تيسير التحرير الْبَاب الرَّابِع فِي الْإِجْمَاع
(الْإِجْمَاع الْعَزْم والاتفاق لُغَة) على كَذَا، يَعْنِي
تَارَة يُرَاد بِهِ الْعَزْم فَيُقَال فلَان أجمع على كَذَا
إِذا عزم عَلَيْهِ، وَتارَة يُرَاد بِهِ الِاتِّفَاق فَيُقَال
أجمع الْقَوْم على كَذَا: أَي اتَّفقُوا، وَالثَّانِي
بِالْمَعْنَى الاصطلاحي أنسب. وَعَن الْغَزالِيّ أَنه مُشْتَرك
لَفْظِي، وَقيل أَن الْمَعْنى الْأَصْلِيّ لَهُ الْعَزْم،
والاتفاق لَازم ضَرُورِيّ إِذا وَقع من جمَاعَة. (وَاصْطِلَاحا
اتِّفَاق مجتهدي عصر من أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
على أَمر شَرْعِي) إِضَافَة مجتهدي عصر استغراقية فتفيد
اتِّفَاق جَمِيعهم كَمَا هُوَ قَول الْجُمْهُور، فَلَا يصدق
التَّعْرِيف على قَول مُجْتَهد مُنْفَرد فِي عصره بِأَمْر
شَرْعِي، وَعلم بذلك أَن لَا عِبْرَة بمخالفة غير الْمُجْتَهد:
كَمَا لَا عِبْرَة بِاتِّفَاق غير الْمُجْتَهدين. قيل عدم
اعْتِبَار الْعَاميّ فِي الْإِجْمَاع بالِاتِّفَاقِ، وَقيل
القَاضِي أَبُو بكر يعْتَبر اتفاقه، وَالْمرَاد الْإِجْمَاع
الْخَاص الَّذِي هُوَ أحد أَدِلَّة الْأَحْكَام، وَقد يُطلق
الْإِجْمَاع وَيُرَاد بِهِ مَا يعم الْكل كالإجماع على
أُمَّهَات الشَّرَائِع كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَتَحْرِيم
الرِّبَا وَهُوَ خَارج المبحث، وَإِنَّمَا لم يعْتَبر قَول
الْعَاميّ لِأَنَّهُ بِغَيْر دَلِيل فَلَا يعْتد بِهِ مَعَ
أَنه لَو اعْتبر قَول الْعَوام لَا يتَحَقَّق الْإِجْمَاع لعدم
إِمْكَان ضبطهم لانتشارهم شرقا وغربا، وَأما من حصل علما
مُعْتَبرا من فقه أَو أصُول فَمنهمْ من اعْتبر اتفاقه أَيْضا،
وَالْجُمْهُور على عدم اعْتِبَاره، ويفيد التَّعْرِيف
اخْتِصَاص الْإِجْمَاع بِالْمُسْلِمين لِأَن الْإِسْلَام شَرط
لاجتهادهم فَيخرج من يكفر ببدعته، وَبِقَوْلِهِ عصر أَي زمن
طَال أَو قصر انْدفع توهم اعْتِبَار جَمِيع الْأَعْصَار إِلَى
يَوْم الْقِيَامَة، وَبِقَوْلِهِ أمة مُحَمَّد خرج إِجْمَاع
الْأُمَم السالفة، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحجَّة كَمَا نَقله فِي
اللمع عَن الْأَكْثَرين خلافًا للاسفرايني فِي جمَاعَة أَن
إِجْمَاعهم قبل نسخ مللهم حجَّة، وَالْمرَاد بِالْأَمر
الشَّرْعِيّ مَا لَا يدْرك لَوْلَا خطاب الشَّارِع سَوَاء
كَانَ قولا أَو فعلا أَو اعتقادا أَو تقريرا، وَسَيَأْتِي أَنه
حجَّة فِي بعض العقليات، خلافًا لبَعض الْحَنَفِيَّة. وَقَالَ
السُّبْكِيّ: وَيَنْبَغِي أَن يُزَاد فِي غير زمن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن الْإِجْمَاع لَا ينْعَقد فِي
زَمَانه كَمَا ذكره الْأَكْثَرُونَ لِأَن قَوْلهم لَا يَصح
دونه وَإِن كَانَ مَعَهم فالحجة
(3/224)
فِي قَوْلهم. وَقَالَ بَعضهم: ينْعَقد
وَيُؤَيِّدهُ إِسْقَاط هَذَا الْقَيْد من التَّعْرِيف
الْمَذْكُور (وعَلى) قَول (من شَرط لحجيته) أَي الْإِجْمَاع
(والتعريف لَهُ) أَي وَالْحَال أَن يفْرض التَّعْرِيف لَهُ
فَهُوَ جملَة مُعْتَرضَة بَين الْفِعْل ومفعوله أَعنِي
(انْقِرَاض عصرهم) أَي المجمعين من مجتهدي ذَلِك الْعَصْر
(زِيَادَة) قيد (إِلَى انقراضهم) بعد أَمر شَرْعِي سَوَاء
كَانَت فَائِدَة الِاشْتِرَاط جَوَاز الرُّجُوع لَا دُخُول من
سيحدث فِي إِجْمَاعهم كَمَا هُوَ قَول أَحْمد، أَو إِدْخَال من
أدْرك عصرهم من الْمُجْتَهدين كَمَا هُوَ قَول بَاقِي
المشترطين (و) على قَول (من شَرط) لحجية الْإِجْمَاع (عدم سبق
خلاف مُسْتَقر) وَهُوَ يرى جَوَاز حُصُول الْإِجْمَاع بعد
الْخلاف المستقر وَفرض التَّعْرِيف لَهُ وَقَيده بالمستقر
لِأَن غير المستقر كَالْعدمِ (زِيَادَة غير مَسْبُوق بِهِ) أَي
بِخِلَاف مُسْتَقر (وَإِذن) أَي وَإِذا عرفت طَرِيق
الزِّيَادَة فِي التَّعْرِيف عِنْد قصد جعله لمن يشْتَرط
زِيَادَة قيد (فَمن شَرط الْعَدَالَة) فِي أهل الْإِجْمَاع
كاشتراط الْإِسْلَام (و) من شَرط (عدد التَّوَاتُر) فيهم لَهُ
أَن يزِيد فِي التَّعْرِيف (مثله) أَي مَا ذكر فَزَاد للْأولِ
عدُول بعد مجتهدي عصر، وَللثَّانِي لَا يتَصَوَّر تواطؤهم على
الْكَذِب بعد عدُول إِن اتَّحد الشارط فيهمَا والإمكان عدُول.
قَالَ الشَّارِح الأول للحنفية وموافقيهم، وَالثَّانِي لبَعض
الْأُصُولِيِّينَ مِنْهُم إِمَام الْحَرَمَيْنِ (وَقَول
الْغَزالِيّ) فِي تَعْرِيفه (اتِّفَاق أمة مُحَمَّد على أَمر
ديني معترض بِلُزُوم عدم تصَوره) أَي وجوده لِأَن أمته كل
الْمُسلمين من بعثته إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَقبل
الْقِيَامَة لَا إِجْمَاع وَبعدهَا لَا حجية (و) بِلُزُوم
فَسَاد طرده) لَو أُرِيد بِهِ تنزلا اتِّفَاقهم فِي عصر مَا
(أَن) اتَّفقُوا على أَمر ديني (لم يكن فيهم مُجْتَهد)
فَإِنَّهُ لَيْسَ بِإِجْمَاع والتعريف يصدق عَلَيْهِ فَلَا
يكون مطردا (وَأجِيب بسبق إِرَادَة الْمُجْتَهدين فِي عصر
للمتشرعة) من اتِّفَاق أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
والمتبادر إِلَى الأذهان كالمصرح بِهِ (كَمَا سبق) هَذَا
المُرَاد (من) الْمَرْوِيّ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا
تَجْتَمِع أمتِي على ضَلَالَة) كَمَا سَيَجِيءُ بَيَانه (و)
بِفساد (عَكسه لَو اتَّفقُوا على عَقْلِي أَو عرفي) لوُجُود
الْمُعَرّف وَعدم صدق التَّعْرِيف. (أُجِيب) بِأَن وجود
الْمُعَرّف فِي كل مِنْهُمَا (لَا يضر) بالتعريف (إِذا كَانَ)
كل مِنْهُمَا (دينيا) لصدقه عَلَيْهِمَا (وَغَيره) أَي غير
الديني (خرج) وَلَا يضر خُرُوجه إِذْ لَا حجية فِي الْإِجْمَاع
عَلَيْهِ (وَادّعى النظام وَبَعض الشِّيعَة استحالته) أَي
الْإِجْمَاع (عَادَة) ، كَذَا ذكره ابْن الْحَاجِب وَغَيره،
وَقَالَ السُّبْكِيّ أَن هَذَا قَول بعض أَصْحَاب النظام،
وَأما رَأْيه نَفسه فَهُوَ أَنه يتَصَوَّر، لَكِن لَا حجَّة
فِيهِ، كَذَا نَقله القَاضِي وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ
وَابْن السَّمْعَانِيّ وَهِي طَريقَة الإِمَام الرَّازِيّ
وَأَتْبَاعه فِي النَّقْل عَنهُ هَكَذَا ذكره الشَّارِح
وَإِنَّمَا أَحَالهُ من أَحَالهُ (لِأَن انتشارهم) أَي
الْمُجْتَهدين فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا وقفار
الفيافى
(3/225)
وسباسبها (يمْنَع من نقل الحكم إِلَيْهِم)
عَادَة (وَلِأَن الِاتِّفَاق) على الحكم الشَّرْعِيّ (إِن)
كَانَ (عَن) دَلِيل (قَطْعِيّ أحالت الْعَادة عدم الِاطِّلَاع
عَلَيْهِ) لتوفر الدَّوَاعِي على نَقله وَشدَّة تفحصهم
وَحِينَئِذٍ فَيطلع عَلَيْهِ (فيغني) الْقطعِي (عَنهُ) أَي عَن
الْإِجْمَاع (أَو) كَانَ (عَن ظَنِّي أحالت) الْعَادة
(الِاتِّفَاق) النَّاشِئ (عَنهُ لاخْتِلَاف القرائح) أَي
الْقُوَّة المفكرة (والأنظار) ومواد الاستنباط، وإحالتها
لهَذَا (كإحالتها اتِّفَاقهم على اشتهاء طَعَام) وَاحِد.
قَالُوا (وَلَو تصور) ثُبُوته فِي نَفسه (اسْتَحَالَ ثُبُوته)
عِنْد النَّاقِل (عَنْهُم) أَي المجتمعين (لقضائها) أَي
الْعَادة (بِعَدَمِ معرفَة أهل الْمشرق وَالْمغْرب) بأعيانهم
(فضلا عَن أَقْوَالهم مَعَ خَفَاء بَعضهم) أَي الْمُجْتَهدين
عَن النَّاس لحموله) أَي لكَونه غير مَعْرُوف مُطلقًا أَو
بِالِاجْتِهَادِ (وَنَحْو أسره) فِي دَار الْحَرْب فِي مطمورة
أَو عزلته وانقطاعه عَن النَّاس بِحَيْثُ خَفِي أَثَره (وتجويز
رُجُوعه) عَن ذَلِك الْأَمر (قبل تقرره) أَي الْإِجْمَاع
عَلَيْهِ بِأَن يرجع قبل قَول الآخر بِهِ فَلَا يَجْتَمعُونَ
على قَول فِي زمَان يعْتد بِهِ وَيحكم فِيهِ بتقرر اتِّفَاقهم.
