تيسير التحرير

مَبْحَث الرُّخْصَة والعزيمة

(تَقْسِيم للحنفية: الحكم إِمَّا رخصَة وَهُوَ) أَي الرُّخْصَة (مَا) أَي حكم (شرع تَخْفِيفًا لحكم) آخر (مَعَ اعْتِبَار دَلِيله) أَي الحكم الآخر (قَائِم الحكم) لبَقَاء الْعَمَل بِهِ (لعذر خوف) فَوَات (النَّفس أَو الْعُضْو) وَلَو أُنْمُلَة، فَخرجت الْعَزِيمَة لِأَنَّهَا لم تشرع تَخْفِيفًا لحكم، بل شرعت ابْتِدَاء لَا بِعَارِض، وَمِنْهَا خِصَال الْكَفَّارَة الْمرتبَة وَالتَّيَمُّم عِنْد فقد المَاء (كإجراء الْمُكْره بذلك) مُتَعَلق بالمكره أَي بِمَا يحصل بِهِ خَوفه على نَفسه أَو عضوه (كلمة الْكفْر) على لِسَانه وَقَلبه مطمئن بِالْإِيمَان، مفعول إِجْرَاء، (وجنايته) أَي الْمحرم الْمُكْره بذلك (على إِحْرَامه) سَوَاء كَانَت الْجِنَايَة الْإِفْسَاد أَو بِمَا يُوجب الدَّم كَمَا هُوَ الظَّاهِر من إِطْلَاقه (ورمضان) أَي وَجِنَايَة الصَّائِم فِي رَمَضَان صَحِيحا مُقيما مكْرها بذلك بالإفساد (وَترك الْخَائِف على نَفسه الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر، وَالصَّلَاة) الْمَفْرُوضَة مَعْطُوف على الْأَمر (وَتَنَاول الْمُضْطَر مَال الْغَيْر) مَعْطُوف على إِجْرَاء (وَهُوَ) أَي هَذَا النَّوْع من الرُّخْصَة (أَحَق نوعيها) أَي أولاهما حَقِيقَة باسم الرُّخْصَة لقِيَام دَلِيل الْعَزِيمَة فِيهِ، وَقيام حكمه من غير دَلِيل دَال على تراخيه عَنهُ، وَكلما قوي جَانب الْعَزِيمَة قوي فِي جَانب خِلَافه معنى الرُّخْصَة المثبتة عَن كَونه معدولا إِلَيْهِ عَن الأَصْل للضَّرُورَة، وَحِينَئِذٍ (فالعزيمة) أَي الْعَمَل بالعزيمة (أولى) لما ذكر من قيام دليلها، وَبَقَاء حكمهَا من غير مُوجب للتراخي (وَلَو مَاتَ بِسَبَبِهَا) أَي الْعَزِيمَة فإمَّا قيام دَلِيل وجوب الْإِيمَان إِلَى آخِره فَلِأَنَّهُ قَطْعِيّ لَا يتَصَوَّر تراخي حكمه عَنهُ عقلا وَلَا شرعا فيدوم بدوامه، وَإِنَّمَا رخص فِي إِجْرَاء تِلْكَ الْكَلِمَة فِي تِلْكَ الْحَالة لِئَلَّا يفوت حَقه صُورَة وَمعنى بتخريب الْبدن، وزهوق الرّوح مَعَ أَن حق الله لَا يفوت معنى لاطمئنان الْقلب بِالْإِيمَان غير أَن الْعَزِيمَة أولى لما فِيهِ من رِعَايَة تَعْظِيم الله تَعَالَى صُورَة وَمعنى، وَحُصُول الشَّهَادَة، والْآثَار فِي هَذَا كَثِيرَة شهيرة، وعَلى هَذَا الْقيَاس قيام دَلِيل النَّافِي وَبَقَاء حكمه من غير تراخ، وأولوية الْعَزِيمَة فِيهِ على مَا تبين فِي مَحَله وَقَالُوا فِي حُرْمَة أكل الْميتَة وَلحم الْخِنْزِير، وَشرب الْخمر إِمَّا فِي حَالَة الِاخْتِيَار، وَإِمَّا فِي حَالَة الِاضْطِرَار فَهِيَ

(2/228)


على الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة حَتَّى قيل أَنه لَو لم يَأْكُل حَتَّى يَمُوت كَانَ آثِما (أَو) مَا شرع تَخْفِيفًا لحكم آخر مَعَ اعْتِبَار دَلِيله (متراخيا) حكمه (عَن محلهَا) أَي الرُّخْصَة (كفطر الْمُسَافِر) أَي كرخصة فطره وَالْمَرِيض فِي رَمَضَان، فَإِن دَلِيل وجوب صَوْمه، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى - {فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه} - قَائِم، لَكِن تراخي حكمه عَن مَحل الرُّخْصَة، وَهُوَ السّفر وَالْمَرَض لقَوْله تَعَالَى - {فَعدَّة من أَيَّام أخر} -: وَقد يُقَال أَن قَوْله تَعَالَى " فليصمه " لَا يعم الْمُسَافِر بِقَرِينَة آخر الْكَلَام فَلَا يتَحَقَّق بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ دَلِيل مُتَأَخّر الحكم، وَيُجَاب بِأَنَّهُ يدل على أَنه لَوْلَا وجود عذره لَكَانَ مثل غَيره فِي طلب الصَّوْم، وَبِهَذَا الِاعْتِبَار جعل دَلِيلا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَيْضا غير أَنه متراخ الحكم (والعزيمة) فِي هَذَا النَّوْع (أولى مَا لم يستضر) بهَا نظرا إِلَى قيام السَّبَب، وَأما إِذا استضر فَلَا أَوْلَوِيَّة للعزيمة، وَقد روى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " هِيَ رخصَة من الله فَمن أَخذ بهَا فَحسن، وَمن أحب أَن يَصُوم فَلَا جنَاح عَلَيْهِ ". وَصَامَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي السّفر أَيْضا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ (فَإِن مَاتَ بهَا) أَي بالعزيمة (أَثم) لقَتله نَفسه بِلَا مُبِيح، فَمَا فِي صَحِيح مُسلم من أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج عَام الْفَتْح إِلَى مَكَّة فِي رَمَضَان حَتَّى بلغ كرَاع الغميم، ثمَّ دَعَا بقدح من مَاء فَشرب بِهِ، فَقيل لَهُ إِن بعض النَّاس قد صَامَ، فَقَالَ أُولَئِكَ العصاة مَحْمُول على أَنهم استضروا بِهِ بِدَلِيل مَا فِي لفظ لَهُ، فَقيل أَن النَّاس قد شقّ عَلَيْهِم الصَّوْم (والعزيمة ذَلِك الحكم) الْمعبر عَنهُ بقوله تَخْفِيفًا لحكم وَلَا يخفى أَن الْأَنْسَب ذكره قبل قَوْله، فالعزيمة أولى لكنه أَخّرهُ لما ذكر بعده مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ (فتقيد) الْعَزِيمَة (بِمُقَابلَة رخصَة، وَقد لَا تقيد) بمقابلتها (فَيُقَال) الْعَزِيمَة (مَا شرع ابْتِدَاء غير مُتَعَلق بالعوارض) فتعم مَا كَانَ فِي مُقَابلَة رخصَة وَمَا لم يكن (وتعرف الرُّخْصَة بِمَا تغير من عسر إِلَى يسر من الْأَحْكَام وَقسم كل) من الْعَزِيمَة الرُّخْصَة بِهَذَيْنِ الْمَعْنيين (أَرْبَعَة) من الْأَقْسَام فقسم (الْعَزِيمَة إِلَى فرض) وَهُوَ (مَا) أَي حكم (قطع بلزومه) مَأْخُوذ (من فرض) بِمَعْنى قطع (وواجب بِمَا) أَي حكم (ظن) لُزُومه، سمي وَاجِبا (لسُقُوط لُزُومه) أَي وُقُوعه (على الْمُكَلف بِلَا علم) لَهُ بِثُبُوتِهِ علما قَطْعِيا فَهُوَ مَأْخُوذ (من وَجب) بِمَعْنى (سقط) قَالَ تَعَالَى فِي الْهدى بعد النَّحْر - {فَإِذا وَجَبت جنوبها} -: أَي سَقَطت، وَيحْتَمل أَن تكون التَّسْمِيَة بِاعْتِبَار دَرَجَته عَن مرتبَة الْعلم غير أَنه لَا يلائم إِلَّا الْحَنَفِيَّة (و) قَالَ (الشَّافِعِيَّة) بل الْجُمْهُور الْفَرْض وَالْوَاجِب اسمان (مُتَرَادِفَانِ) لفعل مَطْلُوب جزما (وَلَا يُنكرُونَ) أَي الشَّافِعِيَّة (انقسام مَا لزم) فعله (إِلَى قَطْعِيّ) أَي ثَابت بِدَلِيل قَطْعِيّ دلَالَة وسندا (وظني) أَي ثَابت بِدَلِيل ظَنِّي دلَالَة وسندا (وَلَا) يُنكرُونَ (اخْتِلَاف حَالهمَا) أَي الْقطعِي والظني من حَيْثُ إِلَّا كفار لمنكره وَعَدَمه وَغير ذَلِك، وَإِنَّمَا النزاع فِي أَن الاسمين هَل هما لِمَعْنى وَاحِد يتَفَاوَت فِي بعض الْأَحْكَام بِالنّظرِ إِلَى طَرِيق

