تيسير التحرير

مَبْحَث الْوَاجِب الْمُخَير

(مسئلة: الْأَمر بِوَاحِد) أَي إِيجَاب وَاحِد مُبْهَم (من أُمُور مَعْلُومَة صَحِيح) عِنْد جُمْهُور الْفُقَهَاء والأشاعرة، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب، وَيعرف بِالْوَاجِبِ الْمُخَير (كخصال الْكَفَّارَة) أَي كَفَّارَة الْيَمين فَإِن قَوْله تَعَالَى - {فكفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين} - فِي قُوَّة الْأَمر بِالْإِطْعَامِ

(2/211)


وَقد عطف عَلَيْهِ الْكسْوَة والتحرير فَكل وَاحِد مِنْهَا وَاجِب على الْبَدَل لَا الْجمع على مَا يَقْتَضِيهِ كلمة أَو (وَقيل) وَالْقَائِل بعض الْمُعْتَزلَة هُوَ (أَمر بِالْجَمِيعِ وَيسْقط) وجوب الْجَمِيع (بِفعل الْبَعْض، وَقيل) وَالْقَائِل مِنْهُم أَيْضا أَمر (بِوَاحِد معِين عِنْده تَعَالَى) دون الْمُكَلّفين (وَهُوَ) أَي الْوَاحِد الْمعِين (مَا يَفْعَله كل) من الْمُكَلّفين بِهِ (فيختلف) الْمَأْمُور بِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِم ضَرُورَة أَن الْوَاجِب فِي حق كل وَاحِد مَا يختاره وَهُوَ يخْتَلف (وَقيل لَا يخْتَلف) الْمَأْمُور بِهِ باخْتلَاف الْمَفْعُول لَهُم (وَيسْقط) ذَلِك الْوَاجِب الْمعِين (بِهِ) أَي بالإتيان بالمأمور بِهِ (و) بالإتيان (بِغَيْرِهِ) أَي غير الْمَأْمُور بِهِ مِنْهَا، وَيُسمى هَذَا قَول التزاحم، لِأَن الأشاعرة ترويه عَن الْمُعْتَزلَة والمعتزلة عَن الأشاعرة، فاتفق الْفَرِيقَانِ على فَسَاده، وَعَن السُّبْكِيّ أَنه لَا يسوغ نَقله عَن أَحدهمَا. وَقَالَ وَالِده لم يقل بِهِ قَائِل (وَنقل) وجوب (الْجَمِيع على الْبَدَل لَا يعرف وَلَا معنى لَهُ إِلَّا أَن يكون) مَعْنَاهُ هُوَ الْمَذْهَب (الْمُخْتَار) بِنَاء على اعترافهم بِأَن تاركها جَمِيعًا لَا يَأْثَم إِثْم من ترك وَاجِبَات ومقيمها جَمِيعًا لم يثب ثَوَاب وَاجِبَات (لنا الْقطع بِصِحَّة أوجبت أحد هَذِه) الْأُمُور (فَإِنَّهُ) أَي قَوْله هَذَا (لَا يُوجب جَهَالَة مَانِعَة من الِامْتِثَال لحُصُول التَّعْيِين بِالْفِعْلِ) يَعْنِي إِذا اخْتَار وَاحِدًا مِنْهَا بِعَيْنِه فَفعله تعين كَونه الْوَاجِب لتحَقّق الْوَاحِد الْمُبْهم فِي ضمنه، وَعدم احْتِمَال تحَققه بعد ذَلِك فِي ضمن معِين آخر، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى العَبْد، وَأما بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ فَمَا يَفْعَله العَبْد مُتَعَيّن قبل أَن يفعل، ثمَّ أجَاب عَن القَوْل بِأَنَّهُ أَمر بِوَاحِد معِين عِنْده تَعَالَى إِلَى آخِره فَقَالَ (وَتعلق علمه تَعَالَى بِمَا يفعل كل) من الْمُكَلّفين (لَا يُوجِبهُ) أَي مفعول كل (عبنا على فَاعله، بل) يُوجب تعين (مَا يسْقط) بِهِ الْوُجُوب من مفعول كل من الْأُمُور الْمُخَير فِيهَا، على أَن تعلق الْعلم بِمَا ذكر مَخْصُوص بِصُورَة تحقق الْفِعْل امتثالا، وَأما إِذا لم يتَحَقَّق فَمَا الَّذِي يُوجب تعين ذَلِك الْمُبْهم؟ فالدليل لَا يَفِي بِتمَام الْمُدَّعِي، وَلما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال، وَهُوَ أَن كل وَاحِد مِنْهَا بِعَيْنِه خير فِيهِ الْمُكَلف بَين الْفِعْل وَالتّرْك، وَلَا يتَحَقَّق لأحد هَذِه الْأُمُور إِلَّا فِي ضمن وَاحِد مِنْهَا بِعَيْنِه، فَيلْزم أَن يكون الْوَاجِب وَهُوَ أحد هَذِه الْأُمُور خير فِيهِ بَين الْفِعْل وَالتّرْك، وَهَذَا يُنَافِي الْوُجُوب أجَاب عَنهُ بقوله (وَلَا يلْزم اتِّحَاد الْوَاجِب والمخير فِيهِ بَين الْفِعْل وَالتّرْك، لِأَن الْوَاجِب) إِنَّمَا هُوَ الْوَاحِد (الْمُبْهم) والمخير فِيهِ بَين الْفِعْل وَالتّرْك إِنَّمَا هُوَ كل وَاحِد بِعَيْنِه، والمبهم وَإِن لم يكن لَهُ تحقق إِلَّا فِي الْوَاحِد مِنْهَا بِعَيْنِه: لَكِن التَّخْيِير فِيهِ بَين الْفِعْل وَالتّرْك لَا يكون تخييرا فِي الْمُبْهم، إِذْ ترك الْوَاحِد مِنْهَا بِعَيْنِه لَا يسْتَلْزم ترك الْكل بِخِلَاف ترك الْمُبْهم فَإِنَّهُ يسْتَلْزم: إِذْ نفي الْأَعَمّ يسْتَلْزم نفي الْأَخَص، ثمَّ لما كَانَ قَوْله الْوَاجِب الْمُبْهم يُوهم أَن يكون بِشَرْط الْإِبْهَام دفع ذَلِك بقوله (لَا على معنى) أَنه الْمُبْهم مأخوذا (بِشَرْط الْإِبْهَام) بل بِمَعْنى أَنه (لَا يُعينهُ الْمُوجب) تَعَالَى بِأَن يطْلب من الْمُكَلف إِيقَاع ذَلِك الْوَاحِد فِي ضمن وَاحِد

(2/212)


بِعَيْنِه كَيفَ وَلَو كَانَ مأخوذا بِشَرْط الْإِبْهَام لما كَانَ لَهُ تحقق فِي الْخَارِج لما علم من أَن الْمَاهِيّة بِشَرْط عدم التَّعْيِين لَا يُمكن تحققها، بل الْمُعْتَبر إِنَّمَا هِيَ الْمَاهِيّة لَا بِشَرْط شَيْء (فَلِذَا) أَي لكَون الْمُعْتَبر الْمَاهِيّة الْمُطلقَة لَا بِشَرْط الْإِبْهَام (سقط) الْوَاجِب عَن ذمَّة الْمُكَلف (بالمعين) بالإتيان بِوَاحِد مِنْهَا بِعَيْنِه: إِذْ الْمُطلق فِي ضمن الْفَرد الْخَاص (لتَضَمّنه) أَي الْمعِين (مَفْهُوم الْوَاحِد) الْمُبْهم، ثمَّ على قَول الْجُمْهُور إِذا كَانَ فِي الْكل مَا هُوَ أَعلَى ثَوابًا وَفعل الْكل فَقيل المثاب عَلَيْهِ الْأَعْلَى سَوَاء فعله مُرَتبا أَو مَعًا، وَإِن ترك الْكل عُوقِبَ على أدناها، وَقيل غير ذَلِك أطنب فِيهِ الشَّرْح، وطويناه لعدم الْحَاجة إِلَيْهِ فِي الْبَحْث.
مسئلة

(الْوَاجِب على) سَبِيل (الْكِفَايَة) وَهُوَ مُهِمّ متحتم قصد حُصُوله من غير نظر إِلَى فَاعله: أما ديني كَصَلَاة الْجِنَازَة، وَأما دُنْيَوِيّ كالصنائع الْمُحْتَاج إِلَيْهَا، فَخرج الْمسنون لِأَنَّهُ غير متحتم، وَفرض الْعين لِأَن فَاعله مَنْظُور أما خُصُوص شخصه كالمفروض على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دون أمته أَو كل وَاحِد وَاحِد من الْمُكَلّفين (على الْكل، وَيسْقط) الْوُجُوب عَنْهُم (بِفعل الْبَعْض) وَهَذَا قَول الْجُمْهُور، وَالْمرَاد الْكل الإفرادي، وَقيل المجموعي: إِذْ لَو تعين على كل وَاحِد كَانَ سُقُوطه عَن البَاقِينَ بعد تحَققه نسخا، وَلَا نسخ اتِّفَاقًا، بِخِلَاف الْإِيجَاب على الْمَجْمُوع من حَيْثُ هُوَ فَإِنَّهُ لَا يسْتَلْزم الْإِيجَاب على وَاحِد، وَيكون التأثيم على الْجَمِيع بِالذَّاتِ، وعَلى كل وَاحِد بِالْعرضِ وَأجِيب بِمَنْع لُزُوم النّسخ، إِذْ قد يسْقط بعد التحقق بِانْتِفَاء عِلّة الْوُجُوب، فحصول الْمَقْصُود هَهُنَا على أَنه يلْزم النّسخ على هَذَا الْقَائِل أَيْضا، لِأَن فعل الْبَعْض لَيْسَ فعل الْمَجْمُوع قطعا، وَقد سقط عَن الْمَجْمُوع من غير أَن يَقع مِنْهُم الْفِعْل: هَذَا وَنحن لَا نفهم طلب الْفِعْل من الْمَجْمُوع من حَيْثُ هُوَ إِلَّا فِي مثل حمل جسم عَظِيم لَا يقدر الْبَعْض على حمله، وَمَعَ ذَلِك يلْزم على كل وَاحِد الْمُشَاركَة فِي الْحمل لَا الِاسْتِقْلَال (وَقيل) وَاجِب (على الْبَعْض) وَهُوَ قَول الإِمَام الرَّازِيّ، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيّ ثمَّ الْمُخْتَار على هَذَا أَي بعض كَانَ، إِذْ لَا معِين، فَمن قَامَ بِهِ سقط الْوُجُوب بِفِعْلِهِ وبفعل غَيره كَمَا يسْقط الدّين بأَدَاء غَيره عَنهُ (لنا) على الْمُخْتَار (إِثْم الْكل بِتَرْكِهِ) اتِّفَاقًا، وَلَو لم يجب على كل وَاحِد لما أَثم (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ على الْبَعْض (سقط) الْوُجُوب (بِفعل الْبَعْض) وَلَو كَانَ على الْكل لما سقط: إِذْ لَا يسْقط عَن شخص بِفعل غَيره (قُلْنَا) لَا يستبعد هَذَا (لِأَن الْمَقْصُود وجود الْفِعْل لَا ابتلاء كل مُكَلّف) كَمَا فِي فرض الْعين، وَقد وجد (كسقوط مَا على زيد) من الدّين (بِفعل عَمْرو) لحُصُول الْغَرَض بِهِ، وَقيد الشَّارِح بِمَا إِذا كَانَ زيد ضَامِنا عَنهُ عَمْرو فِيهِ

