لَا يظْهر فِيهِ وَجه التَّخْصِيص مَعَ أَن الْمُدَّعِي مركب، وَدَلِيل الزِّيَادَة لَا يخْتَص بالْحسنِ إِلَّا بِأَن يُقَال الوجودية مُعْتَبرَة فِي كَون الْوَصْف عرضا كَمَا يفِيدهُ قَوْله وجودي الخ، وَهُوَ الْحق فَبين أول كَلَامه وَآخره نوع تدافع، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُرَاد بقوله: عرضان وصفان قائمان بِالْفِعْلِ، وبالعرض فِي قَوْله: قَامَ الْعرض الْحسن، وَحِينَئِذٍ لَا يُنَافِي قَول الشَّارِح: وَالْكَلَام إِلَى آخِره، وَيُؤَيّد مَا قُلْنَاهُ قَوْله (وَدفع) هَذَا الدَّلِيل (بِأَن عدمية صُورَة السَّلب) أَي مَا صدق عَلَيْهِ السَّلب على الْإِطْلَاق، عبر بهَا لكَونه

(2/155)


من الصُّور العقلة، أَو لِأَن صُورَة توهم العدمية (مَوْقُوفَة على كَون مَدْخُول النَّافِي وجوديا) وضع الظَّاهِر مَوضِع الْمُضمر لِئَلَّا يتَوَهَّم أَن المُرَاد بِهِ ثَانِيًا مَا أُرِيد بِهِ أَولا وَهُوَ مجوع النَّافِي ومدخوله (وَإِثْبَات وجوديته) أَي مَدْخُول النَّافِي (بعدميتها) أَي صُورَة السَّلب (دور، و) يرد (عَلَيْهِ) أَي على هَذَا الدّفع أَن يُقَال (إِنَّمَا أثْبته) أَي أثبت النَّفْي وجود مدخوله (باستلزام مَحل مَوْجُود) أَي باستلزام النَّفْي محلا مَوْجُودا لَو لم يكن عدميا يَعْنِي لَيْسَ الِاسْتِدْلَال بالعدمية الْمَأْخُوذَة مِمَّا ذكر بل الْمَأْخُوذَة من عدم استلزامه محلا وجوديا (ثمَّ ينْتَقض) الدَّلِيل (بِإِمْكَان الْفِعْل وَنَحْوه) كامتناعه بِأَن يُقَال لَو كَانَ الْإِمْكَان ذاتيا للْفِعْل لزم قيام الْعرض بِالْعرضِ، لِأَن الْإِمْكَان زَائِد على مَفْهُومه وَإِلَّا لزم أَن يتعقل بتعقله ثمَّ يلْزمه كَونه وجوديا لِأَنَّهُ يَقْتَضِي سلب إِلَى آخِره وَاللَّازِم بَاطِل للاتفاق على أَن الْإِمْكَان وَنَحْوه لَيْسَ بموجود بل من الاعتبارات الْعَقْلِيَّة والعوارض الذهنية (وَلَا ينْتَقض) هَذَا الدَّلِيل (باقتضائه) أَي هَذَا الدَّلِيل (أَنه لَا يَتَّصِف فعل بِحسن شَرْعِي) للُزُوم قيام الْعرض بِالْعرضِ، وَإِنَّمَا لَا ينْتَقض (لِأَنَّهُ) أَي الْحسن الشَّرْعِيّ (لَيْسَ عرضا لِأَنَّهُ) أَي حسنه (طلبه تَعَالَى الْفِعْل) وَطَلَبه من تعلقات كَلَامه الْقَدِيم بِفعل الْمُكَلف لَا صفة لَهُ (وَالتَّحْقِيق أَن صُورَة السَّلب قد تكون وجودا) أَي مَوْجُودا (كاللامعدوم) أَي مَا لَيْسَ بمعدوم (و) قد يكون (منقسما) إِلَى مَوْجُود ومعدوم (كاللاممتنع) فَإِنَّهُ يَنْقَسِم إِلَى الْوَاجِب والممكن الشَّامِل للمعدوم (وَلَو سلم) أَنه لَو اتّصف بِأَحَدِهِمَا لذاته لزم قيام الْعرض بِالْعرضِ (فقيام الْعرض) بِالْعرضِ (بِمَعْنى النَّعْت) للعرض (بِهِ) أَي بِالْعرضِ، فالقيام بَينهمَا اخْتِصَاص الناعت والمنعوت (غير مُمْتَنع) بل وَاقع كاتصاف الْحَرَكَة بالسرعة والبطء (إِذْ حَقِيقَته) أَي كَون الْعرض قَائِما بِالْعرضِ بِمَعْنى النَّعْت بِهِ (عدم الْقيام) للعرض بِالْعرضِ (خُصُوصا) أَي فِي خُصُوص الْمَادَّة وَهُوَ فِيمَا إِذا كَانَ مَا قَامَ معنى لَا وجود لَهُ فِي الْأَعْيَان (وَحسن الْفِعْل) أَمر (معنوي إِذْ لَيْسَ المحسوس سوى الْفِعْل) وَلَو كَانَ الْحسن الْقَائِم بِهِ من الْأَعْرَاض الْمَوْجُودَة فِي الْخَارِج لَكَانَ محسوسا (قَالُوا) أَي الأشاعرة (رَابِعا فعل العَبْد اضطراري) لَيْسَ باختياري (واتفاقي) يصدر مِنْهُ كَيْفَمَا اتّفق: أَي يَنْقَسِم إِلَيْهِمَا (لِأَنَّهُ) أَي فعله إِن كَانَ (بِلَا مُرَجّح) لوُجُوده على عَدمه بل يصدر عَنهُ تَارَة وَلَا يصدر عَنهُ أُخْرَى بِلَا تجدّد أَمر فَهُوَ (الثَّانِي) أَي اتفاقي (وَإِن) كَانَ (بِهِ) أَي بمرجح (فإمَّا) أَن يكون بمرجح (من العَبْد وَهُوَ بَاطِل للتسلسل) إِذْ ينْقل الْكَلَام إِلَى ذَلِك الْمُرَجح وهلم جرا (أَو) بمرجح (لَا مِنْهُ) أَي العَبْد (فَإِن لم يجب الْفِعْل مَعَه) أَي مَعَ ذَلِك الْمُرَجح (بِأَن صَحَّ تَركه) أَي الْفِعْل كَمَا صَحَّ فعله (عَاد الترديد) وَهُوَ أَنه إِمَّا أَن يكون ذَلِك الْمُرَجح بِلَا مُرَجّح أَو بِهِ، وَمَا كَانَ بِهِ فإمَّا من العَبْد أَو من غَيره وأياما كَانَ يلْزم الْمَحْذُور (وَإِن وَجب) الْفِعْل

(2/156)


مَعَه (فاضطراري وَلَا يتصفان) أَي الاضطراري والاتفاق (بهما) أَي الْحسن والقبح اتِّفَاقًا (وَهُوَ) أَي هَذَا الدَّلِيل (مَدْفُوع بِأَنَّهُ) أَي صُدُور الْفِعْل (بمرجح مِنْهُ) أَي العَبْد وَهُوَ الِاخْتِيَارِيّ (وَلَيْسَ الِاخْتِيَار بآخر) أَي بِاخْتِيَار آخر ليتسلسل (وصدور الْفِعْل عِنْد الْمُعْتَزلَة مَعَ الْمُرَجح على سَبِيل الصِّحَّة لَا الْوُجُوب) يَعْنِي مَعَ وجود ذَلِك الْمُرَجح يَصح صدوره فَلَا يلْزم التَّرْجِيح بِلَا مُرَجّح، لَا أَنه يصير صدوره ضَرُورِيًّا بِحَيْثُ يمْتَنع عدم الصُّدُور (إِلَّا أَبَا الْحُسَيْن) مِنْهُم فَإِنَّهُ يَقُول بِالْوُجُوب، لِأَن الْمُرَجح إِذا رجح جَانب الْوُجُود لَا يُمكن أَن يتَحَقَّق مَا يُقَابله وَإِلَّا يلْزم تَرْجِيح الْمَرْجُوح (وَلَو سلم) أَن الْمُرَجح يُوجب الْفِعْل (فالوجوب بِالِاخْتِيَارِ لَا يُوجب الِاضْطِرَار الْمنَافِي لِلْحسنِ والقبح، وَدفع) هَذَا الدّفع بِأَنَّهُ (ثَبت لُزُوم الِانْتِهَاء) أَي انْتِهَاء تسلسل الْعلَّة (إِلَى مُرَجّح لَيْسَ من العَبْد) لما ذكر من بطلَان التسلسل (يجب مَعَه) أَي مَعَ ذَلِك الْمُرَجح (الْفِعْل) وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَو لم يجب مَعَه يعود الترديد على مَا ذكر، واجملتان صفتان للمرجح (و) بذلك (يبطل اسْتِقْلَال العبدية) أَي بِالْفِعْلِ (وَمثله) أَي مثل هَذَا الْفِعْل الَّذِي لَيْسَ العَبْد مُسْتقِلّا بِهِ (عِنْد الْمُعْتَزلَة لَا يحسن وَلَا يقبح وَلَا يَصح التَّكْلِيف بِهِ، وَهُوَ) أَي الدّفع لذَلِك الدّفع (رد الْمُخْتَلف الى الْمُخْتَلف) لما كَانَ الِاسْتِدْلَال من قبل الأشاعرة فِي مُقَابلَة الْقَائِلين باتصاف الْفِعْل بالْحسنِ والقبح، وهم الْمُعْتَزلَة وَالْحَنَفِيَّة بعض مقدماته غير مُسلم عِنْد الْمُعْتَزلَة وَهُوَ الْوُجُوب المستلزم للاضطرار، وَبَعضهَا غير مُسلم عِنْد الْحَنَفِيَّة وَهُوَ اقْتِضَاء الْوُجُوب مُطلقًا الِاضْطِرَار الْمنَافِي للاتصاف الْمَذْكُور، وَكَانَ حَاصِل الدّفع من الْقَائِلين بِهِ منع الْوُجُوب مُسْتَندا بِأَن صُدُور الْفِعْل عِنْد الْمُعْتَزلَة على سَبِيل الصِّحَّة وَمنع الِاقْتِضَاء الْمَذْكُور، وَكَانَ حَاصِل دفع الدّفع من قبل الأشاعرة إِثْبَات الْمُدَّعِي بتغيير الدَّلِيل إِلَى مُقَدمَات: مِنْهَا لُزُوم الِانْتِهَاء إِلَى مُرَجّح لَيْسَ من العَبْد، وَهُوَ غير مُسلم عِنْد الْمُعْتَزلَة، وَمِنْهَا بطلَان اسْتِقْلَال العَبْد وَهُوَ كَذَلِك، وَمِنْهَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله وَمثله عِنْد الْمُعْتَزلَة الخ، وَيفهم مِنْهُ أَن مثله يحسن ويقبح عِنْد الْحَنَفِيَّة وَيصِح بِهِ التَّكْلِيف كَانَ كل وَاحِد من الِاسْتِدْلَال وَمَا غير إِلَيْهِ مركبا من مُقَدمَات مُخْتَلفَة كل مِنْهَا على رَأْي يؤم وكل مِنْهَا مُخْتَلف، وَالْأول مَرْدُود إِلَى الثَّانِي أَو الْعَكْس لكَونه بَدَلا مِنْهُ وَالْمرَاد من الْمُخْتَلف الأول: الأشاعرة، وَمن الثَّانِي الْمُعْتَزلَة، وَمن الرَّد تَوْجِيه إِلْزَام الأشاعرة عَن الْحَنَفِيَّة نَحْو الْمُعْتَزلَة وَالله أعلم.
وَيُؤَيّد هَذَا قَوْله (وَلَا يلْزمنَا) معشر الْحَنَفِيَّة مَا لزم الْمُعْتَزلَة من الدَّلِيل الْمشَار إِلَيْهِ بقوله ثَبت إِلَى آخِره (لِأَن وجود الِاخْتِيَار) فِي الْفِعْل (عندنَا كَاف فِي الْإِنْصَاف) بالْحسنِ والقبح (وَصِحَّة التَّكْلِيف) الْمَبْنِيّ عَلَيْهِ فَلَا يضر الْوُجُوب الْمَسْبُوق بِالِاخْتِيَارِ (وَهَذَا الدّفع) المفاد بقوله مَدْفُوع إِلَى آخِره (يشْتَرك بَين أهل القَوْل الَّذِي اخترناه) وَهُوَ مَا ذكره ابْن عين الدولة عَن

(2/157)


شاهدهم من أَئِمَّة بخاري (وَجمع من الأشاعرة) وهم الَّذين لَيْسَ مرجع نظرهم فِي الْأَفْعَال الْجَبْر (وَلَا ينتهض) هَذَا الدّفع (مِنْهُم) أَي الأشاعرة غير الْجمع الْمَذْكُور (إِذْ مرجع نظرهم فِي الْأَفْعَال الْجَبْر، لِأَن الِاخْتِيَار أَيْضا مَدْفُوع للْعَبد) أَي إِلَيْهِ (بخلقه تَعَالَى لَا صنع لَهُ) أَي للْعَبد (فِيهِ) أَي الِاخْتِيَار، ثمَّ لما ذكر عدم انتهاض مَا ذكر من الأشاعرة الَّذين أدّى نظرهم إِلَى الْجَبْر أَرَادَ أَن يبين لَهُم انتهاضه من الْحَنَفِيَّة فَقَالَ (أما الْحَنَفِيَّة) إِن شاركوا الأشاعرة فِي إِثْبَات الْكسْب للْعَبد لم يشاركوهم فِي تَفْسِيره (فالكسب) عِنْدهم (صرف الْقُدْرَة المخلوقة إِلَى الْقَصْد المصمم إِلَى الْفِعْل) فالجار الثَّانِي مُتَعَلق بِالْقَصْدِ أَو بالمصمم لتَضَمّنه معنى التَّوَجُّه (فأثرها) أَي الْقُدْرَة المخلوقة، لَا قدرَة الله كَمَا زعم الشَّارِح وَإِلَّا يلْزم مَا لزم الأشاعرة من الْجَبْر وَهُوَ ظَاهر (فِي الْقَصْد) الْمَذْكُور (ويخلق) الله (سُبْحَانَهُ الْفِعْل عِنْده) أَي عِنْد الْقَصْد المصمم (بِالْعَادَةِ) أَي بطرِيق الْعَادة بِأَن جرت عَادَة الله أَن يخلق فعل العَبْد بعد قَصده كَمَا جرت عَادَته فِي خلق الْأَشْيَاء عِنْد الْأَسْبَاب الظَّاهِرَة من غير تَأْثِير لتِلْك الْأَسْبَاب وَلَا مدخلية فِيهَا، ثمَّ أَرَادَ أَن يبين أَن تَأْثِير الْقُدْرَة المخلوقة فِي الْقَصْد الْمَذْكُور لَا يُوجب نقصا فِي الْقُدْرَة الْقَدِيمَة فَقَالَ (فَإِن كَانَ الْقَصْد) الْمَذْكُور (حَالا) أَي وَصفا (غير مَوْجُود وَلَا مَعْدُوم) فِي نَفسه قَائِما بموجود (فَلَيْسَ) الْكسْب (بِخلق) إِذْ هُوَ إِخْرَاج الْمَوْجُود من الْعَدَم إِلَى الْوُجُود فَلَا يلْزم إِثْبَات خَالق غير الله (وَعَلِيهِ) أَي على ثُبُوت الْحَال أَو على كَون الْقَصْد حَالا (جمع من الْمُحَقِّقين) مِنْهُم القَاضِي أَبُو بكر وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ أَولا وَجوزهُ صدر الشَّرِيعَة (وعَلى نَفْيه) أَي الْحَال كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور (فَكَذَلِك) أَي لَيْسَ الْكسْب بِخلق أَيْضا (على مَا قيل) وَالْقَائِل صدر الشَّرِيعَة (الْخلق أَمر إضافي يجب أَن يَقع بِهِ الْمَقْدُور لَا فِي مَحل الْقُدْرَة) أَي لَا فِيمَن قَامَت بِهِ الْقُدْرَة (وَيصِح انْفِرَاد الْقَادِر بإيجاد الْمَقْدُور بذلك الْأَمر) الإضافي (وَالْكَسْب أَمر إضافي يَقع بِهِ) الْمَقْدُور (فِي محلهَا) أَي الْقُدْرَة، وَهَذَا الْقدر كَاف فِي الْفرق بَينهمَا فَقَوله (وَلَا يَصح انْفِرَاده) أَي الْقَادِر (بإيجادها) أَي الْمَقْدُور لزِيَادَة التَّمْيِيز، فأثر الْخَالِق فِي فعل العَبْد إِيجَاد الْفِعْل فِي غَيره، وَأثر الكاسب التَّسَبُّب إِلَى ظُهُور ذَلِك الْفِعْل الْمَخْلُوق على جوارحه (وَلَو بطلت هَذِه التَّفْرِقَة) بَين الْخلق وَالْكَسْب (على تعذره) أَي مَعَ تعذر الْبطلَان الْمَذْكُور بِقِيَام الْبُرْهَان على وجودهَا، لنا مخلص آخر وَهُوَ أَنه (وَجب تَخْصِيص) خلق (الْقَصْد المصمم من عُمُوم الْخلق) الْمَدْلُول عَلَيْهِ بالنصوص الدَّالَّة على أَنه تَعَالَى خلق كل شَيْء (بِالْعقلِ) مُتَعَلق بالتخصيص: أَي بِالدَّلِيلِ الْعقلِيّ لَا السّمع، ثمَّ أَشَارَ إِلَى ذَلِك الدَّلِيل بقوله (لِأَنَّهُ) أَي كَون الْقَصْد المصمم مخلوقا للْعَبد (أدنى مَا يتَحَقَّق بِهِ فَائِدَة خلق الْقُدْرَة) الَّتِي من شَأْنهَا التَّمَكُّن من الْفِعْل وَالتّرْك وينتفى بِهِ الْجَبْر (وَيتَّجه بِهِ

(2/158)


حسن التَّكْلِيف المستعقب الْعقَاب بِالتّرْكِ وَالثَّوَاب بالامتثال) بل لَا امْتِثَال أصلا وَلَا مَعْصِيّة يَعْنِي إِذا لم يكن لقدرة العَبْد تَأْثِير فِي نفس الْفِعْل وَفِي الْعَزْم الْمَسْبُوق بِهِ الْفِعْل لَا يبْقى لحسن التَّكْلِيف الَّذِي يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الثَّوَاب وَالْعِقَاب وَجه، بل لَا يتَحَقَّق من الْمُكَلف امْتِثَال لِأَنَّهُ إِذا كَانَ الْفِعْل والعزم بتأثير الْقُدْرَة الْقَدِيمَة من غير مدخلية للحادثة كَانَ العَبْد مَحْجُورا فيهمَا وَالْفِعْل الاضطراري لَا يتَحَقَّق بِهِ الِامْتِثَال لِأَنَّهُ شَرط فِيهِ الْإِجْبَار وَأَيْضًا لَا مَعْصِيّة: إِذْ هِيَ ارْتِكَاب الْمحرم اخْتِيَارا (قَالُوا) أَي الأشاعرة (خَامِسًا لَو حسن) الْفِعْل (لذاته أَو لصفة أَو اعْتِبَار لم يكن الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُخْتَارًا فِي الحكم) وَذَلِكَ (لِأَنَّهُ) أَي الحكم حِينَئِذٍ (يتَعَيَّن كَونه) أَي الحكم (على وفْق مَا فِي الْفِعْل من الصّفة) الَّتِي هِيَ الْحسن أَو الْقبْح، لِأَن الحكم على خلاف مَا هُوَ الْمَعْقُول قَبِيح لَا يَصح مِنْهُ تَعَالَى، وَفِي التعين نفي الِاخْتِيَار (وَهُوَ) أَي هَذَا الدَّلِيل (وَجه عَام) لرد من عدا الأشاعرة بزعمهم (و) لَكِن (لَا يلْزمنَا) معشر الْحَنَفِيَّة (لِأَنَّهُ) أَي الحكم (إِذا كَانَ قَدِيما عندنَا) لِأَنَّهُ كَلَامه النَّفْسِيّ، بِخِلَاف الْمُعْتَزلَة فَإِن الحكم عِنْدهم حَادث وَحَيْثُ تعين صَار اضطراريا (كَيفَ يكون اختياريا) إِذْ أثر الْفِعْل الْمُخْتَار يجب أَن يكون حَادِثا، فَهُوَ عندنَا فَاعل مُوجب بِالنِّسْبَةِ إِلَى صِفَاته (فَهُوَ) أَي هَذَا التَّعْلِيل (إلزامي على الْمُعْتَزلَة ومدفوع عَنْهُم بِأَن غَايَته) أَي غَايَة مَا يلْزم الْمُعْتَزلَة فِي مقَام التَّأْوِيل (أَنه) تَعَالَى (مُخْتَار فِي مُوَافقَة تعلق حكمه للحكمة) صلَة الْمُوَافقَة: يَعْنِي لَيْسَ بمضطر فِي هَذِه الْمُوَافقَة، فَيصح مِنْهُ أَن يتَعَلَّق حكمه غير مُوَافق لَهَا وَلَا يخفى أَن هَذَا لَا يَتَأَتَّى مِنْهُم مَعَ القَوْل بِوُجُوب الْأَصْلَح عَلَيْهِ فَإِن قيل المُرَاد بِهَذَا الْوُجُوب بِالْغَيْر وَبِذَلِك الصِّحَّة بِالنّظرِ إِلَى الذَّات قُلْنَا الْمُعْتَبر فِي الِاخْتِيَار الصِّحَّة بِحَسب نفس الْأَمر، لَا بِحَسب الذَّات فَقَط فَتَأمل (وَذَلِكَ) أَي اخْتِيَار تِلْكَ الْمُوَافقَة المستلزم تعلق إِرَادَته بِأحد الطَّرفَيْنِ (لَا يُوجب اضطراره) تَعَالَى فِي الحكم، وَإِنَّمَا يُوجِبهُ الِاضْطِرَار فِيهَا (وَلنَا فِي الثَّانِي) من الْأُمُور الثَّلَاثَة الْمشَار إِلَيْهَا بقوله فِيمَا سبق فتمت ثَلَاثَة: وَهُوَ عدم استلزام اتصاف الْفِعْل بالْحسنِ والقبح حكما فِي العَبْد (لَو تعلق) الحكم بِالْفِعْلِ المتصف بالْحسنِ أَو الْقبْح فِي الْجُمْلَة، لِأَن الْمُدَّعِي سلب كلي ونقيضه إِيجَاب ضَرُورِيّ جزئي (قبل الْبعْثَة لزم التعذيب بِتَرْكِهِ) أَي بترك الْفِعْل الْمُتَعَلّق بِهِ الحكم (فِي الْجُمْلَة) بِأَن لم يتَعَلَّق بِتَرْكِهِ الْعَفو كَذَا ذكر، وَيرد عَلَيْهِ أَنه يجوز الْعَفو فِي جَمِيع صور الْمُخَالفَة، وَيُجَاب بِأَن الشّرك لَا يُعْفَى وَالظَّاهِر أَن قَوْله فِي الْجُمْلَة مَبْنِيّ على مَا ذكرنَا من اعْتِبَار الْإِيجَاب الجزئي فِي جَانب الشَّرْط (وَهُوَ) أَي التعذيب بِتَرْكِهِ قبل الْبعْثَة (مُنْتَفٍ) فَإِن قلت انْتِفَاء التعذيب قبل الْبعْثَة لَا يسْتَلْزم نفي التَّكْلِيف قبلهَا لجَوَاز كَونه مُكَلّفا مُسْتَحقّا للعذاب بِالتّرْكِ معفوا عَنهُ قلت الْآيَة تدل على أَنه لَا يسْتَحقّهُ أَيْضا