قَالُوا (وَلَو أمكن) ثُبُوته عَنْهُم عِنْد الناقلين
(اسْتَحَالَ نَقله إِلَى من يحْتَج بِهِ، وهم) أَي المحتجون
بِهِ (من بعدهمْ لذَلِك بِعَيْنِه) أَي لقَضَاء الْعَادة
بإحالة ذَلِك، فَإِن طَرِيق نَقله إِمَّا التَّوَاتُر أَو
الْآحَاد (و) اسْتَحَالَ (لُزُوم التَّوَاتُر فِي المبلغين)
يَعْنِي أَن عدد المبلغين إِن لم يبلغ حد التَّوَاتُر لَا
يُفِيد الْقطع بتحقق الْإِجْمَاع فَكَانَ التَّوَاتُر فيهم
أمرا لَازِما وَالْعَادَة تحيل لُزُومه لبعد أَن يُشَاهد أهل
التَّوَاتُر جَمِيع الْمُجْتَهدين شرقا وغربا ويسمعوا مِنْهُم
وينقلوا عَنْهُم إِلَى أهل التَّوَاتُر فِي الْعَصْر الآخر،
وَهَكَذَا طبقَة عَن طبقَة إِلَى أَن يتَّصل بِنَا وَأما
الْآحَاد فَلَا ينفع (إِذْ لَا يُفِيد الْآحَاد) الْعلم
بِوُقُوعِهِ، هَكَذَا فسر الشَّارِح هَذَا الْمحل، ثمَّ قَالَ
وَكَانَ الأولى حذف (وَالْعَادَة تحيله) أَي لُزُوم
التَّوَاتُر فِي المبلغين وَذكر عَادَة بعد المبلغين انْتهى،
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عطف قَوْله وَلُزُوم التَّوَاتُر على فَاعل
اسْتَحَالَ، وَالْوَجْه أَن يعْطف على مَدْخُول اللَّام فِي
ذَلِك، وَالْمعْنَى اسْتَحَالَ نَقله لقَضَاء الْعَادة بإحالته
وللزوم الثَّوَاب فِي المبلغين فَيكون قَوْله إِذْ لَا يُفِيد
إِلَى آخِره تعليلا للزومه، وتلخيصه اسْتَحَالَ نَقله على وَجه
يُفِيد الْعلم لِأَنَّهُ إِمَّا بطرِيق لآحاد أَو بطرِيق
التوتر، لَا سَبِيل إِلَى الأول إِذْ لَا يُفِيد الْعلم،
وانتفى لُزُوم الثَّانِي وَهُوَ التَّوَاتُر وَالْعَادَة تحيله
فِي المبلغين وَالْحَاصِل أَنه علل اسْتِحَالَة النَّقْل أَولا
بِقَضَاء الْعَادة بإحالته إِجْمَاعًا ثمَّ عللها على وَجه
التَّفْصِيل بِكَوْنِهِ منحصرا فِي الطَّرِيقَيْنِ وَإِبْطَال
كل مِنْهُمَا، غَايَة الْأَمر إِنَّه يتَمَسَّك فِي إبِْطَال
الطَّرِيق الثَّانِي بإحالة الْعَادة. (وَالْجَوَاب منع الْكل)
أَي القَوْل بِعَدَمِ ثُبُوته فِي نَفسه وَالْقَوْل بِعَدَمِ
ثُبُوته عَن المجمعين على تَقْدِير ثوبته فِي نَفسه وَالْقَوْل
بِعَدَمِ إِحَالَة الْعَادة للتواتر فِي المبلغين (مَعَ ظُهُور
الْفرق بَين الْفَتْوَى بِحكم و) بَين (اشتهاء طَعَام) وَاحِد
وَأكله
(3/226)
للْكُلّ لعدم الْجَامِع لاختلافهم فِي
الدَّوَاعِي المشتهية باخْتلَاف الأمزجة بِخِلَاف الحكم
الشَّرْعِيّ فَإِنَّهُ تَابع للدليل وَقد يكون بعض الْأَدِلَّة
بِحَيْثُ تقبله الطبائع السليمة كلهَا لوضوحه (وَمَا بعد) أَي
وَمَا بعد هَذَا الْقيَاس مَعَ الْفَارِق من المشبهتين
الْأَخِيرَتَيْنِ (تشكيك مَعَ الضَّرُورَة) أَي فِي مُقَابلَة
البديهي (إِذْ نقطع بِإِجْمَاع كل عصر) من الصَّحَابَة وهلم
جرا (على تَقْدِيم الْقَاطِع على المظنون) وَمَا ذَاك إِلَّا
بِثُبُوتِهِ عَنْهُم وَنَقله إِلَيْنَا وَلَا عِبْرَة بالتشكيك
فِي الضروريات (وَيحمل قَول أَحْمد من ادَّعَاهُ) أَي
الْإِجْمَاع (كَاذِب على استبعاد انْفِرَاد اطلَاع ناقله)
عَلَيْهِ إِذْ لَو كَانَ صَادِقا لنقله غَيره أَيْضا، كَيفَ
وَقد أخرج الْبَيْهَقِيّ عَنهُ قَالَ: أجمع النَّاس على أَن
هَذِه الْآيَة فِي الصَّلَاة: يَعْنِي إِذا قرئَ الْقُرْآن
فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا، فقد نقل الْإِجْمَاع، وَذهب ابْن
تَيْمِية والأصفهاني إِلَى أَنه أَرَادَ اجماع غير
الصَّحَابَة، أما إِجْمَاعهم فحجة مَعْلُوم تصَوره لكَون
المجمعين ثمَّة فِي قلَّة والآن فِي كَثْرَة وانتشار. قَالَ
الْأَصْفَهَانِي وَالْمنصف يعلم أَنه لَا خبر لَهُ من
الْإِجْمَاع إِلَّا مَا يجد مَكْتُوبًا فِي الْكتب، وَمن
الْبَين أَنه لَا يحصل الِاطِّلَاع عَلَيْهِ إِلَّا
بِالسَّمَاعِ مِنْهُم أَو بِنَقْل التَّوَاتُر إِلَيْنَا وَلَا
سَبِيل إِلَى ذَلِك إِلَّا فِي عصر الصَّحَابَة، وَقَالَ ابْن
الْحَاجِب: أَن مَا قَالَه إِنْكَار على فُقَهَاء
الْمُعْتَزلَة الَّذين يدعونَ إِجْمَاع النَّاس على مَا
يَقُولُونَهُ وَكَانُوا من أقل النَّاس معرفَة بأقوال
الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. وَأحمد لَا يكَاد يُوجد فِي
كَلَامه احتجاج بِإِجْمَاع بعد التَّابِعين وَبعد الْقُرُون
الثَّلَاثَة انْتهى. قَالَ أَبُو إِسْحَاق الاسفرايني نَحن
نعلم أَن مسَائِل الْإِجْمَاع أَكثر من عشْرين ألف مسئلة
(وَهُوَ) أَي الْإِجْمَاع (حجَّة قَطْعِيَّة) عِنْد الْأمة
(إِلَّا) عِنْد (من لم يعْتَمد بِهِ من بعض الْخَوَارِج
والشيعة لأَنهم) أَي الْخَوَارِج والشيعة (مَعَ فسقهم)
إِنَّمَا وجدوا (بعد الْإِجْمَاع) النَّاشِئ (عَن عدد
التَّوَاتُر من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ على حجيته) أَي
الْإِجْمَاع (وتقديمه على الْقَاطِع) وَهَذَا متوارث بالتواتر،
الشَّك فِيهِ كالشك فِي الضروريات (وَقطع مثلهم) أَي
الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ اللَّازِم من تقديمهم إِيَّاه على
الدَّلِيل الْقطعِي بِكَوْنِهِ حجَّة (عَادَة لَا يكون إِلَّا
عَن سَمْعِي قَاطع فِي ذَلِك) لِأَن تَركهم الْقَاطِع الظني
مِمَّا لَا يجوزه الْعقل السَّلِيم، فَقَوْلهم لأَنهم إِلَى
آخِره تَعْلِيل لعدم الِاعْتِذَار بالمخالفين لفسقهم
بِالْخرُوجِ عَن طَاعَة الإِمَام وَالْبَعْض للخلفاء
وَمُخَالفَة مُوجب الدَّلِيل الْقطعِي الَّذِي علم وجوده
إِجْمَاعًا لَا مُسْتَندا لِاتِّفَاق الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ على حجيته، على أَنهم إِنَّمَا وجدوا بعد
ذَلِك الإتفاق وَلَو كَانُوا موجودين فِي زَمَانه كَانَ
يتَوَهَّم عدم انْعِقَاد الْإِجْمَاع بوجودهم لكَوْنهم
مخالفين، وَقد علم بذلك أَن الْإِجْمَاع انْعَقَد على حجية
الْإِجْمَاع، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَيثبت) كَون
الْإِجْمَاع حجَّة قَطْعِيَّة (بِهِ) أَي بذلك السمعي
الْقَاطِع فِي الْحَقِيقَة (وَذَلِكَ الإتفاق) الصَّادِر من
الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ (بِلَا اعْتِبَار حجيته دَلِيله)
أَي السمعي الْمَذْكُور: يَعْنِي لَو كَانَ إِجْمَاع
الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ دَلِيلا
(3/227)
على السمعي الْمَذْكُور بِاعْتِبَار حجيته
لَكَانَ يلْزم الدّور فِي إِثْبَات حجية الْإِجْمَاع مُطلقًا
بذلك السمعي لِأَن توقف مُطلق حجية الْإِجْمَاع على ذَلِك
السمعي يسْتَلْزم توقف هَذَا الْإِجْمَاع الْخَاص على ذَلِك
السمعي، والمفروض توقف ذَلِك السمعي على حجية هَذَا
الْإِجْمَاع الْخَاص لكَونه دَلِيله، وَحَيْثُ لم يكن
الْإِجْمَاع الْخَاص بِاعْتِبَار حجيته دَلِيلا لم يكن السمعي
الْمَذْكُور مَوْقُوفا على حجيته (فَلَا دور) . وَلما كَانَ
هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال، وَهُوَ أَنه لَو كَانَ الْإِجْمَاع
الْمَذْكُور دَلِيلا على وجود دَلِيل قَاطع لأحال الْعقل
اتِّفَاق هَذَا الجم الْغَفِير لَا عَن قَطْعِيّ للُزُوم وجود
دَلِيل قَطْعِيّ فِي إِجْمَاع الفلاسفة على قدم الْعَالم دفع
ذَلِك بقوله (بِخِلَاف إِجْمَاع الفلاسفة على قدم الْعَالم
لِأَنَّهُ) أَي إِجْمَاع الفلاسفة نَاشِئ (عَن) دَلِيل
(عَقْلِي) مَحْض غير مَأْخُوذ من لوحي الإلهي والنصوص القاطعة.
وَلِأَن ذَلِك (يزاحمه) أَي الْعقل (الْوَهم) لعدم مساعدة نور
الْهِدَايَة فِي أفكارهم بِسَبَب اعتمادهم على الْعقل الْمَحْض
- {وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور} - {يهدي
الله لنوره من يَشَاء} - وَقد علم من طَرِيق السّمع أَن نور
الْهِدَايَة مَقْصُور على اتِّبَاع الْأَنْبِيَاء - {وَمَا
كُنَّا لنهتدي لَوْلَا أَن هدَانَا الله} - فالعروة الوثقى
التَّمَسُّك بِحَبل الله والتتبع لآثار الْأَنْبِيَاء
عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام (على أَن التواريخ دلّت على)
وجود (من يَقُول بحدوثه) أَي الْعَالم (مِنْهُم) الفلاسفة،
وَنقل الشَّارِح عَن المُصَنّف عِنْد قِرَاءَة هَذَا الْمحل
عَلَيْهِ قصَّة بِطُولِهَا تفِيد مَا ذكر (و) بِخِلَاف
(إِجْمَاع الْيَهُود على نفي نسخ شرعهم) بِنَاء على نَص نقلوه
(عَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، و) بِخِلَاف إِجْمَاع
(النَّصَارَى على صلب عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام لاتباع
الْآحَاد الأَصْل) أَي لاتباعهم فِي هذَيْن الافتراءين
أَخْبَار الْآحَاد من أوائلهم (لعدم تحقيقهم) إِذْ لَو حققوا
لم يجمعوا عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا موضوعان (بِخِلَاف من
ذكرنَا) من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَإِنَّهُم محققون غير
متبعين لأحد فِي ذَلِك (لأَنهم الْأُصُول) وَغَيرهم فروع لَهُم
أخذُوا الْعلم عَنْهُم، لَا يُقَال هم أَيْضا يدعونَ
التَّحْقِيق، لأَنا نقُول قد علم مَا يدل على عدم الِاعْتِمَاد
عَلَيْهِم كالتحريف وَقتل الْأَنْبِيَاء إِلَى غير ذَلِك
مِمَّا نطق بِهِ الْكتاب وَالسّنة (وَمن) الْأَدِلَّة (السمعية
آحَاد) أَي أَخْبَار آحَاد (تَوَاتر: مِنْهَا) أَي من جملَة
مضمونها قدر هُوَ (مُشْتَرك) مِنْهَا (لَا تَجْتَمِع أمتِي على
الْخَطَأ وَنَحْوه) مِمَّا يدل على خُلَاصَة مضمونه (كثير) ،
وَقَالَ الشَّارِح بِإِضَافَة مُشْتَرك إِلَى مَا بعده وجر
نَحوه بالْعَطْف على لَا تَجْتَمِع وَكثير على أَنه صفته: أَي
الْقدر الْمُشْتَرك بَين هَذَا الحَدِيث وَغَيره انْتهى، وَلَا
يخفى مَا فِيهِ وَالْقدر الْمُشْتَرك هُوَ عصمَة الْأمة عَن
الْخَطَأ، وَمِنْهَا: إِن الله لَا يجمع أمتِي أَو قَالَ أمة
مُحَمَّد على ضَلَالَة وَيَد الله مَعَ الْجَمَاعَة وَمن شَذَّ
شَذَّ إِلَى النَّار، وَمِنْهَا: أَن الله لَا يجمع هَذِه
الْأمة على ضَلَالَة أبدا، وَأَن يَد الله مَعَ الْجَمَاعَة
فاتبعوا السوَاد الْأَعْظَم، فَإِن من شَذَّ شَذَّ فِي
النَّار، رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي الْحِلْية إِلَى غير
(3/228)
ذَلِك مِمَّا لَا يَسعهُ الْمقَام، وَهَذَا
طَرِيق الْغَزالِيّ وَاسْتَحْسنهُ ابْن الْحَاجِب (وَمِنْهَا)
قَوْله تَعَالَى - {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين
لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى
ونصله جَهَنَّم} - (وَهُوَ) أَي غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ (أَعم
من الْكفْر) فَيعم مَا يُخَالف إِجْمَاعهم (جمع بَينه) أَي
اتِّبَاع غير سبيلهم (وَبَين المشاقة) للرسول صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (فِي الْوَعيد فَيحرم) اتِّبَاع غير سبيلهم،
إِذْ لَا يضم مُبَاح إِلَى حرَام فِي الْوَعيد، وَإِذا حرم
اتِّبَاع غير سبيلهم يجب اتِّبَاع سبيلهم، لِأَن ترك اتِّبَاع
سبيلهم اتِّبَاع لسبيل غَيرهم فَتَأمل (ويعترض) هَذَا
الِاسْتِدْلَال (بِأَنَّهُ إِثْبَات حجية الْإِجْمَاع بِمَا)
أَي بِشَيْء (لم تثبت حجيته) أَي ذَلِك الشَّيْء (إِلَّا بِهِ)
أَي بِالْإِجْمَاع (وَهُوَ) أَي ذَلِك الشَّيْء (الظَّاهِر)
وَهُوَ الْآيَة الْكَرِيمَة (لعدم قَطْعِيَّة) لفظ (سَبِيل
الْمُؤمنِينَ فِي خُصُوص الْمُدَّعِي) وَهُوَ مَا أجمع
عَلَيْهِ، لجَوَاز أَن يُرَاد سبيلهم فِي مُتَابعَة الرَّسُول،
أَو فِي مناصرته، أَو فِيمَا صَارُوا بِهِ مُؤمنين، وَإِذا
قَامَ الِاحْتِمَالَات كَانَ غَايَته الظُّهُور، والتمسك
بِالظَّاهِرِ إِنَّمَا ثَبت بِالْإِجْمَاع على التَّمَسُّك
بالظواهر المفيدة للظن إِذْ لولاه لوَجَبَ الْعَمَل
بِالدّلَالَةِ الْمَانِعَة من اتِّبَاع الظَّن نَحْو قَوْله
تَعَالَى - {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} - فَكَانَ
الِاسْتِدْلَال بِهِ إِثْبَاتًا للْإِجْمَاع بِمَا لم تثبت
حجيته إِلَّا بِهِ فَيصير دورا، قَالَ الشَّارِح: وأفادنا
المُصَنّف فِي الدَّرْس بِأَنَّهُ يُمكن الْجَواب عَن هَذَا
على طَريقَة أَكثر الْحَنَفِيَّة بِأَن هَذَا الِاحْتِمَال لَا
يقْدَح فِي قطعيته، فَإِن حكم الْعَام عِنْدهم ثُبُوت الحكم
فِيمَا تنَاوله قطعا ويقينا فَيتم التَّمَسُّك بِهِ من غير
احْتِيَاج إِلَى الْإِجْمَاع الْمَذْكُور انْتهى: يَعْنِي أَن
سَبِيل الْمُؤمنِينَ عَام يتَنَاوَل جَمِيع تِلْكَ
الِاحْتِمَالَات فيعمها، وَمن جُمْلَتهَا خُصُوص الْمُدَّعِي،
ثمَّ قَالَ إِلَّا أَن السُّبْكِيّ ذكر أَن الشَّافِعِي استنبط
الِاسْتِدْلَال بِهَذِهِ الْآيَة على حجية الْإِجْمَاع وَأَنه
لم يسْبق إِلَيْهِ. وَحكى أَنه تَلا الْقُرْآن ثَلَاث مَرَّات
حَتَّى استخرجه، روى ذَلِك الْبَيْهَقِيّ فِي الْمدْخل وَلم
يدع: أَعنِي الشَّافِعِي الْقطع فِيهِ انْتهى. فَإِذا ادّعى
الظَّن فَلَا إِشْكَال لَكِن الْمَطْلُوب الْقطع وَإِن ادّعى
الْقطع أشكل بقوله بظنية دلَالَة الْعَام.