(2/213)


لِأَن فِيهِ أَدَاء مَا فِي ذمَّة الْمُؤَدِّي، وَإِسْقَاط مَا فِي ذمَّة غَيره كَمَا فِي مَحل النزاع.
وَأَنت خَبِير بِأَن الاستبعاد، إِنَّمَا جَاءَ من قبل إِسْقَاط مَا فِي ذمَّة شخص بِفعل غَيره، فَمَا ذكره المُصَنّف كَاف فِي الْمَقْصُود من غير هَذَا الْقَيْد (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ المذكورون لإِثْبَات صِحَة (أَمر وَاحِد مُبْهَم كبواحد مُبْهَم) أَي كالأمر بِوَاحِد مُبْهَم من الْخِصَال الْمَذْكُورَة فَكَمَا جَازَ ذَلِك جَازَ هَذَا (أُجِيب بِأَن الْفرق بِأَن إِثْم) مُكَلّف (مُبْهَم غير مَعْقُول) بِخِلَاف إِثْم الْمُكَلف بترك أحد أُمُور مُعينَة مُبْهما فَإِنَّهُ مَعْقُول: إِذْ ترك الْمُبْهم بترك جَمِيع مَا يتَحَقَّق فِيهِ من الْأُمُور الْمعينَة (قيل) وَالْقَائِل الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ وَهَذَا إِنَّمَا يَصح لَو لم يكن (مَذْهَبهم) أَي الْقَائِلين بِالْوُجُوب على الْبَعْض أَن مُوجب عدم قيام بعض (إِثْم الْكل) بِسَبَب ترك الْبَعْض (لَكِن قَول قَائِله) أَي الْوُجُوب على الْبَعْض (أَنه) أَي الْإِثْم (يتَعَلَّق بِمن غلب على ظَنّه أَنه) أَي الْوَاجِب (لن يَفْعَله غَيره فَإِن ظَنّه) أَي عدم الْفِعْل (الْكل عمهم) الْإِثْم (وَإِن خص) ظن عدم الْفِعْل الْبَعْض (خصّه) أَي ذَلِك الْبَعْض الظَّان (الْإِثْم) على تَقْدِير التّرْك، وَحِينَئِذٍ (فَالْمَعْنى) الْمُكَلف بِالْوُجُوب بعض (غير معِين وَقت الْخطاب لِأَنَّهُ) أَي الْمُكَلف (لَا يتَعَيَّن) للْوُجُوب عَلَيْهِ (إِلَّا بذلك الظَّن) وَهُوَ ظن أَن لن يَفْعَله غَيره (وَلَو لم يظنّ) هَذَا الظَّن أحد (لَا يَأْثَم أحد، وَيشكل) هَذَا حِينَئِذٍ (بِبُطْلَان معنى الْوُجُوب) فَإِن لَازمه الْإِثْم على تَقْدِير التّرْك، فَإِذا انْتَفَى انْتَفَى الْمَلْزُوم (وَقد يُقَال) فِي الْجَواب عَن هَذَا (إِنَّمَا يبطل) الْوُجُوب (لَو كلف) الْمُكَلف بِالْوَاجِبِ الْمَذْكُور (مُطلقًا) أَي سَوَاء ظن أَن لَا يَفْعَله غَيره أَو لَا (أما) لَو كلف (الظَّان) أَن لن يَفْعَله غَيره فَقَط (فَلَا) يبطل معنى الْوُجُوب: إِذْ لَا تَكْلِيف حِينَئِذٍ فَلَا وجوب (وَالْحق أَنه) أَي القَوْل بِوُجُوبِهِ على الْبَعْض (عدُول عَن مُقْتَضى الدَّلِيل) الدَّال على وُجُوبه على الْكل (كقاتلوا الَّذين لَا يُؤمنُونَ وَنَحْوه) لعُمُوم الْخطاب على من يَتَأَتَّى مِنْهُ الْقِتَال (بِلَا ملجئ) للعدول عَنهُ (لما حققناه) من أَنه مَا يتَوَهَّم كَونه صارفا من السُّقُوط بِفعل الْبَعْض لَيْسَ بصارف: إِذْ لَا مَحْذُور فِيهِ (قَالُوا) ثَالِثا (قَالَ تَعَالَى {فلولا نفر من كل فرقة مِنْهُم طَائِفَة} فَإِن تَحْصِيل الْعُلُوم الدِّينِيَّة فَوق مَا يحْتَاج إِلَيْهِ كل أحد مِمَّا يتَعَلَّق بِالْعَمَلِ الْوَاجِب عَلَيْهِ عينا وَاجِب على الْكِفَايَة، وَقد صرح بِوُجُوبِهِ على طَائِفَة غير مُعينَة من كل فرقة من الْمُسلمين بلولا الدَّاخِلَة على الْمَاضِي الدَّالَّة على التنديم واللوم الَّذِي لَا يكون إِلَّا عِنْد ترك الْوَاجِب (قُلْنَا) هَذَا مؤول (بالسقوط بِفِعْلِهَا) أَي الطَّائِفَة من الْفرْقَة: يَعْنِي لما كَانَ قيام الْبَعْض بذلك مسْقطًا عَن الْكل نسب اللوم إِلَى الْبَعْض نظرا إِلَى ذَلِك وَإِن كَانَ الْكل مُسْتَحقّا لَهُ، وَفِي الْعرف يسْتَعْمل فِي توبيخ أهل الْبَلَد جَمِيعًا لم يقم بَعْضكُم بِهَذَا الْأَمر وَيفهم مِنْهُ عرفا لوم الْكل، وَإِنَّمَا صرنا إِلَى التَّأْوِيل (جمعا بَين الدَّلِيلَيْنِ) . وَفِي نُسْخَة جمعا للدليلين: يَعْنِي

(2/214)


هَذِه الْآيَة بِاعْتِبَار ظَاهرهَا، وَدَلِيلنَا الدَّال على الْوُجُوب على الْجَمِيع فَإِن هَذِه تحْتَمل التَّأْوِيل بِخِلَاف ذَلِك، فَلَو حملناها على ظَاهرهَا لزم إِلْغَاء ذَلِك وَهُوَ أقوى. (وَاعْلَم أَنه إِذا قيل صَلَاة الْجِنَازَة وَاجِبَة) أَي فرض (على الْكِفَايَة) كَمَا صرح بِهِ بعض الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة وحكوا الْإِجْمَاع عَلَيْهِ (فقد يسْتَشْكل) بسقوطها (بِفعل الصَّبِي) الْمُمَيز كَمَا هُوَ الْأَصَح عِنْد الشَّافِعِيَّة (وَالْجَوَاب) عَن هَذَا الْإِشْكَال (بِمَا تقدم) من أَن الْمَقْصُود الْفِعْل، وَقد وجد (لَا يدْفع الْوَارِد من لفظ الْوُجُوب) يَعْنِي لَو لم يُوصف الْفِعْل بِالْوُجُوب كَذَا نقُول قد تحقق الْفِعْل، وَإِن لم يكن مَوْصُوفا بِالْوُجُوب لكنه ورد فِي الشَّرْع أَن الْمَطْلُوب فعل مَوْصُوف بِهِ، وَفعل الصَّبِي لَيْسَ كَذَلِك فَلم يتَحَقَّق الْمَطْلُوب.
مسئلة

(لَا يجب شَرط التَّكْلِيف) أَي تَحْصِيله (اتِّفَاقًا كتحصيل النّصاب) للتكليف بِوُجُوب الزَّكَاة (والزاد) أَي تَحْصِيله لوُجُوب الْحَج (وَأما مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب) حَال كَونه (سَببا) لَهُ إِمَّا (عقلا) أَي من حَيْثُ الْعقل (كالنظر) أَي تَرْتِيب الْمَعْلُومَة للتأدي إِلَى مَجْهُول فَإِنَّهُ سَبَب (للْعلم) وَالْمرَاد بِهِ الْعلم الْوَاجِب كالتصديق الإيماني (وَفِيه) أَي فِي كَون النّظر سَببا عقليا للْعلم (نظر) إِذْ هُوَ سَبَب عادي لَهُ، فَإِن استعقاب النّظر الْعلم بخلقه تَعَالَى إِجْرَاء الْعَادة عِنْد الْحَنَفِيَّة والأشاعرة (أَو شرعا) استعقاب (كالتلفظ) بِمَا يُفِيد الْعتْق فَإِنَّهُ سَبَب شرعا (لِلْعِتْقِ) الْوَاجِب بِنذر أَو كَفَّارَة أَو غَيرهمَا (أَو عَادَة كَالْأولِ) أَي النّظر للْعلم. وَقد عرفت (وخر الْعُنُق) للْقَتْل الْوَاجِب (أَو) حَال كَونه (شرطا) للْوَاجِب (عقلا كَتَرْكِ الضِّدّ) للْوَاجِب (أَو عَادَة كَغسْل جُزْء من الرَّأْس) لغسل الْوَجْه إِذْ لَا يتَحَقَّق غسل الْوَجْه عَادَة إِلَّا مَعَ غسل جُزْء من الرَّأْس (أَو شرعا) كَالْوضُوءِ للصَّلَاة (فالحنفية وَالْأَكْثَرُونَ) على أَن كل وَاحِد مِمَّا ذكر (وَاجِب بِهِ) أَي بِسَبَب وجوب ذَلِك الْوَاجِب المتوقف عَلَيْهِ (وَقيل) الْوُجُوب فِيمَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب مُسلم (فِي الشَّرْط الشَّرْعِيّ فَقَط) لَا فِي غَيره وَهُوَ مُخْتَار ابْن الْحَاجِب فِيمَا هُوَ مَقْدُور الْمُكَلف (وَقيل) مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب لَا يجب بِوُجُوبِهِ سَوَاء كَانَ مَقْدُورًا للمكلف أَولا (لَا فِي الشَّرْط و) لَا فِي (غَيره فيخطآن) أَي هَذَانِ الْقَوْلَانِ (للاتفاق على الْأَسْبَاب) أَي على أَن إِيجَاب الْمُسَبّب إِيجَاب لتَحْصِيل سَببه (إِلَّا أَن يُقَال التَّعَلُّق) للْإِيجَاب إِنَّمَا هُوَ (بهَا) أَي بالأسباب ابْتِدَاء (فَالْأَمْر بِالْقَتْلِ وَالْعِتْق يتَعَلَّق بالحز) للعنق (والتلفظ) بِصِيغَة الْعتْق (ابْتِدَاء) لَا بِنَفْي الْحَيَاة وَلَا بِإِزَالَة الرّقّ (إِذْ لَا تعلق بِغَيْر الْمَقْدُور) إِذْ التَّكْلِيف لَا يكون إِلَّا بِهِ، والمسببات قد لَا تكون مقدورة لنا كهذه بِخِلَاف مُبَاشرَة الْأَسْبَاب فَإِنَّهَا فِي وسع العَبْد ظَاهرا، فالمتعلق للْإِيجَاب حَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ السَّبَب وَإِن كَانَ وَسِيلَة للمسبب، فَهَذَا التَّأْوِيل