(2/159)


قبلهَا لدلالتها على ثُبُوت الْعذر لَهُم، وكونهم معذورين يُنَافِي اسْتِحْقَاق الْعَذَاب وَالله أعلم (بقوله تَعَالَى {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} قيل أَي وَلَا مثيبين فاستغنى عَن ذكر الثَّوَاب بِذكر الْعَذَاب الَّذِي هُوَ أظهر فِي تحقق معنى التَّكْلِيف (وتخصيصه) أَي الْعَذَاب بِعَذَاب الدُّنْيَا كَمَا جرى للأمم السالفة من مُكَذِّبِي الرُّسُل، أَو بِمَا عدا الْإِيمَان (بِلَا دَلِيل) وَأبْعد من هَذَا أَن يُرَاد بالرسول الْعقل (وَنفي التعذيب) الْمَذْكُور فِي الْآيَة (وَإِن لم يسْتَلْزم نفي التَّكْلِيف) بِالْكُلِّيَّةِ (عِنْد أبي مَنْصُور) وموافقيه لجَوَاز الْعَفو عِنْدهم عَن الْمُكَلف الَّذِي ترك مَا كلف بِهِ كَذَا ذكره الشَّارِح، وَيرد عَلَيْهِ أَن عدم استلزام نفي التعذيب نفي التَّكْلِيف لجوار الْعَفو لَا يخْتَص بِأبي مَنْصُور، فَالْوَجْه أَن يُقَال أَنه لما قَالَ يكون العَبْد مُكَلّفا قبل الْإِرْسَال بِبَعْض الْأَحْكَام دون بعض على مَا ذكر كَانَ معنى الْآيَة عِنْده: مَا كُنَّا معذبين بترك مَا يتَوَقَّف على السّمع (خلافًا للمعتزلة) قَالَ الشَّارِح فَإِنَّهُ يسْتَلْزم عِنْدهم قطعا لعدم تجويزهم الْعَفو جَريا مِنْهُ على مَا أسلف، وَأما على مَا ذَكرْنَاهُ فَمَعْنَاه خلافًا لَهُم فَإِنَّهُم يعممون التَّكْلِيف وَلَا يَقُولُونَ بِمثل مَا قَالَه أَبُو مَنْصُور غير أَنه يروج أَنهم لَا يثبتون بِالْعقلِ بعض الْأَحْكَام، فنفي التعذيب بترك تِلْكَ الْأَحْكَام لَا يسْتَلْزم نفي التَّكْلِيف عِنْدهم أَيْضا وَالْجَوَاب أَن مَا لَا يدْرك الْعقل فِيهِ حسنا أَو قبحا قَلِيل فالتكليف بِالْأَكْثَرِ قبل الْإِرْسَال مَوْجُود، وَتَخْصِيص الْآيَة بذلك الْقَلِيل تَأْوِيل بعيد فَتدبر (لكنه) أَي نفي التعذيب (يستلزمه) أَي نفي التَّكْلِيف عِنْد أبي مَنْصُور (فِي الْجُمْلَة) استلزام نفي التعذيب نفي التَّكْلِيف فِي الْجُمْلَة مَعْنَاهُ أَن نفي التعذيب على ترك فعل يتَوَقَّف حكمه على السّمع يسْتَلْزم نفي التَّكْلِيف بذلك الْفِعْل ونظائره، وَلَا يسْتَلْزم نفي التَّكْلِيف بِمَا لَا يتَوَقَّف حكمه عَلَيْهِ فَعلم أَن المُرَاد بِنَفْي التعذيب بالمحكوم عَلَيْهِ بِعَدَمِ الملزومية لنفي التَّكْلِيف مُطلقًا إِنَّمَا هُوَ نفي التعذيب على ترك بعض الْأَعْمَال لَا على ترك الْعَمَل مُطلقًا، لِأَن نَفْيه على تَركه مُطلقًا لَازمه نفي التَّكْلِيف مُطلقًا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَإِنَّمَا لَا يلْزم) ترك التَّكْلِيف مُطلقًا (فِي) نفي التعذيب (معِين) بِأَن يكون مُتَعَلّقه ترك مَخْصُوص، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْعينِ مَا لَيْسَ صفة للْعُمُوم (فنفيه) أَي التعذيب (مُطلقًا لنفيه) أَي التَّكْلِيف مُطلقًا، فيستدل بالمعلول على الْعلَّة (وَأَيْضًا) يسْتَدلّ على انْتِفَاء التَّكْلِيف بِانْتِفَاء التعذيب بترك الْفِعْل الْمُتَعَلّق بِهِ الحكم عقلا بقوله تَعَالَى (وَلَو أَنا أهلكناهم بِعَذَاب من قبله الْآيَة) أَي لقالوا {رَبنَا لَوْلَا أرْسلت إِلَيْنَا رَسُولا فنتبع آياتك من قبل أَن نذل ونخزى} -: وَجه الِاسْتِدْلَال أَنه تَعَالَى (لم يرد عذرهمْ) وَهُوَ أَنه على تَقْدِير عدم الْإِرْسَال لَا يسْتَحقُّونَ الْعَذَاب، بل هم معذورون لجهلهم (وَأرْسل) إِلَيْهِم رَسُولا (كي لَا يعتذروا بِهِ) وَلم يقل: هَذَا لَيْسَ بِعُذْر، لِأَن الْعقل كَاف فِي معرفَة الْأَحْكَام (وَأَيْضًا)

(2/160)


يسْتَدلّ بقوله تَعَالَى {لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل} فَإِنَّهُ يفهم مِنْهُ ثُبُوت الْحجَّة لَهُم على الله لَو عذبهم قبل الْبعْثَة، فَيُفِيد أَمنهم من الْعَذَاب، وَهُوَ يُوجب عدم الحكم قبلهَا (قَالُوا) أَي الْمُعْتَزلَة (لَو لم يثبت) حكم من الْأَحْكَام إِلَّا بِالشَّرْعِ (لزم إفحام الْأَنْبِيَاء) أَي عجزهم عَن إِثْبَات النُّبُوَّة، لِأَن النَّبِي إِذا ادّعى النُّبُوَّة وأتى بالمعجزة فَحِينَئِذٍ (إِذا قَالَ) النَّبِي للمبعوث إِلَيْهِ (انْظُر) فِي معجزتي (لتعلم) صدقي (قَالَ) الْمَبْعُوث إِلَيْهِ (لَا أنظر فِيهِ مَا لم يثبت الْوُجُوب) أَي وجوب النّظر (عَليّ) إِذْ لَهُ أَن يمْتَنع عَمَّا لم يجب عَلَيْهِ (وَلَا يثبت) الْوُجُوب عَليّ مَا لم أنظر) فِي معجزتك: إِذْ لَا وجوب إِلَّا بِالشَّرْعِ وَلم يثبت الشَّرْع بعد (أَو) قَالَ بِعِبَارَة أُخْرَى أوضح، وَهِي لَا أنظر (مَا لم يثبت الشَّرْع إِلَى آخِره) وَلَا يثبت الشَّرْع مَا لم أنظر، وَإِنِّي لَا أنظر، وَلَا سَبِيل حِينَئِذٍ للنَّبِي إِلَى دَفعه، وإفحامه بَاطِل، فَبَطل كَون وجوب النّظر فِيهِ شَرْعِيًّا فَتعين كَونه عقليا (وَالْجَوَاب أَن قَوْله: وَلَا يثبت إِلَى آخِره) أَي وَلَا يثبت الْوُجُوب عَليّ مَا لم أنظر (بَاطِل لِأَنَّهُ) أَي الْوُجُوب ثَابت (بِالشَّرْعِ) فِي نفس الْأَمر نظر فِي المعجز أَولا، غَايَة الْأَمر أَنه لَا يعلم ثُبُوته علما تصديقيا فَإِن قلت أَي فَائِدَة فِي ثُبُوته بِحَسب نفس الْأَمر إِذا لم يعلم بِهِ، وَهل يلْزم الْحجَّة عَلَيْهِ إِلَّا بعد علمه بِالطَّلَبِ، فَكَذَا إِذا عرض عَلَيْهِ النَّبِي أَن مَعَه معجزا إِن نظر فِيهِ يحصل بِهِ الْيَقِين بِكَوْنِهِ نَبيا صَادِقا فِيمَا يخبر بِهِ عَن الله تَعَالَى من طلب الْإِيمَان وَغَيره، وَلَا يتَوَقَّف هَذَا على شَيْء سوى النّظر فِيهِ كَانَ ذَلِك أوفى حجَّة عَلَيْهِ، وَكَانَ فِي إبائه متمردا ومتمتعا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَلَيْسَ) إِيجَاب النّظر عَلَيْهِ قبل النّظر، وَثُبُوت الشَّرْع عِنْده (تَكْلِيف غافل) بِمَا هُوَ غافل عَنهُ، وَلَا طلب فعل مِمَّا هُوَ خَالِي الذِّهْن عَن تصَوره عَن ذَلِك الْفِعْل (بعد فهم مَا خُوطِبَ بِهِ) وطولب مِنْهُ (وَمَا قيل تَصْدِيق من ثبتَتْ نبوته فِي أول إخباراته وَاجِب وَإِلَّا انْتَفَت فَائِدَة الْبعْثَة) وَذَلِكَ لِأَن الْمَقْصد من إرْسَال الرَّسُول تَبْلِيغ الْأَحْكَام الإلهية ليؤمنوا بهَا ويعملوا بموجبها، وَهُوَ لَا يحصل إِلَّا بالتصديق بإخباره فَيجب عَلَيْهِم التَّصْدِيق بالإخبار الأول: إِذْ عدم وُجُوبه يسْتَلْزم عدم وجوب مَا سواهُ بِالطَّرِيقِ الأولى فَيلْزم عدم وجوب تَصْدِيق شَيْء من إخباراته، وَإِذا لم يجب تَصْدِيق شَيْء مِنْهَا فَلهُ أَن لَا يصدقهُ فِي شَيْء مِنْهَا فَيصير مثل وَاحِد من آحَاد النَّاس فَلَا يبْقى للبعثة فَائِدَة، فِي التَّوْضِيح فِي تَفْسِير أَن وجوب تَصْدِيق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن توقف على الشَّرْع يلْزم الدّور أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن توقف على الشَّرْع إِذا ادّعى بِالنُّبُوَّةِ وَأظْهر المعجزة، وَعلم السَّامع أَنه نَبِي فَأخْبر بِأُمُور مثل: أَن الصَّلَاة وَاجِبَة، فَإِن لم يجب تَصْدِيق شَيْء من ذَلِك يبطل فَائِدَة النُّبُوَّة، وَإِن وَجب فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون وجوب تَصْدِيق إخباراته عقليا

(2/161)


أَو لَا بل يكون وجوب تَصْدِيق كلهَا شَرْعِيًّا، وَالثَّانِي بَاطِل لِأَنَّهُ على تَقْدِيره كَانَ وجوب الْكل بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَزِمَ أَنه قَالَ تَصْدِيق الْإِخْبَار الأول وَاجِب فيتكلم فِي هَذَا القَوْل فَإِن لم يجب تَصْدِيقه لزم عدم وجوب تَصْدِيق الْإِخْبَار، وَإِن وَجب فإمَّا أَن يجب بالإخبار الأول فَيلْزم الدّور أَو بقول آخر فيتكلم فِيهِ فَيلْزم التسلسل، فَتعين كَون وجوب شَيْء من إخباراته عقليا انْتهى وَلَا يخفى أَن فَائِدَة انْتِفَاء الْبعْثَة لَازم للسلب الْكُلِّي، وَانْتِفَاء السَّلب الْكُلِّي يتَحَقَّق بِالْإِيجَابِ الجزئي، وَقَوله وَإِن وَجب إِلَى آخر الْمُقدمَات مَبْنِيّ على الْإِيجَاب الْكُلِّي، فَيبقى بَينهمَا وَاسِطَة لم يذكر حكمهَا فَاخْتَارَ التَّقْرِير الْمَذْكُور لِئَلَّا يرد عَلَيْهِ ذَلِك مَعَ أَنه أخصر، ثمَّ لما أثبت وجوب التَّصْدِيق الْإِخْبَار الأول ردد فِيهِ، فَقَالَ (فَأَما) أَي فثبوت وُجُوبه إِمَّا (بِالشَّرْعِ) أَو بِالْعقلِ. وَالثَّانِي عين الْمَطْلُوب كَمَا سَيَأْتِي، وعنى الأول (فبنص وجوب تَصْدِيق) أَي فثبوته الشَّرْعِيّ إِنَّمَا يكون بِنَصّ دَال على وجوب تَصْدِيق النَّبِي فَهُوَ إِخْبَار ثَان عَن الله، فيتكلم فِيهِ على سَبِيل الترديد فَيَقُول (الثَّانِي) ثُبُوته (لَا يكون بِنَفسِهِ) وَإِلَّا يلْزم توقف الشَّيْء على نَفسه، فَيلْزم أَن يكون بِغَيْرِهِ (فإمَّا) أَن يكون ثُبُوته (بِالْأولِ) فَيكون ذَلِك الْغَيْر هُوَ الْإِخْبَار الأول (فيدور) أَي فَيلْزم الدّور، لِأَن الْمَفْرُوض توقف ثُبُوت وجوب تَصْدِيق الأول عَلَيْهِ (أَو) يكون ثُبُوته (بثالث) أَي بأخبار ثَالِث (فيتسلسل فَهُوَ) أَي وجوب تَصْدِيقه فِي أول إخباراته (بِالْعقلِ، وَكَذَا) أَي لوُجُوب تَصْدِيق الْإِخْبَار الأول (وجوب امْتِثَال أوامره) أَي الشَّارِع فِي أَن وجوب ثُبُوتهَا بِالْعقلِ، فَيُقَال (لَو) كَانَ ثُبُوته (بِالشَّرْعِ توقف) أَي وُجُوبه (على الْأَمر بالامتثال) وَهُوَ من ثَان (فوجوب امْتِثَال الْأَمر بالامتثال) صلَة الْأَمر (إِن كَانَ بِالْأولِ دَار، وَإِلَّا) بِأَن كَانَ بثالث، وَالثَّالِث برابع، وهلم جرا (تسلسل) فَمَا قيل مُبْتَدأ خَبره (فَجَوَابه أَن اللَّازِم) من هَذَا الدَّلِيل (جزم الْعقل بصدقه) أَي النَّبِي فِي أول إخباراته، وَيُوجب ذَلِك امْتِثَال أوامره (استنباطا من دليلها) أَي من دَلِيل صدق إخباراته ووجوبات امْتِثَال أوامره وَهُوَ ظُهُور المعجزة على يَدَيْهِ ليثبت صدقه فِيمَا يخبر عَن الله تَعَالَى، وامتثال مَا يَأْمر بِهِ (فَأَيْنَ الْوُجُوب عقلا بِمَعْنى اسْتِحْقَاق الْعقَاب) فِي الآجل (بِالتّرْكِ، بل يتَوَقَّف) الْوُجُوب عقلا بِهَذَا الْمَعْنى (على نَص) فَإِن قلت: إِذا ثَبت صدقه وَعلم أَن مَا يَدْعُو إِلَيْهِ من الله تَعَالَى مَطْلُوب من العَبْد يثبت أَنه إِذا عَصَاهُ يسْتَحق الْعقَاب فِي الْآخِرَة قُلْنَا لَا نسلم لِأَنَّهُ يرجع إِلَيْهِ ضَرَر من عصيانهم وَلَا يتأثر بِهِ، فَيجوز أَن لَا يغْضب على العَاصِي، والاستحقاق الْمَذْكُور فرع ذَلِك فَلَا بُد من نَص دَال عَلَيْهِ (قَالُوا) أَي الْمُعْتَزلَة (ثَانِيًا نقطع بِأَنَّهُ يقبح عِنْد الله من الْعَارِف بِذَاتِهِ المنزهة وَصِفَاته الْكَرِيمَة أَن ينْسب إِلَيْهِ مَا لَا يَلِيق من صِفَات النَّقْص) سَوَاء (ورد شرع)

(2/162)


أَفَادَ ذَلِك (أَولا فَيحرم عقلا) أَن ينْسب إِلَيْهِ (أُجِيب بِأَن الْقطع) بالقبح الْمَذْكُور بِمَعْنى اسْتِحْقَاق الْعَذَاب للتنازع فِيهِ (لما ركز فِي النُّفُوس من الشَّرَائِع الَّتِي لم تَنْقَطِع مُنْذُ بعثة آدم) عَلَيْهِ السَّلَام (فَتوهم) بِهَذَا السَّبَب (أَنه) أَي الْقطع الْمَذْكُور (بِمُجَرَّد حكم الْعقل) ثمَّ لما كَانَ الْمُخْتَار عِنْد المُصَنّف أَن الْفِعْل يَتَّصِف بالْحسنِ والقبح بِخَارِج، وَلَا تَكْلِيف قبل الْبعْثَة قَالَ (وعَلى أصلنَا ثُبُوت الْقبْح) لِلْعَقْلِ (فِي الْعقل) أَي عِنْد الْعقل (وَعِنْده تَعَالَى لَا يسْتَلْزم عقلا) أَي استلزاما عقليا (تَكْلِيفه) بِحكم يمنعهُ من الْفِعْل، ثمَّ بَين وَجه الاستلزام بقوله (بِمَعْنى أَنه يقبح مِنْهُ تَعَالَى تَركه) أَي ترك تَكْلِيفه بكف النَّفس عَن ذَلِك الْقَبِيح (وللحنفية والمعتزلة فِي الثَّالِث) أَن استلزام اتصاف الْفِعْل بالْحسنِ والقبح امْتنَاع تَعْذِيب الطائع وتكليف مَا لَا يُطَاق أَنه (ثَبت بالقاطع اتصاف الْفِعْل بالْحسنِ والقبح فِي نفس الْأَمر، فَيمْتَنع اتصافه) أَي اتصاف فعله تَعَالَى (بِهِ) أَي بالقبيح (تَعَالَى) الله عَن ذَلِك علوا كَبِيرا (وَأَيْضًا فالاتفاق على اسْتِقْلَال الْعقل بدركهما) أَي الْحسن والقبح (بِمَعْنى صفة الْكَمَال و) صفة (النَّقْص كَالْعلمِ وَالْجهل على مَا مر، فبالضرورة يَسْتَحِيل عَلَيْهِ تَعَالَى مَا أدْرك فِيهِ نقص وَحِينَئِذٍ) أَي وَحين كَانَ مستحيلا عَلَيْهِ مَا أدْرك فِيهِ نقص (ظهر الْقطع باستحالة اتصافه تَعَالَى بِالْكَذِبِ وَنَحْوه، تَعَالَى عَن ذَلِك وَأَيْضًا) لَو لم يمْتَنع اتصاف فعله بالقبح (يرْتَفع الْأمان عَن صدق وعده، و) صدق (خبر غَيره) أَي غير الْوَعْد (و) يرْتَفع الْأمان عَن صدق (النُّبُوَّة) أَي لم يجْزم بصدقها أصلا لَا عقلا، لِأَن صدقهَا مَوْقُوف على امْتنَاع اتصاف فعله بالقبح الَّذِي من جملَته الشَّهَادَة الكاذبة على أَنَّهَا دَعْوَى النَّفس، وَلَا شرعا، لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُمكن إثْبَاته بِالسَّمْعِ لِأَن حجيته فرع صدقه تَعَالَى، وَاكْتفى بِذكر الْوَعْد عَن ذكر الْوَعيد، وَمَا قَالَ الأشاعرة من جَوَاز الْخلف فِي الْوَعيد كغيرهم، لِأَنَّهُ لَا يعد نقصا، بل هُوَ من بَاب الْكَرم (وَعند الْأَشْعَرِيّ كَسَائِر الْخلق) كَمَا عِنْد سَابق الْخلق (الْقطع بِعَدَمِ اتصافه تَعَالَى) بِشَيْء من القبائح (دون الاستحالة الْعَقْلِيَّة) إِذْ الْقبْح لَيْسَ بعقل عِنْده، فَكيف يَسْتَحِيل عِنْده عقلا الاتصاف بِمَا لَا يحكم الْعقل بقبحه، فسائر الْخلق مَعَه فِي الْقطع بِعَدَمِ الاتصاف بِمَا ذكر، لَا فِي نفي الاستحالة الْعَقْلِيَّة، ثمَّ هَذَا الحكم القطعى (كَسَائِر الْعُلُوم الَّتِي يقطع فِيهَا بِأَن الْوَاقِع) فِي نفس الْأَمر (أحد النقيضين مَعَ اسْتِحَالَة الآخر لَو قدر) أَنه الْوَاقِع، وَذَلِكَ (كالقطع بِمَكَّة) أَي بوجودها (وبغداد) فَإِنَّهُ لَا يحِيل الْعقل عدمهَا (وَحِينَئِذٍ) أَي وَحين كَانَ الْقطع بِعَدَمِ اتصافه تَعَالَى بالقبيح كالقطع بِكَوْن الْجَبَل حجرا مَعَ إِمْكَان انقلابه ذَهَبا، ونظائره من الْعُلُوم العادية (لَا يلْزم ارْتِفَاع الْأمان) عِنْد صدق الْوَعْد وَغَيره، لِأَنَّهُ وَإِن لم يكن خَلفه محالا عقليا لَكنا نقطع بِعَدَمِهِ كَمَا نقطع بِعَدَمِ الْجَبَل