(2/229)


ثُبُوته أَو كل مِنْهُمَا لقسم مِنْهُ مُغَاير للْآخر بِاعْتِبَار طَريقَة (فَهُوَ) نزاع (لَفْظِي غير أَن إِفْرَاد كل قسم باسم أَنْفَع عِنْد الْوَضع) لموضوع المسئلة (للْحكم) عَلَيْهِ فَإنَّك حِينَئِذٍ تضع الْفَرْض مَوْضُوع مسئلة لتَحكم عَلَيْهِ بِمَا يُنَاسِبه وتضع الْوَاجِب كَذَلِك، بِخِلَاف مَا إِذا كَانَا مترادفين فَإنَّك حِينَئِذٍ تحْتَاج إِلَى نصب قرينَة بِحَسب الْمَوَاضِع (وَإِلَى سنة) أَي (الطَّرِيقَة الدِّينِيَّة) المأثورة (مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو) الْخُلَفَاء (الرَّاشِدين) كلهم (أَو بَعضهم) الَّتِي يُطَالب الْمُكَلف بإقامتها من غير افتراض وَلَا وجوب، وَلم يذكر هَذَا الْقَيْد لظُهُوره بِقَرِينَة التقابل. وَعنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ ": حسنه التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ. وَأخرجه ابْن مَاجَه وَأحمد وَأَبُو دَاوُد، وهم: أَبُو بكر، وَعمر وَعُثْمَان، وَعلي رَضِي الله عَنْهُم كَمَا ذكره الْبَيْهَقِيّ وَغَيره لما صَححهُ أَحْمد وَابْن حبَان وَالْحَاكِم من حَدِيث سُفْيَان " الْخلَافَة بعدِي ثَلَاثُونَ سنة، ثمَّ تكون ملكا ". وَاحْتج بِهِ أَحْمد وَغَيره على خلافتهم فقد كَانَت مدتهم هَذِه إِلَّا سِتَّة أشهر مُدَّة الْحسن ابْن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا (وينقسم مُطلقهَا) أَي السّنة (إِلَى سنة هدى) وَهُوَ مَا يكون إِقَامَتهَا تكميلا للدّين، كَذَا ذكره الشَّارِح، وَيرد عَلَيْهِ أَن مَا سَيَأْتِي من السّنَن الزَّوَائِد كثير مِنْهَا مَا يصدق عَلَيْهِ هَذَا التَّعْرِيف إِذا قصد بِهِ اتِّبَاعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال المنظور قَصده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ لم يقْصد بالزوائد ذَلِك (تاركها) بِلَا عذر (مضلل ملوم كالأذان) للمكتوبات على مَا ذهب إِلَيْهِ كثير من الْمَشَايِخ، وَذهب صَاحب الْبَدَائِع إِلَى وُجُوبه، وَمَال إِلَيْهِ المُصَنّف لمواظبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ من غير ترك (وَالْجَمَاعَة) عَن ابْن مَسْعُود " من سره أَن يلقى الله غَدا فليحافظ على هَؤُلَاءِ الصَّلَوَات حَيْثُ يُنَادي بِهن، فَإِن الله تَعَالَى شرع لنبيكم سنَن الْهدى وانهن من سنَن الْهدى، وَلَو أَنكُمْ صليتم فِي بُيُوتكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا المتخلف فِي بَيته لتركتم سنة نَبِيكُم، وَلَو تركْتُم سنة نَبِيكُم لَضَلَلْتُمْ ". وَفِي رِوَايَة " أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علمنَا سنَن الْهدى، وَأَن من سنَن الْهدى الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد الَّذِي يُؤذن فِيهِ ". رَوَاهُ مُسلم وَأَصْحَاب السّنَن (وَإِنَّمَا يُقَاتل المجمعون على تَركهَا) أَي سنة الْهدى كَمَا قَالَ مُحَمَّد فِي أهل بَلْدَة تركُوا الْأَذَان وَالْإِقَامَة أمروا بهما فَإِن أَبَوا قوتلوا بِالسِّلَاحِ (للاستخفاف) لِأَن مَا كَانَ من إِعْلَام الدّين فالإصرار على تَركه استخفاف بِالدّينِ، فيقاتلون على ذَلِك، ذكره فِي الْمَبْسُوط، فَهَذَا الْقِتَال يدل على وجوب الْأَذَان كَمَا اسْتدلَّ بِهِ بَعضهم، وَيشكل على هَذَا قَوْله وَلَو تَركه وَاحِد ضَربته وحبسته. وَفِي شرح مُخْتَصر الْكَرْخِي عَنهُ أَنه قَالَ " لَو ترك أهل كورة سنة من سنَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لقاتلتهم عَلَيْهَا، وَلَو ترك رجل وَاحِد ضَربته وحبسته " لِأَن السّنة لَا يضْرب وَلَا يحبس عَلَيْهَا إِلَّا أَن يحمل على مَا إِذا كَانَ مصرا على التّرْك من غير عذر فَإِنَّهُ استخفاف كَمَا فِي الْجَمَاعَة المصرين

(2/230)


