تيسير التحرير

(فصل الشَّافِعِيَّة}
قَالُوا (التَّرْجِيح اقتران الْإِمَارَة بِمَا تقوى الأمارة بِهِ على معارضها) فتغلبه فَيعْمل بهَا دونه (وَهُوَ) أَي هَذَا الْمَعْنى (وَإِن كَانَ) هُوَ (الرجحان وَسبب التَّرْجِيح) لَا نَفسه، لِأَنَّهُ جعل أحد المتعادلين راجحا بِإِظْهَار فضل فِيهِ (فالترجيح) أَي هَذَا التَّرْجِيح (اصْطِلَاحا) فَهُوَ حَقِيقَة عرفية خَاصَّة فِيهِ، ومجاز لغَوِيّ من تَسْمِيَة الشَّيْء باسم مسببه (والأمارة) أَي اعْتِبَار الأمارة الَّتِي هِيَ دَلِيل ظَنِّي، لِأَن الْقطعِي من الْأَدِلَّة (لِأَنَّهُ لَا تعَارض مَعَ قطع) وَالتَّرْجِيح مَا يتَخَلَّص بِهِ من التَّعَارُض (وَتقدم مَا فِيهِ) أَي فِي عدم التَّعَارُض مَعَ الْقطع فِي أول فصل التَّعَارُض: من أَن التَّحْقِيق جَرَيَانه فِي القطعيين أَيْضا كَمَا فِي الظنيين، وَأَن تَخْصِيص الظنيين بِهِ تحكم (فَيجب تَقْدِيمهَا) أَي الأمارة المقترنة بِمَا تقَوِّي بِهِ على معارضها (للْقطع عَن الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ بِهِ) أَي بتقديمها (وَأورد) على الْأَكْثَرين (شَهَادَة أَرْبَعَة مَعَ) شَهَادَة (اثْنَيْنِ) إِذا تَعَارَضَتَا فَإِن الظَّن بالأربعة أقوى، وَلَا تقدم شَهَادَة الْأَرْبَعَة على شَهَادَة الِاثْنَيْنِ (فالتزم) تَقْدِيم شَهَادَة الْأَرْبَعَة كَمَا هُوَ قَول لمَالِك وَالشَّافِعِيّ (وَالْحق الْفرق) بَين الشَّهَادَة وَالدَّلِيل، إِذْ كم من وَجه ترجح بِهِ الْأَدِلَّة دون الشَّهَادَات: وَذَلِكَ لِأَن الشَّهَادَة مقدرَة فِي الشَّرْع بِعَدَد مَعْلُوم فكفينا الِاجْتِهَاد فِيهَا، بِخِلَاف الرِّوَايَة فَإِنَّهَا مَبْنِيَّة عَلَيْهِ (وللحنفية) فِي تَعْرِيف التَّرْجِيح بِنَاء (على أَنه) أَي التَّرْجِيح (فعل) الْمُجْتَهد (إِظْهَار الزِّيَادَة لأحد المتماثلين على الآخر بِمَا لَا يسْتَقلّ) فَخرج النَّص مَعَ الْقيَاس الْمعَارض لَهُ صُورَة، فَلَا يُقَال النَّص رَاجِح عَلَيْهِ

(3/153)


لانْتِفَاء الْمُمَاثلَة الَّتِي هِيَ الِاتِّحَاد فِي النَّوْع، وَقد عرفت فَائِدَة التَّقْيِيد بِمَا لَا يسْتَقلّ من قَوْله فِي التَّعَارُض: والرجحان تَابع مَعَ التَّمَاثُل (و) لَهُم بِنَاء (على مثل مَا قبله) أَي من قبل هَذَا التَّعْرِيف، يَعْنِي إِظْهَار الزِّيَادَة إِلَى آخِره، وَهُوَ تَعْرِيف الشَّافِعِيَّة (فضل الخ) أَي لأحد المتماثلين على الآخر وَصفا، وَهُوَ قَول فَخر الْإِسْلَام وَغَيره كَمَا أَن اصْطِلَاح الشَّافِعِيَّة وضع لفظ التَّرْجِيح بِإِزَاءِ مَا هُوَ مُنَاسِب بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ كَذَلِك اصْطِلَاح بعض الْحَنَفِيَّة وضع لَهُ بِإِزَاءِ مَا هُوَ سَبَب بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ (وَأفَاد) تَعْرِيف الْحَنَفِيَّة (نفي التَّرْجِيح بِمَا يصلح دَلِيلا) فِي نَفسه مَعَ قطع النّظر عَن الدَّلِيل الْمُوَافق لَهُ فَلَا يرجح دَلِيل مُسْتَقل وَافقه دَلِيل مُسْتَقل آخر على دَلِيل مُنْفَرد لَيْسَ لَهُ ذَلِك: وَهَكَذَا فِي الْقيَاس (فَبَطل) التَّرْجِيح لأحد الْحكمَيْنِ المتعارضين (بِكَثْرَة الْأَدِلَّة) على الآخر (عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة لاستقلال كل من تِلْكَ الْأَدِلَّة فِي إِثْبَات الْمَطْلُوب فَلَا يَنْضَم إِلَى الآخر وَلَا يتحد بِهِ ليُفِيد تقويته، لِأَن الشَّيْء إِنَّمَا يتقوى بِصفة تُؤْخَذ فِي ذَاته لَا بانضمام مثله إِلَيْهِ (وترجيح مَا) أَي نَص (يُوَافق الْقيَاس على مَا) أَي نَص (يُخَالِفهُ) أَي الْقيَاس (لَيْسَ بِهِ) أَي بالترجيح لِكَثْرَة الْأَدِلَّة (عِنْد قابله) أَي من يقبل التَّرْجِيح بِكَثْرَة الْأَدِلَّة (لِأَنَّهُ) أَي الْقيَاس الْمُوَافق للنَّص (غير مُعْتَبر هُنَاكَ) لِأَنَّهُ لَا يعْتَبر فِي مُقَابلَة النَّص فَلَا يصلح دَلِيلا فِي نَفسه هُنَاكَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَلَيْسَ) الْقيَاس ثمَّة (دَلِيلا والاستقلال (فَرعه) أَي كَونه دَلِيلا، بل هُوَ بِمَنْزِلَة الْوَصْف لذَلِك النَّص (وَصَحَّ عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة (نَفْيه) أَي نفي تَرْجِيح مَا يُوَافق الْقيَاس على مَا يُخَالِفهُ. وَفِي الْكَشْف وَغَيره أَن الْأَصَح (لِأَنَّهُ) أَي الْقيَاس (دَلِيل فِي نَفسه مُسْتَقل) وَلذَا يثبت الحكم بِهِ عِنْد عدم النَّص وَالْإِجْمَاع و (لَكِن عدم شَرط اعْتِبَاره) هُنَا لما ذكرنَا (وَالْقِيَاس على مثله) أَي وترجح الْقيَاس على قِيَاس مثله معَارض لَهُ (بِكَثْرَة الْأُصُول) كَمَا سَيَأْتِي بَيَانهَا فِي محلهَا (لَيْسَ مِنْهُ) أَي من التَّرْجِيح بِكَثْرَة الْأَدِلَّة (لِأَنَّهَا) أَي الْأُصُول (لَا توجب حكم الْفَرْع) بل الْمُوجب لَهُ الْفَرْع الْمَوْجُود فِيهَا المثير للْحكم فَيحدث فِيهِ قُوَّة مرجحة (وَهُوَ) أَي وجوب حكم الْفَرْع هُوَ (الْمَطْلُوب) من الْقيَاس (فَيعْتَبر فِيهِ) أَي فِي حكم الْفَرْع (التَّعَارُض) بَين القياسين، ثمَّ يرجح الْقيَاس الَّذِي هُوَ أصُول يُؤْخَذ فِيهَا جنس الْوَصْف أَو نَوعه على مَا لَيْسَ كَذَلِك (فَهُوَ) أَي التَّرْجِيح بِكَثْرَة الْأُصُول ترجح (بِقُوَّة الْأَثر) وَهُوَ من الطّرق المصححة فِي تَرْجِيح الأقيسة كَمَا سَيَأْتِي. ثمَّ شرع فِي بَيَان مَا بِهِ التَّرْجِيح، فَقَالَ (فَفِي الْمَتْن) أَي مَا تضمنه الْكتاب وَالسّنة من الْأَمر وَالنَّهْي وَالْعَام وَالْخَاص وَنَحْوهَا يكون التَّرْجِيح (بِقُوَّة الدّلَالَة كالمحكم فِي عرف الْحَنَفِيَّة على الْمُفَسّر، وَهُوَ) أَي الْمُفَسّر عِنْدهم يرجح (على النَّص) فِي عرفهم (وَهُوَ) أَي النَّص فِي عرفهم

(3/154)


(على الظَّاهِر) فِي عرفهم، وَقد سبق تَفْسِيرهَا على التَّفْصِيل فِي التَّقْسِيم الثَّانِي من الْفَصْل الثَّانِي من المبادي اللُّغَوِيَّة (وَلذَا) أَي ولترجح الْأَقْوَى دلَالَة (لزم نفي التَّشْبِيه) عَن الله تَعَالَى (فِي) قَوْله عز وَجل {على الْعَرْش اسْتَوَى} وَنَحْوه مِمَّا يُوهم الْمَكَان لَهُ (ب) قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ كمثله شَيْء} لِأَنَّهُ مُقْتَضى نفي الْمُمَاثلَة بَينه وَبَين شَيْء مَا مُطلقًا، وَالْمَكَان والمتمكن متماثلان من حَيْثُ الْقدر، أَو يُقَال لَو كَانَ لَهُ مَكَان لَكَانَ مثل الْأَجْسَام فِي التَّمَكُّن، وَقدم الْعَمَل بِهَذِهِ الْآيَة لكَونهَا محكمَة لَا تحْتَمل تَأْوِيلا (ويضبط مَا تقدم من الاصطلاحين) للحنفية وَالشَّافِعِيَّة فِي ألقاب أَقسَام تقسيمات الدّلَالَة للمفرد فِي الْفَصْل الثَّانِي من الْمقَالة الأولى (يجمع وَيفرق) فسر الشَّارِح الْجمع بِأَن يحكم بِوُجُود بعض الْأَقْسَام على الاصطلاحين جَمِيعًا فِي بعض الْمَوَارِد، وَالْفرق بِأَن يحكم بِوُجُود بَعْضهَا على أحد الاصطلاحين دون الآخر، ثمَّ قَالَ وينشأ من ذَلِك تَرْجِيح الْبَعْض على الْبَعْض بِحَسب التَّفَاوُت بَينهمَا فِي قُوَّة الدّلَالَة انْتهى. وَالَّذِي يظْهر لي من السِّيَاق أَنه لما ذكر أَن التَّرْجِيح فِي الْمَتْن بِقُوَّة الدّلَالَة، وَذكر أقساما من الدوال وَأفَاد كَون بَعْضهَا أقوى من الْبَعْض فِي الدّلَالَة أَرَادَ أَن يرشدك إِلَى ضابطة يسهل مَعْرفَتهَا عَلَيْك بِسَبَب ضبطك الاصطلاحين وَهِي أَن تجمع بَين مَا لم يذكر من أَقسَام الدوال وَتنظر إِلَى النِّسْبَة بَين كل قسمَيْنِ من حَيْثُ قُوَّة الدّلَالَة ومقابلها وَهُوَ الْجمع، وتحكم بِكَوْن أَحدهمَا أقوى دلَالَة وَهُوَ الْفرق (والخفي) يرجح (على الْمُشكل عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة لما عرف من أَن الخفاء فِي الْمُشكل أَكثر مِنْهُ فِي الْخَفي (وَأما الْمُجْمل مَعَ الْمُتَشَابه) باصطلاح الْحَنَفِيَّة (فَلَا يتَصَوَّر) تَرْجِيح أَحدهمَا على الآخر (وَلَو) قصد إِلَى التَّرْجِيح (بعد الْبَيَان) للمجمل (لِأَنَّهُ) أَي تَرْجِيح أَحدهمَا على الآخر (بعد فهم مَعْنَاهُمَا) والمتشابه انْقَطع رَجَاء مَعْرفَته فِي الدُّنْيَا عِنْدهم (والحقيقة) ترجح (على الْمجَاز الْمسَاوِي) فِي الِاسْتِعْمَال لَهَا (شهرة اتِّفَاقًا) لِأَنَّهَا الأَصْل فِي الْكَلَام (وَفِي) تَرْجِيح الْمجَاز (الزَّائِد) فِي الِاسْتِعْمَال من حَيْثُ الشُّهْرَة على الْحَقِيقَة (خلاف أبي حنيفَة) فَإِنَّهُ يرجحها عَلَيْهِ وَقَالَ الْجُمْهُور وَمِنْهُم الصاحبان يرجح عَلَيْهَا، وَتقدم الْكَلَام فِي ذَلِك فِي الْفَصْل الْخَامِس فِي الْحَقِيقَة وَالْمجَاز (والصريح على الْكِنَايَة، والعبارة على الْإِشَارَة وَهِي) أَي الْإِشَارَة (على الدّلَالَة مَفْهُوم الْمُوَافقَة، وَهِي) أَي الدّلَالَة (على الْمُقْتَضى وَلم يُوجد لَهُ) أَي لترجيح الدّلَالَة عَلَيْهِ (مِثَال فِي الْأَدِلَّة وَقيل يتَحَقَّق) لَهُ مِثَال فِيهَا، وَهُوَ مَا (إِذا بَاعه) أَي عبدا (بِأَلف ثمَّ قَالَ) البَائِع وَالْمُشْتَرِي قبل نقد الثّمن (أعْتقهُ عني بِمِائَة) فَفعل، إِذْ (دلَالَة حَدِيث زيد بن أَرقم) الْمَذْكُور فِي المسئلة الَّتِي يَليهَا فصل التَّعَارُض (تَنْفِي صِحَّته) أَي بيع العَبْد الْمَذْكُور الثَّابِت اقْتِضَاء لشراء مَا بَاعَ بِأَقَلّ مِمَّا بَاعَ قبل نقد الثّمن (واقتضاء الصُّورَة) أَي قَول غير مَالك العَبْد لمَالِكه

(3/155)


عتق عَبدك عني بِمِائَة فِي غير هَذِه الْوَاقِعَة (يُوجِبهَا) أَي صِحَة البيع الْمُقْتَضى (وَلَيْسَ) هَذَا أَمْثَالًا لترجح الدّلَالَة على الْمُقْتَضى (إِذْ ليسَا) أَي بيع زيد واقتضاء الصُّورَة صِحَة البيع (دَلِيلين) سمعيين كَمَا هُوَ ظَاهر، فَأَيْنَ تعَارض الدَّلِيلَيْنِ الَّذِي التَّرْجِيح فَرعه، هَكَذَا شرح الشَّارِح هَذَا الْمحل وَمضى.
وَأَنت خَبِير بِأَن النزاع فِي تحقق الْمِثَال بعد تَسْلِيم كَون تَرْجِيح الدّلَالَة على الْمُقْتَضى من جملَة المرجحات فِي بَاب التَّعَارُض بَين الْأَدِلَّة وَعدم كَونهمَا دَلِيلين سمعيين إِن كَانَ بِسَبَب كَون بيع زيد أَو البَائِع الْمَذْكُور، واقتضاء لَفْظَة صِحَة البيع أَمريْن جزئيين لَا يُقَال لشَيْء مِنْهُمَا دَلِيل سَمْعِي فَالْجَوَاب أَنه إِذا حررنا النّظر عَن خصوصيتهما يرجعان إِلَى أصليين كليين، وَإِن كَانَ بِسَبَب أَن هذَيْن الدَّلِيلَيْنِ ليسَا دَلِيلين سمعيين، فللخصم أَن يَقُول حَدِيث زيد بن أَرقم من الْأَدِلَّة السمعية، وَالدّلَالَة على الْمُقْتَضى أَيْضا مِنْهَا، وعَلى تَقْدِير تَسْلِيم عدم كَونهمَا دَلِيلين لَا يَنْبَغِي أَن يُنَازع فِي تحقق الْمِثَال فِي عدم هَذَا لترجيح مِمَّا نَحن فِيهِ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال فِي قَوْله لم يُوجد لَهُ مِثَال فِي الْأَدِلَّة إِشَارَة إِلَى أَنه لَو فرض لَهُ مِثَال لَا يكون ذَلِك من جملَة التَّرْجِيح الْكَائِن بَين الْأَدِلَّة وَعدم كَونهمَا ليسَا من الْأَدِلَّة، وَفِيه مَا فِيهِ (وَلِأَن حَدِيث زيد إِنَّمَا نسب إِلَيْهِ) أَي إِلَى زيد (لِأَنَّهُ صَاحب الْوَاقِعَة فِي زمن عَائِشَة الرادة عَلَيْهِ) بِهِ بَيْعه وشراءه (فَلَا يكون غَيره) مِمَّن وَقع مِنْهُ مثل مَا وَقع من زيد (مثله) أَي مثل زيد (دلَالَة) يَعْنِي أَن مردودية وُقُوع مَا صدر من زيد بذلك الحَدِيث لَيست بطرِيق دلَالَة لنَصّ، وَكَذَلِكَ مردودية مثل صَنِيعه من غَيره بذلك الحَدِيث لَيست بِدلَالَة النَّص (إِذْ هُوَ) أَي الحَدِيث الْمَرْدُود بة على زيد (نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن شِرَاء مَا بَاعَ بِأَقَلّ مِمَّا بَاعَ قبل نقد الثّمن فَيثبت) هَذَا النَّهْي (فِي غَيره) أَي غير زيد (عبارَة كَمَا) يثبت (فِيهِ) أَي فِي زيد عبارَة أَيْضا (وَكَيف) يكون هَذَا من الدّلَالَة (وَلَا أَوْلَوِيَّة) لكَونه مَنْهِيّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مورد النَّص كأولوية ضرب الْأَبَوَيْنِ بِالْحُرْمَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حُرْمَة التأفيف على قَول من اشْترط فِي دلَالَة النَّص أَوْلَوِيَّة الْمَسْكُوت بالحكم فِي الدّلَالَة (وَلَا لُزُوم فهم المناط) للْحكم الْمَذْكُور فِي الْمَسْكُوت على مَا بَين فِي محلّة (فِي مَحل الْعبارَة) وَلَا دلَالَة بِدُونِهِ (والمقتضى) بِفَتْح الضَّاد أَي وترجح الْمُقْتَضى الَّذِي أثبت (للصدق عَلَيْهِ) أَي لكَون صدق الْكَلَام مَوْقُوفا على الْمُقْتَضى الَّذِي أثبت (لغيره) أَي لغير الصدْق وَهُوَ وُقُوعه شَرْعِيًّا لِأَن الصدْق فهم من وُقُوعه شَرْعِيًّا (وَمَفْهُوم الْمُوَافقَة على) مَفْهُوم (الْمُخَالفَة عِنْد قابله) بِالْبَاء الْمُوَحدَة كَذَا قَالَ الشَّارِح: أَي من يقبل مَفْهُوم الْمُخَالفَة لِأَن مَفْهُوم الْمُوَافقَة أقوى، وَلذَا لم يَقع خلاف وَألْحق بالقطعيات، وَقيل بِخِلَافِهِ لَكِن الأول هُوَ الصَّحِيح على مَا ذكره ابْن

(3/156)


الْحَاجِب (و) يرجح (الْأَقَل احْتِمَالا) على الْأَكْثَر احْتِمَالا (كالمشترك) الْمَوْضُوع (لاثْنَيْنِ على مَا) أَي الْمُشْتَرك (لأكْثر وَالْمجَاز الْأَقْرَب) إِلَى الْحَقِيقَة على مَا هُوَ أبعد مِنْهُ إِلَيْهَا (وَفِي كتب الشَّافِعِيَّة) يرجح الْمجَاز على مجَاز آخر (بأقربية الْمُصَحح) أَي العلاقة إِلَى الْحَقِيقَة مَعَ اتِّحَاد الْجِهَة (كالسبب الْأَقْرَب) فِي الْمُسَبّب (على) الْمُسَبّب (الْأَبْعَد) مِنْهُ فِي الْمُسَبّب (و) يرجح ب (قربه) أَي بِقرب الْمُصَحح إِلَى الْحَقِيقَة (دون) الْمُصَحح (الآخر) فِي الْمجَاز الآخر بِأَن يكون بَعيدا (كالسبب) أَي كإطلاق اسْم السَّبَب (على الْمُسَبّب على عَكسه) أَي إِطْلَاق اسْم الْمُسَبّب على السَّبَب كَأَن الْمُسَبّب لَا يسْتَلْزم سَببا معينا لجَوَاز ثُبُوته بِسَبَب آخر، بِخِلَاف السَّبَب فَإِنَّهُ يسْتَلْزم مسببا معينا (وَيَنْبَغِي تعارضهما) أَي مَا سمي باسم سَببه وَمَا سمي باسم مسببه (فِي) السَّبَب (المتحد) لمسبب فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يسْتَلْزم كل مِنْهُمَا الآخر بِعَيْنِه لِأَن الْمَفْرُوض أَنه لَيْسَ إِلَّا سَبَب وَاحِد (وَمَا) أَي الْمجَاز الَّذِي (جَامعه) أَي علاقته (أشهر) مترجح على مَا علاقته دون ذَلِك فِي الشُّهْرَة (و) الْمجَاز (الْأَشْهر) اسْتِعْمَالا (مُطلقًا) أَي فِي اللُّغَة أَو فِي الشَّرْع أَو فِي الْعرف على غَيره (وَالْمَفْهُوم وَالِاحْتِمَال الشرعيان) يترجحان على الْمَفْهُوم وَالِاحْتِمَال اللَّذين ليسَا بشرعيين، لم يذكر الشَّارِح للمفهوم الشَّرْعِيّ وَمُقَابِله مِثَالا وَلم يبين مَعْنَاهُ وَهَكَذَا فعل فِي الِاحْتِمَال الشَّرْعِيّ مُقَابِله، وَالَّذِي يظْهر لي أَن الحكم الْمَنْطُوق إِذا كَانَ شَرْعِيًّا كَانَ الْمَفْهُوم أَيْضا شَرْعِيًّا وَإِذا لم يكن شَرْعِيًّا كَانَ مَفْهُومه كَذَلِك، وَإِن كَانَ مفَاد مَفْهُومه حكما شَرْعِيًّا وَلَا تتَحَقَّق الْمُعَارضَة إِلَّا إِذا كَانَ مفَاد الْمَفْهُوم الشَّرْعِيّ ومفاد مُقَابِله حكما شَرْعِيًّا، وَأما مِثَال الِاحْتِمَال الشَّرْعِيّ وَمَا قابله فَمثل الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يُرَاد صَلَاة فِي اللُّغَة وَأَنه كَالصَّلَاةِ فِي اشْتِرَاط الطَّهَارَة (بِخِلَاف) اللَّفْظ (الْمُسْتَعْمل) للشارع (فِي) مَعْنَاهُ (اللّغَوِيّ مَعَه) أَي اسْتِعْمَاله (فِي) الْمَعْنى (الشَّرْعِيّ) فَإِنَّهُ يقدم الْمَعْنى اللّغَوِيّ على الشَّرْعِيّ عِنْد تعارضهما ممكنين فِي اطلاق، وَمعنى اسْتِعْمَاله فيهمَا أَنه يحْتَمل أَن يكون مُسْتَعْملا فِي كل مِنْهُمَا على سَبِيل الْبَدَلِيَّة، مِثَاله النِّكَاح يسْتَعْمل لُغَة فِي الْوَطْء وَشرعا فِي العقد (وَفِيه) أَي فِي هَذَا (نظر) لِأَن اسْتِعْمَاله فِي مَعْنَاهُ الشَّرْعِيّ (كأقربية الْمُصَحح وقربه وأشهريته) أَي كَمَا فِي تَرْجِيح كل من هَذِه الثَّلَاثَة على مَا يُقَابله نظر (بل وأقربية نفس الْمَعْنى الْمجَازِي) أَي بل فِي تَرْجِيح هَذَا على مجَاز لَيْسَ كَذَلِك نظر أَيْضا كَمَا سَيعْلَمُ (وأولوية) الْمجَاز الَّذِي هُوَ نفى (الصِّحَّة فِي لَا صَلَاة) لمن لم يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب على الْمجَاز الَّذِي هُوَ نفي الْكَلَام فِيهِ (لذَلِك) أَي لِأَن نفى الصِّحَّة الْمجَاز الْأَقْرَب إِلَى نفى الذَّات (مَمْنُوع لِأَن النَّفْي) وَارِد (على النِّسْبَة لَا) على (طرفها) الأول (و) طرفها (الثَّانِي مَحْذُوف فَمَا قدر) أَي فَهُوَ مَا قدر خبر للطرف الأول وَإِذا كَانَ الْأَمر هَكَذَا (كَانَ كل الْأَلْفَاظ) الملفوظ مِنْهَا والمقدر فِي

(3/157)


التَّرْكِيب الْمَذْكُور (حقائق) لاستعمالها فِي مَعَانِيهَا الوضعية (غير أَن خصوصه) أَي الْمُقدر إِنَّمَا يتَعَيَّن (بِالدَّلِيلِ) الْمعِين لَهُ (وَوَجهه) أَي النّظر فِي تَرْجِيح مَا اشْتَمَل على أقربية الْمُصَحح إِلَى آخِره (أَن الرجحان) إِنَّمَا هُوَ (بِمَا يزِيد قُوَّة دلَالَة على المُرَاد أَو) بِمَا يزِيد قُوَّة دلَالَة على (الثُّبُوت) وَهَذِه الْمَذْكُورَات لَيْسَ فِيهَا ذَلِك (والحقيقي) أَي وَالْفَرْض أَن الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ (لم يرد) من إِطْلَاق اللَّفْظ (فَهُوَ) أَي الْحَقِيقِيّ الَّذِي لَيْسَ بِمُرَاد مِنْهُ (كَغَيْرِهِ) من الْمعَانِي الَّتِي لَيست بمرادة مِنْهُ (وَتعين الْمجَازِي فِي كل) أَي كل اسْتِعْمَال لَهُ فِيهِ إِنَّمَا هُوَ (بِالدَّلِيلِ) الْمعِين لَهُ (فاستويا) أَي المجازيان (فِيهِ) أَي فِيمَا ذكر أَو فِي اللَّفْظ بِاعْتِبَار مَا ذكر وَالْحَاصِل أَنه إِذا ذكر لفظ وَصرف الدَّلِيل عَن إِرَادَة مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ إِلَى مَا يَصح أَن يتجوز فِيهِ فَلَا يتَعَيَّن المُرَاد إِلَّا بالمعين فالمدار عَلَيْهِ فكون أحد المفادين مجَازًا بِحَيْثُ يكون بَينه وَبَين الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ قرب فِي ذَاته أَو فِي مصححه أَو بِحَيْثُ يكون مصححه أشهر لَا أثر لَهُ، وَقد يُقَال المجازيان إِذا كَانَ لكل مِنْهُمَا قرينَة مُعينَة فاستويا فِيهِ بِاعْتِبَار ذَلِك لَكِن تكون العلاقة المصححة لأَحَدهمَا مَوْصُوفَة بِالْقَرِينَةِ مثلا كَانَ دلَالَته أوضح فَإِن الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ وَإِن لم يكن مرَادا لكنه وَاسِطَة فِي الِانْتِقَال إِلَى الْمجَازِي، وَلَا نسلم أَنه كَسَائِر الْمعَانِي الَّتِي لَيست مُرَادة فَتَأمل (نعم لَو احتملت دلَالَته) أَي دلَالَة الْمعِين لأحد المجازيين (دون الآخر) بِأَن يكون التَّعْيِين على احْتِمَال فَقَط وَأما الْمعِين للْآخر فَلَا يكون مُحْتملا بل يكون نصا فِي المُرَاد فَحِينَئِذٍ يكون هَذَا أرجح (وَذَلِكَ) أَي التَّعْيِين بِاعْتِبَار الِاحْتِمَال وَعَدَمه (شَيْء آخر) غير الْقرب من الْحَقِيقِيّ والبعد مِنْهُ (وَمَا أكدت دلَالَته) يرجح على مَا لَيْسَ كَذَلِك لِأَنَّهُ أغلب على الظَّن (والمطابقة) ترجح على التضمن والالتزام لِأَنَّهَا أضبط (والنكرة فِي) سِيَاق (الشَّرْط) تترجح (عَلَيْهَا) أَي النكرَة (فِي) سِيَاق (النَّفْي وَغَيرهَا) أَي وعَلى غير النكرَة كالجمع الْمحلى والمضاف (لقُوَّة دلالتها) أَي النكرَة فِي سِيَاق الشَّرْط (بإفادة التَّعْلِيل) لِأَن الشَّرْط كالعلة وَالْحكم الْمُعَلل دلَالَة الْكَلَام عَلَيْهِ أقوى (وَالتَّقْيِيد) للنكرة الَّتِي رجحت عَلَيْهَا النكرَة فِي سِيَاق الشَّرْط (بِغَيْر المركبة) أَي المبنية على الْفَتْح لِأَن لَا فِيهَا لنفي الْجِنْس لكَونهَا نصا فِي الِاسْتِغْرَاق (تقدم) فِي الْبَحْث الثَّانِي من مبَاحث الْعَام (مَا يَنْفِيه) أَي التَّقْيِيد الْمَذْكُور فيستوي الْحَال بَين أَن تكون مركبة أَولا (وَكَذَا الْجمع الْمحلي والموصول) يتَرَجَّح كل مِنْهُمَا (على) اسْم الْجِنْس (الْمُعَرّف) بِاللَّامِ لِكَثْرَة اسْتِعْمَاله فِي الْمَعْهُود فَتَصِير دلَالَته على الْعُمُوم ضَعِيفَة، على أَن الْمَوْصُول مَعَ صلته يُفِيد التَّعْلِيل كَمَا تفيده النكرَة فِي سِيَاق الشَّرْط (وَالْعَام) يتَرَجَّح (على الْخَاص فِي الِاحْتِيَاط) أَي فِيمَا إِذا كَانَ الِاحْتِيَاط فِي الْعَمَل كَمَا لَو كَانَ محرما وَالْخَاص مبيحا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الِاحْتِيَاط فِيهِ

(3/158)


(جمع) بَينهمَا بِالْعَمَلِ بالخاص فِي مَحَله وبالعام فِيمَا سواهُ (كَمَا تقدم) فِي فصل التَّعَارُض (وَالشَّافِعِيَّة) يتَرَجَّح عِنْدهم (الْخَاص دَائِما) على الْعَام لِأَنَّهُ غير مُبْطل للعام بِخِلَاف الْعَمَل بِالْعَام فَإِنَّهُ مُبْطل للخاص وَلِأَنَّهُ أقوى دلَالَة (وَمَا) أَي الْعَام الَّذِي (لزمَه تَخْصِيص) يتَرَجَّح (على خَاص ملزوم التَّأْوِيل) لِأَن تَخْصِيص الْعَام أَكثر من تَأْوِيل الْخَاص (وَالتَّحْرِيم) يتَرَجَّح (على غَيره) من الْوُجُوب وَالنَّدْب وَالْإِبَاحَة وَالْكَرَاهَة كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب (فِي الْمَشْهُور احْتِيَاطًا) إِذْ غَايَة مَا يلْزم من تَقْدِيمه ترك الْوَاجِب وَهُوَ فِيمَا إِذا كَانَ فِي مُقَابلَة الْمُوجب وَإِن كَانَ للمناقشة مجَال، وَقد يسْتَدلّ بقوله عَلَيْهِ السَّلَام
" مَا اجْتمع الْحَرَام والحلال إِلَّا وَغلب الْحَرَام الْحَلَال " وَفِيه مقَال للحفاظ (وَإِذا ثَبت أَنه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كَانَ يحب مَا خفف على أمته) وَالْأَخْبَار فِيهِ أَكثر من أَن تحصى، وَمِنْهَا قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
" إِذا أم أحدكُم النَّاس فليخفف، فَإِن فيهم الصَّغِير وَالْكَبِير والضعيف وَالْمَرِيض وَذَا الْحَاجة " مُتَّفق عَلَيْهِ (اتجه قلبه) أَي تَرْجِيح غير التَّحْرِيم، وَتعقبه الشَّارِح بِأَن هَذَا لَا يتم فِي الْوُجُوب إِذْ لَيْسَ فِي تَرْجِيحه عَلَيْهِ تَخْفيف لِأَن الْمحرم يتَضَمَّن اسْتِحْقَاق الْعقَاب على الْفِعْل، والموجب يتضمنه على التّرْك فَتعذر الِاحْتِيَاط، فَلَا جرم أَن جزم بالتساوي بَينهمَا الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور وَقَالَ لَا يقدم أَحدهمَا على الآخر انْتهى، وَقد يُقَال أَن التَّحْرِيم منع عَن الْفِعْل، والإيجاب إِلْزَام بِهِ، والمرء حَرِيص لما منع فَهُوَ أشق على النَّفس، وَهُوَ الَّذِي أخرج آدم من الْجنَّة فَإِن الصَّبْر عَن الْمنْهِي أصعب (وَالْوُجُوب) يرجح (على مَا سوى التَّحْرِيم) من الْكَرَاهَة وَالنَّدْب للِاحْتِيَاط (وَالْكَرَاهَة) ترجح (على النّدب) لما ذكر (وَالْكل) من الْكَرَاهَة وَالتَّحْرِيم وَالْوُجُوب وَالنَّدْب يرجح (على الْإِبَاحَة) لما ذكر أَيْضا (فتقديم الْأَمر) على مَا سوى النَّهْي (وَالنَّهْي) على مَا سواهُ مُطلقًا أَو على الْأَمر (لَيْسَ لذاتيهما) بل لِأَن مَدْلُول الْأَمر الْوُجُوب، وَقد قدم للِاحْتِيَاط ومدلول النَّهْي التَّحْرِيم وَقد قدم كَذَلِك (وَالْخَاص من وَجه) أَي من بعض جهاته لَا من كل وَجه يرجح (على الْعَام مُطلقًا) أَي من جَمِيع جهاته لِأَن احْتِمَال تَخْصِيصه أَكثر من الْخَاص من وَجه لَا يدْخلهُ التَّخْصِيص من ذَلِك الْوَجْه (و) الْعَام (الَّذِي لم يخص) يرجح على الْعَام الَّذِي خص، نَقله إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن الْمُحَقِّقين مُعَللا بِأَن دُخُول التَّخْصِيص يضعف اللَّفْظ، والرازي بِأَن الَّذِي دخله قد أزيل عَن تَمام مُسَمَّاهُ والحقيقة ترجح على الْمجَاز (وَذكر من) تعَارض (الْأَدِلَّة) للْأَحْكَام (مَا) أَي التَّعَارُض بَين الدَّلِيلَيْنِ اللَّذين (بَينهمَا) عُمُوم (من وَجه) لَا يخفى عَلَيْك أَن التَّعَارُض إِنَّمَا يتَحَقَّق إِذا أَفَادَ كل مِنْهُمَا نقيض الآخر فَلَا بُد من اتِّحَاد النِّسْبَة، وَلها بِاعْتِبَار طرقه ومتعلقاتها جِهَات، وَتلك الْجِهَات تقبل الْعُمُوم وَالْخُصُوص فَإِن كَانَ أحد الدَّلِيلَيْنِ

(3/159)


عَاما بِاعْتِبَار جِهَة وخاصا بِاعْتِبَار أُخْرَى، وَالْآخر على عَكسه بِأَن يكون خَاصّا بِاعْتِبَار مَا كَانَ بَينهمَا عُمُوما من وَجه (مثل لَا صَلَاة لمن لم يقْرَأ بِالْفَاتِحَةِ) وَلَفظ الصَّحِيحَيْنِ بِفَاتِحَة الْكتاب فَإِن هَذَا (عَام فِي الْمُصَلِّين) لِأَن الْمَعْنى لَا صَلَاة لكل مصل لم يقْرَأ بهَا ضَرُورَة كَون كلمة من من صِيغ الْعُمُوم (خَاص فِي المقروء) إِذْ الْفَاتِحَة اسْم لسورة مَخْصُوصَة (وَمن كَانَ لَهُ إِمَام فقراءة الإِمَام لَهُ قِرَاءَة) أخرجه ابْن منيع بِإِسْنَاد صَحِيح على شَرط البُخَارِيّ وَمُسلم فَإِن هَذَا (خَاص بالمقتدى) لَيْسَ المُرَاد بالخاص مَا يُقَابل الْمجَاز الاصطلاحي إِذْ لَا فرق بَين من كَانَ بِإِمَام وَبَين من لم يقْرَأ فِي الْعُمُوم الاصطلاحي، بل المُرَاد أَنه يَشْمَل المقتدى فَقَط بِخِلَاف من لم يقْرَأ، فَإِنَّهُ يعمه وَغَيره (عَام فِي المقروء) إِذْ يعم كل مَا يقْرَأ الإِمَام فَاتِحَة كَانَ أَو غَيره (فَإِن خص عُمُوم الْمُصَلِّين) فِي لَا صَلَاة (بالمقتدى) وَيُقَال أَن المُرَاد بالمصلين هُنَاكَ من عدا المقتدى (عَن وُجُوبهَا) أَي حكم وجوب الْفَاتِحَة (عَلَيْهِ) أَي على المقتدى فَلَا يجب عَلَيْهِ (وَجب أَن يخص خُصُوص المقروء) فِي الحَدِيث الأول (وَهُوَ) أَي المقروء (الْفَاتِحَة عُمُوم المقروء الْمَنْفِيّ) فِي الحَدِيث الثَّانِي (عَن المقتدى) إِذْ جعل قِرَاءَة الإِمَام قِرَاءَة لَهُ تفِيد أَن لَا يقْرَأ بِنَفسِهِ (فَتجب عَلَيْهِ الْفَاتِحَة فيتدافعان) أَي الدليلان فِي المقتدى، أوجب الأول عَلَيْهِ قِرَاءَة الْفَاتِحَة وَنفى الثَّانِي وُجُوبهَا عَلَيْهِ تَوْضِيحه أَن الأول نفى صَلَاة كل مصل بِدُونِ الْفَاتِحَة فَلَزِمَ نفى صَلَاة المقتدى بِدُونِهَا ضمنا فأوجبها عَلَيْهِ، وَالثَّانِي نفى جنس الْقِرَاءَة عَنهُ فنفى وجوب الْفَاتِحَة بِخُصُوصِهِ فَعِنْدَ ذَلِك يطالبنا الْخصم بِمثل هَذِه الْمُعَامَلَة ومثبته هَذَا بِخُصُوصِهِ (فَالْوَجْه فِي هَذَا) الْمِثَال (أَن) يُقَال (لَا تعَارض) بَين الدَّلِيلَيْنِ الْمَذْكُورين (إِذْ لم ينف) الدَّلِيل الثَّانِي (قرَاءَتهَا) أَي وجوب قِرَاءَة الْفَاتِحَة (على المقتدين بل ثَبت أَن قِرَاءَة الإِمَام جعلت شرعا قِرَاءَة لَهُ) أَي المقتدى (بِخِلَاف النَّهْي عَنْهَا) أَي الصَّلَوَات (فِي الْأَوْقَات) الثَّلَاثَة: وَقت طُلُوع الشَّمْس حَتَّى ترْتَفع، وَوقت استوائها حَتَّى تَزُول، وَوقت ميلها إِلَى الْغُرُوب حِين تغرب. لما فِي صَحِيح مُسلم وَغَيره (مَعَ من نَام عَن صَلَاة) فليصلها إِذا ذكرهَا أخرجه بِمَعْنَاهُ مُسلم (وَفِي بعض كتب الشَّافِعِيَّة) كشرح منهاج الْبَيْضَاوِيّ للأسنوي (يطْلب التَّرْجِيح فيهمَا) أَي المتعارضين اللَّذين بَينهمَا عُمُوم من وَجه (من خَارج وَكَذَا يجب للحنفية) أَي يطْلب التَّرْجِيح فيهمَا من خَارج لِأَن كلا أَخذ مُقْتَضى خصوصه فِي عُمُوم الآخر ثمَّ وَقع التَّعَارُض بَينهمَا (وَالْمحرم مُرَجّح) على غَيره، وَحَدِيث النهى محرم وَحَدِيث من نَام مُطلق فيترجح (وَمَا جرى بِحَضْرَتِهِ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فَسكت) عَنهُ يتَرَجَّح (على مَا بلغه) فَسكت عَنهُ ذكره الْآمِدِيّ (وَالْوَجْه تَقْيِيده)

(3/160)


أَي مَا بلغه فَسكت عَنهُ (بِمَا إِذا ظهر عدم ثُبُوته) أَي ثُبُوت وُقُوع هَذَا الَّذِي بلغه (لَدَيْهِ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لجَوَاز أَن يكون سُكُوته عَنهُ حِينَئِذٍ لعلمه بِعَدَمِ وُقُوعه من وَحي أَو غَيره، إِذْ عِنْد اطِّلَاعه بِمَا جرى لَا فرق بَين الْحُضُور والغيب فِي عدم جَوَاز السُّكُوت عَنهُ على تَقْدِير كَونه مُنْكرا (وَمَا) روى (بصيغته) أَي بِلَفْظ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَرَجَّح (على المنفهم عَنهُ) أَي على الَّذِي انفهم عَنهُ فروى عَنهُ فالعبارة للراوي لَا لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَوَاء أفهمهُ من لَفظه أَو من فعله إِذْ يتَطَرَّق إِلَى هَذَا احْتِمَال الْغَلَط فِي الْفَهم، وَقيل لِأَن المحكى بِاللَّفْظِ أجمع على قبُوله بِخِلَاف المحكى بِالْمَعْنَى (ونافى مَا يلْزمه) أَي الْخَبَر الَّذِي يَنْفِي حكما شَرْعِيًّا يلْزمه (دَاعِيَة) إِلَى مَعْرفَته لكَونه مِمَّا تعم بِهِ الْبلوى (فِي) خبر (الْآحَاد) يتَرَجَّح (على) مُثبت (مثله) مِمَّا يلْزمه دَاعِيَة من خبر الْآحَاد كَخَبَر مُطلق يَنْفِي وجوب الْوضُوء من مس الذّكر، وَخبر بسرة بإثباته، وَتقدم وَجهه على أصُول الْحَنَفِيَّة، وَنقل إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن جُمْهُور الْعلمَاء تقدم الْمُثبت وَقيل بتسويتهما وَاخْتَارَهُ الْغَزالِيّ. وَقَالَ النَّوَوِيّ النَّفْي المحصور وَالْإِثْبَات سيان (ومثبت دَرْء الْحَد) أَي رفع إِيجَابه يتَرَجَّح (على مُوجبه) أَي الْحَد لما فِي الأول من الْيُسْر وَعدم الْحَرج. قَالَ تَعَالَى - {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر. وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} - وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " ادرءوا الْحُدُود " رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ (وَمُوجب الطَّلَاق وَالْعتاق) يتَرَجَّح على نافيهما، وَذَلِكَ لِأَن الأول محرم للتَّصَرُّف فِي الزَّوْجَة وَالرَّقِيق، وَثَانِيهمَا مُبِيح والحظر مقدم على الْإِبَاحَة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (ويندرج) موجبهما (فِي الْمحرم، وَقيل بِالْعَكْسِ) أَي يتَرَجَّح نافيهما على، مُوجبهَا لِأَنَّهُ على وفْق الدَّلِيل الْمُقْتَضى لصِحَّة النِّكَاح وَإِثْبَات ملك الْيَمين (وَالْحكم التكليفي) يتَرَجَّح (على الوضعي) قَالَ الشَّارِح لِأَن التكليفي مُحَصل للثَّواب الْمَقْصُود للشارع بِالذَّاتِ وَأكْثر الْأَحْكَام تكليفي (وَقيل بعكسه، وَمَا يُوَافق الْقيَاس) من النُّصُوص يتَرَجَّح على نَص لم يُوَافقهُ (فِي الأحق) من الْقَوْلَيْنِ، لِأَن الْقيَاس حِينَئِذٍ لَيْسَ بِدَلِيل مُسْتَقل لوُجُود النَّص فَيصير مُوَافقا على مَا مر (وَمَا لم يُنكر الأَصْل) رِوَايَة الْفَرْع فِيهِ يتَرَجَّح على مَا أنكر الأَصْل رِوَايَة الْفَرْع فِيهِ. قَالَ السُّبْكِيّ: وَهَذَا فِيمَا أنكر الأَصْل وصمم على إِنْكَاره أهـ قلت وَكَذَا إِذا أنكر ثمَّ شكّ فِيهِ، وَمَا لم يَقع فِيهِ مثل ذَلِك لَا شكّ أَنه أرجح فَتَأمل، ثمَّ إِذا عَارض الْإِجْمَاع نَص أطلق ابْن الْحَاجِب تَقْدِيم الْإِجْمَاع على النَّص، وَقَالَ المُصَنّف (وَالْإِجْمَاع الْقطعِي) يتَرَجَّح (على نَص كَذَلِك) أَي قَطْعِيّ كتابا كَانَ أَو سنة متواترة، وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: يَنْبَغِي أَن يُقيد بالظنيين وَتوقف المُصَنّف فِيهِ حَيْثُ قَالَ (وَكَون) الْإِجْمَاع (الظني كَذَلِك) أَي يرجح على نَص ظَنِّي (ترددنا فِيهِ) أَي لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي تَقْدِيم الْإِجْمَاع مُطلقًا

(3/161)