(2/163)


ذَهَبا (وَالْخلاف) الْجَارِي فِي اسْتِحَالَة اتصافه بِالْكَذِبِ وَنَحْوه على مَا ذكر (جَار) نَظِيره (فِي كل نقيصة) ثمَّ صور كيفيته بقوله (أقدرته) تَعَالَى (عَلَيْهَا) أَي على تِلْكَ النقيصة (مسلوبة أم هِيَ) أَي النقيصة (بهَا) أَي بقدرته (مشمولة) فالجملتان الإنشائيتان فِي مَحل الرّفْع على الخبرية بِتَقْدِير الْكَلَام تَصْوِير الْخلاف بِاعْتِبَار السُّؤَال الَّذِي يَقع جَوَاب كل من المتخالفين عَنهُ، بِأَن يُقَال: أقدرته إِلَى آخِره (وَالْقطع بِأَنَّهُ لَا يفعل) أَي وَالْحَال الْقطع بِعَدَمِ فعل تِلْكَ النقيصة (وَالْحَنَفِيَّة والمعتزلة على الأول) أَي على أَن قدرته عَلَيْهَا مسلوبة لِاسْتِحَالَة تعلق قدرته بالمحال (وَعَلِيهِ فرعوا) أَي على أَن قدرته (امْتنَاع تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق، و) امْتنَاع (تَعْذِيب الطائع) . قَالَ المُصَنّف فِي المسايرة: وَاعْلَم أَن الْحَنَفِيَّة لما استحالوا عَلَيْهِ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق، فهم لتعذيب المحسن الَّذِي استغرق عمره فِي الطَّاعَة مُخَالفا لهوى نَفسه فِي رضَا مَوْلَاهُ أمنع بِمَعْنى أَنه يتعالى عَن ذَلِك فَهُوَ من بَاب التنزيهات: إِذْ التَّسْوِيَة بَين الْمُسِيء والمحسن غير لَائِق بالحكمة فِي نظر سَائِر الْعُقُول، وَقد نَص تَعَالَى على قبحه حَيْثُ قَالَ - {أم حسب الَّذين اجترحوا السَّيِّئَات أَن نجعلهم كَالَّذِين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَوَاء محياهم ومماتهم سَاءَ مَا يحكمون} - فَجعله سَيِّئًا، هَذَا فِي التجويز عَلَيْهِ وَعَدَمه، أما الْوُقُوع فمقطوع بِعَدَمِهِ غير أَنه عِنْد الأشاعرة للوعد بِخِلَافِهِ وَعند الْحَنَفِيَّة وَغَيرهم لذَلِك، ولقبح خِلَافه انْتهى (وَذكرنَا فِي المسايرة) بطرِيق الْإِشَارَة (أَن الثَّانِي) وَهُوَ أَنَّهَا بهَا مشمولة، وَالْقطع بِأَنَّهُ لَا يَفْعَلهَا اخْتِيَارا (أَدخل فِي التَّنْزِيه) . قَالَ فِي المسايرة، ثمَّ قَالَ: يَعْنِي صَاحب الْعُمْدَة من مَشَايِخنَا، وَلَا يُوصف تَعَالَى بِالْقُدْرَةِ على الظُّلم والسفه وَالْكذب، لِأَن الْمحَال لَا يدْخل تَحت الْقُدْرَة وَعند الْمُعْتَزلَة يقدر وَلَا يفعل انْتهى وَلَا شكّ أَن سلب الْقُدْرَة عَمَّا ذكر هُوَ مَذْهَب الْمُعْتَزلَة، وَأما ثُبُوتهَا ثمَّ الِامْتِنَاع عَن متعلقها فمذهب الأشاعرة أليق وَلَا شكّ أَن الِامْتِنَاع عَنْهَا من بَاب التنزيهات فيسبر الْعقل فِي أَن أَي الْفَصْلَيْنِ أبلغ فِي التَّنْزِيه عَن الْفَحْشَاء أهوَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ مَعَ الِامْتِنَاع عَنهُ مُخْتَارًا فِي الشق الأول، أَو الِامْتِنَاع لعدم الْقُدْرَة فَيجب القَوْل بِإِدْخَال الْقَوْلَيْنِ فِي التَّنْزِيه انْتهى. فَفِي قَوْله مَعَ الِامْتِنَاع مُخْتَارًا فِي الشق الأول، وَقَوله أَو الِامْتِنَاع لعدم الْقُدْرَة مَعَ مَا سبق من قَوْله: وَلَا شكّ أَن الِامْتِنَاع عَنْهَا من بَاب التنزيهات إِشْعَار بِأَن الأول أَدخل فِي التَّنْزِيه: إِذْ التَّنْزِيه فِيمَا لَيْسَ باختياري غير ظَاهر، وَيُؤَيّد مَا ذكرنَا تَقْدِيم ذَلِك الشق فِي الذّكر، وَالْأول فِي المسايرة ثَان فِي هَذَا الْكتاب، خُذ (هَذَا وَلَو شَاءَ الله قَالَ قَائِل) فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن مَا سَنذكرُهُ لم يقل بِهِ أحد قبله (هُوَ) أَي النزاع بَين الْفرق الثَّلَاثَة (لَفْظِي، فَقَوْل الأشاعرة هُوَ أَنه) أَي الشَّأْن (لَا يحِيل الْعقل) أَي يجوز مَعَ قطع النّظر عَن الْأَدِلَّة الخارجية (كَون من اتّصف بالألوهية)

(2/164)


أَي الْعُبُودِيَّة بِالْحَقِّ (وَالْملك) أَي الْمَالِكِيَّة (لكل شَيْء متصفا بالجور) أَي بِمَا هُوَ خلاف الْعدْل إِذا صدر من شخص يَقُول: هَذَا جور وظلم (وَمَا لَا يَنْبَغِي: إِذْ حَاصله) أَي الاتصاف بِمَا ذكر (أَنه مَالك جَائِر، وَلَا يحِيل الْعقل وجود مَالك كَذَلِك) أَي جَائِر على مماليكه (وَلَا يسع الْحَنَفِيَّة والمعتزلة إِنْكَاره) أَي عدم إِحَالَة الْعقل ذَلِك (وَقَوْلهمْ) أَي الْحَنَفِيَّة والمعتزلة (يَسْتَحِيل) كَونه متصفا بالجور، وَمِمَّا لَا يَنْبَغِي إِنَّمَا هُوَ (بِالنّظرِ إِلَى مَا قطع بِهِ من ثُبُوت اتصاف هَذَا الْعَزِيز الَّذِي ثَبت أَنه الْإِلَه) لَا غَيره، وَهُوَ الله سُبْحَانَهُ (بأقصى كمالات الصِّفَات من الْعدْل وَالْإِحْسَان وَالْحكمَة: إِذْ يَسْتَحِيل اجْتِمَاع النقيضين فلحظهم) أَي ملحوظ الْحَنَفِيَّة والمعتزلة (إِثْبَات الضَّرُورَة بِشَرْط الْمَحْمُول فِي المتصف الْخَارِجِي) المُرَاد بالمتصف الْخَارِجِي: الشَّخْص الْمَوْجُود فِي الْخَارِج الثَّابِت ألوهيته المتصف بأقصى الكمالات، وبالمحمول الْوَصْف الَّذِي حمل عَلَيْهِ من كَونه متصفا بأقصى الكمالات وَلَا شكّ فِي أَنه إِذا شَرط مَعَ ذَاته الْوَصْف الْمَذْكُور بِأَن يعْتَبر من حَيْثُ أَنه مَوْصُوف بِهِ، وينسب إِلَيْهِ الْجور الَّذِي هُوَ نقيض مَا شَرط فِيهِ بِحكم الْعقل باستحالته بِالضَّرُورَةِ، وَهَذَا معنى إِثْبَات الضَّرُورَة الخ (والأشعرية) يجوزون ذَلِك (بِالنّظرِ إِلَى مُجَرّد مَفْهُوم إِلَه وَمَالك كل شَيْء) مَعَ قطع النّظر عَن كَون مَا صدق عَلَيْهِ هَذَا الْمَفْهُوم متصفا بأقصى الكمالات (وَاسْتمرّ الأشعرية أَن تنزلوا) فِي مَبْحَث التحسين والتقبيح العقليين (إِلَى اتصاف الْفِعْل) أَي باحوا بطرِيق التنزل، وَتَسْلِيم أَن الْفِعْل يَتَّصِف بالْحسنِ والقبح المستدعي تعلق الحكم بِهِ (ويبطلوا مسئلتين) متعلقتين باتصافه بهما (على التنزل) أَي مَعَ تنزلهم إِلَى ذَلِك (وَنحن وَإِن ساعدناهم) أَي الأشاعرة (على نفي التَّعَلُّق) أَي تعلق الحكم بِالْفِعْلِ (قبل الْبعْثَة لَكنا نورد كَلَامهم لما فِيهِ) أَي فِي كَلَامهم مِمَّا لَا نرتضيه لقصد التَّحْقِيق وَإِظْهَار الصَّوَاب.
المسئلة (الأولى: شكر الْمُنعم) أَي اسْتِعْمَال جَمِيع مَا أنعم الله تَعَالَى على العَبْد فِيمَا خلق لأَجله كصرف النّظر إِلَى مُشَاهدَة مصنوعاته ليستدل بهَا على صانعها، والسمع إِلَى تلقي أوامره وإنذاراته، وَاللِّسَان إِلَى التحدث بِالنعَم وَالثنَاء الْجَمِيل على الْمُنعم قيل هَذَا معنى الشُّكْر حَيْثُ ورد فِي الْكتاب الْعَزِيز، وَلذَا قَالَ تَعَالَى - {وَقَلِيل من عبَادي الشكُور} - (لَيْسَ بِوَاجِب عقلا لِأَنَّهُ) أَي الشُّكْر (لَو وَجب) عقلا (فلفائدة) أَي فإيجابه لَا يكون إِلَّا لفائدة. وَذَلِكَ (لبُطْلَان الْعَبَث) وَهُوَ أَن يفعل الْفَاعِل اخْتِيَارا مَا لَا فَائِدَة فِيهِ (فإمَّا لله تَعَالَى) أَي وَإِذا كَانَ لفائدة فإمَّا أَن يكون لفائدة رَاجِعَة إِلَى الله (أَو للْعَبد) أَي أَو لفائدة رَاجِعَة إِلَى العَبْد، وَحِينَئِذٍ إِمَّا أَن يكون حُصُولهَا لَهُ (فِي الدُّنْيَا أَو) فِي (الْآخِرَة، وَهِي) أَي هَذِه الْأَقْسَام الثَّلَاثَة (بَاطِلَة) . ثمَّ بَين بُطْلَانهَا على تَرْتِيب اللف والنشر، فَقَالَ (لتعاليه) تَعَالَى عَن أَن يكون

(2/165)


فعله لفائدة رَاجِعَة إِلَيْهِ، أَو عَن رُجُوع فَائِدَة إِلَيْهِ (و) لحُصُول (الْمَشَقَّة) من الشُّكْر الَّذِي هُوَ فعل الْوَاجِبَات، وَترك الْمُحرمَات، وَنَحْوهمَا (فِي الدُّنْيَا) بِغَيْر حَقِيقَة تَعب لَا حَظّ للنَّفس فِيهِ، وَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ حَظّ لَهَا فَلَيْسَ للْعَبد فِيهِ فَائِدَة دنيوية (وَعدم اسْتِقْلَال الْعقل بِأُمُور الْآخِرَة) فَلَيْسَ لِلْعَقْلِ أَن يُوجب الشُّكْر لفائدة رَاجِعَة إِلَى العَبْد فِي الْآخِرَة، لِأَن ذَلِك فرع استقلاله بِمَا يحصل للْعَبد من الْفَوَائِد الأخروية فِي مُقَابلَة الشُّكْر، وَلَا اسْتِقْلَال لَهُ فِيهَا لِأَنَّهَا من الْعَبَث الَّذِي لَا مجَال لِلْعَقْلِ فِيهِ (وانفصل الْمُعْتَزلَة) عَن هَذَا الْإِلْزَام بِأَنَّهُ لفائدة (ثمَّ بِأَنَّهَا) للْعَبد (فِي الدُّنْيَا وَهِي) أَي تِلْكَ الْفَائِدَة الدُّنْيَوِيَّة (دفع ضَرَر خوف الْعقَاب) ثمَّ اسْتدلَّ على وجود الْخَوْف الْمَذْكُور بقوله (للُزُوم خطور مُطَالبَة الْملك الْمُنعم بالشكر) والأمن من الْعقَاب من أعظم الْفَوَائِد، وَكَذَلِكَ دفع خَوفه واندفاع الْخَوْف فَائِدَة دنيوية، وَالْمَشَقَّة الَّتِي يَتَرَتَّب عَلَيْهَا دفع الضَّرَر لَا تنَافِي وجود الْفَائِدَة (وَمنع الأشعرية لُزُوم الْخطر) الْمُوجب للخوف فَلَا يتَعَيَّن وجوده، وَالدَّفْع الْمَذْكُور فرع وجوده وَقد يُجَاب بِأَنَّهُ وَإِن لم يتَعَيَّن وجوده لكنه على خطر الْوُجُود، وبالشكر ينْدَفع احْتِمَال وجوده: وَهُوَ فَائِدَة جليلة، وَفِيه مَا فِيهِ، على أَن مَنعهم غير موجه لِأَن الظَّاهِر أَن مَا ذكره الْمُعْتَزلَة منع، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُرَاد بِالْمَنْعِ أَن سَنَد الْمُعْتَزلَة لَا يصلح للسندية وَفِيه مَا فِيهِ (وعَلى) تَقْدِير (التَّسْلِيم) للُزُوم الخطور الْمَذْكُور (فمعارض بِأَنَّهُ) أَي الشُّكْر (تصرف فِي ملك الْغَيْر) بالاتعاب بالأفعال والتروك الشاقة بِدُونِ إِذن الْمَالِك، وَمَا يتَصَرَّف فِيهِ من نَفسه وَغَيره ملك الله تَعَالَى، وَهَذَا يُفِيد عدم وُجُوبه (وَبِأَنَّهُ) أَي شكر النِّعْمَة (يشبه الِاسْتِهْزَاء) من وَجْهَيْن أما أَحدهمَا أَنه لَيْسَ للنعمة قدر يعْتد بِهِ بِالنّظرِ إِلَى مملكة الْمُنعم وَعظم شَأْنه، والمقابلة بالشكر تؤذن بالاعتداد بهَا عِنْد الْمُنعم، وَثَانِيهمَا أَن النعم لَا تعد وَلَا تحصى وَالشُّكْر فِي مقابلتها كإهداء فَقير للْملك حَبَّة شعير فِي مُقَابلَة مَا أنعم عَلَيْهِ من ملك الْبِلَاد شرقا وغربا (وَلَقَد طَال رواج هَذِه الْجُمْلَة) من الِاسْتِدْلَال والاعتراض وَالْجَوَاب فِيمَا بَينهم (على تهافتها) أَي تساقطها وَعدم أهليتها لِأَن يلْتَفت إِلَيْهَا، ثمَّ بَين التهافت بقوله (فَإِن الحكم بتعلق الحكم) يَعْنِي حكم الْمُعْتَزلَة بتعلق الْوُجُوب وَالْحُرْمَة مثلا بِالْفِعْلِ قبل الْبعْثَة (تَابع لعقلية مَا فِي الْفِعْل) أَي تَابع لكَون مَا فِي الْفِعْل من الْحسن والقبح عقليا (فَإِذا عقل فِيهِ) أَي فِي الْفِعْل (حسن يلْزم بترك مَا هُوَ) أَي الْحسن (فِيهِ الْقبْح كحسن شكر الْمُنعم المستلزم تَركه) أَي الشُّكْر (قبح الكفران) أَي الْقبْح الَّذِي هُوَ الكفران، فالإضافة بَيَانِيَّة (بِالضَّرُورَةِ) مُتَعَلق بالاستلزام أَو الكفران (فقد أدْرك) الْعقل (حكم الله الَّذِي هُوَ وجوب الشُّكْر قطعا) أَي أدْركهُ بِلَا شُبْهَة (وَإِذا ثَبت الْوُجُوب) أَي وجوب الشُّكْر (بِلَا مرد لم يبْق لنا حَاجَة فِي تعْيين فَائِدَة بل نقطع بثبوتها) اي

(2/166)


الْفَائِدَة (فِي نفس الْأَمر علم عينهَا أَولا) يَعْنِي بعد الْقطع بثبوتها لَا نورث تقسيمكم الْمَذْكُور للفائدة وَنفي أقسامها شُبْهَة إِذْ هُوَ لَيْسَ بحاظر وَلَا مَا يُفِيد النَّفْي بقاطع فَلَيْسَ لكم مخلص إِلَّا منع الْعَقْلِيَّة، والبحث إِنَّمَا هُوَ بطرِيق التنزل وَتَسْلِيم الْعَقْلِيَّة (وَلَو منعُوا) أَي الأشاعرة (اتصاف الشُّكْر) بالْحسنِ (و) اتصاف (الكفران) بالقبح (لم تصر المسئلة على التنزل) وَهُوَ خلاف الْمَفْرُوض (وَكَذَا انْفِصَال الْمُعْتَزلَة) بِأَنَّهَا فِي الدُّنْيَا الخ تَابع لعقلية مَا فِي الْفِعْل (فَإِن دفع ضَرَر) خوف (الْعقَاب) الَّذِي هُوَ سَنَد منع انْتِفَاء الْفَائِدَة الدُّنْيَوِيَّة (إِنَّمَا يَصح) حَال كَونه (حَامِلا) للشاكر (على الْعَمَل) الَّذِي بِهِ يتَحَقَّق بِهِ الشُّكْر (وَهُوَ) أَي الْخَوْف أَو الْعَمَل الْمَبْنِيّ عَلَيْهِ (بعد الْعلم بِالْوُجُوب) أَي وجوب الشُّكْر عقلا (بطريقه) أَي بطرِيق الْموصل إِلَى الْعلم بِالْوُجُوب حسن الشُّكْر الْمُقْتَضى تَركه الْقبْح (وَهُوَ) أَي طَرِيقه (الَّذِي فِيهِ الْكَلَام) أَي النزاع، فَدلَّ هَذَا الِانْفِصَال أَن الْبَحْث بطرِيق التنزل وَتَسْلِيم الْعَقْلِيَّة لما فِي الْفِعْل (وَتَسْلِيم لُزُوم الخطور) أَي خطور خوف الْعقَاب (ومعارضتهم) أَي الأشاعرة للمعتزلة (بِالتَّصَرُّفِ فِي ملك الْغَيْر) على مَا ذكر (إلزامي إِذْ اعْتَرَفُوا) أَي الأشاعرة (فِي المسئلة الثَّانِيَة) على مَا سَيَأْتِي (بِأَن حرمته) أَي التَّصَرُّف فِي ملك الْغَيْر (لَيست عقلية) فالتحريم الَّذِي ادَّعَاهُ الأشاعرة فِي التَّصَرُّف الْمَذْكُور عِنْد الْمُعَارضَة على زعم الْمُعْتَزلَة فالبحث إلزامي، (وَأما) معارضتهم (بِأَنَّهُ) أَي شكر النِّعْمَة مجازاة (يشبه الِاسْتِهْزَاء فَيَقْضِي مِنْهُ) أَي من صنعهم (الْعجب) لغرابته وسخافته، كَيفَ وَيلْزم مِنْهُ انسداد بَاب الشُّكْر قبل الْبعْثَة وَبعدهَا على أَن مَا ذكر فِي وَجه شبه الِاسْتِهْزَاء كَلِمَات واهية (وَالْوَجْه فِيهِ) أَي فِي انْتِفَاء تعلق الحكم بِالْفِعْلِ قبل الْبعْثَة أَن يُقَال (لَا طَرِيق لِلْعَقْلِ إِلَى الحكم بحدوث مَا لم يكن إِلَّا بِالسَّمْعِ) أَي إِلَّا طَرِيق السّمع (أَو الْبَصَر وَالْفَرْض) أَي الْمَفْرُوض (انتفاؤهما) أَي السّمع وَالْبَصَر، إِذْ الْكَلَام فِيمَا قبل الْبعْثَة، وَلَا سمع إِذْ ذَاك (فِي) حق (تعلق حكمه) تَعَالَى بِالْفِعْلِ (ودرك مَا فِي الْفِعْل) من حسن وقبح (غير مُسْتَلْزم) تَكْلِيفه بِفعل أَو ترك (إِلَّا لَو كَانَ ترك تَكْلِيفه تَعَالَى يُوجب نَقصه تَعَالَى وَهُوَ) أَي إِيجَاب ترك التَّكْلِيف النَّقْص (مَمْنُوع)
المسئلة (الثَّانِيَة: أَفعَال الْعباد الاختيارية مِمَّا لَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْبَقَاء) تَقْيِيد للأفعال الاختيارية ويقابلها الاضطرارية وَهِي مَا لَا يُمكن الْبَقَاء بِدُونِهَا: كالتنفس فِي الْهَوَاء حَال كَونهَا وَاقعَة (قبل الْبعْثَة أَن أدْرك فِيهَا جِهَة محسنة أَو مقبحة فعلى مَا تقدم من التَّقْسِيم عِنْد الْمُعْتَزلَة) من أَن الْمدْرك إِمَّا حسن فعل بِحَيْثُ يقبح تَركه فَوَاجِب وَإِلَّا فمندوب أَو ترك على وزانه فَحَرَام ومكروه (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يدْرك فِيهَا جِهَة محسنة وَلَا مقبحة (فَلهم) أَي للمعتزلة (فِيهَا) أَي الْأَفْعَال الاختيارية