وَأَنت خَبِير بِأَن هَذَا لَا يضر الْحَنَفِيَّة إِذا
احْتَجُّوا بِهِ لإِفَادَة الْقطع (وَالِاسْتِدْلَال) على حجية
الْإِجْمَاع كَمَا ذكره إِمَام الْحَرَمَيْنِ (بِأَنَّهُ) أَي
الْإِجْمَاع (يدل على) وجود دَلِيل (قَاطع فِي الحكم) الْمجمع
عَلَيْهِ (عَادَة) فحجيته قطعا بذلك الْقَاطِع (مَمْنُوع)
فَإِن مُسْتَند الْإِجْمَاع قد يكون ظنيا، نعم يمْتَنع عَادَة
اتِّفَاقهم على مظنون دق فِيهِ النّظر، لَا فِي الْقيَاس
الْجَلِيّ وَنَظِيره من أَخْبَار الْآحَاد (بِخِلَاف مَا تقدم)
من إِجْمَاع الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ على حجية الْإِجْمَاع
(فَإِنَّهُ) أَي الْقطع بِهِ (قطع كل) أَي قطع كل وَاحِد من
المجمعين بالمجمع عَلَيْهِ قبل انْعِقَاد الْإِجْمَاع وَإِن لم
يقدمهُ على الْقَاطِع (وَالْقطع هُنَا) أَي فِيمَا سوى ذَلِك
الْفَرد الْخَاص من سَائِر أَفْرَاد الْإِجْمَاع
(3/229)
يتَحَقَّق (بعده) أَي الْإِجْمَاع. قَالَ
الشَّارِح: وَهَذَا من خَواص المُصَنّف رَحمَه الله تَعَالَى
(قَالُوا) أَي المخالفون. قَالَ الله تَعَالَى - {فَإِن
تنازعتم فِي شَيْء (فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول} } فَلَا
مرجع عَن الْكتاب وَالسّنة. (الْجَواب لَو تمّ) هَذَا (لانتفى
الْقيَاس وَلَا ينفونه) أَي المخالفون الْقيَاس (فَإِن
رجعتموه) أَي الْقيَاس (إِلَى أَحدهمَا) أَي الْكتاب وَالسّنة
(لثُبُوت أَصله) أَي الْقيَاس وَهُوَ الْمَقِيس عَلَيْهِ
(بِهِ) أَي بِأَحَدِهِمَا (فَكَذَا لَا إِجْمَاع إِلَّا عَن
مُسْتَند) وَهُوَ أَحدهمَا أَو الْقيَاس الرَّاجِع إِلَى
أَحدهمَا (أَو خص) وجوب الرَّد (بِمَا) يَقع (فِيهِ) النزاع
(وَهُوَ) أَي مَا فِيهِ النزاع (ضد الْمجمع عَلَيْهِ) فَإِن
الْمجمع لَيْسَ مَحل الْخلاف، وَهَذَا (إِن لم يكن) وجوب
الرَّد (خص بالصحابة) بِقَرِينَة الْخطاب (ثمَّ) لَو سلم عدم
الِاخْتِصَاص وَهُوَ (ظَاهر لَا يُقَاوم الْقَاطِع) الَّذِي
يدل على حجية الْإِجْمَاع من الْأَدِلَّة الْمَذْكُورَة
وَغَيرهَا (وَأَيْضًا) قَالُوا (نَحْو) قَوْله تَعَالَى { (لَا
تَأْكُلُوا} أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ - وَلَا
تقتلُوا النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ} - إِلَى
غير ذَلِك مِمَّا ورد نهيا عَاما للْأمة (يُفِيد جَوَاز خطئهم)
أَي الْأمة إِذْ لَو لم يجز صُدُور تِلْكَ المنهيات على سَبِيل
الْعُمُوم لما أَفَادَ النَّهْي الْعَام إِذْ لَا يُنْهِي عَن
الْمُمْتَنع (أُجِيب بعد كَونه) أَي النَّهْي (منعا لكل) لفظ
كلي إفرادي يَكْفِي فِيهِ جَوَاز الْخَطَأ من كل فَرد على
سَبِيل الْبَدَل (لَا الْكل) أَي الْكل المجموعى كَمَا
زَعَمُوا ورتبوا عَلَيْهِ جَوَاز صُدُور المنهيات عَن جَمِيعهم
(يمْنَع استلزام النَّهْي جَوَازًا صُدُور الْمنْهِي) عَنْهُم
فِي نفس الْأَمر (بل يَكْفِي فِيهِ) أَي فِي كَون الْمنْهِي
صَحِيحا (الْإِمْكَان الذاتي) لوُقُوع الْمنْهِي (مَعَ
الِامْتِنَاع بِالْغَيْر وَمفَاده) أَي الْمنْهِي حِينَئِذٍ
(الثَّوَاب بالعزم) على ترك الْمنْهِي إِذا خطر لَهُ فعله،
وَهِي فَائِدَة عَظِيمَة.
مسئلة
(انْقِرَاض المجمعين) أَي مَوْتهمْ على مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ
(لَيْسَ شرطا لحجيته) أَي لحجية إِجْمَاعهم (عِنْد
الْمُحَقِّقين) مِنْهُم الْحَنَفِيَّة، وَنَصّ أَبُو بكر
الرَّازِيّ وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب على أَنه الصَّحِيح
وَابْن السَّمْعَانِيّ على أَنه أصح الْمذَاهب لأَصْحَاب
الشَّافِعِي فَهُوَ حجَّة بِمُجَرَّد انْعِقَاده (فَيمْتَنع
رُجُوع أحدهم) أَي المجمعين عَن ذَلِك الحكم لدلَالَة
إِجْمَاعهم على أَنه حكم الله تَعَالَى يَقِينا (و) يمْتَنع
(خلاف من حدث) من الْمُجْتَهدين بعد انْعِقَاد إِجْمَاعهم
(وَشَرطه) أَي انقراضهم (أَحْمد وَابْن فورك) وسليم الرَّازِيّ
والمعتزلة على مَا نَقله ابْن برهَان والأشعري على مَا ذكره
الْأُسْتَاذ أَبُو مَنْصُور (مُطلقًا) أَي سَوَاء كَانَ سَنَده
قِيَاسا أَو غَيره، وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ (إِن كَانَ
سَنَده قِيَاسا) لَا إِن كَانَ نصا قَاطعا، كَذَا ذكره ابْن
الْحَاجِب وَغَيره، قَالَ السُّبْكِيّ: وَهُوَ
(3/230)
وهم، فإمام الْحَرَمَيْنِ لَا يعْتَبر
إِلَّا نقرض ألبته بل يفرق بَين الْمُسْتَند إِلَى قَاطع
وَغَيره، فَلَا يشْتَرط فِيهِ تمادي زمَان (وَقيل) يشْتَرط
الانقراض (فِي السكوتي) وَهُوَ مَا كَانَ بفتوى الْبَعْض وسكوت
البَاقِينَ وَهُوَ مَذْهَب أبي إِسْحَاق الأسفرايني وَبَعض
الْمُعْتَزلَة، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، ثمَّ من المشترطين من
اشْتِرَاط انْقِرَاض جَمِيع أَهله، وَمِنْهُم من اشْترط
انْقِرَاض أَكْثَرهم فَإِن بَقِي من لَا يَقع الْعلم بِصدق
خَبره كواحد واثنين لم يعْتَبر بِبَقَائِهِ، ثمَّ قَالَ
الْغَزالِيّ قيل يَكْتَفِي بموتهم تَحت هدم دفْعَة إِذْ
الْغَرَض انْتِهَاء أعمارهم عَلَيْهِ، والمحققون لَا بُد من
انْقِضَاء مُدَّة تفِيد فَائِدَة فَإِنَّهُم قد يجمعُونَ على
رَأْي وَهُوَ معرض للتغيير، ثمَّ الْقَائِلُونَ بالاشتراط.
مِنْهُم من شَرط فِي انْعِقَاد، وَمِنْهُم فِي كَونه حجَّة.
وَاخْتلف فِي فَائِدَة هَذَا الِاشْتِرَاط، فَأَحْمَد وَمن
وَافقه جَوَاز رُجُوع المجمعين أَو بَعضهم قبل الانقراض وَلَو
أَجمعُوا فانقرضوا مصرين على مَا قَالُوا كَانَ إِجْمَاعًا
وَإِن خالفهم الْمُجْتَهد اللَّاحِق فِي زمانهم، وَذهب
الْبَاقُونَ إِلَى أَنَّهَا جَوَاز الرُّجُوع وَإِدْخَال من
أدْرك عصرهم من الْمُجْتَهدين فِي إِجْمَاعهم، ثمَّ لَا
يشْتَرط انْقِرَاض عصر الْمدْرك الْمدْخل فِي إِجْمَاعهم
وَإِلَّا لم يتم إِجْمَاع أصلا كَمَا نَقله إِمَام
الْحَرَمَيْنِ وَغَيره عَنْهُم (لنا) الْأَدِلَّة (السمعية
توجبها) أَي حجَّة الْإِجْمَاع (بِمُجَرَّدِهِ) أَي بِمُجَرَّد
اتِّفَاق مجتهدي عصر وَلَو فِي لَحْظَة، إِذْ الحجية تترتب على
نفس الْإِجْمَاع وَهُوَ عبارَة عَن الِاتِّفَاق الْمَذْكُور
فالاشتراط لَا مُوجب لَهُ، بل الْأَدِلَّة توجب خِلَافه
(قَالُوا) أَي المشترطون (يلْزم) عدم اشْتِرَاطه (منع
الْمُجْتَهد عَن الرُّجُوع) عَن ذَلِك الحكم (عِنْد ظُهُور
مُوجبه) أَي الرُّجُوع (خَبرا) كَانَ الْمُوجب (أَو غَيره)
وَاللَّازِم بَاطِل أما إِذا كَانَ خَبرا فلاستلزامه ترك
الْعَمَل بالْخبر الصَّحِيح وَأما إِذا كَانَ عَن اجْتِهَاد
فَلِأَنَّهُ لَا حجر على الْمُجْتَهد فِي الرُّجُوع عِنْد تغير
الِاجْتِهَاد اتِّفَاقًا فِي غير الْمُتَنَازع فِيهِ فَهُوَ
مُلْحق بِهِ (أُجِيب) وجود الْخَبَر مَعَ غَفلَة الْكل عَنهُ
(بعيد بعد فحصهم) عَنهُ، والذهول عَنهُ بعد الِاطِّلَاع
الْكَائِن بعد الفحص أبعد (وَلَو سلم) وجوده بعد ذَلِك
(فَكَذَا) يُقَال للمشترطين إجماعكم بعد الانقراض لَيْسَ
بِحجَّة وَإِلَّا لزم إِلْغَاء الْخَبَر الصَّحِيح إِذا اطلع
عَلَيْهِ من بعدهمْ (فَهُوَ) أَي هَذَا الْإِلْزَام (مُشْتَرك)
بَيْننَا وَبَيْنكُم فَمَا هُوَ جوابكم فَهُوَ جَوَابنَا،
وَهَذَا جَوَاب جدلي (والحل) أَي حل شبهتهم بِحَيْثُ تضمحل
(يجب ذَلِك) أَي إِلْغَاء الْخَبَر الصَّحِيح الْمُخَالف
للمجمع عَلَيْهِ تَقْدِيمًا للقاطع وَهُوَ الْإِجْمَاع على مَا
لَيْسَ بقاطع وَهُوَ الْخَبَر، وَلَا نسلم أَنه لَيْسَ بممنوع
من الرُّجُوع من اجْتِهَاده الْمجمع عَلَيْهِ (وَلذَا) أَي
التَّقْدِيم الْقَاطِع. قَالَ الشَّارِح: أَي كَون الرُّجُوع
عِنْد ظُهُور مُوجبه لَيْسَ مُطلقًا بباطل، بل فِيمَا إِذا
انْعَقَد الْإِجْمَاع عَلَيْهِ انْتهى، وسيظهر لَك مَا فِيهِ.
(قَالَ عُبَيْدَة) بِفَتْح الْعين السَّلمَانِي (لعَلي) رَضِي
الله عَنهُ (حِين رَجَعَ) عَليّ عَن عدم جَوَاز بيع أُمَّهَات
(3/231)
الْأَوْلَاد (قبله) أَي قبل انْقِرَاض
المجمعين عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ اجْتمع رَأْيِي ورأي عمر فِي
أُمَّهَات الْأَوْلَاد أَن لَا يبعن، ثمَّ رَأَيْت بعد أَن
يبعن وَيَقُول عُبَيْدَة (رَأْيك) ورأي عمر (فِي الْجَمَاعَة
أحب) إِلَيّ (من رَأْيك وَحدك) فِي الْفرْقَة فَضَحِك عَليّ
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق وَلَيْسَ
هَذَا مُخَالفَة الْإِجْمَاع (وَغَايَة الْأَمر أَن عليا رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ) كَانَ (يرى اشْتِرَاطه) أَي انْقِرَاض
الْعَصْر على أَن فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ عَن عَليّ رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ أَنه خطب على مِنْبَر الْكُوفَة فَقَالَ:
اجْتمع رَأْيِي ورأي أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر أَن لَا تبَاع
أُمَّهَات الْأَوْلَاد، وَأَنا الْآن أرى بيعهنَّ فَقَالَ لَهُ
عُبَيْدَة السَّلمَانِي: رَأْيك مَعَ الْجَمَاعَة أحب
إِلَيْنَا من رَأْيك وَحدك فَأَطْرَقَ عَليّ رَأسه ثمَّ قَالَ
اقضوا فِيهِ مَا أَنْتُم قاضون فَأَنا أكره أَن أُخَالِف
أَصْحَابِي انْتهى. الظَّاهِر أَن المُرَاد بِأَصْحَابِي
عُبَيْدَة وَمن مَعَه لَا عمر وَسَائِر الْأَصْحَاب، لِأَنَّهُ
صرح أَولا بِقصد مخالفتهم، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون رُجُوعا
عَن ذَلِك الْقَصْد (قَالُوا) أَي المشترطون (لَو لم تعْتَبر
مُخَالفَة الرَّاجِع لِأَن) القَوْل (الأول) وَفِي بعض النّسخ
الأولى: أَي الْحجَّة الأولى (كل الْأمة) بِتَقْدِير الْمُضَاف
أَي قَوْلهم (لم تعْتَبر مُخَالفَة من مَاتَ) قبل انْقِرَاض
أهل عصر (لِأَن الْبَاقِي) بعد مَوته وهم المجمعون (كل الْأمة)
وَاللَّازِم بَاطِل (أُجِيب) بِمَنْع بطلَان اللَّازِم إِذْ
(عدم اعْتِبَار) مُخَالفَة الأول (الْمَيِّت مُخْتَلف) فِيهِ،
فَمنهمْ من قَالَ لَا يعْتَبر (وعَلى) تَقْدِير (الِاعْتِبَار
الْفرق) بَين الْمُخَالف السَّابِق على الْإِجْمَاع والمخالف
الْمُتَأَخر عَنهُ (تحقق الْإِجْمَاع) أَولا بموافقته (قبل
الرُّجُوع فَامْتنعَ) مُخَالفَته بعد (وَلم يتَحَقَّق)
الْإِجْمَاع (قبل الْمَوْت) أَي قبل موت الْمُخَالف قبل
اجْتِهَاده ليمنعه عَن الْمُخَالفَة، ثمَّ القَوْل لم يمت
بِمَوْت قَائِله، لِأَن اعْتِبَار القَوْل بدليله لَا لذات
الْقَائِل، وَدَلِيل الْمَيِّت بَاقٍ بعد مَوته.