على النَّص كَمَا فِي تَقْدِيم الْإِجْمَاع الْقطعِي على النَّص الْقطعِي بِعَدَمِ قبُوله النّسخ غير أَن وجود التَّعَارُض بَين القطعيين مُشكل لِأَن النَّص الْقطعِي مقدم على الْإِجْمَاع وَكَيف ينْعَقد الْإِجْمَاع فِي مُقَابلَة قَطْعِيّ، إِذْ يلْزم اجْتِمَاع الْأمة على الضَّلَالَة، وَأما الْإِجْمَاع الظني فقد يكون الظني الْمَتْن إِذا كَانَ الْمجمع عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يدل على الحكم دلَالَة قَطْعِيَّة وَقد يكون ظنية بِاعْتِبَار طَرِيق نَقله الينا فَيَنْبَغِي أَن يعْتَبر فِي تعَارض الظنيين قُوَّة الظَّن وَضَعفه وَذَلِكَ يتَفَاوَت بِاعْتِبَار الْموَاد وَلَا يحكم بِتَقْدِيم الْإِجْمَاع الظني على النَّص الظني على الْإِطْلَاق (وَمَا عمل) بِهِ الْخُلَفَاء (الراشدون) أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي رَضِي الله عَنْهُم يرجح على مَا لَيْسَ كَذَلِك، إِذْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بمتابعتهم والاقتداء بهم، ولكونهم أعرف بالتنزيل ومواقع الْوَحْي والتأويل: وَلَا سِيمَا إِذا كَانَ بِمحضر من الصَّحَابَة وَلم يُخَالف فِيهِ أحد فَإِنَّهُ يحل مَحل الْإِجْمَاع، وَذهب أَبُو حَازِم أَن مَا اتّفقت الْأَرْبَعَة عَلَيْهِ إِجْمَاع، وَالْأَكْثَر على خِلَافه كَمَا سَيَأْتِي (أَو علل) أَي الحكم الَّذِي تعرض فِيهِ لِلْعِلَّةِ يتَرَجَّح على الَّذِي لم يتَعَرَّض فِيهِ لَهَا (لإِظْهَار الاعتناء بِهِ) لِأَن ذكر علته يدل على الاهتمام بِهِ والحث عَلَيْهِ (لَا الأقبلية) أَي لِأَن الْفَهم أقبل لَهُ لسُهُولَة فهمه لكَونه مَعْقُول الْمَعْنى كَمَا فِي الشَّرْح العضدي، وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْآمِدِيّ (كَمَا) يتَرَجَّح مَا (ذكر مَعَه السَّبَب) هُوَ الْعلَّة الباعثة عَلَيْهِ ظَاهرا فدلالته قَوِيَّة (وَفِي السَّنَد) أَي وَالتَّرْجِيح للمتن بِاعْتِبَار حِكَايَة طَرِيقه (كالكتاب) أَي كترجيحه (على السّنة) وَهَذَا على إِطْلَاق قَول بَعضهم. قَالَ السُّبْكِيّ وَلَا يقدم الْكتاب على السّنة وَلَا السّنة عَلَيْهِ خلافًا لزاعميهما: أما الأول فلحديث معَاذ الْمُشْتَمل على أَنه يقْضِي بِكِتَاب الله فَإِن لم يجد فبسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ، وَأقرهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما الثَّانِي فَلقَوْله تَعَالَى - {لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} -. ثمَّ قَالَ وَالأَصَح تساوى الْمُتَوَاتر من كتاب أَو سنة وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ أصُول أَصْحَابنَا على مَا قدمه المُصَنّف فِي أول فصل التَّعَارُض أَن الْقطعِي الدّلَالَة من السّنة القطعية السَّنَد يتَرَجَّح على الظنية الدّلَالَة من الْكتاب، والقطعي الدّلَالَة مِنْهُمَا إِذا لم يعلم تاريخهما لَا يرجح أَحدهمَا على الآخر بِكَوْنِهِ كتابا أَو سنة، بل بِمَا سوغ تَرْجِيحه بِهِ إِن أمكن، وَإِلَّا جمع بَينهمَا إِن أمكن، وَإِلَّا تساقطا، وَإِن علم تاريخهما نسخ الْمُتَأَخر الْمُتَقَدّم، فقطعي الدّلَالَة من الْكتاب يتَرَجَّح على الْقطعِي السَّنَد الظني الدّلَالَة من السّنة لقُوَّة دلَالَته فَلم يبْق مَا ينطبق عَلَيْهِ إِلَّا مَا كَانَ من السّنة قَطْعِيّ الدّلَالَة ظَنِّي السَّنَد مَعَ مَا كَانَ من أَمر الْكتاب ظَنِّي الدّلَالَة لرجحان الْكتاب حِينَئِذٍ بِاعْتِبَار السَّنَد، هَكَذَا ذكر الشَّارِح (ومشهورها) أَي وكترجيح الْخَبَر الْمَشْهُور من السّنة (على الْآحَاد) لرجحان سَنَده (كاليمين على من أنكر) فَإِنَّهُ خبر مَشْهُور رجح (على خبر الشَّاهِد وَالْيَمِين) أَي الْقَضَاء بهما للْمُدَّعِي. أخرجه مُسلم وَغَيره، وَهُوَ من أَخْبَار الْآحَاد الَّتِي لم تبلغ حد

(3/162)


الشُّهْرَة: فَلِذَا لم يَأْخُذ بِهِ أَصْحَابنَا مُطلقًا خلافًا للأئمة الثَّلَاثَة فِي بعض الموراد على مَا عرف فِي الْفِقْه (و) يرجح الْخَبَر (بِفقه الرَّاوِي) وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بِهِ الِاجْتِهَاد كَمَا هُوَ عرف السّلف (وَضَبطه) وَتقدم بَيَانه (وورعه) أَي تقواه، وَهُوَ الْإِتْيَان بالواجبات والمندوبات والاجتناب عَن الْمُحرمَات والمكروهات، كَذَا ذكره الشَّارِح، لَعَلَّ الْإِتْيَان بالمندوبات والاجتناب عَن المكروهات وَلَو كَانَت تنزيهية إِنَّمَا اعْتبر فِي مَفْهُوم الْوَرع لَا التَّقْوَى، فعلى هَذَا تَفْسِيره للتقوى مَحل مناقشة (وشهرته) أَي ويرجح الْخَبَر بشهرة روايه (بهَا) أَي بالأمور الْمَذْكُورَة على خبر روايه مَوْصُوف بهَا، لكنه لم يشْتَهر بهَا (وبالرواية وَأَن لم يعلم رجحانه فِيهِ) أَي يرجح لشهرته بالرواية لِأَن الظَّن فِيهِ أقوى، وَذكر شمس الْأَئِمَّة أَن اعْتِبَار الرِّوَايَة لَيْسَ بمرجح على من لم يقيدها ثمَّ مِنْهُم من خص التَّرْجِيح بالفقه بالمروي بِالْمَعْنَى. وَفِي الْمَحْصُول وَالْحق الْإِطْلَاق لِأَن الْفَقِيه يُمَيّز بَين مَا يجوز وَمَا لَا يجوز، فَإِذا سمع مَا لَا يجوز أَن يحمل على ظَاهره بحث عَنهُ وَسَأَلَ عَن مقدماته وَسبب نُزُوله فَيطلع على مَا يَزُول بِهِ الْإِشْكَال، بِخِلَاف الْعَاميّ. قَالَ ابْن برهَان وبكون أَحدهمَا أفقه من الآخر بِقُوَّة حفظه، وَزِيَادَة ضَبطه، وَشدَّة اعتنائه: حَكَاهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن إِجْمَاع أهل الحَدِيث قيل وبعلمه بِالْعَرَبِيَّةِ فَإِنَّهُ يتحفظ عَن مواقع الزلل، وَقيل بِالْعَكْسِ لاعتماد ذَلِك على مَعْرفَته، وَالْجَاهِل يخَاف فيبالغ بِالْحِفْظِ وَلَيْسَ بِشَيْء: إِذْ الْعَدَالَة تمنع عَن الِاعْتِمَاد وَعدم المبالاة (وَفِي) كَون (علو السَّنَد) أَي قلَّة الوسائط بَين الرَّاوِي للمجتهد وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرجحا لكَونه أبعد من الْخَطَأ كَمَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِيَّة (خلاف الْحَنَفِيَّة، وبكونها) أَي ويرجح بِكَوْن إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ (عَن حفظه) أَي الروي (لَا نسخته) فَيقدم خبر الْمعول على حفظه على خبر الْمعول على كِتَابه، وَفِيه أَن احْتِمَال النسْيَان والاشتباه على الْحَافِظ لَيْسَ دون احْتِمَال الزِّيَادَة وَالنَّقْص فِي الْكتاب المصون تَحت يَده (وخطه) أَي وترجح رِوَايَة الْمُعْتَمد على خطه (مَعَ تذكره) كَذَلِك على رِوَايَة الْمُعْتَمد فِي رِوَايَته (على مُجَرّد خطه، وَهَذَا) التَّرْجِيح (على قَول غَيره) أَي أبي حنيفَة لِأَنَّهُ لَا عِبْرَة عِنْده لِلْخَطِّ بِلَا تذكر فَلم يحصل التَّعَارُض، وَالتَّرْجِيح فَرعه (وبالعلم بِأَنَّهُ) أَي رَاوِيه (عمل بِمَا رَوَاهُ على قسيميه) أَي على الَّذِي لم يعلم أَنه عمل بِهِ أَولا، وَالَّذِي علم أَنه لم يعْمل بِهِ (أَو) للْعلم بِأَن رَاوِيه (لَا يروي إِلَّا عَن ثِقَة) على مَا رَاوِيه لَيْسَ كَذَلِك، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُرْسلين، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (على) قَول (مجيز الْمُرْسل) أَي لَا على قَول من لَا يُجِيزهُ إِلَّا بديل (وَالْوَجْه نَفْيه) أَي نفى هَذَا التَّرْجِيح على قَول الْمُجِيز أَيْضا (لِأَن الْغَرَض) أَنه (فِيهِ) أَي قبُول الْمُرْسل مُطلقًا (مَا يُوجِبهُ) أَي الْعلم بِأَنَّهُ لَا يُرْسل إِلَّا عَن ثِقَة إِمَّا مُطلقًا وَإِمَّا عِنْده (و) يرجح مَا يكون رَاوِيه (من أكَابِر الصَّحَابَة على) مَا كَانَ روايه

(3/163)


من (أصاغرهم، وَيجب لأبي حنيفَة تَقْيِيده) أَي مَا يرجح مَا رَوَاهُ أكابرهم (بِمَا إِذا رجح) مَا رَوَاهُ الأكابر (فقها) أَي بِالنّظرِ إِلَى قَوَاعِد الْفِقْه بِأَن يكون انتسب إِلَيْهَا (إِذْ قَالَ) أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف. (بِرَأْي الأصاغر فِي الْهدم) أَي هدم الزَّوْج الثَّانِي مَا دون الثَّلَاث من الطَّلَاق وهم ابْن عَبَّاس وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم كَمَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن الْحسن فِي الْآثَار دون الأكابر فِي عدم الْهدم كَمَا ذهب إِلَيْهِ مُحَمَّد وَالْأَئِمَّة الثَّلَاثَة وهم عمر وَعلي رَضِي الله عَنْهُمَا، فَقَالَ المُصَنّف فِيمَا سبق وَالْحق وَعدم الْهدم. وَفِي فتح الْقَدِير القَوْل الألولي مَا قَالَه مُحَمَّد وَبَاقِي الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة (فَلَا يتَرَجَّح فِي) بَاب (الرِّوَايَة) خبر الْأَكْبَر على الْأَصْغَر (بعد فقه الْأَصْغَر وَضَبطه إِلَّا بِذَاكَ) أَي برجحانه بِالنّظرِ إِلَى قَوَاعِد الْفِقْه (أَو غَيره) من المرجحات (و) يرجح (بأقر بَيته) أَي الرَّاوِي عِنْد السماع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَبِه) أَي بِالْقربِ عِنْد السماع (رجح الشَّافِعِيَّة الْإِفْرَاد) بِالْحَجِّ عَن الْعمرَة على غَيره (من رِوَايَة ابْن عمر لِأَنَّهُ كَانَ تَحت نَاقَته) . أخرج أَبُو عوَانَة أَنه قَالَ: وَإِنِّي كنت عِنْد نَاقَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يمسني لُعَابهَا أسمعهُ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وهم فِي ذَلِك تبع لإمامهم قَالَ الشَّافِعِي أخذت بِرِوَايَة جَابر لتقدم صحبته وَحسن سياقته لابتداء الحَدِيث وبرواية عَائِشَة لفضل حفظهَا، وَبِحَدِيث ابْن عمر لقُرْبه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَلَا يخفى عدم صِحَة إِطْلَاقه) أَي التَّرْجِيح بِالْقربِ (وَوُجُوب تَقْيِيده) أَي الْقرب الْمُرَجح (ببعد الآخر بعدا يتَطَرَّق مَعَه الِاشْتِبَاه) فِي المسموع على الْبعيد (للْقطع بِأَن لَا أثر لبعد شبر) مثلا (لقريبين) بِأَن يكون أَحدهمَا أقرب من الآخر بِقدر شبر (ثمَّ للحنفية) التَّرْجِيح بِالْقربِ أَيْضا لِلْقُرْآنِ من رِوَايَة أنس (إِذْ) روى (عَن أنس أَنه كَانَ آخِذا بزمامها حِين أهل بهما) أَي بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة فَفِي الْمَبْسُوط عَنهُ كنت آخِذا بزمام نَاقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهِي تَقْصَعُ بجرتها ولعابها يسيل على كَتِفي وَهُوَ يَقُول لبيْك بِحجَّة وَعمرَة: أَي تجر مَا تجتره من الْعلف وتخرجه إِلَى الْفَم وتمضغه ثمَّ تبلعه (وتعارض ماعن ابْن عمر فِي الصَّحِيح) إِذْ كَمَا عَنهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ أهل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْحَجِّ مُفردا فَعَنْهُ أَيْضا فيهمَا بَدَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأهل بِالْعُمْرَةِ ثمَّ أهل بِالْحَجِّ، وَلم تعَارض الرِّوَايَة عَن أنس، وَالْأَخْذ بِرِوَايَة من لم تضطرب رِوَايَته أولى إِلَى غير ذَلِك من وُجُوه تَرْجِيحه قرانه على الْإِفْرَاد والتمتع (وبكونه تحمل بَالغا) أَي ويرجح بِكَوْن رَاوِي الحَدِيث تحمله بَالغا على مَا تحمل صَبيا لكَونه أضبط وَأقرب مِنْهُ غَالِبا (وَيَنْبَغِي) أَن يعْتَبر (مثله فِيمَن تحمل مُسلما) فرجح بِدُونِهِ على خبر من تحمل كَافِرًا (لِأَنَّهُ) أَي الْكَافِر (لَا يحسن ضَبطه لعدم إِحْسَان إصغائه) وَعدم اهتمامه بشأن الْحِفْظ (وبقدم الْإِسْلَام) لزِيَادَة أصالته فِي الْإِسْلَام (وَقد يعكس) أَي يرجح خبر مُتَأَخّر الْإِسْلَام على خبر مُتَقَدّمَة، وَذكر السُّبْكِيّ أَن الَّذِي ذكره جُمْهُور

(3/164)


الشَّافِعِيَّة، لَكِن شَرط فِي الْمَحْصُول أَن يعلم أَن سَمَاعه وَقع بعد إِسْلَامه (للدلالة على آخرية الشَّرْعِيَّة) يَعْنِي أَن كَون مُتَأَخّر الْإِسْلَام يدل على أَن مَا رَوَاهُ شرع آخر نَاسِخا للْأولِ: وَذكر الإِمَام الرَّازِيّ أَن الأولى إِذا علمنَا أَن الْمُتَقَدّم مَاتَ قبل إِسْلَام الْمُتَأَخر، أَو أَن رِوَايَات الْمُتَقَدّم أَكْثَرهَا مُتَقَدم على رِوَايَات الْمُتَأَخر، فَهُنَا يحكم بالرجحان، لِأَن النَّادِر مُلْحق بالغالب انْتهى. وَقَالَ الإِمَام أَبُو مَنْصُور أَن جهل تاريخهما فالغالب أَن رِوَايَة مُتَأَخّر الْإِسْلَام نَاسخ وَأَن علم فِي أَحدهمَا وَجَهل فِي الآخر، فَإِن كَانَ المؤرخ فِي آخر أَيَّامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ النَّاسِخ فَينْسَخ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صلى الإِمَام قَاعِدا فصلوا قعُودا بِصَلَاة أَصْحَابه قيَاما وَهُوَ قَاعد فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَإِن لم يعلم التَّارِيخ فيهمَا، واحتيج إِلَى نسخ أَحدهمَا بِالْآخرِ، فَقيل النَّاقِل عَن الْعَادة أولى من الْمُوَافق لَهَا كَذَا وجدنَا فِي نُسْخَة الشَّرْح وَالظَّاهِر أَنه تَصْحِيف، وَالصَّوَاب وَإِن لم يعلم كَون المؤرخ فِي آخر أَيَّامه بدل وَإِن لم يعلم التَّارِيخ فيهمَا لِئَلَّا يلْزم التّكْرَار، وَقيل الْمحرم والموجب أولى من الْمُبِيح، فَإِن كَانَ أَحدهمَا مُوجبا وَالْآخر محرما لم يقدم أَحدهمَا على الآخر إِلَّا بِدَلِيل (كَكَوْنِهِ (مدنيا) أَي كَمَا يتَرَجَّح الْخَبَر الْمدنِي على الْخَبَر الْمَكِّيّ لتأخيره عَنهُ ثمَّ المصطلح عَلَيْهِ أَن الْمَكِّيّ مَا ورد قبل الْهِجْرَة فِي مَكَّة وَغَيرهَا، وَالْمَدَنِي مَا ورد بعْدهَا فِي الْمَدِينَة أَو مَكَّة أَو غَيرهمَا (وشهرة النّسَب) أَي ويرجح أحد المتعارضين بشهرة نسب رَاوِيه، لِأَن احْتِرَاز مَشْهُور النّسَب عَمَّا يُوجب نقص مَنْزِلَته يكون أَكثر (وَلَا يخفى مَا فِيهِ، وصريح السماع) أَي ويرجح أحد المتعارضين بتصريح رَاوِيه بِسَمَاعِهِ كسمعته يَقُول كَذَا (على محتمله) أَي على الآخر الرَّاوِي بِلَفْظ يحْتَمل السماع وَغَيره (كقال، وصريح الْوَصْل) أَي ويرجح أَحدهمَا بِكَوْن سَنَده مُتَّصِلا صَرِيحًا بِأَن ذكر كل من رُوَاته تحمله عَمَّن رَوَاهُ كحدثنا وَأخْبرنَا، أَو سَمِعت أَو نَحْو ذَلِك (على العنعنة) أَي على الَّذِي رَوَاهُ كل رُوَاته أَو بَعضهم بِلَفْظ عَن من غير ذكر صَرِيح اتِّصَال على مَا ذكر (وَيجب عَدمه) أَي عدم التَّرْجِيح بتصريح الْوَصْل على العنعنة (لقابل الْمُرْسل بعد عَدَالَة المعنعن وأمانته) وَكَونه غير مُدَلّس تَدْلِيس التَّسْوِيَة (وَمَا لم تنكر رِوَايَته) أَي ويرجح أحد المتعارضين الَّذِي لم يُنكر على رَاوِيه رِوَايَته على الَّذِي أنكر على رَاوِيه رِوَايَته، وَالْمُعْتَبر إِنْكَار الثِّقَات (وبدوام عقله) أَي يرجح أحد المتعارضين بسلامة عقل رَاوِيه على الَّذِي اخْتَلَّ عقل رَاوِيه فِي وَقت من الْأَوْقَات (وَالْوَجْه فِيمَا) أَي الحَدِيث الَّذِي (علم أَنه) رَوَاهُ رَاوِيه الَّذِي اخْتَلَّ عقله (قبل زَوَاله) أَي عقله (نَفْيه) أَي التَّرْجِيح بِهَذَا الْعَارِض (وَذَاكَ) التَّرْجِيح بالعارض الْمَذْكُور (إِذا لم يُمَيّز) على صِيغَة الْمَجْهُول: أَي لم يعلم هَل رَوَاهُ فِي سَلامَة عقله أم فِي اخْتِلَاطه كَمَا شَرطه فِي الْمَحْصُول (وصريح التَّزْكِيَة) أَي

(3/165)


ويرجح أَحدهمَا بِكَوْن رَاوِيه مزكى بِلَفْظ صَرِيح فِي التَّزْكِيَة (على) الآخر الْمُزَكي رَاوِيه بِسَبَب (الْعَمَل بروايته) أَو الحكم بِشَهَادَتِهِ) فَإِنَّهُمَا قد يبينان على الظَّاهِر من غير تَزْكِيَة (و) يرجح (مَا) أَي الْخَبَر الَّذِي حكم (بِشَهَادَتِهِ) أَي بِشَهَادَة رَاوِيه (عَلَيْهَا) أَي على الْخَبَر الَّذِي عمل رَاوِيه بِرَأْيهِ لِأَنَّهُ يحْتَاط فِي الشَّهَادَة أَكثر (و) الْخَبَر (الْمَنْسُوب إِلَى كتاب عرف بِالصِّحَّةِ) كالصحيحين يرجح (على) الْخَبَر الْمَنْسُوب إِلَى (مَا) أَي كتاب (لم يلتزمها) أَي الصِّحَّة، وَالَّذِي يرويهِ أَي صَاحب الصِّحَّة، بل يروي الصَّحِيح وَغَيره (فَلَو أبدى) صَاحب الْكتاب الَّذِي لم يلْتَزم فِيهِ الصِّحَّة، وَالَّذِي يرْوى عَنهُ (سندا) فَذَلِك الْمَرْوِيّ (اعْتبر الْأُضْحِية) بَينهمَا طَرِيقا فَأَيّهمَا أصح يرجح (وَكَون مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ) راجحا (على مَا روى برجالهما) بِأَن يكون رجال مُسْنده رجَالًا روى عَنْهُم فِيهَا بأعيانهم (فِي غَيرهمَا) أَي فِي غير الصَّحِيحَيْنِ يتَعَلَّق بروي (أَو تحقق) مَعْطُوف على روى (فِيهِ) وَالضَّمِير رَاجع إِلَى الْمَوْصُول (شَرطهمَا) أَي الصَّحِيحَيْنِ أَي جَمِيع مَا شرطا فِي صِحَة الحَدِيث (بعد إِمَامَة الْمخْرج) كَمَا ذهب إِلَيْهِ ابْن الصّلاح وَغَيره (تحكم) وَهُوَ ظَاهر (وَيجب) التَّرْجِيح للمروي (بالذكورة) لراويه (فِيمَا يكون خَارِجا) أَي فِيمَا يَقع من الْأَفْعَال والأقوال خَارج الْبيُوت (إِذْ الذّكر فِيهِ) أَي فِيمَا يَقع من الْأَفْعَال والأقوال خَارج الْبيُوت (أقرب) من الْأُنْثَى (و) يجب التَّرْجِيح لَهُ (بالأنوثة) لراويه (فِي عمل الْبيُوت) لِأَنَّهُنَّ بِهِ أعرف (وَرجح) فِي فصل (كسوف الْهِدَايَة حَدِيث سَمُرَة) ابْن جُنْدُب أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ كل رَكْعَة بركوع وسجدتين كَمَا أخرجه أَصْحَاب السّنَن. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ حسن صَحِيح غير أَن صَاحب الْهِدَايَة عزاهُ إِلَى رِوَايَة ابْن عمر وَلم تُوجد عَنهُ (على) حَدِيث (عَائِشَة) أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ كل رَكْعَة بركوعين وسجدتين كَمَا أخرجه أَصْحَاب الْكتب السِّتَّة (بِأَن الْحَال أكشف لَهُم) أَي للرِّجَال لقربهم، لَكِن حَدِيث ركوعين قد رَوَاهُ ابْن عَبَّاس كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَعبد الله بن عَمْرو على مَا فِي صَحِيح مُسلم (وَكَثْرَة المزكين) للراوي فِي التَّرْجِيح بهَا (ككثرة الروَاة) وَسَيَأْتِي مَا فِيهَا (و) يرجح (بفقههم) أَي المزكين بِأَن يكون أحد الْحَدِيثين مزكى رَاوِيه فَقِيه (ومداخلتهم للمزكى) أَي ويرجح مُخَالطَة قَول رَاوِيه فِي الْبَاطِن، لِأَن صدقه حِينَئِذٍ أقوى (و) يرجح (بِعَدَمِ الِاخْتِلَاف فِي رَفعه) إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على معارضه الْمُخْتَلف فِي رَفعه إِلَيْهِ وَوَقفه على رَاوِيه لزِيَادَة قُوَّة الظَّن فِي صدق الأول (وَتَركنَا) مرجحات أُخْرَى (للضعف) كَقَوْلِهِم يرجح الْمُوَافق لدَلِيل آخر، وَأحمد أهل الْمَدِينَة. قَالَ الشَّارِح وَفِي ضعف التَّرْجِيح بالموافقة لدَلِيل آخر مُطلقًا نظر، وَكَيف والأحق

(3/166)


من الْقَوْلَيْنِ عِنْد المُصَنّف تَرْجِيح مَا يُوَافق الْقيَاس على مَا لَا يُوَافقهُ انْتهى، وَقد سبق فِي الْفَصْل الَّذِي قبل هَذَا نفي التَّرْجِيح بِمَا يصلح دَلِيلا عِنْد الْحَنَفِيَّة وَأَن ترجح مَا يُوَافق الْقيَاس لَيْسَ لعدم استقلاله عِنْد وجود النَّص إِلَى آخِره فَكَأَنَّهُ نَسيَه، وَذكر الشَّارِح طَائِفَة من المتروكات (والوضوح) مَعْطُوف على الضعْف فَإِن الوضوح من أَسبَاب التّرْك كَقَوْلِهِم يقدم الْإِجْمَاع الْمُتَقَدّم عِنْد تعَارض إجماعين، وَفِي تعَارض تأويلين يقدم مَا دَلِيله أرجح إِلَى غير ذَلِك مِمَّا ذكره الشَّارِح (وتتعارض التراجيح) فَيحْتَاج إِلَى بَيَان المخلص (كفقه ابْن عَبَّاس وَضَبطه) فِي رِوَايَة (نِكَاح) النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مَيْمُونَة) وَهُوَ محرم بل وهما محرمان (بِمُبَاشَرَة أبي رَافع) الرسَالَة بَينهمَا فِي رِوَايَته لتزوجها وَهُوَ حَلَال (حَيْثُ قَالَ كنت السفير بَينهمَا وكسماع الْقَاسِم) ابْن مُحَمَّد بن أبي بكر (مشافهة من عَائِشَة) . وَفِي نُسْخَة مصححة وكالسماع مشافهة فِي الْقَاسِم عَن عَائِشَة أَن (بَرِيرَة عتقت وَكَانَ زَوجهَا عبدا) فَخَيرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَوَاهُ أَحْمد وَمُسلم وَغَيرهمَا وَصَححهُ التِّرْمِذِيّ فَإِنَّهَا عمته فَلم يكن بَينهَا وَبَينه حجاب (مَعَ إِثْبَات الْأسود عَنْهَا) أَي كَانَ زوج بَرِيرَة حرا، فَلَمَّا أعتقت خَيرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. رَوَاهُ البُخَارِيّ وَأَصْحَاب السّنَن وَإِنَّمَا جعل الْأسود مثبتا لِأَن كَونه عبدا فِي الأَصْل بالِاتِّفَاقِ فَهُوَ يثبت أمرا عارضا على الأَصْل وَهُوَ الْحُرِّيَّة، وَالقَاسِم يصغي لذَلِك، والمثبت يقدم على النَّافِي لزِيَادَة الْعلم فِيهِ، لكنه أَجْنَبِي عَن عَائِشَة وَالقَاسِم محرم لَهَا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَإِنَّهُ) أَي سَمَاعه يكون (من وَرَاء حجاب) فيعارض الْإِثْبَات والمشافهة الْمُشْتَملَة على النَّفْي (وَإِذا قطع) الْأسود (بِأَنَّهَا) أَي المخبرة من وَرَاء حجاب (هِيَ) أَي عَائِشَة، كَذَا فِي نُسْخَة الشَّارِح، وَفِي نُسْخَة مصححه وَإِذن لَا تردد أَنَّهَا هِيَ (فَلَا أثر لارتفاعه) أَي الْحجاب فَلَا يصلح مرجحا، فيرجح الْإِثْبَات لما ذكر (وَلَو رجح) حَدِيث أبي رَافع (بالسفارة لَكَانَ) التَّرْجِيح (لزِيَادَة الضَّبْط) لِأَن السفير يكون ضَبطه أَكثر (فِي خُصُوص الْوَاقِعَة) الَّتِي هُوَ سفير فِيهَا (فَإِذا كَانَ) الضَّبْط (صفة النَّفس) أَي نفس أبي رَافع كَمَا أَنه صفة نفس ابْن عَبَّاس، وَبهَا يغلب ظن الصدْق (اعتدلا) أَي تساوى ابْن عَبَّاس وَأَبُو رَافع (فِيهَا) أَي فِي هَذِه الصّفة (وترجح) خبر ابْن عَبَّاس (بِأَن الْإِخْبَار بِهِ) أَي بِالْإِحْرَامِ (لَا يكون إِلَّا عَن سَبَب علم هُوَ) أَي سَبَب الْعلم (هَيْئَة الْمحرم نعم مَا) روى (عَن صَاحِبَة الْوَاقِعَة) مَيْمُونَة رَضِي الله عَنْهَا (تزَوجنِي) رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَنحن حلالان) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد (إِن صَحَّ قوى) خبر أبي رَافع، فَعلم أَن خبر صَاحب الْوَاقِعَة يتَرَجَّح على غَيره إِذا عَارضه، وَفِي قَوْله إِن صَحَّ إِشَارَة إِلَى أَنه مَا صَحَّ عِنْد المُصَنّف. وَقَالَ الشَّارِح وَقد صَحَّ وَلم يبين دَلِيل الصِّحَّة (فَيجب) أَن يكون قَوْلهَا تزَوجنِي (مجَازًا عَن الدُّخُول) لعلاقة السَّبَبِيَّة

(3/167)


العادية (جمعا) بَين الْحَدِيثين (وَمِنْه) أَي تعَارض التَّرْجِيح (للحنفية الْوَصْف الذاتي) وَهُوَ (مَا) يعرض للشَّيْء (بِاعْتِبَار الذَّات أَو الْجُزْء) مِنْهَا، وَقَيده الشَّارِح بالغالب، وَأطْلقهُ المُصَنّف (على الْحَال) وَهُوَ (مَا) يعرض للشَّيْء (بِخَارِج) أَي بِسَبَب أَمر خَارج عَنهُ، لِأَن مَا بِالذَّاتِ أسق وجودا، وَأَعْلَى رُتْبَة (كَصَوْم) من رَمَضَان أَو من النّذر الْمعِين (لم يبيت) أَي لم ينْو من اللَّيْل بل نوى قبل نصف النَّهَار فَأدى (بعضه منوي وَبَعضه لَا) بِالضَّرُورَةِ (وَلَا تجزأ) أَي وَالْحَال أَن صَوْم يَوْم من رَمَضَان وَاحِد لَا يتَجَزَّأ صِحَة وَفَسَادًا بل إِمَّا يفْسد الْكل أَو يَصح (فتعارض) حِينَئِذٍ (مُفسد الْكل) وَهُوَ عدم النِّيَّة فِي الْبَعْض (ومصححه) أَي الْكل وَهُوَ وجود النِّيَّة فِي الْبَعْض (فترجح الأول) وَهُوَ الْإِفْسَاد للْكُلّ كَمَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي (بِوَصْف الْعِبَادَة المقتضيها) أَي النِّيَّة صفة للوصف الأول (فِي الْكل) أَي كل الْأَجْزَاء فالوصف الْمَذْكُور بِسَبَب اقتضائه النِّيَّة مَعَ انتفائها يُوجب الْفساد فِي الْكل لعدم التجزئ، (و) يرجح (الثَّانِي) وَهُوَ الصِّحَّة للْكُلّ (بِكَثْرَة الْأَجْزَاء المتصفة) بِالنِّيَّةِ. وَفِي بعض النّسخ الْمُتَّصِلَة بِدُونِ المتصفة (وَهُوَ) أَي هَذَا التَّرْجِيح (بالذاتي) لِأَن الْكَثْرَة ثَابِتَة الْأَجْزَاء فِي حد ذَاتهَا وَإِن كَانَ اتصافها واتصالها بِالنِّسْبَةِ بِاعْتِبَار أَمر خَارج عَن الذَّات: أَي النِّيَّة بِخِلَاف وصف الْعِبَادَة فَإِنَّهُ ثَابت للْفِعْل بِاعْتِبَار قصد الْقرْبَة الْمُنْفَصِل عَن الذَّات (وينقض) هَذَا (بِالْكَفَّارَةِ) أَي بصومها، وَكَذَا بِصَوْم النّذر الْمُطلق فَإِنَّهُم لم يجيزوهما إِلَّا مبيتين مَعَ إِمْكَان الِاعْتِبَار الْمَذْكُور (وَيدْفَع بِأَن الْغَرَض) مَعَ ذَلِك الِاعْتِبَار (توقف الْأَجْزَاء) أَي كَون تِلْكَ الامساكات الْوَاقِعَة فِي أَجزَاء الْيَوْم الْمَذْكُور مُتَوَقف حكمهَا من حَيْثُ الْبطلَان وَالصِّحَّة إِلَى أَن يظْهر لُحُوق النِّيَّة بِالْأَكْثَرِ فَيصح أَولا فَيبْطل (لما فِيهِ) أَي فِي الْوَقْت من الشُّرُوع قبل النِّيَّة (وَذَلِكَ) التَّوَقُّف على مَا ذكر إِنَّمَا يتَحَقَّق (فِي الْوُجُوب) أَي وجوب الصَّوْم (فِي) الْيَوْم (الْمعِين) لأَدَاء ذَلِك الصَّوْم (بِخِلَاف نَحْو) صَوْم (الْكَفَّارَة) إِذْ (لم يتَعَيَّن يَوْمهَا للْوَاجِب) فَلم يعْتَبر من لم يبيت النِّيَّة قبل النِّيَّة شَارِعا حَتَّى يتَوَقَّف حكم تِلْكَ الامساكات على مَا ذكر فِي حق صَوْم الْكَفَّارَة (فلمشروع الْوَقْت) أَي فَيعْتَبر شَارِعا فِي مَشْرُوع الْوَقْت (وَهُوَ النَّفْل) فَإِذا لم يبيت كَانَت تِلْكَ الامساكات السَّابِقَة على النِّيَّة متوقفة لصوم النَّفْل فَلَا تصير وَاجِبَة بنية وَاجِب، بل يتَعَيَّن أحد الْأَمريْنِ النَّفْل أَو الْفطر، وَلما كَانَ الحكم بالتوقف يحْتَاج إِلَى مَا يفْسد اعْتِبَاره شرعا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَهُوَ) أَي النَّفْل (الأَصْل) فِي الِاعْتِبَار (إِذْ كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينويه من النَّهَار) كَمَا فِي صَحِيح مُسلم وَذَلِكَ إِنَّمَا يكون بالتوقف (وَهَذَا) التَّوْجِيه بِنَاء (على أَنه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (صَائِم) فِي (كل الْيَوْم) فِي الْهِدَايَة وَعِنْدنَا يصير صَائِما من أول النَّهَار لِأَنَّهُ عبَادَة قهر النَّفس، وَهُوَ إِنَّمَا

(3/168)


يتَحَقَّق بإمساك مُقَدّر فَيعْتَبر قرَان النِّيَّة بأكثره
مسئلة

قَالَ (أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف لَا تَرْجِيح بِكَثْرَة الْأَدِلَّة والرواة مَا لم يبلغ) الْمَرْوِيّ بِكَثْرَة (الشُّهْرَة) فَعلم التَّوَاتُر بطرِيق أولي (وَالْأَكْثَر) من الْعلمَاء قَوْلهم (خِلَافه) أَي خلاف قَوْلهمَا فيترجح بِكَثْرَة الْأَدِلَّة والرواة إِن لم يبلغ (لَهما تقوى الشَّيْء) أَي تَرْجِيحه إِنَّمَا يكون (بتابع) لذَلِك الشَّيْء (لَا بمستقل) بالتأثير، وكل من الْأَدِلَّة والرواة مُسْتَقل بِإِيجَاب الحكم فَلَا يعْتَبر مرجحا لموافقه (بل يُعَارض) الدَّلِيل الْمُنْفَرد فِي أحد الْجَانِبَيْنِ كل دَلِيل من الْجَانِب الآخر (كَالْأولِ) أَي كَمَا يُعَارض الدَّلِيل الْمَطْلُوب تَرْجِيحه مِنْهَا إِذْ لَيست معارضته لوَاحِد مِنْهَا بِأولى من معارضته للْآخر (وَيسْقط الْكل) عِنْد عدم الْمُرَجح (كَالشَّهَادَةِ) من حَيْثُ إِنَّه لَا يرجح لإحدى الشَّهَادَتَيْنِ المتعارضتين بعد استكمال نصابها بِزِيَادَة لأحداهما فِي الْعدَد على الْأُخْرَى، وَحكى غير وَاحِد كصدر الشَّرِيعَة الْإِجْمَاع على هَذَا. قَالَ الشَّارِح: وَقد ينظر فِي مَا قدمنَا من أَن مَالِكًا وَالشَّافِعِيّ فِي قَول لَهما يريان ذَلِك انْتهى إِن رَجعْنَا إِلَى هَذَا القَوْل لَا يصير بِالْإِجْمَاع (ولدلالة إِجْمَاع سوى ابْن مَسْعُود على عدم تَرْجِيح عصوبة ابْن عَم هُوَ أَخ لأم) بِأَن تزوج عَم إِنْسَان من أَبَوَيْهِ أَو لأَب أمه فَولدت لَهُ ابْنا (على ابْن عَم لَيْسَ بِهِ) أَي بِأَخ لأم فِي الْإِرْث مِنْهُ (ليحرم) ابْن الْعم الَّذِي لَيْسَ بِأَخ لأم مَعَ ابْن الْعم الَّذِي هُوَ أَخ لأم (بل يسْتَحق) ابْن الْعم الَّذِي هُوَ أَخ لأم (بِكُل) من السببين: بِكَوْنِهِ ابْن عَم، وَكَونه أَخا لأم (مُسْتقِلّا) نَصِيبا من الْإِرْث فَيسْتَحق السُّدس بِكَوْنِهِ أَخا لأم من حَيْثُ كَونه صَاحب فرض وَنصف الْبَاقِي بِكَوْنِهِ عصبَة إِذا لم يتْرك وَارِثا سواهُمَا، أما ابْن مَسْعُود فَذهب إِلَى أَنه يحجب ابْن الْعم الَّذِي لَيْسَ بِأَخ لأم. وَأخرج ابْن أبي شيبَة عَن النَّخعِيّ أَنه قضى عمر وَعلي وَزيد رَضِي الله عَنْهُم كَقَوْل الْجُمْهُور، وَقضى عبد الله أَن المَال لَهُ دون ابْن عَمه (و) لدلَالَة إِجْمَاع (للْكُلّ) على عدم التَّرْجِيح (فِيهِ) أَي فِي ابْن عَم حَال كَونه (زوجا) على ابْن عَم لَيْسَ بِزَوْج فَيكون لَهُ النّصْف بِالزَّوْجِيَّةِ وَالْبَاقِي بَينهمَا بِالسَّوِيَّةِ فَلَو رجح بِكَثْرَة الدَّلِيل لرجح بِكَثْرَة دَلِيل الْإِرْث، وَهَذَا (بِخِلَاف كَثْرَة) يكون (بهَا هَيْئَة اجتماعية) لأجزائها (وَالْحكم وَهُوَ الرجحان مَنُوط بالمجموع) من حَيْثُ هُوَ مَجْمُوع لَا بِكُل وَاحِد من أَجْزَائِهَا فَإِنَّهُ يرجح بهَا على مَا لَيْسَ كَذَلِك (لحُصُول زِيَادَة الْقُوَّة لوَاحِد) فِيهِ قُوَّة زَائِدَة وَهِي الْهَيْئَة الاجتماعية (فَلِذَا) أَي لثُبُوت التَّرْجِيح بِالْكَثْرَةِ لَهَا هَيْئَة اجتماعية وَالْحكم مَنُوط بمجموعها من حَيْثُ هُوَ (رجح) أَي أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف أحد القياسين المتعارضين (بِكَثْرَة الْأُصُول)

(3/169)


أَي بِشَهَادَة أصلين أَو أصُول لوصفه المنوط بِهِ الحكم على معارضه الَّذِي لَيْسَ كَذَلِك (فِي) بَاب تعَارض (الْقيَاس) لِأَن كَثْرَة الْأُصُول توجب زِيَادَة تَأْكِيد وَلُزُوم الحكم بِكَوْن ذَلِك الْوَصْف عِلّة (بِخِلَافِهِ) أَي مَا إِذا كَانَ الحكم مَنُوطًا (بِكُل) لَا بالمجموع فَإِنَّهُ لَا يرجح بِالْكَثْرَةِ الْحَاصِلَة من ضم غَيره إِلَيْهِ (وَأَجَابُوا) أَي الْأَكْثَر (بِالْفرقِ) بَين الشَّهَادَة وَالرِّوَايَة بِأَن الحكم فِي الشَّهَادَة مَنُوط بِأَمْر وَاحِد وَهُوَ هَيْئَة اجتماعية فالأكثرية والأقلية فِيهَا سَوَاء، لِأَن الْمُؤثر هُوَ تملك الْهَيْئَة فَقَط، بِخِلَاف الرِّوَايَة فَإِن الحكم فِيهَا بِكُل وَاحِد، فَإِن كل راو بمفرده يناط بِهِ الحكم وَهُوَ وجوب الْعَمَل بروايته، كَذَا ذكره الشَّارِح، وَفِيه أَن الْهَيْئَة الاجتماعية بِاعْتِبَار أفرادها وَمَا صدقاتها مُتَقَارِبَة، إِذْ الْهَيْئَة الْحَاصِلَة من اثْنَيْنِ لَيست كالهيئة الْحَاصِلَة من عشْرين شَاهدا فَلَا تَأْثِير لإناطة الحكم بهَا (وَبِأَن الْكَثْرَة تزيد الظَّن بالحكم قُوَّة) فَإِنَّهُ يحصل بِكُل وَاحِد ظن، وَلَا شكّ أَن الظنين فَصَاعِدا أقوى من ظن وَاحِد، وَهَكَذَا، وَالْعَمَل بالأقوى وَاجِب (فيترجح، وَيدْفَع) هَذَا (بِدلَالَة الْإِجْمَاع الْمَذْكُور على عدم اعْتِبَاره) أَي هَذَا الْقدر من زِيَادَة قُوَّة الظَّن، وَقد يُقَال مُقْتَضى الْقيَاس اعْتِبَاره، وَقد ورد السّمع على عدم اعْتِبَاره فِي الشَّهَادَة وَخلاف الْقيَاس يقْتَصر على مورد النَّص على أَن عدم اعْتِبَاره فِي الشَّهَادَة لَا يسْتَلْزم عدم اعْتِبَاره فِي الرِّوَايَة لجَوَاز أَن يكون بَينهمَا فرق وَأَنه يخفى علينا (بِخِلَاف بُلُوغه) أَي الْخَبَر (الشُّهْرَة) حَيْثُ يتَرَجَّح بِهِ على معارضه، فَإِن للهيئة الاجتماعية تَأْثِيرا فِي الْقُوَّة لمنعها احْتِمَال الْكَذِب وَقبل الْبلُوغ كل وَاحِد يجوز كذبه كَذَا قيل (وَقد يُقَال) من قبل الْأَكْثَر (إِن لم تفده كَثْرَة الروَاة قُوَّة الدّلَالَة) على الصدْق (فتجويز كَونه) أَي كَون مَا رُوَاته أقل صادرا (بِحَضْرَة) جمع (كثير لَا) الْخَبَر (الآخر) الْمعَارض لَهُ وَهُوَ الَّذِي رُوَاته كثير بِأَن لم يكن صادرا بِحَضْرَة كثير (أَو) تَجْوِيز كَونهمَا (متساويين) فِي عدد الْحَاضِرين عِنْد صدورهما بِأَن يساوى من حضر سَماع هَذَا الْخَبَر فِي الْعدَد من حضر سَماع هَذَا الْخَبَر (وَاتفقَ نقل كثير) للْخَبَر الَّذِي رُوَاته كثير مَعَ كَون سامعيه مساوين لسامعي الآخر أَو أقل مِنْهُ (دونه) أَي دون الْخَبَر الَّذِي رُوَاته أقل وحاضروه أَكثر ويساوون (بل جَازَ الْأَكْثَر) أَي كَون رِوَايَة الْأَكْثَر (بِحَضْرَة الْأَقَل) أَي بِسَبَب حُضُور الْأَقَل بِأَن لَا تكون رِوَايَة بَعضهم عَن السماع بِغَيْر وَاسِطَة الْأَقَل، وَفسّر الشَّارِح الْأَكْثَر بِمَا رُوَاته أَكثر فَإِن لم يؤول بِمَا قُلْنَا لزم التّكْرَار لكَونه عين الِاحْتِمَال الأول ثمَّ قَوْله فتجويز مُبْتَدأ خَبره (لَا يَنْفِي قُوَّة الثُّبُوت) لما رُوَاته أَكثر، يَعْنِي إِن لم تفد كَثْرَة الروَاة قُوَّة الظَّن فِي مرويهم على مَا ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور فتجويز الْخصم مَا ذكر من الِاحْتِمَالَات النافية للترجيح للكثرة لَا يَنْفِي قُوَّة ثُبُوت مرويهم (لِأَنَّهُ) أَي التجويز الْمَذْكُور (معَارض بضده) وَهُوَ أَن

(3/170)