(2/167)


ثَلَاثَة مَذَاهِب (الْإِبَاحَة) أَي عدم الْحَرج هُوَ قَول معتزلة الْبَصْرَة وَكثير من الشَّافِعِيَّة وَأكْثر الْحَنَفِيَّة قَالُوا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّد فِيمَن هدد بِالْقَتْلِ على أكل الْميتَة أَو شرب الْخمر فَلم يفعل حَتَّى قتل بقوله خفت أَن يكون إِثْمًا، لِأَن أكل الْميتَة وَشرب الْخمر لم يحرما إِلَّا بِالنَّهْي عَنْهُمَا فَجعل الْإِبَاحَة أصلا وَالْحُرْمَة بِعَارِض النَّهْي (والحظر) أَي الْحُرْمَة: وَهُوَ قَول معتزلة بَغْدَاد وَبَعض الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة (وَالْوَقْف) وَهُوَ قَول بعض الْحَنَفِيَّة مِنْهُم أَبُو مَنْصُور الماتريدي وَصَاحب الْهِدَايَة وَعَامة أهل الحَدِيث وَنقل عَن الأشعرية (و) يُقَال (على الْأَوَّلين) الْإِبَاحَة والحظر (إِن الحكم بتعلق) حكم (معِين) بِفعل عقلا (فرع معرفَة حَال الْفِعْل) ليعلم أَنه هَل فِيهِ جِهَة محسنة أَو مقبحة على مَا تقدم من التَّقْسِيم أَولا، فَإِذا علم أَنه لَيْسَ فِيهِ شَيْء من ذَلِك حكم بعد ذَلِك الْمُبِيح بِالْإِبَاحَةِ والحاظر بالحظر (فَإِذا قَالَ الْمُبِيح بِنَاء على منع الْحصْر) يَعْنِي إِذا قَالَ لَيْسَ فِيهِ شَيْء من تِلْكَ الْجِهَات فَهُوَ مُبَاح فَمنع الْخصم الْحصْر فِي تِلْكَ الْجِهَات فالإباحة لجَوَاز الْحَظْر، قَالَ الْمُبِيح بِنَاء على هَذَا الْمَنْع (خلق) الله (العَبْد و) خلق (مَا يَنْفَعهُ) من الْأَفْعَال (فَمَنعه) من هَذَا الْفِعْل (و) الْحَال أَنه (لَا ضَرَر) فِي هَذَا الْفِعْل: إِذْ الْمَفْرُوض أَنه لَيْسَ فِيهِ جِهَة مقبحة (إخلال بفائدته) أَي خلقهما (وَهُوَ) أَي الْإِخْلَال (الْعَبَث) أَي ملزوم الْعَبَث وَهُوَ الْخلق بِلَا فَائِدَة (فمراده) أَي الْمُبِيح (وَهُوَ) أَي والعبث (نقيصة تمْتَنع عَلَيْهِ تَعَالَى) يَعْنِي هَذِه الْمُقدمَة مطوية منوية فِي هَذَا الِاسْتِدْلَال (والحاظر) يَعْنِي إِذا قَالَ الحاظر بِنَاء على منع الْحصْر فِي تِلْكَ الْجِهَات والحظر لجَوَاز الْإِبَاحَة لَا سَبِيل إِلَيْهَا لِأَنَّهُ (تصرف فِي ملك الْغَيْر فمراده) أَي الحاظر أَن التَّصَرُّف فِي ملك الْغَيْر (يحْتَمل الْمَنْع) وَإِن لم يتَعَيَّن (فالاحتياط الْعقلِيّ مَنعه) أَي العَبْد، إِذْ على تَقْدِير عدم التَّصَرُّف لَا يلْزم مَحْذُور، وعَلى تَقْدِير التَّصَرُّف يحْتَمل لُزُومه، وَالْعقل يحكم بترك مَا يحْتَمل الْمَحْذُور إِلَى مَا لَا يحْتَملهُ (فَانْدفع) بِهَذَا التَّقْرِير (مَا قيل على) دَلِيل (الْحَظْر) من منع بطلَان التَّصَرُّف فِي ملك الْغَيْر مُسْتَندا (بِأَن من ملك بحرا لَا ينفذ واتصف بغاية الْجُود، كَيفَ يدْرك الْعقل عُقُوبَته عَبده بِأخذ قدر سمسمة مِنْهُ) أَي الْبَحْر (لِأَنَّهُ) أَي الحاظر (لم يبن الْحَظْر على دَرك) الْعقل (ذَلِك) الْمَنْع (بل على احْتِمَاله) أَي مَنعه بِاعْتِبَار (أَنه تصرف فِي ملك الْملك بِلَا إِذْنه فيحتاط بِمَنْعه، و) انْدفع أَيْضا (منع أَن حُرْمَة التَّصَرُّف عَقْلِي بل سَمْعِي، وَلَو سلم) أَنه عَقْلِي (فَفِي حق من يتَضَرَّر) بذلك، وَالله سُبْحَانَهُ منزه عَن ذَلِك (وَلَو سلم) أَن التَّصَرُّف فِي حق كل مَالك مَمْنُوع عقلا (فمعارض بِمَا فِي الْمَنْع من الضَّرَر الناجز، وَدفعه) أَي الضَّرَر الناجز (عَن النَّفس وَاجِب عقلا وَلَيْسَ تَركه) أَي الْفِعْل (لدفع ضَرَر خوف الْعقَاب) الْحَاصِل من التَّصَرُّف فِي ملك الْغَيْر (أولى من الْفِعْل) المستلزم لدفع الضَّرَر الناجز بل بِاعْتِبَار العاجل أولى (مَعَ

(2/168)


مَا فِي هَذَا الْجَواب من كَونه) أَي الْمَذْكُور (غير مَحل النزاع فَإِنَّهُ) أَي النزاع إِنَّمَا هُوَ (فِي نَحْو أكل الْفَاكِهَة مِمَّا لَا ضَرَر فِي تَركه) كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي أول المسئلة بقوله: مِمَّا لَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْبَقَاء (وَمَا على الْإِبَاحَة) واندفع أَيْضا مَا ورد عَلَيْهَا (من أَنه أَن أُرِيد) بهَا أَنه (لَا حرج عقلا فِي الْفِعْل وَالتّرْك فَمُسلم) لَكِن لَا يثبت بِهِ حكم الله بِرَفْع الْحَرج (أَو) أُرِيد بهَا (خطاب الشَّارِع بِهِ) أَي بِأَنَّهُ لَا حرج فِي الْفِعْل وَالتّرْك (فَلَا شرع حِينَئِذٍ) إِذْ الْمَفْرُوض أَنه لَيْسَ هَهُنَا جِهَة محسنة وَلَا مقبحة وَلَا سمع (أَو) أُرِيد بهَا (حكم الْعقل بِهِ) أَي بِكَوْنِهِ مُبَاحا (فالفرض أَنه) أَي الْعقل (لَا حكم) فِيهِ (لَهُ بِحسن وَلَا قبح) وَإِنَّمَا انْدفع مَا ذكر على الْإِبَاحَة (إِذْ يختارون) أَي المبيحون (هَذَا) الشق الْأَخير (بملجئ) أَي بِسَبَب مَا يلجئهم إِلَى اخْتِيَاره وَهُوَ (لُزُوم الْعَبَث) على تَقْدِير الْمَنْع، وَعدم الْإِبَاحَة على مَا سبق (وَأما دَفعه) أَي دَلِيل الْمُبِيح الْمَذْكُور (بِمَنْع قبح فعل لَا فَائِدَة لَهُ) أَي لذَلِك الْفِعْل (بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى فيخرجه) أَي هَذَا الْكَلَام (عَن التنزل) أَي كَونه بحثا بطرِيق التنزل وَتَسْلِيم كَون الْحسن والقبح عقليا والمفروض خِلَافه، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لِأَنَّهُ) أَي التنزل (دَفعه) أَي يدْفع الحضم كَلَام الْمُعْتَزلَة (على تَسْلِيم قَاعِدَة الْحسن والقبح، نعم يدْفع) دَلِيل الْمُبِيح (بِمَنْع الْإِخْلَال) لفائدة الْخلق على تَقْدِير الْمَنْع مِنْهُ (إِذْ أرَاهُ) أَي العَبْد (قدرته) تَعَالَى (على إيجاده مُحَققَة) قَيده بقوله مُحَققَة لِأَنَّهُ تَعَالَى قد أرَاهُ قدرته مُمكنَة بِخلق أَمْثَاله (مَعَ احْتِمَال غَيره) أَي غير مَا ذكر من فَوَائِد أُخْرَى (مِمَّا) قد (يقصر) الْعقل (عَن دركه) فَلَا يحكم بالإخلال على تَقْدِير الْمَنْع (و) أَيْضا يدْفع (الحاظر) أَي دَلِيله بِأَنَّهُ (لَا يثبت حكم الحكم الأخروي) الحكم الأخروي خطابه الْمُتَعَلّق بِفعل الْمُكَلف المستتبع الثَّوَاب وَالْعِقَاب فِي الْآخِرَة، وَالْحكم الْمُضَاف إِلَيْهِ أَن يحكم الْعقل (بِثُبُوتِهِ فِي نفس الْأَمر) يَعْنِي ثُبُوت الْخطاب الْمَذْكُور فِي نفس الْأَمر لَا يكون سَببا لِأَن يحكم الْعقل بِثُبُوتِهِ. هَذَا، وَيحْتَمل أَن تكون الْبَاء فِي بِثُبُوتِهِ صلَة الحكم الأول: يَعْنِي لَا يثبت حكم الْعقل على الْخطاب الْمَذْكُور بِثُبُوتِهِ فِي نفس الْأَمر (قبل إِظْهَاره للمكلفين) ظرف لَا يثبت: أَي قبل إِظْهَار الله إِيَّاه لَهُم بطرِيق السّمع ووساطة الرَّسُول (فَكيف يثبت (باحتماله) أَي بِمُجَرَّد احْتِمَال ثُبُوته فِي نفس الْأَمر (و) الْحَال أَنه (لَا خوف) على العَبْد (ليحتاط) إِذْ الْخَوْف بعد الْعلم بِالْوُجُوب أَو الْحُرْمَة، وَلَيْسَ هَهُنَا علم بِجِهَة حسن أَو قبح حَتَّى يعلم أَحدهمَا (وَأما الْوَقْف) الَّذِي هُوَ الْمَذْهَب الثَّالِث (ففسر بِعَدَمِ الحكم) أَي بِعَدَمِ حكم الله بِشَيْء من الْأَحْكَام لعدم إِدْرَاك الْعقل شَيْئا من الْجِهَات الْمَذْكُورَة وَهُوَ مَنْقُول عَن طَائِفَة من الْمُعْتَزلَة (وَلَيْسَ) هَذَا (بِهِ) أَي بِالْوَقْفِ لِأَنَّهُ قطع بِعَدَمِ الحكم لَا وقف عَنهُ (و) فسر أَيْضا (بِعَدَمِ الْعلم بِخُصُوصِهِ) أَي الحكم (فيقل عَن كَانَ) عدم الْعلم بِخُصُوصِهِ

(2/169)


(للتعارض) بَين الْأَدِلَّة الدَّالَّة على ثُبُوت الْأَحْكَام قبل الْبعْثَة والأدلة الدَّالَّة على عدم ثُبُوتهَا قبلهَا (ففاسد لأَنا بَينا بُطْلَانهَا) أَي بطلَان الْأَدِلَّة الدَّالَّة على ثُبُوتهَا قبلهَا، وَيرد عَلَيْهِ أَنه يلْزم حِينَئِذٍ التَّوَقُّف عَن الحكم مُطلقًا لَا عَن الحكم الْخَاص، فَالْوَجْه أَن يُقَال المُرَاد التَّعَارُض بَين دَلِيل الْمُبِيح والحاظر، فَإِن المُصَنّف قد بَين بطلَان كل مِنْهُمَا (أَو لعدم الشَّرْع) حِينَئِذٍ، وَالْفَرْض أَن الْعقل لَا يسْتَقلّ بإدراكه كَمَا ذكره بعض أَصْحَابنَا (فَمُسلم) وَهُوَ مَذْهَبنَا (والحصر) الْمُسْتَفَاد من ذكر التَّعَارُض دون غَيره (فِي) الشق (الأول) من شقي الترديد، وَهُوَ عدم الْعلم بِخُصُوص الحكم لَا لعدم الشَّرْع (مَمْنُوع بل) قد يكون (لعدم الدَّلِيل على خُصُوص الحكم) فَعدم الْعلم بِخُصُوص الحكم لعدم الدَّلِيل عَلَيْهِ، فالتوقف لأَجله، لَا للتعارض (فَإِن قلت هَذِه الْمذَاهب) الْمَذْكُورَة (توجب) حَال كَونهَا (من الْمُعْتَزلَة كَون الحكم لَيْسَ من قبيل الْكَلَام اللَّفْظِيّ إِذْ لَا تحقق لَهُ) أَي الْكَلَام اللَّفْظِيّ (إِلَّا بعد الْبعْثَة، وَلَا نَفسِي) فِي الْكَلَام (عِنْدهم) وَلَا يخفى أَن الْمَفْهُوم من قَوْله هَذِه الْمذَاهب الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة مَذْهَب الْإِبَاحَة والحظر والتوقف، والإيجاب الْمَذْكُور إِنَّمَا يَتَرَتَّب على إِثْبَات الحكم قبل الْبعْثَة سَوَاء كَانَت هَذِه الْمذَاهب أَو لم تكن، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال بَيَان الْمذَاهب الثَّلَاثَة من غير ذكر مَذْهَب رَابِع يدل على الْأَمريْنِ أَحدهمَا انحصار الْمُعْتَزلَة فِي أَصْحَاب هَذِه الْمذَاهب، وَالثَّانِي اسْتِيعَاب الْعقل الْأَحْكَام كلهَا فَيلْزم إِثْبَات الْكَلَام النَّفْسِيّ على جَمِيع الْمُعْتَزلَة بِاعْتِبَار جَمِيع الْأَحْكَام فَالْجَوَاب منع توقفه) أَي الْكَلَام اللَّفْظِيّ (عَلَيْهَا) أَي الْبعْثَة (لجَوَاز تقدمه) أَي الْكَلَام اللَّفْظِيّ (عَلَيْهَا) أَي الْبعْثَة (كخطاباته للْمَلَائكَة وآدَم) فَإِن قلت هَذَا يدل على وجود الْكَلَام اللَّفْظِيّ فِي الْجُمْلَة قبل الْبعْثَة، لَا على وجود الْكَلَام اللَّفْظِيّ الْوَاقِع حكما قلت الْمَقْصد من هَذَا منع مقدّمته الَّتِي يتَوَقَّف عَلَيْهَا الدَّلِيل وَهُوَ قَوْله إِذْ لَا تحقق لَهُ فَتَأمل هَذَا (وَنقل عَن الْأَشْعَرِيّ الْوَقْف أَيْضا على الْخلاف فِي تَفْسِيره) أَي الْوَقْف كَمَا تقدم (وَالصَّوَاب) أَن المُرَاد بِهِ التَّفْسِير (الثَّانِي) أَي عدم الْعلم بِخُصُوص الحكم (لعدم الحكم عِنْده) أَي الْأَشْعَرِيّ (أَي فِيهَا) أَي فِي الْأَفْعَال (حكم لَا يدْرِي مَا هُوَ) أَي ذَلِك الحكم (إِلَّا فِي) زمَان (الْبعْثَة) فَإِنَّهُ يدْرِي حِينَئِذٍ بِالشَّرْعِ (لِأَنَّهُ) أَي الحكم حِينَئِذٍ (يتَعَلَّق) بالأفعال (فيعلمه) حِينَئِذٍ الْمُكَلف (و) لَا يخفى أَن (مَحل وقف الْأَشْعَرِيّ غَيره) أَي غير وقف الْمُعْتَزلَة (لِأَنَّهُ) أَي الْوَقْف (عِنْدهم) على التَّفْسِير الثَّانِي (حِينَئِذٍ عَن الحكم الْمُتَعَلّق) بالأفعال (وَلَا يتَصَوَّر) وجود تعلق الحكم (عِنْده) أى الأشعرى (قبل الْبعْثَة فحاصلة) أَي كَلَام الْأَشْعَرِيّ (إِثْبَات قدم الْكَلَام) المندرج تَحْتَهُ الْخطاب الْمُتَعَلّق بِفعل الْمُكَلف (والتوقف فِيمَا) أَي فِي الْخطاب الَّذِي (سَيظْهر تعلقه) التنجيزي بِالْفِعْلِ (وَهَذَا) الْمَذْكُور من قدم الْكَلَام والتوقف فِيمَا ذكر (مَعْلُوم من كل ناف للتعلق) التنجيزي (قبل الْبعْثَة)

(2/170)


بِخِلَاف من أثبت قدمه وَلم ينف تعلقه قبلهَا (فَلَا وَجه لتخصيصه) أَي هَذَا التَّوَقُّف (بِهِ) أَي بالأشعري (كَمَا لَا وَجه لإثباتهم) أَي الْمُعْتَزلَة (تعلقه) أَي الحكم بالأفعال قبل الْبعْثَة (مَعَ فرض عدم علمه) أَي الْمُكَلف بِهِ (مَعَ أَنه) أَي الحكم (حِينَئِذٍ) أَي حِين يكون مُتَعَلقا بِهِ وَلَا يُعلمهُ المكلفون (لَا يثبت) الحكم (فِي حق الْمُكَلّفين) إِذْ ثُبُوته فِي حَقهم حِينَئِذٍ تَكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق، وَأَيْضًا يلْزمه التعذيب، وَقَالَ - {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} - (بل الثُّبُوت) أَي ثُبُوت الحكم فِي حَقهم (مَعَ التَّعَلُّق) أَي مَعَ تعلق الحكم بِأَفْعَال الْمُكَلّفين لَا يُفَارق أَحدهمَا الآخر، فَلَا وَجه لإِثْبَات التَّعَلُّق بِدُونِ الثُّبُوت فِي حَقهم (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك بِأَن يثبت التَّعَلُّق بِدُونِ الثُّبُوت فِي حَقهم (فَلَا فَائِدَة للتعلق) لانحصار فَائِدَته فِي الثُّبُوت فِي حَقهم (وَلَو قَالُوهُ) أَي الْمُعْتَزلَة لوقف (كالأشعري) أَي كوقف الْأَشْعَرِيّ بإثباتهم خطابا لفظيا مَوْقُوفا تعلقه على الْبعْثَة والسمع (كَانَ) مِنْهُم على أصولهم قولا (بِلَا دَلِيل إِذْ لَا دَلِيل على ثُبُوت لفظ فِيهِ) أَي فِي الحكم قبل الْبعْثَة (أصلا بِخِلَاف الْأَشْعَرِيّ) فَإِنَّهُ قَائِل بِأَنَّهُ (وَجب ثُبُوت) الْكَلَام (النَّفْسِيّ أَولا) لما قَامَ عَلَيْهِ من الدَّلِيل على قدم الْكَلَام، وَكَونه لَيْسَ من قبيل الْحَرْف وَالصَّوْت إِلَى غير ذَلِك ثمَّ ترَتّب عَلَيْهِ التَّوَقُّف الْمَذْكُور (وَأما الْخلاف الْمَنْقُول بَين أهل السّنة) وَالْجَمَاعَة، وَهُوَ (أَن الأَصْل فِي الْأَفْعَال الْإِبَاحَة أَو الْحَظْر فَقيل) اثباتهما (بعد الشَّرْع بالأدلة السمعية: أى دلّت) الْأَدِلَّة السمعية (على ذَلِك) الْخلاف بِأَن دلّ بَعْضهَا على الْإِبَاحَة وَبَعضهَا على الْحَظْر، فَكل من الْفَرِيقَيْنِ تمسك بِمَا ترجح لَهُ (وَالْحق أَن ثُبُوت هَذَا الْخلاف مُشكل، لِأَن السمعي لَو دلّ على ثُبُوت الْإِبَاحَة أَو التَّحْرِيم قبل الْبعْثَة) ظرف للثبوت لَا للدلالة لِأَنَّهَا فرع وجود السمعي الْمُتَأَخر عَن الْبعْثَة، فالمسمعي الْحَادِث بعد الْبعْثَة يدل على كَونهمَا ثابتين قبلهَا (بَطل قَوْلهم لَا حكم قبلهَا) إِذْ السّمع دلّ على ثُبُوت الْإِبَاحَة والحظر اللَّذين هما حكمان، وَقد يُقَال حَاصِل هَذَا التَّعْلِيل بطلَان دلَالَة السمعي على ثبوتهما قبل الْبعْثَة، لَا بطلَان دلَالَته على ثبوتهما بعْدهَا، وَإِثْبَات إِشْكَال الْخلاف مَوْقُوف على البطلانين جَمِيعًا فَتَأمل (فَإِن أمكن فِي الْإِبَاحَة تَأْوِيله) أَي قَوْلهم لَا حكم قبلهَا (بِأَن لَا مُؤَاخذَة بِالْفِعْلِ وَالتّرْك فمعلوم) أَي فَعدم الْمُؤَاخَذَة مَعْلُوم (من عدم التَّعَلُّق) أَي تعلق الحكم بِالْفِعْلِ فَلَا حَاجَة إِلَى ذكره (ثمَّ لَا يَتَأَتَّى) التَّأْوِيل الْمَذْكُور (فِي قَول الْحَظْر) للمؤاخذة فِيهِ على التّرْك (وَلَو أَرَادوا) بالحكم الْمُثبت قبل الْبعْثَة (حكما) أَي خطابا نفسيا (بِلَا تعلق) بِفعل الْمُكَلف (بِمَعْنى قدم الْكَلَام) أَي الْكَلَام الْقَدِيم كَمَا هُوَ الْمُخْتَار (لم يتَّجه) أَي فَهُوَ غير موجه (إِذْ بالتعلق ظهر أَن لَيْسَ كل) الْأَفْعَال مُبَاحَة وَلَا محظورة فِي كَلَام النَّفس) فَإِن التَّعَلُّق الْحَادِث بعد الْبعْثَة إِنَّمَا يظْهر لنا مَا كَانَ