عَلَيْهِ من غير عذر، كَذَا ذكره الشَّارِح، وَفِيه أَنه يحْتَاج حِينَئِذٍ إِلَى الْفرق بَين إِصْرَار الْكل وإصرار الْبَعْض حَيْثُ يُقَاتل فِي الأول، وَيضْرب وَيحبس فِي الثَّانِي فَلْيتَأَمَّل (وَقَول الشَّافِعِي مُطلقهَا) أَي السّنة إِذا أطلقها الصَّحَابِيّ أَو الْمُتَكَلّم بِلِسَان الشَّرْع (منصرف إِلَيْهِ) أَي إِلَى مسنونه (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَحِيح فِي عرف الْآن، وَالْكَلَام فِي عرف السّلف ليعْمَل بِهِ فِي نَحْو قَول الرَّاوِي) صحابيا كَانَ أَو غَيره (السّنة أَو من السّنة. وَكَانُوا) أَي السّلف (يطلقونها) أَي السّنة على (مَا ذكرنَا) أَي سنته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، فَفِي صَحِيح مُسلم عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ فِي قصَّة جلد الْوَلِيد بن عقبَة من شرب الْخمر " لما أَمر الجلاد بالإمساك على الْأَرْبَعين " جلد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعِينَ، وَأَبُو بكر أَرْبَعِينَ، وَعمر ثَمَانِينَ، وكل سنة: وَهَذَا أحب إِلَيّ ". وَقَالَ مَالك: قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز " سنّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وولاة الْأَمر من بعده سننا الْأَخْذ بهَا اعتصام بِكِتَاب الله تَعَالَى، وَقُوَّة على دين الله تَعَالَى ". وَنقل عَن ابْن شهَاب عَن سَالم وَغَيره مَا يُوَافق الشَّافِعِي، ذكر الشَّارِح تَفْصِيله (وَإِلَى) سنَن (زَائِدَة كَمَا فِي أكله وقعوده ولبسه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالُوا أَخذهَا حسن وَتركهَا لَا بَأْس بِهِ: أَي لَا يتَعَلَّق بِهِ كَرَاهَة وَلَا إساءة (وَإِلَى نفل) مَعْطُوف على قَوْله إِلَى فرض، وَهُوَ الْمَشْرُوع زِيَادَة على الْفَرَائِض والواجبات وَالسّنَن لنا لَا علينا (يُثَاب على فعله) لِأَنَّهُ عبَادَة (فَقَط) وَلَا يُعَاقب على تَركه (وَمِنْه) أَي النَّفْل الركعتان (الأخريان) من الرّبَاعِيّة (للْمُسَافِر) إِذْ يُثَاب على فعلهمَا غير أَنه يصير مسيئا بِتَأْخِير السَّلَام وَلَا يُعَاقب على تَركهمَا (فَلم ينوبا عَن سنة الظّهْر) على الصَّحِيح، لِأَن السّنة بالمواظبة، والمواظبة عَلَيْهَا مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتحريمة مُبتَدأَة وَإِن لم يحْتَج إِلَى نِيَّة السّنة فِي وُقُوعهَا سنة على مَا هُوَ الْمُخْتَار، ثمَّ عطف على الأخريان (وَمَا تعلق بِهِ دَلِيل ندب يَخُصُّهُ، وَهُوَ الْمُسْتَحبّ وَالْمَنْدُوب) كالركعتين أَو الْأَرْبَع قبل الْعَصْر وَالسّنة بعد الْمغرب: كَذَا ذكره الشَّارِح. وَقَالَ المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة: اخْتلف فِي الْأَفْضَل بعد رَكْعَتي الْفجْر. قَالَ الْحلْوانِي: رَكعَتَا الْمغرب، فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يدعهما سفرا وَلَا حضرا، ثمَّ الَّتِي بعد الظّهْر لِأَنَّهَا سنة مُتَّفق عَلَيْهَا، وَقيل الَّتِي قبل الْعشَاء، وَالَّتِي قبل الظّهْر وَبعده وَبعد الْمغرب كلهَا سَوَاء (وَثُبُوت التَّخْيِير) شرعا (فِي ابْتِدَاء الْفِعْل) للنفل بَين التَّلَبُّس بِهِ، وَعدم التَّلَبُّس (لَا يسْتَلْزم عقلا وَلَا شرعا استمراره) أَي التَّخْيِير (بعده) أَي بعد الِابْتِدَاء والشروع فِيهِ (كَمَا قَالَ الشَّافِعِي) وَإِذا لم يستلزمه (فَجَاز الِاخْتِلَاف) بَين حالتيه: مَا قبل الشُّرُوع وَمَا بعده بِاعْتِبَار التَّخْيِير وَلُزُوم الْإِتْمَام (غير أَنه) أَي الِاخْتِلَاف فِي ذَلِك (يتَوَقَّف على الدَّلِيل وَهُوَ) أَي الدَّلِيل (النَّهْي عَن إبِْطَال الْعَمَل) الثَّابِت بِنَصّ الْقُرْآن، وَالْقِيَاس على الْحَج النَّفْل (فَوَجَبَ الْإِتْمَام فَلَزِمَ الْقَضَاء بالإفساد، و) قسمت (الرُّخْصَة

(2/231)