يكون الْخَبَر الَّذِي رُوَاته أَكثر صادرا بِحَضْرَة جمع كثير دون معارضه (فيسقطان) أَي التجويزان الْمَذْكُورَان (وَيبقى مُجَرّد كَثْرَة تفِيد قُوَّة الثُّبُوت) والتذكير بِاعْتِبَار كَونه رجحانا، هَذَا وليت شعري بِأَن التجويز الْمَذْكُور على تَقْدِير كَونه مُعَارضا بالضد هَل يُفِيد عدم إِفَادَة كَثْرَة الروَاة قُوَّة للدلالة، كَيفَ ومدار ظن الْمُجْتَهد بِصدق الْخَبَر نقل الْخَبَر وبلوغه إِلَيْهِ، وَأما كَون الْحَاضِرين صدوره بِكَثْرَة أَو قلَّة فِي نفس الْأَمر من غير أَن يجروا فِيهِ قسما لَا يظْهر لنا تَأْثِيره وَالله أعلم. (بِخِلَاف ثُبُوت جهتي الْعُصُوبَة وَمَا مَعهَا) من الْأُخوة لأم أَو الزَّوْجِيَّة فالمضاف إِلَيْهِ مَجْمُوع الْأَمريْنِ وَالْإِضَافَة بَيَانِيَّة (عَن الشَّارِع) مُتَعَلق بثبوتهما (فَإِنَّهُمَا) أَي الْجِهَتَيْنِ (سَوَاء) ظَاهر الْعبارَة التَّسْوِيَة بَين جِهَة الْعُصُوبَة وجهة كَونه صَاحب فرض، وَلَيْسَ المُرَاد هَذَا، بل المُرَاد التَّسْوِيَة بَين كَونه عصبَة وَصَاحب فرض، وَمعنى التَّسْوِيَة الْكَائِن عَن الشَّارِع عدم اعْتِبَاره مزية للثَّانِي على الأول، وَلما احتجينا بتسوية الشَّارِع بَينهمَا مَعَ اجْتِمَاع السببين للإرث فِي الثَّانِي دون الأول واجتماع السببين بِمَنْزِلَة كَثْرَة الْأَدِلَّة فِي جَانب أحد المتعارضين، أجَاب من قبل الْأَكْثَر بِأَن ذَلِك بالتنصيص من قبل الشَّارِع وَلَا مجَال للْقِيَاس فِي مُقَابلَة النَّص، وَلَا يخفى أَنه يفهم من كَلَام المُصَنّف ميله إِلَى جَانب الْأَكْثَر، وللشارح هَهُنَا كَلَام طَوِيل يفهم مِنْهُ عدم استنباطه مُرَاد المُصَنّف على الْوَجْه الَّذِي حررناه.
فصل

(يلْحق السمعيين) الْكتاب وَالسّنة (الْبَيَان) وَهُوَ (الْإِظْهَار لُغَة) قَالَ تَعَالَى - {ثمَّ إِن علينا بَيَانه} - أَي إِظْهَار مَعَانِيه وشرائعه (وَاصْطِلَاحا إِظْهَار المُرَاد) من لفظ متلو ومرادف لَهُ (بسمعي) متلو أَو مَرْوِيّ (غير مَا) أَي اللَّفْظ الَّذِي أدّى المُرَاد (بِهِ) ابْتِدَاء فَخرجت النُّصُوص الْوَارِدَة لبَيَان الْأَحْكَام ابْتِدَاء، فعلى هَذَا هُوَ فعل الْمُبين. (وَيُقَال) إِن الْبَيَان أَيْضا (لظُهُوره) أَي المُرَاد الَّذِي هُوَ أثر الدَّلِيل، يُقَال بِأَن الْأَمر والهلال إِذا ظهر وانكشف، وَنسبه شمس الْأَئِمَّة إِلَى بعض أَصْحَابنَا وَاخْتَارَهُ أَصْحَاب الشَّافِعِي كَذَا ذكره الشَّارِح (و) يُقَال أَيْضا (للدال على المُرَاد بذلك) أَي بِمَا لحقه الْبَيَان. قَالَ الشَّارِح: فعلى هَذَا كل مُقَيّد من كَلَام الشَّارِع وَفعله وَتَقْرِيره وسكوته واستبشاره وتنبيهه بالفحوى على الحكم بَيَان (و) يجب (على) مَذْهَب (الْحَنَفِيَّة زِيَادَة أَو) إِظْهَار (انتهائه) أَي المُرَاد من المتلو أَو الْمَرْوِيّ (أَو رفع احْتِمَال) لإِرَادَة غَيره وتخصيصه (عَنهُ) أَي عَن المُرَاد بذلك اللَّفْظ نَحْو بجناحيه فِي قَوْله تَعَالَى - {وَلَا طَائِر يطير بجناحيه} - فَإِنَّهُ يُفِيد نفي التبوز بالطائر عَن سريع لحركة فِي السّير كالبريد، والتأكيد فِي قَوْله

(3/171)


تَعَالَى - {فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ} - فَإِنَّهُ يُفِيد نفي احْتِمَال التَّخْصِيص (لأَنهم) أَي الْحَنَفِيَّة سوى القَاضِي أبي زيد (قسموه) أَي الْبَيَان (إِلَى خَمْسَة) من الْأَقْسَام، وَهُوَ إِلَى أَرْبَعَة: (بَيَان تَبْدِيل سَيَأْتِي) وَهُوَ النّسخ وَمَعْلُوم أَنه لَيْسَ بِبَيَان المُرَاد من اللَّفْظ بل بَيَان انْتِهَاء إِرَادَة المُرَاد مِنْهُ وَهُوَ الَّذِي أسْقطه أَبُو زيد وَوَافَقَهُ شمس الْأَئِمَّة إِلَّا أَنه أثبت بدله قسما آخر كَمَا سَيَأْتِي (و) بَيَان (تَقْرِير وَهُوَ التَّأْكِيد) يُفِيد رفع احْتِمَال غير المُرَاد من الْمُبين، ثمَّ إِن بَيَان التَّقْرِير قسم من الْبَيَان الْمُطلق (وَقسم الشَّيْء مِمَّن مَا صدقاته) وَلَا يظْهر صدق الْمقسم عَلَيْهِ، إِذْ إِظْهَار المُرَاد بسمعي غير مَا بِهِ فرع عدم ظُهُوره من الْمُبين قبل هَذَا الْبَيَان وَالْمرَاد ظَاهر مِنْهُ قبله (وَتَحْصِيل الْحَاصِل مُنْتَفٍ) فَلَا يُمكن بعد ظُهُور المُرَاد إِظْهَاره (فَلَزِمَ ذَلِك) أَي زِيَادَة أَو رفع احْتِمَال عَنهُ ليعلم صدق تَعْرِيفه الْبَيَان عَلَيْهِ، وَلَا يبعد أَن يُقَال احْتِمَال خلاف المُرَاد محَال بظهوره فَلَا يظْهر ظهورا تَاما إِلَّا بعد رفع الِاحْتِمَال الْمَذْكُور، وَهَذَا الْقسم يجوز كَونه مَفْصُولًا عَن الْمُبين وموصولا بِهِ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ مُقَرر للظَّاهِر فَلَا يفْتَقر إِلَى التَّأْكِيد بالاتصال (و) بَيَان (تَغْيِير كالشرط وَالِاسْتِثْنَاء وتقدما) فِي بحث التَّخْصِيص (إِلَّا أَن تَغْيِير الشَّرْط من إِيجَاب الْمُعَلق فِي الْحَال) أَي من إثْبَاته الحكم الْمُتَرَتب عَلَيْهِ شرعا مُنجزا (إِلَى) زمَان (وجوده) أَي الشَّرْط فَهُوَ تَغْيِير من وصف التَّنْجِيز إِلَى وصف التَّعْلِيق فَيتَأَخَّر حكمه إِلَى أَن يُوجد الشَّرْط (و) تَغْيِير (الِاسْتِثْنَاء) من إِثْبَات الحكم الَّذِي كَانَ فِي معرض الثُّبُوت للمستثنى قبل الِاسْتِثْنَاء (إِلَى عَدمه) أَي الحكم الْمَذْكُور فَهُوَ صَارف لأوّل الْكَلَام عَن ظَاهره إِلَى خِلَافه (وَبِه) أَي بِسَبَب كَون تَغْيِير الِاسْتِثْنَاء إِلَى عدم (فرقوا) أَي الْحَنَفِيَّة (بَين تعلقه) أَي بَيَان التَّغْيِير (بمضمون الْجمل المتعقبها) الْإِضَافَة لفظية من إِضَافَة الصّفة إِلَى مفعولها أَي الْجمل الَّتِي تعقبها بَيَان التَّغْيِير (وَعَدَمه) أَي عدم تعلقه بِمَا ذكر أَي وَبَين تعلقه بِغَيْر مَضْمُون الْجمل المتعاقبة (فِي الِاسْتِثْنَاء) فَإِنَّهُ تعلق بِالْجُمْلَةِ الْأَخِيرَة بِخِلَاف الشَّرْط فَإِنَّهُم فِيهِ لم يفرقُوا بَين تعلقه بمضمون الْجمل الْمَذْكُورَة وَبَين تعلقه بغَيْرهَا، وَذَلِكَ بِأَن تذكر جمل وَيذكر بعْدهَا اسْتثِْنَاء وَأمكن أَن يَجْعَل مُتَعَلقا بِكُل وَاحِدَة مِنْهَا وَأَن يَجْعَل بالأخيرة يعْتَبر تعلقه بالأخيرة (تقليلا للأبطال مَا أمكن) أَي بِقدر الْإِمْكَان، يَعْنِي لَو اعْتبر تعلقه بِكُل وَاحِد من تِلْكَ الْجمل لزم عدم الحكم الْمَأْخُوذ فِي جَانب الْمُسْتَثْنى مِنْهُ من الْمُسْتَثْنى بِاعْتِبَار كل وَاحِدَة مِنْهَا، وَإِذا علق بالأخيرة لَا يلْزم إِلَّا إبِْطَال الحكم الَّذِي تضمنته لَا الْأَحْكَام الَّتِي تضمنها مَا قبلهَا (وَيمْتَنع تراخيهما) عَن متعلقهما يَعْنِي الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء وَلَا يَكُونَا إِلَّا موصولين (وَتقدم قَول ابْن عَبَّاس فِي الِاسْتِثْنَاء) بِجَوَاز تراخيه على خلاف فِي مِقْدَاره وَوَجهه وَدفعه (وَمِنْه) أَي بَيَان التَّغْيِير (تَخْصِيص الْعَام وَتَقْيِيد الْمُطلق) إِذْ تبين أَن الأول أَي الْعَام غير جَار على عُمُومه، وَالثَّانِي أَي الْمُطلق غير جَار

(3/172)


على إِطْلَاقه وَهُوَ تَغْيِير النّظر إِلَى مَا هُوَ الْمُتَبَادر مِنْهُ السامعة من الْعُمُوم وَالْإِطْلَاق (وتقدما) فِي بحث الْعُمُوم والتخصيص (وَيجب مثله) أَي امْتنَاع التَّرَاخِي (فِي صرف كل ظَاهر) لِئَلَّا يلْزم الْإِيقَاع فِي خلاف الْوَاقِع (وعَلى الْجَوَاز) لتأخير بَيَان تَخْصِيص الْعَام عَنهُ كَمَا هُوَ قَول مَشَايِخ سَمَرْقَنْد، وَعَلِيهِ أَيْضا تَفْرِيع جَوَاز تَأْخِير صرف كل ظَاهر عَن ظَاهره أَن يُقَال (تَأْخِيره عَلَيْهِ السَّلَام تَبْلِيغ الحكم) الشَّرْعِيّ الْمَأْمُور بتبليغه (إِلَى) وَقت (الْحَاجة) إِلَيْهِ وَهُوَ وَقت تَنْجِيز التَّكْلِيف (أجوز) أَي أَشد جَوَازًا إِذْ لَا يلْزم فِي تبليغه شَيْء مِمَّا يلْزم فِي تَأْخِير بَيَان مَخْصُوص الْعَام إِذْ لَا تَكْلِيف قبل التَّبْلِيغ وَلم يُؤمر بالتبليغ إِلَّا عِنْد أَوَانه فَإِذا جَازَ التَّأْخِير مَعَ وجود التَّكْلِيف فَمَعَ عَدمه أولى كَذَا ذكره الشَّارِح (وعَلى الْمَنْع) لتأخير بَيَان مُخَصص الْعَام (وَهُوَ) أَي الْمَنْع لتأخيره (الْمُخْتَار للحنفية) من مَشَايِخ الْعرَاق وَالْقَاضِي أبي زيد وَمن تبعه من الْمُتَأَخِّرين يجوز تَأْخِيره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَبْلِيغ الحكم إِلَى وَقت الْحَاجة أَيْضا (إِذْ لَا يلْزم) فِيهِ (مَا تقدم) وَهُوَ الْإِيقَاع فِي خلاف الْوَاقِع ومطلوبية الْجَهْل الْمركب، وَقيل لَا يجوز لقَوْله تَعَالَى - {يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك} - لِأَن وجوب التَّبْلِيغ مَعْلُوم بِالْعقلِ ضَرُورَة فَلَا فَائِدَة لِلْأَمْرِ بِهِ (وَكَون أَمر التَّبْلِيغ فوريا مَمْنُوع) وَالْعقل لَا يسْتَقلّ بِمَعْرِِفَة الْأَحْكَام، وَلَو سلم فَلْيَكُن لتقوية الْعقل بِالنَّقْلِ (وَلَعَلَّه) أَي التَّبْلِيغ (وَجب لمصْلحَة) لم تفت بِتَأْخِيرِهِ (وَأَيْضًا ظَاهره) أَي مَا أنزل إِلَيْك من رَبك (لِلْقُرْآنِ) لِأَنَّهُ السَّابِق إِلَى الْفَهم من لفظ الْمنزل. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: وَظَاهر الْآيَة يُوجب تَبْلِيغ كل مَا أنزل وَلَعَلَّ المُرَاد تَبْلِيغ مَا يتَعَلَّق بِهِ مصَالح الْعباد وَقصد بإنزاله اطلاعهم عَلَيْهِ فَإِن من الْأَسْرَار الإلهية مَا يحرم إفشاؤه.
مسئلة

(وَالْأَكْثَر) مِنْهُم الإِمَام الرَّازِيّ وَابْن الْحَاجِب (يجب زِيَادَة قُوَّة الْمُبين للظَّاهِر) عَلَيْهِ: أَي السمعي الَّذِي يصرف الظَّاهِر عَن ظَاهره يجب أَن يكون لَهُ زِيَادَة قُوَّة (وَالْحَنَفِيَّة تجوز الْمُسَاوَاة) بَينهمَا فِي الْقُوَّة (وَدفع) تجويزهم ذَلِك (بِعَدَمِ أَوْلَوِيَّة الْمُبين مِنْهُمَا) أَي المتساويين، يَعْنِي أَنَّهُمَا سمعيان متساويان فِي الْقُوَّة متعارضان بِحَسب الظَّاهِر وَلَيْسَ أَحدهمَا أولى بِالِاعْتِبَارِ من الآخر فَكيف يقدم أَحدهمَا وَهُوَ الْمُبين على الآخر ويصرفه عَن ظَاهره (بِخِلَاف الرَّاجِح) مَعَ / الْمَرْجُوح (لتقدمه) أَي الرَّاجِح على الْمَرْجُوح (فِي الْمُعَارضَة، وَيدْفَع) هَذَا الدّفع (بِأَن مُرَادهم) أَي الْحَنَفِيَّة الْمُسَاوَاة (فِي الثُّبُوت) أَي ثُبُوت الْمَتْن (لَا الدّلَالَة) وَعدم أَوْلَوِيَّة الْمُبين إِنَّمَا هُوَ على تَقْدِير الْمُسَاوَاة فِي الدّلَالَة، وَأما إِذا كَانَا متساويين فِي الثُّبُوت لَا فِي الدّلَالَة بِأَن يكون

(3/173)


أَحدهمَا نصا وَالْآخر ظَاهرا فالنص يصلح لِأَن يكون مُبينًا للظَّاهِر (وَمَعْلُوم أَن الأول) من السمعيين (مُبين) على صِيغَة الْمَفْعُول، وَهَذَا دفع لما يُقَال من أَنَّهُمَا إِذا كَانَا متساويين لَا يتَعَيَّن الْمُبين عَن الْمُبين وَأما قَول أبي الْحُسَيْن وَيجوز بالأدنى أَيْضا فَبَاطِل لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ إِلْغَاء الرَّاجِح بالمرجوح كَذَلِك لَا يجوز إِلْغَاء أحد المتساويين بِالْآخرِ، فَإِن قيل يجوز إِلْغَاء أحد المتساويين فِي الثُّبُوت بِالْآخرِ الْمَرْجُوح فِيهِ فَلْيتَأَمَّل. (و) بَيَان (تَفْسِير، وَهُوَ بَيَان الْمُجْمل) باصطلاح الشَّافِعِيَّة، وَهُوَ مَا فِيهِ خَفَاء فَيعم باصطلاح الْحَنَفِيَّة الْخَفي والمشترك والمجمل (وَيجوز) بَيَان التَّفْسِير (بأضعف) دلَالَة أَو ثبوتا (إِذْ لَا تعَارض بَين الْمُجْمل وَالْبَيَان ليترجح) الْبَيَان عَلَيْهِ فَيلْزم إِلْغَاء الرَّاجِح بالمرجوح (و) يجوز (تراخيه) أَي بَيَان الْمُجْمل عَن وَقت الْخطاب بِهِ (إِلَى وَقت الْحَاجة إِلَى الْفِعْل وَهُوَ وَقت تَعْلِيق التَّكْلِيف) بِالْفِعْلِ (مضيقا) لَا وَقت تَعْلِيقه موسعا عِنْد الْجُمْهُور مِنْهُم أَصْحَابنَا والمالكية وَأكْثر الشَّافِعِيَّة، وَاخْتَارَهُ الإِمَام الرَّازِيّ وَابْن الْحَاجِب وَأكْثر الْمُتَأَخِّرين (وَعَن الْحَنَابِلَة والصيرفي وَعبد الْجَبَّار والجبائي وَابْنه) وَبَعض الشَّافِعِيَّة كَأبي إِسْحَاق الْمروزِي وَالْقَاضِي أبي حَامِد (مَنعه) أَي منع تراخيه عَن وَقت الْخطاب بِهِ إِلَّا أَن الاسفرايني ذكر أَن الْأَشْعَرِيّ نزل ضيفا على الصَّيْرَفِي فناظره فِي هَذَا فَرجع إِلَى الْجَوَاز لنا لَا مَانع عقلا) من جَوَازه (وَوَقع شرعا كآيتي الصَّلَاة وَالزَّكَاة) أَي أقِيمُوا الصَّلَاة وَأتوا الزَّكَاة (ثمَّ بَين) النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْأَفْعَال) للصَّلَاة كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا (والمقادير) لِلزَّكَاةِ كَمَا فِي كتب الصَّدقَات ككتاب الصّديق رَضِي الله عَنهُ فِي صَحِيح البُخَارِيّ وَكتاب عمر رَضِي الله عَنهُ فِي كتاب أبي دَاوُد وَغَيره (أما) ترَاخى بَيَان الْمُجْمل (عَن وَقت الْحَاجة فَيجوز) عقلا (عِنْد من يجوز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق) وهم الأشاعرة (لكنه) أَي تراخيه عَن وَقتهَا (غير وَاقع) وَمن لَا يجوزه لَا يجوز هَذَا لِأَن التَّكْلِيف بِمَا لَا يُعلمهُ الْمُكَلف تَكْلِيف بِمَا لَا يُطَاف، ثمَّ علل جَوَازه بِالْعقلِ بِمَا يُفِيد أَن يجوزه من لَا يجوز تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق بقوله (لِأَنَّهُ) أَي الْجمل (قبل الْبَيَان لَا يُوجب شَيْئا) على الْمُكَلف بل إِنَّمَا يجب عَلَيْهِ اعْتِقَاد حقية المُرَاد مِنْهُ لَا غير حَتَّى يلْحقهُ الْبَيَان (فَلم يحكم) الشَّارِع عَلَيْهِ (بِوُجُوب مَال يعلم) الْمُكَلف وُجُوبه عَلَيْهِ (بِحَيْثُ) إِذا لم يفعل ذَلِك (يُعَاقب بِعَدَمِ الْفِعْل) فَانْتفى وَجه المانعين عَنهُ بِأَن الْمَقْصُود إِيجَاب الْعَمَل وَهُوَ مُتَوَقف على الْفَهم والفهم لَا يحصل بِدُونِ الْبَيَان، فَلَو جَازَ تَأْخِيره أدّى إِلَى تَكْلِيف مَا لَيْسَ فِي الوسع واليه أَشَارَ بقوله (وَبِه) أَي بالْقَوْل بِأَنَّهُ لَا يُوجب شَيْئا قبل الْبَيَان (انْدفع قَوْلهم) أَي المانعين لَهُ تَأْخِير بَيَان الْمُجْمل (يودى إِلَى الْجَهْل المخل بِفعل الْوَاجِب فِي وقته) وَجه الاندفاع أَن وَقت الْأَدَاء وَقت الْبَيَان وَقبل الْبَيَان لَا تَكْلِيف بإيقاع الْفِعْل بل باعتقاد حقية المُرَاد مِنْهُ إِجْمَالا

(3/174)


(وَقَوْلهمْ) أَي المانعين لَهُ أَيْضا لَو جَازَ تَأْخِير بَيَان الْمُجْمل لَكَانَ الْخطاب بالمجمل (كالخطاب بالمهمل) فَيلْزم جَوَاز الْخطاب بِهِ وَاللَّازِم بَاطِل، ثمَّ قَوْلهم مُبْتَدأ خَبره (مهمل) إِذْ فِي الْمُجْمل يعلم أَن المُرَاد أحد محتملاته أَو معنى مَا، بِخِلَاف المهمل فَإِنَّهُ لَا معنى لَهُ أصلا (وَمَا قيل) على مَا فِي أصُول ابْن الْحَاجِب (جَوَاز تَأْخِير اسماع الْمُخَصّص) للعام الْمُكَلف بِهِ إِلَى وَقت الْحَاجة (أولى من) جَوَاز (تَأْخِير بَيَان الْمُجْمل) إِلَى وَقت الْحَاجة (لِأَن عدم الإسماع) أَي اسماع الْمُكَلف الْمُخَصّص مَعَ وجوده فِي نفس الْأَمر (أسهل من الْعَدَم) أَي عدم بَيَان الْمُجْمل لانْقِطَاع الِاطِّلَاع على الْمَوْجُود لَا الْمَعْدُوم، وَهَذَا إِلْزَام من الشَّافِعِيَّة المجيزين لتأخير بَيَان الْمُجْمل للحنفية الْقَائِلين بِهِ دون تراخي التَّخْصِيص، ثمَّ مَا قيل مُبْتَدأ خَبره (غير صَحِيح لِأَن الْعَام غير مُجمل فَلَا يتَعَذَّر الْعَمَل بِهِ) قبل الِاطِّلَاع على الْمُخَصّص (فقد يعْمل بِهِ) أَي بِعُمُومِهِ بزعم أَنه مُرَاد (وَهُوَ) أَي وَالْحَال أَن عُمُومه (غير مُرَاد) فَيَقَع فِي الْمَحْذُور خُصُوصا إِذا كَانَ الأَصْل فِيهِ التَّحْرِيم (بِخِلَاف الْمُجْمل) فَإِنَّهُ لَا يعْمل بِهِ قبل الْبَيَان (فَلَا يسْتَلْزم تَأْخِير بَيَانه محذورا) كالعمل بِمَا هُوَ غير مُرَاد (بِخِلَافِهِ) أَي تَأْخِير الْبَيَان (فِي الْمُخَصّص) فَإِنَّهُ يستلزمه كَمَا بَينا (ثمَّ تمنع الْأَوْلَوِيَّة) أَي كَون تَأْخِير اسماع الْمُخَصّص بِالْجَوَازِ أولى من تَأْخِير بَيَان الْمُجْمل (بل كل من الْعَام والمجمل أُرِيد بِهِ معِين آخر ذكر داله فَقبل ذكره) أَي داله (هُوَ) أَي ذَلِك الْمعِين (مَعْدُوم إِلَّا فِي الْإِرَادَة) للمتكلم لعلمه بذلك الْمُتَعَيّن، وَإِنَّمَا الْإِبْهَام بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُخَاطب. قَالَ الشَّارِح: أَي إِلَّا فِي جَوَاز كَونه المُرَاد من اللَّفْظ وَهُوَ غير موجه كَمَا لَا يخفى (فهما) أَي الْمُجْمل وَالْعَام (فِيهَا) أَي فِي الْإِرَادَة سَوَاء.
مسئلة

(وَيكون) الْبَيَان (بِالْفِعْلِ كالقول) أَي وَيكون بالْقَوْل (إِلَّا عِنْد شذوذ لنا) فِي أَنه يكون بِالْفِعْلِ (يفهم) من الإفهام أَو الْفَهم (أَنه) أَي الْفِعْل الصَّالح لِأَن يكون مرَادا من القَوْل هُوَ (المُرَاد بالْقَوْل) الْمُجْمل (بِفِعْلِهِ عَقِيبه) أَي طَرِيق إفهامه أَنه يفعل عقيب ذَلِك القَوْل الْمُجْمل (فصلح) الْفِعْل (بَيَانا بل هُوَ) الْفِعْل (أدل) على تعْيين المُرَاد، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَيْسَ الْخَبَر كالمعاينة) أخرجه أَحْمد وَابْن حبَان وَالْحَاكِم وَالطَّبَرَانِيّ وَزَاد فِيهِ، فَإِن الله تَعَالَى أخبر مُوسَى بن عمرَان عَمَّا صنع قومه من بعده فَلم يلق الألواح، فَلَمَّا عاين ذَلِك ألْقى الألواح وَقد صَار هَذَا القَوْل مثلا (وَبِه) أَي بِالْفِعْلِ (بَين) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الصَّلَاة وَالْحج) لكثير من الْمُكَلّفين كَمَا تشهد بِهِ كتب السّنة (قَالُوا) أَي المانعون لم يبينها بِالْفِعْلِ (بل يصلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي، وخذوا عني) مَنَاسِككُم (أُجِيب بِأَنَّهُمَا) أَي الْقَوْلَيْنِ الْمَذْكُورين (دَلِيلا كَونه) أَي الْفِعْل (بَيَانا)

(3/175)


لِأَنَّهُ هُوَ الْبَيَان لِأَنَّهُ لم يبين المُرَاد لكنه يُفِيد أَن فعله بَيَان (وَهَذَا) الْجَواب (يَنْفِي الدَّلِيل الأول) وَهُوَ أَن الْفِعْل بِوُقُوعِهِ عقيب الْمُجْمل يفهم أَنه المُرَاد بِهِ (إِذْ يُفِيد أَن كَونه بَيَانا) إِنَّمَا عرف (بِالشَّرْعِ) لَا بِكَوْنِهِ وَقع عَقِيبه (وَبِه) أَي بِالشَّرْعِ (كِفَايَة) فِي إِثْبَات كَون الْفِعْل بَيَانا (فَالْأولى أَن يُقَال أَنه) أَي كلا من صلوا وخذوا (لزِيَادَة الْبَيَان) إِذْ الْبَيَان حصل لَهُم بِمُبَاشَرَة تِلْكَ الْأَفْعَال بحضرتهم، فَقَوله صلوا وخذوا لزِيَادَة التَّوْضِيح والتأكيد (وَقَوْلهمْ) أَي المانعين (الْفِعْل أطول) من القَوْل زَمَانا (فَيلْزم تَأْخِيره) أَي الْبَيَان بِهِ (مَعَ إِمْكَان تَعْجِيله) بالْقَوْل وَأَنه غير جَائِز (مَمْنُوع الأطولية) إِذْ قد يطول الْبَيَان بالْقَوْل أَكثر مِمَّا يطول بِالْفِعْلِ (و) مَمْنُوع (بطلَان اللَّازِم) أَي التَّأْخِير مَعَ إِمْكَان التَّعْجِيل (بعده) أَي بعد تَسْلِيم الأطولية، وَقَالَ الشَّارِح: أَي بعد إِمْكَان تَعْجِيله وَلَا معنى لَهُ لِأَن إِمْكَان التَّعْجِيل قيد اعْتبر فِي اللَّازِم وَهُوَ يلائم مَعَ بطلَان التَّأْخِير بل يلائم بُطْلَانهَا، ومسند هَذَا الْمَنْع أَن التَّعْجِيل قبل الْحَاجة أَيْضا مُمكن وَلَا مَحْذُور فِي التَّأْخِير عِنْد ذَلِك، ثمَّ الْمَمْنُوع إِنَّمَا هُوَ التَّأْخِير المفوت لأَدَاء الْوَاجِب (فَلَو تعاقبا) أَي القَوْل وَالْفِعْل الصالحان للْبَيَان (وَعلم الْمُتَقَدّم فَهُوَ) أَي الْمُتَقَدّم الْبَيَان قولا كَانَ أَو فعلا وَالثَّانِي تَأْكِيد (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يعلم الْمُتَقَدّم (فأحدهما) من غير تعْيين هُوَ الْبَيَان وَهَذَا إِذا اتفقَا فِي الدّلَالَة على حكم وَاحِد (فَإِن تَعَارضا) أَي الْفِعْل وَالْقَوْل كَمَا روى عَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه جمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة وَطَاف طوافين وسعى سعيين وَحدث أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل ذَلِك رَوَاهُ النَّسَائِيّ بِإِسْنَاد رُوَاته ثِقَات، وَعَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
" من أحرم بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة أَجزَأَهُ طواف وَاحِد وسعى وَاحِد مِنْهُمَا حَتَّى يحل مِنْهُمَا جَمِيعًا " رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَقَالَ حسن صَحِيح غَرِيب (فالمختار) للْإِمَام الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه وَابْن الْحَاجِب أَن أَن الْبَيَان هُوَ (القَوْل) لِأَنَّهُ الدَّال نَفسه وَالْفِعْل لَا يدل إِلَّا بِأَن يعلم ذَلِك بِالضَّرُورَةِ من قَصده وَأَن يَقُول هَذَا الْفِعْل بَيَان للمجمل أَو بِأَن يذكر الْمُجْمل وَقت الْحَاجة لم يفعل مَا يصلح بَيَانا لَهُ وَلَا يفعل غَيره وَلَا بَينه بالْقَوْل. قَالَ الشَّارِح: وَقد أوردت على المُصَنّف يَنْبَغِي على مَا تقدم من أَن الْفِعْل دلّ من القَوْل أَن يقدم الْفِعْل على القَوْل، فَأجَاب بِأَن معنى أدليته أَن الْفِعْل الجزئي الْمَوْجُود فِي لخارج لَا يحْتَمل غَيره لِأَنَّهُ بهيآته أدل على كَونه المُرَاد بالمجمل من دلَالَة القَوْل على المُرَاد بِهِ فَإِن الاستقراء يُفِيد أَن كثيرا من الْأَفْعَال المبينة للمجمل تشْتَمل على هيآت غير مُرَادة من الْمُجْمل من وَجه آخر والمنظور هَهُنَا هَذَا الْوَجْه (وَقَول أبي الْحُسَيْن) الْبَيَان (هُوَ الْمُتَقَدّم) قولا كَانَ أَو فعلا (يسْتَلْزم لُزُوم النّسخ) للْفِعْل (بِلَا مُلْزم لَو كَانَ) الْمُتَقَدّم (الْفِعْل) فِي الشَّرْح العضدي وَأما إِذا اخْتلفَا كَأَن طَاف طوافين وَأمر بِطواف وَاحِد فالمختار أَن القَوْل هُوَ الْبَيَان وَالْفِعْل ندب

(3/176)


لَهُ أَو وَاجِب عَلَيْهِ مِمَّا اخْتصَّ بِهِ، وَلَا فرق بَين أَن يكون القَوْل مُتَقَدما أَو مُتَأَخِّرًا، وَذَلِكَ لِأَن فِيهِ جمعا بَين الدَّلِيلَيْنِ وَهُوَ أولى من إبِْطَال أَحدهمَا كَمَا سَنذكرُهُ، وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن الْمُتَقَدّم مِنْهُمَا هُوَ الْبَيَان أيا كَانَ وَهُوَ بَاطِل إِذْ يلْزمه نسخ الْفِعْل إِذا كَانَ هُوَ الْمُتَقَدّم مَعَ إِمْكَان الْجمع وَأَنه بَاطِل. بَيَانه إِذا تقدم الْفِعْل وَهُوَ طوافان وَجب علينا طوافان، فَإِذا أَمر بِطواف وَاحِد فقد نسخ أحد الطوافين عَنَّا انْتهى، فَإِن قيل القَوْل الْمُتَأَخر يُوجب النّسخ فَمَا معنى قَوْله بِلَا مُلْزم، قُلْنَا مَعْنَاهُ أَن النّسخ إِنَّمَا لزم بِسَبَب جعل الْفِعْل بَيَانا، لِأَن القَوْل إِذن على تَقْدِير كَون القَوْل بَيَانا لَا يلْزم النّسخ بل يحمل على أَن الْفِعْل ندب لنا وَله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو وَاجِب مُخْتَصّ بِهِ فَلَا يسْتَلْزم النّسخ فِي حَقنا وَفِي حَقه إِذْ لَيْسَ فِي القَوْل تنصيص على مُشَاركَة الْأمة (وَلَا يتَصَوَّر فِيهِ) أَي فِي الْمُجْمل (أرجحية دلَالَته على دلَالَة الْمُبين) بِصِيغَة اسْم الْفَاعِل (على) الْمَعْنى (الْمعِين) من الْمُجْمل (بل يُمكن) أَن يكون دلَالَة الْمُجْمل (على مَعْنَاهُ الإجمالي وَهُوَ أحد الِاحْتِمَالَيْنِ) أرجح من دلَالَة الْمُبين على المُرَاد مِنْهُ (كثلاثة قُرُوء) فَإِنَّهُ أقوى دلَالَة (على ثَلَاثَة أَقراء من الطُّهْر أَو الْحيض وَيتَعَيَّن) المُرَاد من الْمُجْمل (بأضعف دلَالَة على الْمعِين) بِالنِّسْبَةِ إِلَى دلَالَة الْمُجْمل على مَعْنَاهُ الإجمالي (وَسلف للحنفية) فِي بحث الْمُجْمل (مَا تقصر مَعْرفَته) أَي معرفَة المُرَاد مِنْهُ (على السّمع، فَإِن ورد) سمعى بَين المُرَاد مِنْهُ بَيَانا (قَطْعِيا شافيا صَار) ذَلِك الْمُجْمل بعد لُحُوق هَذَا الْبَيَان (مُفَسرًا، أَولا) يكون شافيا (فمشكل) ذكر فِيمَا سبق أَن مَا خَفِي المُرَاد مِنْهُ لتَعَدد مَعَانِيه الاستعمالية مَعَ الْعلم بالاشتراك وَلَا معِين أَو مَعَ تجويزها مجازية أَو بَعْضهَا إِلَى التَّأَمُّل مُشكل. ثمَّ ذكر أَن مَا لحقه الْبَيَان خرج عَن الْإِجْمَال بالِاتِّفَاقِ، وسمى بَيَانا عِنْد الشَّافِعِيَّة، وَعند الْحَنَفِيَّة إِن كَانَ شافيا بقطعي فمفسر أَو بظني فمؤول أَو غير شاف خرج عَن الاجمال إِلَى الاشكال، فَظَاهر عِبَارَته هَهُنَا أَن الْبَيَان الَّذِي لَيْسَ بقطعي إِذا لم يكن شافيا هُوَ الْمُشكل وَالَّذِي يظْهر من هُنَاكَ بِأَن الَّذِي لَيْسَ بشاف فَهُوَ مُشكل سَوَاء كَانَ قَطْعِيا أَو ظنيا (أَو ظنا فمشكل) مَعْطُوف على قَطْعِيا وَكَانَ مُقْتَضى الظَّن أَن يَقُول أَو ظنيا مَحَله، وَلَعَلَّه تَصْحِيف من النَّاسِخ فَأول (وَقبل الِاجْتِهَاد فِي استعلامه) لجَوَاز الِاجْتِهَاد فِي مُقَابلَة الظني دون الْقطعِي (وَهُوَ) أَي هَذَا الْخلاف (لَفْظِي مَبْنِيّ على الِاصْطِلَاح) فِي المُرَاد بالمجمل، وَسبق تَفْصِيله فِي مَوْضِعه (وَقَالُوا) أَي الْحَنَفِيَّة (إِذا بَين الْمُجْمل الْقطعِي الثُّبُوت بِخَبَر وَاحِد نسب) الْمَعْنى الْمُبين (إِلَيْهِ) أَي الْمُجْمل لكَونه أقوى، لَا إِلَى خبر الْوَاحِد مَعَ كَونه دَالا عَلَيْهِ (فَيصير) الْمَعْنى الْأَعَمّ (ثَابتا بِهِ) أَي بالمجمل (فَيكون) ذَلِك الْمَعْنى

(3/177)


(قَطْعِيا) بِنَاء على أَنه ثَابت بقطعي (وَمنعه صَاحب التَّحْقِيق، إِذْ لَا تظهر مُلَازمَة) بَينهمَا توجب ذَلِك وَقيل لَا فرق بَين أَن يعرف المُرَاد من الْمُشْتَرك بِالرَّأْيِ الَّذِي هُوَ ظَنِّي، وَبَين أَن يعرف بِخَبَر الْوَاحِد (وَهُوَ) أَي مَنعه (حق وَلَو انْعَقَد عَلَيْهِ) أَي على أَن المُرَاد من الْمُجْمل ذَلِك الْمَعْنى الَّذِي بَينه الْخَبَر الْمَذْكُور (إِجْمَاع فشيء آخر. وَإِلَى بَيَان ضَرُورَة تقدم) فِي التَّقْسِيم الأول من الْفَصْل وَهَذَا أَيْضا لم يَجعله القَاضِي أَبُو زيد من أَقسَام الْبَيَان، وَجعله فَخر الْإِسْلَام وشمس الْأَئِمَّة وموافقوهما مِنْهَا، وَالْإِضَافَة فِيهِ إِلَى السَّبَب (وَأما بَيَان التبديل فَهُوَ النّسخ، وَهُوَ) أَي النّسخ لُغَة (الْإِزَالَة) حَقِيقَة كنسخت الشَّمْس الظل، والشيب الشَّبَاب، وَالرِّيح آثَار الدَّار، يسْتَعْمل (مجَازًا للنَّقْل) أَي التَّحْوِيل للشَّيْء من مَكَان إِلَى مَكَان، أَو من حَالَة إِلَى حَالَة مَعَ بَقَائِهِ فِي نَفسه كنسخت النَّحْل الْعَسَل: إِذا نقلته من خلية إِلَى خلية لما فِي النَّقْل من الْإِزَالَة عَن مَوْضِعه الأول (أَو قلبه) أَي حَقِيقَة للنَّقْل مجَاز للإزالة، وَهَذَا قَول جمَاعَة مِنْهُم الْقفال، وَالْأول قَول الْأَكْثَرين، وَرجحه الإِمَام الرَّازِيّ (أَو مُشْتَرك) لَفْظِي بَينهمَا، إِذْ الأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحَقِيقَة، وَهَذَا قَول القَاضِي وَالْغَزالِيّ، أَو معنوي، وَبِه قَالَ ابْن الْمُنِير، وَالْقدر الْمُشْتَرك هُوَ الرّفْع (وتمثيل النَّقْل بنسخت مَا فِي هَذَا الْكتاب) كَمَا ذكر كثير (تساهل) لِأَنَّهُ فعل مثل مَا فِيهِ فِي غَيره لَا نقل فِيهِ عينه، ثمَّ قيل هَذَا نزاع لَفْظِي لَا يتَعَلَّق بِهِ غَرَض علمي وَقيل بل معنوي تظهر فَائِدَته فِي جَوَاز النّسخ بِلَا بدل، وَفِيه مَا فِيهِ. (وَاصْطِلَاحا رفع تعلق مُطلق) عَن تَقْيِيد بتأقيت أَو تأبيد (بِحكم شَرْعِي) الْجَار مُتَعَلق بتعلق (ابْتِدَاء) لَا يُقَال مَا ثَبت فِي الْمَاضِي من التَّعَلُّق لَا يتَصَوَّر بُطْلَانه لتحققه قطعا، وَمَا فِي الْمُسْتَقْبل لم يثبت بعد فَكيف يبطل، فَلَا رفع، لأَنا نقُول المُرَاد بِالرَّفْع زَوَال ظن الْبَقَاء فِي الْمُسْتَقْبل، وَلَوْلَا النَّاسِخ لَكَانَ فِي عقولنا ظن أَنه بَاقٍ فِي الْمُسْتَقْبل فقد علم أَن الَّذِي رفع إِنَّمَا هُوَ التَّعَلُّق الْحَادِث المتجدد لَا نفس الحكم (فَانْدفع) مَا قيل من (أَن الحكم قديم لَا يرْتَفع) لِأَن كل أزلي أبدي، وَلَا يتَصَوَّر رَفعه (و) انْدفع (بِمُطلق مَا) أَي رفع تعلق الحكم (بالغاية) نَحْو - {وَأَتمُّوا الصّيام إِلَى اللَّيْل} -. (و) انْدفع أَيْضا بِمُطلق رفع تعلقه بِسَبَب (الشَّرْط) نَحْو: صل الظّهْر إِن زَالَت الشَّمْس، فَإِن طلب الظّهْر تنجيزا قد رفع بِسَبَب تَعْلِيقه بِشَرْط الزَّوَال (و) انْدفع بِهِ أَيْضا رفع تعلقه بالمستثنى فِي صدر الْكَلَام بِحَسب الظَّاهِر من حَيْثُ الْعُمُوم بِسَبَب (الِاسْتِثْنَاء) نَحْو: اقْتُلُوا الْمُشْركين إِلَّا أهل الذِّمَّة، إِذْ لَيْسَ شَيْء من الْمَذْكُورَات نسخا وَاعْترض الشَّارِح بِأَن الرّفْع يَقْتَضِي سَابِقَة الثُّبُوت وَلم يرفع شَيْء مِنْهَا مَا سبق ثُبُوته قبل ذكرهَا، فَلَا يحْتَاج إِلَى الِاحْتِرَاز عَنْهَا وَلَا يخفى عَلَيْك أَن الِاحْتِرَاز فِي مثل هَذَا إِنَّمَا هُوَ بِحَسب مَا يتَبَادَر إِلَى الذِّهْن دُخُوله فِي جنس التَّعْرِيف، فَإِن الرّفْع كَمَا يُطلق

(3/178)


على إِزَالَة مَا ثَبت يُطلق على إِزَالَة احْتِمَال وجود شَيْء بِسَبَب وجود مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهرا كَمَا فِي الشَّرْط وَالِاسْتِثْنَاء، فَإِن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقتضى التَّنْجِيز لَوْلَا الشَّرْط وَالْأَمر بقتل الْمُشْركين يقتضى قتل أهل الذِّمَّة لَوْلَا الِاسْتِثْنَاء، وَالْحكم المغيا كَانَ ظَاهره أَن يَشْمَل مَا بعد الْغَايَة لولاها، لِأَن الأَصْل فِي الشَّيْء الثَّابِت الاستمراز، على أَن الِاحْتِرَاز قد يُرَاد بِهِ رفع توهم دُخُول مَا لَيْسَ من أَفْرَاد الْمُعَرّف، وَقيل أَنه احْتِرَاز عَن الحكم الْمُؤَقت بِوَقْت خَاص، فَإِنَّهُ لَا يَصح نُسْخَة قبل انتهائه، وَلَا يتَصَوَّر بعد انتهائه، وَعَن الحكم الْمُقَيد بالتأييد، كَذَا ذكره الشَّارِح وَلَا يخفى مَا فِيهِ وَقَالَ انْدفع بقولنَا الحكم الشَّرْعِيّ مَا كَانَ رفعا للْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة قبل وُرُود الشَّرْع عِنْد الْقَائِل بهَا، فَإِنَّهُ لَا يُسمى نسخا اتِّفَاقًا، لَا يُقَال خرج مِنْهُ مَا نسخ لَفظه وَبَقِي حكمه، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِرَفْع حكم، بل لفظ لِأَنَّهُ مُتَضَمّن لرفع أَحْكَام كَثِيرَة كالتعبد بتلاوته وَمنع الْجنب إِلَى غير ذَلِك فَتَأمل (و) انْدفع (بالأخير) أَي ابْتِدَاء (مَا) أَي رفع تعلقه (بِالْمَوْتِ وَالنَّوْم) وَالْجُنُون وَنَحْوهَا، وبانعدام الْمحل كذهاب الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ (لِأَنَّهُ) أَي الرّفْع فِي هَذِه الْأَشْيَاء (لعَارض) من هَذِه الْعَوَارِض لَا ابْتِدَاء بخطاب شَرْعِي وَأورد بِأَن رفع تعلق الحكم بِالنَّوْمِ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة: عَن النَّائِم حَتَّى يَسْتَيْقِظ ": الحَدِيث. وَقد يُجَاب بِأَن هَذَا الحَدِيث مَبْنِيّ على الْعَارِض وإخبار عَمَّا رفع لعَارض، وَالْمرَاد بقوله ابْتِدَاء مَا لَا يكون لعَارض فَتَأمل (وَيعلم التَّأَخُّر من الرّفْع) فِي الشَّرْح العضدي بعد تَعْرِيف النّسخ بِرَفْع الحكم الشَّرْعِيّ بِدَلِيل شَرْعِي مُتَأَخّر، وَقَوله مُتَأَخّر ليخرج، نَحْو: صل عِنْد كل زَوَال إِلَى آخر الشَّهْر وَإِن كَانَ يُمكن أَن يُقَال أَنه لَيْسَ يرفع التَّوَهُّم مِمَّا يقْصد فِي الْحُدُود انْتهى. وَالْمُصَنّف ترك ذكر الدَّلِيل الشَّرْعِيّ لِأَن رفع تعلق الحكم الشَّرْعِيّ لَا يُمكن بِدُونِهِ فَذكره مُسْتَلْزم لذكره وَكَون ذَلِك الدَّلِيل مُتَأَخِّرًا عَن الحكم الْمَرْفُوع تعلقه يعلم من مَفْهُوم الرّفْع لِأَنَّهُ فرع وجوده السَّابِق، وَفسّر الشَّارِح التَّأَخُّر بالتراخي وَلَيْسَ بجيد إِذْ الرّفْع لَا يدل عَلَيْهِ وَلَا يلْزمه، ثمَّ قَالَ وَإِنَّمَا فسر التَّأَخُّر بالتراخي لِأَن الْمُتَأَخر قد يكون مُخَصّصا نَاسِخا كالاستثناء والمخصص الأول انْتهى.
وَأَنت خَبِير بِأَن الِاسْتِثْنَاء قد خرج بِمُطلق والمخصص الأول لم يرفع تعلق الحكم بل بَين أَن مَا خصص بِهِ لم يكن مُتَعَلّقه (والسمعي المستقل) بِنَفسِهِ (دَلِيله) أَي الرّفْع الَّذِي هُوَ النّسخ (وَقد يَجْعَل) النّسخ (إِيَّاه) أَي الدَّلِيل (اصْطِلَاحا) كَمَا وَقع (فِي قَول إِمَام الْحَرَمَيْنِ) هُوَ (اللَّفْظ الدَّال على ظُهُور انْتِفَاء شَرط دوَام الحكم الأول) فِي الشَّرْح العضدي مَعْنَاهُ أَن الحكم كَانَ دَائِما فِي علم الله دواما مَشْرُوطًا بِشَرْط لَا يُعلمهُ إِلَّا هُوَ، وَأجل الدَّوَام أَن يظْهر انْتِفَاء ذَلِك بِالشّرطِ الْمُكَلف فَيَنْقَطِع الحكم وَيبْطل دَوَامه، وَمَا ذَلِك إِلَّا بتوفيقه تَعَالَى إِيَّاه، فَإِذا قَالَ قولا دَالا