(2/215)


مخلص عَن التخطئة (وَلَا بُد) فِي قَوْلهم مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب وَاجِب (من قيد بِهِ) أَي من اعْتِبَار قيد هُوَ لفظ بِهِ فَالضَّمِير للْوَاجِب: أَي مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب وُجُوبه بِسَبَب وجوب ذَلِك الْوَاجِب (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يعْتَبر هَذَا الْقَيْد (لزم الْكفْر) قَالَ الشَّارِح لِأَن الْمُتَبَادر من إِطْلَاقه الْوَاجِب لذاته وَهُوَ لَيْسَ إِلَّا رب الْعَالمين مَعَ أَنه لَيْسَ المُرَاد من هَذَا الْإِطْلَاق قطعا انْتهى وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه لَيْسَ المُرَاد بِالْوُجُوب هَهُنَا مَا يُقَابل الْإِمْكَان، بل أحد الْأَحْكَام الْخَمْسَة غير أَنه لَا يظْهر لكَلَام المُصَنّف وَجه آخر (للْأَكْثَر لَو لم يجب) مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب (بَقِي جَوَاز التّرْك) أَي ترك مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب (دَائِما ولازمه) أَي لَازم جَوَاز تَركه دَائِما (جَوَاز ترك مَا لَا يَتَأَتَّى بِدُونِهِ) أَي مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب (وَهُوَ) أَي جَوَاز ترك مَا لَا يَتَأَتَّى بِدُونِهِ (منَاف لوُجُوبه) أَي وجوب الْوَاجِب (فِي وَقت مَا) ظرف لوُجُوبه (أَو) لَازمه (جَوَاز فعله) أَي الْوَاجِب الَّذِي هُوَ الْمَشْرُوط (دونه) أَي الشَّرْط (فَمَا فرض شرطا لَيْسَ شرطا) لتحَقّق الْوَاجِب بِدُونِهِ (وَلَا يخفى منع الْمُلَازمَة) أَي لَا نسلم أَنه لَو لم يجب بِهِ نفي جَوَاز التّرْك للشّرط لجَوَاز وُجُوبه بِغَيْرِهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَإِنَّمَا يجوز التّرْك لَو لم يجب) مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب (مُطلقًا) وَحِينَئِذٍ لَا يبْقى لَهُ وجوب: لَا بِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ فَيلْزم جَوَاز تَركه دَائِما (واستدلالهم) أَي الْأَكْثَرين (بِالْإِجْمَاع على) وجوب (التَّوَصُّل) إِلَى الْوَاجِب وَلَو لم يجب مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ لما وَجب التَّوَصُّل إِلَى الْوَاجِب إِذْ لَا معنى للتوصل إِلَى الْإِتْيَان بِجَمِيعِ مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ (فِي غير) مَحل (النزاع لِأَن الْمُوجب حِينَئِذٍ) أَي حِين اسْتدلَّ بِالْإِجْمَاع على أَن الْموصل إِلَى الْوَاجِب وَاجِب (غير مُوجب الأَصْل) الَّذِي هُوَ الْوَاجِب الْأَصْلِيّ فَإِن مُوجبه الْأَمر، وَمُوجب مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْإِجْمَاع (وَإِذن لَا حَاجَة للنافي) لوُجُوب مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب بإيجابه فِي غير الشَّرْط كَابْن الْحَاجِب وَصَاحب البديع (إِلَى الْجَواب بتخصيص الدَّعْوَى بِغَيْر الْأَسْبَاب) كَمَا فعلاه (واستدلاله) أَي النَّافِي بِأَنَّهُ (لَو وَجب امْتنع التَّصْرِيح بِنَفْي وُجُوبه) للتناقض بَينهمَا، لكنه غير مُمْتَنع للْقطع بِوُجُوب غسل الْوَجْه وَعدم وجوب غسل غَيره من أَجزَاء الرَّأْس (إِن أَرَادَ) بِنَفْي وُجُوبه الَّذِي لَا يمْتَنع التَّصْرِيح بِهِ (نفى وُجُوبه بِهِ) أَي بِإِيجَاب الْوَاجِب (فنفى التَّالِي) وَهُوَ امْتنَاع التَّصْرِيح بِنَفْي وُجُوبه (عين) مَحل (النزاع أَو) نفي وُجُوبه (مُطلقًا نَفينَا الْمُلَازمَة) لجَوَاز وُجُوبه بِشَيْء آخر غير إِيجَاب الْوَاجِب (وَكَذَا قَوْله) أَي النَّافِي (وَصَحَّ قَول الكعبي فِي نفي الْمُبَاح) عطفا على قَوْله امْتنع التَّصْرِيح إِلَى آخِره، وَذَلِكَ لِأَن فعل الْوَاجِب: وَهُوَ ترك الْحَرَام لَا يتم إِلَّا بالمباح فَيجب الْمُبَاح وَهُوَ بَاطِل، وَفِيه أَن قَول الكعبي نفي كل مُبَاح، وَالَّذِي يلْزم هُنَا على تَقْدِير التنزل نفي بعض الْمُبَاح وَهُوَ الَّذِي لَا يتم ترك الْمُبَاح إِلَّا بِهِ عَلَيْهِ منع الْمُلَازمَة، وَكَذَا قَول النَّافِي (وَوَجَب نِيَّة الْمُقدمَة) وَهِي

(2/216)


مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب لِأَنَّهَا عبَادَة وَاجِبَة (وَمَعْنَاهُ) أَي وجوب نِيَّة الْمُقدمَة أَنَّهَا تجب فِيهَا (كَمَا لَو وَجب) مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب (بِغَيْرِهِ) أَي غير إِيجَاب الْوَاجِب (وَإِنَّمَا يلزمان) أَي نفي الْمُبَاح وَوُجُوب نِيَّة الْمُقدمَة (لَو تعين) الْمُبَاح للامتثال (أَو شرع) مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ (عبَادَة لكنه) أَي الِامْتِثَال (يُمكن بِغَيْرِهِ) أَي بِغَيْر الْمُبَاح كالواجب (ونلتزمه) أَي وجوب النِّيَّة (فِي مُقَدّمَة هِيَ عبَادَة) لَا مُطلقًا (وَكَذَا قَوْله) أَي النَّافِي (لَو كَانَ) مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب وَاجِبا (لزم تعقله) أَي مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب (للْآمِر) لِامْتِنَاع طلب الشَّيْء بِدُونِ تعقله (وَالْقطع) حَاصِل (بنفيه) أَي نفي لُزُوم تعقله، لِأَن الْآمِر بالشَّيْء رُبمَا يذهل عَمَّا يتَوَقَّف عَلَيْهِ ذَلِك الشَّيْء عِنْد الْأَمر بِهِ (مَمْنُوع الْمُلَازمَة لِأَنَّهُ) أَي لُزُوم تعقل الْآمِر إِنَّمَا هُوَ (فِي الْوَاجِب أَصَالَة) أما فِي إِيجَاب الشَّيْء بتبعية غَيره فَلَا، وَلما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال: وَهُوَ أَنه لَو وَجب مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب بِإِيجَاب الْوَاجِب من غير أَن يتعقله الْآمِر للَزِمَ وُجُوبه بِلَا تعلق الْخطاب أجَاب عَنهُ بقوله (وَلُزُوم الْوُجُوب بِلَا تعلق) الْخطاب بِهِ (مَمْنُوع لما نذْكر) قَرِيبا (فَإِن دفع) منع تعقل الْأَمر (بِأَن المُرَاد) بقوله لَو كَانَ لزم تعقله لَهُ (إِذْ لَو دلّ) دَلِيله عَلَيْهِ (لعقل) وَذَلِكَ لِأَن المُرَاد بقوله لَو كَانَ لوَجَبَ بِهِ ووجوبه بِهِ حَاصله كَونهمَا مفادين بِإِيجَاب وَاحِد فَيلْزم تعقلهما مَعًا من ذَلِك الْإِيجَاب (وَإِذا لم يعقل لم يدل فَلَا إِيجَاب بِهِ) أَي بِدَلِيل الْوَاجِب (ووجوبه) أَي وجوب مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوَاجِب (بِغَيْرِهِ) أَي بِغَيْر دَلِيل الْوَاجِب (لَيْسَ الْكَلَام فِيهِ) فَقَوله وَلُزُوم الْوَاجِب إِلَى آخِره إبِْطَال للسند الْمسَاوِي للْمَنْع إِذْ لَا يخلص من لُزُوم تعقل الْآمِر إِلَّا بِهِ فَهُوَ إثباب للمقدمة الممنوعة، وَلذَا أورد عَلَيْهِ الْمَنْع وَقَوله فَإِن دفع جَوَاب بتحرير الدَّلِيل على وَجه لَا يرد عَلَيْهِ الْمَنْع فَقَوله (قُلْنَا) إِلَى آخِره إبِْطَال لما حرر بِهِ على وَجه يصير دَلِيلا للْأَكْثَر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (و) مقولنا هَذَا (هُوَ الدَّلِيل الْحق للْأَكْثَر أَن الدّلَالَة على) رَأْي (الْأُصُولِيِّينَ لَا تخْتَص باللوازم الْبَيِّنَة بالأخص) أَي لَا يلْزم فِيهَا أَن يكون الْمَدْلُول لَازِما بَينا بِالْمَعْنَى الْأَخَص وَهُوَ أَن تَحْصِيل اللَّازِم فِي الذِّهْن كلما يحصل الْمَلْزُوم فِيهِ بل يكفى فِيهَا أَن يكون لَازِما بَينا بِالْمَعْنَى الْأَعَمّ وَهُوَ أَن يكون تصور الْمَلْزُوم وَاللَّازِم كَافِيا فِي الْجَزْم باللزوم بَينهمَا، وَلَا شكّ فِي دلَالَة دَلِيل الْوُجُوب عَلَيْهِ بِهَذَا النَّوْع من الْوَاجِب الدّلَالَة (وَتقدم فِي) بحث (مَفْهُوم الْمُوَافقَة) كفهم حُرْمَة الضَّرْب من حُرْمَة التأفيف (أَن دلَالَته) أَي مفهومها (قد تكون نظرية وَيجْرِي فِيهَا) أَي فِي دلالتها (الْخلاف) بِأَن يُؤَدِّي نظر مُجْتَهد إِلَى إِثْبَاتهَا وَنظر آخر إِلَى نَفيهَا فَلَا يبعد وُقُوع الْخلاف فِي دلَالَة دَلِيل الْوُجُوب عَلَيْهِ (فعلى مَا علم مُقَدّمَة) أَي فدلالة دَلِيل الْوَاجِب على مَا علم كَونه مُقَدّمَة (من) ملزوم (مَا هِيَ) أَي الْمُقدمَة (لَهُ) لتوقفه عَلَيْهَا (أظهر) خبر الْمُبْتَدَأ الْمَحْذُوف الْمَذْكُور: أَعنِي دلَالَته، والملزوم هُوَ الشَّارِع، وَالْمعْنَى إِذا اعْتبر دلَالَة اللَّفْظ