إِلَى مَا ذكر) فِي أول التَّقْسِيم من الْقسمَيْنِ وَوصف أَولهمَا بِأَنَّهُ أَحَق نوعيها (و) إِلَى (مَا وضع عَنَّا من إصر) أَي حكم مغلظ شاق (كَانَ على من قبلنَا) من الْأُمَم (فَلم يشرع عندنَا) أَي فِي ملتنا أصلا تكريما لنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَحْمَة لنا (كقرض مَوضِع النَّجَاسَة) من الثَّوْب وَالْجَلد (وَأَدَاء الرّبع فِي الزَّكَاة) لتَعلق الْوُجُوب بِربع المَال، وَاشْتِرَاط قتل النَّفس فِي صِحَة التَّوْبَة، وَبت الْقَضَاء بِالْقصاصِ عمدا كَانَ الْقَتْل أَو خطأ، وإحراق الْغَنَائِم، وَتَحْرِيم الْعُرُوق فِي اللَّحْم، وَتَحْرِيم السبت وَتَحْرِيم الطَّيِّبَات بِسَبَب الذُّنُوب، وَأَن لَا يطهر من الْجَنَابَة وَالْحَدَث غير المَاء، وَكَون الْوَاجِب من الصَّلَاة فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة خمسين، وَعدم جَوَازهَا فِي غير الْمَسْجِد، وَحُرْمَة الْجِمَاع بعد الْعَتَمَة فِي الصَّوْم وَالْأكل بعد النّوم فِيهِ. قَالَ الشَّارِح: وَكِتَابَة ذَنْب المذنب لَيْلًا على بَاب دَاره صباحا وَلَا يخفى أَنه مِمَّا نَحن فِيهِ (و) إِلَى (مَا) أَي حكم (سقط: أَي لم يجب مَعَ الْعذر مَعَ شرعيته فِي الْجُمْلَة) وَتسَمى رخصَة إِسْقَاط (وَهَذَانِ) يَعْنِي مَا وضع عَنَّا وَمَا سقط مَعَ الْعذر إِلَى آخِره جعلا قسمَيْنِ مِنْهَا (بِاعْتِبَار مَا يُطلق عَلَيْهِ اسْم الرُّخْصَة) فَقَط سَوَاء كَانَ بطرِيق الْحَقِيقَة أَو الْمجَاز من غير اعْتِبَار حَقِيقَتهَا، وَهُوَ أَن يشرع تَخْفِيفًا لحكم مَعَ اعْتِبَار دَلِيله قَائِم الحكم لعذر، أَو متراخيا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لَا حَقِيقَتهَا كالقصر) للصَّلَاة الرّبَاعِيّة للْمُسَافِر، وَإِنَّمَا حكمنَا بِكَوْن الْقصر لَيْسَ فِيهِ حَقِيقَة الرُّخْصَة (لإِيجَاب السَّبَب الْأَرْبَع فِي غير الْمُسَافِر) فالسبب الْمُوجب للأربع، وَهُوَ النَّص الدَّال على وجوب الْأَرْبَع لَيْسَ فِي مَحل الْقصر (و) إِيجَاب السَّبَب (رَكْعَتَيْنِ فِيهِ) أَي فِي الْمُسَافِر، وَذَلِكَ (بِحَدِيث عَائِشَة) رَضِي الله عَنْهَا فِي الصَّحِيحَيْنِ " فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فأقرت صَلَاة السّفر وزيدت فِي الْحَضَر (وَسُقُوط حُرْمَة الْخمر وَالْميتَة للْمُضْطَر) إِلَى شرب الْخمر وَأكل الْميتَة مَخَافَة الْهَلَاك على نَفسه من الْعَطش والجوع فَإِن دَلِيل الْحُرْمَة لم يقم فِي مَحل الرُّخْصَة، وَهُوَ الِاضْطِرَار (وَالْمكْره) على شرب الْخمر وَأكل الْميتَة بِالْقَتْلِ، وَقطع الْعُضْو فحرمتهما سَاقِطَة مَعَ عذر الِاضْطِرَار وَالْإِكْرَاه ثَابِتَة عِنْد عدمهما على مَا هُوَ ظَاهر الرِّوَايَة (للاستثناء) فِي قَوْله تَعَالَى - {إِلَّا مَا اضطررتم} - بعد قَوْله تَعَالَى - {وَقد فصل لكم مَا حرم عَلَيْكُم} - إِذْ الِاسْتِثْنَاء من الْحَظْر إِبَاحَة (فَتجب الرُّخْصَة) هَهُنَا كَمَا يجب شرب الْخمر وَأكل الْخِنْزِير لدفع الْهَلَاك (وَلَو مَاتَ للعزيمة) هَهُنَا بِأَن يمْتَنع عَن شرب الْخمر وَأكل الْميتَة عِنْد الِاضْطِرَار وَالْإِكْرَاه (أَثم) بإلقائه بِنَفسِهِ إِلَى التَّهْلُكَة من غير ملجئ، لَكِن هَذَا إِذا علم بِالْإِبَاحَةِ فِي حق هَذِه الْحَالة لخفاء انكشاف الْحُرْمَة، فيعذر بِالْجَهْلِ، وَلَا يَحْنَث بأكلها مُضْطَرّا إِذا حلف لَا يَأْكُل الْحَرَام، وَذهب كثير مِنْهُم أَبُو يُوسُف فِي رِوَايَة إِلَى أَن الْحُرْمَة لَا ترْتَفع، بل إثمها يرْتَفع كَمَا فِي الْإِكْرَاه على الْكفْر فَلَا يَأْثَم بالامتناع، وَيحنث فِي الْحلف الْمَذْكُور، فعلى هَذَا يكون من الْقسم الأول لقَوْله

(2/232)


تَعَالَى - {فَمن اضْطر فِي مَخْمَصَة غير متجانف لإثم فَإِن الله غَفُور رَحِيم} - وَالْمَغْفِرَة إِنَّمَا تكون بعد الْإِثْم وَالْجَوَاب أَن الْمَغْفِرَة بِاعْتِبَار التَّنَاوُل الْمُقدر الزَّائِد على مَا لَا بُد مِنْهُ فِي بَقَاء المهجة: إِذْ يعسر على الْمُضْطَر رِعَايَة ذَلِك (وَمِنْه) أَي من هَذَا الْقسم الْأَخير من الرُّخْصَة (سُقُوط غسل الرجل مَعَ الْخُف) فِي مُدَّة الْمسْح، لِأَن استتار الْقدَم بالخف منع سرَايَة الْحَدث إِلَيْهَا، فوجوب الْغسْل الَّذِي هُوَ الْعَزِيمَة لَيْسَ فِي مَحل الرُّخْصَة، فَغسل الرجلَيْن فِي هَذِه الْحَالة سَاقِط وَالْمسح شرع ابْتَدَأَ تيسيرا، لِأَن الْغسْل يتَأَدَّى بِالْمَسْحِ (وَقَوْلهمْ) أَي جمَاعَة من الْحَنَفِيَّة فِي هَذِه المسئلة (الْأَخْذ بالعزيمة) وَهُوَ غسل الرجلَيْن (أولى) من الْأَخْذ بِالرُّخْصَةِ، وَهُوَ الْمسْح (مَعْنَاهُ إمَاطَة) أَي إِزَالَة (سَبَب الرُّخْصَة بالنزع للخف ليغسلهما أولى من عدمهَا وَالْمسح على الْخُف، هَذَا وَذكر الزَّيْلَعِيّ أَن كَون الْمسْح على الْخُف من هَذَا النَّوْع سَهْو، لِأَن من شَأْن هَذَا النَّوْع عدم بَقَاء مَشْرُوعِيَّة الْعَزِيمَة مَعَه، لَكِن الْغسْل مَشْرُوع وَإِن لم ينْزع الْخُف: وَلذَا يبطل مَسحه إِذا خَاضَ فِي المَاء وَدخل فِي الْخُف حَتَّى انغسل أَكثر رجلَيْهِ، وَكَذَا لَو تكلّف وَغسل رجلَيْهِ من غير نزع الْخُف أَجزَأَهُ عَن الْغسْل حَتَّى لَا يبطل بِانْقِضَاء الْمدَّة انْتهى قَوْله أَجزَأَهُ عَن الْغسْل أَي عَن الْغسْل بعد النزع، وَقَوله حَتَّى لَا يبطل إِلَى آخِره يرد عَلَيْهِ أَن الْغسْل لَا معنى لبطلانه أَيْضا لِأَنَّهُ اضمحل مَعَ وجود هَذَا الْغسْل: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يتَوَهَّم لهَذَا الْغسْل مُدَّة كَمَا للمسح لَا يخفى مَا فِيهِ. وَقَالَ الشَّارِح، وَتعقبه المُصَنّف: بِأَن مبناه على صِحَة هَذَا الْفَرْع، وَهُوَ مَنْقُول فِي الفتاوي الظَّهِيرِيَّة، لَكِن فِي صِحَّته نظر فَإِن كلمتهم متفقة على أَن الْخُف اعْتبر شرعا مَانِعا سرَايَة الْحَدث إِلَى الْقدَم فَتبقى الْقدَم على طَهَارَتهَا، وَيحل الْحَدث بالخف فيزال بِالْمَسْحِ، وبنوا عَلَيْهِ منع الْمسْح للمقيم والمعذورين بعد الْوَقْت وَغير ذَلِك من الخلافيات، وَهَذَا يَقْتَضِي أَن غسل الرجل فِي الْخُف وَعَدَمه سَوَاء إِذا لم يبتل بِهِ ظَاهر الْخُف فِي أَنه لم يزل بِهِ الْحَدث، لِأَنَّهُ غير مَحَله إِلَى قَوْله وَالْأَوْجه كَون الْأَجْزَاء إِذا خَاضَ النَّهر لابتلال الْخُف ثمَّ إِذا انْقَضتْ الْمدَّة إِنَّمَا لم يتَقَيَّد بهَا لحُصُول الْغسْل بالخوض، والنزع إِنَّمَا وَجب للْغسْل وَقد حصل انْتهى. ثمَّ ذكر رِوَايَات من الْكتب الْمُعْتَبرَة تفِيد مَا ذكره المُصَنّف: مِنْهَا مَا فِي فتاوي الإِمَام مُحَمَّد بن الْفضل لَا ينْتَقض مَسحه على كل حَال، لِأَن استتار الْقدَم بالخف يمْنَع سرَايَة الْحَدث إِلَى الرجل فَلَا يَقع هَذَا غسلا مُعْتَبرا فَلَا يُوجب بطلَان الْمسْح، وَمَا فِي المجتبي من أَنه لَا ينْتَقض وَإِن بلغ المَاء الرّكْبَة، ثمَّ ذكر أَن الَّذِي يظْهر لَهُ أَنه يجب عَلَيْهِ غسل رجلَيْهِ ثَانِيًا إِذا نزعهما وَانْقَضَت الْمدَّة وَهُوَ غير مُحدث، لِأَن عِنْد النزع أَو انْقِضَاء الْمدَّة يعْمل ذَلِك الْحَدث السَّابِق عمله فيسرى إِلَى الرجلَيْن فَيحْتَاج إِلَى مزيل لَهُ عَنْهُمَا حِينَئِذٍ للْإِجْمَاع على أَن المزيل لَا يظْهر عمله فِي حدث طَارِئ بعده، ثمَّ قَالَ فَلْيتَأَمَّل،