(3/179)


عَلَيْهِ فَذَلِك هُوَ النّسخ (و) فِي قَول (الْغَزالِيّ) وفَاقا للْقَاضِي أبي بكر (الْخطاب الدَّال على ارْتِفَاع الحكم الثَّابِت بِالْخِطَابِ الأول على وَجه لولاه كَانَ ثَابتا مَعَ تراخيه عَنهُ) فَخرج نَحْو: لَا تَصُومُوا بعد غرُوب الشَّمْس بعد أَتموا الصّيام إِلَى اللَّيْل، لِأَنَّهُ وَإِن دلّ على ارْتِفَاع الحكم الثَّابِت لَكِن لَا على وَجه لولاه لَكَانَ ثَابتا مَعَ تراخيه لِأَنَّهُ لَو اتَّصل بِهِ لَكَانَ بَيَانا لمُدَّة الحكم كالشرط وَالصّفة والغاية وَالِاسْتِثْنَاء، كَذَا ذكره الشَّارِح. (وَمَا قيل) وَعَزاهُ ابْن الْحَاجِب إِلَى الْفُقَهَاء (النَّص الدَّال على انْتِهَاء أمد الحكم) أَي غَايَته (مَعَ تراخيه عَن مورده) أَي زمَان وُرُود الحكم الأول احْتِرَاز عَن الْبَيَان الْمُتَّصِل بالحكم مُسْتقِلّا كَانَ أَو غير مُسْتَقل، وَهَذِه التعاريف غير مرضية (فَإِنَّهُ اعْترض عَلَيْهَا) أَي على هَذِه التعاريف (بِأَن جِنْسهَا) من اللَّفْظ وَالْخطاب وَالنَّص (دَلِيله) أَي النّسخ (لَا هُوَ) أَي النّسخ، وَقد يُقَال: النّسخ الحكم بِالْآيَةِ وَالْخَبَر (وَأجِيب بالتزامه) أَي كَون جِنْسهَا نفس النّسخ (كَمَا أَنه) أَي جِنْسهَا هُوَ (الحكم) وَهُوَ خطاب الله الْمُتَعَلّق بِفعل الْمُكَلف إِلَى آخِره. فِي الشَّرْح العضدي، وَقد يُجَاب عَنْهَا بِأَنَّهُ قد علم أَن الحكم يَدُوم مَا وجد شَرط دَوَامه وَلَيْسَ شَرطه إِلَّا عدم قَول الله تَعَالَى الدَّال على انتفائه، فقاطع الدَّوَام هُوَ ذَلِك القَوْل، وَهُوَ النّسخ، فَكَمَا أَن الحكم لَيْسَ إِلَّا قَوْله افْعَل، فالنسخ لَيْسَ إِلَّا ذَلِك القَوْل (وَهَذَا) أَي كَون الْكَلَام نفس الحكم (إِنَّمَا يَصح) حَقِيقَة (فِي) الْكَلَام (النَّفْسِيّ والمجعول جِنْسا) فِي التعاريف الْمَذْكُورَة (اللَّفْظ) لتصريحهم بِهِ (وَلِأَنَّهُ) أَي الْجِنْس الْمَذْكُور (جعل دَالا لنا، والنفسي مَدْلُول) عَلَيْهِ بِهِ (وَأَيْضًا يدْخل قَول الْعدْل نسخ) حكم كَذَا فِي التعاريف الْمَذْكُورَة لصدقها عَلَيْهِ، وَلَيْسَ بنسخ فَلَا تكون مطردَة (وَيخرج) عَنْهَا (فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَقد يكون النّسخ بِهِ فَلَا تكون منعكسة (وَأجِيب بِأَن المُرَاد) بِالدَّال فِي التعاريف (الدَّال بِالذَّاتِ) أَي بِاعْتِبَار الذَّات لَا بِوَاسِطَة مَا يفهم مِنْهُ (وهما) أَي قَول الْعدْل وَفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (دَلِيلا ذَلِك، لَا هُوَ) أَي الدَّال بِالذَّاتِ (وَخص الْغَزالِيّ بورود اسْتِدْرَاك) قَوْله على وَجه الخ) لِأَن مَا قصد بِهِ إِخْرَاجه وَقد عَرفته آنِفا غير دَاخل فِي الدَّال على ارْتِفَاع الحكم الثَّابِت إِلَى آخِره إِذْ لم يثبت الصَّوْم بعد الْغُرُوب وَلم يظْهر لَهُ فَائِدَة أُخْرَى (وَأجِيب بِأَنَّهُ) أَي الْقَيْد الْمَذْكُور (احْتِرَاز عَن قَول الْعدْل لِأَنَّهُ) أَي قَول الْعدْل (لَيْسَ كَذَلِك) أَي لولاه لَكَانَ ثَابتا (لِأَن الِارْتفَاع) للْحكم لَيْسَ بقول الْعدْل بل (بقول الشَّارِع قَالَه هُوَ) أَي الْعدْل (أَولا) أَي أَو لم يقلهُ (والتراخي لإِخْرَاج الْمُقَيد بالغاية) وَنَحْوهَا من المخصصات الْمُتَّصِلَة (وَلَا يخفى أَن صِحَّته) أَي هَذَا الْجَواب (توجب اعْتِبَار قَول الْعدْل دَاخِلا) فِي الْخطاب الدَّال إِلَى آخِره، إِذْ لَا يحْتَرز عَمَّا لَيْسَ بداخل، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن المُرَاد الدَّال بِالذَّاتِ فَلَا يكون دَاخِلا

(3/180)


(فَلَا ينْدَفع) النَّقْض بقوله الْعدْل (عَن) التعريفين (الآخرين) الأول وَالثَّالِث لإيجابه حمل الدَّال على أَعم مِمَّا يكون بِالذَّاتِ (وَلَو صَحَّ ذَلِك) أَي رفع الإيرادين عَنْهُمَا (بادعاء أَنه) أَي الدَّال بِالذَّاتِ هُوَ (الْمُتَبَادر من الدَّال لزم الِاسْتِدْرَاك) الْمَذْكُور على الْغَزالِيّ فدار الْأَمر بَين دُخُول قَول الْعدْل فِي صدر التعاريف الثَّلَاثَة وَيلْزمهُ الِاسْتِدْرَاك وَبَين دُخُوله وَعدم اندفاع الْبَعْض بقول الْعدْل عَن التعريفين (ويندفع قَول) الْعدْل (الرَّاوِي) نسخ كَذَا (عَن (الثَّالِث) وَهُوَ النَّص الدَّال على انْتِهَاء أمد الحكم مَعَ تراخيه عَن مورده (أَيْضا) أَي كَمَا ينْدَفع بِإِرَادَة الدَّال بِالذَّاتِ (بِأَنَّهُ) أَي قَوْله (لَيْسَ بِنَصّ فِي) الْمَعْنى (الْمُتَبَادر) مِنْهُ لما فِيهِ من الِاحْتِمَال، إِن أَرَادَ بِالنَّصِّ مَا يُقَابل الظَّاهِر فكونه لَيْسَ بِنَصّ فِيهِ على الْإِطْلَاق مَمْنُوع، وَإِن أَرَادَ بِهِ مَا يُقَابل الْإِجْمَاع وَالْقِيَاس: وَهُوَ الْكتاب وَالسّنة، وَقَول الرَّاوِي لَيْسَ مِنْهُمَا فَقَوله فِي الْمُتَبَادر يَأْبَى عَنهُ: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون مَعْنَاهُ بِاعْتِبَار مَا هُوَ الْمُتَبَادر من لفظ النَّص، وَقد يُقَال مُرَاده أَن الرَّاوِي قد يظنّ أَن الحكم مَنْسُوخا وَلَيْسَ كَذَلِك فِي الْوَاقِع (وَذكرهمْ) أَي الْفُقَهَاء (الِانْتِهَاء) فِي تَعْرِيف النّسخ (دون الرّفْع) كَمَا فِي الثَّالِث (إِن كَانَ لظُهُور فَسَاده) أَي ذَلِك الرّفْع (إِذْ لَا يرْتَفع الْقَدِيم لم يفد) ذكر الِانْتِهَاء (لِأَنَّهُ) أَي الرّفْع (لَازم الِانْتِهَاء) لِأَنَّهُ إِذا انْتهى ارْتَفع، على أَن الْقَدِيم كَمَا لَا يرْتَفع لَا يَنْتَهِي، وَإِن أُرِيد انْتِهَاء تعلقه فَكَذَلِك الرّفْع (وَإِن) كَانَ ذكرهم إِيَّاه (لِاتِّفَاق اختيارهم عبارَة أُخْرَى) لَا لقصد ذَلِك: يَعْنِي قصدُوا تعبيرا آخر فَوَقع فِيهِ ذكر الِانْتِهَاء اتِّفَاقًا (فَلَا بَأْس) إِذْ لَا حجر فِي ذَلِك.
مسئلة

(أجمع أهل الشَّرَائِع على جَوَازه) أَي النّسخ عقلا (ووقوعه) نسخا (وَخَالف غير العيسوية من الْيَهُود فِي جَوَازه ففرقة) وهم الشمعونية مِنْهُم ذَهَبُوا إِلَى امْتِنَاعه (عقلا، وَفرْقَة) هم العنانية إِلَى امْتِنَاعه (سمعا) أَي نصا لَا عقلا، واعترف بِجَوَازِهِ عقلا وسمعا العيسوية مِنْهُم وهم أَصْحَاب أبي عِيسَى الْأَصْفَهَانِي المعترفون ببعثه نَبيا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى بني إِسْمَاعِيل خَاصَّة وهم الْعَرَب، لَا إِلَى الْأُمَم كَافَّة (و) خَالف (أَبُو مُسلم الْأَصْفَهَانِي) المعتزلي الملقب بِالْحَافِظِ واسْمه مُحَمَّد ابْن بَحر، وَقيل ابْن عمر، وَقيل هُوَ عَمْرو بن يحيى وَهُوَ مَعْرُوف بِالْعلمِ ذُو تَأْلِيفَات كَثِيرَة مَا بَين تَفْسِير وَغَيره (فِي وُقُوعه فِي شَرِيعَة وَاحِدَة) وَحكى الإِمَام الرَّازِيّ وَأَتْبَاعه إِنْكَاره نسخ شَيْء من الْقُرْآن لِأَنَّهُ تَعَالَى وصف كِتَابه بِأَنَّهُ - {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه} - فَلَو نسخ بعضه لبطل وَأجَاب الْبَيْضَاوِيّ بِأَن الضَّمِير لمجموع الْقُرْآن، وَهُوَ لَا ينْسَخ اتِّفَاقًا، وَفِي

(3/181)


الْمَحْصُول مَعْنَاهُ لم يتقدمه من الْكتب مَا يُبطلهُ وَلَا يَأْتِي بعده مَا يُبطلهُ وَأجَاب آخَرُونَ بِأَنا لَا نسلم أَن النّسخ إبِْطَال، سلمنَا أَنه إبِْطَال، لَكِن نمْنَع أَن هَذَا الْإِبْطَال بَاطِل: بل هُوَ حق - يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت -. (لنا لَا يلْزم قطعا مِنْهُ) أَي النّسخ (محَال عَقْلِي إِن لم تعْتَبر الْمصَالح) أَي رِعَايَة جلب مَنْفَعَة أَو دفع مضرَّة فِي التكاليف (فَظَاهر) عدم لُزُومه، إِذْ على ذَلِك التَّقْدِير لَا يقْصد مِنْهَا إِلَّا الِابْتِلَاء وَالله تَعَالَى يفعل الله مَا يَشَاء وَيحكم مَا يُرِيد من غير اعْتِبَار مصلحَة فِي حكمه (وَإِن) اعْتبر الْمصَالح فِيهَا (فلاختلافها) أَي الْمصَالح (بالأوقات) أَي بِحَسب اختلافها كشرب الدَّوَاء نَافِع فِي وَقت ضار فِي آخر (فيختلف حسن الشَّيْء وقبحه) باخْتلَاف الْأَوْقَاف (وَالْأَحْوَال) مَعْطُوف على الْأَوْقَات أَي وباختلاف الْأَحْوَال فاختلاف الْمصَالح تَارَة ينشأ من اخْتِلَاف الْأَوْقَات، وَأُخْرَى باخْتلَاف أَحْوَال الْمُكَلّفين، فاختلاف الْأَوْقَات لذَلِك بِدُونِ الْأَحْوَال غير ظَاهر (فَبَطل قَوْلهم) أَي مانعي جَوَازه عقلا (النَّهْي يَقْتَضِي الْقبْح وَالْوُجُوب الْحسن فَلَو صَحَّ) كَون الْفِعْل الْوَاحِد مَنْهِيّا مَأْمُورا بِهِ (حسن وقبح) وَهُوَ محَال لِاسْتِحَالَة اجْتِمَاع الضدين، وَوجه الْبطلَان أَن الْمحَال اجْتِمَاع الْحسن والقبح من جِهَة وَاحِدَة، وَعند اخْتِلَاف الْجِهَة لَا مَحْذُور فِيهِ كَمَا إِذا كَانَ فِي قتل شخص صَلَاح للْعَالم فَإِن قَتله قَبِيح بِالنّظرِ إِلَى ذَاته حسن بِالنِّسْبَةِ إِلَى صَلَاح الْعَالم (وَلِأَنَّهُ) أَي نسخ الحكم (إِن) كَانَ (لحكمة ظَهرت) لَهُ تَعَالَى (بعد عَدمه) أَي عدم ظُهُورهَا عِنْد شرع الحكم الأول (فبداء) بِالْمدِّ أَي ظُهُور بعد الخفاء، وَهُوَ محَال عَلَيْهِ تَعَالَى لاستلزامه الْعلم بعد الْجَهْل (أَولا) لحكمة ظَهرت لَهُ تَعَالَى (وَهُوَ) أَي مَا لَا يكون لحكمة من الْأَحْكَام (الْعَبَث) وَهُوَ فعل الشَّيْء لَا لغَرَض صَحِيح، وَهُوَ محَال على الله سُبْحَانَهُ (وَإِنَّمَا يكون) أَي يتَحَقَّق مَا ذكرُوا (لَو نسخ مَا حسن) لنَفسِهِ (وقبح لنَفسِهِ كالإيمان وَالْكفْر) وَمحل النزاع مَا حسن وقبح لغيره، ثمَّ هَذَا كُله عِنْد غير الأشاعرة (أما الأشاعرة فيمنعون وجوده) أَي وجود كل من الْحسن والقبح عقلا، فالحسن عِنْدهم مَا حسنه الشَّرْع والقبيح مَا قبحه فالمنسوخ كَانَ حسنا فِي وقته والناسخ صَار حسنا فِي وقته (وَأما الْوُقُوع فَفِي التَّوْرَاة أَمر آدم بتزويج بَنَاته من بنيه) أخرج الطَّبَرَانِيّ عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس كَانَ لَا يُولد لآدَم غُلَام إِلَّا ولدت مَعَه جَارِيَة فَكَانَ يُزَوّج توءمة هَذَا للْآخر وتوءمة الآخر لهَذَا، وَقد حرم فِي شَرِيعَة من بعده من الْأَنْبِيَاء اتِّفَاقًا وَهَذَا هُوَ النّسخ (وَفِي السّفر الأول) من التَّوْرَاة (قَالَ تَعَالَى لنوح) عِنْد خُرُوجه من الْفلك (إِنِّي جعلت كل دَابَّة حَيَّة مأكلا لَك ولذريتك) وأطلقت ذَلِك أَي أبحت كنبات العشب مَا خلا الدَّم فَلَا تأكلوه (ثمَّ حرم مِنْهَا) أَي من الدَّوَابّ على من بعده (على لِسَان مُوسَى كثير) مِنْهَا كَمَا اشْتَمَل عَلَيْهِ السّفر الثَّالِث من التَّوْرَاة. (وَأما الِاسْتِدْلَال) عَلَيْهِم

(3/182)


(بِتَحْرِيم السبت) أَي الْعَمَل الدنيوي كالاصطياد فِيهِ فِي شَرِيعَته عَلَيْهِ السَّلَام (بعد إِبَاحَته) قبل مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام (وَوُجُوب الْخِتَان عِنْدهم) أَي الْيَهُود (يَوْم الْولادَة) وَقيل فِي ثامن يَوْمهَا (بعد إِبَاحَته فِي مِلَّة يَعْقُوب) أَو فِي شَرِيعَة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي أَي وَقت أَرَادَ الْمُكَلف فِي الصغر وَالْكبر، وَإِبَاحَة الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ فِي شَرِيعَة يَعْقُوب، وبتحريمه عِنْد الْيَهُود (فَيدْفَع بِأَن رفع الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة لَيْسَ نسخا) وَإِبَاحَة هَذِه الْأُمُور كَانَت بِالْأَصْلِ فَلَا يكون رَفعهَا نسخا (واحكم بِالْإِبَاحَةِ وَإِن كَانَ حكما بتحقق كَلمته النفسية) وَهُوَ مَضْمُون أَنه مُبَاح وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَالَ تَعَالَى - {وَلَا رطب وَلَا يَابِس إِلَّا فِي كتاب مُبين} - أَي اللَّوْح الْمَحْفُوظ وَهُوَ مَا فِيهِ كَلِمَاته الدَّالَّة على كَلمته النفسية (وَهِي) أَي كَلمته النفسية (الحكم) بِمَعْنى خطاب الله الْمُتَعَلّق بِفعل الْمُكَلف (لَكِن) الحكم (الشَّرْعِيّ أخص مِنْهُ) أَي من الحكم بِمَعْنى الْخطاب الْمَذْكُور، وَقَالَ الشَّارِح أَي من الحكم بِالْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّة (وَهُوَ) أَي الحكم الشَّرْعِيّ (مَا علق بِهِ خطاب) أَي خطابه تَعَالَى (فِي شَرِيعَة) من الشَّرَائِع أَرَادَ بالحكم هَهُنَا مُتَعَلق الحكم بِمَعْنى الْخطاب، وَهُوَ كَيْفيَّة فعل الْمُكَلف من وجوب أَو حُرْمَة (وَبَعض الْحَنَفِيَّة التزموه) أَي رفع الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة (نسخا لِأَن الْخلق لم يتْركُوا سدى) أَي مهملين غير مأمورين وَلَا منهيين (فِي وَقت) من الْأَوْقَات (فَلَا إِبَاحَة وَلَا تَحْرِيم قطّ إِلَّا بشرع فَمَا يذكر من حَال الْأَشْيَاء) يَعْنِي كَيْفيَّة أَفعَال الْمُكَلّفين (قبل الشَّرْع) فَيُقَال الأَصْل فِيهَا الْإِبَاحَة مثلا (فرض) أَي أَمر ذكر على سَبِيل الْفَرْض، وَالْوَاقِع فِي نفس الْأَمر أَن الْخلق فِي كل وَقت مأمورون بأَشْيَاء ومنهيون عَن أَشْيَاء ومخيرون فِيمَا سواهُمَا (وَأما) النّسخ (فِي شَرِيعَة) وَاحِدَة (فوجوب التَّوَجُّه إِلَى الْبَيْت) أَي فمثاله وجوب الِاسْتِقْبَال إِلَى الْكَعْبَة شرفها الله تَعَالَى بقوله - {فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام} - الْآيَة بعد أَن كَانَ التَّوَجُّه إِلَى بَيت الْمُقَدّس كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا (وَنسخ الْوَصِيَّة للْوَالِدين) الثَّابِتَة بقوله تَعَالَى - {كتب عَلَيْكُم إِذا حضر أحدكُم الْمَوْت إِن ترك خيرا الْوَصِيَّة للْوَالِدين} - فنسخ الله من ذَلِك - {والأقربين} -. فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَ المَال للْوَلَد، وَكَانَت الْوَصِيَّة للْوَالِدين فنسخ الله من ذَلِك مَا أحب فَجعل للذّكر مثل حَظّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَجعل لِلْأَبَوَيْنِ لكل وَاحِد مِنْهُمَا السُّدس، وَسَيَأْتِي ذكر النَّاسِخ فِي مسئلة السّنة بِالْقُرْآنِ (وَكثير) وستقف على كثير مِنْهُ (لَا يُنكره إِلَّا مكابر أَو جَاهِل بالوقائع) . قَالَ (المانعون سمعا لَو نسخت شَرِيعَة مُوسَى لبطل قَوْله) أَي قَول مُوسَى أَو قَوْله تَعَالَى على زعمهم (هَذِه شَرِيعَة مُؤَبّدَة مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض أُجِيب بِمَنْع أَنه) أَي هَذَا القَوْل (قَالَه) بل هُوَ مُخْتَلف فِيهِ فضلا عَن كَونه متواترا، وَكَونه فِي التَّوْرَاة الْآن لَا ينفع لوُقُوع التَّغْيِير والتبديل فِيهَا. قيل أَن

(3/183)


أول من اختلقه للْيَهُود ابْن الراوندي ليعارض بِهِ رِسَالَة نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَإِلَّا) لَو قَالَه (لقضت الْعَادة بمحاجتهم) أَي الْيَهُود (بِهِ) أَي بِهَذَا القَوْل للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحرصهم على معارضته (وشهرته) أَي ولقضت شهرة الْحجَّاج لَو وَقع لتوفر الدَّوَاعِي على نقلهَا، ثمَّ يمْنَع كَونه متواترا مَعَ كَونه فِي التَّوْرَاة (لِأَنَّهُ لَا تَوَاتر فِي نقل التَّوْرَاة الكائنة الْآن لِاتِّفَاق أهل النَّقْل عَن إحراق بخْتنصر) فِي الْقَامُوس بخْتنصر بِالتَّشْدِيدِ أَصله بوخت وَمَعْنَاهُ ابْن وَنصر كبقم صنم، وَكَانَ وجد عِنْد الصَّنَم وَلم يعرف لَهُ أَب فنسب إِلَيْهِ. حَرْب الْقُدس (أسفارها) فِي الْقَامُوس السّفر الْكتاب الْكَبِير أَو جُزْء من أَجزَاء التَّوْرَاة (و) أَنه (لم يبْق من يحفظها، وَذكر أَحْبَارهم أَن عُزَيْرًا ألهمها فكتبها وَدفعهَا إِلَى تِلْمِيذه لِيَقْرَأهَا عَلَيْهِم) فَأَخَذُوهَا من التلميذ، وَبقول الْوَاحِد لَا يثبت التَّوَاتُر وَبَعْضهمْ زعم أَن التلميذ زَاد فِيهَا وَنقص (وَلذَلِك لم تزل نسخهَا الثَّلَاث) الَّتِي بيد العنانية وَالَّتِي بيد السامرية وَالَّتِي بيد النَّصَارَى (مُخْتَلفَة فِي أَعمار الدُّنْيَا) فَفِي نُسْخَة السامرية زِيَادَة ألف سنة وَكسر على مَا فِي نُسْخَة العنانية وَفِي الَّتِي بيد النَّصَارَى زِيَادَة ألف وثلثمائة سنة وفيهَا الْوَعْد بِخُرُوج الْمَسِيح وبخروج الْعَرَبِيّ صَاحب الْجمل وارتفاع تَحْرِيم السبت عِنْد خروجهما. قَالَ الشَّارِح كَذَا ذكر غير وَاحِد من مَشَايِخنَا. وَفِي تَتِمَّة الْمُخْتَصر فِي أَخْبَار الْبشر نسخ التَّوْرَاة ثَلَاث السامرية والعبرانية وَهِي الَّتِي بأيدي الْيَهُود إِلَى زَمَاننَا وَعَلَيْهَا اعتمادهم وكلتاهما فَاسِدَة لأنباء السامرية بِأَن من هبوط آدم عَلَيْهِ السَّلَام إِلَى الطوفان ألف سنة وثلاثمائة وَسبع سِنِين وَكَانَ الطوفان لستمائة سنة خلت من عمر نوح عَلَيْهِ السَّلَام وعاش آدم تِسْعمائَة وَثَلَاثِينَ سنة بِاتِّفَاق فَيكون نوح على حكم هَذِه التَّوْرَاة أدْرك جَمِيع آبَائِهِ إِلَى آدم، وَمن عمر آدم فَوق مِائَتي سنة وَهُوَ بَاطِل بِاتِّفَاق، ولأنباء العبرانية بِأَن بَين هبوط آدم الطوفان ألفي سنة وَخَمْسمِائة وستا وَخمسين سنة، وَبَين الطوفان وولادة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام مِائَتي سنة واثنتين وَتِسْعين سنة وعاش نوح بعد الطوفان ثَلَاثمِائَة وَخمسين سنة بِاتِّفَاق فَيكون نوح أدْرك من عمر إِبْرَاهِيم ثَمَانِيَة وَخمسين سنة، وَهَذَا بَاطِل بالِاتِّفَاقِ لِأَن قوم هود أمة نجت بعد نوح، وَأمة صَالح نجت بعد أمة هود، وَإِبْرَاهِيم وَأمته بعد أمة صَالح بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى خَبرا عَن هود فِيمَا يعظ بِهِ قومه وهم عَاد - {واذْكُرُوا إِذْ جعلكُمْ خلفاء من بعد قوم نوح} - وَقَوله تَعَالَى فِيمَا يعظ بِهِ صَالح قومه وهم ثَمُود - {واذْكُرُوا إِذْ جعلكُمْ خلفاء من بعد عَاد} -. وَالنُّسْخَة الثَّالِثَة اليونانية وَذكر أَنَّهَا اخْتَارَهَا محققو المؤرخين، وَهِي توراة نقلهَا اثْنَان وَسَبْعُونَ حبرًا قبل ولادَة الْمَسِيح بقريب ثلثمِائة سنة لبطليموس اليوناني بعد الْإِسْكَنْدَر. قَالَ الشَّارِح، وَإِن كَانَت بِهَذِهِ المثابة فَلم يثبت تواترها، وَقَالَ الطوفي فِيهَا نُصُوص كَثِيرَة وَردت مؤيدة ثمَّ تبين أَن المُرَاد بهَا التَّوْقِيت بِمدَّة مقدرَة. (قَالُوا) أَي مانعو جَوَاز النّسخ سمعا وعقلا الحكم (الأول إِمَّا مُقَيّد بغاية) أَي

(3/184)


بِوَقْت مَحْدُود معِين (فالمستقبل) أَي فَالْحكم الَّذِي ورد بِخِلَاف الأول (بعده لَيْسَ نسخا) للْأولِ (إِذْ لَيْسَ رفعا) لَهُ قطعا لِأَنَّهُ انْتهى بِنَفسِهِ بانتهاء وقته الْمعِين (أَو) مُقَيّد (بتأبيد فَلَا رفع) يتَصَوَّر فِيهِ (للتناقض) على تَقْدِير الرّفْع لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ الْإِخْبَار بتأبيد الحكم وبنفيه. فَإِن قلت التَّنَاقُض فِي الْأَخْبَار والحكمين سيان. قلت لكنهما يستلزمان اخبارين لِأَن لَازم افْعَل كَذَا كَونه مَطْلُوب الْفِعْل للشارع، ولازم الْفِعْل كَونه مَطْلُوب التّرْك لَهُ (ولتأديته) أَي جَوَاز نسخه (إِلَى تعذر الْإِخْبَار بِهِ) بالتأبيد على وَجه يُوجب الْعلم بالتأبيد فِي زَمَانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ مَا من عبارَة تذكر إِلَّا وَتقبل النّسخ وَاللَّازِم بَاطِل اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ غير مُتَعَذر إِجْمَاعًا (و) إِلَى (نفي الوثوق) بتأبيد حكم مَا (فَلَا يجْزم بِهِ) أَي بالتأبيد (فِي نَحْو الصَّلَاة) أَي فِي فرضيتها وفرضية الصَّلَاة إِلَى غير ذَلِك بل (وشريعتكم) أَي وَلَا نجزم بتأبيدها أَيْضا لجَوَاز نسخهَا (الْجَواب إِن عني بالتأبيد إِطْلَاقه) أَي الحكم عَن التَّوْقِيت والتأبيد (فَلَا يمْتَنع) جَوَاز نسخه (إِذْ لَا دلَالَة لفظية عَلَيْهِ) أَي التَّأْبِيد المستلزم امْتنَاع جَوَاز نسخه إِذْ اللَّفْظ سَاكِت عَن التَّأْبِيد وَلَيْسَ بِلَا لَام لَا دلَالَة لفظية لِأَن الأَصْل فِي الشَّيْء الثَّابِت الْبَقَاء فَمن هَذَا الْوَجْه يفهم التَّأْبِيد (بل) يُقَال على سَبِيل الْجَزْم من غير تردد (أَنه) أَي النّسخ (مَشْرُوع) فِيمَا شَأْنه هَذَا (أَو) عني بالتأبيد (صَرِيحه) أَي التَّأْبِيد (فَكَذَلِك) أَي لِامْتِنَاع نسخه (أَن جعل) التَّأْبِيد (قيد الْفِعْل الْوَاجِب لَا وُجُوبه) قَالَ الشَّارِح إِذْ لَا تنَاقض بَين دوَام الْفِعْل وَعدم دوَام الحكم الْمُتَعَلّق بِهِ كَصَوْم رَمَضَان أبدا فَإِن التَّأْبِيد قيد للصَّوْم الَّذِي هُوَ الْفِعْل الْوَاجِب، لَا لإيجابه على الْمُكَلف لِأَن الْفِعْل مِمَّا يعْمل بمادته لَا بهيئته وَدلَالَة الْأَمر على الْوُجُوب بالهيئة لَا بالمادة فَقَوله لَا تنَاقض إِلَى آخِره صَحِيح فتجويز الْعقل أَن تدوم الْأَفْعَال وَلَا يَدُوم وُجُوبهَا والتناقض إِنَّمَا يكون عِنْد اتِّحَاد مورد النَّفْي والإيجاب. وَأما قَوْله فَإِن التَّأْبِيد إِلَى آخِره فأصله فِي التَّلْوِيح حَيْثُ قَالَ لَا مُنَافَاة بَين إِيجَاب فعل مُقَيّد بِزَمَان وَأَن لَا يُوجد التَّكْلِيف فِي ذَلِك الزَّمَان كَمَا يُقَال صم غَدا ثمَّ ينْسَخ قبله وَذَلِكَ كَأَن يُكَلف بِصَوْم غَد ثمَّ يَمُوت قبل غَد فَلَا يُوجد التَّكْلِيف بِهِ. وتحقيقه أَن قَوْله صم أبدا يدل على أَن صَوْم كل شهر من شهور رَمَضَان إِلَى الْأَبَد وَاجِب فِي الْجُمْلَة من غير تَقْيِيد الْوُجُوب بالاستمرار إِلَى الْأَبَد انْتهى. أَقُول وَمَعَ هَذَا التَّحْقِيق الْبَالِغ مَا انْقَطع مَادَّة الْإِشْكَال بالكيلة لِأَن قَوْله صم حَقِيقَته طلب الصَّوْم الطّلب، مَدْلُول الْهَيْئَة وَالصَّوْم مَدْلُول الْمَادَّة والظرف الْمُتَعَلّق بِالْفِعْلِ ظرفيته بِالنّظرِ إِلَى النِّسْبَة الملحوظة فِي ذَلِك الْفِعْل وَالنِّسْبَة هَهُنَا طلبية والظرف لَيْسَ مظروفه حُدُوث

(3/185)


ذَلِك الطّلب وصدوره عَن الطَّالِب بِالضَّرُورَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مظروف النِّسْبَة الإيقاعية الَّتِي قصد الطَّالِب صدورها عَن الْمَطْلُوب فِيهِ عِنْد الِامْتِثَال فقد طلب مِنْهُ على سَبِيل الْإِيجَاب صوما مستمرا فَمَا معنى عدم تَقْيِيد الْإِيجَاب بالتأبيد، نعم يَصح أَن يُقَال طلب الِاسْتِمْرَار ثمَّ رَجَعَ عَن ذَلِك الطِّبّ، وَلَا يلْزم مِنْهُ التَّنَاقُض غير أَن مَانع جَوَاز النّسخ يَقُول: لَا يَلِيق بِجَانِب الْحق سُبْحَانَهُ، أَن يطْلب الِاسْتِمْرَار ثمَّ يرجع، وَله أَن يَقُول طلبه الِاسْتِمْرَار يدل على أَنه مُقْتَضى الْحِكْمَة والنسخ يدل على أَنه لَيْسَ مُقْتَضى الْحِكْمَة، وَهَذَا تنَاقض وَلَا حَاجَة إِلَى الْتِزَام كَون التَّأْبِيد قيدا للْحكم الأول وَأما قَول الشَّارِح الْعَامِل هُوَ مَادَّة الْفِعْل لَا صورته فَلَا طائل تَحْتَهُ كَمَا لَا يخفى على من ألْقى السّمع وَهُوَ شَهِيد (وَإِن لزم) كَون صَرِيح التَّأْبِيد (قيدا لَهُ) أَي للْحكم (فمختلف) فِي جَوَاز نسخه، فَمنهمْ من أجَازه أَيْضا، وَمِنْهُم من مَنعه كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه (وَلَا يُفِيد) هَذَا الترديد عدم جَوَاز النّسخ (لجوازه) أَي النّسخ (بِمَا تقدم) من الدَّال على جَوَازه ثمَّ وُقُوعه فالتشكيك فِيهِ سفسطة، وَفِي نُسْخَة الشَّارِح هَهُنَا زِيَادَة وَهِي قَوْله (وَتَسْلِيم كَون الحكم الْمُقَيد) بالتأبيد (صَرِيحًا لَا يجوز نسخه لَا يفيدهم) أَي مانعي جَوَاز النّسخ (النَّفْي الْكُلِّي) لجوازه (الَّذِي هُوَ مطلوبهم مَعَ أَن الحكم الْمُقَيد بالتأبيد أقل من الْقَلِيل) انْتهى (قَالُوا) أَي مانعو جَوَازه سمعا وعقلا (أَيْضا: لَو رفع) تعلق الحكم (فإمَّا) أَن يكون رَفعه (قبل وجوده) أَي الْفِعْل امتثالا (فَلَا ارْتِفَاع، أَو) يكون رَفعه (بعده) أَي الْفِعْل (أَو) يكون (مَعَه) أَي الْفِعْل (فيستحيل) رَفعه لِاسْتِحَالَة رفع مَا وجد وانقضى، لِأَن ارْتِفَاع الْمَعْدُوم محَال كَمَا يَسْتَحِيل كَونه مرتفعا وَكَونه متحققا (وَلِأَنَّهُ تَعَالَى إِمَّا عَالم باستمراره) أَي بدوام الحكم الْمَنْسُوخ (أبدا فَظَاهر) أَنه لَا نسخ، وَإِلَّا يلْزم وُقُوع خلاف علم الله وَهُوَ محَال، لِأَنَّهُ جهل (أَولا) يعلم استمراره أبدا (فَهُوَ) أَي الحكم الْمَنْسُوخ (فِي علمه مُؤَقّت فينتهي) الحكم (عِنْده) أَي عِنْد ذَلِك الْوَقْت (وَالْقَوْل الَّذِي يَنْفِيه) أَي ذَلِك الحكم بعد ذَلِك الْوَقْت (لَيْسَ رفعا) لحكم ثَابت فَلَا يكون نسخا (وَالْجَوَاب عَن الأول أَنه) أَي قَوْلكُم لَو رفع، فَأَما إِلَى آخِره (ترديد فِي الْفِعْل) الَّذِي تعلق بِهِ الحكم (لَا) فِي (الحكم) الَّذِي هُوَ مَحل النزاع، إِذْ النّسخ ارْتِفَاع الحكم لَا الْفِعْل وَبطلَان ارْتِفَاع الْفِعْل لَا يسْتَلْزم بطلَان ارْتِفَاع الحكم (وَلَو أجْرى) الترديد (فِيهِ) أَي فِي الحكم (قُلْنَا المُرَاد) بالنسخ (انْقِطَاع تعلقه) أَي الحكم، يَعْنِي كَانَ تعلقه بِفعل الْمُكَلف مستمرا إِلَى زمَان النَّاسِخ وَعِنْده انْقَطع وارتفع مَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يرْتَفع لَوْلَا النَّاسِخ (كَمَا قدمْنَاهُ فِي التَّعْرِيف ونختار علمه) أَي أَنه تَعَالَى علم اسْتِمْرَار الحكم، الْمَنْسُوخ (مؤقتا ويتضمن) علمه بِهِ مؤقتا (علمه بِالْوَقْتِ الَّذِي ينسخه فِيهِ) وَعلمه

(3/186)


بارتفاعه بالنسخ لَا يمنعهُ بل يُثبتهُ ويحققه (فَكيف يُنَافِيهِ) .
مسئلة

(الِاتِّفَاق على جَوَاز النّسخ) للْحكم (بعد التَّمَكُّن) من الْفِعْل الَّذِي تعلق بِهِ الحكم بعد علمه بتكليفه بِهِ (بِمُضِيِّ مَا يسمع) الْفِعْل (من الْوَقْت الْمعِين لَهُ) أَي للْفِعْل (شرعا إِلَّا مَا عَن الْكَرْخِي) من أَنه لَا يجوز إِلَّا بعد حَقِيقَة الْفِعْل سَوَاء مضى من الْوَقْت مَا يسمع الْفِعْل أَولا، كَذَا ذكره الشَّارِح وَلَا يخفى مَا فِيهِ: من أَنه لَا يتَصَوَّر تحقق حَقِيقَته من غير أَن يمْضِي مَا يَسعهُ الْوَقْت: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال مُرَاده أَنه إِن لم تتَحَقَّق حَقِيقَته لَا يجوز سَوَاء إِلَى آخِره (وَاخْتلف فِيهِ) أَي فِي النّسخ (قبله) أَي قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل (بِكَوْنِهِ) أَي بِوُقُوعِهِ (قبل) دُخُول (الْوَقْت) الْمعِين للْفِعْل (أَو بعده) أَي بعد دُخُوله (قبل) مُضِيّ (مَا يسع) الْفِعْل مِنْهُ سَوَاء (شرع) فِي الْفِعْل (أَو لَا كصم غَدا وَرفع) وجوب صَوْمه (قبله) أَي الْغَد (أَو) رفع (فِيهِ) أَي فِي الْغَد (وَإِن شرع) فِي صَوْمه (قبل التَّمام) لصيامه (فالجمهور من الْحَنَفِيَّة وَغَيرهم) كالشافعية والأشاعرة قَالُوا (نعم) يجوز نسخه (بعد التَّمَكُّن من الِاعْتِقَاد) لحقيقته (وَجُمْهُور الْمُعْتَزلَة وَبَعض الْحَنَابِلَة والكرخي) والجصاص والماتريدي والدبوسي (والصيرفي لَا) يجوز وَإِن كَانَ بعد التَّمَكُّن من الِاعْتِقَاد (لنا لَا مَانع عَقْلِي وَلَا شَرْعِي) من ذَلِك (فَجَاز) جَوَازًا عقليا شَرْعِيًّا (و) أما الْوُقُوع فقد (نسخ) الشَّارِع (خمسين) من الصَّلَوَات فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة بِفَرْض الْخمس، وَيحْتَمل أَن يكون نسخ على صِيغَة الْمصدر مُضَافا إِلَى خمسين مَعْطُوفًا على لَا مَانع، وَالْمرَاد من نسخ الْخمسين نسخ مَا زَاد على الْخمس وَهُوَ خمس وَأَرْبَعُونَ كَمَا يدل عَلَيْهِ ظَاهر الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة، وَمن ذهب إِلَى نسخ مَجْمُوع الْخمسين لم يَجْعَل هَذِه الْخَمْسَة جُزْءا مِنْهَا (فِي) لَيْلَة (الْإِسْرَاء وإنكار الْمُعْتَزلَة إِيَّاه) أَي نسخ الْخمسين بعد وُجُوبهَا، وَكَذَا إِنْكَار جمهورهم الْمِعْرَاج (مَرْدُود بِصِحَّة النَّقْل) كَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا مَعَ عدم إِحَالَة الْعقل لَهُ فإنكاره بِدعَة وضلالة. وَأما إِنْكَار الْإِسْرَاء من الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى فَكفر ثمَّ هَذَا يَقْتَضِي جَوَاز النّسخ، بل وُقُوعه قبل التَّمَكُّن من الِاعْتِقَاد أَيْضا لِأَن المتمكن مِنْهُ فرع الْعلم بِوُجُوب الْخمسين، وَالْأمة لم يعلموها، كَذَا قيل، وَهُوَ مَدْفُوع بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمُكَلّفين وَقد علم ذَلِك وَهُوَ الأَصْل، وَالْأمة تبع لَهُ (وقلولهم) أَي المانعين (لَا فَائِدَة) فِي التَّكْلِيف بِالْفِعْلِ، لِأَن الْعَمَل بِالْبدنِ هُوَ الْمَقْصُود من شرع الْأَحْكَام العملية (مُنْتَفٍ بِأَنَّهَا) أَي الْفَائِدَة فِي التَّكْلِيف حِينَئِذٍ (الِابْتِلَاء للعزم) على الْفِعْل إِذا حضر وقته وتهيأت أَسبَابه (وَوُجُوب

(3/187)


الِاعْتِقَاد) لحقيته، وَلَا نسلم أَن الْعَمَل وَحده هُوَ الْمَقْصُود، وعزيمة الْقلب قد تصير قربَة بِلَا فعل كَمَا دلّ عَلَيْهِ مَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ وَغَيره من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " من هم بحسنة فَلم يعملها كتبهَا الله عِنْده حَسَنَة كَامِلَة ": إِلَى غير ذَلِك، وَأعظم الطَّاعَات وَهُوَ الْإِيمَان من أَعمال الْقلب الَّذِي هُوَ رَئِيس الْأَعْضَاء (وَأما الحاقه) أَي النّسخ قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل (بِالرَّفْع) أَي رفع الحكم (للْمَوْت) قبل التَّمَكُّن من فعل مَا كلف بِهِ، فَكَمَا أَن ذَلِك لَا يعد تناقضا: فَكَذَا النّسخ قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل (وَمَا قيل كل رفع قبل الْفِعْل) إِشَارَة إِلَى مَا فِي الشَّرْح العضدي من رد الْمُعْتَزلَة والصيرفي حَيْثُ منعُوا جَوَاز النّسخ قبل وَقت الْفِعْل: من أَن كل مَا نسخ قبل وَقت الْفِعْل، وَقد اعترفتم بِثُبُوت الْفِعْل فيلزمكم تجويزه قبل الْفِعْل بَيَانه أَن التَّكْلِيف بِالْفِعْلِ بعد وقته محَال، لِأَنَّهُ إِن فعل أطَاع، وَإِن ترك عصى فَلَا نسخ، فَكَذَلِك فِي وَقت فعله، لِأَنَّهُ فعل وأطاع بِهِ فَلَا يُمكن إِخْرَاجه عَن كَونه طَاعَة بعد تحققها (فليسا بِشَيْء لتقييد الأول) أَي الرّفْع بِالْمَوْتِ (عقلا) أَي بِالْعقلِ، إِذْ الْعقل قَاض بِأَن طلب الْفِعْل من الْمُكَلف مُقَيّد بِشَرْط الْحَيَاة: فَكَأَنَّهُ قَالَ افْعَل فِي وَقت كَذَا أَن تمت فِي ذَلِك الْوَقْت، وَاعْتِبَار مثل هَذَا التَّقْيِيد فِي الثَّانِي بِأَن يُقَال المُرَاد إِن لم ينْسَخ بعيد جدا. وَقَالَ الشَّارِح إِذْ الْعقل قَاض بِأَن لَا تَكْلِيف للْمَيت فَلم يُوجد الْجَامِع: لِأَن الرّفْع بِالْمَوْتِ بِالْعقلِ لَا بِدَلِيل شَرْعِي، وَالْكَلَام إِنَّمَا هُوَ فِي الْوَاقِع بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيّ وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه لَيْسَ المُرَاد بالإلحاق أَن يَجْعَل الرّفْع بِالْمَوْتِ نسخا، بل قِيَاس النّسخ على الرّفْع بِالْمَوْتِ لكَون كل مِنْهُمَا رفعا للْحكم قبل التَّمَكُّن، فَلَا يضر كَون أَحدهمَا بِالْعقلِ وَالْآخر بِدَلِيل شَرْعِي، على أَنه لَا مُنَاسبَة بَين عبارَة الْمَتْن وَبَين شَرحه (لَا مَا قيل) يَعْنِي كَونه لَيْسَ بِشَيْء لما قُلْنَا (من منع تَكْلِيف الْمَعْلُوم مَوته قبل التَّمَكُّن) من الْفِعْل (ليدفع بِأَنَّهُ) أَي تَكْلِيفه (إِجْمَاع) وإلزام الْمُعْتَزلَة حَيْثُ اعْتَرَفُوا بِكَوْنِهِ مُكَلّفا على مَا ذكره التَّفْتَازَانِيّ (وَالثَّانِي) أَن كل رفع قبل وَقت الْفِعْل (فِي غير) مَحل (النزاع لِأَنَّهُ) أَي الْقَائِل بِالثَّانِي (يُرِيد) بقوله كل نسخ قبل وَقت الْفِعْل (وَقت الْمُبَاشرَة) كَمَا يدل عَلَيْهِ بَيَانه فِي الشَّرْح العضدي على مَا سبق أَيْضا (والنزاع فِي وقته) أَي الْفِعْل (الَّذِي حد لَهُ) أَي قدر وَعين لَهُ شرعا. فِي الشَّرْح الْمَذْكُور مسئلة النّسخ قبل الْفِعْل وَصورتهَا أَن يَقُول حجُّوا هَذِه السّنة، ثمَّ يَقُول قبل دُخُول عَرَفَة: لَا تَحُجُّوا، وَلَا يخفى أَنه لَو أَرَادَ وقته الَّذِي حد لَهُ لما صَحَّ قَوْله كل نسخ قبله، إِذْ قد يكون فِيهِ أَبُو بعده (وَاسْتدلَّ) للمختار (بِقصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أَمر) بِذبح وَلَده فَوَجَبَ عَلَيْهِ (ثمَّ ترك) إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ذبحه (فَلَو) كَانَ تَركه لَهُ مَعَ التَّمَكُّن مِنْهُ (بِلَا نسخ عصى) بِتَرْكِهِ لَكِن لم يعْص إِجْمَاعًا (وَأجِيب بِمَنْع وجوب الذّبْح) عَن أَمر لَهُ (بل)