(2/171)


مندرجا إِجْمَالا لافي الْكَلَام النَّفْسِيّ الْقَدِيم (لِأَن) الْكَلَام (اللَّفْظِيّ) الَّذِي مَعَه التَّعَلُّق الْمَذْكُور (دَلِيله) أَي النَّفْسِيّ فَكيف تكون الْأَفْعَال كلهَا قبل الْبعْثَة مُبَاحَة أَو محظورة (وَمَا يشْعر بِهِ قَول بَعضهم أَن هَذَا) أَي القَوْل بِالْإِبَاحَةِ أَو الْحَظْر قبل الْبعْثَة مَبْنِيّ (على التنزل من الأشاعرة) مَعَ الْخصم: أَعنِي الْمُعْتَزلَة بِمَعْنى أَنه لَو فرض أَن لِلْعَقْلِ أَن يثبت حكما قبل الْبعْثَة كَانَ ذَلِك إِبَاحَة أَو حظرا (جيد) خبر الْمَوْصُول مُقَيّدا بقوله (لَو لم يظْهر من كَلَامهم أَنه) أَي مَا ذكر فِي هَذِه الخلافية (أَقْوَال مقررة) فِيمَا بَينهم لِأَنَّهَا أبحاث على طَرِيق التنزل (وَالْمُخْتَار أَن الأَصْل الْإِبَاحَة عِنْد جُمْهُور الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة، وَلَقَد استبعده) أَي كَون الأَصْل الْإِبَاحَة بِمَعْنى عدم الْمُؤَاخَذَة بِالْفِعْلِ وَالتّرْك (فَخر الْإِسْلَام قَالَ: لَا نقُول بِهَذَا لِأَن النَّاس لم يتْركُوا سدى) أَي مهملين غير مكلفين (فِي شَيْء من الزَّمَان) لقَوْله تَعَالَى - {وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير} - (وَإِنَّمَا هَذَا) أَي كَون الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْإِبَاحَة بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور (بِنَاء على زمَان الفترة لاخْتِلَاف الشَّرَائِع) الْمُوجب تَفْرِقَة البال وصعوبة الضَّبْط (وَوُقُوع التحريفات) فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الْمُتَعَلّقَة بالعقيدة وَالْعَمَل (فَلم يبْق الِاعْتِقَاد) للاختلال فِي الضَّبْط والتحريف (و) لم يبْق (الوثوق) أَي الِاعْتِمَاد (على شَيْء من الشَّرَائِع) اعتقادا كَانَ أَو عملا (فظهرت الْإِبَاحَة بِمَعْنى عدم الْعقَاب على الْإِتْيَان بِمَا) أَي بِفعل (لم يُوجد لَهُ محرم وَلَا مُبِيح) مَعْلُوم للمكلفين فَإِن قلت على هَذَا لزم ترك النَّاس فِي بعض الْأَزْمِنَة وَهُوَ مُخَالف لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة قلت الْآيَة تدل على عدم خلو الْأُمَم من النذير، وزمان الفترة لَا يطول بِحَيْثُ تنقرض تِلْكَ الْأمة، بل يدركهم النذير قبل الانقراض بَعْدَمَا يمْضِي عَلَيْهِم بُرْهَة من الزَّمَان المندرس فِيهَا آثَار النُّبُوَّة كَمَا يدل عَلَيْهِ حِكَايَة سلمَان الْفَارِسِي رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ أدْرك أشخاصا بِدِمَشْق ونصيبين وَغَيرهمَا كَانُوا على الْحق حَتَّى انقرض آخِرهم، وَقد أخبرهُ بِأَن النَّبِي الْمَوْعُود بَعثه فِي آخر الزَّمَان قرب وقته جدا فَتوجه إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة بإشارته فَأدْرك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد مكثه بهَا قَلِيلا، فزمان الفترة مُسْتَثْنى من عُمُوم قَول فَخر الْإِسْلَام لم يتْركُوا فِي شَيْء من الزَّمَان، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَحَاصِله) أَي مَا قَالَه فَخر الْإِسْلَام (تَقْيِيده) أَي فَخر الْإِسْلَام (ذَلِك) أَي بِكَوْن الأَصْل الْإِبَاحَة (بِزَمَان عدم الوثوق) هَذَا وَنقل الْبَيْضَاوِيّ أَن من يَقُول الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْإِبَاحَة يَعْنِي فِي الْمَنَافِع، وَأما فِي المضار فَالْأَصْل فِيهَا التَّحْرِيم، وَقَالَ الأسنوي: هَذَا بعد وُرُود الشَّرْع بِمُقْتَضى أدلته، وَأما قبله فالمختار الْوَقْف، وَفِي أصُول الْبَزْدَوِيّ بعد وُرُود الشَّرْع الْأَمْوَال على الْإِبَاحَة بِالْإِجْمَاع مَا لم يظْهر دَلِيل الْحُرْمَة لِأَن الله تَعَالَى أَبَاحَهَا بقوله - {خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا} -.
(تَنْبِيه: بعد إِثْبَات الْحَنَفِيَّة اتصاف الْأَفْعَال) بالْحسنِ والقبح (لذاتها) بِالْمَعْنَى الَّذِي سبق

(2/172)


ذكره سَوَاء كَانَ لعينها أَو لجزئها (وَغَيرهَا) أَي لِمَعْنى ثَبت فِي غير ذَاتهَا (ضبطوا متعلقات أوَامِر الشَّارِع مِنْهَا) أَي الْأَفْعَال فِي الْأَرْبَعَة أَقسَام (بالاستقراء) مُتَعَلق بالضبط منحصرا (فِيمَا) أَي فِي فعل مُتَعَلق أَمر (حسن لنَفسِهِ حسنا لَا يقبل) ذَلِك الْحسن (السُّقُوط) فَلَا يسْقط حكمه الَّذِي هُوَ الْوُجُوب (كالإيمان) أَي التَّصْدِيق على مَا عرف فِي مَحَله فَإِن حسنه كَذَلِك (فَلم يسْقط) بِسَبَب من الْأَسْبَاب غير الْإِكْرَاه (وَلَا بِالْإِكْرَاهِ) أَو هُوَ من عطف الْخَاص على الْعَام تَأْكِيدًا للْعُمُوم لكَون الْخَاص بِحَيْثُ يلْزم من حكمه حكم مَا سواهُ بِالطَّرِيقِ الأولي (أَو) حسنا (يقبله) أَي السُّقُوط. قَالَ الشَّارِح: وَالْأَحْسَن ويقبله انْتهى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقَال الْحصْر فِي هَذَا وَهَذَا، لَا فِي هَذَا أَو هَذَا قلت وَقد يُقَال فِي هَذَا وَهَذَا ليفاد بِأَو التريدية المستعملة فِي التقسيمات التَّنْصِيص على كَون الْقِسْمَة حاصرة، وَيصِح أَن يُقَال هَذَا منحصر فِي أحد هَذِه الْأُمُور: يَعْنِي لَا يتَجَاوَز عَنهُ (كَالصَّلَاةِ) فَإِنَّهَا حسنت لنَفسهَا لكَونهَا مُشْتَمِلَة على طَهَارَة الظَّاهِر وَالْبَاطِن وَجمع الهمة وإخلاء السِّرّ عَمَّا سوى الله كَمَا يشار إِلَيْهِ بِرَفْع الْيَدَيْنِ بنبذ مَا سواهُ وَرَاء ظَهره وَالتَّكْبِير الْبَالِغ فِي التَّعْظِيم وَالثنَاء الْغَيْر المشوب بِذكر مَا سواهُ ثمَّ الْمقَام فِي مقَام الْعُبُودِيَّة ثمَّ الرُّكُوع الدَّال على الخضوع، ثمَّ السُّجُود بِوَضْع أشرف الْأَعْضَاء على أذلّ العناصر: وَهُوَ التُّرَاب إِظْهَارًا لغاية التَّعْظِيم الْفعْلِيّ، وَمَا فِيهَا من تِلَاوَة الْقُرْآن وَالتَّكْبِير وَالتَّسْبِيح إِلَى غير ذَلِك إِلَّا أَنَّهَا (منعت فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة) عِنْد طُلُوع الشَّمْس حَتَّى ترْتَفع واستوائها وغروبها على الْوَجْه الْمَذْكُور فِي الْفِقْه لما دلّ عَلَيْهِ من السّنة وَالْإِجْمَاع، وَسَقَطت أَيْضا بِالْحيضِ وَالنّفاس إِجْمَاعًا (وَالْوَجْه) أَن يُقَال إِن كَانَ حسن الْأَفْعَال (لذاتها لَا يتَخَلَّف) عَنْهَا أصلا لِأَن مَا بِالذَّاتِ لَا يَزُول بِالْغَيْر (فحرمتها) أَي الْأَفْعَال الْحَسَنَة لذاتها حَيْثُ تكون إِنَّمَا تكون (لعروض قبح بِخَارِج) عَن ذَاتهَا عَلَيْهَا، فَحسن الصَّلَاة لَا يفارقها وَلَا فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة، وَإِنَّمَا منعت فِيهَا لعروض شبه فاعلها بالكفار عَبدة الشَّمْس فِي تِلْكَ الْأَوْقَات، وَفِي قَوْله فحرمتها الخ إِشَارَة إِلَى أَنه يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ: إِذْ من الْمَعْلُوم أَن الْعَارِض الْمَذْكُور إِنَّمَا يعرض فِي بعض أَفْرَاده (وَمَا هُوَ مُلْحق بِهِ) أَي بالْحسنِ لذاته (مَا) أَي فعل حسن (لغيره) أَي لغير ذَات الْفِعْل حَال كَون ذَلِك الْغَيْر (بخلقه تَعَالَى لَا اخْتِيَار للْعَبد فِيهِ كَالزَّكَاةِ وَالصَّوْم وَالْحج) فَإِن حسنها (لسد الْخلَّة) أَي دفع حَاجَة الْفَقِير إِلَى الزَّكَاة (وقهر عدوه تَعَالَى) وَهُوَ النَّفس الأمارة بالسوء بكفها عَن الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع فِي الصَّوْم (وَشرف الْمَكَان) أَي الْبَيْت الشريف بزيارته وتعظيمه فَإِن شرفه بتشريف الله تَعَالَى إِيَّاه لَا اخْتِيَار للْعَبد فِيهِ وَلَا يخفى أَن إِخْرَاج المَال الَّذِي هُوَ قوام الْمَعيشَة وَقطع الْمسَافَة الْبَعِيدَة وزيارة أمكنة مُعينَة وَترك الْأكل وَالشرب وَالْجِمَاع لَا حسن لَهَا فِي

(2/173)


حد ذَاتهَا، بل حسنها لأمور مُغَايرَة للذات: وَهِي السد والقهر والسرف وَلَيْسَ شَيْء مِنْهَا بِاخْتِيَار العَبْد، وَلَوْلَا دفع الله الْحَاجة مَا اندفعت، وَلَوْلَا جعله النَّفس مغلوبة مَا انقهرت وَلَوْلَا تشريفه الْبَيْت مَا تشرف، فَلم يحصل الْحسن فِي الْمَذْكُورَات، إِلَّا بِأُمُور خلقهَا الله تَعَالَى من غير اخْتِيَار للْعَبد فِيهَا وَإِنَّمَا ألحق هَذَا الْقسم بالْحسنِ لذاته لكَون الوسائط فِيهِ مُضَافَة إِلَى الله تَعَالَى سَاقِطَة الِاعْتِبَار بِالنِّسْبَةِ إِلَى العَبْد فِي منشأ حسنه، بِخِلَاف الْقسم الرَّابِع فَإِن الوسائط فه لَيست كَذَلِك، بل بِاخْتِيَار العَبْد كَمَا سَيَجِيءُ (وَمَا) حسن (لغيره) أَي لغير ذَات الْفِعْل حَال كَونه (غير مُلْحق) بِمَا حسن لذاته (كالجهاد، وَالْحَد، وَصَلَاة الْجِنَازَة) فَإِن حسن الْجِهَاد (بِوَاسِطَة الْكفْر) وإعلاء كلمة الله، فلولا كفر الْكَافِر وَمَا يتبعهُ من الإعلاء مَا حسن الْقِتَال (و) حسن الْحَد بِوَاسِطَة (الزّجر) للجاني عَن الْمعاصِي (و) حسن صَلَاة الْجِنَازَة بِوَاسِطَة (الْمَيِّت الْمُسلم غير الْبَاغِي) ويندرج فِيهِ قَاطع الطَّرِيق، وَلَو لم يكن الْمَيِّت مُسلما غير بَاغ مَا حسن الصَّلَاة عَلَيْهِ، وَهُوَ بَين يَدَيْهِ وَإِنَّمَا (اعْتبرت الوسائط) فِي هَذَا الْقسم مُضَافَة إِلَى العَبْد غير مُضَافَة إِلَى الله تَعَالَى ليلحق بالْحسنِ لذاته (لِأَنَّهَا) أَي الوسائط (بِاخْتِيَارِهِ) أَي العَبْد المتصف بهَا، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن الوسائط لم تعْتَبر فِي الْقسم الثَّالِث، وَجعل حسنها كَأَنَّهُ ذاتي كَمَا يدل عَلَيْهِ الْإِلْحَاق بالْحسنِ لذاته، وَإِنَّمَا اخْتَار الْوَجْه الْمَذْكُور فِي التَّقْسِيم على الأول لكَونه موهما لكَون الْحسن لذاته قَابلا لسُقُوط حسنه وتخلفه عَنهُ وَإِن حسن الصَّلَاة يفارقها فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة، وَلَيْسَ كَذَلِك ولكونه قاصرا على التَّفْصِيل الْمَذْكُور فِي هَذَا الْوَجْه (وَتَقَدَّمت أَقسَام) الْأَفْعَال الَّتِي هِيَ (متعلقات النَّهْي) عَنهُ مَا بَين حسي وشرعي وَبَيَان المتصف مِنْهَا بالقبح لذاته أَو لغيره (وَكلهَا) أَي متعلقات أوَامِر الشَّرْع ونواهيه (يلْزمه حسن اشْتِرَاط الْقُدْرَة) لِأَن تَكْلِيف الْعَاجِز قَبِيح وَتقدم أَقسَام الْقُدْرَة إِلَى مُمكنَة وميسره عِنْد مَشَايِخنَا (وقسموا) أَي الْحَنَفِيَّة (متعلقات الْأَحْكَام) الشَّرْعِيَّة (مُطلقًا) أَي سَوَاء كَانَت عبادات أَو عقوبات أَو غَيرهمَا (إِلَى حَقه تَعَالَى على الخلوص) قَالُوا وَهُوَ مَا يتَعَلَّق بِهِ النَّفْع الْعَام من غير اخْتِصَاص بِأحد، نسب إِلَى الله تَعَالَى لعظم خطره وشمول نَفعه كَحُرْمَةِ الْبَيْت، وَحُرْمَة الزِّنَا (و) إِلَى حق (العَبْد كَذَلِك) أَي على الخلوص، وَهُوَ مَا يتَعَلَّق بِهِ مصلحَة خَاصَّة كَحُرْمَةِ مَال الْغَيْر، وَلذَا يُبَاح إِبَاحَة مَالِكه، وَلَا يُبَاح الزِّنَا بِإِبَاحَة الْمَرْأَة وَلَا بِإِبَاحَة أَهلهَا قيل وَيرد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالْحج، وَالْحق أَن يُقَال يَعْنِي بِحَق الله مَا يكون الْمُسْتَحق هُوَ الله، وبحق العَبْد مَا يكون الْمُسْتَحق هُوَ العَبْد، وَيرد حُرْمَة مَال الْغَيْر مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ النَّفْع الْعَام، وَهُوَ صِيَانة أَمْوَال النَّاس، وَأجِيب بِأَنَّهَا لم تشرع لصيانة أَمْوَال النَّاس أجمع (وَمَا اجْتمعَا) أَي الحقان فِيهِ (وَحقه) تَعَالَى (غَالب وَقَلبه) أَي وَمَا اجْتمعَا فِيهِ وَحقّ العَبْد غَالب

(2/174)


(وَلم يُوجد الاستقراء متساويين) أَي مَا اجْتمعَا فِيهِ وهما سَوَاء لَيْسَ أَحدهمَا غَالِبا على الآخر، وَقَوله وَلم يُوجد إِمَّا على صِيغَة الْمَعْلُوم والاستقراء فَاعله، ومتساويين بَين مَفْعُوله، والإسناد الْمجَازِي: إِذْ الاستقراء سَبَب للْعلم بالمساواة، أَو على صِيغَة الْمَجْهُول، وَالْمرَاد بالاستقراء: أَي المستقر لم يُوجد الحقان اللَّذَان تعلق بهما الاستقراء حَال كَونهمَا متساويين فِي مُتَعَلق الحكم (فَالْأول) أَي مَا هُوَ حق الله تَعَالَى على الخلوص (أَقسَام) ثَمَانِيَة بالاستقراء (عبادات مَحْضَة كالإيمان والأركان) الْأَرْبَعَة لِلْإِسْلَامِ وَهِي الصَّلَاة، ثمَّ الزَّكَاة، ثمَّ الصّيام، ثمَّ الْحَج (ثمَّ الْعمرَة، وَالْجهَاد، وَالِاعْتِكَاف وترتيبها) أَي هَذِه الْعِبَادَات (فِي الأشرفية هَكَذَا) أَي على طبق التَّرْتِيب الَّذِي ذكر هَهُنَا أما أشرفية الْإِيمَان مُطلقًا فَلِأَنَّهُ الأَصْل، وَلَا صِحَة لشَيْء مِنْهَا بِدُونِهِ، ثمَّ الصَّلَاة حَيْثُ سَمَّاهَا الله إِيمَانًا فِي قَوْله - {وَمَا كَانَ الله لِيُضيع إيمَانكُمْ} -، وَعنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " بَين الرجل وَبَين الشّرك وَالْكفْر ترك الصَّلَاة ". وَفِي البُخَارِيّ عَن ابْن مَسْعُود " قلت يَا رَسُول الله أَي الْأَعْمَال أفضل؟ قَالَ الصَّلَاة على ميقاتها إِلَى غير ذَلِك، وَفِي إِظْهَار شكر نعْمَة الْبدن، ثمَّ الزَّكَاة لِأَنَّهَا تالية الصَّلَاة فِي الْكتاب وَالسّنة، وفيهَا إِظْهَار شكر نعْمَة المَال الَّذِي هُوَ شَقِيق الرّوح، ثمَّ الصَّوْم لِأَنَّهُ لقهر النَّفس ورياضتها، وَلَا يصلح للْخدمَة إِلَّا بهما، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ " كل عمل ابْن آدم لَهُ الْحَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة ضعف ". قَالَ الله عز وَجل " إِلَّا الصّيام فَإِنَّهُ لي وَأَنا أجزي بِهِ ". وَمن هُنَا ذهب بَعضهم إِلَى أَنه أفضل عبادات الْبدن غير أَنه يجوز أَن يخْتَص الْمَفْضُول بِمَا لَيْسَ للفاضل كفرار الشَّيْطَان من الْأَذَان وَالْإِقَامَة دون الصَّلَاة ثمَّ الْحَج. قَالُوا لِأَنَّهُ عبَادَة هِجْرَة وسفر لَا يَتَأَتَّى إِلَّا بِأَفْعَال يقوم بهَا ببقاع معظمة، وَكَأَنَّهُ وَسِيلَة إِلَى مَا قصد بِالصَّوْمِ من قطع مُرَاد الشَّهَوَات، وقهر النَّفس، وَذهب القَاضِي حُسَيْن من الشَّافِعِيَّة إِلَى أَنه أفضل عبَادَة الْبدن وَفِي الْكَشَّاف أَن أَبَا حنيفَة كَانَ يفاضل بَين الْعِبَادَات قبل أَن يحجّ، فَلَمَّا حج فضل الْحَج على الْعِبَادَات كلهَا لما شَاهد من تِلْكَ الخصائص (قَالُوا وقدمت الْعمرَة وَهِي سنة على الْجِهَاد) وَإِن كَانَ فِي الأَصْل فرض عين ثمَّ صَار فرض كِفَايَة، لِأَن الْمَقْصد وَهُوَ كسر شَوْكَة الْمُشْركين وَدفع أذاهم عَن الْمُسلمين يحصل بِالْبَعْضِ (لِأَنَّهَا من تَوَابِع الْحَج) وأفعالها من جنس أَفعاله (وَلَا يخفى مَا فِيهِ) أَي فِي هَذَا التَّوْجِيه من أَن كَونهَا من توابعه لَا يَقْتَضِي تَقْدِيمهَا على الْجِهَاد. وَقد صَحَّ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِكَايَة عَن الله تَعَالَى " مَا تقرّب إليّ عَبدِي بِشَيْء أحبّ إليّ مِمَّا افترضته عَلَيْهِ ". وَفِي الصَّحِيحَيْنِ " أفضل الْأَعْمَال إِيمَان بِاللَّه وَرَسُوله، ثمَّ جِهَاد فِي سَبِيل الله، ثمَّ حج مبرور ". وَقد صحّ أَن رجلا قَالَ يَا رَسُول الله فأيّ الْإِسْلَام أفضل؟ قَالَ الْإِيمَان، ثمَّ قَالَ فَأَي الْأَعْمَال أفضل؟ قَالَ الْهِجْرَة. قَالَ وَمَا الْهِجْرَة؟ قَالَ أَن تهجر السوء.