مسئلة
(أَكثر الْحَنَفِيَّة والمحققون من الشَّافِعِيَّة) كالمحاسبي
والاصطخري والقفال الْكَبِير وَالْقَاضِي أبي الطّيب وَابْن
الصّباغ وَالْإِمَام الرَّازِيّ (وَغَيرهم) كالجبائي وَابْنه
قَالُوا (لَا يشْتَرط لحجيته) أَي الْإِجْمَاع (انْتِفَاء سبق
خلاف مُسْتَقر) لغير المجمعين، واستقرار الْخلاف أَن يتَّخذ كل
من الْمُخَالفين مَا ذهب إِلَيْهِ مذهبا لَهُ، ويفتي بِهِ،
وَقيل اسْتِقْرَار الْخلاف وَهُوَ زمَان المباحثة لم يثبت
مذْهبه (وَخرج عَن أبي حنيفَة اشْتِرَاطه) أَي انْتِفَاء سبق
خلاف مُسْتَقر لغَيرهم. قَوْله خرج دون نقل دلّ على أَنه لم
يُصَرح بذلك (و) خرج (نَفْيه) أَي نفي الِاشْتِرَاط (عَن
مُحَمَّد (و) خرج (عَن أبي يُوسُف كل) من اشْتِرَاطه وَنفي
اشْتِرَاطه (من الْقَضَاء) أَي من سئلة
(3/232)
الْقَضَاء (بِبيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد
الْمُخْتَلف) فِيهِ جَوَازًا وَعدم جَوَاز (للصحابة) مُتَعَلق
بالمختلف، وَهُوَ صفة بيع الْأُمَّهَات، وَذكر الشَّارِح أَن
سَبَب الِاخْتِلَاف أَنه قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لوَرَثَة باعوا أم ولد " لَا تَبِيعُوهَا وأعتقوها
فَإِذا سَمِعْتُمْ برقائق فائتوني أعوضكم مِنْهَا ".
فَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَينهم بعد وَفَاة رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ بَعضهم: أم الْوَلَد مَمْلُوكَة
وَلَوْلَا ذَلِك لم يعوضهم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. وَقَالَ بَعضهم: بل هِيَ حرَّة أعْتقهَا رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. أخرجه الْبَيْهَقِيّ
وَالطَّبَرَانِيّ (الْمجمع للتابعين على أحد قوليهم) أَي
الصَّحَابَة فِيهِ صفة أُخْرَى للْبيع الْمَذْكُور، ثمَّ بَين
أحد الْقَوْلَيْنِ بقوله (من الْمَنْع) عَن بيعهَا (لَا ينفذ)
الْقَضَاء لصِحَّة بيعهنَّ (عِنْد مُحَمَّد) لِأَنَّهُ قَضَاء
بِخِلَاف الْإِجْمَاع لِأَن جَوَاز البيع لم يبْق اجتهاديا
بِالْإِجْمَاع فِي الْعَصْر الثَّانِي، وَمحل النَّفاذ فِي
الخلافية لَا بُد أَن يكون اجتهاديا. (وَعَن أبي حنيفَة) أَنه
(ينفذ) لِأَن الْخلاف السَّابِق منع انْعِقَاد الْإِجْمَاع
الْمُتَأَخر فَلَا ينْقض الْقَضَاء (وَلأبي يُوسُف مثلهمَا) .
ذكره السَّرخسِيّ مَعَ أبي حنيفَة وَصَاحب الْمِيزَان مَعَ
مُحَمَّد (وَالْأَظْهَر) من الرِّوَايَات كَمَا فِي الْفُصُول
الاستروشنية وَغَيرهَا (لَا ينفذ عِنْدهم) أَي الْأَئِمَّة
الثَّلَاثَة جَمِيعًا، فِي التَّقْوِيم أَن مُحَمَّدًا روى
عَنْهُم جَمِيعًا أَن الْقَضَاء بِبيع أم الْوَلَد لَا يجوز،
كَذَا ذكره الشَّارِح، وَفِيه أَن كلامنا فِي النَّفاذ لَا
الْجَوَاز، وَكم من تصرف غير جَائِز لكنه بعد الْوُقُوع ينفذ
(وَفِي الْجَامِع يتَوَقَّف) نفاذه (على إِمْضَاء قَاض آخر)
أَن إمضاه نفذ وَإِلَّا بَطل، وَلما كَانَ يَقْتَضِي قَوْله
وَالْأَظْهَر الخ عدم النَّفاذ عِنْد الْكل مُطلقًا، وَهُوَ
مُوجب عِنْدهم اشْتِرَاط انْتِفَاء سبق الْخلاف، وَمَا فِي
الْجَامِع يدل على النَّفاذ على تَقْدِير إِمْضَاء قَاض آخر،
وَبَينهمَا نوع تدافع أَرَادَ أَن يدْفع ذَلِك، فَقَالَ
(فالتخريج لهَذَا القَوْل) كَمَا فِي الْجَامِع واستنباط
الْمَعْنى الفقهي فِيهِ بِنَاء (على عَدمه) أَي اشْتِرَاط
انْتِفَاء الْخلاف السَّابِق لحجية الْإِجْمَاع اللَّاحِق
(أَن) الْإِجْمَاع (الْمَسْبُوق) بِخِلَاف مُسْتَقر (مُخْتَلف)
فِي كَونه إِجْمَاعًا، فَعِنْدَ الْأَكْثَر إِجْمَاع، وَعند
الآخرين لَيْسَ بِإِجْمَاع (فَفِيهِ) أَي فَفِي كَونه
إِجْمَاعًا (شُبْهَة) عِنْد من جعله إِجْمَاعًا، وَكَذَا لَا
يكفر جاحده وَلَا يضلل (فَكَذَا مُتَعَلّقه) أَي فَكَمَا أَن
فِي نفس هَذَا الْإِجْمَاع شُبْهَة كَذَلِك فِي مُتَعَلّقه
الَّذِي هُوَ الحكم الْمجمع عَلَيْهِ شُبْهَة (فَهُوَ) أَي
فالقضاء بذلك نَافِذ لِأَنَّهُ لَيْسَ بمخالف للْإِجْمَاع
الْقطعِي: بل للْإِجْمَاع الْمُخْتَلف فِيهِ فَكَانَ (كقضاء
فِي مُجْتَهد) فِيهِ أَي فِي حكم اخْتلف فِيهِ فَإِن قلت هُوَ
من أَفْرَاد الْقَضَاء فِي الحكم الْمُخْتَلف فِيهِ فَمَا معنى
قَوْله كقضاء فِي مُجْتَهد قلت الْمُشبه بِهِ قَضَاء لَا
شُبْهَة فِي كَون مُتَعَلّقه مُجْتَهدا فِيهِ لعدم تعلق
الْإِجْمَاع بِهِ أصلا لَا الْقطعِي وَلَا الظني فَكَانَ
مُقْتَضى ذَلِك أَن لَا يحْتَاج نفاذه إِلَى إِمْضَاء قَاض آخر
بل يكون لَازِما لكَونه قَضَاء صَادف مَحَله، لكنه لما كَانَ
حجية هَذَا الْإِجْمَاع
(3/233)
كالقطعي لقُوَّة أدلتها، وَهُوَ يسْتَلْزم
رُجْحَان عدم نَفاذ الْقَضَاء الْمُتَعَلّق بنقيض الحكم
الَّذِي هُوَ مُتَعَلق الْإِجْمَاع الْمَذْكُور صَار نفاذه
مرجوحا ضَعِيفا عِنْد من لم يشْتَرط انْتِفَاء سبق الْخلاف فِي
الْإِجْمَاع وَمثله لَا ينفذ فنفاذه مُخْتَلف فِيهِ يحْتَاج
إِلَى إِمْضَاء آخر لينفذه ويقرره بِحَيْثُ لَا يقدر على
إِبْطَاله قَاض ثَالِث. ثمَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّة
الْأَرْبَعَة: عدم جَوَاز بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد، وقضاة
الزَّمَان مَا فوض إِلَيْهِم إِلَّا الحكم بِمُوجب مَذْهَب
مقلدهم فحكمهم بِمَا يُخَالف مَذْهَبهم وَلَيْسَ عَن ولَايَة
فَلَا ينفذ (لنا) على عدم اشْتِرَاط هَذَا الشَّرْط
(الْأَدِلَّة) الْمُتَقَدّمَة (لَا تفصل) بَين مَا سبقه خلاف
وَبَين مَا لم يسْبقهُ فَيعْمل بِمُقْتَضى إِطْلَاقهَا.
(قَالُوا) أَي الشارطون (لَا ينتفى القَوْل بِمَوْت قَائِله
حَتَّى جَازَ تَقْلِيده) أَي تَقْلِيد قَائِله (وَالْعَمَل
بِهِ) أَي بقول الْمَيِّت، وَلِهَذَا يدون ويحفظ (فَكَانَ)
قَوْله (مُعْتَبرا حَال اتِّفَاق اللاحقين فَلم يَكُونُوا) أَي
اللاحقون (كل الْأمة) فَلَا إِجْمَاع (قُلْنَا جَوَاز ذَلِك)
أَي تَقْلِيد الْمَيِّت وَالْعَمَل بقوله (مُطلقًا مَمْنُوع
بل) جَوَاز ذَلِك (مَا لم يجمع على) القَوْل (الآخر)
الْمُقَابل لَهُ، أما إِذا أجمع على الآخر (فينتفى اعْتِبَاره)
أَي ذَلِك القَوْل السَّابِق لَا وجوده من الأَصْل كَمَا ينتفى
اعْتِبَار القَوْل السَّابِق، و (لَا) ينتفى (وجوده كَمَا
بالناسخ، وَبِه) أَي بِمَا ذكر من الْإِجْمَاع بِنَفْي
اعْتِبَار القَوْل الْمُقَابل للْجمع عَلَيْهِ بعد الْإِجْمَاع
فَلَا يَنْفِي وجوده من الأَصْل، وَلَا يَنْفِي أَيْضا
اعْتِبَاره قبل الْإِجْمَاع (يبطل قَوْلهم) أَي الشارطين
(يُوجب) عدم اعْتِبَار قَول الْمَيِّت الْمُخَالف (تضليل بعض
الصَّحَابَة) الْقَائِل بِخِلَاف مَا أجمع عَلَيْهِ بِالآخِرَة
وَجه الْبطلَان أَن الْإِجْمَاع اللَّاحِق لم يسْتَلْزم عدم
اعْتِبَاره قبله بل كَانَ مُعْتَبرا مَعْمُولا بِهِ غَايَة
الْأَمر أَنه ظهر بالاجماع اللَّاحِق كَونه خطأ اجتهاديا لِأَن
الْمجمع عَلَيْهِ عين حكم الله تَعَالَى قطعا وَهُوَ يسْتَلْزم
خطأ نقيضه وَلَا مَحْذُور فِي هَذَا فَإِن الْمُجْتَهد يُخطئ
ويصيب، وَمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده يجب أَن يعْمل بِهِ،
وَإِن كَانَ مخطئا فِي نفس الْأَمر وَإِنَّمَا الْمُمْتَنع خطأ
كل الْأمة (وبإجماع التَّابِعين) الْمَذْكُور (بَطل مَا) نقل
(عَن الْأَشْعَرِيّ وَأحمد وَالْغَزالِيّ وَشَيْخه) إِمَام
الْحَرَمَيْنِ (من إِحَالَة الْعَادة إِيَّاه) أَي الْإِجْمَاع
على أحد الْقَوْلَيْنِ السَّابِقين (لقضائها) أَي الْعَادة
(بالإصرار على المعتقدات) أَي الثَّبَات على أَحْكَام
شَرْعِيَّة اعتقدوها (و) خص هَذَا الْإِصْرَار (خُصُوصا من
الِاتِّبَاع) على معتقدات متبوعهم، وَجه الْبطلَان أَن
الْعَادة لَا تتَصَوَّر أَن تحيل أمرا وَاقعا فِي نفس الْأَمر
وَلَا وَجه للاحتجاج بِمَا نقل عَنْهُم (على أَنه) أَي قَضَاء
الْعَادة بِمَا ذكر على تَقْدِير تَسْلِيمه (إِنَّمَا
يسْتَلْزم ذَلِك) أَي إِحَالَة وُقُوع الْإِجْمَاع (من
الْمُخْتَلِفين) أنفسهم (لَا) إِحَالَة وُقُوعه (مِمَّن
بعدهمْ) إِذْ لَا نسلم كَون من بعدهمْ على اعْتِقَادهم،
والمسئلة مَفْرُوضَة فِي وُقُوعه مِمَّن بعدهمْ. وَأَنت خَبِير
بِأَن الشَّخْص الْوَاحِد يُنَاقض نَفسه فِي وَقْتَيْنِ
بِمُوجب اجْتِهَاده
(3/234)
(و) بَطل (مَا) نقل (عَن المجوزين)
لانعقاده وحجيته (من عدم الْوُقُوع) لما ثَبت بالأخبار
الصَّحِيحَة الْمَشْهُورَة بِالْإِجْمَاع الصَّحِيح
الْمَذْكُور (قَوْلهم) أَي الْقَائِلين بامتناع الْوُقُوع فِي
الْوُقُوع (تعَارض الإجماعين القطعيين) الأول (على تسويغ
القَوْل بِكُل) مِنْهُمَا (و) الثَّانِي (على مَنعه) أَي منع
تسويغ القَوْل بِكُل مِنْهُمَا (قُلْنَا) تعارضهما غير لَازم
إِذْ (التسويغ) أَي تسويغ القَوْل بِكُل مِنْهُمَا (مُقَيّد
بِعَدَمِ الْإِجْمَاع على أَحدهمَا) إِجْمَاعًا (وجوبا) أَي
تقييدا وَاجِبا (لأدلة الِاعْتِبَار) للْإِجْمَاع الْمَسْبُوق
بِخِلَاف مُسْتَقر كَمَا ذَكرْنَاهُ (أما إِجْمَاعهم) أَي
الْمُخْتَلِفين أنفسهم (بعد اخْتلَافهمْ) المستقر (على
أَحدهمَا فَكَذَلِك) أَي فَالْكَلَام فِيهِ كَالْكَلَامِ
فِيمَا تقدم جَوَابا واستدلالا، فَمَنعه الْآمِدِيّ مُطلقًا
لِأَن اسْتِقْرَار الْخلاف بَينهم يتَضَمَّن اتِّفَاقهم على
جَوَاز الْأَخْذ بِكُل من شقي الْخلاف بِاجْتِهَاد أَو
تَقْلِيد فَيمْتَنع اتِّفَاقهم بعد على أَحدهمَا وَجوزهُ
الإِمَام الرَّازِيّ وَنَقله إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن أَكثر
الْأُصُولِيِّينَ (وَكَونه) أَي الْإِجْمَاع (حجَّة) فِي هَذِه
الصُّورَة (أظهر) من كَونه حجَّة فِي الصُّورَة الأولى (إِذْ
لَا قَول لغَيرهم مُخَالف لَهُم) فِي المسئلة (وَقَوْلهمْ) أَي
الَّذين كَانُوا على خلاف مَا أجمع عَلَيْهِ آخرا (بعد
الرُّجُوع) إِلَى قَول البَاقِينَ (لم يبْق مُعْتَبرا فَهُوَ)
أَي مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ آخرا (اتِّفَاق كل الْأمة) بِلَا
شُبْهَة (بِخِلَاف مَا) أَي المسئلة الَّتِي (قبلهَا) أَي قبل
هَذِه المسئلة، فَإِن المجمعين فِيهَا غير الْمُخْتَلِفين فَلم
يَقع من قَائِل القَوْل الْمُخَالف للمجمع عَلَيْهِ رُجُوع من
قَوْله ليزول اعْتِبَاره فَقَوْل الْمُخَالف هُنَاكَ (يعْتَبر
فهم) أَي المجمعون فِي تِلْكَ المسئلة (كبعض الْأمة) على مَا
ذهب إِلَيْهِ المشترطون انْتِفَاء الْخلاف السَّابِق،
وَالْقَاضِي حَيْثُ قَالَ لَا يكون إِجْمَاعًا لِأَن الْمَيِّت
فِي حكم الْمَوْجُود وَالْبَاقُونَ بعض الْأمة وَأَبُو
مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ وَذكر فِي الْمُسْتَصْفى أَنه
الرَّاجِح.