(3/188)


رَأْي (رُؤْيا فَظَنهُ) أَي الْوُجُوب ثَابتا كَمَا يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى - {إِنِّي أرى فِي الْمَنَام أَنِّي أذبحك} - (وَمَا تُؤمر) أَي وَقَول وَلَده لَهُ افْعَل مَا تُؤمر (يَدْفَعهُ) أَي منع وجوب الذّبْح قيل تُؤمر مضارع فَلَا يعود إِلَى مَا مضى فِي الْمَنَام. وَقد يُجَاب عَنهُ بِأَنَّهُ بِاعْتِبَار الِاسْتِمْرَار والبقاء (مَعَ) لُزُوم (الْإِقْدَام على مَا يحرم) من قصد الذّبْح وترويع الْوَلَد (لولاه) أَي الْوُجُوب الْقطعِي، فَإِن مثل هَذَا الْفِعْل مُمْتَنع شرعا وَعَادَة: وَلَا سِيمَا من الْأَنْبِيَاء، على أَن مَنَام الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فِيمَا يتَعَلَّق بِالْأَمر وَالنَّهْي وَحي مَعْمُول بِهِ (وعَلى أصلهم) أَي الْمُعْتَزلَة أَن الْأَحْكَام ثَابِتَة عقلا وَالشَّرْع كاشف عَنْهَا، وَيجب عَلَيْهِ تَعَالَى تَمْكِين الْمُكَلف من فهمها لَا بُد فِي إقدامه على الذّبْح من إِدْرَاكه لوُجُوب عقلا، وَمن تحقق شرع كاشف عَنهُ، وَمن تمكنه من فهم ذَلِك فنسبة الْإِقْدَام إِلَيْهِ بِمُجَرَّد ظن (توريط لَهُ) أَي إِيقَاع لإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام (فِي الْجَهْل) فَيمْتَنع) . فِي الشَّرْح العضدي وعَلى أصلهم هُوَ توريط لإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْجَهْل بِمَا يظْهر أَنه أَمر وَلَيْسَ بِأَمْر وَذَلِكَ غير جَائِز انْتهى: وَهَذَا يحْتَمل وَجها آخر وَهُوَ أَن يكون التوريط من الله تَعَالَى بِأَن مَا يظْهر إِلَى آخِره (وَقَوْلهمْ) أَي الْمُعْتَزلَة (جَازَ التَّأْخِير) للذبح من غير لُزُوم عصيان (لِأَنَّهُ) أَي وُجُوبه (موسع) . فِي الشَّرْح العضدي: وَاسْتدلَّ بِقصَّة إِبْرَاهِيم، وَهِي أَنه أَمر بِذبح وَلَده وَنسخ عَنهُ قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل، أما الأول فدليل قَوْله افْعَل مَا تُؤمر وَأما الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لم يفعل، فَلَو كَانَ مَعَ حُضُور الْوَقْت لَكَانَ عَاصِيا وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَنا لَا نسلم أَنه لَو لم يفعل وَقد حضر الْوَقْت لَكَانَ عَاصِيا لجَوَاز أَن يكون الْوَقْت موسعا فَيحصل التَّمَكُّن وَلَا يعْصى بِالتَّأْخِيرِ ثمَّ ينْسَخ، الْجَواب أما أَولا فَلِأَنَّهُ لَو كَانَ موسعا لَكَانَ الْوُجُوب مُتَعَلقا بالمستقبل لِأَن الْأَمر بَاقٍ عَلَيْهِ قطعا فَإِذا نسخ عَنهُ فقد نسخ تعلق الْوُجُوب بالمستقبل وَهُوَ الْمَانِع عِنْدهم من النّسخ فقد جَازَ مَا قَالُوا بامتناعه وَهُوَ الْمَطْلُوب انْتهى (فِيهِ) أَي فِي قَوْلهم هَذَا (الْمَطْلُوب) وَهُوَ النّسخ قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل، لِأَن حَاصِل هَذَا القَوْل تَسْلِيم وجوب الذّبْح ونسخه وَعدم لُزُوم الْعِصْيَان بِالتّرْكِ مَعَ حُضُور الْوَقْت لكَونه موسعا، وَلَا شكّ أَن الْوَقْت الموسع كل جُزْء مِنْهُ مُتَعَلق الْوُجُوب مَا لم يفعل الْوَاجِب، فالجزء الَّذِي وَقع فِيهِ النّسخ مِمَّا تعلق بِهِ الْوُجُوب وَعَدَمه يُوجب النّسخ، والمحذور الَّذِي ذَكرُوهُ على تَقْدِير النّسخ قبل التَّمَكُّن هَذَا بِعَيْنِه، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لتَعَلُّقه) أَي الْوُجُوب (بالمستقبل) بِالنّظرِ إِلَى مَا قبل النّسخ من الْأَجْزَاء الَّتِي مَضَت من الْمُسْتَقْبل، وَإِنَّمَا ذكر تعلقه بالمستقبل لِأَنَّهُ المستلزم للتناقض بِخِلَاف الْأَجْزَاء الْمَاضِيَة فَإِنَّهَا مُتَعَلقَة للْوُجُوب فَقَط (وَهُوَ) أَي تعلق الْوُجُوب بالمستقبل (الْمَانِع عِنْدهم) أَي الْمُعْتَزلَة من النّسخ لَا من حَيْثُ أَنه مُسْتَقْبل بل من حَيْثُ أَنه مَحل للتناقض لما عرفت، وَقَالَ الشَّارِح

(3/189)


لاشتراطهم فِي تحقق النّسخ كَون الْمَنْسُوخ وَاجِبا فِي وقته وَتعلق الْوُجُوب بالمستقبل يُنَافِيهِ انْتهى، وَلَا يخفى أَنهم لَو اشترطوا ذَلِك لزم اجْتِمَاع الْوُجُوب وَعَدَمه فِي وَقت وَاحِد وَلزِمَ امْتنَاع النّسخ مُطلقًا بل بامتناعه قبل التَّمَكُّن وَأَيْضًا كَون تعلق الْوُجُوب بالمستقبل منافيا بِكَوْن الْمَنْسُوخ وَاجِبا فِي وقته لَا يظْهر جِهَة سَوَاء أُرِيد بوقته وَقت النّسخ أَو الْوَقْت الْمَحْدُود للمنسوخ، وَذكر الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ أَن مانعية تعلق الْوُجُوب بالمستقبل من النّسخ تستفاد من تَقْرِير شبهتهم الْمَذْكُورَة. فِي الشَّرْح العضدي لَو كَانَ الْفِعْل وَاجِبا فِي الْوَقْت الَّذِي عدم الْوُجُوب فِيهِ لَكَانَ مَأْمُورا بِهِ فِي ذَلِك غير مَأْمُور بِهِ فِي ذَلِك الْوَقْت فَلَا يكون نفي الْوُجُوب فِيهِ نسخا لَهُ انْتهى، وَلم يذكر الْمُحَقق وَجه الاستفادة وَلَا يبعد أَن يكون الْوَجْه مَا ذكرنَا (لَكِن نقل الْمُحَقِّقُونَ عَنْهُم) أَي الْمُعْتَزلَة (أَنه) أَي النّسخ (بَيَان مُدَّة الْعَمَل بِالْبدنِ فَلَا يتَحَقَّق) النّسخ (إِلَّا بعد التَّمَكُّن) من الْعَمَل بِالْبدنِ (الْمَقْصُود الْأَصْلِيّ) من شرع الْأَحْكَام (لَا الْعَزْم) على الْعَمَل (وَمَعَهُ) أَي التَّمَكُّن من الْعَمَل (يجوز) النّسخ وَإِن لم يعْمل (لِأَن الثَّابِت) حِينَئِذٍ (تَفْرِيط الْمُكَلف) وتقصيره لِأَن الْعَجز وَعدم الْقُدْرَة (وَلَيْسَ) تفريطه (مَانِعا) من النّسخ لعدم تحقق الْمَقْصُود الْأَصْلِيّ لِأَن تفريطه الْمُوجب للعقاب يقوم مقَامه عمله الْمُوجب للثَّواب فِي المقصودية من الِابْتِلَاء (وَهَذَا) التَّمَكُّن من الْعَمَل (مُتَحَقق فِي الموسع) فَيجوز فِيهِ النّسخ عِنْدهم قبل وُقُوع الْعَمَل (وَدفعه) أَي دفع منع الْمُعْتَزلَة لُزُوم الْعِصْيَان فِي الموسع (بتعلق الْوُجُوب بالمستقبل) وَهُوَ الْمَانِع عِنْدهم على مَا مر لَا يصدق (فِي الموسع إِنَّمَا يصدق فِي الْمضيق) إِذْ كل جُزْء من الْوَقْت فِيهِ مُتَعَلق وجوب الْأَدَاء وَمِنْه الْمُسْتَقْبل، وبالنسخ يصير مُتَعَلق عَدمه أَيْضا بِخِلَاف الموسع إِذا لم يتَعَيَّن فِيهِ جُزْء الْأَدَاء لَا الْجُزْء الْأَخير وَفِيه سَعَة يُمكن اعْتِبَار بعض أَجْزَائِهِ مُتَعَلق الْوُجُوب وَبَعضهَا مُتَعَلق عَدمه فَلَزِمَ الْمَحْذُور بِاعْتِبَار تعلق وجوب الْأَدَاء فَوْرًا، لَا بِاعْتِبَار أصل الْوُجُوب (وَإِلَّا فقد يثبت الْوُجُوب) أَي اصله فِي الموسع وَغَيره بِمُجَرَّد دُخُول الْوَقْت (وَلذَا) أَي لوُجُوبه (لَو فعله) أَي الْوَاجِب (سقط بِخِلَاف مَا) لَو فعل (قبل الْوُجُوب مُطلقًا) أَي فِي الْمضيق والموسع لَا يسْقط بِهِ الْوَاجِب (ثمَّ الْجَواب) عَن قَوْلهم الْمَقْصد الْأَصْلِيّ الْعَمَل بِالْبدنِ وَفِي نُسْخَة وَالْجَوَاب (أَن ذَلِك) أَي كَونه مَقْصُودا أَصْلِيًّا (لَا يُوجب الْحصْر) بِأَن لَا يكون غَيره مَقْصُود للشارع وَقد مر بَيَانه آنِفا (وَمنعه) أَي وجوب الذّبْح معينا (بِأَنَّهُ) أَي وُجُوبه (لَو كَانَ) موسعا (لأخر) إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام الشُّرُوع فِي الْمَأْمُور بِهِ كَمَا يُؤَخر (عَادَة فِي مثله) أَي ذبح الْوَلَد أما رَجَاء أَن ينْسَخ عَنهُ أَو يَمُوت أَحدهمَا فَيسْقط عَنهُ لعظم الْأَمر (مُنْتَفٍ) أَي غير موجه فَهُوَ مُلْحق بالمعدوم (لِأَن حَاله عَلَيْهِ السَّلَام يَقْتَضِي الْمُبَادرَة) إِلَى الِامْتِثَال. قَالَ تَعَالَى - (إِنَّهُم

(3/190)


كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخيرَات} - (وَإِن كَانَ) الْمَأْمُور بِهِ أصعب (مَا كَانَ) أَي مَا دخل فِي الْوَجْه كَيفَ وَهُوَ فِي أَعلَى دَرَجَات الْخلَّة (وَقَوْلهمْ) أَي المانعين (فعل) أَي ذبح و (لَكِن) كلما قطع شَيْئا (التحم) أَي اتَّصل مَا تفرق عقيب الْقطع فقد فعل مَا هُوَ مَقْدُور لَهُ من إمرار السكين على الْحلق وَقطع الْأَوْدَاج وَلذَا قيل قد صدقت الرُّؤْيَا - (دَعْوَى مُجَرّدَة) عَن الْبَيِّنَة من حَيْثُ النَّقْل (وَكَذَا) قَوْلهم (منع) الْقطع (بصفيحة) من حَدِيث أَو نُحَاس خلقت على حلقه فَلم يحصل مُطَاوع الذّبْح مَعَ كَونه خلاف الْعَادة لم ينْقل نقلا يعْتد بِهِ وَلَو صَحَّ لنقل واشتهر فِي جملَة الْآيَات الظَّاهِرَة والمعجزة الباهرة وتصديق الرُّؤْيَا قد حصل بالعزم والشروع فِي مقدماته وبذل جهده فِي الِامْتِثَال. وَقد أخرج ابْن أبي حَاتِم بِسَنَد رِجَاله موثقون عَن السّديّ وَهُوَ تَابِعِيّ من رجال مُسلم لما أَمر إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام بِذبح ابْنه قَالَ الْغُلَام اشْدُد عَليّ رباطي لِئَلَّا أَضْطَرِب واكفف عني ثِيَابك لِئَلَّا ينضح عَلَيْك من دمي وأسرع السكين على حلقي ليَكُون أَهْون عَليّ قَالَ فأمرّ السكين على حلقه وَهُوَ يبكي فَضرب الله على حلقه صفيحة من نُحَاس، قَالَ فقلبه على وَجهه وخر الْقَفَا فَذَلِك قَوْله تَعَالَى - {وتله للجبين - فَنُوديَ - أَن يَا إِبْرَاهِيم قد صدّقت الرُّؤْيَا} - فَإِذا الْكَبْش فَأَخذه وذبحه وَأَقْبل على ابْنه يقبله وَيَقُول: يَا بني الْيَوْم وهبت لي، كَذَا ذكره الشَّارِح وَكَأَنَّهُ لم يثبت عِنْد المُصَنّف (مَعَ أَنه) أَي الذّبْح (حِينَئِذٍ) أَي على التَّقْدِير الثَّانِي (تَكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق) لعدم قدرته حِينَئِذٍ على الذّبْح، والمعتزلة لَا يجوزونه (ثمَّ هُوَ) أَي هَذَا الْمَنْع (نسخ) لإِيجَاب الذّبْح (أَيْضا قبل التَّمَكُّن) مِنْهُ إِذْ لَو فرض بعده لزم ترك الْوَاجِب مَعَ التَّمَكُّن وَهُوَ بَاطِل: يَعْنِي أَن قَول الْمَانِع دلَالَة قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام على النّسخ قبل التَّمَكُّن أَن منع بصفيحة لَا يصلح سندا للْمَنْع، لِأَنَّهُ يسْتَلْزم النّسخ قبل التَّمَكُّن وَهُوَ الْمَطْلُوب، لَا يُقَال النّسخ إِنَّمَا يكون بِدَلِيل شَرْعِي، وَالْمَنْع بالصفيحة لَيْسَ بِهِ، لأَنا نقُول يدل على ارْتِفَاع وجوب الذّبْح إِذْ لَا يتَصَوَّر أَن يكون الذّبْح مَطْلُوبا حَال كَونه مَمْنُوعًا، وَلما كَانَ الِاسْتِدْلَال بِالْقَصْدِ الْمَذْكُور غير مرضِي للحنفية، أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وللحنفية) فِي الْجَواب عَنهُ (منع النّسخ وَالتّرْك) للْمَأْمُور بِهِ (للْفِدَاء) يَعْنِي لما منعُوا النّسخ ورد عَلَيْهِم لُزُوم الْعِصْيَان لترك الْمَأْمُور الِامْتِثَال فَقَالُوا إِنَّمَا تَركه لوُجُود الْفِدَاء لقَوْله تَعَالَى - {وفديناه بِذبح عَظِيم} - (وَهُوَ) أَي الْفِدَاء (مَا يقوم مقَام الشَّيْء فِي تلقي الْمَكْرُوه) المتوجه عَلَيْهِ بِأَن يتلَقَّى ذَلِك الْمَكْرُوه بدل أَن يتلقاه ذَلِك الشَّيْء فيتحمل عَنهُ، وَمِنْه فدتك نَفسِي أَي قبلت مَا توجه عَلَيْك من الْمَكْرُوه. نقل الشَّارِح عَن المُصَنّف فِي بَيَان هَذَا أَن النّسخ رفع الحكم، وَالْولد وَنَحْوه مَحل الْفِعْل الَّذِي هُوَ مُتَعَلق الحكم فَهُوَ مَحل الحكم، وَمحل الحكم لَيْسَ دَاخِلا فِي الحكم فضلا عَن مَحل حَاله

(3/191)


وَإِنَّمَا بتحقق نسخ الحكم بِرَفْعِهِ لإبدال مَحَله يدل على بَقَاء الحكم، غير أَنه جعل هَذَا عوضا عَن ذَلِك، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَلَو ارْتَفع) وجوب ذبح الْوَلَد (لم يفد) إِذا لم يبْق مقَام حَتَّى يقوم الآخر مقَامه (وَمَا قيل) ردا لهَذَا الْجَواب (الْأَمر بذَبْحه) أَي الْفِدَاء (بَدَلا) عَن الْوَلَد (هُوَ النّسخ) لِأَنَّهُ رفع لطلب ذبح الْوَلَد وَإِيجَاب لذبح الْفِدَاء (مَوْقُوف على ثُبُوته) أَي ثُبُوت رفع ذَلِك الْوُجُوب وَإِثْبَات وجوب آخر (وَهُوَ) أَي الثُّبُوت الْمَذْكُور (مُنْتَفٍ) إِذْ لم يثبت نقلا وَلم يلْزم من مُجَرّد إِبْدَال الْمحل على مَا عرفت، لَا يُقَال إِن لم يلْزم ذَلِك فَهُوَ ظَاهر فِيهِ لِأَنَّهُ مَمْنُوع إِذْ الْإِبْدَال كَمَا جَازَ أَن يكون مَعَ إِيجَاب آخر جَازَ أَن يكون مَعَ الْإِيجَاب الأول بل مَا لَا يُؤدى إِلَى النّسخ أرجح، وَفِي التَّلْوِيح وَلَو قيل أَن الْخلف قَامَ مقَام الأَصْل لكنه استلزم حُرْمَة الأَصْل: أَعنِي ذبح الْوَلَد وَتَحْرِيم الشَّيْء بعد وُجُوبه نسخ لَا محَالة، فَجَوَابه أَنا لَا نسلم كَونه نسخا، وَإِنَّمَا يلْزم لَو كَانَ حكما شَرْعِيًّا وَهُوَ مَمْنُوع، فَإِن حُرْمَة ذبح الْوَلَد ثَابِتَة فِي الأَصْل فَزَالَتْ بِالْوُجُوب ثمَّ عَادَتْ بِقِيَام الشَّاة مقَام الْوَلَد. قَالَ الشَّارِح وَهَذَا على منوال مَا تقدم من أَن رفع الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة لَيست نسخا كَمَا الْتَزمهُ بعض الْحَنَفِيَّة إِذْ لَا إِبَاحَة وَلَا تَحْرِيم إِلَّا لشرع يكون رفع الْحُرْمَة الْأَصْلِيَّة نسخا، ثمَّ إِذا كَانَ رَفعهَا نسخا يكون ثُبُوتهَا بعد رَفعهَا نسخا أَيْضا فَيبقى الْإِيرَاد الْمَذْكُور مُحْتَاجا إِلَى الْجَواب فَلْيتَأَمَّل. ثمَّ اخْتلف فِي الذَّبِيح. قَالَ الطوفي فالمسلمون على أَنه إِسْمَاعِيل وَأهل الْكتاب على أَنه إِسْحَاق، وَعَن أَحْمد فِيهِ الْقَوْلَانِ انْتهى. وَفِي الْكَشَّاف عَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَمُحَمّد ابْن كَعْب الْقرظِيّ وَجَمَاعَة من التَّابِعين أَنه إِسْمَاعِيل، وَعَن عَليّ بن أبي طَالب وَابْن مَسْعُود وَالْعَبَّاس وَعَطَاء وَعِكْرِمَة وَجَمَاعَة من التَّابِعين أَنه إِسْحَاق، وَذكر كَونه إِسْحَاق عَن الْأَكْثَرين الْمُحب الطَّبَرِيّ، وَكَونه إِسْمَاعِيل مِنْهُم النَّوَوِيّ وَصحح الْقَرَافِيّ أَنه إِسْحَاق، وَابْن كثير أَنه إِسْمَاعِيل وَزَاد: وَمن قَالَ أَنه إِسْحَاق فَإِنَّهُ تَلقاهُ مِمَّا حرفه النقلَة من بني إِسْرَائِيل، وَذكر الفاكهي أَنه اثْبتْ الْبَيْضَاوِيّ أَنه الْأَظْهر (قَالُوا) أَي الْمُعْتَزلَة (ان كَانَ) أَي الْمَنْسُوخ (وَاجِبا وَقت الرّفْع اجْتمع الْأَمْرَانِ بالنقضين) الْأَمر بِالْفِعْلِ وَالْأَمر بِتَرْكِهِ (فِي وَقت) وَاحِد وتوارد النَّفْي والاثبات على مَحل وَاحِد (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن وَاجِبا وَقت الرّفْع (فَلَا نسخ) لعدم الرّفْع (أُجِيب بِاخْتِيَار الثَّانِي) وَهُوَ أَنه لم يكن وَاجِبا وَقت الرّفْع (وَالْمعْنَى رفع) أَن يُوجب. وَفِي نُسْخَة الشَّارِح رفع (إِيجَابه) أَي الْمَنْسُوخ (حكمه) الثَّابِت لَهُ (عِنْد حُضُور وقته) الْمُقدر لَهُ شرعا (لولاه) أَي النَّاسِخ فَإِن قلت: الْمَنْسُوخ هُوَ عين الحكم الأول فَمَا معنى إِيجَابه الحكم قلت الحكم الْمُتَعَلّق بِفعل الْمُكَلف المتكرر سَببه الْمُؤَقت بِوَقْت قدر لَهُ شرعا لَهُ تعلقات جزئية بِاعْتِبَار تكَرر سَببه وتجدد وقته، فَكلما تجدّد سَبَب لَهُ وَقت يحدث وجوب

(3/192)


جَدِيد، فَالْمُرَاد الحكم الْمَذْكُور فِي قَوْله يُوجب حكمه هَذَا الْحَادِث فَإِنَّهُ يُسمى حكما وَإِن كَانَ فِي الْحَقِيقَة تعلقا من تعلقات الْكَلَام النَّفْسِيّ الأزلي على مَا حقق فِي مَحَله (وَهُوَ) أَي رفع النَّاسِخ حكم الْمَنْسُوخ عِنْد حُضُور وَقت الْمَنْسُوخ الْمُقدر لَهُ (ممنوعكم) أَيهَا الْمُعْتَزلَة حَيْثُ قُلْتُمْ: تعلق الْوُجُوب بالمستقبل مَانع من نسخه بزعم أَنه يسْتَلْزم توارد النَّفْي وَالْإِثْبَات على مَحل وَاحِد فِي وَقت: وَذَلِكَ لأنكم ظننتم أَن الحكم الأول يُوجب تعلق الْوُجُوب مُنجزا بِالْفِعْلِ فِي وَقت النّسخ وَمَا علمْتُم أَن مرادنا كَونه بِحَيْثُ يُوجِبهُ لَوْلَا النَّاسِخ فَإِن كَونه فِي معرض الْإِيجَاب نوع تعلق يرْتَفع بِسَبَب النَّاسِخ وَالله أعلم. (فَإِن أجزتموه) أَي رفع النَّاسِخ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور (وَلم تسموه نسخا فلفظية) أَي فالمنازعة لفظية (وَقد وافقتم) على جَوَاز النّسخ قبل التَّمَكُّن من الْفِعْل (وَأَيْضًا لَو صَحَّ) مَا ذكرْتُمْ من قَوْلكُم إِن كَانَ وَاجِبا وَقت الرّفْع إِلَى آخِره (انْتَفَى النّسخ) مُطلقًا وَلَو بعد التَّمَكُّن بل بعد الْفِعْل لجَرَيَان الترديد الْمَذْكُور فِي جَمِيع الْمَرَاتِب. (ثمَّ استبعد) نقل هَذَا الِاسْتِدْلَال (عَنْهُم) أَي الْمُعْتَزلَة (لذَلِك الرّفْع مِنْهُم) أَي قَوْلهم فِي قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام جَازَ التَّأْخِير لِأَنَّهُ موسع فَإِنَّهُ يُفِيد تعلق الْوُجُوب بِوَقْت الرّفْع، لِأَن حَاصِل ذَلِك الْجَواب تَسْلِيم وجوب الذّبْح، وَتَسْلِيم النّسخ، وَعدم الْعِصْيَان بِالتّرْكِ لكَون الْوُجُوب موسعا وَلَا شكّ أَن الْوُجُوب فِي الموسع بَاقٍ مَا لم يَأْتِ بِالْفِعْلِ فَيلْزم وُقُوع النّسخ فِي وَقت تعلق الْوُجُوب (وللتعارض) من عدم تجويزهم النّسخ قبل التَّمَكُّن للُزُوم اجْتِمَاع الْأَمريْنِ بالنقيضين، وتجويزهم إِيَّاه بعد التَّمَكُّن لما عرفت، من أَن عِلّة التجويز مُشْتَركَة بَين الصُّورَتَيْنِ (يجب نِسْبَة ذَلِك) الَّذِي ذكره الْمُحَقِّقُونَ عَنْهُم إِلَيْهِم لسلامته عَن التَّعَارُض حملا لكَلَام الْعُقَلَاء على مَا لَا يلْزم التَّنَاقُض مَا أمكن.
مسئلة

قَالَ (الْحَنَفِيَّة والمعتزلة لَا يجوز نسخ حكم فعل لَا يقبل حسنه وقبحه السُّقُوط) الْوَاو بِمَعْنى أَو وَيحْتَمل التَّوْزِيع لِأَن لفعل الَّذِي لَا يجوز نسخ حكمه كل بِاعْتِبَار بعض مَا صدقاته لَا يقبل حسنه السُّقُوط، وَبِاعْتِبَار بَعْضهَا لَا يقبل قبحه السُّقُوط أَو يقدر السُّقُوط قبل الْوَاو وَلَا يجوز تَأْخِيره بعْدهَا (كوجوب الْإِيمَان وَحُرْمَة الْكفْر) لِأَنَّهُ لَا يرْتَفع شَيْء مِنْهُمَا لقِيَام دَلِيله وَهُوَ الْعقل (وَالشَّافِعِيَّة يجوز) وَالْإِجْمَاع على عدم الْوُقُوع (وَهِي) أَي هَذِه المسئلة (فرع التحسين والتقبيح) العقليين. قَالَ بِهِ الْحَنَفِيَّة والمعتزلة، وَلم يقل بِهِ الأشاعرة من الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم فَقَالُوا

(3/193)


بِجَوَاز نسخهما عقلا. وَقد تقدم الْكَلَام فِيهِ فِي فصل الْحَاكِم (وَلَا) يجوز نسخ حكم (نَحْو الصَّوْم عَلَيْكُم وَاجِب مستمرا أبدا اتِّفَاقًا) فَعِنْدَ غير الْحَنَفِيَّة (للنصوصية) على تأبيد الحكم (وَعند الْحَنَفِيَّة لذَلِك) أَي للنصوصية (على رَأْي) فِي النَّص وَهُوَ اللَّفْظ المسوق للمراد الظَّاهِر مِنْهُ (وعَلى) رَأْي (آخر) فِيهِ وَهُوَ مَا ذكر مَعَ قيد آخر وَهُوَ أَن لَا يكون مدلولا وضعيا كالتفرقة بَين البيع والربا فِي الْحل وَالْحُرْمَة فِي أحل الله البيع وَحرم الرِّبَا (للتَّأْكِيد) فَإِن الْأَبَد هُوَ الِاسْتِمْرَار الدَّائِم فَهُوَ وَإِن سيق لَهُ لكنه مَدْلُول وضعي (على مَا سلف من تَحْقِيق الِاصْطِلَاح) فِي التَّقْسِيم الثَّانِي للدلالة (وَاخْتلف فِي) حكم (ذِي مُجَرّد تأبيد قيدا للْحكم) كيجب عَلَيْكُم أبدا صَوْم رَمَضَان (لَا الْفِعْل كصوموا أبدا) فَإِن أبدا هَهُنَا ظرف للصَّوْم لَا لإيجابه عَلَيْهِم، لِأَن الْفِعْل يعْمل بمادته لَا بهيئته، وَدلَالَة الْأَمر على الْوُجُوب بالهيئة لَا بالمادة، وَفِيه مَا فِيهِ (أَو) فِي حكم ذِي مُجَرّد (تأقيت قبل مضيه) أَي مُضِيّ ذَلِك الْوَقْت (كحرمته عَاما) حَال كَونه حرمته (إنْشَاء فالجمهور وَمِنْهُم طَائِفَة من الْحَنَفِيَّة يجوز) نسخه (وَطَائِفَة كَالْقَاضِي أبي زيد وَأبي مَنْصُور وفخر الْإِسْلَام والسرخسي) والجصاص (يمْتَنع) نسخه (للُزُوم الْكَذِب) فِي الأول لِأَن الحكم الأول يدل على أَن الصَّوْم مَطْلُوب دَائِما والنسخ يدل على خِلَافه (أَو البداء) على الله تَعَالَى فِي الثَّانِي لِأَن النّسخ فِيهِ يدل على حُدُوث (وَهُوَ) أَي اللُّزُوم الْمَذْكُور (الْمَانِع) من النّسخ (فِي الْمُتَّفق) على عدم جَوَاز نسخه كَقَوْلِه الصَّوْم عَلَيْكُم وَاجِب مُسْتَمر أبدا (قَالُوا) أَي المجوزون للنسخ فِي الأول: أَن أبدا (ظَاهر فِي عُمُوم الْأَوْقَات) المستقلة (فَجَاز تَخْصِيصه) بِوَقْت فِيهَا دون وَقت كَمَا يجوز تَخْصِيص عُمُوم سَائِر الظَّوَاهِر، إِذْ التَّخْصِيص فِي الْأَزْمَان كالتخصيص فِي الْأَعْيَان (قُلْنَا نعم) يجوز تَخْصِيصه (إِذا اقْترن) الْمَخْصُوص (بدليله) أَي التَّخْصِيص (فَيحكم حِينَئِذٍ) أَي حِين اقترانه بِدَلِيل التَّخْصِيص (بِأَنَّهُ) أَي التَّأْبِيد (مُبَالغَة) أُرِيد بِهِ الزَّمن الطَّوِيل مجَازًا (أما مَعَ عَدمه) أَي دَلِيل التَّخْصِيص (وَهُوَ) أَي عَدمه (الثَّابِت) فِيمَا نَحن فِيهِ (فَذَلِك اللَّازِم) أَي فلزوم الْكَذِب هُوَ اللَّازِم لإِرَادَة التَّخْصِيص فِيمَا نَحن فِيهِ (وَحَاصِله) أَي هَذَا الْجَواب (حِينَئِذٍ يرجع إِلَى اشْتِرَاط الْمُقَارنَة فِي دَلِيل التَّخْصِيص) للعام الْمَخْصُوص (وَتقدم) فِي بحث التَّخْصِيص (وَالْحق أَن لُزُوم الْكَذِب) إِنَّمَا هُوَ (فِي) نسخ (الْأَخْبَار) الَّتِي لَا يتَغَيَّر مَعْنَاهَا كوجود الصَّانِع، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (كماض) كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " الْجِهَاد مَاض (إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَلِذَا) أَي لُزُوم الْكَذِب (اتّفق عَلَيْهِ) أَي على عدم جَوَاز النّسخ فِي الْأَخْبَار الْمَذْكُورَة (الْحَنَفِيَّة، وَالْخلاف) إِنَّمَا هُوَ (فِي غَيره) أَي غير نسخ الْأَخْبَار الْمَذْكُورَة (مِمَّا يتَغَيَّر مَعْنَاهُ كفر زيد بِخِلَاف حُدُوث الْعَالم) وَنَحْوه مِمَّا لَا يتبدل قطعا

(3/194)


فَإِن الْإِجْمَاع على أَنه لَا يجوز نسخه فِي الشَّرْح العضدي إِن كَانَ مَدْلُول الْخَبَر مِمَّا لَا يتَغَيَّر كوجود الصَّانِع وحدوث الْعَالم فَلَا يجوز نسخه اتِّفَاقًا وَإِن كَانَ مِمَّا يتَغَيَّر كَإِيمَانِ زيد وكفره فقد اخْتلف فِيهِ، وَالْمُخْتَار أَنه مثل مَا لَا يتَغَيَّر مَدْلُوله وَعَلِيهِ الشَّافِعِي وَأَبُو هَاشم خلافًا لبَعض الْمُعْتَزلَة انْتهى، ثمَّ لما بَين مَحل الْخلاف بقوله فِي ذِي مُجَرّد إِلَى آخِره، وَذكر اخْتِلَاف الْحَنَفِيَّة فِيهِ وَدَلِيل المجوزين للنسخ من الظُّهُور فِي عُمُوم الْأَوْقَات وَجَوَاز التَّخْصِيص وَجَوَاب المانعين من عدم اقتران الْمُخَصّص أَرَادَ أَن يذكر مَا هُوَ المرضى عِنْده فَقَالَ (ولازم تراخي الْمُخَصّص) فِي مَحل اتّفق الْحَنَفِيَّة على عدم جَوَازه (من التَّعْرِيض على الْوُقُوع) أَي وُقُوع الْمُكَلف بِمَا ترَاخى عَنهُ مخصوصه (فِي غير الْمَشْرُوع) بإتيانه بِمَا سيخرجه الْمُخَصّص (غير لَازم هُنَا) أَي فِيمَا نَحن فِيهِ من مَحل الْخلاف الْمَذْكُور لِأَن الْمُخَصّص إِنَّمَا هُوَ النَّاسِخ وَقبل ظُهُوره يعْمل بالحكم الأول إِذْ الْمَشْرُوع حِينَئِذٍ (بل غَايَته) أَي غَايَة مَا يلْزمه عدم الاقتران هُنَا (اعْتِقَاد أَنه) أَي الحكم الأول (لَا يرفع) لما يَقْتَضِيهِ ظَاهر التَّأْبِيد فِي نَحْو صُومُوا أبدا والتوقيت فِي مثل حرمته عَلَيْكُم عَاما (وَهُوَ) أَي الِاعْتِقَاد الْمَذْكُور (غير ضائر) وَإِذا علم أَن اللَّازِم الَّذِي كَانَ مَحْظُور التَّرَاخِي من جِهَة مُنْتَفٍ فِيمَا نَحن فِيهِ (فَالْوَجْه) فِيهِ (الْجَوَاز) أَي جَوَاز النّسخ (كصم غَدا ثمَّ نسخ قبله) أَي الْغَد (فَإِنَّهُ) أَي جَوَاز نسخه (اتِّفَاق) وَجه الشّبَه اشتراكهما فِي تعلق وجوب الْفِعْل بِزَمَان مُسْتَقْبل ثمَّ نسخه قبل انْقِضَاء ذَلِك الزَّمَان (وَمَا قيل) على مَا فِي الشَّرْح العضدي من أَنه (لَا مُنَافَاة بَين إِيجَاب فعل مُقَيّد بالأبد وَعدم أبدية التَّكْلِيف) بذلك إِذْ الْمَوْصُوف بالأبدية إِنَّمَا هُوَ نفس الْفِعْل وبعدمها الْإِيجَاب الْمُتَعَلّق بهَا، فَمحل الْإِثْبَات غير مَحل النَّفْي وَحَاصِله أَن الطَّالِب يطْلب فِي بعض الْأَوْقَات أمرا دَائِما ثمَّ يطْلب فِي وَقت آخر ترك ذَلِك الْأَمر (بعد مَا قرر فِي) تَقْرِير (النزاع من أَنه) أَي النزاع مَبْنِيّ (على) تَقْدِير (جعله) أَي التَّأْبِيد (قيدا للْحكم مَعْنَاهُ) أَي معنى مَا قيل (بالنسخ يظْهر خِلَافه) أَي فِي كل مَحل جعل التَّأْبِيد قيدا للْحكم يظْهر بعد النّسخ أَنه لَيْسَ بِقَيْد لَهُ بل هُوَ قيد للْفِعْل، إِذْ لَا مُنَافَاة بَين النّسخ وَبَينه بِخِلَاف الأول فان النّسخ يُنَافِيهِ وَلَا يخفى مَا فِي هَذَا التَّوْجِيه، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَالْوَجْه حِينَئِذٍ) أَي حِين يقْصد الْجَواب بِعَدَمِ الْمُنَافَاة (أَن لَا يَجْعَل النزاع على ذَلِك التَّقْدِير، بل) يَجْعَل (هُوَ مَا) أَي تَصْوِير (هُوَ ظَاهر فِي تَقْيِيد الحكم) لَا نَص فمانع النّسخ ينظر إِلَى ظَاهره، والمجيب يحملهُ على خلاف الظَّاهِر (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن تَصْوِير مَحل النزاع على هَذَا المنوال (فَالْجَوَاب) بِلَا مُنَافَاة الخ (على خلاف الْمَفْرُوض) وَهُوَ كَون التَّأْبِيد قيدا للْحكم قطعا (وَحِينَئِذٍ) أَي وَحين كَانَ التَّأْبِيد قيدا للْفِعْل

(3/195)


لَا الحكم (فقد لَا يخْتَلف فِي الْجَوَاز) أَي جَوَاز النّسخ.
مسئلة

قَالَ (الْجُمْهُور لَا يجْرِي) النّسخ (فِي الْأَخْبَار) مَاضِيَة كَانَت أَو مُسْتَقْبلَة (لِأَنَّهُ) أَي النّسخ فِيهَا (الْكَذِب) أَي يستلزمه (وَقيل نعم) يجْرِي فِيهَا مُطلقًا مَاضِيَة كَانَت أَو مُسْتَقْبلَة وَعدا أَو وعيدا إِذا كَانَ مدلولها مِمَّا يتَغَيَّر، وَعَلِيهِ الإِمَام الرَّازِيّ والآمدي لقَوْله تَعَالَى ( {يمحوا الله مَا يَشَاء وَيثبت. أَن لَك أَلا تجوع فِيهَا وَلَا تعرى} ) . وَقد قَالَ تَعَالَى - {فبدت لَهما سوآتهما} - (وعَلى قَوْلهم) أَي المجوزين لنسخ الْأَخْبَار (يجب إِسْقَاط) قيد (شَرْعِي من التَّعْرِيف) إِذْ لَا يصدق على نسخ الْخَبَر رفع تعلق مُطلق الحكم الشَّرْعِيّ (وَالْجَوَاب) لمانعي نسخه عَن الْآيَتَيْنِ أَن معنى يمحوا الله مَا يَشَاء (ينْسَخ بِمَا يستصوبه) ويتركه غير مَنْسُوخ. قَالَ الشَّارِح وَالْوَجْه حذف الْبَاء كَمَا فِي الْكَشَّاف ينْسَخ مَا يستصوب نسخه، وَيثبت بدله مَا تَقْتَضِي حكمته إثْبَاته انْتهى. وَالْمُصَنّف لم يذكر الْمَنْسُوخ، وَذكر مَا ينْسَخ بِهِ اختصارا مَعَ أَنه يفهم ضمنا، لِأَن فِي استصواب مَا ينْسَخ بِهِ إِشَارَة إِلَيْهِ، وَهُوَ توهم أَن المُصَنّف أَدخل الْبَاء على الْمَنْسُوخ وَحَاصِل الْجَواب أَن قَوْله مَا يَشَاء لَا يحمل على الْعُمُوم لتندرج تَحْتَهُ الْأَخْبَار على أَنه لَو حمل عَلَيْهَا أبدا لَا يلْزم نسخهَا لجَوَاز أَن لَا يتَعَلَّق بنسخها الْمُشبه (أَو) يمحو (من ديوَان الْحفظَة) . قَالَ الشَّارِح مَا لَيْسَ بحسنة وَلَا بسيئة، لأَنهم مأمورون بكتبة كل قَول وَفعل (و) يثبت (غَيره) انْتهى كَأَنَّهُ حمله على هَذَا التَّخْصِيص قَوْله تَعَالَى - {مَا لهَذَا الْكتاب لَا يُغَادر صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة إِلَّا أحصاها} -. وَفِيه نظر لجَوَاز أَن يكون ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَعْض لَا الْكل وَغَيره من الْأَقْوَال نَحْو: يمحو سيئات التائب وَيثبت الْحَسَنَات مَكَانهَا، أَو يمحو قرنا وَيثبت آخر إِلَى غير ذَلِك. وَقَوله أَن لَك أَلا تجوع فِيهَا (وَلَا تعرى من الْقَيْد وَالْإِطْلَاق) يَعْنِي مُطلق صُورَة وتقيد حَقِيقَة بِشَرْط عدم الْمُخَالفَة لِلْأَمْرِ (لَا) من (النّسخ وَأما نسخ إِيجَاب الْأَخْبَار) عَن شَيْء (بالأخبار) أَي بِإِيجَاب الْأَخْبَار (عَن نقيضه) فالمأمور بِهِ حِينَئِذٍ أَن يخبر الْمُكَلف عَن شَيْء ثمَّ عَن نقيضه (فَمَنعه الْمُعْتَزلَة لاستلزامه) أَي هَذَا النّسخ (الْقَبِيح كذب أَحدهمَا) أَي النَّاسِخ والمنسوخ (بِنَاء على حكم الْعقل) بالتحسين والتقبيح (وَيجب) أَن يعْتَبر (للحنفية مثله) أَي الْمَنْع لما ذكر من الاستلزام لقَولهم بِاعْتِبَار الْعقل بالتحسين والتقبيح (إِلَّا أَن تغير الأول إِلَيْهِ) . قَالَ الشَّارِح عَن ذَلِك الْوَصْف الَّذِي وَقع الْإِخْبَار بِهِ أَولا إِلَى الْوَصْف الَّذِي يُكَلف بالإخبار عَنهُ ثَانِيًا لانْتِفَاء الْمَانِع حِينَئِذٍ انْتهى. وَلم يبين أَن الْخَبَر الأول كَيفَ يتَغَيَّر وَصفه الَّذِي بِهِ حسن الْأَمر بالإخبار بِهِ إِلَى

(3/196)


الْوَصْف الَّذِي كلف بالإخبار ثَانِيًا، وَهل ينْتَقل وصف أحد النقيضين إِلَى الآخر فَالْوَجْه أَن يُقَال إِذا كَانَ مَضْمُون الْخَبَر مِمَّا يتَغَيَّر ويتبدل ككفر زيد، فَفِي زمَان اتصافه بالْكفْر يحسن أَن يُؤمر بِأَن يَقُول زيد لَيْسَ بِكَافِر (وَكَذَا الْمُعْتَزلَة) يَنْبَغِي أَن يكون قَوْلهم على هَذَا التَّفْصِيل.
مسئلة