(2/217)


فِي مَفْهُوم الْمُوَافقَة مَعَ نظريتها فدلالته على مَا علم كَونه مَوْقُوفا عَلَيْهِ شرعا من قبل الْمَلْزُوم الَّذِي أوجب مَدْلُوله الصَّرِيح أظهر من دلَالَة مَفْهُوم الْمُوَافقَة الَّذِي لم يعلم من الشَّارِع توقف مَدْلُوله الصَّرِيح عَلَيْهِ أَن طلب الْمُتَكَلّم من الْمَأْمُور فعلا جعل صِحَّته مَوْقُوفَة على فعل آخر وَعلم مِنْهُ ذَلِك طلب لَهما جَمِيعًا وَهُوَ ظَاهر. هَذَا، وَفسّر الشَّارِح الْمَلْزُوم بِاللَّفْظِ وَلَا يخفى مَا فِيهِ (وَفرع عَلَيْهِ) أَي على وجوب الْمُقدمَة بِوُجُوب مَا هِيَ مُقَدّمَة لَهُ (تَحْرِيم) الزَّوْجَة (إِذا اشتبهت بالأجنبية) لِأَن الْكَفّ عَن الْأَجْنَبِيَّة وَاجِب، وَلَا يحصل الْعلم بِهِ إِلَّا بالكف عَن الزَّوْجَة فَيجب الْكَفّ عَنْهَا لتيقن الْكَفّ عَن الْأَجْنَبِيَّة، كَذَا ذكره الشَّارِح.
وَأَنت خَبِير بِأَن هَذَا إِنَّمَا يتم إِذا كَانَ التيقن بِالْخرُوجِ عَن عُهْدَة الْوَاجِب وَاجِبا، أما إِذا كَانَ الظَّن بِالْخرُوجِ الْمَذْكُور كَافِيا وَغلب على ظَنّه أَنَّهَا زَوجته فَلَا تحرم فَتَأمل.
مسئلة

(يجوز تَحْرِيم أحد أَشْيَاء) مُعينَة (كإيجابه) أَي أحد الْأَشْيَاء إِلَّا أَن التَّخْيِير هُنَا فِي التروك وَهُنَاكَ فِي الْأَفْعَال (فَلهُ) أَي الْمُكَلف (فعلهَا) أَي الْأَشْيَاء (إِلَّا وَاحِدًا لَا جمعهَا فعلا) بِأَن يفعل جميل تِلْكَ الْأَشْيَاء لِئَلَّا يكون فَاعِلا للْمحرمِ كَمَا أَنه هُنَاكَ لَيْسَ لَهُ تَركهَا جَمِيعًا لِئَلَّا يكون تَارِكًا للْوَاجِب، وَله أَن يَتْرُكهَا جَمِيع كَمَا أَن لَهُ أَن يَفْعَلهَا جَمِيعًا هُنَاكَ (وفيهَا) أَي فِي هَذِه المسئلة من الْأَقْوَال مثل (مَا تقدم) فِي الْوَاجِب الْمُخَير، فَقيل الْمحرم وَاحِد مِنْهَا لَا بِعَيْنِه، وَقيل يحرم جَمِيعهَا فيعاقب بِفِعْلِهَا عِقَاب فعل الْمُحرمَات ويثاب بِتَرْكِهَا ثَوَاب ترك الْمُحرمَات وَيسْقط تَركهَا الْوَاجِب بترك وَاحِد مِنْهَا، وَقيل الْمحرم مَا يختاره الْمُكَلف للترك مِنْهَا فيختلف باخْتلَاف الِاخْتِيَار، وَفِي الشَّرْح زِيَادَة تَفْصِيل فِيهَا، هَذَا وَزعم بعض الْمُعْتَزلَة أَنه لم يرد فِي اللُّغَة النَّهْي عَن وَاحِد من أَشْيَاء مُعينَة، ورد بِالْمَنْعِ حَتَّى أَنه لَوْلَا الْإِجْمَاع عَن النَّهْي عَن طَاعَة الْجَمِيع فِي قَوْله تَعَالَى - {وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفورا} - لم تحمل الْآيَة على ذَلِك (فتفريع تَحْرِيم الْكل) أَي زَوْجَاته (فِي قَوْله لزوجاته إحداكن طَالِق) على هَذَا الأَصْل (مناقضة لهَذَا الأَصْل) إِذْ من حكمه أَن لَهُ فعلهَا إِلَّا وَاحِدًا فتحريم الْكل منَاف لَهُ (بِخِلَاف) تَحْرِيم الزَّوْجَة فِي (الِاشْتِبَاه) بأجنبية فَإِنَّهُ لَا مناقضة فِيهِ لهَذَا الأَصْل، إِذْ لَيْسَ تَحْرِيم الزَّوْجَة مَعَ الْأَجْنَبِيَّة بِسَبَب تَحْرِيم أَحدهمَا، وَإِنَّمَا (حرمت الزَّوْجَة لاحتمالها) أَي الزَّوْجَة (الْمُحرمَة احْتِيَاطًا وَلَا احْتِمَال فِي الْوَاحِدَة الْمَوْطُوءَة هُنَا لِأَن مُوجبه) أَي إحداكن طَالِق (ترك وَاحِدَة) لَا على التَّعْيِين (وَقد فعل) إِذا وطئهن إِلَّا وَاحِدَة (إِلَّا أَن يعين) إِحْدَاهُنَّ للطَّلَاق (وينسى) الْمعينَة (فكالاشتباه) أَي فيحرمن احْتِيَاطًا لاحْتِمَال أَن يكون كل

(2/218)


مِنْهُنَّ الْمُحرمَة كَمَا فِي مسئلة الِاشْتِبَاه، فِي الْمَحْصُول إِذا قَالَ أحدا كَمَا طَالِق يحْتَمل أَن يُقَال بِبَقَاء حل وطئهما لِأَن الطَّلَاق شَيْء معِين فَلَا يحصل إِلَّا فِي مَحل معِين، فَإِذا لم يعين لَا يَقع بل الْوَاقِع أَمر لَهُ صَلَاحِية التَّأْثِير فِي الطَّلَاق عِنْد التَّعْيِين، وَمِنْهُم من قَالَ حرمنا جَمِيعًا إِلَى وَقت الْبَيَان تَغْلِيبًا لجَانب الْحُرْمَة، وَجزم الْبَيْضَاوِيّ بِهَذَا تَفْرِيعا على وجوب الْمُقدمَة الَّتِي يتَوَقَّف عَلَيْهَا الْعلم بالإتيان بِالْوَاجِبِ.
مسئلة

(لَا يجوز فِي) الْفِعْل (الْوَاحِد بالشخص والجهة وُجُوبه وحرمته بإطباق مانعي تَكْلِيف الْمحَال وَبَعض المجيزين) لَهُ (لتَضَمّنه) أَي جَوَاز اجْتِمَاعهمَا فِيهِ (الحكم بِجَوَاز التّرْك) إِذْ الْحَرَام يجب تَركه، وَفِي ضمن الْوُجُوب يتَحَقَّق الْجَوَاز الْمُطلق بِمَعْنى الْإِذْن (وَعَدَمه) أَي عدم جَوَاز التّرْك إِذْ الْوَاجِب لَا يجوز تَركه (وَيجوز) اجْتِمَاعهمَا (فِي) الْوَاحِد الشخصي (ذِي الْجِهَتَيْنِ) الْغَيْر المتلازمتين فَيجب بأحداهما وَيحرم بِالْأُخْرَى (كَالصَّلَاةِ فِي) الأَرْض (الْمَغْصُوبَة عِنْد الْجُمْهُور) فَتجب لكَونهَا صَلَاة وَتحرم لكَونهَا غصبا (خلافًا لِأَحْمَد وَأكْثر الْمُتَكَلِّمين والجبائي فَلَا تصح) أَي فأنهم قَالُوا لَا تصح الصَّلَاة فِي الْمَغْصُوبَة (فَلَا يسْقط الطّلب) بِفِعْلِهَا فِيهَا (و) خلافًا (للْقَاضِي أبي بكر) فَإِنَّهُ قَالَ (لَا تصح) الصَّلَاة (وَيسْقط) الطّلب بِفِعْلِهَا (لنا الْقطع فِيمَن أَمر بخياطة) وَأمر بِأَنَّهُ (لَا) يَفْعَلهَا (فِي مَكَان كَذَا فخاطه) أَي الثَّوْب (فِيهِ) أَي فِي ذَلِك الْمَكَان (أَنه) أَي بِأَنَّهُ، فَإِنَّهُ مُتَعَلق بِالْقطعِ (مُطِيع عَاص للجهتين) لِأَنَّهُ ممتثل لأمر الْخياطَة غير ممتثل للنَّهْي عَن ذَلِك الْمَكَان، فَكَذَا فِيمَا نَحن فِيهِ مُطِيع من جِهَة أَنه غصب (وَلِأَنَّهُ) أَي اجْتِمَاع الْوُجُوب وَالْحُرْمَة (لَو امْتنع فلاتحاد الْمُتَعَلّق) أَي فَإِنَّمَا يمْتَنع لِاتِّحَاد متعلقهما (وَالْقطع بالتعدد) هُنَا (فَإِن مُتَعَلق الْأَمر) بِالصَّلَاةِ (الصَّلَاة و) مُتَعَلق (النَّهْي) عَن إيقاعها فِي الْمَغْصُوبَة (الْغَصْب) فَفِيهِ مُسَامَحَة، إِذْ الْمنْهِي الْإِيقَاع فِي الْمَغْصُوبَة لَا للغصب (جَمعهمَا) أَي المتعلقين الْمُكَلف بامتثاله الْأَمر وَترك امتثاله النَّهْي (مَعَ إِمْكَان الانفكاك) بِأَن يفعل الْمَأْمُور بِهِ وَلَا يفعل الْمنْهِي عَنهُ فَيصَلي فِي غير الْمَغْصُوبَة (وَأَيْضًا لَو امْتنع) الْجمع بَين الْوُجُوب وَالْحُرْمَة فِي الْوَاحِد (امْتنع صِحَة صَوْم مَكْرُوه وَصَلَاة) مَكْرُوهَة، لِأَن الْوُجُوب كَمَا يضاد التَّحْرِيم يضاد الْكَرَاهَة إِذْ لَا مَانع إِلَّا التضاد وَاللَّازِم بَاطِل لثُبُوت كَرَاهَة كثير من الصَّلَاة وَالصَّوْم (وَدفعه) أَي هَذَا الدَّلِيل كَمَا ذكره ابْن الْحَاجِب وَغَيره (باتحاد مُتَعَلق الْأَمر وَالنَّهْي هُنَا) أَي فِي الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة (وَهُوَ) أَي متعلقهما (الْكَوْن فِي الحيز) وَهُوَ حُصُول الْجَوْهَر فِي حيزه لِأَن حُصُول الْمصلى فِي ذَلِك الْمَكَان جُزْء

(2/219)