مسئلة
مُعظم الْعلمَاء على مَا ذكره ابْن برهَان ذَهَبُوا إِلَى أَنه
(لَا يشْتَرط فِي حجيته) أَي الْإِجْمَاع (عدد التَّوَاتُر
لِأَن) الدَّلِيل (السمعي) لحجيته (لَا يُوجِبهُ) أَي عدد
التَّوَاتُر بل يتَنَاوَل الْأَقَل مِنْهُم لكَوْنهم كل الْأمة
(و) الدَّلِيل (الْعقلِيّ) لحجيته (وَهُوَ أَنه) أَي
الْإِجْمَاع (لَو لم يكن عَن دَلِيل قَاطع لم يحصل) أَي
الْإِجْمَاع لِأَن الْعَادة تحكم بِأَن الْكثير من الْعلمَاء
الْمُحَقِّقين لَا يَجْتَمعُونَ على الْقطع فِي شَرْعِي
بِغَيْر نَص قَاطع بَلغهُمْ فِيهِ بِوَجْه (لم يَصح) مثبتا
لاشْتِرَاط عدد التَّوَاتُر فِي حجيته. قَالَ القَاضِي، وَأما
من اسْتدلَّ بِالْعقلِ، وَهُوَ أَنه لَو لم يكن الْإِجْمَاع
عَن قَاطع لما حصل فَلَا بُد من القَوْل بِعَدَد التَّوَاتُر
انْتِفَاء حكم الْعَادة فِي غَيره ظَاهر
(3/235)
انْتهى وَهُوَ فِي حيّز الْمَنْع. قَالَ
الشَّارِح: فِي سَنَد هَذَا الْمَنْع لِأَن اشْتِرَاط عدد
التَّوَاتُر فِي انتهاض الْإِجْمَاع حجَّة قَطْعِيَّة دون
انتهاضه حجَّة ظنية (وَإِذن) أَي وَإِذ لم يشْتَرط فِي
المجمعين عدد التَّوَاتُر (لَا إِشْكَال فِي تحَققه) أَي
الْإِجْمَاع (لَو لم يكن) ذَلِك الْإِجْمَاع (لَا) اتِّفَاق
(اثْنَيْنِ) لصدق التَّعْرِيف عَلَيْهِ، وَقيل أَن أقل مَا
ينْعَقد بِهِ الْإِجْمَاع ثَلَاثَة لِأَنَّهُ مُشْتَقّ من
الْجَمَاعَة، وَأَقل الْجمع ثَلَاثَة، وَفِي كَلَام شمس
الْأَئِمَّة إِشَارَة إِلَيْهِ (فَلَو اتَّحد) الْمُجْتَهد
وانحصر فِي وَاحِد فِي عصر (فَقيل) قَوْله (حجَّة) جزم بِهِ
ابْن سُرَيج (لتضمن) الدَّلِيل (السمعي) السَّابِق فِي بَيَان
حجية الْإِجْمَاع (عدم خُرُوج الْحق عَن الْأمة) فَلَو انحصر
مُجْتَهد الْأمة فِي الْوَاحِد وَلم يكن قَوْله حَقًا لزم
خلوهم عَنهُ وَهَذَا إِنَّمَا يلْزم لولم يَتَمَسَّكُوا بقول
من سبق زَمَانه من الْمُجْتَهدين بِأَن لَا يكون لَهُم قَول
فِي المسئلة (وَقيل لَا) يكون قَوْله حجَّة (لِأَن الْمَنْفِيّ
عَنهُ الْخَطَأ الِاجْتِمَاع) الْمُسْتَفَاد من قَوْله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم
" سَأَلت رَبِّي أَن لَا تَجْتَمِع أمتِي على ضَلَالَة " إِلَى
غير ذَلِك (وسبيل الْمُؤمنِينَ) المُرَاد بِهِ الْإِجْمَاع فِي
الْآيَة الْكَرِيمَة، مَعْطُوف على الِاجْتِمَاع (وَهُوَ) أَي
كل مِنْهُمَا (مُنْتَفٍ) فِي الْوَاحِد إِذْ لَيْسَ لَهُ
اجْتِمَاع وَلَيْسَ هُوَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِطْلَاق الْأمة
على إِبْرَاهِيم مجَازًا إِذْ كَونهَا حَقِيقَة فِي
الْجَمَاعَة لَا شُبْهَة فِيهِ، فَلَو كَانَ حَقِيقَة فِي
الْوَاحِد أَيْضا لزم الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ وَالْأَصْل
عَدمه، وَكَونه للقدر الْمُشْتَرك خلاف الظَّاهِر، وَقيل هِيَ
فعلة بِمَعْنى مفعول كالنخبة والرحلة، من أمه إِذا قَصده
واقتدى بِهِ، فَالْمَعْنى كَانَ مقتدى.
مسئلة
(وَلَا) يشْتَرط (فِي حجيته) أَي الْإِجْمَاع (مَعَ
الْأَكْثَر) أَي مَعَ كَون المجمعين أَكثر مجتهدي عصر (عَدمه)
أَي عدم عدد التَّوَاتُر (فِي الْأَقَل) أَي الَّذين لم
يوافقوا الْأَكْثَر بِحَيْثُ لَو لم يكن عَدمه فِي الْأَقَل
بِأَن لم يبلغ عدد التَّوَاتُر لَا يكون اتِّفَاق الْأَكْثَر
حجَّة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم
يتَحَقَّق الْعَدَم الْمَذْكُور (فَلَا) حجية لإِجْمَاع
الْأَكْثَر فَهُوَ من تَتِمَّة المنفى وَهُوَ الِاشْتِرَاط
(ومطلقا) أَي وَلَا يشْتَرط فِي حجية إِجْمَاع الْأَكْثَر كَون
الْأَقَل عددا مَخْصُوصًا كعدد التَّوَاتُر وَغَيره، بل
إِجْمَاع الْأَكْثَر حجَّة مُطلقًا كَمَا عزى (لِابْنِ جرير
وَبَعض الْمُعْتَزلَة) أبي الْحسن الْخياط أستاذ الكعبي ذكره
فِي كشف الْبَزْدَوِيّ (وَنقل عَن أَحْمد) أَيْضا هَكَذَا فسر
الشَّارِح قَوْله مُطلقًا إِلَى آخِره، وَالْوَجْه أَن يُفَسر
الْإِطْلَاق بِمَا يُقَابل التَّقْيِيد الْمُسْتَفَاد من
التَّفْصِيل المفاد بقوله وَقَالَ الْجِرْجَانِيّ إِلَى آخِره
فَيكون قَوْله مُطلقًا إِلَى آخِره مَعَ قَوْله وَقَالَ إِلَى
آخِره كالتقسيم لعدم اشْتِرَاط عدم عدد التَّوَاتُر فِي
الْأَقَل عِنْد إِجْمَاع الْأَكْثَر، إِذْ الْإِطْلَاق
بِالْمَعْنَى الَّذِي ذكره الشَّارِح مَوْجُود فِيمَا قبله،
فَالْمَعْنى وَلَا يشْتَرط فِي حجية إِجْمَاع الْأَكْثَر شرطا
مُطلقًا (وَقَالَ) أَبُو عبد الله (الْجِرْجَانِيّ)
(3/236)
(و) أَبُو بكر (الرَّازِيّ من
الْحَنَفِيَّة أَن سوغ الْأَكْثَر اجْتِهَاد الْأَقَل كخلاف
أبي بكر فِي مانعي الزَّكَاة) أَي فِي قِتَالهمْ (فَلَا)
ينْعَقد الْإِجْمَاع مَعَ خِلَافه (بِخِلَاف) مَا إِذا لم يسوغ
الْأَكْثَر اجْتِهَاد الْأَقَل فَإِنَّهُ ينْعَقد إِجْمَاع
الْأَكْثَر مَعَ خِلَافه وَلَكِن يكون حجَّة ظنية كخلاف (أبي
مُوسَى) الْأَشْعَرِيّ (فِي نقض النّوم) حَيْثُ لَا ينْقض
عِنْده وينقض عِنْد غَيره. قَالَ الشَّارِح وَنقل عَن غَيره من
الصَّحَابَة أَيْضا، وَصَحَّ عَن جمَاعَة من التَّابِعين
مِنْهُم ابْن الْمسيب. قَالَ وَاخْتَارَهُ شمس الْأَئِمَّة،
لَيْسَ هَذَا فِي نُسْخَة الشَّرْح لكنه قَالَ. قَالَ
السَّرخسِيّ وَالأَصَح عِنْدِي مَا أَشَارَ إِلَيْهِ أَبُو بكر
الرَّازِيّ أَن الْوَاحِد إِذا خَالف الْجَمَاعَة فَإِن سوغوا
لَهُ ذَلِك الِاجْتِهَاد لَا يثبت حكم الْإِجْمَاع بِمَنْزِلَة
خلاف ابْن عَبَّاس الصَّحَابَة: فِي زوج وأبوين وَامْرَأَة
وأبوين أَن للْأُم ثلث جَمِيع المَال وَأَن لم يسوغوا لَهُ
الِاجْتِهَاد، وأنكروا عَلَيْهِ قَوْله فَإِنَّهُ يثبت حكم
الْإِجْمَاع بِدُونِ قَوْله كَقَوْل ابْن عَبَّاس فِي حل
التَّفَاضُل فِي أَمْوَال الرِّبَا فَإِن الصَّحَابَة لم
يسوغوا لَهُ هَذَا الِاجْتِهَاد حَتَّى روى أَنه رَجَعَ إِلَى
قَوْلهم فَكَانَ الْإِجْمَاع ثَابتا بِدُونِ قَوْله. وَقَالَ
مُحَمَّد فِي الْإِمْلَاء: لَو قضى القَاضِي بِجَوَاز بيع
الدِّرْهَم بالدهمين لم ينفذ قَضَاؤُهُ لِأَنَّهُ مُخَالف
للْإِجْمَاع فَجعل المسئلة مَوْضُوعَة فِي خلاف الْوَاحِد لَا
غير وَلَا يخفى عَلَيْك أَن خلاف الْوَاحِد مندرج فِي خلاف
الْأَقَل وَحكمه فِي بَيَان المُصَنّف (وَالْمُخْتَار) أَنه
(لَيْسَ) إِجْمَاع الْأَكْثَر (إِجْمَاعًا) أصلا فَلَا يكون
حجَّة ظنية وَلَا قَطْعِيَّة لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكِتَاب وَلَا
سنة وَلَا إِجْمَاع وَلَا قِيَاس وَلَا من الْأَدِلَّة
الْمُعْتَبرَة عِنْد الْأمة (و) الْمُخْتَار (لبَعْضهِم) أَنه
(لَيْسَ إِجْمَاعًا لَكِن حجَّة لِأَن الظَّاهِر إصابتهم) أَي
الْأَكْثَر، لَا الْأَقَل (خُصُوصا) إِذا انْضَمَّ هَذَا
الظَّاهِر (مَعَ) قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (عَلَيْكُم
بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم) فَإِن الْأَكْثَر سَواد أعظم (وَأما
الأول) أَي أما دَلِيل الأول وَهُوَ أَن اتِّفَاق الْأَكْثَر
لَيْسَ إِجْمَاعًا (فانفراد ابْن عَبَّاس فِي) مسئلة
(الْعَوْل) من بَين الصَّحَابَة (و) انْفِرَاد (أبي هُرَيْرَة
وَابْن عمر فِي جَوَاز أَدَاء الصَّوْم) يَعْنِي انفرادهما
بإنكار صِحَة أَدَاء صَوْم رَمَضَان (فِي السّفر) كَمَا ذكره
أَصْحَابنَا وَالشَّافِعِيَّة عَن أبي هُرَيْرَة وَبَعض
أَصْحَابنَا عَن ابْن عمر كَذَا ذكره الشَّارِح، وَنقل عَن
شَيْخه الْحَافِظ أَنه حكى عَن عمر وَابْنه وَأبي هُرَيْرَة
قَالَ ابْن الْمُنْذر روينَا عَن ابْن عمر أَنه قَالَ إِن
صَامَ فِي السّفر فَكَأَنَّهُ أفطر فِي الْحَضَر، وَعَن عبد
الرَّحْمَن بن عَوْف مثله، وروى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ
لَا يجْزِيه (عدوه) أَي الصَّحَابَة مَا وَقع فِيمَا بَينهم
(خلافًا لَا إِجْمَاعًا) وَمُخَالفَة للْإِجْمَاع (وَأَيْضًا
فالأدلة إِنَّمَا توجبه) أَي الْإِجْمَاع (فِي الْأمة) أَي
توجب حجيته فيهم حَال كَون الْأمة (غير مَعْقُول لُزُوم
إصابتهم) وَمَا ثَبت غير مَعْقُول الْمَعْنى يجب رِعَايَة
جَمِيع أَوْصَاف النَّص فِيهِ، وَالنَّص يتَنَاوَل كل أهل
الأجماع فَالْحَاصِل إِنَّمَا عرفنَا بِالنَّصِّ أَن الْحق لَا
يتجاوزهم، فَإِن خرج وَاحِد مِنْهُم عَن الِاتِّفَاق
(3/237)
جَازَ أَن يكون الْحق مَعَه، وَصَحَّ أَن
الْحق لم يتعداهم (أَو إِكْرَاما لَهُم) مَعْطُوف على غير
مَعْقُول يَعْنِي أَو مَعْقُول لُزُوم إصابتهم لكَونه
إِكْرَاما للْكُلّ، وَالْأَكْثَر لَيْسَ بِكُل، (واستدلال
المكتفي بِالْأَكْثَرِ) فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع قَوْله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم
(يَد الله مَعَ الْجَمَاعَة، فَمن شَذَّ شَذَّ فِي النَّار
مفاده منع الرُّجُوع بعد الْمُوَافقَة) أَي الْمُخَالفَة،
لِأَنَّهُ مَأْخُوذ (من شَذَّ الْبَعِير) وند إِذا توحش بعد
مَا كَانَ أهليا، فالشاذ من خَالف بعد الْمُوَافقَة، لَا من
لَا يُوَافق ابْتِدَاء، وَإِذا عرفت أَنه لَيْسَ المُرَاد بِمن
شَذَّ الْأَقَل فِي مُقَابلَة الْأَكْثَر ليَكُون المُرَاد من
الْجَمَاعَة الْأَكْثَر (فالجماعة) الْمَذْكُورَة فِي قَوْله
يَد الله مَعَ الْجَمَاعَة (الْكل وَكَذَا السوَاد الْأَعْظَم)
الْمَذْكُور فِي عَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم الْكل إِذْ
هُوَ أعظم مِمَّا دونه، وَإِنَّمَا وَجب الْحمل عَلَيْهِ
تَوْفِيقًا بَين الْأَدِلَّة (و) اسْتِدْلَال المكتفى
بِالْأَكْثَرِ (باعتماد الْأمة عَلَيْهِ) أَي على إِجْمَاع
الْأَكْثَر (فِي خلَافَة أبي بكر مَعَ خلاف على، و) سعد (بن
عبَادَة وسلمان فَلم يعتدوهم) أَي لم يعْتد الصَّحَابَة
بِخِلَاف هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم
أَجْمَعِينَ (مَدْفُوع بِأَنَّهُ) أَي عدم اعْتِدَاد
الصَّحَابَة بِخِلَاف هَؤُلَاءِ فِي الْإِجْمَاع على خِلَافَته
إِنَّمَا هُوَ (بعد رجوعهم) أَي هَؤُلَاءِ إِلَى مَا اتّفق
عَلَيْهِ الْعَامَّة لِأَن برجوعهم تقرر الْإِجْمَاع على
خِلَافَته (وَقَبله) أَي قبل رجوعهم خِلَافَته (صَحِيحَة
بِالْإِجْمَاع على الِاكْتِفَاء فِي الِانْعِقَاد) أَي
انْعِقَاد الْإِمَامَة (ببيعة الْأَكْثَر) إِذْ هِيَ كَافِيَة
فِي انْعِقَادهَا بل هِيَ تَنْعَقِد بِمحضر عَدْلَيْنِ (لَا)
أَن خِلَافَته قبل رجوعهم (مجمع عَلَيْهَا) ليستدل بِهِ على
أَن اتِّفَاق الْأَكْثَر إِجْمَاع وَلَا يلْزم عدم انْعِقَاد
خِلَافَته قبل رجوعهم كَمَا زعم بَعضهم.