(قيل) وقائله بعض الْمُعْتَزلَة والظاهرية (لَا ينْسَخ) الحكم (بِلَا بدل) عَنهُ (فَإِن أُرِيد) بِالْبَدَلِ بدل مَا (وَلَو) كَانَ ثُبُوته (بِإِبَاحَة أَصْلِيَّة فاتفاق) كَونه لَا يجوز بِلَا بدل لِأَنَّهُ تَعَالَى لم يتْرك عباده هملا فِي وَقت من الْأَوْقَات، وَقَالَ الشَّافِعِي فِي الرسَالَة: وَلَيْسَ ينْسَخ فرض أبدا إِلَّا أثبت مَكَانَهُ فرض كَمَا نسخت قبْلَة بَيت الْمُقَدّس، فَأثْبت مَكَانهَا الْكَعْبَة انْتهى. وَقَالَ الصَّيْرَفِي فِي شرحها أَنه ينْقل من حظر إِلَى إِبَاحَة وَمن إِبَاحَة إِلَى حظر أَو تَخْيِير على حسب أَحْوَال الْفُرُوض قَالَ: وَمثل ذَلِك الْمُنَاجَاة كَأَن يُنَاجِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِلَا تَقْدِيم صَدَقَة، ثمَّ فرض الله تَقْدِيم الصَّدَقَة، ثمَّ أَزَال ذَلِك فردهم إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ. قَالَ فَهَذَا معنى قَول الشَّافِعِي فرض مَكَان فرض فتفهمه انْتهى. (أَو) أُرِيد بِالْبَدَلِ بدل (مفَاد بِدَلِيل النّسخ فَالْحق نَفْيه) أَي نفي هَذَا السَّلب الْكُلِّي أَعنِي لَا نسخ بِلَا بدل (لِأَنَّهُ) أَي السَّلب الْمَذْكُور قَول (بِلَا مُوجب وَالْوَاقِع خِلَافه كنسخ حُرْمَة الْمُبَاشرَة) للنِّسَاء (بعد الْفطر) فِي صَحِيح البُخَارِيّ وَغَيره عَن الْبَراء بن عَازِب كَانَ أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا كَانَ الرجل صَائِما فَحَضَرَ الْإِفْطَار فَنَامَ قبل أَن يفْطر لم يَأْكُل ليلته وَلَا يَوْمه حَتَّى يُمْسِي، وَفِي سنَن أبي دَاوُد وَغَيرهَا عَن ابْن عَبَّاس، وَكَانَ النَّاس على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا صلوا الْعَتَمَة حرم عَلَيْهِم الطَّعَام وَالشرَاب، وَالنِّسَاء وصاموا إِلَى الْقَابِلَة، وَالْمَشْهُور فِي رِوَايَة ابْن عبد الْبر، أَو الْمَقْطُوع فِي رِوَايَات الْبَراء أَن ذَلِك كَانَ مُقَيّدا بِالنَّوْمِ، ويترجح بِقُوَّة سَنَده (وَلَيْسَ مِنْهُ) أَي من النَّاسِخ لحكم بِغَيْر بدل (نَاسخ ادخار لُحُوم الْأَضَاحِي) فَوق ثَلَاث لِأَنَّهُ مقرون بِبَدَل: حَيْثُ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها ونهيتكم عَن لُحُوم الْأَضَاحِي فَوق ثَلَاث فأمسكوا مَا بدا لكم " رَوَاهُ مُسلم فَهَذِهِ إِبَاحَة شَرْعِيَّة هِيَ بدل مفَاد بِدَلِيل النّسخ، وَفِي هَذَا تَعْرِيض بِابْن الْحَاجِب فِي تمثيله لوُقُوع النّسخ بِلَا بدل (وَجَاز أَن لَا يتَعَرَّض الدَّلِيل) النَّاسِخ (لغير الرّفْع) لتَعلق حكم الْمَنْسُوخ (أَو) أُرِيد بقوله بِلَا بدل (بِلَا ثُبُوت حكم شَرْعِي) لذَلِك الْفِعْل (وَإِن لم يكن) ذَلِك الحكم ثَابتا (بِهِ) أَي بِدَلِيل النّسخ (فَكَذَلِك) أَي الْحق نَفْيه (لذَلِك) أَي لكَونه بِلَا مُوجب إِلَى آخِره (وَتَكون) الصّفة (الثَّابِتَة) للْفِعْل (الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة) فَإِنَّهَا لَيست بِحكم شَرْعِي على الْمُخْتَار، و (لَكِن لَيْسَ مِنْهُ) أَي من النّسخ بِلَا ثُبُوت حكم شَرْعِي (نسخ تَقْدِيم الصَّدَقَة)

(3/197)


عِنْد إِرَادَة مُنَاجَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لثُبُوت الحكم الشَّرْعِيّ) وَهُوَ ندبية الصَّدَقَة (بِالْعَام النادب للصدقة) فِي الْكتاب وَالسّنة وَنسخ حُرْمَة الْمُبَاشرَة من الشق الثَّالِث الثَّابِت فِيهِ بدل الْمَنْسُوخ بِدَلِيل غير دَلِيل النّسخ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى - {أحل لكم} - الْآيَة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (بِثُبُوت إِبَاحَة الْمُبَاشرَة يباشروهن) فِي قَوْله - {فَالْآن باشروهن} - وَقَوله بِثُبُوت مُتَعَلق بمقدر نَحْو إِنَّمَا قُلْنَا بِأَن بدل حُرْمَة الْمُبَاشرَة ثَبت بِغَيْر دَلِيل النّسخ، وَكَانَ مَحَله عِنْد قَوْله كنسخ حُرْمَة الْمُبَاشرَة ليبين بِهِ قَوْله وَالْوَاقِع بِخِلَافِهِ لَكِن أَخّرهُ لكَونه مِثَالا للشق الثَّالِث، وَلِأَنَّهُ ذكر فِي الشَّرْح العضدي مَعَ نسخ تَقْدِيم الصَّدَقَة مثالين للنسخ بِلَا بدل فقصد الِاعْتِرَاض عَلَيْهَا فيهمَا تبعا. (قَالُوا) أَي مانعو النّسخ بِلَا بدل قَالَ تَعَالَى (مَا ننسخ الْآيَة) أَي - من آيَة أَو ننسها نأت بِخَير مِنْهَا أَو مثلهَا - فَفِي كل نسخ لَا بُد من الْإِتْيَان بِأحد الْأَمريْنِ، وَلَا يَعْنِي بِالْبَدَلِ إِلَّا هَذَا، وَفِي الشَّرْح العضدي: وَلَا يتَصَوَّر كَونه خيرا أَو مثلا إِلَّا فِي بدل (أُجِيب بالخيرية لفظا) أَي من حَيْثُ اللَّفْظ، وَهُوَ لَا يَقْتَضِي تَجْدِيد حكم آخر، وَهَذَا الْجَواب مَبْنِيّ (على إِرَادَة نسخ التِّلَاوَة لِأَنَّهُ) أَي كَون المُرَاد هَذَا هُوَ (الظَّاهِر) وَذَلِكَ لِأَن الْآيَة اسْم للنظم الْخَاص، فَالظَّاهِر أَن الْخَيْرِيَّة بِاعْتِبَار مَا يرجع إِلَى اللَّفْظ (وَأما ادِّعَاء أَن مِنْهُ) أَي من الْإِتْيَان بِخَير من حَيْثُ الحكم (على) تَقْدِير (التنزل) وَتَسْلِيم أَن الْخَيْرِيَّة بِاعْتِبَار الحكم، وَالْجَار مُتَعَلق بالادعاء، وَاسم أَن قَوْله (ترك الْبَدَل) . فِي الشَّرْح العضدي سلمنَا أَن المُرَاد نأتي بِحكم خير مِنْهَا، لكنه عَام يقبل التَّخْصِيص، فَلَعَلَّهُ خصص بِمَا نسخ لَا إِلَى بدل، سلمناه لَكِن إِذا أَتَى بنسخه من غير بدل وَهُوَ حكم فَلَعَلَّهُ خير للمكلف لمصْلحَة يعلمهَا الله تَعَالَى انْتهى. فَجعل ترك الْبَدَل حكما، فَقَالَ المُصَنّف (فَلَيْسَ) أَي لَيْسَ هَذَا الْجَواب فِي مَحل النزاع (إِذْ لَيْسَ) ترك الْبَدَل (حكما شَرْعِيًّا) وَهُوَ المنازع فِيهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَصرح أَن الْخلاف فِيهِ) أَي فِي الحكم الشَّرْعِيّ، وَقد يُقَال لم لَا يجوز أَن يكون هَذَا سندا آخر. يمْنَع استلزام الْآيَة مدعاهم، وَهُوَ لُزُوم حكم آخر شَرْعِي فِي كل نسخ. وَحَاصِله أَن الْخَيْرِيَّة لَيْسَ بِاعْتِبَار النّظم بل بِاعْتِبَار الحكم الشَّرْعِيّ خَاصَّة، فَلَا يلْزم الْخُرُوج من مَحل النزاع فَتَأمل (وتجويز التَّخْصِيص) لعُمُوم - نأت بِخَير مِنْهَا - الْمشَار إِلَيْهِ فِي الشَّرْح الْمَذْكُور على مَا مر آنِفا (لَا يُوجب وُقُوعه) أَي التَّخْصِيص، فَإِذا لم يثبت الْوُقُوع لَا يضر الْخصم لأَنهم لَا يمْنَعُونَ جَوَاز النّسخ بِلَا بدل عقلا كَمَا سيشير إِلَيْهِ (والتنزل) كَمَا فعله ابْن الْحَاجِب (إِلَى أَنَّهَا) أَي الْآيَة (لَا تفِيد نفي الْوُقُوع) أَي وُقُوع النّسخ بِلَا بدل (وَالْخلاف) إِنَّمَا هُوَ (فِي الْجَوَاز تَسْلِيم لَهُم) أَي للنافين للنسخ بِلَا بدل، لِأَن مَعْنَاهُ سلمنَا أَن الْآيَة تدل على نفي الْوُقُوع لَكِن نزاعنا مَعكُمْ فِي الْجَوَاز، لأَنهم إِذا قَالُوا لَا نزاع لنا فِي الْجَواب عقلا لَا يَنْبَغِي مَعَهم نزاع

(3/198)


وَقد سلمتم مَا هُوَ مطلوبهم، وَهُوَ نفي الْوُقُوع، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لِأَن الظَّاهِر إرادتهم) أَي النافين (نَفْيه) أَي جَوَاز النّسخ بِلَا بدل (سمعا) . وَحَاصِله نفي الْوُقُوع (لَا عقلا) وَإِنَّمَا عرفنَا ذَلِك (باستدلالهم) بِالْآيَةِ، فَإِنَّهَا لَا تكون على نفي الْوُقُوع وَمَا ثمَّة تَصْرِيح مِنْهُم بِأَن مُرَادهم نفي الْجَوَاز وَالله أعلم.
مسئلة

وَاتَّفَقُوا على جَوَاز النّسخ بالأخف والمساوى كالمباشرة والتوجه إِلَى الْكَعْبَة، وَهل يجوز بالأثقل. قَالَ (الْجُمْهُور يجوز بأثقل، ونفاه) أَي الْجَوَاز بِهِ (شذوذ) بَعضهم عقلا، وَبَعْضهمْ سمعا (لنا أَن اعْتبرت الْمصَالح) فِي التَّكْلِيف (وجوبا) كَمَا هُوَ رَأْي الْمُعْتَزلَة (أَو تفضلا) كَمَا هُوَ رَأْي غَيرهم (فلعلها) أَي الْمصلحَة للمكلف (فِيهِ) أَي فِي النّسخ بأثقل كَمَا يَنْقُلهُ من الصِّحَّة إِلَى السقم، وَمن الشَّبَاب إِلَى الْهَرم (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن فِيهِ كَمَا يُومِئ إِلَيْهِ - يحكم مَا يَشَاء - وَيفْعل مَا يُرِيد. (فأظهر) أَي فالجواز أظهر (وَيلْزم) من عدم جَوَاز الأثقل لكَونه أثقل (نفي ابْتِدَاء التَّكْلِيف) فَإِنَّهُ نقل من سَعَة الْإِبَاحَة إِلَى مشقة التَّكْلِيف. قَالَ القَاضِي وَلَا جَوَاب لَهُم عَن ذَلِك (وَوَقع) النّسخ بِالْأَكْثَرِ (بِتَعْيِين الصَّوْم) أَي صَوْم رَمَضَان (بعد التَّخْيِير بَينه) أَي الصَّوْم (وَبَين الْفِدْيَة) عَن كل يَوْم بإطعام مِسْكين نصف صَاع بر أَو صَاع تمر أَو شعير عندنَا، ومدبر أَو غَيره من قوت الْبَلَد عِنْد الشَّافِعِيَّة، أَو مُدبر أَو مدى تمر أَو شعير عِنْد أَحْمد، فَإِن التَّعْيِين أثقل من التَّخْيِير. عَن سَلمَة بن الْأَكْوَع لما نزلت - {وعَلى الَّذين يطيقُونَهُ فديَة طَعَام مِسْكين} - كَانَ من أَرَادَ أَن يفْطر يفتدي حَتَّى نزلت الْآيَة بعْدهَا، فنسختها. وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ نزل رَمَضَان، فشق عَلَيْهِم، من أطْعم كل يَوْم مِسْكينا ترك الصّيام مِمَّن يطيقُونَهُ، وَرخّص لَهُم ذَلِك، فنسختها - {وَأَن تَصُومُوا خير لكم} - فَأمروا بالصيام لَكِن يعارضها مَا فِي الصَّحِيح أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس لَيست مَنْسُوخَة، وَهِي للشَّيْخ الْكَبِير وَالْمَرْأَة الْكَبِيرَة لَا يستطيعان أَن يصوما، فيطعمان مَكَان كل يَوْم مِسْكينا. هَذَا، وَاخْتَارَ المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة مَا عَن ابْن عَبَّاس، لِأَن مثله لَا يُقَال بِالرَّأْيِ لكَونه مُخَالفا لظَاهِر الْقُرْآن، وَيحْتَاج إِلَى تَقْدِير حرف النَّفْي كَمَا فِي تالله تفتؤ - {يبين الله لكم أَن تضلوا} - فَهُوَ فِي حكم الْمَرْفُوع، ولكونه أفقه، وَفِي قِرَاءَة حَفْصَة - {وعَلى الَّذين لَا يطيقُونَهُ} - (وَالْوَجْه أَنه) قَالَ الشَّارِح: أَي الْوُجُوب الَّذِي هُوَ الحكم الأول، وَالْوَجْه أَن تعْيين الصَّوْم بعد التَّخْيِير كَمَا لَا يخفى (لَيْسَ بنسخ أصلا) قَالَ الشَّارِح أَي بمنسوخ بِنَاء على التَّفْسِير الأول (على وزان مَا تقدم فِي فدَاء إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلَام)

(3/199)


من أَن الْإِبْدَال يَقْتَضِي بَقَاء وجوب الْمُبدل مِنْهُ. قَالَ الشَّارِح الَّذِي يظْهر لي أَن يَقُول على ضد وزان مَا تقدم فِي فدَاء الذَّبِيح، لِأَن الْوُجُوب هُنَا صَار بِحَيْثُ لَا يسْقط عَنهُ مُتَعَلّقه مَعَ قدرته على مُتَعَلّقه بعد أَن كَانَ بِحَيْثُ يسْقط بِكُل مِنْهُمَا مَعَ قدرته عَلَيْهِمَا وثمة صَار الْوُجُوب يسْقط عَنهُ بِبَدَل مُتَعَلّقه قطعا بِحَيْثُ لَا يجوز لَهُ الْعُدُول إِلَى مُتَعَلّقه، وَإِن كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ انْتهى، وَالَّذِي يظْهر أَن مُرَاد المُصَنّف التَّشْبِيه بِاعْتِبَار عدم منسوخية أصل الْوُجُوب، لما ذكر من قصَّة الْإِبْدَال، وَلَا يُنَافِي هَذَا منسوخية كَيْفيَّة الْوُجُوب من التَّخْيِير إِلَى التَّعْيِين (ورجم الزواني) المحصنة (وجلدهن) إِن كن غير محصنات (بعد الْحَبْس فِي الْبيُوت) عَن ابْن عَبَّاس كَانَت الْمَرْأَة إِذا زنت حبست فِي الْبَيْت حَتَّى تَمُوت إِلَى أَن نزلت - {الزَّانِيَة وَالزَّانِي فاجلدوا كل وَاحِد مِنْهُمَا مائَة جلدَة} - قَالَ فَإِن كَانَا محصنين رجما بِالنِّسْبَةِ فَهُوَ سبيلهن الَّذِي جعل الله، وَلَا يضر مَا فِيهِ لتضافر الرِّوَايَات الصَّحِيحَة بِهَذَا الْمَعْنى وانعقاد الْإِجْمَاع عَلَيْهِ، وَالرَّجم أثقل من الْحَبْس. (قَالُوا) أَي الشذوذ. قَالَ الله تَعَالَى ( {يُرِيد الله أَن يُخَفف عَنْكُم} ) والنسخ إِلَى الأثقل لَيْسَ بتَخْفِيف فَلَا يُريدهُ الله تَعَالَى (أُجِيب بِأَن سياقها) أَي الْآيَة تدل على إِرَادَة التَّخْفِيف (فِي الْمَآل) أَي الْمعَاد (وَفِيه) أَي فِي الْمَآل (يكون) التَّخْفِيف (بالأثقل فِي الْحَال، وَسلم) الْعُمُوم فِي الْحَال والمآل (كَانَ) الْعُمُوم (مَخْصُوصًا بالوقوع) أَي بِقَرِينَة وُقُوع أَنْوَاع التكاليف الثَّقِيلَة المبتدأة وأنواع الِابْتِلَاء فِي الْأَبدَان وَالْأَمْوَال بالِاتِّفَاقِ (وَهُوَ) أَي هَذَا الِاسْتِدْلَال (بِنَاء على مَا نفيناه) فِي الْمَسْأَلَة السَّابِقَة من أَن النزاع لَيْسَ فِي الْجَوَاز الْعقلِيّ بل فِي (الْجَوَاز السمعي الَّذِي مآله النزاع فِي الْوُقُوع قَالُوا) ثَانِيًا. قَالَ تَعَالَى ( {مَا ننسخ الْآيَة} ) فَيجب الأخف لِأَنَّهُ الْخَيْر أَو المساوى والأشق لَيْسَ بِخَير وَلَا مثل (أُجِيب بخيرية الأثقل عَاقِبَة) لكَونه أَكثر ثَوابًا. قَالَ تَعَالَى - {لَا يصيبهم ظمأ وَلَا نصب} - الْآيَة (أَو مَا تقدم) من أَن المُرَاد الْخَيْرِيَّة لفظا
مسئلة

(يجوز نسخ الْقُرْآن بِهِ) أَي بِالْقُرْآنِ (كآية عدَّة الْحول بِآيَة الْأَشْهر) قَالَ الْبَيْضَاوِيّ فِي تَفْسِير قَوْله تَعَالَى - {مَتَاعا لكم إِلَى الْحول} - غير إِخْرَاج كَانَ ذَلِك أول الْإِسْلَام ثمَّ نسخ الْمدَّة بقوله تَعَالَى - {أَرْبَعَة أشهر وَعشرا} - (والمسالمة) أَي ولنسخ آيَات المسالمة للْكفَّار كَقَوْلِه - {فَاعْفُ عَنْهُم وَاصْفَحْ} - (بِالْقِتَالِ) أَي بآياته كَقَوْلِه تَعَالَى - {وقاتلوا الْمُشْركين كَافَّة} - (وَالْخَبَر الْمُتَوَاتر بِمثلِهِ) أَي بالْخبر الْمُتَوَاتر (و) خبر (الْآحَاد بِمثلِهِ) كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور أَلا فزورها، وَعَن لُحُوم الْأَضَاحِي أَن تمسكوا فَوق ثَلَاثَة أَيَّام: فأمسكوا مَا بدا لكم الخ)

(3/200)


ونهيتكم عَن شرب النَّبِيذ إِلَّا فِي سقاء فَاشْرَبُوا فِي الأوعية، وَلَا تشْربُوا مُسكرا (فبالمتواتر) أَي فجواز نسخ الْآحَاد بالمتواتر (أولى) من جَوَاز نسخهَا بالآحاد لِأَنَّهُ أقوى (وَأما قلبه) وَهُوَ نسخ الْمُتَوَاتر بالآحاد (فَمَنعه الْجُمْهُور كل مانعي تَخْصِيص الْمُتَوَاتر بالآحاد، وَأكْثر مجيزيه) أَي تَخْصِيص الْمُتَوَاتر بالآحاد حَال كَون الْأَكْثَر (فارقين بِأَن التَّخْصِيص جمع لَهما) أَي الْمُتَوَاتر والآحاد (والنسخ إبِْطَال أَحدهمَا) الَّذِي هُوَ الْمُتَوَاتر بالآحاد (وَأَجَازَهُ) أَي نسخ الْمُتَوَاتر بالآحاد (بَعضهم) أَي بعض المجيزين لتخصيص الْمُتَوَاتر بالآحاد لتأخير الْآحَاد (لنا لَا يقاومه) أَي الْمُتَوَاتر لِأَنَّهُ قَطْعِيّ وَخبر الْآحَاد ظَنِّي (فَلَا يُبطلهُ) أَي خبر الْآحَاد الْمُتَوَاتر لِأَن الشَّيْء لَا يبطل أقوى مِنْهُ (قَالُوا) أَي المجيزون (وَقع) نسخ الْمُتَوَاتر بِخَبَر الْآحَاد (إِذْ ثَبت التَّوَجُّه) لأهل مَسْجِد قبَاء (إِلَى الْبَيْت بعد الْقطعِي) الْمُفِيد لتوجههم إِلَى بَيت الْمُقَدّس مَا يزِيد على عَام على خلاف مِقْدَاره (الْآتِي لأهل) مَسْجِد (قبَاء) كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ (وَلم يُنكره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) إِذْ لَو أنكر لنقل، وَيشْهد لَهُ مَا أخرج الطَّبَرَانِيّ عَن تويلة بنت مُسلم قَالَت صلينَا الظّهْر وَالْعصر فِي مَسْجِد بني حَارِثَة واستقبلنا مَسْجِد إيلياء فصلينا رَكْعَتَيْنِ ثمَّ جَاءَنَا من يحدثنا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد اسْتقْبل الْبَيْت الْحَرَام فتحول النِّسَاء مَكَان الرِّجَال وَالرِّجَال مَكَان النِّسَاء فصلينا السَّجْدَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ وَنحن مستقبلون الْبَيْت الْحَرَام فَحَدثني رجل من بني حَارِثَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أُولَئِكَ رجال آمنُوا بِالْغَيْبِ. (وَبِأَنَّهُ) أَي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كَانَ يبْعَث الْآحَاد للتبليغ) للْأَحْكَام مُطلقًا أَي مُبتَدأَة كَانَت أَو ناسخة لَا يفرق بَينهمَا، والمبعوث إِلَيْهِم متعبدون بِتِلْكَ الْأَحْكَام وَرُبمَا كَانَ فِي الْأَحْكَام مَا ينْسَخ متواترا إِذا لم ينْقل الْفرق بَين مَا نسخ متواترا وَغَيره (وَقل لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ الْآيَة) نسخ مِنْهَا حل ذِي الناب (بِتَحْرِيم كل ذِي نَاب) من السبَاع بِخَبَر الْوَاحِد كَمَا فِي صَحِيح مُسلم وَغَيره مَرْفُوعا " كل ذِي نَاب من السبَاع حرَام " و (أُجِيب بِجَوَاز اقتران خبر الْوَاحِد بِمَا يُفِيد الْقطع، وَجعله) أَي المقترن الْمُفِيد للْقطع (النداء) أَي نِدَاء الْمخبر بذلك (بِحَضْرَتِهِ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على رُءُوس الأشهاد على مَا فِي الشَّرْح العضدي (غلط أَو تساهل) بِأَن يُرَاد بِحَضْرَتِهِ وجوده فِي مَكَان قريب بِحَيْثُ لَا يخفى عَلَيْهِ كالواقع بِحُضُورِهِ (وَهُوَ) أَي التساهل (الثَّابِت) لبعد سَماع أهل قبَاء نِدَاء الْمخبر فِي مَجْلِسه (وَالثَّانِي) وَهُوَ بعثة الْآحَاد لتبليغ الْأَحْكَام إِنَّمَا يتم (إِذا ثَبت إرسالهم) أَي الْآحَاد (بنسخ) حكم (قَطْعِيّ عِنْد الْمُرْسل إِلَيْهِم، وَلَيْسَ) ذَلِك بِثَابِت وَمن ادَّعَاهُ فَعَلَيهِ الْبَيَان (وَلَا أجد الْآن تَحْرِيمًا) بِغَيْر مَا اسْتثْنى: أَي معنى الْآيَة هَذَا لِأَن لَا أجد للْحَال فإباحة غير الْمُسْتَثْنى مُؤَقَّتَة بِوَقْت الْإِخْبَار (فالثابت) عَن الْإِبَاحَة فِي ذَلِك الْوَقْت (إِبَاحَة أَصْلِيَّة ورفعها) أَي الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة

(3/201)


فِي الْمُسْتَقْبل بِالتَّحْرِيمِ (لَيْسَ نسخا) لِأَن النّسخ رفع لحكم شَرْعِي وَالْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة لَيست إِيَّاه على الْمُخْتَار وَقد مر.
مسئلة

(يجوز نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ) عِنْد جُمْهُور الْفُقَهَاء والمتكلمين ومحققي الشَّافِعِيَّة (وَأَصَح قولي الشَّافِعِي الْمَنْع) فَإِنَّهُ قَالَ لَا ينْسَخ كتاب الله إِلَّا كتاب الله كَمَا كَانَ الْمُبْتَدِئ بفرضه فَهُوَ المزيل الْمُثبت بِمَا شَاءَ مِنْهُ جلّ جَلَاله وَلَا يكون ذَلِك لأحد من خلقه وَهَكَذَا سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاخْتلف أَصْحَابه فَقيل المُرَاد نفي الْجَوَاز الْعقلِيّ، وَنسب إِلَى المحاسبي وَعبد الله ابْن سعيد والقلانسي وهم من أكَابِر أهل السّنة، ويروى عَن أَحْمد وَأبي إِسْحَاق الإسفرايني وَأبي الطّيب الصعلوكي وَأبي مَنْصُور، وَقيل لم يمْنَع الْعقل والسمع لكنه لم يقل وَهُوَ قَول ابْن سُرَيج. قَالَ السُّبْكِيّ: وَنَصّ الشَّافِعِي لَا يدل على أَكثر مِنْهُ ثمَّ قَالَ حَيْثُ وَقع نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ فمعها قُرْآن عاضد لَهَا يبين توَافق الْكتاب وَالسّنة أَو نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ فمعه سنة عاضدة لَهُ تبين توافقهما (لنا لَا مَانع) عَقْلِي وَلَا شَرْعِي من ذَلِك (وَوَقع) والوقوع دَلِيل الْجَوَاز (فَإِن التَّوَجُّه إِلَى الْقُدس) أَي بَيت الْمُقَدّس (لَيْسَ فِي الْقُرْآن وَنسخ) التَّوَجُّه إِلَيْهِ (بِهِ) أَي بِالْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى - {فول وَجهك شطر الْمَسْجِد الْحَرَام} - (وَكَذَا حُرْمَة الْمُبَاشرَة) بقوله تَعَالَى - {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث} - الْآيَة فَإِن تَحْرِيمهَا لَيْسَ فِي الْقُرْآن (وتجويز كَونه) أَي نسخ كل مِنْهُمَا (بِغَيْرِهِ) أَي غير الْقُرْآن (من سنة أَو) تَجْوِيز ثُبُوت حكم (الأَصْل) فِيهَا (بِتِلَاوَة) أَي بمتلوّ من الْقُرْآن (نسخت وَذَلِكَ) التجويز (على) تَقْدِير (الْمُوَافقَة) فِيهِ مَعَ الْخصم (احْتِمَال بِلَا دَلِيل) فَلَا يسمع (ثمَّ لَو صَحَّ) مَا ذكرْتُمْ من التجويز الْمَذْكُور (لم يتَعَيَّن نَاسخ علم تَأَخره مَا لم يقل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا نَاسخ) لكذا وَنَحْوه لذَلِك الِاحْتِمَال (وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع قَالُوا أَي المانعون) أَولا قَوْله تَعَالَى - {وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} - يَقْتَضِي أَن شَأْنه الْبَيَان للْأَحْكَام، والنسخ رفع لَا بَيَان (أُجِيب) بِتَسْلِيم شَأْنه وَمنع أَنه لَيْسَ بِبَيَان بقوله (والنسخ) رفع لَا بَيَان (مِنْهُ) أَي من الْبَيَان لِأَنَّهُ بَيَان انْتِهَاء مُدَّة الحكم (قَالُوا) ثَانِيًا نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ (يُوجب التنفير) للنَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ يفهم أَن الله تَعَالَى لم يرض بِمَا سنه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ منَاف لمقصد الْبعْثَة وَهُوَ التأسي بِهِ والاقتداء (أُجِيب) بِأَنا لَا نسلم حُصُول النفرة على تَقْدِير النّسخ (إِذا آمنا بِأَنَّهُ مبلغ) وسفير يعبر بِهِ عَن الله تَعَالَى لَا غير، وَإِذا كَانَ التَّصَرُّف كُله من الله - {وَمَا ينْطق عَن الْهوى} -

(3/202)


حكما معينا فِي مَحل الإجتهاد يُصِيبهُ تَارَة ويخطئه أُخْرَى، وَلَيْسَ كل مَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد حكم الله تَعَالَى فِي نفس الْأَمر (لَو كَانَ الحكم) أَي خطاب الله تَعَالَى الْمُتَعَلّق بِفعل العلد هُوَ عبن (مَا) أدّى الِاجْتِهَاد (إِلَيْهِ كَانَ) الْمُجْتَهد (بظنه) الْحَاصِل بِالِاجْتِهَادِ (يقطع بِأَنَّهُ) أَي المظنون الَّذِي أدّى إِلَيْهِ (حكمه تَعَالَى) (مَشْرُوط بِبَقَاء ظَنّه) الْحَاصِل بِالِاجْتِهَادِ، لِأَن الَّذِي علم قطعا أَن مطنونه عين حكم الله تَعَالَى فِي حَقه كَيفَ يتَصَوَّر أَن يتَحَوَّل عَنهُ بِأَن يشك فِيهِ أَو يظنّ خِلَافه فَإِن قلت: لم لَا يجوز أَن يكون قطعه بِكَوْن المظنون حكم الله تَعَالَى فِي حَقه مُقَيّدا بِعَدَمِ طروّ مَا ينافى ذَلِك الظَّن من شكّ أوظن بِخِلَافِهِ، وَعند طروه يتَغَيَّر حكم الله تَعَالَى فِي حَقه إِلَى بدل أَن تعلق ظَنّه بِخِلَاف مُتَعَلق الظَّن الأول أَولا إِلَى بدل أَن لم يتَعَلَّق قلت: يلْزم حِينَئِذٍ تعدد حكم الله تَعَالَى فِي حَادِثَة وَاحِدَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى شخص وَاحِد والنسخ، وسيجئ تَفْصِيله (والاجماع) مُنْعَقد (على جَوَاز تغيره) أَي الظَّن الْمَذْكُور بِأحد الْوَجْهَيْنِ (وَوُجُوب الرُّجُوع) عَن الظَّن الْمَذْكُور مَعْطُوف على مَدْخُول على الْمُتَعَلّقَة بالاجماع (وَأَنه) أَي الْمُجْتَهد (لم يزل عِنْد ذَلِك الْقطع) أَي لاقطع بِأَنَّهُ حكمه تَعَالَى. قَوْله أَنه لم يزل مَعْطُوف على بَقَاء ظَنّه، وَالْمرَاد بِاشْتِرَاط الْقطع بِكَوْنِهِ لم يزل عِنْد ذَلِك الْقطع للْقطع بِأَنَّهُ حكم الله تَعَالَى فِي حَقه بهت، لِأَن الْعلم الْقطعِي لَا يتَغَيَّر: وَهَذَا أظهر من حَيْثُ الْعبارَة، لَكِن القَاضِي عضد الدّين صدر بِهِ فِي شرح الْمُخْتَصر بِالْمَعْنَى الأول (فيجتمع الْعلم) الْقطعِي بِأَنَّهُ حكم الله تَعَالَى (وَالظَّن) بِأَنَّهُ حكمه تَعَالَى (فيجتمع النقيضان: تَجْوِيز النقيض) اللَّازِم لحقيقة الظَّن الْمُتَعَلّق بِأَنَّهُ حكم الله تَعَالَى (وَعَدَمه) أَي عدم تَجْوِيز النقيض اللَّازِم لحقيقة الْعلم وَالْقطع بِأَنَّهُ حكمه، وَيحْتَمل أَن يُرَاد الْعلم وَالظَّن المتعلقان بِمَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد ومآ لَهما وَاحِد حَاصِل الِاسْتِدْلَال أَن كَون مَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد حكم الله تَعَالَى فِي حَقه يسْتَلْزم الْقطع المستلزم للمحظورات الثَّلَاث لُزُوم بَقَاء الظَّن والاجماع على عدم لُزُومه واستمرار الْقطع المزيل للظن وانكار بَقَاء الظَّن بهت، واجتماع الْعلم وَالظَّن المستلزم لِاجْتِمَاع النقيضين (وإلزام كَونه) أَي كَون اجْتِمَاع النقيضين (مُشْتَرك الالزام) بِأَن الاجماع مُنْعَقد على وجوب اتِّبَاع الظَّن، فَيجب الْفِعْل إِذا ظن الْوُجُوب قطعا، وَيحرم إِذا ظن الْحُرْمَة قطعا، ثمَّ شَرط الْقطع بَقَاء الظَّن بِمَا ذكرْتُمْ، فليلزم الظَّن وَالْقطع مَعًا، ويجتمع النقيضان (مُنْتَفٍ) خبر الْمُبْتَدَأ (لاخْتِلَاف مَحل الظَّن) أَي مُتَعَلّقه على الْمَذْهَب الْحق (وَهُوَ)

(3/203)


ابْن عَبَّاس، وَلَيْسَ مِمَّا لَا يجْرِي فِيهِ الرَّأْي فَإِذا قَامَ الدَّلِيل الْقَاطِع على أَنه لَا يصلح نَاسِخا يجب الْعَمَل بِمُوجبِه فَإِن قَول الصَّحَابِيّ فِيمَا يجْرِي فِيهِ الرَّأْي لَيْسَ بِحجَّة على الْمُجْتَهد (قَالُوا) أَي المانعون قَالَ تَعَالَى (مَا ننسخ الْآيَة وَالسّنة لَيست خيرا مِنْهُ) أَي من الْقُرْآن (وَلَا مثلا) لَهُ (ونأت يُفِيد أَنه) أَي الْآتِي بِالْخَيرِ والمثل (هُوَ تَعَالَى) والآتي بِالسنةِ هُوَ الرَّسُول (أُجِيب بِمَا تقدم) من أَن المُرَاد الْخَيْر والمثل من جِهَة اللَّفْظ، وَلَا يخفى أَن الِاسْتِدْلَال يُفِيد أَمريْن: أَحدهمَا أَن عدم خيرية السّنة وَعدم مثليتها يمْنَع من كَونهَا نَاسِخا لِلْقُرْآنِ، وَالثَّانِي أَن كَون الْآتِي بالناسخ لَيْسَ إِلَّا الله تَعَالَى يَأْبَى عَن كَون مَا أَتَى بِهِ الرَّسُول نَاسِخا فَمَا تقدم لَا يصلح إِلَّا جَوَابا عَن الأول ومتممه قَوْله (وَعدم تفاضله) أَي لفظ السّنة (بالخيرية أَي البلاغة) يَعْنِي من حَيْثُ البلاغة (مَمْنُوع) قَالَ الشَّارِح إِذْ فِي الْقُرْآن الفصيح والأفصح والبليغ والأبلغ انْتهى وَهَذَا غَفلَة مِنْهُ عَن الْبَحْث، إِذْ الْكَلَام فِي نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ لَا بِالْقُرْآنِ، وَأَنت خَبِير بِأَن أبلغية السّنة من الْقُرْآن إِذا لم يكن قدر السُّورَة لَيْسَ بممتنع شرعا لَكِن ترك هَذَا الْوَجْه أوجه (وَلَو سلم) أَن المُرَاد كَونه خيرا أَو مثلا من حَيْثُ الْمَعْنى (فَالْمُرَاد بِخَير من حكمهَا) أَو بِمثل حكمهَا بِالنّظرِ إِلَى الْعباد (وَالْحكم الثَّابِت بِالسنةِ جَازَ كَونه أصلح للمكلف) مِمَّا ثَبت بِالْقُرْآنِ أَو مُسَاوِيا لَهُ. ثمَّ أَشَارَ إِلَى جَوَاب الْأَمر الثَّانِي بقوله (وَهُوَ) أَي الحكم الثَّابِت بِالسنةِ (من عِنْده تَعَالَى وَالسّنة مبلغة ووحي غير متلوّ بَاطِن) أَي كَونه وَحيا (لَا من عِنْد نَفسه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تَعَالَى - {وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى} - فالآتي بهَا فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ الله تَعَالَى، وَالرَّسُول سفير.
مسئلة

نسخ جَمِيع الْقُرْآن غير جَائِز بِالْإِجْمَاع. قَالَ الإِمَام الرَّازِيّ وَغَيره لِأَنَّهُ معْجزَة مستمرة على التَّأْبِيد، وَنسخ بعضه جَائِز، وتفصيله مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (ينْسَخ الْقُرْآن تِلَاوَة وَحكما أَو أَحدهمَا) أَي تِلَاوَة لَا حكما أَو عَكسه (وَمنع بعض الْمُعْتَزلَة غير الأول) أَي تِلَاوَة وَحكما (لنا جَوَاز تِلَاوَة حكم) ، وَلذَا تحرم على الْجنب إِجْمَاعًا (وَمفَاده) من الْوُجُوب وَالتَّحْرِيم وَغَيرهمَا حكم (آخر وَلَا يلْزم من نسخ حكم نسخ آخر) لَا تلازم بَينهمَا يُوجب ذَلِك، وَهَذَانِ الحكمان كَذَلِك فَيجوز نسخ أَحدهمَا دون الآخر كَسَائِر الْأَحْكَام الَّتِي لَيْسَ بَينهَا هَذَا التلازم (وَوَقع) نسخ أَحدهمَا دون الآخر (روى عَن عمر كَانَ فِيمَا أنزل الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّة نكالا من الله) . قَالَ الشَّارِح: كَذَا ذكره ابْن الْحَاجِب، وَالَّذِي وقفت عَلَيْهِ مَا أخرجه الشَّافِعِي

(3/204)


عَنهُ أَنه قَالَ " إيَّاكُمْ أَن تهلكوا عَن آيَة الرَّجْم أَن يَقُول قَائِل لَا نجد حَدَّيْنِ فِي كتاب الله: فَلَقَد رجم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ لَوْلَا يَقُول النَّاس زَاد عمر فِي كتاب الله لكتبتها الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّة فَإنَّا قد قرأناهما " فَإِن قلت كَيفَ يَكْتُبهَا وَهُوَ مَنْسُوخ التِّلَاوَة قلت لم يقل بكتبها فِي الْمُصحف: بل أَرَادَ كتَابَتهَا فِي صحيفَة للْعَمَل بحكمها وليعلم أَنَّهَا كَانَت فِي الْقُرْآن فنسخت تلاوتها، وللترمذي نَحوه. ثمَّ أخرجه النَّسَائِيّ وَعبد الله بن أَحْمد فِي زيادات لمُسْند وَصَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم عَن أبي بن كَعْب قَالَ كم تَعدونَ سُورَة الْأَحْزَاب. قَالَ قلت ثِنْتَيْنِ أَو ثَلَاثًا وَسبعين آيَة قَالَ كَانَت توازي سُورَة الْبَقَرَة أَو أَكثر، وَكُنَّا نَقْرَأ فِيهَا الشَّيْخ وَالشَّيْخَة إِذا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا الْبَتَّةَ نكالاً من الله، وَإِنَّمَا عبر عَنْهُمَا بهما لِأَن الْغَالِب فيهمَا الاستبعاد (وَحكمه) أَي هَذَا الْمَنْسُوخ التِّلَاوَة (ثَابت) لِأَن المُرَاد بالشيخ وَالشَّيْخَة الْمُحصن والمحصنة وهما إِذا زَنَيَا رجما إِجْمَاعًا (وَلَقَد استبعد) كَون هَذَا قُرْآنًا نسخ تِلَاوَته استبعادا ناشئا (من طلاوة الْقُرْآن) بِضَم الطَّاء الْمُهْملَة أَي حسنه لما أَنه يُوجد فِيهِ ذَلِك وَلَا يلْزم على الاستبعاد إِيهَام إِنْكَار يخْشَى عَلَيْهِ لِأَن ذَلِك فِيمَا ثَبت قرآنيته بالمتواتر وَثُبُوت هَذَا بأخبار الْآحَاد (وَمِنْه) أَي الْمَنْسُوخ تِلَاوَته فَقَط عِنْد أَصْحَابنَا (الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة لِابْنِ مَسْعُود) - فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام (مُتَتَابِعَات) - إِذْ لَا وَجه لقرَاءَته ذَلِك فِي الْقُرْآن إِلَّا أَن يُقَال كَانَ يُتْلَى فِيهِ ثمَّ انتسخت تِلَاوَته فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَرْف الْقلب عَن حفظه إِلَّا قلب ابْن مَسْعُود فَبَقيَ الحكم بنقله فَإِن خبر الْوَاحِد يُوجب الْعَمَل بِهِ غير أَن كِتَابَته فِي الْمَصَاحِف لَا يجوز لِأَنَّهُ لَا بُد فِيهَا من التَّوَاتُر، (و) مِنْهُ أَيْضا الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة ل (ابْن عَبَّاس فَأفْطر فَعدَّة) بعد قَوْله تَعَالَى - {فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا أَو على سفر} - وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه كَانَ فِي الْقُرْآن " فَلَو أَن لِابْنِ آدم واديان من ذهب لابتغى أَن يكون لَهُ ثَالِث، وَلَا يمْلَأ فَاه إِلَّا التُّرَاب، وَيَتُوب الله على من تَابَ " قَالَ ابْن عبد الْبر قيل إِنَّه كَانَ من صُورَة ص (وَقَلبه) أَي نسخ الحكم لَا التِّلَاوَة (آيَة الِاعْتِدَاد حولا متلوة وارتفاع مفادها) بأَرْبعَة أشهر وَعشرا (وهما) أَي نسخ التِّلَاوَة وَالْحكم (مَعًا قَول عَائِشَة كَانَ فِيمَا أنزل عشر رَضعَات) مَعْلُومَات (يحرمن) رَوَاهُ مُسلم (قَالُوا) أَي مانعو نسخ أَحدهمَا بِدُونِ الآخر وَلَا (التِّلَاوَة مَعَ مفادها) من الحكم (كَالْعلمِ مَعَ العالمية والمنطوق مَعَ الْمَفْهُوم) فَكَمَا لَا يَنْفَكّ كل من العالمية وَالْمَفْهُوم عَن صَاحبه وَبِالْعَكْسِ كَذَلِك لَا يَنْفَكّ الحكم عَن التِّلَاوَة وَبِالْعَكْسِ، وَوجه الشّبَه أَن كلا مِنْهُمَا لَا يتَصَوَّر تحَققه بِدُونِ الآخر (وَالْمَقْصُود أَنه) أَي كلا مِنْهُمَا (ملزوم) للْآخر (فَلَا يضرّهُ) أَي الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور (منع ثُبُوت الْأَحْوَال) رد

(3/205)


لما قيل من قبل الْجُمْهُور من أَن العالمية من الْأَحْوَال أَي الصِّفَات النفسية الَّتِي لَيست بموجودة وَلَا مَعْدُومَة قَائِمَة بموجودة، وَالْحق عندنَا منع ثُبُوتهَا وَإِن قَالَ بِهِ بعض منا كَالْقَاضِي وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَلَا يخفى أَن الَّذِي سموهُ حَالا وَإِن كَانَ مَعْدُوما لكنه من الْأُمُور الَّتِي نفس الْأَمر نفس لظرفها وَإِن لم يكن ظرفا لوجودها كزوجية الْأَرْبَعَة بِخِلَاف زوجية الْخَمْسَة، وَهَذَا الْقدر كَاف فِي تحقق الْمُلَازمَة بَينه وَبَين أَمر آخر. (وَالْجَوَاب) عَن هَذَا الِاسْتِدْلَال (إِن قلت) المتلوّ أَو الحكم (ملزوم الثُّبُوت) أَي ثُبُوت الْمَعْنى أَو التِّلَاوَة (ابْتِدَاء سلمناه وَلَا يُفِيد) لِأَن الْكَلَام لَيْسَ فِيهِ (أَو) ملزوم الثُّبُوت (بَقَاء منعناه) إِذْ لَا يلْزم من الثُّبُوت ابْتِدَاء الثُّبُوت بَقَاء (وَالْكَلَام فِيهِ) أَي فِي ثُبُوته بَقَاء (قَالُوا) أَي المانعون ثَانِيًا (بَقَاء التِّلَاوَة دون الحكم يُوهم بَقَاءَهُ) أَي الحكم (فيوقع) بَقَاؤُهَا دونه (فِي الْجَهْل) وَهُوَ اعْتِقَاد بَقَاء الحكم وَهُوَ غير مُطَابق للْوَاقِع، وَهُوَ قَبِيح لَا يَقع من الله سُبْحَانَهُ (وَأَيْضًا فَائِدَة إنزاله) أَي الْقُرْآن (إفادته) أَي الحكم (وتنتفي) إفادته الحكم (بِبَقَائِهِ) أَي الحكم (دونهَا) أَي التِّلَاوَة هَكَذَا فِي النّسخ المصححة، وَالشَّارِح بنى عَلَيْهِ، وَالصَّوَاب ببقائها دونه اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يرجع ضمير بَقَائِهِ إِلَى الْقُرْآن وَضمير دونهَا إِلَى الحكم بِاعْتِبَار أَنه فَائِدَة لَا يخفى مَا فِيهِ. فِي الشَّرْح العضدي وَأَيْضًا فتزول فَائِدَة الْقُرْآن لانحصار فَائِدَة اللَّفْظ فِي إِفَادَة مَدْلُوله وَإِذا لم يقْصد بِهِ ذَلِك فقد بطلت فَائِدَته، وَالْكَلَام الَّذِي لَا فَائِدَة فِيهِ يجب أَن ينزه عَنهُ الْقُرْآن (أُجِيب) بِأَن (مبناه) أَي الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور (على التحسين والتقبيح) العقليين وَقد نفاهما الأشاعرة (وَلَو سلم) القَوْل بهما (فَإِنَّمَا يلْزم الْإِيقَاع) فِي الْجَهْل عِنْد نسخ الحكم لَا التِّلَاوَة (لَو لم ينصب دَلِيل عَلَيْهِ) أَي على عدم بَقَاء الحكم لكنه نصب عَلَيْهِ فالمجتهد يعْمل بِالدَّلِيلِ والمقلد بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ (وَيمْنَع حصر فَائِدَته) أَي الْقُرْآن فِي إِفَادَة الحكم (بل) إنزاله كَمَا يكون لإفادته يكون (للإعجاز ولثواب التِّلَاوَة أَيْضا وَقد حصلتا) إِذْ الإعجاز لَا ينتفى بنسخ تعلق حكم اللَّفْظ وَكَذَا الثَّوَاب (كالفائدة الَّتِي عينتموها) أَي كَمَا حصلت الإفادة الْمَذْكُورَة ابْتِدَاء وَلَا يلْزم بَقَاء الْفَائِدَة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يعْتَبر حُصُول الْفَائِدَة ابْتِدَاء قبل النّسخ لعدم بَقَاء الحكم بعده (انْتَفَى النّسخ بعد) طلب (الْفِعْل الْوَاجِب تكرره) بِتَكَرُّر سَببه إِذْ الْمَطْلُوب فِيهِ استمراره باستمرار سَببه وَهُوَ فَائِدَة الْخطاب الْمُتَعَلّق بِهِ وبالنسخ يَزُول ذَلِك، والمستلزم للمحال مُنْتَفٍ فالنسخ مُنْتَفٍ، والقائلون بالنسخ لَا يَقُولُونَ بِانْتِفَاء هَذَا النّسخ بل أَجمعُوا على صِحَّته بل وُقُوعه، وَإِنَّمَا قيد الانتفاء بِهَذَا النّسخ لِأَن نسخ فعل لم يجب تكرره لَا يسْتَلْزم انْتِفَاء الْفَائِدَة لِأَن الْمَطْلُوب فِيهِ أصل الْفِعْل وَهُوَ يحصل بِمرَّة قبل النّسخ فَلْيتَأَمَّل.