من الصَّلَاة الْمَأْمُور بهَا وَنَفس الْغَصْب الْمنْهِي عَنهُ (بِخِلَاف الْمَكْرُوه) من الصَّوْم وَالصَّلَاة لعدم اتِّحَاد مُتَعَلق الْوُجُوب وَالْكَرَاهَة فِيهِ (فَإِن فرض) الْمَكْرُوه (كَذَلِك) أَي أَن مُتَعَلق الْأَمر وَالنَّهْي مُتحد (منع صِحَّته) أَي الْمَكْرُوه (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يفْرض كَذَلِك (لم يفد) صِحَة الْمَطْلُوب لِأَن الْكَلَام فِيمَا إِذا اتَّحد متعلقهما (يُنَاقض جوابهما الْآتِي) قَرِيبا كَمَا سَيظْهر من تَجْوِيز اجْتِمَاعهمَا مَعَ اتِّحَاد الْمُتَعَلّق باخْتلَاف الْجِهَة وَهُوَ خبر قَوْله وَدفعه إِلَى آخِره (بل لَيْسَ فِيهَا) أَي فِي الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة وَفِي الصَّلَاة الْمَكْرُوهَة وَفِي الصَّوْم الْمَكْرُوه (تحتم منع) أَي لَيْسَ فِيهَا نهي مَقْطُوع بِهِ، وَإِلَّا لما كَانَ للِاجْتِهَاد مساغ فَمن حَيْثُ أَنه فعل وَاحِد مُتَضَمّن لأمر مَنْهِيّ يظنّ كَونه مَنْهِيّا مُطلقًا وَمن حَيْثُ أَنه امْتِثَال لأمر إيجابي وَالنَّهْي بِاعْتِبَار بعض جهاته يظنّ أَنه لَيْسَ بمنهي مُطلقًا، وَإِذا لم يقطع بِالْمَنْعِ (فَلَا يُنَافِي) كَونه مَمْنُوعًا من وَجه (الصِّحَّة) بِاعْتِبَار الْجِهَة الَّتِي يُؤَدِّي بهَا الْوَاجِب (فالمانع) من الصِّحَّة فِي الْوَاحِد الشخصي الْمَذْكُور (خُصُوص تضَاد) وَهُوَ فِيمَا إِذا لم يكن فِيهِ اخْتِلَاف الْجِهَة، وَقَالَ الشَّارِح: فالمانع من الْجمع بَينهمَا فِي وَاحِد شخصي ذِي جِهَتَيْنِ خُصُوص تضَاد وَهُوَ الْمَنْع المتحتم الْقطعِي عَن الشَّيْء وَالْأَمر بِهِ وَلَا يخفى مَا فِيهِ (لَا مطلقه) أَي التضاد سَوَاء اخْتلفت الْجِهَة أَو اتّحدت (وَالِاسْتِدْلَال) للمختار بِأَنَّهُ (لَو لم تصح) الصَّلَاة فِي الْمَغْصُوبَة (لم يسْقط) التَّكْلِيف بهَا (وَهُوَ) أَي عدم سُقُوطه (مُنْتَفٍ) قَالَ القَاضِي (للْإِجْمَاع السَّابِق) على ظُهُور الْمُخَالف وَهُوَ أَحْمد وَمن وَافقه على سُقُوطه فَالصَّلَاة صَحِيحَة، ثمَّ الِاسْتِدْلَال مُبْتَدأ خَبره (دفع بِمَنْع صِحَة نَقله) أَي الْإِجْمَاع كَمَا قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ لَو كَانَ إِجْمَاع لعرفه أَحْمد لِأَنَّهُ أعرف بِهِ من القَاضِي لِأَنَّهُ أقرب زَمَانا من السّلف، وَلَو عرفه لما خَالفه فَانْدفع قَول الْغَزالِيّ الْإِجْمَاع حجَّة على أَحْمد (قَالُوا) أَي القَاضِي والمتكلمون (لَو صحت) الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة (كَانَ) كَونهَا صَحِيحَة (مَعَ اتِّحَاد الْمُتَعَلّق) لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي (لِأَن الصَّلَاة حركات وسكنات وهما) أَي الحركات والسكنات (شغل حيّز) فهما مَأْمُور بهما (وشغله) أَي الحيز ظلما هُوَ (الْغَصْب) وَهُوَ مَنْهِيّ عَنهُ (أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي متعلقهما وَاحِد لَكِن (بجهتين فَيُؤْمَر بِهِ بِاعْتِبَار أَنه صَلَاة وَينْهى عَنهُ لِأَنَّهُ غصب) وَهَذَا هُوَ الْجَواب الَّذِي ذكره المُصَنّف أَن مَا تقدم من الدّفع يناقضه (وألزم) على القَوْل بِصِحَّة الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة بِنَاء على تعدد الْجِهَة (صِحَة صَوْم) يَوْم (الْعِيد) لكَونه مَأْمُورا بِهِ حَيْثُ أَنه صَوْم، مَنْهِيّا عَنهُ من حَيْثُ أَنه فِي يَوْم الْعِيد (وَالْجَوَاب بتخصيص الدَّعْوَى) وَهُوَ جَوَاز اجْتِمَاعهمَا فِي الْوَاحِد الشخصي فِي ذى الْجِهَتَيْنِ (بِمَا يُمكن فِيهِ انفكاكهما أَي الْجِهَتَيْنِ بِأَن لَا يتلازم جِهَة الْوُجُوب وَالتَّحْرِيم كَمَا هُوَ فِي الخلافية إِذْ كل من جِهَة الصلاتية والغصبية لَا يسْتَلْزم الْأُخْرَى فَإِنَّهُ يتَحَقَّق الصَّلَاة بِلَا غصب بِخِلَاف صَوْم يَوْم

(2/220)


الْعِيد فَإِنَّهُ كَونه صوما وَهُوَ المجوز لَا يَنْفَكّ عَن كَونه فِي يَوْم الْعِيد وَهُوَ الْمحرم فَإِن قلت خُصُوصِيَّة كَونه فِي الْعِيد اعْتبرت فِي جِهَة الصَّوْم فَقلت بِعَدَمِ الانفكاك فَلَو لم تعْتَبر خُصُوصِيَّة مَكَان الصَّلَاة فِي جِهَة الصَّلَاة فِي الخلافية فَيلْزم عدم الانفكاك وَإِن قطعت النّظر عَن خُصُوصِيَّة الْمَكَان فِي الخلافية لم يقطع النّظر عَن خُصُوصِيَّة الزَّمَان فِي الصَّوْم الْمَذْكُور فَإِنَّهُ يتَحَقَّق حِينَئِذٍ صَوْم بِلَا جِهَة مُحرمَة قلت المُرَاد تحقق الْجِهَتَيْنِ مَعًا، وَفِي الصَّوْم الْمَذْكُور لَا يُمكن تحقق جِهَة الصَّوْم الشخصي بِلَا محرم مَعَ جِهَة كَونه فِي يَوْم الْعِيد مثلا لكَون الزَّمَان جُزْءا من حَقِيقَة الصَّوْم وَعدم كَون الْمَكَان جُزْءا بل حَقِيقَة الصَّوْم وَعدم كَون الْمَكَان جُزْءا من حَقِيقَة الصَّلَاة فَتَأمل (و) أُجِيب (بِأَن نهي التَّحْرِيم ينْصَرف) قبحه (إِلَى الْعين) أَي عين الْمنْهِي عَنهُ والقبيح لعَينه لَا يكون لَهُ صِحَة فَيجب القَوْل بِهِ (إِلَّا لدَلِيل) يُفِيد خِلَافه (وَقد وجدت إطلاقات) مفيدة للصِّحَّة (فِي) حق (الصَّلَاة) فبعمومها يَشْمَل صِحَة الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة (أوجبته لخارج) أَي لوصف خَارج عَن ذَات الْمنْهِي عَنهُ: إِذْ لَو كَانَ لعَينه لاقتضت عدم الصِّحَّة، ولزمت المدافعة بَين تِلْكَ الإطلاقات وَالنَّهْي الْمَذْكُور (وَإِجْمَاع غير أَحْمد) على صِحَة الصَّلَاة فِي الْمَغْصُوبَة (لَا فِي الصَّوْم) أَي بِخِلَاف الصَّوْم فِي يَوْم الْعِيد فَإِنَّهُ لم يقم دَلِيل صَارف عَن ظَاهر بُطْلَانه، بل وَقع الِاتِّفَاق على ذَلِك: كَذَا ذكره الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ (وَلَا يخفى مَا فِيهِ) أَي فِي الْفرق الْمَذْكُور فَإِنَّهُ وجد فِي الصَّوْم إطلاقات أَيْضا إِلَّا أَن يفرق بِاعْتِبَار إِجْمَاع غير أَحْمد على أَن الْحَنَفِيَّة يصححون نَذره وَأَنه لَو صَامَهُ خرج عَن عُهْدَة النّذر وَإِن أوجبوا عَلَيْهِ الْإِفْطَار ثمَّ الْقَضَاء، ثمَّ أَشَارَ إِلَى فرق آخر بقوله (وَلِأَن منشأ الْمصلحَة والمفسدة) فِي الصَّلَاة فِي الْمَغْصُوبَة وَهُوَ كَونه مُطيعًا من جِهَة أَنه غصب (مُتَعَدد، بِخِلَاف صَوْم الْعِيد) فَإِن الْجِهَة الَّتِي يتَوَهَّم فِيهَا الإطاعة هُوَ الصَّوْم الْخَاص هِيَ بِعَينهَا مَنْهِيّ عَنْهَا (وَقد يمْنَع) هَذَا (بل الشّغل) للحيز الَّذِي هُوَ الحركات والسكنات الْمَذْكُورَة، وَعين الْغَصْب (منشؤهما) أَي الْمصلحَة والمفسدة وَهُوَ مُتحد كَمَا سبق (هَذَا فَأَما الْخُرُوج) من الأَرْض الْمَغْصُوبَة (بعد توسطها ففقهي) أَي فالبحث عَن حكمه بحث فرعي (لَا أُصَلِّي) لِأَن الأصولي يبْحَث عَن أَحْوَال الْأَدِلَّة للْأَحْكَام، لَا عَن أَحْوَال أَفعَال الْمُكَلّفين فَإِنَّهُ وَظِيفَة الْفَقِيه (وَهُوَ) أَي الحكم الفرعي لَهُ (وُجُوبه) أَي الْخُرُوج مِنْهَا على قصد التَّوْبَة، وَنفي الْمعْصِيَة عَن نَفسه (فَقَط) أَي لَا وحرمته كَمَا هُوَ قَول أبي هَاشم أَنه مَأْمُور بِهِ، لِأَنَّهُ انْفِصَال عَن الْمكْث ومنهي عَنهُ لِأَنَّهُ تصرف فِي ملك الْغَيْر (واستبعد اسْتِصْحَاب الْمعْصِيَة للْإِمَام) فِي الشَّرْح العضدي: من توَسط أَرضًا مَغْصُوبَة فحط الأصولي فِيهِ بَيَان امْتنَاع تعلق الْأَمر وَالنَّهْي مَعًا بِالْخرُوجِ، وَبَيَان خطأ أبي هَاشم فِي قَوْله بتعلقهما مَعًا بِالْخرُوجِ، فَإِذا تعين الْخُرُوج لِلْأَمْرِ دون

(2/221)