مسئلة
(وَلَا) يشْتَرط فِي حجية الْإِجْمَاع (عَدَالَة الْمُجْتَهد
فِي) القَوْل (الْمُخْتَار للآمدي) وَأبي إِسْحَاق
الشِّيرَازِيّ وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزالِيّ
فَيتَوَقَّف الْإِجْمَاع على مُوَافقَة الْمُجْتَهد غير
الْعدْل كَمَا يتَوَقَّف على الْعدْل (لِأَن الْأَدِلَّة)
المفيدة لحجية الْإِجْمَاع (لَا توقفه) أَي الْإِجْمَاع
(عَلَيْهَا) أَي على عَدَالَته (وَالْحَنَفِيَّة تشْتَرط)
عَدَالَة الْمُجْتَهد فَلَا يتَوَقَّف الْإِجْمَاع على
مُوَافقَة الْمُجْتَهد غير الْعدْل: نَص الْجَصَّاص على أَنه
الصَّحِيح عندنَا، وَعَزاهُ السَّرخسِيّ إِلَى الْعِرَاقِيّين،
وَابْن برهَان إِلَى كَافَّة الْفُقَهَاء والمتكلمين، والسبكي
إِلَى الْجُمْهُور (لِأَن الدَّلِيل) الدَّال على حجية
الْإِجْمَاع (يتضمنها) أَي الْعَدَالَة (إِذْ الحجية)
لإِجْمَاع الْأمة إِنَّمَا هِيَ (للتكريم) لَهُم، وَمن لَيْسَ
بِعدْل لَيْسَ من أهل التكريم، وَهَذَا بِنَاء على القَوْل
بثبوتها لَهُم بِمَعْنى مَعْقُول (ولوجوب التَّوَقُّف فِي
إخْبَاره) بِأَن رَأْيه كَذَا قَالَ تَعَالَى - {إِن جَاءَكُم
فَاسق بِنَبَأٍ} - الْآيَة، وَقَالَ السَّرخسِيّ
(3/238)
وَالأَصَح عِنْدِي أَنه إِن كَانَ مُعْلنا
بِفِسْقِهِ فَلَا يعْتد بقوله، وَإِلَّا يعْتد بقوله فِي
الْإِجْمَاع وَإِن علم بِفِسْقِهِ حَتَّى ترد شَهَادَته إِذْ
يقطع لمن يَمُوت مُؤمنا مصرا على فسقه أَنه لَا يخلد فِي
النَّار، فَهُوَ أهل للكرامة بِالْجنَّةِ فَكَذَلِك فِي
الدُّنْيَا بِاعْتِبَار قَوْله فِي الْإِجْمَاع (وَقيل) وقائله
إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ (يعْتَبر
قَوْله) أَي غير الْعدْل (فِي حق نَفسه فَقَط كإقراره) أَي
كَمَا يقبل إِقْرَاره فِي حق نَفسه بِالْمَالِ والجنايات إِلَى
غير ذَلِك (وَيدْفَع) هَذَا الْقيَاس (بِأَنَّهُ) أَي
إِقْرَاره مُعْتَبر (فِيمَا) أَي فِي حق يجب (عَلَيْهِ،
وَهَذَا) أَي اعْتِبَار قَوْله فِيمَا نَحن فِيهِ (لَهُ) لَا
عَلَيْهِ (إِذْ يَنْتَفِي حجيته) أَي الِاجْتِمَاع بإظهاره
وَعدم الْمُوَافقَة فَيحصل لَهُ شرف الِاعْتِدَاد بِهِ
وَالِاعْتِبَار بمقاله وَلَا يَصح الْقيَاس على إِقْرَاره،
وَذهب بعض الشَّافِعِيَّة إِلَى أَنه إِذا خَالف يسْأَل عَن
مأخذه لجَوَاز أَن يحملهُ فسقه على الْفتيا من غير دَلِيل،
فَإِن ذكر مَا يصلح مأخذا لَهُ اعْتبر وَإِلَّا فَلَا،
وَاخْتَارَهُ ابْن السَّمْعَانِيّ (وَعَلِيهِ) أَي على
اشْتِرَاط عَدَالَة الْمُجْتَهد (يَنْبَنِي شَرط عدم
الْبِدْعَة إِذا لم يكفر بهَا) أَي بالبدعة (كالخوارج) إِلَّا
الغلاة مِنْهُم فَإِنَّهُم من أَصْحَاب الْبدع الجلية كَمَا مر
فِي مبَاحث الْخَبَر وَلم يكفروا ببدعتهم (وَالْحَنَفِيَّة)
قَالُوا يشْتَرط فِيهِ عدم الْبِدْعَة (إِذا دَعَا) صَاحب
الْبِدْعَة النَّاس (إِلَيْهَا) أَي إِلَى بدعته (لِأَنَّهُ)
أَي كَونه دَاعيا إِلَى بدعته (يُوجب تعصبا) فِي ذَلِك المبتدع
وَهُوَ عدم قبُول الْحق عِنْد ظُهُور الدَّلِيل بِنَاء إِلَى
الْميل إِلَى جَانب الْهوى (يُوجب) ذَلِك التعصب (خفَّة سفه)
أَي خفَّة عقل يكون للسفهاء (فيتهم) فِي أَمر دينه، فَإِن لم
يدع إِلَيْهَا يكون قَوْله فِي غير بدعته مُعْتَبرا فَيعْتَبر
فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع لِأَنَّهُ من أهل الشَّهَادَة وَلَا
يعْتَبر فِي بدعته لِأَنَّهُ يضلل فِيهَا لمُخَالفَته نصا
مُوجبا للْعلم. وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو بكر الرَّازِيّ:
الصَّحِيح عندنَا لَا اعْتِبَار بموافقة أهل الضَّلَالَة لأهل
الْحق فِي صِحَة الْإِجْمَاع، وَإِنَّمَا الْإِجْمَاع الَّذِي
هُوَ حجَّة عِنْد الله تَعَالَى إِجْمَاع أهل الْحق الَّذين لم
يثبت فسقهم وَلَا ضلالتهم، وَوَافَقَهُ صَاحب الْمِيزَان
وَالْمُصَنّف حَيْثُ قَالَ (وَالْحق إِطْلَاق منع الْبِدْعَة
المفسقة لَهُم) أَي لأصحابها، يَعْنِي أَن الْبِدْعَة
الْمَذْكُورَة تمنع اعْتِبَار قَول صَاحبهَا فِي الْإِجْمَاع
على الْإِطْلَاق. قَالَ أَبُو مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ: قَالَ
أهل السّنة لَا يعْتَبر فِي الْإِجْمَاع وفَاق الْقَدَرِيَّة
والخوارج وَالرَّوَافِض، وَلَا اعْتِبَار بِخِلَاف هَؤُلَاءِ
المبتدعة فِي الْفِقْه، وَإِن اعْتبر فِي الْكَلَام، هَكَذَا
روى أَشهب عَن مَالك وَالْعَبَّاس بن الْوَلِيد عَن
الْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو سُلَيْمَان الْجوزجَاني عَن مُحَمَّد
بن الْحسن، وَذكر أَبُو ثَوْر أَنه قَول أَئِمَّة الحَدِيث.
وَقَالَ ابْن الْقطَّان الْإِجْمَاع عندنَا إِجْمَاع أهل
الْعلم، وَأما من كَانَ من أهل الْأَهْوَاء فَلَا مدْخل لَهُ
فِيهِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو يعلى واستقراره من كَلَام أَحْمد
(وَلذَا) أَي وَلكَون الْبِدْعَة المفسقة مَانِعَة من
اعْتِبَار قَول صَاحبهَا (لم يعْتَبر خلاف الروافض فِي
الْإِجْمَاع على خلَافَة الشُّيُوخ) أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان
رَضِي الله
(3/239)
تَعَالَى عَنْهُم، لِأَن أدنى حَال الرافضة
أَنهم فسقة فَإِن قلت كَانَ مُوجب هَذَا أَن لَا تقبل
شَهَادَتهم قلت فسقهم مَبْنِيّ على شُبْهَة أوقعتهم فِي مثل
ذَلِك، وَمثل هَذَا الْفسق الْمَبْنِيّ على الضلال يمْنَع عَن
اعتبارهم فِي الْإِجْمَاع الْمنَافِي للضلال كَرَامَة لأَهله،
لَا عَن قبُول الشَّهَادَة الْمَبْنِيّ على الِاحْتِرَاز عَن
تعمد الْكَذِب: أَلا ترى أَن الْفَاسِق إِذا لم يجْهر
بِفِسْقِهِ تقبل شَهَادَته (وَقد يُقَال ذَلِك) أَي عدم
اعْتِبَار خلاف الروافض فِي الْإِجْمَاع الْمَذْكُور (لتقرره)
أَي الْإِجْمَاع من الصَّحَابَة وَغَيرهم على خلافتهم (قبلهم)
أَي قبل وجود الروافض (فعصوا) أَي الروافض (بِهِ) أَي بخلافهم
لَهُ (وَخلاف الْخَوَارِج فِي خلَافَة عَليّ) رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ (خلاف الْحجَّة) الظنية على اسْتِحْقَاقه
الْخلَافَة على سَبِيل التَّعْيِين (لَا) خلاف (إِجْمَاع
الصَّحَابَة) الْمُفِيد للْقطع بِنَاء على أَنه كَانَ فِي
الْمُخَالفين من الصَّحَابَة مُجْتَهد (إِلَّا إِن لم يكن فِي
الْمُخَالفين كمعاوية وَابْن الْعَاصِ) تَمْثِيل للمخالفين
(مُجْتَهد) فَإِنَّهُ على هَذَا التَّقْدِير يلْزم أَن يكون
خلاف الْخَوَارِج خلاف الْإِجْمَاع، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن
كَونهمَا مجتهدين لَيْسَ بِمَعْلُوم فَالْقَوْل بِأَن النزاع
بَين الْفَرِيقَيْنِ بِنَاء على أَن اجْتِهَاد كل مِنْهُمَا
أدّى إِلَى نقيض مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاد الآخر لَيْسَ على
سَبِيل الْقطع بل على سَبِيل الِاحْتِمَال (وَإِنَّمَا هُوَ)
أَي مَا ذكر من أَن خلاف الروافض بعد انْعِقَاد الْإِجْمَاع
على خلَافَة الشُّيُوخ، وَخلاف الْخَوَارِج خلاف الْحجَّة
فَلَا يسْتَدلّ بِخِلَاف الْفَرِيقَيْنِ على اشْتِرَاط
الْعَدَالَة فِيمَن يعْتَبر قَوْله فِي الْإِجْمَاع (إبِْطَال
دَلِيل معِين) على اعْتِبَار الْعَدَالَة فِي الْإِجْمَاع
(وَالْمَطْلُوب) وَهُوَ اعْتِبَاره (ثَابت بِالْأولِ) وَهُوَ
أَن الدَّلِيل الدَّال على حجية الْإِجْمَاع يتَضَمَّن
الْعَدَالَة، إِذْ الحجية للتكريم، وَمن لَيْسَ بِعدْل لَيْسَ
بِأَهْل للتكريم.