(2/175)


قَالَ فَأَي الْهِجْرَة أفضل، قَالَ الْجِهَاد قَالَ فَأَي الْجِهَاد أفضل؟ قَالَ من عقر جَوَاده وَأُهْرِيقَ دَمه ". قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " ثمَّ عملان هما أفضل الْأَعْمَال إِلَّا من عمل بمثلهما: حجَّة مبرورة أَو عمْرَة مبرورة ". وَمن هُنَا ذهب بَعضهم إِلَى أَن الْجِهَاد أفضل عبادات الْبدن، وَقد يُجَاب عَمَّا فِي الصَّحِيحَيْنِ بِأَن فرض الْحَج تَأَخّر إِلَى السّنة التَّاسِعَة، وَكَانَ الْجِهَاد فرض عين فِي أول الْإِسْلَام فَلَعَلَّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ذَلِك قبل فرض الْحَج. قَالَ أَحْمد وَغَيره من الْعلمَاء إِن الْجِهَاد أفضل الْأَعْمَال بعد الْفَرَائِض. وَقَالَ مَالك: الْحَج أفضل من الْغَزْو، لِأَن الْغَزْو فرض كِفَايَة، وَالْحج فرض عين، وَكَانَ ابْن عمر يكثر الْحَج وَلَا يكثر الْغَزْو، وَلَكِن يشكل بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " حجَّة لمن لم يحجّ خير من عشر غزوات، وغزوة لمن قد حج خير من عشر حجج ".
رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ: ذكر الشَّارِح هَذِه الْجُمْلَة فِي مسَائِل غَيرهَا من هَذَا الْجِنْس (وَعبادَة فِيهَا معنى الْمُؤْنَة) هِيَ فعولة على الْأَصَح من مأنت الْقَوْم: إِذا احتملت ثقلهم، وَقيل مفعلة من الأون وَهُوَ أحد جَانِبي الخرج لِأَنَّهُ ثقل، أَو من الأين وَهُوَ التَّعَب والشدة، وَهَذِه الْعِبَادَة (صَدَقَة الْفطر) وَكَونهَا فِيهَا معنى الْمُؤْنَة (إِذْ وَجَبت) على الْمُكَلف (بِسَبَب غَيره) كَمَا وَجب مُؤْنَته روى الْبَيْهَقِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ عَن ابْن عمر قَالَ " أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَدقَة الْفطر عَن الصَّغِير وَالْكَبِير وَالْحر وَالْعَبْد مِمَّن يمونون، فَإِن الْعِبَادَة الْمَحْضَة لَا تجب على الْغَيْر بِسَبَب الْغَيْر (فَلم يشْتَرط لَهَا كَمَال الْأَهْلِيَّة) كَمَا شَرط للعبادات الْخَالِصَة لقُصُور معنى الْعِبَادَة (فَوَجَبت فِي مَال الصَّغِير وَالْمَجْنُون خلافًا لمُحَمد وَزفر) يتَوَلَّى أداءها الْأَب، ثمَّ وَصِيّه، ثمَّ الْجد، ثمَّ وَصِيّه، ثمَّ وَصِيّ نَصبه القَاضِي عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف أوجباه عَلَيْهِمَا إِلْحَاقًا لَهَا بِنَفَقَة ذِي الرَّحِم الْمحرم مِنْهُمَا فَإِنَّهَا تجب فِي مَالهمَا، إِذا كَانَا غَنِيَّيْنِ باتفاقهم. قَالَ صَاحب الْكَشَّاف ثمَّ تِلْمِيذه قوام الدّين الكاكي قَول مُحَمَّد وَزفر أوضح (وَمؤنَة فِيهَا معنى الْقرْبَة كالعشر: إِذْ الْمُؤْنَة مَا بِهِ بَقَاء الشَّيْء وَبَقَاء الأَرْض فِي أَيْدِينَا بِهِ) أَي بالعشر، لِأَن الله تَعَالَى حكم بِبَقَاء الْعَالم إِلَى الْوَقْت الْمَوْعُود، وَهُوَ بِبَقَاء الأَرْض، وَمَا يخرج من الْقُوت وَغَيره لمن عَلَيْهَا: فَوَجَبت عمارتها وَالنَّفقَة عَلَيْهَا كَمَا أوجب على الْملاك نَفَقَة عبيدهم ودوابهم وبقاؤها إِنَّمَا هُوَ بِجَمَاعَة الْمُسلمين لأَنهم الحافظون لَهَا، أما من حَيْثُ الدُّعَاء وَهُوَ من الضُّعَفَاء المحتاجين فَإِن بهم النَّصْر على الْأَعْدَاء وبهم يمطرون، وَأما من حَيْثُ الذب بِالشَّوْكَةِ عَن الدَّار وغوائل الْكفَّار وهم الْمُقَاتلَة فَوَجَبَ فِي بَعْضهَا الْعشْر نَفَقَة للأولين وَفِي بَعْضهَا الْخراج للآخرين، وَجعلت النَّفَقَة عَلَيْهَا تَقْديرا (وَالْعِبَادَة) فِيهِ (لتَعَلُّقه) أَي الْعشْر (بالنماء) الْحَقِيقِيّ لَهَا، وَهُوَ الْخَارِج مِنْهَا كتعلق الزَّكَاة بِهِ أَو لِأَن مصرفه الْفَقِير كمصرف الزَّكَاة (وَإِذا كَانَت الأَرْض الأَصْل) والنماء وَصفا تَابعا لَهَا (كَانَت الْمُؤْنَة غالبة) فِيهِ (وللعبادة)

(2/176)


فِيهِ (لَا يبتدأ الْكَافِر بِهِ) أَي بالعشر لِأَن الْكفْر منافي الْعِبَادَة من كل وَجه، وَلِأَن فِي الْعشْر ضرب كَرَامَة، وَالْكفْر مَانع مِنْهُ مَعَ إِمْكَان الْخَارِج (وَلَا يبْقى) الْعشْر (عَلَيْهِ) أَي الْكَافِر إِذا اشْترى أَرضًا عشرِيَّة عِنْد أبي حنيفَة (خلافًا لمُحَمد فِي الْبَقَاء) للعشر عَلَيْهِ (إِلْحَاقًا) للعشر (بالخراج) فَإِنَّهُ يبْقى عَلَيْهِ إِذا اشْترى أَرضًا خَرَاجِيَّة بِالْإِجْمَاع (بِجَامِع الْمُؤْنَة) فَإِن كلا مِنْهُمَا من مُؤَن الأَرْض، وَالْكَافِر أهل للمؤنة (وَالْعِبَادَة) فِي الْعشْر (تَابِعَة) للمؤنة فَيسْقط فِي حَقه لعدم أَهْلِيَّته لَهَا (فَلَا يُثَاب) الْكَافِر (بِهِ) أَي بالعشر (وَأجِيب) من قبله عَنهُ (بِأَنَّهُ) أَي معنى الْعِبَادَة (وَإِن تبع) الْمُؤْنَة (فَهُوَ ثَابت) فِي الْعشْر فَإِن كلا من تعلقه بالنماء وَصَرفه إِلَى مصارف الْفُقَرَاء مُسْتَمر (فَيمْنَع) ثُبُوته فِيهِ من الْغَايَة فِي حق الْكَافِر إِلَّا بطرِيق التَّضْعِيف، فَالْقَوْل بِوُجُوبِهِ بِدُونِ التَّضْعِيف عَلَيْهِ خرق للْإِجْمَاع (فَتَصِير) الأَرْض العشرية (خَرَاجِيَّة بِشِرَائِهِ) أَي الْكَافِر إِيَّاهَا عِنْد أبي حنيفَة، وَإِنَّمَا اخْتلفت الرِّوَايَة فِي وَقت صيرورتها خَرَاجِيَّة، فَفِي السّير كَمَا اشْترى، وَفِي رِوَايَة تبقى عشرِيَّة مَا لم يوضع عَلَيْهَا الْخراج، وَإِنَّمَا يُؤْخَذ إِذْ بقيت مُدَّة يُمكنهُ أَن يزرع فِيهَا، زرع أَولا (وَلأبي يُوسُف) أَي وَخِلَافًا لَهُ فِي أَنه (يضعف عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ لَا بُد من تَغْيِيره، لِأَن الْكفْر يُنَافِيهِ، والتضعيف تَغْيِير للوصف فَقَط، فَيكون أسهل من إبِْطَال الْعشْر وَوضع الْخراج، لِأَن فِيهِ تَغْيِير الأَصْل وَالْوَصْف جَمِيعًا، والتضعيف فِي حق الْكَافِر مَشْرُوع فِي الْجُمْلَة (كبني تغلب) وَلَا يُقَال فِيهِ تَضْعِيف للقربة، وَالْكفْر ينافيها، لأَنا نقُول بعد التَّضْعِيف صَار فِي حكم الْخراج الَّذِي هُوَ من خَواص الْكفَّار، وخلا عَن وصف الْقرْبَة (وَيُجَاب بِأَنَّهَا) أَي الصَّدَقَة الْمَأْخُوذَة من بني تغلب هِيَ فِي الْمَعْنى (أجزية سميت بذلك) أَي بِكَوْنِهَا صَدَقَة مضاعفة (بِالتَّرَاضِي لخُصُوص عَارض) فَإِن بني تغلب بِكَسْر اللَّام عرب نَصَارَى. قَالَ الْقَائِم بن سَلام فِي كتاب الْأَمْوَال: همّ: يَعْنِي عمر أَن يَأْخُذ مِنْهُم الْجِزْيَة، فتفرّقوا فِي الْبِلَاد، فَقَالَ النُّعْمَان بن زرْعَة أَو زرْعَة بن النُّعْمَان لعمر: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن بني تغلب قوم عرب يأنفون من الْجِزْيَة، وَلَيْسَ لَهُم أَمْوَال إِنَّمَا هم أَصْحَاب حروث ومواش، وَلَهُم مكانة فِي العدوّ فَلَا تعن عددّك عَلَيْك بهم: فَصَالحهُمْ عمر رَضِي الله عَنهُ على أَن يضع عَلَيْهِم الصَّدَقَة وَاشْترط عَلَيْهِم أَن لَا ينصرُوا أَوْلَادهم، وَفِي رِوَايَة عَن هَذِه جِزْيَة سَموهَا مَا شِئْتُم، وَإِنَّمَا اخْتلف الْفُقَهَاء فِي أَنَّهَا هَل هِيَ جِزْيَة على التَّحْقِيق من كل وَجه؟ فَقيل نعم حَتَّى لَو كَانَ للْمَرْأَة أَو الصَّبِي نقود أَو مَاشِيَة لَا يُؤْخَذ مِنْهُم شَيْء، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَرِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة، وَقيل لَا، بل وَاجِبَة بِشَرْط الزَّكَاة وأسبابها، وَهُوَ ظَاهر الرِّوَايَة، لِأَن الصُّلْح وَقع على ذَلِك، وَالصَّحِيح مَا قَالَه أَبُو حنيفَة من أَنَّهَا تصير خَرَاجِيَّة كَمَا ذكره فَخر الْإِسْلَام وَغَيره، وَهَذَا هُوَ الْقسم الثَّالِث (وَمؤنَة فِيهَا معنى الْعقُوبَة) وَهِي (الْخراج أما الْمُؤْنَة فلتعلق بَقَائِهَا) أَي الأَرْض

(2/177)


لأهل الْإِسْلَام (بالمقاتلة المصارف) لَهُ كَمَا بَيناهُ آنِفا (والعقوبة للانقطاع بالزراعة عَن الْجِهَاد) لِأَنَّهُ يتَعَلَّق بِالْأَرْضِ لصفة التَّمَكُّن من الزِّرَاعَة والاشتغال بهَا عمَارَة للدنيا وإعراض عَن الْجِهَاد، وَهُوَ سَبَب الذل شرعا (فَكَانَ) الْخراج (فِي الأَصْل صغَارًا) فِي صَحِيح البُخَارِيّ أَن أَبَا أُمَامَة الْبَاهِلِيّ قَالَ: وَرَأى سكَّة وشيئا من آلَة الْحَرْث سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول " لَا يدْخل هَذَا بَيت قوم إِلَّا دخله الذَّال " (وَبَقِي) الْخراج للْأَرْض الخراجية وَظِيفَة مستمرة (لَو اشْتَرَاهَا مُسلم) أَو ورثهَا أَو وَهبهَا أَو أسلم مَالِكهَا (لِأَن ذَلِك) الصغار (فِي ابْتِدَاء التوظيف) لَا فِي بَقَائِهِ نظرا إِلَى مَا فِيهِ من رُجْحَان معنى الْمُؤْنَة الَّتِي الْمُؤمن من أَهلهَا، وَهَذَا هُوَ الْقسم الرَّابِع (وَحقّ قَائِم بِنَفسِهِ: أَي لم يتَعَلَّق بِسَبَب مبَاشر) فسر الْقيام بِالنَّفسِ بِكَوْن الْحق بِحَيْثُ لم يتَعَلَّق وُجُوبه بِمَا جعله الشَّارِع سَببا لَهُ إِذْ بَاشرهُ العَبْد، بل يكون ثُبُوته بِحكم مَالك الْأَشْيَاء كلهَا وَهُوَ (خمس الْغَنَائِم) أَي الْأَمْوَال الْمَأْخُوذَة من الْكفَّار قهرا لإعلاء كلمة الله فالمصاب كُله حق الله تَعَالَى، وَالْعَبْد يعْمل لمَوْلَاهُ لَا يسْتَحق عَلَيْهِ شَيْئا إِلَّا أَنه سُبْحَانَهُ جعل أَرْبَعَة أخماسه للغانمين امتنانا مِنْهُ عَلَيْهِم، واستبقى الْخمس حَقًا لَهُ، وَأمر بصرفه إِلَى من سماهم فِي كِتَابه الْعَزِيز: فَتَوَلّى السُّلْطَان أَخذه وقسمته بَينهم لكَونه نَائِب الشَّرْع فِي إِقَامَة حُقُوقه (وَمِنْه) أَي الْحق الْقَائِم بِنَفسِهِ (الْمَعْدن) بِكَسْر الدَّال وَهُوَ فِي الأَصْل الْمَكَان بِقَيْد الِاسْتِقْرَار فِيهِ، من عدن بِالْمَكَانِ: أَقَامَ بِهِ، ثمَّ اشْتهر فِي نفس الْأَجْزَاء المستقرة الَّتِي ذكرهَا الله تَعَالَى فِي الأَرْض يَوْم خلقهَا (والكنز) وَهُوَ الْمُثبت فِيهَا من الْأَمْوَال بِفعل الْإِنْسَان، والركاز يعمهما لِأَنَّهُ من الركز المُرَاد بِهِ المركوز أَعم من أَن يكون راكزه الْخَالِق أَو الْمَخْلُوق، فَهُوَ مُشْتَرك معنوي بَينهمَا، ثمَّ المُرَاد بالمعدن هُنَا عِنْد أَصْحَابنَا. الجامد الَّذِي يذوب وَيَنْقَطِع كالنقدين وَالْحَدِيد والرصاص والنحاس، وبالكنز مَا لَا عَلامَة للْمُسلمين فِيهِ حَتَّى كَانَ جاهليا: فَإِن هذَيْن لَا حق لأحد فيهمَا، جعل أَرْبَعَة أَخْمَاس كل مِنْهُمَا للواجد، واستبقى الْخمس لَهُ تَعَالَى ليصرف إِلَى من سماهم (فَلم يلْزم أَدَاؤُهُ) أَي الْخمس من هَذِه الْأَمْوَال (طَاعَة) ليشترط لَهُ النِّيَّة ليَقَع قربَة (إِذْ لم يقْصد الْفِعْل) الَّذِي هُوَ الدّفع (بل) قصد (مُتَعَلّقه) أَي الْفِعْل وَهُوَ المَال الْمَدْفُوع (بل هُوَ) أَي الْخمس (حق لَهُ تَعَالَى فَلم يحرم على بني هَاشم إِذْ لم يتسخ إِذْ لم تقم بِهِ قربَة وَاجِبَة) . قَالَ الشَّارِح: قلت وَالْأولَى الِاقْتِصَار على قربَة بِنَاء على حُرْمَة الصَّدَقَة الناقلة عَلَيْهِم كالمفروضة لعُمُوم قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " إِن الصَّدَقَة لَا تنبغي لآل مُحَمَّد إِنَّمَا هِيَ أوساخ النَّاس "، رَوَاهُ مُسلم إِلَى غير ذَلِك، فَوَجَبَ اعْتِبَاره كَمَا قَالَه المُصَنّف فِي فتح الْقَدِير انْتهى. وَالْعجب أَن المُصَنّف فِي الْكتاب الْمَذْكُور بعد مَا نَقله بِخَمْسَة أسطر قَالَ: وَلَا يخفى أَن هَذِه العمومات تنتظم الصَّدقَات الناقلة

(2/178)


والواجبة فجروا على مُوجب ذَلِك فِي الْوَاجِبَة فَقَالُوا: لَا يجوز صرف كَفَّارَة الْيَمين وَالظِّهَار وَالْقَتْل وَجَزَاء الصَّيْد وَعشر الأَرْض، وغلة الْوَقْف إِلَيْهِم إِلَّا إِذا كَانَ الْوَقْف عَلَيْهِم لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون بِمَنْزِلَة الْوَقْف على الْأَغْنِيَاء، فَإِن كَانَ على الْفُقَرَاء وَلم يسمّ بني هَاشم لَا يجوز الصّرْف إِلَيْهِم، وَأما صَدَقَة النَّفْل فَقَالَ فِي النِّهَايَة: يجوز النَّفْل بِالْإِجْمَاع، وَكَذَا يجوز النَّفْل للغني: كَذَا فِي فَتَاوَى العتابي وصرّح فِي الْكَافِي بِدفع صَدَقَة الْوَقْف إِلَيْهِم على أَنه بَيَان الْمَذْهَب من غير نفل خلاف، فَقَالَ: وَأما التطوّع وَالْوَقْف فَيجوز الصّرْف إِلَيْهِم، لِأَن المؤدّي فِي الْوَاجِب يظْهر نَفسه بِإِسْقَاط الْفَرْض فيتدنس المؤدّي كَالْمَاءِ الْمُسْتَعْمل، وَفِي النَّفْل تبرّع بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ فَلَا يتدنس المؤدّي كمن تبرّد بِالْمَاءِ، إِلَى هُنَا كَلَام المُصَنّف. وَهَذَا هُوَ الْقسم الْخَامِس (وعقوبات كَامِلَة) أَي مَحْضَة لَا يشوبها معنى آخر فَهِيَ كَامِلَة فِي كَونهَا عُقُوبَة وَهِي (الْحُدُود) أَي حدّ الزِّنَا وحدّ السّرقَة وحدّ الشّرْب فَإِنَّهَا شرعت لصيانة الْأَنْسَاب وَالْأَمْوَال والعقول، وموجبها جنايات لَا يشوبها معنى الْإِبَاحَة فَيَقْتَضِي أَن يكون لكلّ مِنْهَا عُقُوبَة كَامِلَة زاجرة عَن ارتكابه حَقًا لله تَعَالَى على الخلوص، وَعَن الْمبرد سميت الْعقُوبَة عُقُوبَة لِأَنَّهَا تتلو الذُّنُوب، من عقبه يعقبه: إِذا اتبعهُ، وَهَذَا هُوَ الْقسم السَّادِس (و) عُقُوبَة (قَاصِرَة) وَهِي (حرمَان الْقَاتِل) إِرْث الْمَقْتُول لقَتله عمدا أَو غَيره على مَا فصل فِي الْفِقْه ثمَّ (كَونه) أَي حرمَان الْقَاتِل (حَقًا لَهُ تَعَالَى لِأَن مَا يجب لغيره) تَعَالَى (بالتعدّي عَلَيْهِ) أَي الْغَيْر يكون (فِيهِ نفع لَهُ) أَي للْغَيْر، والغير هُنَا: الْمَقْتُول (وَلَيْسَ فِي الحرمان نفع للمقتول) فَتعين كَونه لله تَعَالَى زاجرا عَن ارْتِكَاب مثل هَذَا الْعَمَل كالحدّ لِأَن مَا لَا يجب لغيره تَعَالَى يجب لَهُ ضَرُورَة (ومجرّد الْمَنْع) من الْإِرْث (قَاصِر) فِي معنى الْعقُوبَة، لِأَنَّهُ لم يلْحقهُ ألم فِي بدنه وَلَا نُقْصَان فِي مَاله: بل هُوَ مجرّد منع لثُبُوت ملكه فِي التَّرِكَة، وَقيل لَيْسَ لهَذَا الْقسم مِثَال غير هَذَا: وَهَذَا هُوَ الْقسم الرَّابِع (وَحُقُوق هما) أَي الْعِبَادَة والعقوبة مجتمعان (فِيهَا كالكفارات) للْيَمِين وَالْقَتْل وَالظِّهَار وَالْفطر الْعمد فِي نَهَار رَمَضَان، وَكَفَّارَة قتل الصَّيْد للْمحرمِ، وصيد الْحرم، أما أَن فِيهَا معنى الْعِبَادَات فَلِأَنَّهَا تؤدّى بِمَا هُوَ عبَادَة مَحْضَة من عتق أَو صَدَقَة أَو صِيَام، وَيشْتَرط فِيهَا النِّيَّة، وَيُؤمر من هِيَ عَلَيْهِ بِالْأَدَاءِ بِنَفسِهِ بطرِيق الْفَتْوَى، وَلَا يَسْتَوْفِي مِنْهُ جبرا، وَالشَّرْع لم يفوّض إِلَى الْمُكَلف إِقَامَة شَيْء من الْعُقُوبَات على نَفسه بل هِيَ مفوّضة إِلَى الْأَئِمَّة، وتستوفي جبرا، وَأما أَن فِيهَا معنى الْعقُوبَة فَإِنَّهَا لم تجب إِلَّا أجزية على أَفعَال من الْعباد لَا مُبتَدأَة، وَلِهَذَا سميت كَفَّارَات لِأَنَّهَا ستارة للذنوب (وجهة الْعِبَادَة غالبة فِيهَا) بِدَلِيل وُجُوبهَا على أَصْحَاب الْأَعْذَار مثل الخاطئ والناسى وَالْمكْره، وَالْمحرم المضطرّ إِلَى قتل الصَّيْد لمخمصة وَلَو كَانَت جِهَة الْعقُوبَة فِيهَا