(3/206)


مسئلة

(لَا ينْسَخ الْإِجْمَاع) الْقطعِي أَي لَا يرْتَفع الحكم الثَّابِت بِهِ (وَلَا ينْسَخ بِهِ) غَيره (أما الأول فَلِأَنَّهُ لَو كَانَ) أَي لَو تحقق رفع حكمه (فبنص) أَي فَينْسَخ بِنَصّ (قَاطع أَو إِجْمَاع) قَاطع (وَالْأول) أَي نسخه بِنَصّ قَاطع (يسْتَلْزم خطأ قَاطع الْإِجْمَاع) أَي الْإِجْمَاع الْقَاطِع مثل جرد قطيفة (لِأَنَّهُ) أَي الْإِجْمَاع حِينَئِذٍ بِخِلَاف الْوَاقِع الَّذِي هُوَ النَّص وخلافه خطأ لتقدم ذَلِك عَلَيْهِ لما سَيَجِيءُ، وَلَا ينْعَقد الْإِجْمَاع على (خلاف الْقَاطِع، وَالثَّانِي) أَي رفع الْإِجْمَاع بِالْإِجْمَاع يسْتَلْزم (بطلَان أَحدهمَا) أَي الاجماعين النَّاسِخ والمنسوخ وَهُوَ ظَاهر (وَلَيْسَ) هَذَا الدَّلِيل (بِشَيْء لِأَن النّسخ لَا يُوجب خطأ) لاستلزامه خطأ الحكم الْمَنْسُوخ مُطلقًا، بل إِنَّمَا ينْسَخ الْإِجْمَاع بِنَصّ مُتَأَخّر لِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر الْإِجْمَاع (الأول، وَإِلَّا) أَي وَإِن كَانَ النّسخ مُوجبا إِيَّاه (امْتنع) النّسخ (مُطلقًا) لاستلزامه خطأ الحكم الْمَنْسُوخ مُطلقًا (بل) إِنَّمَا لَا ينْسَخ الْإِجْمَاع بِنَصّ مُتَأَخّر (لِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر لِأَن حجيته) أَي الْإِجْمَاع مَشْرُوطَة (بِقَيْد بعديته) أَي بِأَن يكون انْعِقَاده بعد زَمَانه (عَلَيْهِ السَّلَام فَلَا يتَصَوَّر تَأَخّر النَّص عَنهُ) أَي الْإِجْمَاع (وثمرته) أَي الْخلاف فِي أَن الْإِجْمَاع لَا ينْسَخ بِغَيْرِهِ تظهر (فِيمَا إِذا أجمع على قَوْلَيْنِ) فِي الشَّرْح العضدي. قَالَ المجيزون: اخْتلفت الْأمة على قَوْلَيْنِ فَهُوَ إِجْمَاع على أَن المسئلة اجتهادية يجوز الْأَخْذ بكلهما، ثمَّ يجوز إِجْمَاعهم على أحد الْقَوْلَيْنِ كَمَا مر فَإِذا أَجمعُوا بَطل الْجَوَاز الَّذِي هُوَ مُقْتَضى ذَلِك الْإِجْمَاع وَهُوَ معنى النّسخ (جَازَ بعده) أَي بعد الْإِجْمَاع على الْقَوْلَيْنِ الْإِجْمَاع (على أَحدهمَا) بِعَيْنِه (فَإِذا وَقع) الْإِجْمَاع على أَحدهمَا بِعَيْنِه (ارْتَفع جَوَاز الْأَخْذ بِالْآخرِ) لتعين الْأَخْذ بِمَا أجمع عَلَيْهِ على سَبِيل التَّعْيِين، وَبطلَان الْأَخْذ بمخالفه (فالمجيز) لجَوَاز نسخ الْإِجْمَاع وصيرورته مَنْسُوخا يَقُول ارْتِفَاع جَوَاز الْأَخْذ بِالْآخرِ بعد أَن كَانَ مجمعا عَلَيْهِ (نسخ) لذَلِك الْإِجْمَاع (وَالْجُمْهُور) يَقُولُونَ (لَا) أَي لَيْسَ بنسخ (لمنع الْإِجْمَاع على أَحدهمَا) بِعَيْنِه: يَعْنِي ثُبُوت هَذَا النّسخ مَوْقُوف على صِحَة انْعِقَاد الْإِجْمَاع على أحد ذَيْنك الْقَوْلَيْنِ بِعَيْنِه وَهِي مَمْنُوعَة (لِأَنَّهُ) أَي انْعِقَاد الْإِجْمَاع على أَحدهمَا بِعَيْنِه (مُخْتَلف) فِيهِ (وَلَو سلم) انْعِقَاد الْإِجْمَاع على أَحدهمَا بِعَيْنِه (ف) لَيْسَ الِارْتفَاع الْمَذْكُور نسخا للْإِجْمَاع التَّام، لِأَن تَمَامه وتقرره (مَشْرُوط بِعَدَمِ قَاطع يمنعهُ) أَي يمْنَع انْعِقَاده على وَجه اللُّزُوم (وَالْإِجْمَاع على أَحدهمَا) بِعَيْنِه (مَانع) من ذَلِك، وَفِيه نظر، لِأَن الْمُخْتَار أَنه إِذا أجمع أهل الْحل وَالْعقد على حكم فِي عصر فبمجرد انْعِقَاده صَار قَطْعِيا وَيلْزم أَن يكون تَاما وَيَكْفِي عدم الْمَانِع فِي وَقت الِانْعِقَاد فَتدبر

(3/207)


(وَأما الثَّانِي) وَهُوَ أَن الْإِجْمَاع لَا ينْسَخ بِهِ غَيره (فالأكثر على مَنعه) أَي منع أَن ينْسَخ بِهِ غَيره (خلافًا لِابْنِ أبان وَبَعض الْمُعْتَزلَة لنا أَن) كَانَ الْإِجْمَاع (عَن نَص) من كتاب أَو سنة (فَهُوَ) أَي النَّص (النَّاسِخ) وَلما كَانَ مَا زعم الْمُجِيز نسخ الْإِجْمَاع لَهُ أَعم مِمَّا يجوز نسخه وَالنَّص لَا ينْسَخ إِلَّا مَا يجوز نسخه فسره بقوله (يَعْنِي لما بِحَيْثُ ينْسَخ) إِشَارَة إِلَى أَن مَا بِحَيْثُ لَا ينْسَخ فَهُوَ بمعزل عَن مَظَنَّة النّسخ مُطلقًا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْإِجْمَاع عَن نَص (فَالْأول) أَي الحكم الَّذِي زعم الْمُجِيز أَنه مَنْسُوخ بِالْإِجْمَاع مُطلقًا (أَن) كَانَ (قَطْعِيا لزم خطا الثَّانِي) وَهُوَ الْإِجْمَاع الَّذِي ظن أَن كَونه نَاسِخا (لِأَنَّهُ) أَي الثَّانِي حِينَئِذٍ (على خلاف) النَّص (الْقَاطِع) وكل مَا هَذَا شَأْنه خطأ (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن قَطْعِيا بل ظنيا (فالإجماع) المنعقد (على خِلَافه) أَي الظني الْمَذْكُور (أظهر أَنه لَيْسَ دَلِيلا) لِأَن شَرط الِاحْتِجَاج بالظني أَن لَا يكون على خلاف الْقطعِي (فَلَا حكم) ثَابت لَهُ (فَلَا رفع) لِأَنَّهُ فرع الثُّبُوت (و) يرد (عَلَيْهِ) أَي على هَذَا الِاسْتِدْلَال (منع خطأ) حَيْثُ قَالَ أَن قَطْعِيا لزم خطأ (الثَّانِي لِأَنَّهُ) أَي الثَّانِي (قَطْعِيّ مُتَأَخّر عَن قَطْعِيّ) مُتَقَدم، والناسخ لَا يَسْتَدْعِي خطأ الْمَنْسُوخ، وَإِلَّا امْتنع النّسخ مُطلقًا، وَقد مر غير مرّة (وَإِن) كَانَ الحكم ناشئا (عَن ظَنِّي) كَمَا هُوَ التَّقْدِير الثَّانِي (فيرفعه) الثَّانِي، لِأَن الْقَاطِع يرفع مَا دونه (كالكتاب للْكتاب) أَي كنسخ قَطْعِيّ الدّلَالَة مِنْهُ وظنيتها مِنْهُ (وَإِذن فللخصم منع الْأَخير) وَهُوَ أَن الْإِجْمَاع أظهر إِلَى آخِره (بل ينْسَخ) الثَّانِي الَّذِي هُوَ الْإِجْمَاع الْقطعِي الأول (الظني، لَا أَنه) أَي الثَّانِي (يظْهر بُطْلَانه) أَي الأول (فَالْوَجْه) فِي دَلِيل منع نسخ الْإِجْمَاع (مَا للحنفية) من أَنه (لَا مدْخل للآراء فِي معرفَة انْتِهَاء الحكم فِي علمه تَعَالَى) وَإِنَّمَا يعلم ذَلِك بِالْوَحْي وَلَا وَحي بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قَالُوا) أَي المجيزون (وَقع) نسخ الْقُرْآن بِالْإِجْمَاع (بقول عُثْمَان) لما قَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس كَيفَ تحجب الْأُم بالأخوين وَقد قَالَ تَعَالَى - {فَإِن كَانَ لَهُ إخْوَة فلأمه السُّدس} - والأخوان ليسَا إخْوَة (حجبها قَوْمك) يَا غُلَام. قَالَ ابْن الملقن رَوَاهُ الْحَاكِم وَقَالَ صَحِيح الْإِسْنَاد وَإِبْطَال حكم الْقُرْآن بِالْإِجْمَاع نسخ (وبسقوط سهم الْمُؤَلّفَة) من الزَّكَاة عِنْد الْحَنَفِيَّة وَمن وافقهم بِإِجْمَاع الصَّحَابَة فِي زمن أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ روى الطَّبَرِيّ أَن عمر رَضِي الله عَنهُ لما أَتَاهُ عُيَيْنَة بن حصن قَالَ - {الْحق من ربكُم فَمن شَاءَ فليؤمن وَمَا شَاءَ فليكفر} -: يَعْنِي الْيَوْم لَيْسَ مؤلفة من غير إِنْكَار أحد من الصَّحَابَة ذَلِك (قُلْنَا الأول) أَي الِاسْتِدْلَال بقول عُثْمَان على كَون الْإِجْمَاع نَاسِخا لِلْقُرْآنِ (يتَوَقَّف على إِفَادَة الْآيَة) أَي - {فَإِن كَانَ لَهُ إخْوَة فلأمه السُّدس} - (عدم حجب مَا لَيْسَ إخْوَة قطعا) للْأُم من الثُّلُث إِلَى السُّدس، إِذْ لَو لم يفد

(3/208)


جَازَ أَن يكون حجبهم لدَلِيل آخر (و) على (أَن الْأَخَوَيْنِ ليسَا أخوة قطعا) إِذْ لَو جَازَ كَونهمَا فِي اللُّغَة إخْوَة كَانَ معنى قَول عُثْمَان أَن قَوْمك يجعلونهما إخْوَة من حَيْثُ اللُّغَة (لَكِن الأول) أَي إِفَادَة الْآيَة عدم حجب مَا لَيْسَ إخْوَة ثَابت (بِالْمَفْهُومِ) الْمُخَالف (الْمُخْتَلف) فِي صِحَة كَونه حجَّة، وَهُوَ إِن لم يكن لَهُ إخْوَة لَا يكون لأمه السُّدس. (وَالثَّانِي) وَهُوَ أَن الْأَخَوَيْنِ ليسَا إخْوَة قطعا (فرع أَن صِيغَة الْجمع لَا تطلق على الِاثْنَيْنِ لَا) حَقِيقَة (وَلَا مجَازًا قطعا) وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن الْإِطْلَاق عَلَيْهِمَا مجَازًا لَا يُنكر (وَلَو سلم) أَن عُثْمَان أَرَادَ حجبها بِالْإِجْمَاع، كَذَا ذكره الشَّارِح وَالْوَجْه أَن الْمَعْنى وَلَو سلم تحقق مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الِاسْتِدْلَال مِمَّا ذكر (وَجب تَقْدِير نَص) قَطْعِيّ ثَبت عِنْدهم ليَكُون النّسخ بِهِ، وَإِلَّا كَانَ الْإِجْمَاع على خلاف الْقيَاس، وَهُوَ بَاطِل (وَسُقُوط الْمُؤَلّفَة من قبيل انْتِهَاء الحكم لانْتِهَاء علته المفردة) إِنَّمَا قيدها بِهِ إِذْ لَو كَانَت مُتعَدِّدَة لم يلْزم من انْتِهَاء بَعْضهَا انْتِهَاء الحكم. قَالَ الشَّارِح وَهِي الإعزاز لِلْإِسْلَامِ، وَمعنى انتهائها أَن الإعزاز كَانَ حَاصِلا فِي زمن أبي بكر دون إِعْطَاء سهمهم (وَلَيْسَ) انْتِهَاء الحكم لانْتِهَاء علته (نسخا وَلَو ادعوا) أَي المجيزون، يَعْنِي سموا (مثله) أَي كَون الْإِجْمَاع مُبينًا رفع الحكم بانتهاء مدَّته (نسخا فلفظي) أَي فَالْخِلَاف لَفْظِي (مَبْنِيّ على الِاصْطِلَاح فِي اسْتِقْلَال دَلِيله) أَي النّسخ، فَمن اشْتَرَطَهُ فِيهِ وَهُوَ الْجُمْهُور لم يَجْعَل الْإِجْمَاع نَاسِخا، فَإِن الْإِجْمَاع لَيْسَ مُسْتقِلّا بِذَاتِهِ فِي إِثْبَات الحكم، بل لَا بُد لَهُ من مُسْتَند هُوَ الدَّلِيل فِي الْحَقِيقَة، وَهُوَ كاشف عَنهُ وَإِن لم ينْقل إِلَيْنَا لَفظه، وَمن لم يشْتَرط فِيهِ جعله نَاسِخا. قَالَ شمس الْأَئِمَّة، وَأما النّسخ بِالْإِجْمَاع فقد جوزه بعض مَشَايِخنَا بطرِيق أَن الْإِجْمَاع مُوجب علم الْيَقِين كالنص فَيجوز أَن يثبت النّسخ بِهِ وَالْإِجْمَاع فِي كَونه حجَّة أقوى من الْخَبَر الْمَشْهُور، وَإِذا كَانَ يجوز النّسخ بِهِ فجوازه بِالْإِجْمَاع أولى، وَأَكْثَرهم على أَنه لَا يجوز ذَلِك، لِأَن الْإِجْمَاع عبارَة عَن اجْتِمَاع الآراء على شَيْء، وَلَا مجَال للرأي فِي معرفَة نِهَايَة الْحسن والقبح فِي الشَّيْء عِنْد الله تَعَالَى (وَصرح فَخر الْإِسْلَام بمنسوخيته) أَي الْإِجْمَاع (أَيْضا) . قَالَ الشَّارِح وَهَذَا يُفِيد أَنه مُصَرح بنسخ الْإِجْمَاع والنسخ بِهِ، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يكون قَوْله أَيْضا بِاعْتِبَار تحقق القَوْل بهما مَعًا من الْحَنَفِيَّة وَإِن لم يكن الْقَائِل بهما وَاحِدًا (قَالَ والنسخ فِي ذَلِك كُله) أَي فِي الْإِجْمَاع (بِمثلِهِ) أَي بِإِجْمَاع مثله (جَائِز حَتَّى إِذا ثَبت حكم بِإِجْمَاع فِي عصر يجوز أَن يجمع أُولَئِكَ على خِلَافه فَينْسَخ بِهِ الأول وَكَذَا فِي عصرين. وَوجه) قَول فَخر الْإِسْلَام (بِأَنَّهُ لَا يمْتَنع ظُهُور انْتِهَاء مُدَّة الحكم) الأول (بالهامه تَعَالَى للمجتهدين، وَإِن لم يكن للرأي دخل فِي معرفَة انْتِهَاء مُدَّة الحكم وزمان نسخ مَا ثَبت بِالْوَحْي) من

(3/209)


الْأَحْكَام (وَإِن انْتهى بوفاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِامْتِنَاع نسخ مَا ثَبت بِالْوَحْي بعده) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَكِن زمَان نسخ مَا ثَبت بِالْإِجْمَاع لم ينْتَه بِهِ) أَي بِمَوْتِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لبَقَاء زمَان انْعِقَاده) أَي الْإِجْمَاع وحدوثه (فَجَاز أَن يجمع على خلاف مَا أجمع عَلَيْهِ أهل الْعَصْر الأول) بِاعْتِبَار تبدل الْمصَالح (فَيظْهر بِالْإِجْمَاع الْمُتَأَخر انْتِهَاء مُدَّة حكم الْإِجْمَاع السَّابِق إِلَّا أَن شَرطه) أَي نسخ الْإِجْمَاع الاجماع (الْمُمَاثلَة) بَينهمَا فِي الْقُوَّة من غَيرهم (بعده) أَي بعد إِجْمَاعهم (بِخِلَاف مَا) أَي إِجْمَاع انْعَقَد (بعده) أَي بعد إِجْمَاع الصَّحَابَة فَإِنَّهُ ينسخه مَا بعده. (وَأَنت خَبِير بِأَن هَذَا) التَّوْجِيه (لَا يَتَأَتَّى إِلَّا على القَوْل بِجَوَاز الْإِجْمَاع لَا عَن مُسْتَند) وتجويز أَن يكون للْإِجْمَاع الأول مُسْتَند ظَنِّي ثمَّ يظْهر لأهل عصر الْمُتَأَخر مُسْتَند آخر أقوى من الأول سَيَأْتِي مَعَ جَوَابه (وَلَيْسَ) القَوْل بِهِ القَوْل (السديد، ثمَّ نَاقض) فَخر الْإِسْلَام فِي هَذَا التَّصْرِيح (قَوْله فِي) مَبْحَث (النّسخ، وَأما الْإِجْمَاع فَذكر بعض الْمُتَأَخِّرين أَنه يجوز النّسخ بِهِ، وَالصَّحِيح أَن النّسخ بِهِ) أَي بِالْإِجْمَاع (لَا يكون) لِأَن النّسخ لَا يكون (إِلَّا فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْإِجْمَاع لَيْسَ بِحجَّة فِي حَيَاته لِأَنَّهُ لَا إِجْمَاع بِدُونِ رَأْيه) لِأَنَّهُ أول الْمُجْتَهدين، وَالْإِجْمَاع اتِّفَاق كلهم، وَإِذا تحقق رَأْيه فَهُوَ الدَّلِيل لَا الْإِجْمَاع أَشَارَ إِلَى دَلِيل آخر على عدم انْعِقَاد الْإِجْمَاع فِي زَمَانه بقوله (وَالرُّجُوع إِلَيْهِ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد الْحَاجة إِلَى الْبَيَان فِيمَا لم يتَبَيَّن حكمه عِنْد أهل الْعلم (فرض، وَإِذا وجد مِنْهُ الْبَيَان فالموجب للْعلم هُوَ الْبَيَان المسموع مِنْهُ) لَا غَيره (وَإِذا صَار الْإِجْمَاع وَاجِب الْعَمَل بِهِ) بعده (لم يبْق النّسخ مَشْرُوعا) إِذا لم يصر مَشْرُوعا إِلَّا بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعند ذَلِك قد انْقَضى أَوَان النّسخ كَمَا عرفت (وَجوز أَن يُرِيد) فَخر الْإِسْلَام بِعَدَمِ النّسخ بِالْإِجْمَاع أَنه لَا ينْسَخ الْكتاب وَالسّنة بِالْإِجْمَاع، وَأما نسخ الْإِجْمَاع بِالْإِجْمَاع فَيجوز) وَالْفرق أَن الْإِجْمَاع لَا ينْعَقد بخلافهما، وَينْعَقد بِخِلَاف الْإِجْمَاع لما عرفت من تبدل الْمصَالح (وَهُوَ) أَي هَذَا الِاحْتِمَال الَّذِي جوزه (لمُجَرّد دفع المناقضة) عَن فَخر الْإِسْلَام (لَا يُقَوي اخْتِيَاره) أَي فَخر الْإِسْلَام (للضعيف) وَهُوَ أَن النّسخ يكون بِالْإِجْمَاع للْإِجْمَاع (ثمَّ هُوَ) أَي التجويز الْمَذْكُور (منَاف لقَوْله النّسخ لَا يكون إِلَّا فِي حَيَاته الخ) إِذْ الْمُتَبَادر مِنْهُ أَن مُطلق النّسخ لَا يكون إِلَّا فِيهَا (وَمَا قيل) على مَا فِي التَّلْوِيح (جَازَ وُقُوع الْإِجْمَاع الثَّانِي عَن نَص رَاجِح على مُسْتَند الْإِجْمَاع الأول وَلَا يعلم تَأَخره) أَي النَّص الرَّاجِح (عَنهُ) أَي عَن مُسْتَند الأول (كي لَا ينْسب النّسخ إِلَى) هَذَا (النَّص) الْمُتَأَخر (فَيَقَع الْإِجْمَاع الثَّانِي مُتَأَخِّرًا) عَن الْإِجْمَاع الأول (فَيكون نَاسِخا) للْأولِ. وَقَوله مَا قيل مُبْتَدأ خَبره (لم يزدْ على اشْتِرَاط تَأَخّر النَّاسِخ) وَوُجُود اشْترط (ثمَّ لَا يُفِيد)

(3/210)


تَوْجِيه نسخ الْإِجْمَاع وَيكون مُسْتَنده أقوى (لِأَنَّهُ إِذا فرض تحقق الْإِجْمَاع عَن نَص امْتنع مُخَالفَته) أَي ذَلِك الْإِجْمَاع (وَلَو ظهر نَص أرجح مِنْهُ) أَي من نَص الْإِجْمَاع الأول (لصيرورة ذَلِك الحكم) الْمجمع عَلَيْهِ (قَطْعِيا بِالْإِجْمَاع فَلَا تجوز مُخَالفَته فَلَا يتَصَوَّر الْإِجْمَاع بِخِلَافِهِ) .
مسئلة

(إِذا رجح قِيَاس مُتَأَخّر لتأخر شَرْعِيَّة حكم أَصله عَن نَص) صلَة لتأخر (على نقيض حكمه) أَي الأَصْل مُتَعَلق بِنَصّ (فِي الْفَرْع) الَّذِي عدى الْقيَاس الْمَذْكُور فِيهِ حكم الأَصْل إِلَيْهِ فقد وَقعت الْمُعَارضَة بَين هَذَا الْقيَاس وَبَين ذَلِك النَّص لاقْتِضَاء كل مِنْهُمَا نقيض الآخر. وَفِي الْحَقِيقَة الْمُعَارضَة بَين النَّص الدَّال على حكم أصل الْقيَاس وَبَين النَّص الْمَذْكُور، ورجحان الْقيَاس يسبب رجحانه على النَّص الآخر بِشَيْء من أَسبَاب التَّرْجِيح، وَجَوَاب الشَّرْط قَوْله (وَجب نسخه) أَي الْقيَاس (إِيَّاه) أَي النَّص السَّابِق، وَهَذَا الأَصْل (لمن يُجِيز تَقْدِيمه) أَي الْقيَاس (على خبر الْوَاحِد بِشُرُوطِهِ) . قَالَ الشَّارِح: أَي النّسخ وَالظَّاهِر أَن إرجاع الضَّمِير إِلَى التَّقْدِيم (دون غَيره) أَي غير من يُجِيز تَقْدِيمه على خبر الْوَاحِد. وَلما ذكر حكم الْقيَاس الرَّاجِح بِاعْتِبَار نَص حكم أَصله على النَّص الآخر ألحق بِهِ الْقيَاس المساوى بذلك الِاعْتِبَار إِيَّاه، فَقَالَ (وَكَذَا) أَي وَمثل الْقيَاس الرَّاجِح الْقيَاس (المساوى) مِثَاله نَص الشَّارِع على عدم ربوية الذّرة، ثمَّ نَص بعده على ربوية الْقَمْح وَهُوَ أصل قِيَاس ربوية الذّرة، ثمَّ نَص بعده على ربوية الْقَمْح، وَهُوَ أصل قِيَاس ربوية الذّرة على الْقَمْح فقد اقْتضى الْقيَاس الْمُتَأَخر لتأخر شَرْعِيَّة حكم أَصله فِي الذّرة وَهُوَ الربوية عَن النَّص الدَّال على عدم ربوبيتها أَن تكون الذّرة ربوية، وَنسخ حكم ذَلِك الْمُتَقَدّم (وَمَا قيل فِي نَفْيه) أَي النّسخ (فِي الظنيين) على مَا فِي أصُول ابْن الْحَاجِب لِأَنَّهُ (بَين الْقيَاس) المظنون (زَوَال شَرط الْعَمَل بِهِ وَهُوَ رجحانه) . فِي الشَّرْح العضدي: اخْتلف فِي الْقيَاس هَل يكون نَاسِخا ومنسوخا. وتفصيله أَنه إِمَّا مظنون أَو مَقْطُوع الأول لَا يكون نَاسِخا وَلَا مَنْسُوخا، أما أَنه لَا يكون نَاسِخا فَلِأَن مَا قبله إِمَّا قَطْعِيّ أَو ظَنِّي، فَإِن كَانَ قَطْعِيا لم يجز نسخه بالمظنون وَإِن كَانَ ظنيا تبين زَوَال شَرط الْعَمَل بِهِ وَهُوَ رجحانه، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ثَبت مُقَيّدا لعدم ظُهُور معَارض رَاجِح أَو مسَاوٍ، و (لَيْسَ بِشَيْء بعد فرض تَأَخره) أَي الْقيَاس عَن الظني الأول (و) بعد فرض (الحكم بِصِحَّة الحكم السَّابِق) الثَّابِت بالظني الْمَذْكُور (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْقيَاس مُتَأَخِّرًا (فَلَا نسخ) إِذْ النَّاسِخ لَا يتَصَوَّر أَن يكون مُقَارنًا هَذَا على مَا فسره الشَّارِح فَلَا وَجه أَن يُقَال أَن الْمَعْنى وَإِن لم يكن الْقيَاس الْمَذْكُور نَاسِخا لما قلت لم يبْق نسخ أصلا إِذْ يُمكن مثل هَذَا الْكَلَام

(3/211)


فِي كل نسخ (وَإِنَّمَا ذَاك) أَي نفي النّسخ (فِي الْمُعَارضَة الْمَحْضَة) بَين الظنيين من غير تَأَخّر أَحدهمَا (وَأما نسخه) أَي الْقيَاس (قِيَاسا آخر بنسخ حكم أَصله) أَي الآخر (مَعَ) وجود (عِلّة الرّفْع الثَّابِتَة فِي الْفَرْع على مَا قيل فَفِيهِ نظر عندنَا) تَفْسِيره مَا أَفَادَهُ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ فِي حَاشِيَته على الشَّرْح العضدي بقوله، وَصُورَة ذَلِك أَن ينْسَخ حكم الأَصْل بِنَصّ مُشْتَمل على عِلّة متحققة فِي الْفَرْع فَينْسَخ حكم الْفَرْع أَيْضا بِالْقِيَاسِ على الأَصْل فَيتَحَقَّق قِيَاس نَاسخ وَآخر مَنْسُوخ: مِثَاله أَن يثبت حُرْمَة الرِّبَا فِي الذّرة بِقِيَاس على الْبر مَنْصُوص الْعلَّة ثمَّ ينْسَخ حُرْمَة الرِّبَا فِي الْبر تنصيصا على عِلّة مُشْتَركَة بَينه وَبَين الذّرة، فيقاس عَلَيْهِ وترفع حُرْمَة الرِّبَا فِيهَا فَيكون نسخا للْقِيَاس بِالْقِيَاسِ أه فعلة الرّفْع الثَّابِتَة فِي الْفَرْع عبارَة عَن الْعلَّة المنصوصة فِي الْقيَاس الثَّانِي فَإِنَّهَا مَوْجُودَة على هَذَا التَّصْوِير فِي الْفَرْع الَّذِي هُوَ الذّرة، ثمَّ بَين وَجه النّظر بقوله (إِذْ لَا نجيز الْقيَاس) الْمُرَتّب (لعدم حكم) وَالْقِيَاس الثَّانِي فِي التَّصْوِير الْمَذْكُور من هَذِه الْقَبِيل (كَمَا سَيعْلَمُ) فِي المرصد الثَّانِي فِي شُرُوط الْعلَّة (وَلَا يُعلل) الحكم (النَّاسِخ) من حَيْثُ أَنه نَاسخ، وَألا يلْزم تَعديَة النّسخ إِلَى حكم آخر مشارك لَهُ فِي تِلْكَ الْعلَّة لحكم مماثل للمنسوخ عِنْد إِلْغَاء خُصُوصِيَّة النَّاسِخ والمنسوخ، وَلما كَانَ قَوْله مَعَ عِلّة الرّفْع الثَّابِتَة فِي الْفَرْع على مَا قيل بِظَاهِرِهِ مُخَالف هَذَا دَفعه بقوله (وَمَا فَرْضه الْقَائِل) الْمشَار إِلَيْهِ بقوله كَمَا قيل (لَا يكون غير بَيَان وَجه انْتِهَاء الْمصلحَة) فِي شرح حكم الأَصْل للْقِيَاس الْمَنْسُوخ فَلَا يكون تعليلا للناسخ بِأَن يبين مثلا أَن الْمصلحَة الَّتِي كَانَت منشأ حُرْمَة الرِّبَا فِي الْبر انْتَهَت وَصَارَت الْمصلحَة فِي عدم حرمته، وَالْفرق بَين الْمصلحَة وَالْعلَّة سَيَأْتِي فِي مبَاحث الْقيَاس (وَهُوَ) أَي بَيَان وَجه انْتِهَاء الْمصلحَة (مَعْلُوم فِي كل نسخ فَلَو اعْتبر ذَلِك) أَي بَيَان وَجه انتهائها وَجعل تعليلا للناسخ (كَانَ) النَّاسِخ (مُعَللا دَائِما) وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع (وَإِنَّمَا يتَصَوَّر) نسخ الْقيَاس شرعا (عندنَا بشرعية بدل) غير حكم الأَصْل (فِيهِ) أَي فِي الأَصْل (يضاد) الحكم (الأول فيستلزم) شرع ذَلِك (رفع حكمه) الأول وَحِينَئِذٍ (فقد يُقَال بِمُجَرَّد رفع حكم الأَصْل أهْدر الْجَامِع) بَين الأَصْل وَالْفرع (فيرتفع حكم الْفَرْع بِالضَّرُورَةِ وَلَا أثر للْقِيَاس فِيهِ) أَي فِي ارْتِفَاع حكم الْفَرْع، وَإِنَّمَا الْأَثر بشرعية ضد حكم الأَصْل فِيهِ المستلزم رفع حكمه الأول المستدعى إهدار الْجَامِع الْمُرَتّب عَلَيْهِ ارْتِفَاع حكم الْفَرْع (وأغنى هَذَا) الْبَيَان (عَن) وضع (مسئلتها) أَي الصُّورَة الْمَذْكُورَة (وَتَمَامه) أَي هَذَا الْبَحْث (فِي) المسئلة (الَّتِي تَلِيهَا) أَي هَذِه المسئلة، وَنقل الشَّارِح عَن الْأَبْهَرِيّ أَن مِثَال نسخ الْقيَاس بِالْقِيَاسِ اتِّفَاقًا أَن ينص الشَّارِع على خلاف حكم الْفَرْع فِي مَحل يكون قِيَاس الْفَرْع عَلَيْهِ أقوى انْتهى وَلَا يخفى عَلَيْك أَن تحقق النّسخ فِي هَذَا التَّصْوِير

(3/212)


مَوْقُوف على تَأَخّر هَذَا التَّنْصِيص عَن النَّص الدَّال على حكم الأَصْل، وعَلى كَون الحكم الثَّانِي مُخَالفا للْحكم الأول فبمجرد ذَلِك التَّنْصِيص نسخ الحكم الأول وأهدر علته وارتفع حكم الْفَرْع وَيلْزمهُ نسخ الْقيَاس فَلَا حَاجَة فِيهِ إِلَى قِيَاس آخر وَإِنَّمَا يحْتَاج إِلَى الْقيَاس الثَّانِي لإِثْبَات الحكم الْمُتَأَخر للفرع لَا لنسخ الْقيَاس الأول، وَقد يُقَال لَيْسَ مُرَاد الْأَبْهَرِيّ كَون النَّص الثَّانِي دَالا على خلاف الحكم الأول أَيْنَمَا وجد، بل على خِلَافه بِشَرْط أَن يُوجد فِي مَحَله، فمجرد هَذَا لَا ينْسَخ الحكم الأول لَا فِي الأَصْل وَلَا فِي الْفَرْع، نعم إِذا قيس الْفَرْع على مَحل النَّص الثَّانِي لزم نسخ حكمه الْحَاصِل بِالْقِيَاسِ الأول فيرتفع الْقيَاس الأول حِينَئِذٍ (وَلَا حَاجَة إِلَى تَقْسِيم الْقيَاس إِلَى قَطْعِيّ وطني) كَمَا فعله ابْن الْحَاجِب وَغَيره، وَذَلِكَ لما عرفت من حُصُول الْمَقْصُود بِمَا ذَكرْنَاهُ من غير تعرض لذَلِك التَّقْسِيم (وستعلم) فِي ذيل الْكَلَام فِي أَرْكَان الْقيَاس (أَن لَا قطع) ناشىء (عَن قِيَاس وَلَو قطع بعلته) أَي بعلة حكم أَصله (ووجودها فِي الْفَرْع لجَوَاز شَرْطِيَّة الأَصْل) إِذْ عَلَيْهِ الْعلَّة لَا تنَافِي شرطيته (أَو مانعية الْفَرْع) مِنْهُ، وَلَا يبعد أَن يُقَال قد يقوم فِي بعض الْموَاد قَاطع دَال على عدم شَرْطِيَّة الأَصْل وَعدم مانعية الْفَرْع، فَحِينَئِذٍ يصير الْقيَاس قَطْعِيا اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال علم بالاستقراء عدم وجود قَاطع كَذَلِك (وَلَو تجوز بِهِ) أَي بِالْقطعِ (عَن كَونه) أَي الْقيَاس (جليا فَفرض غير المسئلة) أَي فالمفروض غير المسئلة الَّتِي نَحن بصددها (أَن عني بِهِ) أَي بالجلي (مَفْهُوم الْمُوَافقَة) كَمَا سَيَجِيءُ فِي المسئلة الَّتِي تلِي هَذِه (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يعن بِهِ ذَلِك، بل مَا يُقَابل الْقيَاس الْخَفي (فَمَا فرضناه) فِي وضع المسئلة (عَام) ينْدَرج فِيهِ الْجَلِيّ والخفي فَهُوَ أولى لاقْتِضَائه عدم تعلق الْمَقْصُود بِخُصُوص الْجَلِيّ والخفي، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لَا يحْتَاج إِلَيْهِ) أَي إِلَى ذكر الْجَلِيّ. (قَالُوا) أَي مجيزو النّسخ بِالْقِيَاسِ نسخ الْقيَاس (تَخْصِيص) عُمُوم (الزَّمَان) أَي زمَان الحكم (بِإِخْرَاج بعضه) أَي الزَّمَان من أَن يكون الحكم مَشْرُوعا فِيهِ (فكتخصيص المُرَاد) مِمَّا يتَنَاوَلهُ لفظ الْعَام من حَيْثُ أَن كلا مِنْهُمَا إِخْرَاج بعض من مُتَعَدد، وَتَخْصِيص الْقيَاس للعام لَا نزاع فِيهِ، وَكَون أَحدهمَا فِي الْأَعْيَان وَالْآخر فِي الْأَزْمَان لَا يصلح فارقا إِذْ لَا أثر لَهُ. (الْجَواب منع الْمُلَازمَة) بَين التخصيصين (إِذْ لَا مجَال للرأي فِي الِانْتِهَاء) للْحكم فِي علم الله تَعَالَى، و (كَمَا تقدم) فِي الَّتِي قبل هَذِه (وَلَو علم) الحكم (مَنُوطًا بمصلحة علم ارتفاعها) أَي تِلْكَ الْمصلحَة (فكسهم الْمُؤَلّفَة) أَي فَهُوَ من قبيل انْتِهَاء الحكم لانْتِهَاء علته كسقوط سهم الْمُؤَلّفَة من الزَّكَاة وَلَيْسَ نسخا، وَفِي الشَّرْح العضدي الْجَواب أَنه منقوض بِالْإِجْمَاع وبالفعل وبخبر الْوَاحِد فَإِن ثَالِثهَا يخصص بِهَذَا وَلَا ينْسَخ بهَا.

(3/213)


مسئلة

(نسخ أحد الْأَمريْنِ) أَي الْحكمَيْنِ المستنبطين (من فحوى مَنْطُوق) وَمن ذَلِك الْمَنْطُوق (وَهُوَ) أَي فحواه (الدّلَالَة) أَي مُسَمّى بهَا (للحنفية) أَي عِنْدهم، وبمفهوم الْمُوَافقَة عِنْد غَيرهم، وَفِيه أَقْوَال. فِي الشَّرْح العضدي الفحوى مَفْهُوم الْمُوَافقَة وَالْأَصْل مَاله الْمَفْهُوم ونسخهما مَعًا جَائِزا اتِّفَاقًا. وَاخْتلف فِي نسخ أَحدهمَا دون الآخر: فَمنهمْ من جوزهما وَمِنْهُم من منعهما إِلَى آخِره، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (ثَالِثهَا الْمُخْتَار للآمدي وَأَتْبَاعه جَوَاز) نسخ (الْمَنْطُوق) لِأَنَّهُ: أَي الْمَنْطُوق بِدُونِ الفحوى (لَا) جَوَاز (قلبه) أَي يمْتَنع نسخ الفحوى بِدُونِ الْمَنْطُوق (لِأَنَّهُ) أَي الْمَنْطُوق كتحريم التأفيف (ملزوم) لفحواه كتحريم الضَّرْب (فَلَا ينْفَرد) الْمَنْطُوق (عَن لَازمه) فَلَا يُوجد تَحْرِيم التأفيف مَعَ عدم تَحْرِيم الضَّرْب (بِخِلَاف نسخ التأفيف فَقَط) بِأَن ينتفى تَحْرِيم التأفيف مَعَ بَقَاء تَحْرِيم الضَّرْب على حَاله فَإِنَّهُ لَا يمْتَنع (لِأَنَّهُ) أَي نسخ التأفيف (رفع للملزوم) وَانْتِفَاء الْمَلْزُوم لَا يسْتَلْزم انْتِفَاء اللَّازِم لجَوَاز أَن يكون اللَّازِم أَعم. قَالَ (المجيزون) لنسخ كل مِنْهُمَا بِدُونِ الآخر (مدلولان) متغايران بِالذَّاتِ: صَرِيح، وَغير صَرِيح (فَجَاز رفع كل دون الآخر أُجِيب) بِجَوَازِهِ (مَا لم يكن أَحدهمَا ملزوما للْآخر فَإِذا كَانَ) ملزوما للْآخر (فَمَا ذكرنَا) من أَن اللَّازِم كَمَا لَا ينتفى بِدُونِ انْتِفَاء الْمَلْزُوم والملزوم يَنْتَفِي بدن انْتِفَاء اللَّازِم قَالَ (المانعون) لنسخ شَيْء مِنْهُمَا بِدُونِ الآخر يمْتَنع نسخ (الفحوى دون الأَصْل لما قُلْتُمْ) من لُزُوم وجود الْمَلْزُوم بِدُونِ اللَّازِم (و) يمْتَنع (قلبه) أَي نسخ الأَصْل دون الفحوى (لِأَنَّهُ) أَي الفحوى (تَابع) للْأَصْل (فَلَا يثبت) الفحوى (دون الْمَتْبُوع) وَهُوَ الأَصْل (أُجِيب بِأَن التابعية) أَي تابعية الفحوى للْأَصْل إِنَّمَا هِيَ (فِي الدّلَالَة) أَي دلَالَة اللَّفْظ على الأَصْل (وَلَا ترْتَفع) الدّلَالَة إِجْمَاعًا (لَا) أَن الفحوى تَابع للْأَصْل فِي (الحكم) حدوثا وَبَقَاء حَتَّى ينتفى حكم الفحوى بِانْتِفَاء حكم الْمَنْطُوق فَإِن فهمنا تَحْرِيم الضَّرْب من فهمنا لتَحْرِيم التأفيف، لِأَن الضَّرْب إِنَّمَا يكون حَرَامًا لِأَن التأفيف حرم (وَهُوَ) أَي حكم الأَصْل هُوَ (الْمُرْتَفع) لَا دلَالَته. (وَاعْلَم أَن تَحْقِيقه أَن الفحوى) إِنَّمَا تثبت (بعلة الأَصْل متبادرة) إِلَى الْفَهم بِمُجَرَّد فهم اللُّغَة (حَتَّى تسمى قِيَاسا جليا فالتفصيل) الْمَذْكُور من تَجْوِيز نسخ الْمَنْطُوق بِدُونِ الفحوى لَا الْعَكْس (حَتَّى على اشْتِرَاط الْأَوْلَوِيَّة) أَي أَوْلَوِيَّة الْمَسْكُوت بالحكم فِي الفحوى كَمَا هُوَ قَول بَعضهم (لِأَن نسخ الأَصْل بِرَفْع اعْتِبَار قدره) أَي الأَصْل: يَعْنِي أَن الْعلَّة كلي مشكك مِقْدَار مِنْهُ فِي حِصَّة متحققة فِي الأَصْل وَمِقْدَار آخر مِنْهُ زَائِد على الأول فِي حِصَّة كائنة فِي الفحوى فنسخ

(3/214)