(2/233)


وَلَعَلَّ وَجه التَّأَمُّل أَن السَّرَايَة وَإِن تَأَخَّرت عَن الْغسْل الْمَذْكُور، لَكِن سَبَب السَّرَايَة سبقه، (و) من هَذَا الْقسم (السّلم) وَهُوَ بيع آجل بعاجل (سقط اشْتِرَاط ملك الْمَبِيع) فِيهِ مَعَ اشْتِرَاطه فِيمَا عداهُ من الْبياعَات إِجْمَاعًا. وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " وَلَا تبع مَا لَيْسَ عنْدك ". وَقدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة وهم يسلفون فِي الثِّمَار السّنة والسنتين، فَقَالَ: " من أسلف فِي تمر فليسلف فِي كيل مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم " تيسيرا وتخفيفا لِأَنَّهُ بيع المفاليس، فَكَانَ رخصَة مجَازًا لَا حَقِيقَة، لِأَن السَّبَب الْمحرم قد انْعَدم فِي حَقه شرعا (فَلَو لم يبع سلما وَتلف جوعا أَثم) لإلقائه بِنَفسِهِ إِلَى التَّهْلُكَة من غير ملجئ (وَاكْتفى) فِي صِحَة السّلم (بِالْعَجزِ التقديري عَن الْمَبِيع) بِأَن يكون الْمُسلم فِيهِ فِي ملكه وَلكنه مُسْتَحقّ الصّرْف إِلَى حَاجته، وَدَلِيل الْحَاجة إقدامه عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يرضى بأرخص الثمنين إِلَّا لحَاجَة (فَلم يشْتَرط عدم الْقُدْرَة عَلَيْهِ) أَي لم يشْتَرط الْعَجز الْحَقِيقِيّ، وَهُوَ أَن لَا يكون فِي ملكه حَقِيقَة (وَاقْتصر الشَّافِعِيَّة) فِي تَفْسِير الرُّخْصَة (على أَن مَا شرع من الْأَحْكَام لعذر مَعَ قيام الْمحرم لَوْلَا الْعذر رخصَة) أَي اكتفوا فِي تحقق حَقِيقَة الرُّخْصَة مُطلقًا بِمُجَرَّد وجود الْعذر الذى لولاه لتحَقّق قيام الْمحرم، فَلم يشترطوا قيام الْمحرم بِالْفِعْلِ فِي شَيْء من أَقسَام الرُّخْصَة وَقَالُوا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الحكم الْمَشْرُوع على الْوَجْه الْمَذْكُور (فعزيمة، وَمُقْتَضَاهُ) أَي هَذَا الِاقْتِصَار (انْتِفَاء التَّعَلُّق) أَي تعلق التَّحْرِيم (بقائم الْعذر) أَي بِالْفِعْلِ الَّذِي قَامَ عذره، لأَنهم اكتفوا بِمُجَرَّد كَونه بِحَيْثُ لَوْلَا عذره لَكَانَ حَرَامًا يَقْتَضِي القوانين الشَّرْعِيَّة، وَكَلمه لَوْلَا تدل على عدم الْحُرْمَة مَعَ وجود الْعذر (وَيَقْتَضِي) انْتِفَاء تعلق التَّحْرِيم بِمحل الرُّخْصَة (امْتنَاع صَبر الْمُكْره على الْكَلِمَة) أَي على إِجْرَاء كلمة الْكفْر على لِسَانه بِالْقَتْلِ أَو قطع الْعُضْو حَتَّى الْقَتْل أَو الْقطع بِأَن يمْتَنع عَن إجرائها حَتَّى يقتل أَو يقطع، فَقَوله حَتَّى غَايَة للصبر: وَذَلِكَ (لحُرْمَة) الْقطع بِهِ و (قتل النَّفس) أَي الرِّضَا بقتلها والتسبب لَهُ (بِلَا مُبِيح) إِذْ الْمَفْرُوض عدم تعلق الْحُرْمَة بإجرائها بِنَاء على اقتصارهم. وَفِي الشَّرْح العضدي دَلِيل الْحُرْمَة إِذا بَقِي مَعْمُولا بِهِ، وَكَانَ التَّخَلُّف عَنهُ لمَانع طَارِئ فِي حق الْمُكَلف لولاه لثبتت الْحُرْمَة فِي حَقه فَهُوَ الرُّخْصَة انْتهى. واستنبط الْأَبْهَرِيّ من هَذَا أَنه إِن لم يبْق مُكَلّفا عِنْد طرد الْعذر لَا رخصَة فِي حَقه، لِأَنَّهَا من الْأَحْكَام الَّتِي شَرط فِيهَا التَّكْلِيف: فَعدم تَحْرِيم مثل إِجْرَاء الْمُكْره كلمة الشّرك على لِسَانه، وإفطاره فِي رَمَضَان، وإتلافه مَال الْغَيْر لَيْسَ رخصَة، لِأَن الْإِكْرَاه الملجئ يمْنَع التَّكْلِيف.
(تَتِمَّة)

لهَذَا الْفَصْل (الصِّحَّة ترَتّب الْمَقْصُود من الْفِعْل عَلَيْهِ) أَي على الْفِعْل (فَفِي الْمُعَامَلَات)

(2/234)