مسئلة
(إِذْ وَلَا) يشْتَرط فِي حجيته القطيعة (كَونهم) أَي المجمعين
(الصَّحَابَة خلافًا للظاهرية) حَيْثُ قَالُوا إِجْمَاع من
بعدهمْ لَيْسَ بِحجَّة. قَالَ الشَّارِح وَهُوَ ظَاهر كَلَام
ابْن حبَان فِي صَحِيحه (وَلأَحْمَد قَولَانِ) أَحدهمَا
كالظاهرية وأوضحهما عِنْد أَصْحَابه كالجمهور (لعُمُوم
الْأَدِلَّة) المفيدة لحجية الْإِجْمَاع حجية إِجْمَاع (من
سواهُم) أَي الصَّحَابَة فَلَا وَجه لتخصيصهما بإجماعهم
(قَالُوا) أَي الظَّاهِرِيَّة أَولا انْعَقَد (إِجْمَاع
الصَّحَابَة) قبل مَجِيء من بعدهمْ (على أَن مَا لَا قَاطع
فِيهِ) من الْأَحْكَام (جَازَ) الِاجْتِهَاد فِيهِ، وَجَاز
(مَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد) من أحد طَرفَيْهِ أَن
يُؤْخَذ بِهِ (فَلَو صَحَّ إِجْمَاع من بعدهمْ) أَي
الصَّحَابَة (على بَعْضهَا) أَي بعض الْأَحْكَام الَّتِي لَا
قَاطع فِيهَا (لم يجز) الِاجْتِهَاد (فِيهِ) أَي فِي ذَلِك
الْبَعْض إِجْمَاعًا، وَلم يجز الْأَخْذ بالجانب الْمُخَالف
لما أجمع عَلَيْهِ أَن أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد (فيتعارض
الإجماعان) إِجْمَاع الصَّحَابَة على مَا ذكر وَالْإِجْمَاع
الْمَفْرُوض
(3/240)
(وَالْجَوَاب) أَن الصَّحَابَة (أَجمعُوا
على مَشْرُوطَة) عَامَّة (أَي) كل مَا لَا قَاطع فِيهِ جَائِز
الِاجْتِهَاد (مَا دَامَ لَا قَاطع فِيهِ) فجواز الِاجْتِهَاد
فِي غير زمَان وجود الْقَاطِع فِيهِ وَعدم جَوَازه فِي زَمَانه
فَلَا تنَاقض، وَعند انْعِقَاد الْإِجْمَاع على أحد طرفِي مَا
لم يكن فِيهِ قَاطع يتَحَقَّق فِيهِ قَاطع (قَالُوا) أَي
الظَّاهِرِيَّة ثَانِيًا (لَو اعْتبر) إِجْمَاع غير
الصَّحَابَة (اعْتبر مَعَ مُخَالفَة بعض الصَّحَابَة فِيمَا
إِذا سبق خلاف) مُسْتَقر، لِأَن مُخَالفَة بَعضهم لَا تمنع
إِجْمَاع غَيرهم (الْجَواب إِنَّمَا يلْزم) بطلَان هَذَا (من
شَرط عدم سبق الْخلاف المتقرر وَلَو من وَاحِد) فِي انْعِقَاد
الِاجْتِمَاع الْقطعِي (لَا) يلْزم (من لم يشرط) عدم سبق
الْخلاف (أَو جعل الْوَاحِد) أَي خِلَافه مَعْطُوف على شَرط
(مَانِعا) من انْعِقَاد الْإِجْمَاع بِمن سواهُ، فَإِن من لم
يَجْعَل خلاف الْوَاحِد الْمَوْجُود فِي زمَان الْإِجْمَاع
صحابيا كَانَ أَو غَيره مَانِعا عَن انْعِقَاده كَيفَ يَجْعَل
خِلَافه وَهُوَ مَعْدُوم فِي زَمَانه مَانِعا عَنهُ (وَيعْتَبر
التَّابِعِيّ الْمُجْتَهد فيهم) أَي فِي زمَان الصَّحَابَة
مُوَافقَة عِنْد انْعِقَاد الِاجْتِمَاع فَلَا ينْعَقد مَعَ
مُخَالفَته كَمَا هُوَ مَذْهَب الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة
وَرِوَايَة عَن أَحْمد وَقَول أَكثر الْمُتَكَلِّمين وَهُوَ
الصَّحِيح (وَأما من بلغ) من التَّابِعين (دَرَجَته) أَي
الِاجْتِهَاد (بعد الِانْعِقَاد اجماعهم فاعتباره وَعَدَمه)
أَي عدم اعْتِبَاره فيهم مَبْنِيّ (على اشْتِرَاط انْقِرَاض
الْعَصْر) فِي حجية الْإِجْمَاع (وَعَدَمه) أَي عدم
اشْتِرَاطه، فَمن اشْترط اعْتَبرهُ، وَمن لم يشْتَرط لم
يعتبره. قَالَ الشَّارِح إِلَّا أَن هَذَا إِنَّمَا يتم على
رَأْي من يَقُول فَائِدَة الِاشْتِرَاط جَوَاز رُجُوع بعض
المجمعين، وَدخُول مُجْتَهد يحدث قبل انقراضهم، أما من قَالَ
فَائِدَته جَوَاز الرُّجُوع لَا غير يَنْبَغِي أَن لَا يعتبره
أَيْضا انْتهى. وَكَأن المُصَنّف لم يلْتَفت إِلَى هَذَا
التَّفْصِيل، لِأَنَّهُ إِذا شَرط الانقراض فِي الِانْعِقَاد،
فَقبل الِانْعِقَاد إِذا دخل بَينهم مُجْتَهد آخر لَا وَجه
لعدم اعْتِبَاره فَتَأمل (وَقيل) وقائله أَحْمد فِي رِوَايَة
وَبَعض الْمُتَكَلِّمين (لَا يعْتَبر) التَّابِعِيّ فِي
إِجْمَاع الصَّحَابَة (مُطلقًا) أَي سَوَاء كَانَ مُجْتَهدا
قبل انْعِقَاد إِجْمَاعهم أَو بعده (لنا) على اعْتِبَار
التَّابِعِيّ الْمُجْتَهد فيهم (لَيْسُوا) أَي الصَّحَابَة (كل
الْأمة دونه) أَي التَّابِعِيّ، لِأَنَّهُ مثلهم فِي
الِاجْتِهَاد غير أَنه لَا رِوَايَة لَهُ عَنهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَذَلِكَ لَا يُوجب كَون الْحق مَعَهم دونه،
والعصمة إِنَّمَا هِيَ للْكُلّ (وَاسْتدلَّ لهَذَا)
الْمُخْتَار (بِأَن الصَّحَابَة سوغوا لَهُم) أَي للتابعين
الِاجْتِهَاد (مَعَ وجودهم) فقد مَلأ شُرَيْح الْكُوفَة وَعلي
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لَا يُنكر عَلَيْهِ، وَابْن الْمسيب
بِالْمَدِينَةِ فَتَاوَى وَهِي مشحونة بأصحاب رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَا عَطاء بِمَكَّة وَجَابِر بن زيد
بِالْبَصْرَةِ، وَلَوْلَا اعْتِبَار قَوْلهم لما سوغوا لَهُم
(قُلْنَا إِنَّمَا يتم) الِاسْتِدْلَال بِهَذَا على اعْتِبَار
قَوْلهم بِحَيْثُ لَا ينْعَقد إِجْمَاعهم مَعَ مخالفتهم أَو
بِدُونِ موافقتهم (لَو نقل تسويغ خلافهم)
(3/241)
أَي التَّابِعين (مَعَ إِجْمَاعهم) أَي
الصَّحَابَة (وَلم يثبت) تسويغ خلافهم إِلَّا مَعَ اخْتلَافهمْ
(كالمنقول من قَول أبي سَلمَة) بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف فِي
صَحِيح مُسلم (تذاكرت مَعَ ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة فِي
عدَّة الْحَامِل لوفاة زَوجهَا، فَقَالَ ابْن عَبَّاس بأبعد
الْأَجَليْنِ، وَقلت أَنا بِوَضْع الْحمل، فَقَالَ أَبُو
هُرَيْرَة أَنا مَعَ ابْن أخي، يَعْنِي أَبَا سَلمَة) وَلَيْسَ
هَذَا مَحل النزاع.
مسئلة
(وَلَا) ينْعَقد الْإِجْمَاع (بِأَهْل الْبَيْت النَّبَوِيّ
وحدهم) مَعَ مُخَالفَة غَيرهم لَهُم، وهم عَليّ وَفَاطِمَة،
والحسنان رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم لما روى التِّرْمِذِيّ
عَن عمر بن أبي سَلمَة أَنه لما نزل - {إِنَّمَا يُرِيد الله
ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا}
- لف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِم كسَاء
وَقَالَ: هَؤُلَاءِ أهل بَيْتِي وخاصتي، اللَّهُمَّ أذهب
عَنْهُم الرجس وطهرهم تَطْهِيرا، إِذْ لَا يخفى أَن هَذَا لَا
يدل على أَن غَيرهم لَيْسَ من أهل الْبَيْت، وَإِنَّمَا خصهم
بِهَذَا اللف وَالدُّعَاء لمزيد التكريم لَهُم، ولدفع توهم
أَنهم لَيْسُوا من أهل الْبَيْت لكَوْنهم ساكنين فِي غير بَيته
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (خلافًا للشيعة) وَاقْتصر فِي
الْمَحْصُول وَغَيره على الزيدية والإمامية، فَإِن إِجْمَاعهم
عِنْدهم حجَّة لِلْآيَةِ، فَإِن الْخَطَأ رِجْس فَيكون منفيا
عَنْهُم، فَيكون إِجْمَاعهم حجَّة وَأجِيب بِمَنْع كَون
الْخَطَأ رجسا، وَإِنَّمَا الرجس هُوَ الْعَذَاب، أَو الْإِثْم
أَو كل مستقذر ومستنكر، وَلَيْسَ الْخَطَأ مِنْهَا، على أَن
المُرَاد أهل الْبَيْت هم مَعَ أَزوَاج النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَإِن مَا قبلهَا - {يَا نسَاء النَّبِي لستن
كَأحد من النِّسَاء} - إِلَى آخِره، وَمَا بعْدهَا وَهُوَ -
{واذكرن مَا يُتْلَى فِي بُيُوتكُمْ} - الْآيَة يدل عَلَيْهِ.
مسئلة
(وَلَا) ينْعَقد (بالأربعة) الْخُلَفَاء رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم مَعَ مُخَالفَة غَيرهم، أَو توقفهم أَو عدم سماعهم
الحكم (عِنْد الْأَكْثَر خلافًا لبَعض الْحَنَفِيَّة) وَأحمد
فِي رِوَايَة (حَتَّى رد) مِنْهُم القَاضِي (أَبُو حَازِم)
بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: عبد الحميد بن عبد الْعَزِيز
(على ذَوي الْأَرْحَام أَمْوَالًا) فِي خلَافَة المعتضد
بِاللَّه لكَون الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة على ذَلِك (بعد
الْقَضَاء بهَا) أَي بِتِلْكَ الْأَمْوَال (لبيت المَال)
مُبْطلًا (لنفاذه) أَي الْقَضَاء لبيت المَال، وَقبل المعتضد
قَضَاءَهُ بذلك وَكتب بِهِ إِلَى الْآفَاق، وَكَانَ ثِقَة دينا
ورعا عَالما بِمذهب أهل الْعرَاق والفرائض والحساب، أَصله من
الْبَصْرَة وَسكن بَغْدَاد، وَأخذ عَن هِلَال الرَّازِيّ،
وَأخذ عَنهُ أَبُو جَعْفَر الطَّحَاوِيّ وَأَبُو طَاهِر الدباس
وَغَيرهمَا، وَولي الشَّام والكوفة والكرخ من بَغْدَاد،
وَتُوفِّي فِي جُمَادَى الأولى
(3/242)
سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَمِائَة.
مسئلة
(وَلَا) ينْعَقد (بالشيخين) أبي بكر وَعمر رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا إِلَى آخر مَا ذكر آنِفا خلافًا لبَعْضهِم (لِأَن
الْأَدِلَّة) المفيدة لحجية الْإِجْمَاع (توجب وَقفه) أَي تحقق
الْإِجْمَاع (على غَيرهم) أَي غير أهل الْبَيْت فِي الصُّورَة
الأولى وَغير الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة فِي الصُّورَة
الثَّانِيَة، وَغير الشَّيْخَيْنِ فِي الثَّالِثَة. (وَقَوله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقتدوا باللذين من بعدِي أبي بكر
وَعمر) رَوَاهُ أَحْمد وَابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وَحسنه،
وَصَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم اسْتدلَّ بِهِ لِأَنَّهُ أَمر
بالاقتداء بهما فَانْتفى عَنْهُمَا الْخَطَأ، وَلما لم يجب
الِاقْتِدَاء بهما حَال اخْتِلَافهمَا وَجب حَال اتِّفَاقهمَا،
وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة
الْخُلَفَاء الرَّاشِدين) المهديين عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ.