النَّهْي بِدَلِيل يدل عَلَيْهِ، فالقطع يَنْفِي الْمعْصِيَة عَنهُ إِذا خرج بِمَا هُوَ شَرطه فِي الْخُرُوج من السرعة والسلوك لأَقْرَب الطّرق وأقلها ضَرَرا: إِذْ لَا مَعْصِيّة بإيقاع الْمَأْمُور بِهِ الَّذِي لَا نهي عَنهُ. قَالَ الإِمَام باستصحاب حكم الْمعْصِيَة عَلَيْهِ مَعَ إِيجَاب الْخُرُوج وَهُوَ بعيد: إِذْ لَا مَعْصِيّة إِلَّا بِفعل مَنْهِيّ أَو ترك مَأْمُور بِهِ، وَقد سلم انْتِفَاء تعلق النَّهْي بِهِ فانتهض الدَّلِيل عَلَيْهِ فَإِن قيل فِيهِ الجهتان، فَيتَعَلَّق الْأَمر بإفراغ ملك الْغَيْر، وَالنَّهْي بِالْغَصْبِ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة سَوَاء قُلْنَا غلط، لِأَنَّهُ لَا يُمكن الِامْتِثَال فَيلْزم تَكْلِيف الْمحَال، بِخِلَاف صَلَاة الْغَصْب فَإِنَّهُ يُمكن الِامْتِثَال، وَإِنَّمَا جَاءَ الِاتِّحَاد بِاخْتِيَار الْمُكَلف انْتهى، فالمستبعد ابْن الْحَاجِب وَغَيره، والمستصحب إِمَام الْحَرَمَيْنِ، واستصحاب الْمعْصِيَة عبارَة عَن إبْقَاء حكمهَا عَلَيْهِ مَعَ إِيجَاب الْخُرُوج بِنَاء على أَن الِاسْتِيلَاء على ملك الْغَيْر بِالدُّخُولِ لم يزل مَا لم يتم الْخُرُوج، وَوجه الاستبعاد مَا أَشَارَ بقوله (إِذْ لَا نهي عَنهُ) أَي عَن الْخُرُوج بتوبة وَلَا مَعْصِيّة إِلَّا بِفعل نهي أوترك مَأْمُور بِهِ، وَقد اعْترف بِانْتِفَاء تعلق النَّهْي بِالْخرُوجِ (وثبوتها) أَي الْمعْصِيَة (بِلَا نهي) أَي فعل مَنْهِيّ عَنهُ أَو ترك مَأْمُور بِهِ (كَقَوْلِه) أَي إِمَام الْحَرَمَيْنِ (مَمْنُوع) قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: وَإِنَّمَا حكمُوا بالاستبعاد دون الاستحالة، لِأَن الإِمَام لَا يسلم أَن دوَام الْمعْصِيَة لَا يكون إِلَّا بِفعل مَنْهِيّ عَنهُ أَو ترك مَأْمُور بِهِ: بل ذَاك فِي ابتدائها خَاصَّة. وَقَالَ الْأَبْهَرِيّ: وَإِذا عصى الْمُكَلف بِفعل شخص آخر هُوَ مسبب عَن فعله على مَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " من سنّ سنة سَيِّئَة فَعَلَيهِ وزرها ووزر من عمل بهَا " لم يستبعد مَعْصِيَته لفعل لَهُ غير مُكَلّف بِهِ هُوَ مسبب عَن فعله الِاخْتِيَارِيّ، وَأَشَارَ إِلَى وَجه قَول أبي هَاشم، ورده بقوله (وادعاء جهتي التَّفْرِيع) لملك الْغَيْر بِالْخرُوجِ (وَالْغَصْب) بمروره فِي ملك الْغَيْر (فيتعلقان) أَي الْأَمر وَالنَّهْي (بِهِ) أَي بِالْخرُوجِ، وَقَوله فيتعلقان مَعْطُوف على ادِّعَاء إِمَّا بِتَأْوِيل فِي جَانب الْمَعْطُوف عَلَيْهِ كَأَنَّهُ قَالَ مُخْتَلف الْجِهَتَيْنِ فيتعلقان، أَو فِي جَانب الْمَعْطُوف: أَي فتعلقهما بِهِ، وَخبر الْمُبْتَدَأ (يلْزمه) أَي الادعاء المستعقب للتعلق (عدم إِمْكَان الِامْتِثَال) لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي، لِأَن جِهَة التَّفْرِيع لَا تنفك عَن جِهَة الْغَصْب، وَحِينَئِذٍ (فتكليف بالمحال) إِذْ مَعْنَاهُ طلب الْخُرُوج وَعَدَمه (بِخِلَاف صَلَاة الْغَصْب فَإِنَّهُ يُمكن) الِامْتِثَال لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي فِيهَا لِإِمْكَان انفكاك جهتيهما فِيهَا كَمَا تقدم.
مسئلة

(اخْتلف فِي لفظ الْمَأْمُور بِهِ فِي الْمَنْدُوب) أَي فِي أَن تَسْمِيَته بِهِ حَقِيقَة أَو مجَاز (قيل) كَمَا فِي الشَّرْح العضدي نقلا (عَن الْمُحَقِّقين) أَن تَسْمِيَته بِهِ (حَقِيقَة، و) قَالَ (الْحَنَفِيَّة وَجمع من الشَّافِعِيَّة مجَاز، وَيجب كَون مُرَاد الْمُثبت) للْحَقِيقَة (أَن الصِّيغَة) أَي صِيغَة الْأَمر (فِي النّدب يُطلق

(2/222)


عَلَيْهَا لفظ أَمر حَقِيقَة بِنَاء على عرف النُّحَاة فِي أَن الْأَمر) يَعْنِي أَمر اسْم (للصيغة الْمُقَابلَة لصيغة الْمَاضِي وأخيه) أَي وَصِيغَة الْمُضَارع حَال كَون الصِّيغَة الْمَذْكُورَة صفة لمتعلقه (مستعملة فِي الْإِيجَاب أَو غَيره) كالندب وَالْإِبَاحَة (فتعلقه) أَي مُتَعَلق الْأَمر الَّذِي هُوَ إِبَاحَة عَن الصِّيغَة الْمَذْكُورَة (الْمَنْدُوب) صفة لمتعلقه وَخَبره (مَأْمُور بِهِ حَقِيقَة) إِذْ قد عرفت أَن مبدأ الِاشْتِقَاق وَهُوَ الْأَمر حَقِيقَة فِي الصِّيغَة المستعملة فِي النّدب، فالندب أَمر وَمن ضَرُورَته كَون الْفِعْل الْمَنْدُوب مَأْمُورا بِهِ حَقِيقَة فَإِن قلت لَا نسلم أَنه يلْزم من كَون صِيغَة النّدب مُسَمّى بِلَفْظ أَمر كَون مُتَعَلق مَدْلُول الصِّيغَة مَأْمُورا بِهِ فَالْجَوَاب أَن المُرَاد بالمأمور بِهِ مَا تعلق بِهِ مَدْلُول الْأَمر بِهِ بِحَسب الِاصْطِلَاح (والنافي) للحنفية بنى نَفْيه (على مَا ثَبت) من (أَن الْأَمر خَاص فِي الْوُجُوب وَالْمرَاد بِهِ) أَي بِالْأَمر الْمَحْكُوم عَلَيْهِ بِأَنَّهُ خَاص (فِي الصِّيغَة) كافعل ونظائره فَإِن قلت إِذا لَا خلاف إِذا مُرَاد الْمُثبت أَن لفظ الْأَمر حَقِيقَة فِي النّدب وَغَيره على عرف النُّحَاة، وَمُرَاد النَّافِي أَن صِيغَة افْعَل كصم وصل حَقِيقَة فِي الْوُجُوب مجَاز فِي النّدب لَا أَن لفظ الْأَمر مجَاز فِي صِيغَة النّدب، وَقَوله (وَهُوَ) أَي نفي الْحَنَفِيَّة (أوجه) يدل على الْخلاف كَمَا أَن قَوْله اخْتلف الخ صَرِيح فِيهِ قلت الَّذِي يَقُول أَن صِيغَة افْعَل خَاص فِي الْوُجُوب يَقُول أَن لفظ أَمر أَيْضا مَخْصُوص بالصيغة الْمَخْصُوصَة بِالْوُجُوب وَلَا يُطلق عِنْده لفظ الْأَمر على الصِّيغَة المستعملة فِي النّدب حَقِيقَة فَلَيْسَ الْمَنْدُوب عِنْده مَأْمُورا بِهِ ثمَّ بَين كَونه أوجبه بقوله (لابتنائه) أَي النَّفْي على الأَصْل (الثَّابِت لُغَة) وَهُوَ أَن لفظ الْأَمر خَاص بالصيغة المستعملة فِي الْوُجُوب، ومدار الْأَحْكَام المستنبطة من الْكتاب وَالسّنة على اللُّغَة (وابتناء الأول) وَهُوَ أَن الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ حَقِيقَة (على الِاصْطِلَاح) للنحاة وَهُوَ أَن الصِّيغَة لما هُوَ أَعم من الْوُجُوب (واستدلال الْمُثبت بِإِجْمَاع أهل اللُّغَة على انقسام الْأَمر إِلَى أَمر إِيجَاب وَأمر ندب) لَا يَصح على إِرَادَة ظَاهره (إِنَّمَا يَصح على إِرَادَة أهل الِاصْطِلَاح من النُّحَاة) لأهل اللُّغَة لما بَينهمَا من الْمُنَاسبَة (لِأَن مَا ثَبت من أَن الْأَمر خَاص فِي الْوُجُوب) على مَا مر من قبل النَّافِي (حكم اللُّغَة) فَكيف يتَصَوَّر إِجْمَاع أَهلهَا على خِلَافه، ثمَّ استدلالهم الْمَذْكُور بِاعْتِبَار ابتنائه على الِاصْطِلَاح (كاستدلالهم بِأَن فعله) أَي الْمَنْدُوب (طَاعَة وَهِي) أَي الطَّاعَة (فعل الْمَأْمُور بِهِ) وَفسّر الطَّاعَة فِي الْمَأْمُور بِهِ بقوله (أَي) فعل (مَا يُطلق عَلَيْهِ الْمَأْمُور) بِهِ (فِي الِاصْطِلَاح) النَّحْوِيّ فَقَوله فعل مصدر مَبْنِيّ للْفَاعِل وَمَا يُطلق عَلَيْهِ عبارَة عَن الْحَاصِل بِالْمَصْدَرِ كَسَائِر أَفعَال الْمُكَلّفين مِمَّا يَفْعَلُونَهُ لقصد الْقرْبَة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن مُرَادهم ذَلِك بل مَا يُطلق عَلَيْهِ فِي للغة (فعين النزاع) أى فَالْمُرَاد حِينَئِذٍ عين المنازع، إِذْ الْخصم لَا يسْتَلْزم أَن كل طَاعَة يُطلق عَلَيْهَا لفظ الْمَأْمُور بِهِ حَقِيقَة بل يُطلق على الْوَاجِبَة فَقَط (مَعَ أَنه) أَي هَذَا الِاسْتِدْلَال إِنَّمَا يتمشى (على تَقْدِير