الْمَقْصُود مِنْهُ (الْحل وَالْملك، وَفِي الْعِبَادَات المتكلمون) قَالُوا هِيَ (مُوَافقَة الْأَمر) أَي أَمر الشَّارِع، وَهُوَ أَن يكون (فعله مستجمعا مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ) من الشُّرُوط وَغَيرهَا (وَهُوَ) أَي فعله مستجمعا إِيَّاه (معنى الاجزاء، وَالْفُقَهَاء) قَالُوا (هما) أَي الصِّحَّة والاجزاء فِي الْعِبَادَات (اندفاع وجوب الْقَضَاء) تَفْسِير باللازم إِذْ الاندفاع وصف وجوب الْقَضَاء لَا الْفِعْل الْمَوْصُوف بِالصِّحَّةِ (فَفِيهِ) أَي الحكم الَّذِي هُوَ الصِّحَّة عِنْد الْفُقَهَاء (زِيَادَة قيد) عَلَيْهِ عِنْد الْمُتَكَلِّمين إِذْ حَاصله أَنه مُوَافقَة الْأَمر على وَجه ينْدَفع بِهِ الْقَضَاء، وَهَذَا التَّعْبِير أحسن من قَول بَعضهم كَون الْفِعْل مسْقطًا للْقَضَاء لِأَن الْقَضَاء فرع وجوب الْقَضَاء وَلم يجب (فَصَلَاة ظان الطَّهَارَة مَعَ عدمهَا) أَي الطَّهَارَة فِي نفس الْأَمر (صَحِيحَة ومجزئة على الأول) أَي قَول الْمُتَكَلِّمين أَن الْمُعْتَبر فِي الْمُوَافقَة لِلْأَمْرِ شرعا حُصُول الظَّن بهَا لِأَنَّهُ الَّذِي فِي الوسع (لَا الثَّانِي) أَي قَول الْفُقَهَاء لعدم اندفاع الْقَضَاء لِأَنَّهُ فِي معرض اللُّزُوم لاحْتِمَال ظُهُور بطلَان الظَّن، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (والاتفاق على الْقَضَاء) أَي على وُجُوبه (عِنْد ظُهُوره) أَي عدم الطَّهَارَة (أَي أَن الاجزاء لَا يُوصف بِهِ وبعدمه إِلَّا محتملهما) أَي الاجزاء وَعَدَمه (من الْعِبَادَات) كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْم وَالْحج (بِخِلَاف الْمعرفَة) لله تَعَالَى لِأَنَّهَا لَا تحتملهما إِذْ لَيْسَ فيهمَا مَا يُطلق عَلَيْهِ الْمعرفَة وَهُوَ غير مجزئ لِأَنَّهُ إِذا وَصفه بِمَا لَا يَلِيق بِهِ يُسمى جهلا لَا معرفَة غير مجزية (وَقيل يُوصف بهما) أَي بالأجزاء وَعَدَمه مَا لَيْسَ بِعبَادة أَيْضا وَهُوَ (رد الْوَدِيعَة) مثلا (على الْمَالِك) حَال كَونه (مَحْجُورا) لسفه أَو جُنُون فيوصف بِعَدَمِ الْأَجْزَاء (و) حَال كَونه (غير مَحْجُور) فيوصف بالاجزاء (وَدفع) قَالَ الشَّارِح: الدَّافِع الاسنوي (بِأَنَّهُ) أَي ردهَا (لَيْسَ إِلَّا تَسْلِيمًا لمستحق التَّسْلِيم) يَعْنِي لَيْسَ رد الْوَدِيعَة مِمَّا يَقع على وَجْهَيْن مجزئ وَغير مجزئ، بل مِمَّا لَا يَقع إِلَّا على جِهَة وَاحِدَة وَهُوَ التَّسْلِيم لمستحق التَّسْلِيم فَإِن ردَّتْ إِلَى غَيره لَا يُقَال أَنه رد غير مجزئ، وَفِيه نظر (ثمَّ قيل مُقْتَضى) كَلَام (الْفُقَهَاء) أَن الاجزاء (لَا يخْتَص بِالْوَاجِبِ فَفِي حَدِيث الْأُضْحِية) عَن أبي بردة أَنه ذبح شَاة قبل الصَّلَاة فَذكر ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ " لَا تجزى عَنْك " قَالَ عِنْدِي جزعة من الْمعز فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (تجزى إِلَى آخِره) أَي عَنْك وَلَا تجزى عَن أحد بعْدك، رَوَاهُ أَبُو حنيفَة وَهُوَ بِمَعْنَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا، ثمَّ هَذَا بِنَاء على أَن الْأُضْحِية سنة كَمَا هُوَ قَول الْجُمْهُور (وَنظر فِيهِ) أَي فِي كَون ذَلِك مرضيا للفقهاء باستدلالهم: أَي الْفُقَهَاء (بِرِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ) مَرْفُوعا بِإِسْنَاد صَحِيح (لَا تجزى صَلَاة لَا يقْرَأ فِيهَا بِأم الْقُرْآن على وُجُوبهَا) أَي أم الْقُرْآن فِي الصَّلَاة فَإِن الِاسْتِدْلَال بهَا على الْوُجُوب دَلِيل على أَن الاجزاء خَاص بِهِ: يَعْنِي لَو لم يكن الاجزاء مُخْتَصًّا بِالْوَاجِبِ لجَاز كَون عدم الاجزاء لفَوَات السّنة، وَلَك أَن تَقول الِاسْتِدْلَال بِاعْتِبَار عدم اجزاء الصَّلَاة، فَإِن مَعْنَاهَا لَا يجزى

(2/235)