الأَصْل بِرَفْع اعْتِبَار ذَلِك الْمِقْدَار الْكَائِن فِي الأَصْل من الْعلَّة (وَجَاز) مَعَ رفع اعْتِبَار ذَلِك الْمِقْدَار مِنْهُ (بَقَاء الْمَفْهُوم بِقدر) من الْعلَّة (فَوْقهَا) أَي فَوق تِلْكَ الْحصَّة الَّتِي فِي الأَصْل من الْعلَّة وَنسخ الأضعف لَا يسْتَلْزم نسخ الأشد فَبَقيَ حكم الْمَفْهُوم لبَقَاء علته (بِخِلَاف الْقلب) أَي نسخ الفحوى دون الأَصْل فَإِنَّهُ لَا يجوز (إِذْ لَا يتَصَوَّر إهدار الأشد فِي التَّحْرِيم) كالضرب (وَاعْتِبَار مَا دونه) أَي مَا دون الأشد كالتأفيف (فِيهِ) أَي فِي التَّحْرِيم حَتَّى يجوز نسخ حُرْمَة الضَّرْب وَلَا ينْسَخ حُرْمَة التأفيف وَلَا يخفى أَن هَذَا التَّعْلِيل إِنَّمَا يجْرِي فيهمَا إِذا كَانَ حكم الْمَنْطُوق تَحْرِيم فعل قَبِيح فِي الْجُمْلَة وَحكم الفحوى تَحْرِيم فعل أقبح مِنْهُ، وَأما إِذا كَانَا إيجابين والمفروض أَن الفحوى أولى بالحكم فيفهم تَعْلِيله بالمقايسة فَيُقَال: لَا يتَصَوَّر إهدار مَا فِيهِ الْحسن على الْوَجْه الْأَكْمَل وَاعْتِبَار مَا دونه فِي الْحسن فَتدبر. وَلما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال وَهُوَ أَن يُقَال مَا ذكرته منقوض بِنَحْوِ اقتله وَلَا تهنه أجَاب عَنهُ بقوله (وَنَحْو اقتله وَلَا تهنه) إِنَّمَا جَازَ مَعَ أَن الْقَتْل أَشد من الإهانة (لعرف صير الإهانة فَوق الْقَتْل أَذَى، وَتقدم) فِي التَّقْسِيم الأول من الْفَصْل الثَّانِي فِي الدّلَالَة (أَن الْحَنَفِيَّة وَكَثِيرًا من الشَّافِعِيَّة أَن لَا يشْتَرط) فِي مَفْهُوم الْمُوَافقَة (سوى التبادر) أَي تبادر حكم الْمَذْكُور للمسكوت بِمُجَرَّد فهم اللُّغَة سَوَاء (اتَّحد كمية المناط) للْحكم (فيهمَا) أَي الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم بِأَن تَسَاويا فِي مِقْدَاره (أَو تفَاوت) المناط فيهمَا كمية بِكَوْنِهِ فِي الْمَسْكُوت أَشد (فيلزمهم) أَي الْحَنَفِيَّة وَمن وافقهم (التَّفْصِيل الْمَذْكُور) من جَوَاز نسخ الْمَنْطُوق فَقَط لَا عَكسه (فِي الأولى) أَي فِيمَا إِذا كَانَ الْمَسْكُوت أولى من الحكم الْمَذْكُور فِي الْمَنْع (وَالْمَنْع) عَن جَوَاز نسخ أحد الْأَمريْنِ دون الآخر (فيهمَا) أَي فِي نسخ الْمَنْطُوق بِدُونِ الْمَفْهُوم وَعَكسه (فِي الْمُسَاوَاة) فِي المناط (فَلَو نسخ إِيجَاب الْكَفَّارَة للجماع لَا نتفى) إِيجَابهَا (للْأَكْل) وَفِي بعض النّسخ لَا يبْقى للْأَكْل، وَالْمعْنَى وَاحِد (ومبناه) أَي مبْنى هَذَا الْكَلَام (على) الْمَذْهَب (الْمُخْتَار من أَن نسخ حكم الأَصْل لَا يبْقى مَعَه حكم الْفَرْع) لَا على الأَصْل الَّذِي هُوَ مبحثنا، إِذْ النَّص إِنَّمَا ورد فِي إِيجَاب الْكَفَّارَة للجماع، وَلَيْسَ إِيجَابهَا للْأَكْل بِمَفْهُوم الْمُوَافقَة، إِذْ لَيْسَ مِمَّا يثبت بعلة الأَصْل متبادرة إِلَى الْفَهم بِمُجَرَّد فهم اللُّغَة سَوَاء شرطنا فِيهِ أَوْلَوِيَّة الْمَسْكُوت أَولا، أما على الأول فَظَاهر لِأَن إِيجَابهَا للجماع أولى، وَأما على الثَّانِي فلعدم اتِّحَاد كمية المناط فيهمَا، وَفِيه نظر، فَالْوَجْه أَن يُقَال فلعدم التبادر إِلَى الْفَهم بِمُجَرَّد فهم اللُّغَة (وَكَونه) أَي عدم بَقَاء حكم الْفَرْع (يُسمى نسخا أَولا) نزاع (لَفْظِي) إِذْ حَقِيقَة النّسخ وَهُوَ الرّفْع متحققة بِلَا شُبْهَة فَمَا يبْقى النزاع إِلَّا فِي التَّسْمِيَة (أَو سَهْو الْمُخَالف) الَّذِي سَمَّاهُ نسخا إِذْ لَا نسخ حَقِيقَة، وَإِنَّمَا هُوَ من زَوَال الحكم لزوَال علته، مَعْطُوف على لَفْظِي، وَحَاصِله أَن أحد الْأَمريْنِ لَازم: أما سَهْو الْمُخَالف

(3/215)


إِن كَانَ من قبيل سُقُوط سهم الْمُؤَلّفَة، وَأما النزاع لَفْظِي إِن لم يَجْعَل من قبيله (لنا نسخه) أَي حكم الأَصْل (بِرَفْع اعْتِبَار كل عِلّة لَهُ) أَي لحكم الأَصْل (وَبهَا) أَي وبعلة الأَصْل (ثَبت حكم الْفَرْع فينتفى) بانتفائها (فَقَوْل المبقين) أَيْضا هَذَا أَي الحكم لحكم (الْفَرْع للدلالة لَا للْحكم) أَي لحكم الأَصْل (وَلَا يلْزمه) أَي كَونه تَابعا لدلَالَة الأَصْل (انتفاؤه) أَي انْتِفَاء حكم الْفَرْع (لانتفائه) أَي حكم الأَصْل (وَقَوْلهمْ هَذَا) أَي الحكم بِأَن حكم الْفَرْع لَا يبْقى مَعَ نسخ حكم الأَصْل (حكم يرفع حكم الْفَرْع قِيَاسا على رفع حكم الأَصْل وَهُوَ) أَي هَذَا الْقيَاس (بِلَا جَامع) بَينهمَا مُوجب للرفع (بعد عَظِيم) كَمَا هُوَ ظَاهر مِمَّا تقدم.
مسئلة

مَذْهَب الْحَنَفِيَّة والحنابلة وَاخْتَارَهُ ابْن الْحَاجِب وَغَيره أَنه (لَا يثبت حكم النَّاسِخ) فِي حق الْأمة (بعد تبليغه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) من إِضَافَة الْمصدر إِلَى الْمَفْعُول، فالمبلغ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام (قبل تبليغه) من الْإِضَافَة إِلَى الْفَاعِل فالمبلغ (هُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وتأكيد الْمَجْرُور بالمرفوع بِاعْتِبَار كَونه فَاعِلا معنى على أَنه يجوز فِي الضمائر وضع الْمَرْفُوع مَوضِع الْمَجْرُور والمنصوب وَنَحْوه، وَقيل يثبت، وَالْخلاف فِيمَا نزل إِلَى الأَرْض، وَأما إِذا بلغ جِبْرِيل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي السَّمَاء كَمَا فِي لَيْلَة الْمِعْرَاج فَلَا خلاف فِيهِ (لِأَنَّهُ) أَي ثُبُوته (يُوجب تَحْرِيم شَيْء ووجوبه فِي وَقت) وَاحِد، إِذْ وجوب الْمَنْسُوخ بَاقٍ على الْمُكَلف قبل بُلُوغ النّسخ فِي صُورَة تقدم الْوُجُوب، وتحريمه بَاقٍ عَلَيْهِ فِي سُورَة التَّحْرِيم (لِأَنَّهُ لَو ترك الْمَنْسُوخ قبل تمكنه من علمه) بالناسخ (أَثم) بِالْإِجْمَاع إِنَّمَا قَالَ قبل تمكنه من الْعلم وَلم يقل قبل علمه إِشَارَة إِلَى أَنه لَو ترك قبل الْعلم بعد التَّمَكُّن مِنْهُ لأثم بالتقصير فِي تَحْصِيله (وَهُوَ) أَي الْإِثْم على تَقْدِير التّرْك (لَازم الْوُجُوب) فَكَانَ الْعَمَل بِهِ وَاجِبا (وَالْفَرْض أَنه) أَي الْعَمَل بِهِ (حرَام) بالناسخ فَكَانَ وَاجِبا حَرَامًا فِي وَقت وَاحِد (وَلِأَنَّهُ لَو علمه) أَي مُوجب النّسخ (غير مُعْتَقد شرعيته لعدم علمه) بِكَوْنِهِ نَاسِخا للْأولِ (أَثم) بِعِلْمِهِ اتِّفَاقًا (فَلم يثبت حكمه) أَي النَّاسِخ وَهَذَا التَّعْلِيل مَعْطُوف على التَّعْلِيل الأول لَا الثَّانِي، لِأَنَّهُ يثبت عدم ثُبُوت حكم النَّاسِخ لَا اجْتِمَاع التَّحْرِيم وَالْوُجُوب (وَأَيْضًا لَو ثَبت) حكمه (قبله) أَي قبل تبليغه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْأمة (ثَبت) حكمه (قبل تَبْلِيغ جِبْرِيل) النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لاتحادهما) أَي الصُّورَتَيْنِ (فِي وجود النَّاسِخ) فِي نفس الْأَمر (الْمُوجب لحكمه) أَي النَّاسِخ (مَعَ عدم تمكن الْمُكَلف من علمه) أَي النَّاسِخ (وَقد يُقَال) على الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلين (الْإِثْم) إِنَّمَا هُوَ (لقصد الْمُخَالفَة) للمشروع عِنْده (مَعَ

(3/216)


الِاعْتِقَاد) للمخالفة (فيهمَا) أَي الْوَجْهَيْنِ (لَا لنَفس الْفِعْل) كَمَا فِي من وطئ امْرَأَته يَظُنهَا أَجْنَبِيَّة فَإِنَّهُ لَا يَأْثَم بِالْوَطْءِ بل بالجراءة عَلَيْهِ (وَلَا نؤثمه) بترك الْعَمَل بالناسخ (قبل تمكن الْعلم) بالناسخ لعدم لُزُوم الِامْتِثَال قبل التَّمَكُّن: يَعْنِي لم لَا يجوز أَن يكون حكم النَّاسِخ ثَابتا فِي نفس الْأَمر وَيكون إِثْم التّرْك لما ذكر، لَا لِأَنَّهُ لَو ترك مَا هُوَ الْوَاجِب عَلَيْهِ: أَي الْمَنْسُوخ، وإثم الْفِعْل أَيْضا لذَلِك لَا لِأَنَّهُ فعل الْمحرم، ثمَّ أَشَارَ إِلَى فَائِدَة اعْتِبَار ثُبُوت الحكم الْمَذْكُور مَعَ عدم التأثيم بِالتّرْكِ بقوله (إِنَّمَا يُوجب) بِاعْتِبَار ثُبُوت حكمه (التَّدَارُك) بِالْقضَاءِ فِيمَا يُمكن التَّدَارُك (كَمَا لَو لم يعلم بِدُخُول الْوَقْت) الَّذِي عين للموقت كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْم (وَخُرُوجه) فَإِن الشَّرْع يعْتَبر الْوُجُوب بِدُخُولِهِ مَعَ عدم إِمْكَان الْأَدَاء لمصْلحَة الْقَضَاء إِذا علم فِيمَا بعد أَنه فَاتَهُ الْأَدَاء، ثمَّ أَشَارَ إِلَى جَوَاب النَّقْض بقوله أَيْضا الخ فَقَالَ (وَالْفرق) بَين مَا قبل تَبْلِيغ جِبْرِيل وَمَا بعده (أَن مَا قبل تَبْلِيغ جِبْرِيل) هِيَ حَالَة للناسخ (قبل التَّعَلُّق) أَي قبل تعلقه بِفعل الْمُكَلف (أَن شَرطه) أَي شَرط تعلقه بِفِعْلِهِ (أَن يبلغ وَاحِدًا) من الْمُكَلّفين، وَلم يُوجد إِذْ ذَاك، بِخِلَاف مَا بعد التَّبْلِيغ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ مِنْهُم، فبمجرد بُلُوغه حصل الشَّرْط، وَأَيْضًا لَا يتَمَكَّن غَيره من الْعلم إِلَّا بعد الْبلُوغ إِذْ لَا يُمكن تلقيهم من جِبْرِيل (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بِثُبُوت حكم النَّاسِخ فِي حكم الْأمة إِذا بلغ النَّبِي قبل أَن يبلغ الْأمة (حكم تجدّد) تعلقه وَظهر (فَلَا يعْتَبر الْعلم بِهِ) أَي لَا يتَوَقَّف ثُبُوته فِي حق الْأمة على وَاحِد مِنْهُم (للاتفاق على عدم اعْتِبَاره) أَي الْعلم بِهِ (فِيمَن لم يُعلمهُ) من الْأمة (بعد بُلُوغه وَاحِدًا) مِنْهُم فِي ثُبُوت الحكم عَلَيْهِ، فَكَذَا هَذَا فَثَبت فِي حق الْأمة إِذا بلغ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن لم يبلغهم (قُلْنَا بِبُلُوغِهِ وَاحِدًا حصل التَّمَكُّن) من الْعلم (وَلذَا) أَي ولحصول التَّمَكُّن ببلوغ الْوَاحِد (شرطناه) أَي بُلُوغ الْوَاحِد فِي تعلق الحكم فِي حق الْجَمِيع (بِخِلَاف مَا قبله) أَي قبل بُلُوغ الْعلم وَاحِد من الْأمة (فَافْتَرقَا) أَي صُورَة بُلُوغ الْعلم وَاحِدًا من الْأمة، وَصُورَة عَدمه، وَفِيه أَن الِاشْتِرَاط للتمكن من الْعلم، وَهُوَ حَاصِل ببلوغ الْعلم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ فِي الأَرْض، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَقد يُقَال النَّبِي) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (ذَلِك) الْوَاحِد (فبه) أَي بِبُلُوغِهِ (يحصل التَّمَكُّن) لَهُم من الْعلم بِهِ، وَلما أورد على دَلِيل مَا ذهب إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّة مَا أَفَادَهُ بقوله، وَقد يُقَال إِلَى آخِره قَالَ (فَالْوَجْه) فِي الِاسْتِدْلَال لنفي ثُبُوت حكم النَّاسِخ بعد تبليغه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل تبليغه هُوَ (السّمع) وَهُوَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقف فِي حجَّة الْوَدَاع، فَقَالَ رجل يَا رَسُول الله لم أشعر فحلقت قبل أَن أذبح قَالَ " اذْبَحْ وَلَا حرج " فساقه إِلَى أَن قَالَ فسائل يَوْمئِذٍ عَن شَيْء قدم وَلَا أخر إِلَّا قَالَ (افْعَل وَلَا حرج) بِنَاء (على) قَول (أبي حنيفَة) بِوُجُوب التَّرْتِيب بَين تِلْكَ الْمَنَاسِك حَتَّى يجب

(3/217)


بالإخلال بِهِ الدَّم بِمَا عَن ابْن عَبَّاس من قدم شَيْئا فِي حجه أَو أَخّرهُ فليهرق دَمًا فَإِن ظَاهر الحَدِيث أَنه إِنَّمَا سقط الدَّم لعدم الْعلم، فَعلم أَن عدم الْعلم يسْتَلْزم عدم تعلق الْوُجُوب وَعدم ثُبُوت الحكم فِي حَقهم، وَلَكِن قَول الحنقية عذرهمْ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك الْجَهْل، لِأَن الْحَال كَانَ فِي ابْتِدَاء أَمر الْحَج قبل أَن تتقرر مَنَاسِكه يدل على ثُبُوت الحكم فِي حَقهم: غير أَنهم عذروا لما ذكر فَتَأمل، وَأما وَاقعَة أهل قبَاء وإتيان خبر نسخ الْقبْلَة إيَّاهُم وهم فِي الصَّلَاة واستدارتهم إِلَى الْكَعْبَة من غير أَن يستأنفوا فتدل على عدم وجوب استقبالها فِي حَقهم قبل الْعلم. قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَن هَذِه المسئلة مُلْحقَة بالمجتهد: يَعْنِي لَيست بقطعية.
مسئلة

(إِذا زَاد) الشَّارِع (فِي مَشْرُوع جُزْءا أَو شرطا لَهُ) حَال كَون ذَلِك الْمَزِيد (مُتَأَخِّرًا) عَن الْمَزِيد عَلَيْهِ بِزَمَان يَصح القَوْل بالنسخ فِيهِ (هُوَ) أَي الْمَزِيد (فعل) للمكلف (أَو وصف) لَهُ (كركعة فِي الْفجْر) مِثَال للْفِعْل فَرضِي إِذْ لم يشرع فِي المكتوبات رَكْعَة وَاحِدَة بل ورد فِي الْخَبَر الصَّحِيح أَنَّهَا شرعت ابْتِدَاء رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فالمفروض أَن تزاد فَتَصِير ثَلَاثَة (والتغريب فِي الْحَد) مِثَال آخر للْفِعْل، وَكِلَاهُمَا من أَمْثَال الْجُزْء (وَالطَّهَارَة فِي الطّواف) فعل وَشرط (وَوصف الْإِيمَان فِي الرَّقَبَة) وَهَذِه الْجُمْلَة مُعْتَرضَة بَين الشَّرْط وَالْجَزَاء، وَهُوَ (فَهَل هُوَ) أَي الْمَزِيد (نسخ) للمزيد عَلَيْهِ أم لَا (فالشافعية والحنابلة) وَجمع من الْمُعْتَزلَة كالجبائي وَأبي هَاشم وَأكْثر الأشعرية (لَا) يكون نسخا (وَقيل إِن رفعت) الزِّيَادَة حكما شَرْعِيًّا كَانَت نسخا وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا للْقَاضِي وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ وَاسْتَحْسنهُ الإِمَام الرَّازِيّ وَاخْتَارَهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ والآمدي وَابْن الْحَاجِب (بِنَاء على أَنَّهَا) أَي الزِّيَادَة (قد) ترفع حكما شَرْعِيًّا (وَقد) لَا ترفعه. وَفِي التَّلْوِيح نقلا عَن صَاحب التفتيح أَن هَذَا كَلَام خَال عَن التَّحْصِيل لِأَن كل وَاحِد يعلم ذَلِك. وَإِنَّمَا الْكَلَام فِي أَي صُورَة تَقْتَضِي رفع حكم شَرْعِي وَأي صُورَة لَا تَقْتَضِيه. (وَالْحَنَفِيَّة) قَالُوا (نعم) هِيَ نسخ (لِأَنَّهَا ترفع حكما شَرْعِيًّا) قَالَ السُّبْكِيّ، وَاخْتَارَهُ بعض أَصْحَابنَا وَادّعى أَنه مَذْهَب الشَّافِعِي (أما رفع مَفْهُوم الْمُخَالفَة) إِضَافَة الرّفْع إِلَى الْمَفْهُوم إِضَافَة إِلَى الْمَفْعُول (كفى المعلوفة) زَكَاة (بعد) قَوْلنَا فِي (السَّائِمَة) زَكَاة، فَإِن مَفْهُوم هَذَا أَن لَا يكون فِي المعلوفة زَكَاة فقولنا فِي المعلوفة زَكَاة بعد هَذَا يرفع عدم وجوب الزَّكَاة الْمُسْتَفَاد بمفهومها (فنسبته) أَي رفع مَفْهُوم الْمُخَالفَة (إِلَى الْحَنَفِيَّة) كَمَا فِي الشَّرْح العضدي (غلط إِذْ ينفونه) أَي الْحَنَفِيَّة مَفْهُوم الْمُخَالفَة ونسخه فرع وجوده، قيل والاعتذار أَن يُقَال مَعْنَاهُ أَنه لَو قَالُوا بِمَفْهُوم الْمُخَالفَة كَانَ نسخه رفعا عِنْدهم

(3/218)


وَلَا يخفى مَا فِيهِ (وَإِذا لزم) الزِّيَادَة (الرّفْع) والنسخ للمزيد عَلَيْهِ (عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة (امْتنع) اعْتِبَار الزِّيَادَة (بِخَبَر الْوَاحِد على الْقَاطِع) أَي على مَا ثَبت بِهِ لأَنهم لَا يجوزون نسخ مَا ثَبت بالقطعي بالظني (فمنعوا) أَي الْحَنَفِيَّة (زِيَادَة الطَّهَارَة) فِي الطّواف (وَالْإِيمَان) فِي كَفَّارَة الظِّهَار وَالْيَمِين (والتغريب) فِي حد الزِّنَا بِخَبَر الْوَاحِد فِي الأول كَمَا تقدم فِي المسئلة الَّتِي يَليهَا بَاب السّنة، وَفِي الْأَخير كَمَا تقدم فِي مسئلة حمل الصَّحَابِيّ مرويه الْمُشْتَرك الخ، وبالقياس على كَفَّارَة الْقَتْل فِي الثَّانِي (على مَا سلف) أَي الطّواف والرقبة وَالْحَد (إِذْ يرفع) الظني فِي هَذِه الصُّورَة أحكاما: يَعْنِي (حُرْمَة الزِّيَادَة فِي الْحَد والأجزاء بِلَا طَهَارَة) فِي الطّواف (و) الْأَجْزَاء بِلَا (إِيمَان) فِي تَحْرِير الرَّقَبَة فِي الكفارتين (وإباحته) أَي كل من الطّواف والتحرير (كَذَلِك) أَي بِلَا طَهَارَة فِي الأول وَبلا إِيمَان فِي الثَّانِي (وَهُوَ) أَي كل من الْحُرْمَة والأجزاء وَالْإِبَاحَة (حكم شَرْعِي هُوَ مُقْتَضى إِطْلَاق النَّص) أَي - {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} - وتحرير رَقَبَة - وَآيَة الْجلد (فَهُوَ) أَي كل مِنْهَا ثَابت (بِدَلِيل شَرْعِي) هُوَ النَّص (وعمومات تَحْرِيم الْأَذَى) كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا ضَرَر وَلَا ضرار " وَقد ذكر أَبُو دَاوُد أَنه من الْأَحَادِيث الَّتِي يَدُور الْفِقْه عَلَيْهَا، وَقَوله وعمومات مَعْطُوف على إِطْلَاق النَّص، وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى زِيَادَة التَّغْرِيب على الْحَد. (وَعبد الْجَبَّار) قَالَ الزِّيَادَة (إِن غيرته) أَي الْمَزِيد عَلَيْهِ تغييرا شَرْعِيًّا (حَتَّى لَو فعل) الْمَزِيد عَلَيْهِ بعد الزِّيَادَة كَمَا كَانَ يفعل قبلهَا (وَجب استئنافه كزيادة رَكْعَة فِي الْفجْر أَو) كَانَ (تخييره) أَي الْمُكَلف (بَين) خِصَال (ثَلَاث) كأعتق أَو صم أَو أطْعم (بعده) أَي تخييره (فِي ثِنْتَيْنِ) مِنْهَا كأعتق أَو صم فَقَوله أَو تخييره بِتَقْدِير كَانَ مَعْطُوف على مَدْخُول أَن وجوابهما مَحْذُوف: أَي فَهِيَ نسخ، وَالْأول ظَاهر، وَالثَّانِي (لرفع حُرْمَة تَركهمَا) أَي الخصلتين الأولتين مَعًا مَعَ فعل الثَّالِثَة بعد أَن كَانَ تَركهمَا محرما (بِخِلَاف زِيَادَة التَّغْرِيب على الْحَد وَعشْرين على الثَّمَانِينَ) فَإِنَّهَا لَيست نسخا عِنْده لِأَن وجود الْمَزِيد عَلَيْهِ بِدُونِ الزِّيَادَة لَيْسَ كَالْعدمِ، وَلَا يجب فِيهِ اسْتِئْنَاف الْمَزِيد عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يجب ضمهَا إِلَى الْمَزِيد عَلَيْهِ (وَغلط فِيهِ) أَي فِي هَذَا الْأَخير (بَعضهم) أَي ابْن الْحَاجِب حَيْثُ جعل وجود الْمَزِيد فِيهِ بِدُونِهَا كَالْعدمِ وَأَن الزِّيَادَة فِيهِ نسخ قَالَ السُّبْكِيّ: وَمَا يُقَال شَرط الضربات أَن تكون مُتَوَالِيَة فَلَو أَتَى بِثَمَانِينَ مُنْفَصِلَة من عشْرين لم يكن ضم الْعشْرين إِلَيْهَا تكلّف مَحْض، ثمَّ إِنَّه قد يجلد فِي يَوْم ثَمَانِينَ، وَفِي الْيَوْم الَّذِي يَلِيهِ عشْرين وَذَلِكَ يجزى، قَالَه الْأَصْحَاب إِنَّمَا الْمُمْتَنع تَفْرِقَة لَا يحصل بهَا إيلام وتنكيل وزجر كَمَا إِذا ضربه فِي كل يَوْم سَوْطًا أَو سوطين، وَعَن الْكَرْخِي وَأبي عبد الله الْبَصْرِيّ أَن زِيَادَة مثل وجوب ستر شَيْء من الرّكْبَة بعد وجوب ستر الْفَخْذ لَا يكون نسخا لوُجُوب ستر كل الْفَخْذ وَهُوَ لَا يتَصَوَّر

(3/219)


بِدُونِ ستر الْبَعْض بل يقرره انْتهى وَفِيه تَأمل (وَالأَصَح فِي زِيَادَة صَلَاة) على الْخمس لَو وَقعت (عَدمه) أَي النّسخ وَهُوَ قَول الْجُمْهُور (وَقيل نسخ) وَنسب إِلَى بعض مَشَايِخنَا الْعِرَاقِيّين (لوُجُوب الْمُحَافظَة على الْوُسْطَى) الْمُسْتَفَاد من قَوْله تَعَالَى - {حَافظُوا على الصَّلَوَات وَالصَّلَاة الْوُسْطَى} - إِذْ الزِّيَادَة تخرجها عَن كَونهَا وسطى (وَالْجَوَاب) أَن الزِّيَادَة (لَا تبطل وجوب مَا كَانَ مُسَمّى الْوُسْطَى صَادِقا عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا بَطل كَونهَا وسطى) لِأَن مَعْنَاهَا الْمُتَوَسّط بَين الصَّلَوَات فَلَو زيدت عَلَيْهَا صلاتان لَا تبطل الْوُسْطَى إِلَّا إِذا كَانَت اسْما لصَلَاة مَخْصُوصَة وَاعْتبر لَهَا مُبْتَدأ مَخْصُوص أما الصُّبْح أَو الْعَصْر أَو غَيرهمَا على اخْتِلَاف الْأَقْوَال (وَلَيْسَ) كَونهَا وسطى (حكما شَرْعِيًّا) بل أَمر حَقِيقِيّ فَلَا يكون رَفعه نسخا (وَأما نقص جُزْء) من الْمَشْرُوع (أَو) نقص (شَرط) (فنسخ اتِّفَاقًا لحكمه) أَي حكم ذَلِك الْجُزْء أَو الشَّرْط (ثمَّ قيل هُوَ نسخ لما) هُوَ جُزْء (مِنْهُ) أَو شَرط لَهُ. وَفِي الشَّرْح العضدي. وَأما النُّقْصَان فِيهَا وَهُوَ أَن ينقص جُزْء أَو شَرط مثل أَن يسْقط من الظّهْر رَكْعَتَانِ أَو يبطل اشْتِرَاط الطَّهَارَة فِيهِ فَهُوَ نسخ للجزء وللشرط اتِّفَاقًا وَهل هُوَ نسخ لتِلْك الْعِبَادَة؟ الْمُخْتَار أَنه لَيْسَ بنسخ لَهَا، وَقيل نسخ، وَقَالَ عبد الْجَبَّار: إِن كَانَ جُزْءا فنسخ وَإِن كَانَ شرطا فَلَا انْتهى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَعبد الْجَبَّار أَن) كَانَ (جُزْءا لنا لَو كَانَ) نقص بعض الرَّكْعَات مثلا (نسخا لوُجُوب الرَّكْعَات الْبَاقِيَة افْتَقَرت) الرَّكْعَات الْبَاقِيَة (إِلَى دَلِيل آخر لَهُ) أَي للْوُجُوب، لِأَن ارْتِفَاع الحكم مسلتزم لارْتِفَاع دَلِيله وَالْإِجْمَاع على عدم افتقارها إِلَى دَلِيل ثَان وَكَذَا الْكَلَام فِي الشَّرْط (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بِأَن نُقْصَان الْجُزْء أَو الشَّرْط نسخ للمشروع (حرمت) الصَّلَاة (بِلَا شَرطهَا) الَّذِي هُوَ الطَّهَارَة مثلا (و) حرمت بِدُونِ (بَاقِيهَا) الَّذِي هُوَ جزؤها السَّاقِط (وَارْتَفَعت حرمته) أَي الْمَشْرُوع الَّذِي هُوَ الصَّلَاة مثلا (بِنَقص الشَّرْط) والجزء (وَإِذن فَلَا معنى لتفصيل عبد الْجَبَّار) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي ارْتِفَاع تَحْرِيم الْمَشْرُوع بدونهما بعد أَن كَانَ محرما (أُجِيب بِأَن وجوب الْبَاقِي) بعد النَّقْص (عين وُجُوبه الأول وَلم يَتَجَدَّد وجوب بل) إِنَّمَا يَتَجَدَّد (إبِْطَال وجوب مَا نقص، فَظهر أَن حكمهم) أَي الْقَائِلين بِأَن نقص الْجُزْء وَالشّرط نسخ للمشروع (بِهِ) أَي بنسخ الْمَشْرُوع إِنَّمَا هُوَ (لرفع حُرْمَة لَهَا) أَي لتِلْك الْحُرْمَة (نِسْبَة) أَي تعلق (بِالْبَاقِي) بعد النَّقْص. وَفِي نُسْخَة للْبَاقِي: أَي إِلَيْهِ (على تَقْدِير) الْبَاقِي (الِاقْتِصَار) على مَا سوى الْجُزْء وَالشّرط المنسوخين قبل وُرُود النُّقْصَان (وَعِنْدنَا هُوَ) أَي نسخ الْمَشْرُوع النَّاقِص جزؤه أَو شَرطه إِنَّمَا يكون (بِرَفْع الْوُجُوب) أَي وجوب الْمَشْرُوع الْمَذْكُور (لِأَنَّهُ) أَي الْوُجُوب هُوَ (الحكم) الثَّابِت لذَلِك الْمَشْرُوع (الْآن) أَي فِي حَال طرُو النَّقْص من حَيْثُ الْجُزْء أَو الشَّرْط (وَذَاكَ) أَي الْحُرْمَة الْمُتَعَلّقَة بِالْبَاقِي على تَقْدِير الِاقْتِصَار

(3/220)


على مَا ذكر (كالمضاف) أَي كَالْحكمِ الْمُضَاف علته إِلَى وَقت مُسْتَقْبل كَمَا إِذا قَالَ فِي رَجَب أجرت الدَّار من غرَّة رَمَضَان يثبت الحكم من غرَّة رَمَضَان فالحرمة الْمَذْكُورَة لَيست بثابتة الْآن بل على التَّقْدِير الْمَذْكُور، وَالْمُعْتَبر فِي النّسخ رفع حكم ثَابت أَن تحقق النَّاسِخ، هَذَا. وَجعل الشَّارِح ضمير هُوَ لنُقْصَان الْجُزْء وَالشّرط، وَفسّر الْوُجُوب بوجوبهما لِأَنَّهُ يرفع وجوبهما الْآن بِمَا بعد النُّقْصَان، فَالْمَعْنى حِينَئِذٍ وَعِنْدنَا نُقْصَان الْجُزْء وَالشّرط يرفع وجوبهما، لِأَن رفع وجوبهما هُوَ الحكم بعد النُّقْصَان، وَهَذَا كَمَا ترى لَا مُحَصل لَهُ وَلَا مُقَابلَة بَين هَذَا وَبَين مَضْمُون مَا ظهر من حكمهم بالنسخ لرفع الْحُرْمَة الْمَذْكُورَة، على أَن ارْتِفَاع حكم الْجُزْء وَالشّرط مِمَّا لَا نزاع فِيهِ (وَقيل) وَالْقَائِل الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ (الْخلاف) إِنَّمَا هُوَ (فِي) نسخ (الْعِبَادَة) الَّتِي نقص جزؤها أَو شَرطهَا (وَهِي الْمَجْمُوع) من الْأَجْزَاء (لَا مُجَرّد الْبَاقِي) مِنْهَا فالنزاع فِي نسخهَا بِمَعْنى ارْتِفَاع وجوب جَمِيع أَجْزَائِهَا (وَلَا شكّ فِي ارْتِفَاع وجوب الْأَرْبَع) بارتفاع وجوب رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا (واتجه) بتحرير مَحل النزاع على هَذَا الْوَجْه (تَفْصِيل عبد الْجَبَّار) بَين الْجُزْء وَالشّرط وَلذَا قَالَ الْمُحَقق وَيَنْبَغِي أَن يكون هَذَا مُرَاد القَاضِي عبد الْجَبَّار (وَلَا شكّ فِي صدق ذَلِك) أَي ارْتِفَاع وجوب الْأَرْبَع (بِصدق كل من نسخ وجوب أَحدهَا) أَي أحد أَجْزَائِهَا (أَو) نسخ (وجوب كل) أَي كل جُزْء (مِنْهَا وَالثَّانِي) أَي نسخ وجوب كل جُزْء مِنْهَا (مَمْنُوع وَالْأول) أَي نسخ وجوب أحد أَجْزَائِهَا (مرادنا فَفِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا نسخ وجوب) جُزْء (وَاحِد دون الْبَاقِي وَإِن كَانَ يصدق ذَلِك) أَي ارْتِفَاع وجوب الْأَرْبَع (بِهِ) أَي بنسخ وجوب جُزْء مِنْهَا (فبمَا فِي التَّحْقِيق اعتبارنا) أَي فَثَبت بِالْوَجْهِ الثَّابِت فِي التَّحْقِيق على مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ بقولنَا فَفِي الْحَقِيقَة إِلَى آخِره اعتبارنا: يَعْنِي الْجُمْهُور، وَمِنْهُم الْحَنَفِيَّة (ولبعضهم هُنَا خبط) فَائِدَة هَذَا الْكَلَام الْأَشْعَار بِأَن الْمحل مزلقة الْأَقْدَام يحْتَاج إِلَى مزِيد التَّأَمُّل، قَالَ السُّبْكِيّ وَقد يُقَال إِن قُلْنَا أَن الْعِبَادَة مركبة من السّنَن والفرائض كَانَ القَوْل بِأَن نُقْصَان السّنَن نسخ لَهَا كالقول فِي نُقْصَان الْجُزْء، وصنيع الْفُقَهَاء يدل عَلَيْهِ حَيْثُ يذكرُونَ فِي وصف الصَّلَاة سننها انْتهى، وَالْأَمر فِيهِ سهل لِأَنَّهُ إِن أُرِيد بنسخها نسخهَا بِاعْتِبَار تِلْكَ الصّفة فَلَا نزاع فِيهِ، وَإِن أُرِيد نسخهَا بِاعْتِبَار أَرْكَانهَا وفرائضها فَلَا وَجه لَهُ.
مسئلة

(يعرف النَّاسِخ بنصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) على كَونه نَاسِخا (وَضبط تَأَخره) أَي وَيعرف بضبط تَأَخّر النَّاسِخ عَن الْمَنْسُوخ (وَمِنْه) أَي من ضبط تَأَخره مَا فِي صَحِيح مُسلم

(3/221)


(كنت نَهَيْتُكُمْ) عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها: الحَدِيث فَإِن تَأَخّر زوروها مَنْصُوص فضبط بِهَذَا الطَّرِيق (وَالْإِجْمَاع على أَنه نَاسخ) مَعْطُوف على نَصه (أما) الحكم بِأَن هَذَا نَاسخ (بقول الصَّحَابِيّ هَذَا نَاسخ فَوَاجِب عِنْد الْحَنَفِيَّة لَا الشَّافِعِيَّة) قَالُوا لَا يجب (لجَوَاز اجْتِهَاده) أَي لجَوَاز أَن يكون حكمه بالنسخ عَن اجْتِهَاده وَلَا يجب على الْمُجْتَهد اتِّبَاع اجْتِهَاده (وَتقدم) فِي مسئلة حمل الصَّحَابِيّ مرويه الْمُشْتَرك وَنَحْوه على أحد مَا يحْتَملهُ (مَا يفِيدهُ) أَي وجوب قبُوله كَمَا هُوَ قَول الْحَنَفِيَّة (وَفِي تعَارض متواترين) إِذا عين الصَّحَابِيّ أَحدهمَا (فَقَالَ هَذَا نَاسخ لَهُم) أَي الشَّافِعِيَّة (احْتِمَال النَّفْي) لقبُول كَونه النَّاسِخ (لرجوعه) أَي قبُول كَونه نَاسِخا (إِلَى نسخ الْمُتَوَاتر بالآحاد) أَي قَول الصَّحَابِيّ (و) نسخ الْمُتَوَاتر (بِهِ) أَي بالمتواتر (والآحاد دَلِيله) أَي دَلِيل كَونه نَاسِخا، يَعْنِي أحد الْأَمريْنِ لَازم إِذْ مُجَرّد التَّعَارُض بَين المتواترين لَا يسْتَلْزم نسخ أَحدهمَا للْآخر، وَلَو سلم لم يتَعَيَّن أَحدهمَا بِعَيْنِه أَن يكون نَاسِخا إِلَّا بقوله فإمَّا ينْسب النّسخ إِلَيْهِ نظرا إِلَى إِنَّه الْوَاجِب لعلمنا بالنسخ، وَإِمَّا ينْسب إِلَى الْمُتَوَاتر لِأَنَّهُ الْمعَارض الْمُتَأَخر، وَدَلِيل تَأَخره قَوْله والآحاد كَمَا لَا يصلح نَاسِخا للمتواتر لَا يصلح دَلِيلا للنسخ لَهُ (وَالْقَبُول) مَعْطُوف على النَّفْي أَي وَلَهُم احْتِمَال الْقبُول (إِذْ مَا لَا يقبل) على صِيغَة الْمَجْهُول (ابْتِدَاء قد يقبل مَآلًا كشاهدي الاحصان) فَإِن شَهَادَة الِاثْنَيْنِ فِي حق الرَّجْم لَا تقبل ابْتِدَاء، بل لَا بُد من الْأَرْبَعَة ليشهدوا بِالزِّنَا ابْتِدَاء، ثمَّ أَن الرَّجْم مَشْرُوط بِكَوْن الزَّانِي مُحصنا، فَفِي إِثْبَات الاحصان تقبل شَهَادَتهمَا فقد قبل شَهَادَتهمَا فِي الرَّجْم مَآلًا، وَشَهَادَة النِّسَاء فِي الْولادَة مَقْبُولَة مَعَ أَنه يَتَرَتَّب عَلَيْهِ النّسَب، وَلَا تقبل فِي النّسَب إِلَى غير ذَلِك (فَوَجَبَ الْوَقْف) لتساوي احتمالي النَّفْي وَالْقَبُول وَعدم مَا يرجح أَحدهمَا (فَإِن) كَانَ الْوَقْف (عَن الحكم بالنسخ فكالأول) أَي فَلَا وَجه لَهُ إِذْ هُوَ كَالْأولِ، وَهُوَ قَوْله هَذَا نَاسخ فِي غير المتواترين، وَقد عرفت أَنه لَا وقف هُنَاكَ بل هُوَ نَاسخ عِنْد الْحَنَفِيَّة غير نَاسخ عِنْد الشَّافِعِيَّة (وَإِن) كَانَ (عَن التَّرْجِيح) لأحد المتواترين (فَلَيْسَ) التَّرْجِيح (لَازِما) للمتعارضين ليلزم من عَدمه إلغاؤهما مَعًا (بل) اللَّازِم (أحد الْأَمريْنِ مِنْهُ) أَي التَّرْجِيح (وَمن الْجمع) بَينهمَا إِذا أمكن. هَذَا، وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ وَغَيره لَو قَالَ هَذَا الحَدِيث سَابق قبل إِذْ لَا مدْخل للِاجْتِهَاد فِيهِ، وَالضَّابِط أَن لَا يكون نَاقِلا فَيُطَالب بالحجاج، وَأما إِذا كَانَ نَاقِلا فَتقبل ثمَّ هِيَ الطّرق الصَّحِيحَة فِي معرفَة النَّاسِخ (بِخِلَاف بعديته) أَي أحد النصين عَن الآخر (فِي الْمُصحف) فيستدل بهَا على بعديته فِي النُّزُول (و) بِخِلَاف (حَدَاثَة سنّ الصَّحَابِيّ) الرَّاوِي لأحد النصين (فتتأخر صحبته) أَي فيستدل بحداثة سنه على تَأَخّر صحبته (فمرويه) أَي فيستدل بحداثة سنه بتأخر صحبته على تَأَخّر مرويه (و) بِخِلَاف (تَأَخّر إِسْلَامه)

(3/222)


فيستدل بِهِ على تَأَخّر مروية (لجَوَاز قلبه) أَي جَوَاز أَن يكون الْوَاقِع عكس هَذِه الصُّورَة فَإِن تَرْتِيب الْمُصحف لَيْسَ على تَرْتِيب النُّزُول، وَكم من صَحَابِيّ حَدِيث السن رِوَايَته مُتَقَدّمَة على رِوَايَة كَبِير السن، وَهَكَذَا فِي الْمُتَأَخر إِسْلَامه (وَكَذَا) لَيْسَ من الطّرق الصَّحِيحَة لتعيين النَّاسِخ (مُوَافَقَته) أَي أحد النصين (للبراءة الْأَصْلِيَّة تدل على تَأَخره) عَن الْمُخَالف لَهَا (لفائدة رفع الْمُخَالف) يَعْنِي على تَقْدِير تقدمه لَا يُفِيد إِلَّا مَا أَفَادَهُ الْأَصْلِيّ وَهُوَ لَيْسَ بفائدة جَدِيدَة. وَفِي الشَّرْح العضدي وَمِنْهَا مُوَافَقَته لحكم الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة فَيدل على تَأَخره من جِهَة أَنه لَو تقدم لم يفد إِلَّا مَا علم بِالْأَصْلِ فيعرى عَن الْفَائِدَة، وَإِذا تَأَخّر أَفَادَ الآخر رفع حكم الأَصْل وَهَذَا رفع حكم الأول. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ هَهُنَا بَيَان لكيفية الِاسْتِدْلَال وَلم يبين ضعفه لظُهُوره بِنَاء على أَنه لَا يزِيد على قَول الصَّحَابِيّ واجتهاده مَعَ أَن الْعلم يكون مَا علم بِالْأَصْلِ ثَابتا عِنْد الشَّرْع حكما من أَحْكَامه فَائِدَة جليلة، وَالشَّارِح الْعَلامَة عكس فَتوهم أَن مُوَافقَة الأَصْل تجْعَل دَلِيل التَّقَدُّم والمنسوخية انْتهى، فقد علم بذلك أَنه على تَقْدِير تَأَخّر الْمُوَافق يحصل لكل من النصين فَائِدَة جليلة، وعَلى تقدمه لَا تحصل الْفَائِدَة الجديدة إِلَّا لمخالف البراة الْأَصْلِيَّة، غير أَن الْمُحَقق أَفَادَ أَنه على تقدمه أَيْضا فَائِدَة جَدِيدَة وَقد عرفت (بِخِلَاف الْقلب) بِأَن يَجْعَل الْمُوَافق مُتَقَدما على الْمُخَالف وَقد بَيناهُ بِمَا لَا مزِيد عَلَيْهِ ثمَّ تعقب الْمُحَقق بقوله (فَإِن حَاصله نسخ اجتهادي كَقَوْل الصَّحَابِيّ) هَذَا نَاسخ (اجْتِهَادًا) على أَنه يُمكن أَن يُعَارض بِأَن تَأَخّر الْمُوَافق يسْتَلْزم تغييرين وتقدمه لَا يسْتَلْزم إِلَّا تغييرا وَاحِدًا وَالْأَصْل قلَّة التَّغْيِير. (وَمَا قيل مَعَ أَن الْعلم بِكَوْن مَا علم بِالْأَصْلِ ثَابتا عِنْد الشَّرْع حكما من أَحْكَامه فَائِدَة جَدِيدَة) وَهَذَا مقول القَوْل، وَخبر مَا قيل (مُتَوَقف على تَسْمِيَة الشَّارِع رَفعه) أَي رفع حكم الأَصْل (نسخا، وَهُوَ) أَي كَون رَفعه يُسمى نسخا شرعا (مُنْتَفٍ بل الثَّابِت) شرعا (حِينَئِذٍ) أَي حِين رفع الْمُخَالف للبراءة الْأَصْلِيَّة حكم الْمُوَافق لَهَا (رَفعه) أَي رفع حكم الأَصْل (وَلَا يسْتَلْزم) رَفعه (ذَلِك) أَي كَونه نسخا (كرفع الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة) فَإِنَّهُ لَا يُسمى نسخا وَإِن كَانَ رفعا هَذَا، وَالَّذِي يظْهر أَن الحكم الْمُوَافق للبراءة الْأَصْلِيَّة الْمُسْتَفَاد من نَص الشَّارِع لَا شكّ فِي كَونه حكما شَرْعِيًّا وَلَو لم يكن قبل إِفَادَة النَّص إِيَّاه حكما شَرْعِيًّا عِنْد الْجُمْهُور لكَونه بِمَنْزِلَة الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة وَإِذا ثَبت كَونه شَرْعِيًّا لَا شُبْهَة فِي كَون رَفعه نسخا إِذْ لم يعْتَبر فِي مَفْهُوم النّسخ إِلَّا رفع الحكم الشَّرْعِيّ، وَالله تَعَالَى أعلم (وَمَا للحنفية فِي مثله) أَي فِي مثل مَا نَحن فِيهِ (فِي) بَاب (التَّعَارُض) بَين الْمحرم والمبيح (تَرْجِيح الْمُخَالف) أَي أحد النصين المتعارضين الَّذِي هُوَ مُخَالف لما هُوَ الأَصْل (حكما بتأخره) بَيَان لكيفية التَّرْجِيح أَي بِأَن يحكموا بِتَأْخِير الْمُخَالف حكما (كي لَا يتَكَرَّر النّسخ) إِن اعْتبر الْمُخَالف مقدما لِأَنَّهُ يلْزم

(3/223)


حِينَئِذٍ كَون الْمُقدم نَاسِخا للْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة ثمَّ نسخ هَذَا النَّاسِخ، وَلما كَانَ رفع الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة لَيْسَ بنسخ فِي التَّحْقِيق فسر النّسخ بقوله (أَي الرّفْع أَو) النّسخ مَحْمُولا (على حَقِيقَته بِنَاء على مَا سلف عَن الطَّائِفَة) من الْحَنَفِيَّة الْقَائِلين بِأَن رفع الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة نسخ (فَلَا يجب الْوَقْف) عَن الْعَمَل بِأحد النصين (غير أَنه) أَي الْمُخَالف لما هُوَ الأَصْل (مُرَجّح) على الْبناء للْمَفْعُول (لَا نَاسخ) على القَوْل الْمُخْتَار.