(2/223)


اصْطِلَاح فِي الطَّاعَة) وَهُوَ أَن الطَّاعَة فعل الْمَأْمُور بِهِ مُطلقًا (وَهُوَ) أَي هَذَا الِاصْطِلَاح فِيهَا (مُنْتَفٍ للْقطع بِعَدَمِ تَسْمِيَة فعل المهدد عَلَيْهِ طَاعَة لأحد) أَي لَا يُقَال للْفِعْل الَّذِي تعلق بِهِ افْعَل على سَبِيل التهديد أَنه طَاعَة إِذا فعله المهدد عَلَيْهِ بل وَلَا يُقَال أَنه مَأْمُور بِهِ وَلَا أَنه أَمر بذلك الْفِعْل مَعَ صدق الْأَمر اصْطِلَاحا نحويا على صيغته وَاللَّازِم بَاطِل، وَقَوله لأحد إِمَّا صلَة طَاعَة وَإِمَّا مُتَعَلق بِتَسْمِيَة (وَإِلَّا) رُجُوع إِلَى أول الْبَحْث، وَالْمعْنَى وَإِن لم يكن مُرَاد الْمُثبت أَن الصِّيغَة فِي النّدب يُطلق عَلَيْهَا لفظ أَمر حَقِيقَة بِنَاء على عرف النُّحَاة بل على اللُّغَة (فَإِنَّمَا يَصح) كَونه مَأْمُورا بِهِ حَقِيقَة بِحَسب اللُّغَة بِنَاء (على أَن الصِّيغَة) الَّتِي هِيَ مُسَمّى لفظ أَمر (حَقِيقَة فِي النّدب مُشْتَركا) بَينه وَبَين الْإِيجَاب (أَو خَاصّا) للنَّدْب كَمَا هُوَ قَول الْبَعْض (وهم) أَي المثبتون (ينفونه) أَي كَونهَا مُشْتَركَة أَو خَاصَّة فِيهِ ويجعلونها حَقِيقَة فِي الْوُجُوب خَاصَّة فَلَا يكون الْمَنْدُوب مَأْمُورا بِهِ حَقِيقَة، وَحِينَئِذٍ (فاستدلال النَّافِي بِأَنَّهُ) أَي الْمَنْدُوب (لَو كَانَ مَأْمُورا) بِهِ (أَي حَقِيقَة لَكَانَ تَركه مَعْصِيّة) لما ثَبت أَن تَارِك الْمَأْمُور بِهِ عَاص (وَلما صَحَّ) قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " (لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ) عِنْد كل وضوء " كَمَا فِي صَحِيح ابْن خُزَيْمَة أَو عِنْد كل صَلَاة كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ندبهم إِلَى السِّوَاك، ثمَّ قَوْله اسْتِدْلَال النَّافِي مُبْتَدأ خبر (زِيَادَة) مِنْهُ غَيره مُحْتَاج إِلَيْهَا لتَمام الْمَطْلُوب بِمَا تقدم (وتأويله) لفظ الْأَمر فِي الحَدِيث وَمَا قبله (بِحمْلِهِ) أَي الْأَمر (على قسم خَاص هُوَ أَمر الْإِيجَاب) كَمَا ذكره ابْن الْحَاجِب وَغَيره مُخَالفَة للظَّاهِر (بِلَا دَلِيل، وَقَوْلهمْ) أَي المثبتين أَنه يُصَار إِلَى التَّأْوِيل الْمَذْكُور (لدليلنا) مَدْفُوع لِأَنَّهُ (ظهر أَنه) أَي دليلهم (لم يتم) حِينَئِذٍ فأخف الْأَمريْنِ على المثلين جعل الْخلاف لفظيا فالمثبت: يَعْنِي الِاصْطِلَاح النَّحْوِيّ وَلَا يُنكره النَّافِي، والنافي: يَعْنِي اللُّغَة وَلَا يَنْفِيه الْمُثبت، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَمثل هَذِه) الخلافية (فِي اللفظية) أَي فِي كَونهَا لفظية (الْخلاف فِي أَن الْمَنْدُوب مُكَلّف بِهِ، وَالصَّحِيح) الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور (عَدمه) أَي عدم كَونه مُكَلّفا بِهِ (خلافًا للأستاذ) أبي إِسْحَاق الاسفرايني وَالْقَاضِي، وَإِنَّمَا جعلنَا الْخلاف لفظيا (لدفع بعده) أَي بعد جعله معنويا: إِذْ يبعد من الْأُسْتَاذ وَغَيره اعْتِبَار التَّكْلِيف فِيهِ: إِذْ التَّكْلِيف إِلْزَام مَا فِيهِ مشقة وكلفة فيؤول كَلَامه (بِأَن المُرَاد) بقوله النّدب تَكْلِيف (إِيجَاب اعْتِقَاده) أَي اعْتِقَاد كَونه مَنْدُوبًا، وَإِن كَانَ التَّأْوِيل أَيْضا بَعيدا، لِأَن النّدب حكم وَوُجُوب الِاعْتِقَاد حكم آخر لكنه أخف من الأول، وَقيل كَون الْخلاف لفظيا بِاعْتِبَار تَفْسِير التَّكْلِيف، فَمن فسره بالإلزام الْمَذْكُور نَفَاهُ عَن الْمَنْدُوب، وَمن فسره بِطَلَب مَا فِيهِ كلفه أثْبته لَهُ وَالْمُصَنّف ذهب إِلَى الأول فَلَزِمَهُ كَون الْمُبَاح أَيْضا مُكَلّفا بِهِ من حَيْثُ الِاعْتِقَاد، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (إِلَّا أَن الْمُبَاح حِينَئِذٍ) أَي حِين يُرَاد بِكَوْنِهِ تكليفا إِيجَاب اعْتِقَاد ندبيته (تَكْلِيف) أَيْضا

(2/224)


لوُجُوب اعْتِقَاد إِبَاحَته (وَبِه) أَي بِكَوْن الْإِبَاحَة تكليفا (قَالَ) الْأُسْتَاذ (أَيْضا) وَمن سواهُ على أَنه لَيْسَ بتكليف (وَمثلهمَا) أَي الْمَنْدُوب والمباح من حَيْثُ الْخلاف فِي تعلق الْأَمر حَقِيقَة أَو مجَازًا وَفِي التَّكْلِيف، وَفِي كَون الْخلاف لفظيا (الْمَكْرُوه) فَهُوَ (مَنْهِيّ) عَنهُ (أَي اصْطِلَاحا) نحويا (وَحَقِيقَة مجَازًا لُغَة) لِأَن النَّهْي فِي الِاصْطِلَاح يُقَال على لَا تفعل استعلاء سَوَاء كَانَ على سَبِيل الحتم أَولا أما فِي اللُّغَة فَلَا يُقَال حَقِيقَة نهي عَن كَذَا إِلَّا إِذا منع عَنهُ، فالقائل حَقِيقَة يُرِيد الِاصْطِلَاح، وَالْقَائِل مجَاز يُرِيد اللُّغَة (وَأَنه) أَي الْمَكْرُوه (لَيْسَ تكليفا) عِنْد الْجُمْهُور لِأَنَّهُ لَيْسَ إِلْزَام مَا فِيهِ كلفة وتكليف عِنْد الْأُسْتَاذ (وَفِيهِمَا) أَي فِي مسئلتي الْمَكْرُوه هَاتين (مَا فيهمَا) أَي فِي مسئلتي الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ وَالْمَنْدُوب والمباح يُكَلف بهما (وَالْمرَاد) بالمكروه الْمَكْرُوه (تَنْزِيها) لِأَن الْمَكْرُوه تَحْرِيمًا لَا خلاف فِي أَنه تَكْلِيف (وَيُطلق) الْمَكْرُوه (على الْحَرَام و) على (خلاف الأولى مِمَّا لَا صِيغَة) نهى (فِيهِ) كَتَرْكِ الضُّحَى، وَهَذَا إِذا فرق بَين التنزيهية وَخلاف الأولى (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يفرق بَينهمَا نظر إِلَى الْمَآل (فالتنزيهية مرجعها إِلَيْهِ) أَي إِلَى خلاف الأولى، إِذْ حاصلها مَا تَركه أولى، والتفرقة مُجَرّد اصْطِلَاح (وَكَذَا يُطلق الْمُبَاح على مُتَعَلق) الْإِبَاحَة (الْأَصْلِيَّة) الَّتِي هِيَ عدم الْمُؤَاخَذَة بِالْفِعْلِ وَالتّرْك لما هُوَ من الْمَنَافِع لعدم ظُهُور تعلق الْخطاب (كَمَا) يُطلق الْمُبَاح أَيْضا (على مُتَعَلق خطاب الشَّارِع تخييرا، وَكِلَاهُمَا) أَي المتعلقين إِنَّمَا يعرفان (بعد الشَّرْع على مَا تقدم) فِي آخر المسئلة الثَّانِيَة من مسئلتي التنزل (أما الْمُعْتَزلَة فأعم من ذَلِك) أَي فالمباح عِنْدهم يُطلق على مَا هُوَ أَعم من مُتَعَلق الْأَصْلِيَّة والشرعية (والعقلية) إِذْ متعلقها عِنْدهم الْأَفْعَال الاخيتارية الَّتِي يدْرك الْعقل عدم اشتمالها على الْمصلحَة والمفسدة وَلم يتَعَلَّق بهَا خطاب لحكم الْعقل بِعَدَمِ الْحَرج فِي فعلهَا وَتركهَا (وَأما من جعله) أَي جَوَاز إِطْلَاق الْمُبَاح شرعا على مُتَعَلق غير الشَّرْعِيَّة وَهُوَ انْتِفَاء الْحَرج فِي الْفِعْل وَالتّرْك وَعدم جَوَاز ذَلِك (خلافًا فِي أَن لفظ الْمُبَاح هَل يُطلق فِي لِسَان الشَّرْع على غير ذَلِك) أَي غير مُتَعَلق خطاب الشَّارِع تخييرا. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: الْكَلَام فِي أَن الْمُبَاح عِنْد بعض الْمُعْتَزلَة مَا انْتَفَى الْحَرج فِي فعله وَتَركه، وَعِنْدنَا مَا تعلق خطاب الشَّارِع بذلك بِهِ (فَلَا حَاصِل لَهُ لِأَنَّهُ إِن أَرَادَ الشَّارِع فَلَا يعرف لَهُ) أَي الشَّارِع (اصْطِلَاح فِي الْمُبَاح أَو) أَرَادَ (أهل الِاصْطِلَاح الفقهي فَلَا خلاف برهانيا) بل هُوَ حِينَئِذٍ لَفْظِي مَبْنِيّ على الاصلاحى (ويرادف الْمُبَاح الْجَائِز وَيزِيد) عَلَيْهِ فِي الْإِطْلَاق (بِإِطْلَاقِهِ) أَي الْجَائِز (على مَا لَا يمْتَنع شرعا وَلَو) كَانَ ذَلِك (وَاجِبا ومكروها) أَي أَو مَكْرُوها فيطلق على الْمَنْدُوب والمباح بطرِيق أولى (و) على مَا لَا يمْتَنع (عقلا) وَهُوَ الْمُمكن الْعَام سَوَاء كَانَ (وَاجِبا أَو راجحا أَو قسيميه) أَي الرَّاجِح وهما الْمَرْجُوح