عَمَّا يجب فِي ذمَّة الْمُكَلف، لَا بِاعْتِبَار نفس الاجزاء فَافْهَم (وَقَالُوا هُوَ) أَي هَذَا الحَدِيث بِهَذَا اللَّفْظ فِي الدّلَالَة على وُجُوبهَا (أدل من الصَّحِيحَيْنِ) أَي من لَفْظهمَا على وُجُوبهَا وَهُوَ لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ بِأم الْكتاب لجَوَاز أَن يكون تَقْدِيره لَا صَلَاة كَامِلَة كَمَا يجوز أَن يكون التَّقْدِير لَا صَلَاة صَحِيحَة (و) باستدلالهم بِمَا (فِي حَدِيث الِاسْتِنْجَاء) عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا مَرْفُوعا " إِذا ذهب أحدكُم إِلَى الْغَائِط فليذهب مَعَه بِثَلَاثَة أَحْجَار فليستطب بهَا (فَإِنَّهَا تجزى عَنهُ) على وجوب الِاسْتِنْجَاء (وَهَذَا) النّظر (يحول الدَّلِيل) الْمَذْكُور على أَن الاجزاء يُوصف بِهِ غير الْوَاجِب (اعتراضا عَلَيْهِم) أَي على الْفُقَهَاء، تَقْرِيره أَنكُمْ جعلتم الاجزاء دَلِيل الْوُجُوب وقلتم لَا وجوب للأضحية وَقدره من الشَّارِع اسْتِعْمَال الاجزاء فِيهَا (وَالصِّحَّة عمتهما) أَي الْعِبَادَات والمعاملات (كالفساد) فِي عُمُومه لَهما (وَهُوَ) أَي الْفساد (الْبطلَان) عِنْد الشَّافِعِيَّة (والحنيفة كَذَلِك) أَي يَقُولُونَ بِأَن الْفساد هُوَ الْبطلَان (فِي الْعِبَادَات) يتَحَقَّق (بِفَوَات ركن أَو شَرط) فالعبادة الْفَاسِدَة والباطلة بِمَا فَاتَ فِيهَا ركن أَو شَرط (وَقدمنَا مَا اخترناه من الزِّيَادَة فِي) مَبْحَث (النَّهْي) وَحَاصِله أَن كل فعل هُوَ من جنس الْعِبَادَات إِذا أَتَى بِهِ الْمُكَلف على وَجه مَنْهِيّ عَنهُ نهي تَحْرِيم فَهُوَ بَاطِل لِأَن بطلَان الْفِعْل عبارَة عَن كَونه بِحَيْثُ لَا يَتَرَتَّب الْمَقْصُود مِنْهُ، وَلما كَانَ الْمَقْصُود من الْعِبَادَة الثَّوَاب واندفاع الْعقَاب لَا غير كَانَ الْمنْهِي عَنهُ تَحْرِيمًا بَاطِلا لعدم ترَتّب الْمَقْصُود بِخِلَاف غير الْعِبَادَة، إِذْ لَا يسْتَلْزم عدم ترَتّب الثَّوَاب فِيهِ عدم ترَتّب مَقْصُود آخر كالملك وَالِانْتِفَاع، ومبني هَذَا الْكَلَام أَن الْمنْهِي تَحْرِيمًا لَا ثَوَاب لَهُ وَمَا ينْدَفع بِهِ الْعقَاب أما إِذا جَازَ ترَتّب الثَّوَاب عَلَيْهِ بِدُونِ الِانْتِفَاع الْمَذْكُور أَو عَكسه فَلَا يلْزم الْخُلُو عَن الْفَائِدَة، ثمَّ مُقْتَضى هَذَا بطلَان صَوْم يَوْم الْعِيد وَعدم وجوب الْقَضَاء بعد الشُّرُوع فِيهِ والإبطال، وَالْحَنَفِيَّة لَا يَقُولُونَ بِبُطْلَانِهِ وَإِن ألزموه بالإبطال وَالْقَضَاء بل يَقُولُونَ بِصِحَّتِهِ لَو صَامَهُ، وَقد علم بذلك أَن الْبَاطِل من الْعِبَادَة لَا يخص فَائت الرُّكْن وَالشّرط، بل كل مَا نهى عَنهُ تَحْرِيمًا بَاطِلا (وَفِي الْمُعَامَلَة) عِنْد الْحَنَفِيَّة (كَونهَا) أَي الْمُعَامَلَة (مترتب أَثَرهَا) مُبْتَدأ خَبره مترتب، وَالْجُمْلَة خبر الْكَوْن: أَي كَون الْمُعَامَلَة بِحَيْثُ يَتَرَتَّب عَلَيْهَا مَا هُوَ الْمَطْلُوب مِنْهَا شرعا حَال كَونهَا (مَطْلُوبَة التفاسح شرعا الْفساد وَغير مَطْلُوبه) التفاسخ شرعا (الصِّحَّة، وَعَدَمه) أَي عدم ترَتّب أَثَرهَا عَلَيْهَا (الْبطلَان) وَإِنَّمَا قَالُوا هَكَذَا (لثُبُوت الترتب) أَي ترَتّب أثر الْمُعَامَلَة عَلَيْهَا حَال كَونهَا (كَذَلِك) أَي مَطْلُوبَة التفاسخ (فِي الشَّرْع بِمَا قدمْنَاهُ) (فِي) مَبْحَث (النَّهْي) كَالْبيع الْفَاسِد إِذا اتَّصل بِهِ الْقَبْض (فَفرق) بَين الْمُعَامَلَات (بالأسماء) الْمَذْكُورَة فَمَا كَانَ مَشْرُوعا بِأَصْلِهِ وَوَصفه سمي صَحِيحا لكَونه موصلا إِلَى تَمام الْمَقْصُود مَعَ سَلامَة الدّين وَمَا كَانَ مَشْرُوعا بِأَصْلِهِ دون وَصفه سمي فَاسِدا كَمَا يُقَال: لؤلؤة فَاسِدَة: إِذا بَقِي أَصْلهَا وَذهب

(2/236)


بياضها ولمعانها، وَلحم فَاسد: إِذا نَتن وَلَكِن بَقِي صَالحا للغذاء، وَمَا لم يكن مَشْرُوعا بِأَصْلِهِ لَا بوصفه سمى بَاطِلا كَمَا يُقَال لحم بَاطِل: إِذا صَار بِحَيْثُ لَا يبْقى لَهُ صَلَاحِية الْغذَاء (واستدلال مانعي اتصاف الْمَنْدُوب بالاجزاء) من الْفُقَهَاء (بِمَا فِي الِاسْتِنْجَاء) من الحَدِيث الْمَذْكُور إبْقَاء على وُجُوبه بِاعْتِبَار لفظ الاجزاء (قد يمْنَع) كَون المُرَاد بالاجزاء الْمَذْكُور فِيهِ الاجزاء عَن الْوَاجِب (عِنْدهم) أَي الْفُقَهَاء (فَإِنَّهُ) أَي الِاسْتِنْجَاء (مَنْدُوب) عِنْد الْحَنَفِيَّة إِذا لم يبلغ الْخَارِج قدر الدِّرْهَم (كاستدلال المعممين) أَي كَمَا يمْنَع اسْتِدْلَال الْقَائِلين بِأَنَّهُ يُوصف بِهِ الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب (بِمَا فِي الْأُضْحِية) من الحَدِيث السَّابِق ذكره (لِأَنَّهَا) أَي الْأُضْحِية (وَاجِبَة) عِنْد أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ (وَلَا يضرهم) أَي مانعي اتصاف الْمَنْدُوب بالاجزاء (مَا فِي الْفَاتِحَة) من الحَدِيث الْمَذْكُور (لقَولهم بِوُجُوبِهَا) أَي الْفَاتِحَة فِي الصَّلَاة (وَمُقْتَضى الدَّلِيل التَّعْمِيم) أَي تَقْسِيم اتصاف الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب بِهِ عِنْدهم (لحَدِيث الِاسْتِنْجَاء، ثمَّ قد يظنّ أَن الصِّحَّة وَالْفساد فِي الْعِبَادَات من أَحْكَام الشَّرْع الوضعية وَقد أنكر ذَلِك، إِذْ كَون الْمَفْعُول) أَي مَا فعله الْمُكَلف امتثالا (مُوَافقا لِلْأَمْرِ الطَّالِب لَهُ) أَي لذَلِك الْمَفْعُول كَمَا هُوَ معنى الصِّحَّة عِنْد الْمُتَكَلِّمين، وتوصيف الْأَمر بالطالب على سَبِيل الْمجَاز: إِذْ الطَّالِب إِنَّمَا هُوَ الْآمِر (أَو) كَونه (مُخَالفا) لِلْأَمْرِ الطَّالِب لَهُ كَمَا هُوَ معنى الْفساد عِنْدهم (وَكَونه) أَي الْمَفْعُول (تَمام مَا طلب حَتَّى يكون مسْقطًا: أَي رَافعا لوُجُوب قَضَائِهِ) كَمَا هُوَ معنى الصِّحَّة عِنْد الْفُقَهَاء (وَعَدَمه) أَي عدم كَون الْمَفْعُول تَمام الْمَطْلُوب كَمَا هُوَ معنى عدم الصِّحَّة عِنْدهم، وَكَون الْمَفْعُول مُبْتَدأ خَبره (يَكْفِي فِي مَعْرفَته الْعقل) حَال كَونه (غير مُحْتَاج إِلَى تَوْقِيف الشَّرْع) أَي اطِّلَاعه على ذَلِك (كَكَوْنِهِ) أَي كَمَا يعرف كَونه (مُؤديا للصَّلَاة وتاركا) لَهَا بِالْعقلِ (فحكمنا بِهِ) أَي بِكُل من الصِّحَّة وَالْفساد (عَقْلِي صرف) أَي خَالص، وَلما قيل أَنه لَا شكّ فِي أَنَّهُمَا من أَحْكَام الْوَضع فِي الْمُعَامَلَات، إِذْ لَا يستراب فِي أَن كَون الْمُعَامَلَات مستتبعة لثمراتها الْمَطْلُوبَة مِنْهَا متوقفة على تَوْقِيف من الشَّارِع تعقبه المُصَنّف، فَقَالَ (وَلَا يخفى أَن ترَتّب الْأَثر) على الْفِعْل كَالصَّلَاةِ وَالْبيع (وضعي) إِذْ لَيْسَ من قَضِيَّة الْعقل أَن يَتَرَتَّب على تِلْكَ الْأَفْعَال الْمَخْصُوصَة ذَلِك الثَّوَاب، وَأَن يَتَرَتَّب على الْإِيجَاب وَالْقَبُول الْملك، بل بِمُوجب تعْيين الشَّارِع أَن يكون لكل وَاحِد أثر كَذَا (وَكَون الحكم بِهِ) أَي بترتب الْأَثر على الْفِعْل (بعد مَعْرفَته) أَي الترتب حَاصِلا (بِالْعقلِ شَيْء آخر) غير أصل الترتب، وَيحْتَمل أَن يكون بِالْعقلِ مُتَعَلقا بالمبتدأ، وَهُوَ الْكَوْن بِمَعْنى، وَخَبره شَيْء آخر وَالْحَاصِل أَن أصل ترَتّب الْأَثر الْخَاص على الْفِعْل الْخَاص لَيْسَ بعقلي، بل بِوَضْع الشَّارِع لَكِن حكمنَا بِكَوْن الْفِعْل الْوَاقِع المستجمع لشرائطه الْمُعْتَبرَة شرعا بِحَيْثُ يَتَرَتَّب عَلَيْهِ أَثَره أَمر عَقْلِي،