(2/179)


غالبة لامتنع وُجُوبهَا بِسَبَب الْعذر: لِأَن الْمَعْذُور لَا يسْتَحق الْعقُوبَة، وَكَذَا لَو كَانَت مُسَاوِيَة لِأَن جِهَة الْعِبَادَة إِن لم تمنع الْوُجُوب على هَؤُلَاءِ المعذورين فجهة الْعقُوبَة تَمنعهُ، وَالْأَصْل عَدمه، فَلَا يثبت إِلَّا بِالشَّكِّ (إِلَّا الْفطر) أَلا كَفَّارَته فَإِن جِهَة الْعقُوبَة فِيهَا غالبة (وألحقها) أَي كَفَّارَة الْفطر (الشَّافِعِي بهَا) أَي بِسَائِر الْكَفَّارَات فِي تَغْلِيب معنى الْعِبَادَة فِيهَا على الْعقُوبَة حَيْثُ لم يُسْقِطهَا بِالشُّبْهَةِ كَمَا سَيَأْتِي (وَالْحَنَفِيَّة) إِنَّمَا قَالُوا بتغليب معنى الْعقُوبَة فِيهَا على الْعِبَادَة (لتقيدها) أَي وجوب كَفَّارَة الْفطر (بالعمد) أَي بِالْفطرِ الْعمد (ليصير) الْفطر الْعمد (حَرَامًا وَهُوَ) أَي كَونه حَرَامًا (المثير للعقوبة والتصور) أَي ولقصور الْعقُوبَة فِيهَا حَيْثُ لم تكن كَامِلَة (لكَون الصَّوْم) الَّذِي تعمد الْفطر فِي أَثْنَائِهِ (لم يصر حَقًا تَاما مُسلما لصَاحب الْحق) وَهُوَ الله عزّ وجلّ لَكِن (وَقعت الْجِنَايَة عَلَيْهِ) أَي على الصَّوْم (فَلِذَا) أَي فلأجل أَن الْجِنَايَة وَقعت عَلَيْهِ (تأدّى) هَذَا الْحق الْوَاجِب الَّذِي هُوَ الْكَفَّارَة (بِالصَّوْمِ وَالصَّدَََقَة) الَّتِي هِيَ الْإِطْعَام، فلولا أَن فِي هَذِه الْكَفَّارَة معنى الْعِبَادَة، وَإِن كَانَ مَغْلُوبًا مَا تأدّت بِمَا هُوَ من جنس الْعِبَادَة (وشرطت النِّيَّة) فِيهَا إِذْ الْعِبَادَة لَا تصح إِلَّا بِالنِّيَّةِ مَعْطُوف على تأدّى (فتفرع) على غَلَبَة معنى الْعقُوبَة (درؤها) أَي سُقُوط وجوب الْكَفَّارَة (بِالشُّبْهَةِ) أَي شُبْهَة الْإِبَاحَة كَمَا يدْرَأ الحدّ، وَمن ثمَّة لم يجب إِجْمَاعًا على من جَامع ظَانّا أَن الْفجْر لم يطلع، أَو أَن الشَّمْس غَابَتْ ثمَّ تبين خِلَافه (فَوَجَبَ) الْحق الْمَذْكُور (مرّة بمرار) أَي بفطر متعدّد فِي أَيَّام (قبل التَّكْفِير من رَمَضَان) وَاحِد عندنَا كَمَا يحدّ مرّة بزناة مرّة بعد أُخْرَى إِذا لم يحد بِكُل مرّة. وَقَالَ الشَّافِعِي: يجب بِكُل فطر يَوْم كَفَّارَة (وَمن اثْنَيْنِ) أَي وَيجب كَفَّارَة وَاحِدَة بفطر متعدّد قبل التَّكْفِير من رمضانين (عِنْد الْأَكْثَر) أَي أَكثر الْمَشَايِخ. وَفِي الْكَافِي فِي الصَّحِيح (خلافًا لما يرْوى عَنهُ) أَي عَن أبي حنيفَة من أَنه يجب التعدّد فِي الْكَفَّارَة بتعدّد فطر الْأَيَّام، وَإِنَّمَا قُلْنَا بالتداخل حَيْثُ قُلْنَا بِهِ (لِأَن التَّدَاخُل دَرْء) يَعْنِي أَنه لما كَانَ عَلَيْهِ الْعقُوبَة فِي الْكَفَّارَات ألحقها بالحدود الَّتِي تندرئ بِالشُّبُهَاتِ حصل عِنْد تكرّر مُوجبهَا قبل التَّكْفِير شُبْهَة الِاكْتِفَاء بكفارة وَاحِدَة عَن الْجِنَايَات المتعدّدة نظرا إِلَى حُصُول الْمَقْصد، وَهُوَ الانزجار بِوَاحِدَة، فاندرأ تعدّد الْوُجُوب بِهَذِهِ الشُّبْهَة (وَلَو كفر) عَن فطر يَوْم (ثمَّ أفطر) فِي آخر (فأخرى) أَي فَيجب كَفَّارَة أُخْرَى (لتبين عدم انزجاره بِالْأولَى) أَي الْكَفَّارَة الأولى (فتفيد الثَّانِيَة) الانزجار (وَالثَّانِي حُقُوق الْعباد كضمان الْمُتْلفَات وَملك الْمَبِيع وَالزَّوْجَة وَكثير) (و) الثَّالِث (مَا اجْتمعَا) أَي حق الله وَحقّ العَبْد فِيهِ (وَحقه تَعَالَى غَالب) وَهُوَ (حدّ الْقَذْف) لِأَنَّهُ من حَيْثُ أَنه يَقع نَفعه عَاما بإخلاء الْعَالم عَن الْفساد حق الله، وَمن حَيْثُ أَنه صِيَانة الْعرض وَدفع الْعَار عَن الْمَقْذُوف حق العَبْد: إِذْ هُوَ

(2/180)


ينْتَفع بِهِ على الْخُصُوص، ثمَّ فِي هَذَا حق الله تَعَالَى أَيْضا لما فِيهِ من حق الاستعباد فَكَانَ الْغَالِب حق الله (فَلَيْسَ للمقذوف إِسْقَاطه) أَي الحدّ: لِأَن حق الله لَا يسْقط بِإِسْقَاط العَبْد وَإِن كَانَ غير متمحض لَهُ كَمَا يشْهد بِهِ دلَالَة الْإِجْمَاع على عدم سُقُوط العدّة بِإِسْقَاط الزَّوْج إِيَّاهَا، وَإِن كَانَ الْمَقْصد مِنْهَا الِاحْتِرَاز عَن اخْتِلَاط مَاء الْغَيْر بمائه الْمُوجب الِاشْتِبَاه فِي نسب وَلَده، وَذَلِكَ لما فِيهَا من حق الله عزّ وجلّ (وَلذَا) أَي وَلكَون الْغَالِب فِي هَذَا الحدّ حق الله تَعَالَى (وَلم يفوّض إِلَيْهِ) أَي الْمَقْذُوف ليقيمه على قَاذفه (لِأَن حُقُوقه تَعَالَى لَا يستوفيها إِلَّا الإِمَام) لاستنابة الله إِيَّاه فِي استيفائها (وَلِأَنَّهُ) أَي حدّ الْقَذْف (لتهمته) أَي الْقَاذِف الْمَقْذُوف (بِالزِّنَا وَأثر الشَّيْء من بَابه) أَي بَاب ذَلِك الشَّيْء واتباعه، وحدّ الزِّنَا حق الله اتِّفَاقًا (فدار) حدّ الْقَذْف (بَين كَونه لله تَعَالَى خَالِصا) كحدّ الزِّنَا (أَو) كَونه (لَهُ) أَي لله تَعَالَى (وَلِلْعَبْدِ) فَلَا أقلّ من أَن يُقَال (فتغلب) حق الله (بِهِ) . قَالَ الشَّارِح: أَي بحدّ الْقَذْف انْتهى، وَلَا وَجه لَهُ إِلَّا أَن تكون الْبَاء بِمَعْنى فِي، وَالْأَوْجه إرجاع الضَّمِير إِلَى مَا ذكر مِمَّا يدلّ على كَون حَقه تَعَالَى غَالِبا، وَذهب صدر الْإِسْلَام إِلَى أَن الْغَالِب فِيهِ حق العَبْد، وَبِه قَالَ الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة (و) الرَّابِع (مَا اجْتمعَا) أَي حق الله وَحقّ العَبْد فِيهِ (وَالْغَالِب حق العَبْد) وَهُوَ (الْقصاص بالِاتِّفَاقِ) فَإِن لله تَعَالَى فِي نفس العَبْد حق الاستعباد، وَلِلْعَبْدِ حق الِاسْتِمْتَاع، ثمَّ إِن الْقصاص من حَيْثُ أَنه يُنبئ عَن الْمُمَاثلَة يدلّ على أَن رِعَايَة جَانب العَبْد أَكثر والأفرعاية إخلاء الْعَالم عَن الْفساد الَّذِي هُوَ النَّفْع الْعَام الرَّاجِع إِلَى حق الله تَعَالَى كَانَ يَقْتَضِي زِيَادَة الزّجر بِضَم أَخذ المَال وَنَحْوه مَعَه، (وينقسم) مُتَعَلق الحكم الشَّرْعِيّ مُطلقًا (أَيْضا بِاعْتِبَار آخر أصل وَخلف) أَي يَنْقَسِم إِلَى أصل وَخلف: فَعلم أَن الِاعْتِبَار الآخر الْأَصَالَة والخلفية (لَا يثبت) كَونه خلفا (إِلَّا بِالسَّمْعِ) نصا أَو دلَالَة أَو إِشَارَة أَو اقْتِضَاء (صَرِيحًا أَو غَيره) أى غير صَرِيح (فَالْأَصْل كالتصديق فِي الْإِيمَان) فَإِنَّهُ أصل مُحكم لَا يحْتَمل السُّقُوط بِعُذْر مَا، وَلَا يبْقى مَعَ التبديل بِحَال (وَالْخلف عَنهُ) أَي عَن التَّصْدِيق (الْإِقْرَار) بِاللِّسَانِ لِأَنَّهُ معبر عَمَّا فِي الْقلب (إِذْ لم يعلم الأَصْل يَقِينا) لِأَنَّهُ غيب لَا يطلع عَلَيْهِ إِلَّا الله تَعَالَى تَعْلِيل لاعْتِبَار الْخلف: أَي لَا بدّ مِنْهُ، إِذْ لَا يُمكن إدارة الْأَحْكَام على حَقِيقَته لعدم الْعلم بهَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (أدير) الحكم (عَلَيْهِ) أَي على الْخلف (فَلَو أكره) الْكَافِر على الْإِسْلَام (فأقرّ بِهِ حكم بِإِسْلَامِهِ) لوُجُوده ظَاهرا، وَإِن لم يُوجد الأَصْل فِي نفس الْأَمر (فرجوعه) عَن الْإِسْلَام إِلَى الْكفْر بِحَسب اللِّسَان (ردّة لَكِن لَا توجب الْقَتْل) لِأَن الْإِكْرَاه شُبْهَة لإسقاطه (بل) توجب (الْحَبْس وَالضَّرْب حَتَّى يعود) إِلَى الْإِسْلَام لَا يُقَال ينيغى أَن لَا يقبل بِدُونِ الْإِكْرَاه أَيْضا لوُجُود الشُّبْهَة بِاعْتِبَار عدم الْعلم بِحَقِيقَة الْأَيْمَان

(2/181)


يَقِينا، لأَنا نقُول: لَا عِبْرَة بِالشُّبْهَةِ مَا لم تكن ناشئة عَن دَلِيل مثل الْإِكْرَاه (وَدفن) من أكره على الْإِسْلَام حَتَّى أقرّبه، ثمَّ لم يظْهر مِنْهُ خِلَافه إِلَى أَن مَاتَ (فِي مَقَابِر الْمُسلمين بِهِ) أَي بِإِقْرَارِهِ بِالْإِسْلَامِ مكْرها (و) يثبت أَيْضا (بَاقِي أَحْكَام الخلفية فِي الدُّنْيَا) من إِسْقَاط الْجِزْيَة عَنهُ وَجَوَاز الصَّلَاة خَلفه وَعَلِيهِ إِلَى غير ذَلِك (فَأَما الْآخِرَة فَالْمَذْهَب للحنفية) وَهُوَ نصّ أبي حنيفَة (أَنه) أَي الْإِقْرَار (أصل) فِي أَحْكَامهَا أَيْضا (فَلَو صدّق) بِقَلْبِه (وَلم يقرّ) بِلِسَانِهِ (بِلَا مَانع) لَهُ من الْإِقْرَار واستمرّ (حَتَّى مَاتَ كَانَ فِي النَّار، وَكثير من الْمُتَكَلِّمين) وَرِوَايَة عَن أبي حنيفَة، وَأَصَح الرِّوَايَتَيْنِ عَن الْأَشْعَرِيّ الأَصْل فِي أَحْكَام الْآخِرَة (التَّصْدِيق وَحده وَالْإِقْرَار) شَرط (ل) إِجْرَاء (أَحْكَام الدُّنْيَا) عَلَيْهِ (كَقَوْل بَعضهم) أَي الْحَنَفِيَّة: مِنْهُم أَبُو مَنْصُور الماتريدي وَفِي شرح الْمَقَاصِد الْإِقْرَار لهَذَا الْغَرَض لَا بدّ أَن يكون على وَجه الإعلان على الإِمَام وَغَيره من أهل الْإِسْلَام، بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ لإتمام الْإِيمَان فَإِنَّهُ يَكْفِي فِيهِ مجرّد التَّكَلُّم وَإِن لم يظْهر على غَيره، ثمَّ الْخلاف فِيمَا إِذا كَانَ قَادِرًا وَترك التَّكَلُّم بِهِ لَا على وَجه الإباء، إِذْ الْعَاجِز كالأخرس مُؤمن اتِّفَاقًا، والمصرّ على عدم الْإِقْرَار مَعَ الْمُطَالبَة بِهِ كَافِر اتِّفَاقًا لكَون ذَلِك من أَمَارَات عدم التَّصْدِيق (ثمَّ صَار أَدَاء الْأَبَوَيْنِ فِي الصَّغِير وَالْمَجْنُون خلفا عَن أدائهما) أَي الصَّغِير وَالْمَجْنُون لعجزهما عَن ذَلِك (فَحكم بإسلامهما تبعا لأَحَدهمَا) أَي الْأَبَوَيْنِ إِذا كَانَ الْمَتْبُوع وَالتَّابِع حِين الْإِسْلَام فِي دَار وَاحِدَة، أَو الْمَتْبُوع فِي دَار الْحَرْب، وَالتَّابِع فِي دَار الْإِسْلَام، لَا بِالْعَكْسِ كَمَا نبه عَلَيْهِ فِي الْيَنَابِيع وَغَيره (ثمَّ تَبَعِيَّة الدَّار) صَارَت خلفا عَن أَدَاء الصَّغِير بِنَفسِهِ فِي إِثْبَات الْإِسْلَام لَهُ عِنْد عدم إِسْلَام أحد الْأَبَوَيْنِ على الْوَجْه الْمَذْكُور (فَلَو سبى فَأخْرج إِلَى دَار الْإِسْلَام وَحده حكم بِإِسْلَامِهِ، وَكَذَا تَبَعِيَّة الْغَانِمين) أَي تبعيته للْمُسلمين الْغَانِمين إِذا لم يكن مَعَه أَبَوَاهُ وَلَا أَحدهمَا، واختص بِهِ أحدهم فِي دَار الْحَرْب بِشِرَائِهِ من الإِمَام، أَو قسْمَة الإِمَام الْغَنِيمَة ثمَّة صَارَت خلفا عَن أَدَاء الصَّغِير كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (فَلَو قسم فِي دَار الْحَرْب فَوَقع فِي سهم أحدهم) أَي الْمُسلمين (حكم بِإِسْلَامِهِ، وَالْمرَاد أَن كلا من هَذِه خلف عَن أَدَاء الصَّغِير) بِنَفسِهِ على التَّرْتِيب الْمَذْكُور (لَا أَنه يخلف بَعْضهَا بَعْضًا) لِأَن الْخلف لَا خلف لَهُ كَذَا قَالُوا، ثمَّ كَون هَذِه التبعيات مرتبَة هَكَذَا: هُوَ الْمَذْكُور فِي أصُول فَخر الْإِسْلَام وموافقيه. وَفِي الْمُحِيط أَن تَبَعِيَّة صَاحب الْيَد مقدّمة على تَبَعِيَّة الدَّار، فَقيل يحْتَمل أَن يكون فِي المسئلة رِوَايَتَانِ بَقِي أَن الخلفية لَا تتثبت إِلَّا بِالسَّمْعِ، وَالظَّاهِر إِنَّه فِيمَا كَانَ بَين مُسلم أُصَلِّي وذمية الْإِجْمَاع، وَقد يُقَال مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من مَوْلُود إِلَّا يُولد على الْفطْرَة، فَأَبَوَاهُ يهوّدانه، أَو ينصرَانِهِ، أَو يُمَجِّسَانِهِ يصلح سندا للْإِجْمَاع فَجعل اتِّفَاقهمَا عِلّة ناقلة للْوَلَد عَن أصل الْفطْرَة،

(2/182)


فَيثبت فِيمَا اتفقَا عَلَيْهِ وَيبقى على أصل الْفطْرَة فِيمَا اخْتلفَا فِيهِ، وَأما فِيمَا بَين مُسلم عَارض إِسْلَامه وذمية، وَبَين مسلمة عَارض إسلامهما وذميّ فَظَاهر كَلَامهم أَنه الحَدِيث الْمَذْكُور لِأَنَّهُ يُفِيد ثُبُوت الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة للْوَلَد إِذا كَانَ أَبَوَاهُ على ذَلِك الْوَصْف، فَإِذا زَالَ الْوَصْف عَن أَحدهمَا انْتَفَت الْعلَّة، فينتفى الْمَعْلُول، فيترجح الْوَصْف المفطور عَلَيْهِ، وَهُوَ الْإِسْلَام، لَكِن يرد عَلَيْهِ أَن يُقَال: فليزم بِعَين هَذَا صيرورة الصَّغِير مُسلما بِمَوْت أَحدهمَا كَمَا هُوَ قَول الإِمَام أَحْمد، وَهُوَ خلاف مَا عَلَيْهِ بَاقِي الْأَئِمَّة. وَهَذِه الْجُمْلَة ذكرهَا الشَّارِح فِي تفاصيل أخر، و (هَذَا) كُله (إِذا لم يكن) الصَّغِير (عَاقِلا وَإِلَّا) أَي وَإِن كَانَ عَاقِلا (استقلّ بِإِسْلَامِهِ) فَإِن أسلم صَحَّ وَحِينَئِذٍ (فَلَا يرتدّ بردة من أسلم مِنْهُمَا) أَي أَبَوَيْهِ (على مَا سَيعْلَمُ) فِي فصل الْأَهْلِيَّة، لَكِن ذكر فَخر الْإِسْلَام فِي شرح الْجَامِع الصَّغِير وَيَسْتَوِي فِيمَا قُلْنَا أَن يعقل وَأَن لَا يعقل، وَذكر قَاضِي خَان فِي شَرحه عَلَيْهِ لَو أسلم أحد أَبَوَيْهِ يَجْعَل مُسلما تبعا سَوَاء كَانَ الصَّغِير عَاقِلا أَو لم يكن، لِأَن الْوَلَد يتبع خير الْأَبَوَيْنِ دينا (وَمِنْه) قَالَ الشَّارِح: أَي من الْخلف عَن الأَصْل (والصعيد) وَلَا يخفى أَنه حِينَئِذٍ لَا وَجه لذكر الْوَاو: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون الْمَعْنى وَمِنْه قَوْلهم والصعيد الخ على الْمُسَامحَة، وَقد يُقَال أَن قَوْله مِنْهُ مُتَعَلق بقوله سَيعْلَمُ، وَالضَّمِير للموصول والجارّ وَالْمَجْرُور فِي موقع الْفَاعِل فَإِنَّهُ (خلف عَن المَاء، فَيثبت بِهِ) أَي بالصعيد (مَا ثَبت بِهِ) أَي بِالْمَاءِ من الطَّهَارَة الْحكمِيَّة إِلَى وجود الناقض على مَا هُوَ مُقْتَضى الخلفية، فالأصالة والخلفية بَين الآلتين، فَيجوز إِمَامَة الْمُتَيَمم لوُجُود شَرط الصَّلَاة، وَهِي الطَّهَارَة فِي حق كلّ مِنْهُمَا، فَيجوز بِنَاء أَحدهمَا على الآخر كالغاسل على الماسح مَعَ أَن الْخُف بدل من الرجل فِي قبُول الْحَدث وَرَفعه، وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف (ولمحمد) وَزفر أَيْضا أَن الْأَصَالَة والخلفية (بَين الْفِعْلَيْنِ) أَي التَّيَمُّم وَالْوُضُوء أَو الْغسْل (فَلَا يلْزم ذَلِك) أَي أَن يثبت بالصعيد مَا يثبت بِالْمَاءِ، إِذْ الْمَفْرُوض أَن الْخَلِيفَة لَيست بَينهمَا (وَلَا يُصَلِّي الْمُتَوَضِّئ خلف الْمُتَيَمم لِأَنَّهُ تَعَالَى أَمر) الْمُحدث (بِالْفِعْلِ) أَي الْوَصْف، فَقَالَ إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة (فَاغْسِلُوا) الْآيَة، وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا (ثمَّ نقل) الْأَمر عَن الْوضُوء (إِلَى الْفِعْل) الآخر. وَهُوَ التَّيَمُّم عِنْد عدم الْقُدْرَة على المَاء، فَقَالَ - {وَإِن كُنْتُم مرضى} - إِلَى قَوْله - {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا} - الْآيَة، وَإِذا لم يكن الصَّعِيد خلفا للْمَاء لم يثبت بِهِ طَهَارَة مُطلقَة كَمَا يثبت بِالْمَاءِ ليعتبر ذَلِك فِي حقّ المقتدى الْمُتَوَضِّئ (وَلَهُمَا) أَي أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف (أَنه) تَعَالَى (نقل) الطّلب عَن المَاء إِلَى الصَّعِيد (عِنْد عدم المَاء) حَيْثُ قَالَ (فَلم تَجدوا مَاء فَكَانَ) المَاء هُوَ (الأَصْل) وَيُؤَيِّدهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّعِيد الطّيب وضوء الْمُؤمن وَلَو إِلَى عشر سِنِين. وَقد يُقَال كَمَا أَن الخلفية إِذا اعْتبرت بَين