(2/225)


والمساوي، وَهَذَا أَعم من الأول مُطلقًا وَمن الثَّانِي من وَجه (كَمَا يُقَال الْمَشْكُوك على الموهوم)
مسئلة

(نفي الكعبي الْمُبَاح خلافًا لِلْجُمْهُورِ لِأَنَّهُ) أَي الْمُبَاح (ترك حرَام) فَإِن السُّكُوت ترك للقذف، وَالسُّكُوت ترك للْقَتْل (وَتَركه) أَي الْحَرَام (وَاجِب وَلَو) كَانَ (وَاجِبا مُخَيّرا) فِيهِ بَين أَن يَأْتِي بِوَاجِب وَغير وَاجِب كالمندوب وَالْمَكْرُوه تَنْزِيها، فَإِذا اخْتَار أَي وَاحِد مِنْهَا كَانَ وَاجِبا لكَونه ترك حرَام (فَانْدفع) بقوله وَلَو مُخَيّرا (منع تعين الْمُبَاح) على رَأْي الْجُمْهُور (للترك) لِلْحَرَامِ (لجوازه) أَي ترك الْحَرَام (بِوَاجِب) وَلَا يضر كَون الْوَاجِب الْمُخَير مُبْهما لما عرفت من خِصَال الْكَفَّارَة (ويورد) على الكعبي أَنه (لَيْسَ تَركه) أَي الْحَرَام (عين فعل الْمُبَاح) غَايَته أَنه لَا يحصل إِلَّا بِهِ كَمَا قَالَ الشَّارِح (وَأجَاب) الكعبي (بِأَن) هَذَا لَا يضر فَإِن (مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب) وَيرد عَلَيْهِ أَنه لَا نسلم أَنه لَا يتم الْوَاجِب الَّذِي هُوَ ترك الْحَرَام إِلَّا بِهِ لجَوَاز أَن يتَحَقَّق فِي ضمن وَاجِب أَو مَكْرُوه فَتَأمل (وَأورد) على هَذَا الدَّلِيل (أَنه مصادمة الْإِجْمَاع على انقسام الْفِعْل إِلَيْهِ) أَي الْمُبَاح (وباقيها) أَي أقسامها من الْوَاجِب وَالْحرَام وَالْمَكْرُوه وَالْمَنْدُوب فَلَا يسمع (فَأجَاب) الكعبي (بِوُجُوب تَأْوِيله) أَي الْإِجْمَاع على انقسام الْفِعْل فَإِنَّهُ منقسم إِلَيْهَا (بِاعْتِبَارِهِ) أَي انفعل (فِي ذَاته) أَي مَعَ قطع النّظر عَمَّا يستلزمه من كَونه يحصل بِهِ ترك حرَام (لَا بملاحظة مَا يلْزمه) أَي الْفِعْل من كَونه يحصل بِهِ ترك حرَام، وَإِنَّمَا أوّلناه (لقطعية دليلنا) الْمَذْكُور جمعا بَينه وَبَين الدَّلِيل الْقطعِي بِقدر الْإِمْكَان إِذْ الأَصْل فِي الْأَدِلَّة الْأَعْمَال لَا الإهمال (وَيتَعَيَّن كَونه) أَي هَذَا التَّأْوِيل (مُرَاد الْقَائِلين بِوُجُوب مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ) قَالَ الشَّارِح: قَالَ المُصَنّف رَحمَه الله: فَإِن قَوْلهم يَقْتَضِي وجوب مباحثات كَثِيرَة فَهُوَ يجر إِلَى مثل قَول الكعبي، فمرادهم أَن تِلْكَ الْمُقدمَات مُبَاحَة فِي ذَاتهَا وَلَكِن لَزِمَهَا الْوُجُوب لعَارض التَّوَصُّل إِلَى الْوَاجِب بهَا (فَإِن لُزُوم وجوب الْمعْصِيَة مُخَيّرا) مَا ذكره الكعبي إِسْنَاده إِلَى نقض إجمالي تَقْرِيره لَو صَحَّ مَا ذكره الكعبي لزم كَون الْمحرم إِذا ترك بِهِ محرما آخر: كاللواطة إِذا ترك بهَا الزِّنَا وَاجِبا. لِأَن هَذَا الْمحرم يتَحَقَّق بِهِ ترك الْحَرَام (فقد ذكر جَوَابه) وَهُوَ مَا ذكره فِي إِلْزَام حرق الْإِجْمَاع وَحَاصِله الْتِزَام كَونه حَرَامًا فِي نَفسه وَاجِبا لكَونه تركا للْمحرمِ (وَجَوَاب الْأَخيرينِ) أَي قَول الكعبي إِنَّمَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِب فِي جَوَاب قَول الْجُمْهُور لَيْسَ تَركه عين فعل الْمُبَاح وتأويله فِي مُقَابلَة إيرادهم عَلَيْهِ مصادمة الْإِجْمَاع (منع أَن مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ) فَهُوَ (وَاجِب) أما كَونه جَوَابا عَن الأول فَظَاهر، وَأما عَن التَّأْوِيل فَلِأَن المحوج إِلَيْهِ وجوب مَا لَا يتم

(2/226)


الْوَاجِب إِلَّا بِهِ (واقتصارهم) أَي الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين مِنْهُم على هَذَا الْمَنْع متجاوزين فِي الِاقْتِصَار (عَن آخِرهم) وَهَذَا على سَبِيل الْمُبَالغَة إِذْ لَا يُمكن التجاوز عَن الآخر، أَو الْمَعْنى عَن آخِرهم إِلَى أَوَّلهمْ بِجعْل الآخر ابْتِدَاء السلسلة من حَيْثُ التصاعد (يُنَادي بِانْتِفَاء دَفعه) أَي دفع قَول الكعبي (إِلَّا للنافي) كَون مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ وَاجِبا (وَلَيْسَ) هَذَا النَّفْي هُوَ (الْمَذْهَب الْحق) للفقهاء والمحدثين وَغَيرهم (وَلَا مخلص لأَهله) أَي الْحق عَن الكعبي فيلزمهم نفي الْمُبَاح رَأْسا (وَهُوَ) أَي الدّفع لقَوْل الكعبي (أقرب إِلَيْك مِنْك) هَذَا كِنَايَة عَن كَمَال الظُّهُور، إِذْ لَا يُمكن أَن يكون غير نفي الشَّيْء أقرب مِنْهُ إِلَيْهِ (لانكشاف منع أَن كل مُبَاح ترك حرَام، بل لَا شَيْء مِنْهُ) أَي من الْمُبَاح (إِيَّاه) أَي ترك حرَام (وَلَا يستلزمه) أَي الْمُبَاح ترك الْحَرَام (للْقطع بِأَن التّرْك: وَهُوَ كف النَّفس عَن الْفِعْل فرع خطوره) أَي الْفِعْل (و) فرع (دَاعِيَة النَّفس لَهُ) أَي للْفِعْل (و) نَحن (نقطع بِإِسْكَان سَائِر الْجَوَارِح) أَي جَمِيعهَا (وفعلها) أَي الْجَوَارِح مَعْطُوف على إسكان حَال كَون كل من الإسكان وَالْفِعْل (لَا عَن دَاعِيَة فعل مَعْصِيّة تركا لَهَا) أَي للمعصية حَال متداخلة من الضَّمِير المستكن فِي الْحَال الأول رَاجع إِلَى الإسكان وَالْفِعْل (بذلك) مُتَعَلق بتقطع: أَي بخطور الْفِعْل وداعية النَّفس لَهُ تَوْضِيحه أَن التّرْك الَّذِي هُوَ كف النَّفس عَن فعل الْمعْصِيَة تَارَة يتَحَقَّق بِفعل الْجَوَارِح بِأَن يشغلها بِفعل آخر عَنْهَا، والمباح أَيْضا تَارَة يتَحَقَّق بإسكانها وَتارَة بتحريكها وفعلها فيوهم أَن الْمُبَاح هُوَ التّرْك الْمَذْكُور، وَإِذا وجد شَيْء من إسكانها وفعلها وَلم يكن صدوره مسببا عَن دَاعِيَة فعل الْمعْصِيَة بِأَن يكون الْمَقْصُود مِنْهُ تَركهَا دلنا إِلَى الْقطع بصدوره لَا عَن تِلْكَ الداعية لعدم سبق خطور فعل الْمعْصِيَة وداعية النَّفس لَهَا، فكم من مُبَاح يتَحَقَّق وَلَيْسَ هُنَاكَ التّرْك الْمَذْكُور قطعا فَلَا يستلزمه (وَعند تحققها) أَي دَاعِيَة الْمعْصِيَة (فالكف) للنَّفس عَن فعلهَا (وَاجِب ابْتِدَاء) لَا ثَانِيًا بِحَسب تَحْرِيم الْمحرم الَّذِي هُوَ الْكَفّ تركا (يُثبتهُ) أَي وجوب هَذَا الْوَاجِب ابْتِدَاء فَاعله الدَّلِيل فِي قَوْله (بِمَا قَامَ بأطلاقه الدَّلِيل) الْجَار الأول مُتَعَلق بالإثبات، وَالثَّانِي بِالْقيامِ: يَعْنِي إثْبَاته الْوُجُوب بِسَبَب معنى قَائِم بِإِطْلَاقِهِ وَهُوَ عُمُومه وشموله لُزُوم الْكَفّ عَن كل دَاعِيَة مَعْصِيّة، وَيجوز أَن يكون ضمير الْمَوْصُول محذوفا وَالتَّقْدِير بِمَا قَامَ بِهِ وَيكون قَوْله بِإِطْلَاقِهِ بَدَلا عَن قَوْله بِمَا قَامَ بِهِ.
مسئلة

(قيل الْمُبَاح جنس الْوَاجِب) إِذْ الْمُبَاح مَا أذن فِي فعله، وَالْإِذْن جُزْء حَقِيقَة الْوَاجِب لاخْتِصَاص الْوَاجِب بِقَيْد زَائِد لِأَنَّهُ مَا أذن فِي فعله لَا فِي تَركه (وَهُوَ) أَي هَذَا القَوْل (غلط، بل) الْمُبَاح

(2/227)


(قسيمة) أَي الْوَاجِب (مندرج مَعَه) أَي مَعَ الْوَاجِب (تَحت رجنسهما إِطْلَاق الْفِعْل) عطف بَيَان لجنسهما، وَهُوَ إِذن فِي الْفِعْل غير مُقَيّد بِالْإِذْنِ فِي التّرْك وَعَدَمه (لمبيانته) أَي الْمُبَاح للْوَاجِب (بفصله) أَي الْمُبَاح (إِطْلَاق التّرْك) فِيهِ كإطلاق الْفِعْل، إِذْ الْوَاجِب غير مُطلق التّرْك (وَتقدم) فِي مسئلة لاشك فِي تبادر كَون الصِّيغَة فِي الْإِبَاحَة وَالنَّدْب مجَازًا (فِي) بحث (الْأَمر مَا يرشد إِلَيْهِ) أَي إِلَى كَونه مباينا لما قُلْنَا فَليرْجع إِلَيْهَا.