(2/237)


لِأَنَّهُ إِذا نظر فِيهِ فَوَجَدَهُ مستجمعا لما ذكر حكم بِكَوْنِهِ مترتب الْأَثر (وَاعْلَم أَن نقل الْحَنَفِيَّة عَن الْفُقَهَاء والمتكلمين فِي الأَصْل) الْمَذْكُور فِي تَفْسِير الصِّحَّة وَمَا يقابلها، ونقلهم (وُقُوع الظَّان مخطئا على عكس) نقل (الشَّافِعِيَّة) أما الأول فَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِصَرِيح قَوْله (وَهِي المسئلة القائلة) على سَبِيل التَّجَوُّز، ومقول القَوْل (هَل تثبت صفة الْجَوَاز) الْإِضَافَة بَيَانِيَّة. وَقد يعبر عَنهُ بالاجزاء (للْمَأْمُور بِهِ) مُتَعَلق بتثبت (إِذا أَتَى) الْمَأْمُور (بِهِ) أَي بالمأمور بِهِ (إِلَى آخرهَا) وَهُوَ قَالَ بعض الْمُتَكَلِّمين لَا إِلَّا بِدَلِيل وَرَاء الْأَمر، وَالصَّحِيح عِنْد الْفُقَهَاء أَنه يثبت بِهِ صفة الْجَوَاز، كَذَا فِي الْمنَار، وَإِنَّمَا كَانَ عكس مَا نقلوا، لِأَن حَاصله أَن الصِّحَّة والاجزاء مُوَافقَة الْأَمر عِنْد الْمُتَكَلِّمين واندفاع وجوب الْقَضَاء عِنْد الْفُقَهَاء وَحَاصِل هَذِه المسئلة أَن الْمُوَافقَة لَيست بموجبة للاجزاء عِنْد الْمُتَكَلِّمين، وَعند الْفُقَهَاء مُوجبَة لَهُ، وَأما الثَّانِي فَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِمَا تضمنه قَوْله الْمَذْكُور: وَهُوَ أَن الصَّلَاة الْمَذْكُورَة صَحِيحَة ومجزية عِنْد الْفُقَهَاء وَغير مجزية وَلَا صَحِيحَة عِنْد الْمُتَكَلِّمين. قَالَ فِي البديع: قَالَ عبد الْجَبَّار لَا يكون الِامْتِثَال دَلِيل الاجزاء بِمَعْنى سُقُوط الْقَضَاء وَإِلَّا فَلَو كَانَ الِامْتِثَال مستلزما للاجزاء بِمَعْنى سُقُوط الْقَضَاء يلْزم أَن لَا يُعِيد الصَّلَاة أَو يَأْثَم إِذا علم الْحَدث بَعْدَمَا صلى بِظَنّ الطَّهَارَة، وَاللَّازِم بَاطِل لِأَنَّهُ مَأْمُور بِالْإِعَادَةِ وَغير آثم، وَإِنَّمَا تثبت هَذِه الْمُلَازمَة، لِأَن الْمُصَلِّي إِمَّا مَأْمُور أَن يُصَلِّي بِظَنّ الطَّهَارَة أَو بيقينها، فَإِن كَانَ الأول فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ لإتيانه بالمأمور بِهِ على وَجهه، وَإِن كَانَ الثَّانِي لزم الْإِثْم إِذْ لم يَأْتِ بالمأمور بِهِ على وَجهه قُلْنَا الْمُكَلف مَأْمُور بِأَمْر ثَان يتَوَجَّه بِالْأَدَاءِ حَال الْعلم بِفساد الْأَدَاء على حسب حَاله من الْعلم وَالظَّن حَتَّى لَو مَاتَ عِنْد الْعلم أَجْزَأته تِلْكَ الصَّلَاة وَسَقَطت الْإِعَادَة، وَحِينَئِذٍ لَا يَأْثَم إِذا صلى بِظَنّ الطَّهَارَة، لِأَن التَّكْلِيف بِحَسب الوسع، هَذَا عِنْد من يَقُول: الْقَضَاء بِأَمْر جَدِيد، وَلمن يُوجب الْقَضَاء بِالْأَمر الأول أَن يَجْعَل الاجزاء بالامتثال مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الْعلم أَو الظَّن بِالْفَسَادِ، وَأما مَعَه فَلَيْسَ الْإِتْيَان بالمأمور بِهِ دَلِيل الاجزاء انْتهى. قَوْله قُلْنَا إِلَى آخِره يرد عَلَيْهِ أَن عبد الْجَبَّار لم يرتب لُزُوم عدم الْإِعَادَة على مُجَرّد وُقُوع الِامْتِثَال بل عَلَيْهِ، وَكَونه مسْقطًا للْقَضَاء فَلَا إِشْكَال عَلَيْهِ، هَذَا وَلَا يظْهر وَجه قَوْله من الْعلم وَالظَّن، لِأَن أَدَاء الظَّان إِنَّمَا هُوَ بِحَسب الظَّن، إِذْ لَو كَانَ بِحَسب الْعلم لما تبين خِلَافه وَالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.