(2/183)


الآلتين اقْتَضَت ثُبُوت مَا ثَبت بِالْمَاءِ فِي الصَّعِيد، كَذَلِك إِذا اعْتبرت بَين الْفِعْلَيْنِ اقْتَضَت أَن يرتب على التيميم مَا كَانَ يَتَرَتَّب على الْوضُوء من الطَّهَارَة الْحكمِيَّة إِلَى وجود الناقض بِمُقْتَضى الخلفية فَمَا الْفرق بَين الاعتبارين، وَالْجَوَاب أَنَّهَا إِذا اعْتبرت بَين الْفِعْلَيْنِ ثَبت ضَرُورَة الْحَاجة إِلَى إِسْقَاط الْفَرْض عَن الذِّمَّة مَعَ قيام الْحَدث كطهارة الْمُسْتَحَاضَة، وَيلْزمهُ عدم جَوَاز تَقْدِيمه على الْوَقْت وَعدم جَوَاز مَا شَاءَ من الْفَرَائِض والنوافل بِخِلَاف مَا إِذا اعْتبرت بَين الآلتين، فَإِنَّهَا تثبت حِينَئِذٍ مُطلقَة يرْتَفع بِهِ الْحَدث وَيلْزمهُ جَوَاز مَا ذكر فَإِن قلت مَا السرّ فِي ثُبُوتهَا على وَجه الضَّرُورَة إِذا اعْتبرت بَين الْفِعْلَيْنِ دون الآلتين مَعَ اشْتِرَاك مَا يَقْتَضِي اعْتِبَار الضَّرُورَة، وَهُوَ قَوْله - {فَلم تَجدوا مَاء} - فِي الْوَجْهَيْنِ (قلت الضَّرُورَة الَّتِي اقتضاها القَوْل الْمَذْكُور اعتبرناها فيهمَا والضرورة الَّتِي هِيَ مَحل النزاع لَا يقتضيها القَوْل الْمَذْكُور، بل يقتضيها خُصُوصِيَّة الأَصْل وَاعْتِبَار الخلفية بَين الْفِعْلَيْنِ، بَيَان ذَلِك أَن التُّرَاب فِي حدّ ذَاته مغبر مَحْض لَا يحصل حِكْمَة الْأَمر بالتطهير وَهُوَ تَحْسِين الْأَعْضَاء فاللائق بِشَأْنِهِ أَن يكون الْحَاصِل بِهِ مجرّد إِبَاحَة الصَّلَاة كطهارة من بهَا الِاسْتِحَاضَة غير أَن للشارع ولَايَة أَن يَجْعَل طَهَارَته كَامِلَة مثل المَاء على خلاف قِيَاس الْعقل، فالشأن فِي معرفَة اعْتِبَار الشَّارِع، وَذَلِكَ بِقَرِينَة اعْتِبَار الخلفية، فَإِن اعتبرها بَين المَاء وَالتُّرَاب كَانَ ذَلِك عَلامَة إِعْطَائِهِ الطَّهَارَة الْكَامِلَة لكَون أَصله مَعْرُوفا بالطهورية شرعا وعقلا، وَأَن اعتبرها بَين الْفِعْلَيْنِ كَانَ ذَلِك قرينَة إِعْطَائِهِ إِيَّاه مجرّد الْإِبَاحَة للصَّلَاة لعدم مَا هُوَ صَارف عَن اعْتِبَار مَا يَلِيق بِشَأْنِهِ من كَون الأَصْل مَعْرُوفا بِمَا ذكر حِينَئِذٍ (وَلَا بدّ فِي تَحْقِيق الخلفية من عدم الأَصْل) حَال انْتِقَال الحكم عَن الأَصْل إِلَى الْخلف إِذْ لَا معنى إِلَى الْمصير إِلَى الْخلف مَعَ وجود الأَصْل (و) من (إِمْكَانه) أَي الأَصْل لينعقد السَّبَب، ثمَّ بِالْعَجزِ عَنهُ يتحوّل الحكم عَنهُ إِلَى الْخلف (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الأَصْل مُمكنا لأمر مَا (فَلَا أصل) أَي فَلَا يُوصف ذَلِك الْأَمر بِالْأَصَالَةِ لغيره، وَإِذ لَا أصل لَهُ (فَلَا خلف) أَي فَلَا يُوصف ذَلِك الْغَيْر بالخلفية عَنهُ، وَمن هُنَا لزم التَّكْفِير من حلف ليمسنّ السَّمَاء لِأَنَّهَا انْعَقَدت مُوجبَة للبرّ لَا مَكَان مسّ السَّمَاء فِي الْجُمْلَة، لِأَن الْمَلَائِكَة يصعدون إِلَيْهَا وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صعد إِلَيْهَا لَيْلَة الْمِعْرَاج إِلَّا أَنه مَعْدُوم عرفا وَعَادَة، فانتقل الحكم مِنْهُ إِلَى الْخلف الَّذِي هُوَ الْكَفَّارَة، وَلم يلْزم من حلف على نفي مَا كَانَ، أَو ثُبُوت مَا لم يكن فِي الْمَاضِي لعدم إِمْكَان الأَصْل.
الْفَصْل الثَّالِث

فِي (الْمَحْكُوم فِيهِ) الْمَحْكُوم فِيهِ مُبْتَدأ وَقَوله (وَهُوَ) أَي الْمَحْكُوم فِيهِ (أقرب من الْمَحْكُوم

(2/184)


بِهِ) مُعْتَرضَة وَخَبره (فعل الْمُكَلف) يُرِيد أَن التَّعْبِير عَن فعل الْمُكَلف بالمحكوم فِيهِ أقرب من حَيْثُ الْمُنَاسبَة، وَأولى من التَّعْبِير عَنهُ بالمحكوم بِهِ كَمَا ذكره صدر الشَّرِيعَة والبيضاوي وَغَيرهمَا نقل الشَّارِح عَن المُصَنّف أَنه قَالَ: إِذا لم يحكم الشَّارِع بِهِ على الْمُكَلف، بل حكم فِي الْفِعْل بِالْوُجُوب، بِالْمَنْعِ، بِالْإِطْلَاقِ، وَالظَّاهِر أَن لَيْسَ مَنعه حكم بِهِ على الْمُكَلف وَلَا فِي إِطْلَاقه وَالْإِذْن فِيهِ، وَإِنَّمَا يخال ذَلِك فِي إِيجَابه، وَعند التَّحْقِيق يظْهر أَن لَيْسَ إِيجَابه: أَي إِيجَاب الشَّارِع فعله حكما بِنَفس الْفِعْل، وَلَو سلم كَانَ بِاعْتِبَار قسم يُخَالِفهُ أَقسَام (مُتَعَلق الْإِيجَاب) حَال من الْخَبَر (و) الْعَامِل معنوي (هُوَ الْوَاجِب) أَي يُسمى الْوَاجِب (لم يشتقوا لَهُ) أَي لفعله الْمَذْكُور (بِاعْتِبَار أَثَره) أَي الْإِيجَاب الْمُتَعَلّق بِهِ اسْما (إِلَّا اسْم الْفَاعِل) وَأما الْبَاقِي (فمتعلق النّدب وَالْإِبَاحَة وَالْكَرَاهَة مفعول) اشتق لمتعلقها بِاعْتِبَار أَثَرهَا اسْم مفعول، وَهُوَ (مَنْدُوب مُبَاح مَكْرُوه و) اشتقوا (كلا) من اسْمِي الْفَاعِل وَالْمَفْعُول (لمتعلق التَّحْرِيم) فَقَالُوا هُوَ (حرَام محرّم تَخْصِيصًا بالاصطلاح فِي الأول) أَي وَقع تَخْصِيص فِي مُتَعَلق الْإِيجَاب بالاقتصار على اسْم الْفَاعِل (و) فِي (الْأَخير) يَعْنِي مُتَعَلق التَّحْرِيم بِأَن وَسعوا لَهُ فِي الِاشْتِقَاق لَا لغيره، وكل ذَلِك بمجرّد الِاصْطِلَاح، لَا لموجب اقْتضى ذَلِك (ورسم الْوَاجِب بِمَا) أَي فعل (يُعَاقب تَاركه) على تَركه، قَوْله رسم الْوَاجِب مُبْتَدأ خَبره (مَرْدُود بِجَوَاز الْعَفو) عَنهُ: أَي سَبَب الرّد أَنه لَيْسَ الْعقَاب من لوازمه لجَوَاز أَن يعفي عَنهُ فَلَا يُعَاقب (و) رسمه (بِمَا أوعد) بالعقاب (على تَركه، إِن أُرِيد) بِالتّرْكِ التّرْك (الأعمّ من ترك) مُكَلّف (وَاحِد أَو) ترك (الكلّ) أَي كلّ الْمُكَلّفين فِي تِلْكَ النَّاحِيَة (ليدْخل الْكِفَايَة) أَي الْوَاجِب كِفَايَة فِي التَّعْرِيف (لزم التوعد بترك وَاحِد فِي الْكِفَايَة) مَعَ فعل غَيره (أَو) أُرِيد بِهِ (ترك الكلّ خرج مَتْرُوك الْوَاحِد) فِي الْوَاجِب عينا أَن لم يبين حكمه (أَو) أُرِيد بِهِ تَركه (الْوَاحِد خرج الْكِفَايَة، وَأما ردّه) أَي التَّعْرِيف الْمَذْكُور (بِصدق إيعاده كوعده فيستلزم الْعقَاب) يَعْنِي أَن الْعُدُول عَن المعاقبة إِلَى الإيعاد الْمعبر عَنهُ بأوعد لَا يصحح التَّعْرِيف للُزُوم وُقُوع مُتَعَلق الإيعاد، فَلَا فرق فِي الْمَآل بَين قَوْلكُم يُعَاقب وقولكم أوعده الله بالعقاب على التّرْك، فَكَمَا أَن ذَلِك مَرْدُود بِجَوَاز الْعَفو كَذَلِك هَذَا (فيناقض تجويزهم الْعَفو) إِذا أوعد تَارِك الْوَاجِب مُطلقًا بالعقاب، وقلتم إيعاده يسْتَلْزم الْعقَاب، فَلم يبْق لجَوَاز الْعَفو مجَال (وَهُوَ) أَي هَذَا الردّ (بالمعتزلة أليق) لِاسْتِحَالَة الْخلف فِي وعيده تَعَالَى عِنْدهم، بِخِلَاف أهل السّنة، ثمَّ إِن التَّنَاقُض يلْزم من ظنّ كَون الإيعاد الْمَذْكُور فِي التَّعْرِيف مستلزما للعقاب فِي جَمِيع الْأَوْقَات (إِلَّا) وَقت (أَن يُرَاد) بالإيعاد الْمَذْكُور (إيعاد ترك وَاجِب الْإِيمَان) فَإِن الْخلف فِيهِ غير جَائِز قطعا لقَوْله تَعَالَى - (إِن الله لَا يغْفر أَن

(2/185)


يُشْرك بِهِ} - وَأما الإيعاد على ترك وَاجِب غَيره فَيجوز الْخلف فِيهِ لقَوْله تَعَالَى - {وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} -، وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه لَا يجوز أَن يُرَاد هَذَا الإيعاد الْخَاص من التَّعْرِيف إِذْ لَا دلَالَة للعام على الْخَاص بِوَجْه (فَلَا يبطل التَّعْرِيف إِلَّا بِفساد عَكسه بِخُرُوج مَا سواهُ) أَي مَا سوى وَاجِب الْإِيمَان، لَا بِخُرُوج كلّ وَاجِب، وَقَالَ الشَّارِح: إِن ظَاهر المواقف والمقاصد أَن الأشاعرة على جَوَاز الْخلف فِي الْوَعيد، لِأَنَّهُ يعدّ جودا وكرما لَا نقصا، وَإِن فِي غَيرهمَا الْمَنْع مِنْهُ معزوّا إِلَى الْمُحَقِّقين، فَإِن الشَّيْخ حَافظ الدّين نصّ على أَنه الصَّحِيح، وَأَن الْأَشْبَه أَن يُقَال بِجَوَازِهِ فِي حق الْمُسلمين خَاصَّة جمعا بَين الْأَدِلَّة انْتهى.
قلت والحقّ أَن من الْوَعيد مَا فِيهِ تفاصيل كَثِيرَة كتخاصم أهل النَّار وحكاية أسئلتهم وأجوبتهم وتقريعات الْمَلَائِكَة وَغَيرهم عَلَيْهِم وتأسفاتهم على مَا فاتهم من طلب الرُّجُوع إِلَى الدُّنْيَا، فَعدم تحقق مثله مِمَّا يحيله الْعقل عَادَة إِذْ لَا يَلِيق بجنابه الْإِخْبَار عَن الْمُسْتَقْبل بِتِلْكَ التفاصيل من غير أَن يكون لَهُ مصداق، وَيُشبه أَن يكون تَجْوِيز مثل هَذَا الِاحْتِمَال من بَاب الْغرُور، وَإِنَّمَا يجوز الْخلف فِي مثل قَول الْملك لأَقْتُلَنك، وشتان بَينهمَا (وَأما) ردّ هَذَا التَّعْرِيف (بِأَن مِنْهُ) أَي الْوَاجِب (مَا لم يتوعد عَلَيْهِ) أَي على تَركه فَلَا يصدق عَلَيْهِ مَا أوعد على تَركه (فمندفع بِثُبُوتِهِ) أَي الإيعاد على التّرْك (لكلها) أَي الْوَاجِبَات (بالعمومات) أَي بالنصوص الْعَامَّة كَقَوْلِه تَعَالَى - {وَمن يعْص الله وَرَسُوله ويتعدّ حُدُوده يدْخلهُ نَارا} {} (وَمن يعْمل مِثْقَال ذرّة شرّا يره} - (ورسم) الْوَاجِب أَيْضا (بِمَا يخَاف الْعقَاب بِتَرْكِهِ، وأفسد طرده) أَي كَون هَذَا التَّعْرِيف مَانِعا (بِمَا لَيْسَ بِوَاجِب) أَي لم يثبت وُجُوبه شرعا (وَشك فِي وُجُوبه) فَإِن الْمَشْكُوك فِي وُجُوبه يخَاف على تَركه لاحْتِمَال كَونه وَاجِبا فِي نفس الْأَمر فَيصدق عَلَيْهِ الحدّ دون الْمَحْدُود، لِأَن الْمُعَرّف مَا ثَبت وُجُوبه شرعا (وَيدْفَع) هَذَا الْإِفْسَاد (بِأَن مَفْهُومه) أَي مَا يخَاف الْعقَاب بِتَرْكِهِ (مَا) أَي فعل (بِحَيْثُ) يخَاف الْعقَاب بِتَرْكِهِ: يَعْنِي أَن هَذِه الْحَيْثِيَّة لَازِمَة لَهُ (فَلَا يختصّ) ذَلِك الْفِعْل (بخوف وَاحِد دون آخر) بِأَن يخَاف بعض النَّاس الْعقَاب بِتَرْكِهِ وَلَا يخَاف بعض آخر، بل يعمّ الْخَوْف كلّ أحد (وَلَا خوف للمجتهد فِي ترك مَا شكّ فِيهِ) بعد الِاجْتِهَاد، وَذَلِكَ ليأسه عَمَّا يُفِيد زَوَال الشَّك بعد بذل الوسع فَلَا يصدق التَّعْرِيف على الْمَشْكُوك فِي وُجُوبه لما عرفت من اعْتِبَار عُمُوم الْخَوْف فِيهِ (و) أفسد (عَكسه) أَي جامعية التَّعْرِيف الْمَذْكُور (بِوَاجِب) أَي بِمَا ثَبت وُجُوبه شرعا غير أَنه (شكّ فِي عدم وُجُوبه) فَإِن قلت الشَّك عبارَة عَن تَسَاوِي الطَّرفَيْنِ، فالشك فِي عدم الْوُجُوب شكّ فِي الْوُجُوب قلت الشَّك كَمَا قلت غير أَن الشُّبْهَة طارئة فِي الأول على أَمر ثَبت وُجُوبه بدليله، وَفِي الثَّانِي على أَمر ثَبت عدم وُجُوبه. فَعبر عَن كلّ مِنْهُمَا بِمَا يَلِيق بِهِ

(2/186)


(أَو) مَا (ظنّ) عدم وُجُوبه بِأَن ظنّ الْمُجْتَهد الَّذِي ادّعى اجْتِهَاده إِلَى وُجُوبه ابْتِدَاء عدم الْوُجُوب أَو ظنّ غَيره (فَإِنَّهُ) أَي الشَّأْن أَو الْوَاجِب الْمَذْكُور (لَا يخَاف) الْعقَاب بِتَرْكِهِ فَلَا يصدق التَّعْرِيف على هَذَا الْفَرد من الْمُعَرّف، إِذْ لَيْسَ مثله مِمَّا يخَاف على تَركه خوفًا لَا يختصّ بِوَاحِد دون وَاحِد، أما إِذا كَانَ هُوَ الظانّ فالشارح ذكر أَنه لَا يخَاف بترك مَا ظنّ عدم وُجُوبه ابْتِدَاء عَادَة، وَفِيه نظر (وَهُوَ) أَي إِفْسَاد عَكسه بِهَذَا (حقّ، ومنبع دفع الأوّل) أَي منشأ دفع الْإِشْكَال على طرده من غير حَاجَة إِلَى تَفْسِيره بِمَا بحث بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور، إِذْ عدم الْخَوْف مُشْتَرك بِمَا لَيْسَ بِوَاجِب وَشك فِي وُجُوبه وَبَين مَا هُوَ وَاجِب وَشك فِي عدم وُجُوبه، وَذَلِكَ مَعْلُوم بِحَسب الْعَادة (وللقاضي أبي بكر) رسم آخر، وَهُوَ (مَا يذمّ شرعا تَاركه بِوَجْه مّا، يُرِيد) بقوله بِوَجْه مّا أحد الْوُجُوه الْمشَار إِلَيْهَا بِهَذَا التَّفْصِيل تَركه (فِي جَمِيع وقته) الَّذِي وَقت بِهِ، فاحترز بِهِ عَن تَركه فِي بعض ذَلِك الْوَقْت (بِلَا عذر نِسْيَان ونوم وسفر) فَلَا يذمّ إِذا ترك بِأحد هَذِه الْأَعْذَار، وَهَذَا فِي الْوَاجِب عينا. وَأما فِي الْوَاجِب كِفَايَة فَتعْتَبر هَذِه الْقُيُود مَعَ قيد آخر (و) هُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (مَعَ عدم فعل غَيره) بِأَن يتْركهُ الْجَمِيع (أَن) كَانَ الْوَاجِب (كِفَايَة و) ترك (الْكل) من الْأُمُور الْمُخَير فِيهَا (فِي) الْوَاجِب (الْمُخَير) فِيهِ بَين الْأُمُور (وَلَو أَرَادَ) القَاضِي (عدم الْوُجُوب مَعهَا) أَي الْأَعْذَار الْمَذْكُورَة على مَا صرّح بِهِ فِي التَّقْرِيب من أَنه لَا وجوب على النَّائِم وَالنَّاسِي وَنَحْوهمَا حَتَّى السَّكْرَان، وَأَن الْمُسَافِر يجب عَلَيْهِ صَوْم أحد الشَّهْرَيْنِ (فَلَا يذمّ) الْمُكَلف (مَعهَا) أَي الْأَعْذَار الْمَذْكُورَة وَلَو هَاهُنَا بِمَعْنى أَن بِدَلِيل دُخُول الْفَاء فِي جوابها (بِالتّرْكِ إِلَى آخر الْوَقْت) إِذْ لَا وجوب مَعهَا (وَبعد زَوَالهَا) أَي الْأَعْذَار (توجه وجوب الْقَضَاء عِنْده) أَي القَاضِي (فيذم) الْمُكَلف (بِتَرْكِهِ) أَي الْقَضَاء (بِوَجْه مَا وَهُوَ) : أَي ترك الْقَضَاء بِوَجْه مّا (مَا) : أَي التّرْك الَّذِي يكون (فِي جَمِيع الْعُمر) مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ (ولبعضهم اعْتِرَاض) عَلَيْهِ (جدير بِالْإِعْرَاضِ) ثمَّ عِنْده وجوب الْقَضَاء لَيْسَ فرع وجوب الْأَدَاء (أما على) اصْطِلَاح (الْحَنَفِيَّة فالوجوب يَنْفَكّ عَن وجوب الْأَدَاء وَهُوَ) أَي وجوب الْأَدَاء فِي هَذِه الْحَالَات هُوَ (السَّاقِط) لَا أصل الْوُجُوب.