رَوَاهُ أَحْمد وَغَيره، وَأَنَّهُمْ: أَبُو بكر، وَعمر،
وَعُثْمَان، وَعلي كَمَا ذكره الْبَيْهَقِيّ وَغَيره، وَبَين
دَلِيله. وَلما ألزمهم بالتمسك بسنتهم علم أَن الْخَطَأ
مُنْتَفٍ عَنْهُمَا (أُجِيب) عَنهُ بِأَن الْحَدِيثين (يفيدان)
(أَهْلِيَّة الِاقْتِدَاء) أَي أَهْلِيَّة الشَّيْخَيْنِ
وَالْأَرْبَعَة لاتباع المقلدين لَهُم (لَا منع الِاجْتِهَاد)
لغَيرهم من الْمُجْتَهدين ليَكُون قَوْلهم حجَّة عَلَيْهِم
فَلَا يقدروا على مخالفتهم. (و) يرد (عَلَيْهِ) أَي على هَذَا
الْجَواب (أَن ذَلِك) أَي أَهْلِيَّة الِاقْتِدَاء بهم (مَعَ
إِيجَابه) أَي الِاقْتِدَاء يُفِيد منع الِاجْتِهَاد لغَيرهم
وَلُزُوم اقتدائه بهم فَيكون قَوْلهم حجَّة على غَيرهم،
وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوب (إِلَّا أَن يدْفع بِأَنَّهُ) أَي
كلا مِنْهُمَا (آحَاد) أَي أَخْبَار آحَاد لَا يُفِيد إِلَّا
الظَّن فَلَا يثبت بِهِ الْقطع بِكَوْن إجماعهما أَو
إِجْمَاعهم حجَّة قَطْعِيَّة. (و) أُجِيب أَيْضا (بمعارضته
بِأَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ
اهْتَدَيْتُمْ، وخذوا شطر دينكُمْ عَن الْحُمَيْرَاء) أَي
عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَإِن هذَيْن
الْحَدِيثين يدلان على جَوَاز لأخذ بقول كل صَحَابِيّ وَقَول
عَائِشَة وَإِن خَالف قَول الشَّيْخَيْنِ أَو الْأَرْبَعَة
(إِلَّا أَن الأول) أَي أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ: الحَدِيث (لم
يعرف) لما قَالَه ابْن حزم فِي رسَالَته الْكُبْرَى مَكْذُوب
مَوْضُوع بَاطِل وَإِلَّا فَلهُ طرق من رِوَايَة عمر وَابْنه
وَجَابِر وَابْن عَبَّاس وَأنس بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة، أقربها
إِلَى اللَّفْظ الْمَذْكُور مَا أخرج ابْن عدي فِي الْكَامِل
وَابْن عبد الْبر فِي كتاب الْعلم عَن ابْن عمر قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " مثل أَصْحَابِي مثل
النُّجُوم يهتدى بهَا فَبِأَيِّهِمْ أَخَذْتُم بقوله
اهْتَدَيْتُمْ ". نعم لم يَصح مِنْهَا شَيْء: قَالَه أَحْمد
وَالْبَزَّار، والْحَدِيث الصَّحِيح يُؤَدِّي بعض مَعْنَاهُ،
وَهُوَ حَدِيث أبي مُوسَى الْمَرْفُوع " النُّجُوم أَمَنَة
السَّمَاء، فَإِذا ذهبت النُّجُوم أَتَى أهل السَّمَاء مَا
يوعدون، وَأَنا أَمَنَة لِأَصْحَابِي، فَإِذا ذهبت أَتَى
أَصْحَابِي مَا يوعدون، وأصحابي أَمَنَة لأمتي، فَإِذا ذهبت
أَصْحَابِي أَتَى
(3/243)
أمتِي مَا يوعدون ". رَوَاهُ مُسلم، كَذَا
ذكره الشَّارِح، وَذكر فِي الحَدِيث الثَّانِي أَن الْحَافِظ
عماد الدّين بن كثير سَأَلَ الحافظين: الْمزي والذهبي عَنهُ
فَلم يعرفاه، وَنقل عَن كثير من الْحفاظ مثله. وَقَالَ
الذَّهَبِيّ هُوَ من الْأَحَادِيث الْوَاهِيَة الَّتِي لَا
يعرف لَهَا إِسْنَاد. وَقَالَ السُّبْكِيّ والحافظ: أَبُو
الْحجَّاج الْمزي كل حَدِيث فِيهِ لفظ الْحُمَيْرَاء لَا أصل
لَهُ إِلَّا حَدِيثا وَاحِدًا فِي النَّسَائِيّ. (وَالثَّانِي)
أَي خُذُوا شطر دينكُمْ الحَدِيث مَعْنَاهُ (أَنكُمْ ستأخذون)
فَلَا يعارضان الْأَوَّلين (وَالْحق أَن مُقْتَضَاهُ) أَي
مُقْتَضى دَلِيل كل من القَوْل بحجية إِجْمَاع الْأَرْبَعَة
والشيخين (الحجية الظنية) أما الحجية فللطلب الْجَازِم
لِلِاتِّبَاعِ لَهُم وَلَهُمَا، وَأما الظنية فَلِأَنَّهُ خبر
وَاحِد (ورد أبي حَازِم) على ذَوي الْأَرْحَام أَمْوَالًا
تَركهَا أقرباؤهم بعد الْقَضَاء بهَا لبيت المَال لم يُوَافقهُ
عَلَيْهِ كَافَّة معاصريه من الْحَنَفِيَّة، فقد (رده أَبُو
سعيد) أَحْمد بن الْحُسَيْن البرذعي من كبارهم وَقَالَ هَذَا
فِيهِ خلاف بَين الصَّحَابَة، لَكِن نقل الْجَصَّاص عَن أبي
حَازِم أَنه قَالَ فِي جَوَابه لَا أعد زيدا خلافًا على
الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة، وَإِذا لم أعده خلافًا وَقد حكمت
برد هَذَا المَال إِلَى ذَوي الْأَرْحَام فقد نفذ قضائي بِهِ،
وَلَا يجوز لأحد أَن يتعقبه بالنسخ: وَمن هُنَا قيل يحْتَمل
أَن يكون أَبُو حَازِم بناه على أَن خلاف الْوَاحِد والاثنين
لَا يقْدَح فِي الْإِجْمَاع. وَفِي شرح البديع أَنه وَافقه
عُلَمَاء الْمَذْهَب فِي زَمَانه.
مسئلة
(وَلَا) ينْعَقد (بِأَهْل الْمَدِينَة) طيبَة (وحدهم خلافًا
لمَالِك) أنكر كَونه مذْهبه ابْن بكير وَأَبُو يَعْقُوب
الرَّازِيّ وَأَبُو بكر بن منيات وَالطَّيَالِسِي وَالْقَاضِي
أَبُو الْفرج وَالْقَاضِي أَبُو بكر (قيل مُرَاده) أَي مَالك
(أَن روايتهم مُقَدّمَة) على رِوَايَة غَيرهم، وَنقل ابْن
السَّمْعَانِيّ وَغَيره أَن للشَّافِعِيّ فِي الْقَدِيم مَا
يدل على هَذَا (وَقيل) مَحْمُول (على المنقولات المستمرة) أَي
المتكررة الْوُجُود من غير انْقِطَاع (كالأذان وَالْإِقَامَة
والصاع) وَالْمدّ دون غَيرهَا (وَقيل بل) هُوَ حجَّة (على
الْعُمُوم) فِي المستمرة وَغَيرهَا وَهُوَ رَأْي أَكثر
المغاربة من الصَّحَابَة، وَذكر ابْن الْحَاجِب أَنه الصَّحِيح
قَالُوا وَفِي رِسَالَة مَالك إِلَى اللَّيْث بن سعد مَا يدل
عَلَيْهِ، وَقيل أَرَادَ بِهِ فِي زمن الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم، وَعَلِيهِ ابْن الْحَاجِب (لنا
الْأَدِلَّة) المفيدة حجية الْإِجْمَاع (توقفه) أَي تحقق
الْإِجْمَاع (على غَيرهم) أَي غير أهل الْمَدِينَة، لِأَن
أَهلهَا لَيْسُوا كل الْأمة (واستدلالهم) أَي الْمَالِكِيَّة
(بِأَن الْعَادة قاضية بِأَن مثل هَذَا الْجمع المنحصر)
أَرَادَ بِهِ انحصارهم فِي الْمَدِينَة واجتماعهم فِيهَا،
وَقلة غيبتهم عَنْهَا حَتَّى لَو اتّفق عدتهمْ أَو أَكثر
مُتَفَرّقين فِي الْبِلَاد لم تقض الْعَادة بذلك مَعَ اجتهادهم
(يتشاورون ويتناظرون) فِي الْوَاقِعَة الَّتِي لَا نَص فِيهَا
وَإِذا أَجمعُوا على
(3/244)
حكم (لَا يجمعُونَ إِلَّا عَن) مُسْتَند
(رَاجِح) فَيَكْفِي بإجماعهم (منع قَضَائهَا) أَي الْعَادة
(بِهِ) أَي بإجماعهم عَن رَاجِح دون سَائِر عُلَمَاء
الْأَمْصَار، إِذْ لَا دَلِيل يُفِيد الْفرق بَينهمَا بِحَيْثُ
يكون إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة وحدهم مُفِيد للْقطع،
وَإِجْمَاع بلد آخر لَا يكون مُفِيدا لَهُ. فِي الشَّرْح
العضدي: فَإِن قيل لَا نسلم الْعَادة فِي اتِّفَاق مثلهم عَن
رَاجِح لأَنهم بعض الْأمة فَيجوز أَن يكون متمسك غَيرهم أرجح،
فَرب رَاجِح لم يطلع عَلَيْهِ الْبَعْض قُلْنَا لَا نقُول
الْعَادة قاضية باطلاع الْكل، فيراد ذَلِك، بل اطلَاع
الْأَكْثَر، وَالْأَكْثَر كَاف فِي تتميم دليلنا بِأَن يُقَال
إِذا وَجب اطلَاع الْأَكْثَر امْتنع أَن لَا يطلع عَلَيْهِ من
أهل الْمَدِينَة أحد، وَيكون ذَلِك الْأَكْثَر غَيرهم مَا
فِيهَا أحد مِنْهُم والاحتمالات الْبَعِيدَة لَا تَنْفِي
الظُّهُور انْتهى. وَإِلَى هَذِه الْجُمْلَة أَشَارَ بقوله.
(وَدفع) الْمَنْع (بِأَن المُرَاد) من أَن الْعَادة قاضية
إِلَى آخِره أَنَّهَا (قاضية باطلاع الْأَكْثَر) زعم الشَّارِح
أَن مَعْنَاهُ قاضية فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع أَنه لَا
ينْعَقد على حكم إِلَّا باطلاع الْأَكْثَر من الْمُجْتَهدين
على دَلِيله انْتهى، فَلَزِمَ من كَلَامه أَن اطلَاع
الْأَكْثَر على دَلِيل الحكم إِنَّمَا هُوَ على تَقْدِير
انْعِقَاد الْإِجْمَاع فَيُقَال لَهُ مرادك إِمَّا إِجْمَاع
الْأمة أَو إِجْمَاع مثل هَذَا الْجمع المنحصر، وَالْأول
خُرُوج عَن الْبَحْث، لِأَن الْمَفْرُوض إِجْمَاع أهل
الْمَدِينَة لَا إِجْمَاع الْأمة، أَو اجماع مثل هَذَا الْجمع
المنحصر حَتَّى يلْزم إطلاع الْأَكْثَر وَيتَفَرَّع عَلَيْهِ
(فَامْتنعَ أَن لَا يطلع عَلَيْهِ من أهل الْمَدِينَة أحد
بِأَن لَا يكون فِي الْأَكْثَر أحد مِنْهُم) إِذْ امْتنَاع عدم
اطلَاع أحد من أَهلهَا لِامْتِنَاع أَن لَا يكون أحد مِنْهُم
من جمَاعَة الْأَكْثَر على تَقْدِير اطلَاع الْأَكْثَر، واطلاع
الْأَكْثَر على تَقْدِير إِجْمَاع الْأمة وَهُوَ غير مَعْلُوم،
وَالثَّانِي وَهُوَ لُزُوم اطلَاع الْأَكْثَر عِنْد إِجْمَاع
مثل هَذَا الْجمع لَا وَجه لَهُ: إِذْ لَا مُلَازمَة عَادَة
بَين اتِّفَاق مثل هَذَا الْجمع وَبَين اطلَاع أَكثر الْأمة
على دَلِيل الحكم، فَالْحق أَن الْمَعْنى أَن كل حكم لَا بُد
لَهُ من دَلِيل رَاجِح فِي نفس الْأَمر، وَقد جرت الْعَادة أَن
أَكثر الْمُجْتَهدين فِي الْمَدِينَة احْتِمَال فِي غَايَة
الْبعد، وعَلى تَقْدِير وجود وَاحِد مِنْهُم فِيهَا وَهُوَ
عَالم بالراجح مخبر بِهِ سَائِر أَهلهَا، لِأَن الْمَفْرُوض
اجتهادهم وتشاورهم وتناظرهم كَمَا عرفت وَالله تَعَالَى أعلم
(وَالِاحْتِمَال) الْبعيد (لَا يَنْفِي الظُّهُور، وَهَذَا)
الْجَواب (انحطاط) لإِجْمَاع أهل الْمَدِينَة عَن كَونه حجَّة
قَطْعِيَّة (إِلَى كَونه حجَّة ظنية، لَا) أَنه يَجْعَلهَا
(إِجْمَاعًا) قَطْعِيا. وَنقل السُّبْكِيّ عَن أَكثر المغاربة
أَنه لَيْسَ بقطعي بل ظَنِّي يقدم على خبر الْوَاحِد
وَالْقِيَاس، وَعَن الْقُرْطُبِيّ أَن تَقْدِيم الْخَبَر أولى
(فَإِن قيل يلْزم مثله) من انْعِقَاد الْإِجْمَاع بِمثل هَذَا
الْجمع إِلَى آخِره (فِي أهل) بَلْدَة (أُخْرَى) كمكة والكوفة
(لذَلِك) أَي انْعِقَادهَا: أَي لقَضَاء الْعَادة باطلاع
الْأَكْثَر الخ (الْتزم) مُوجبه (وَصَارَ الْحَاصِل أَن
اتِّفَاق مثلهم حجَّة يحْتَج بِهِ عِنْد عدم الْمعَارض من خلاف
مثلهم) .
(3/245)
مسئلة
(إِذا أفتى بَعضهم) أَي الْمُجْتَهدين بمسئلة اجتهادية (أَو
قضى) بَعضهم واشتهر بَين أهل عصره وَعرف الْبَاقُونَ: أَي
جَمِيع من سواهُ من الْمُجْتَهدين (وَلم يُخَالف) فِي الْفتيا
فِي الصُّورَة الأولى، وَفِي الْقَضَاء فِي الصُّورَة
الثَّانِيَة (قبل اسْتِقْرَار الْمذَاهب) فِي تِلْكَ
الْحَادِثَة وَاسْتمرّ الْحَال على هَذَا (إِلَى مُضِيّ مُدَّة
التَّأَمُّل) وَهِي على مَا ذكره القَاضِي أَبُو زيد حِين تبين
للساكت الْوَجْه فِيهِ، وَفِي الْمِيزَان وَأَدْنَاهُ إِلَى
آخر الْمجْلس: أَي مجْلِس بُلُوغ الْخَبَر، وَقيل يقدر
بِثَلَاثَة أَيَّام بعد بُلُوغ الْخَبَر، قيل وَإِلَيْهِ
أَشَارَ أَبُو بكر الرَّازِيّ حَيْثُ قَالَ فَإِذا استمرت
الْأَيَّام عَلَيْهِ وَلم يظْهر السَّاكِت خلافًا مَعَ
الْعِنَايَة مِنْهُم بِأَمْر الدّين وحراسة الْأَحْكَام علمنَا
أَنهم إِنَّمَا لم يظهروا الْخلاف لأَنهم موافقون لَهُ، وَعنهُ
أَنه إِنَّمَا يكون دلَالَة على الْمُوَافقَة إِذا انْتَشَر
القَوْل وَمَرَّتْ عَلَيْهِ أَوْقَات يعلم فِي مجْرى الْعَادة
أَن لَو كَانَ هُنَاكَ مُخَالف لأظهر الْخلاف، وعَلى هَذَا
الِاعْتِمَاد (وَلَا تقية) أَي خوف يمْنَع السَّاكِت من
الْمُخَالفَة (فَأكْثر الْحَنَفِيَّة) وَأحمد وَبَعض
الشَّافِعِيَّة كَأبي إِسْحَاق الاسفراينى أَن هَذَا (إِجْمَاع
قَطْعِيّ، وَابْن أبي هُرَيْرَة) من الشَّافِعِيَّة هُوَ فِي
الْفتيا (كَذَلِك) أَي إِجْمَاع قَطْعِيّ (لَا فِي الْقَضَاء)
. قَالَ الشَّارِح ذكره ابْن السَّمْعَانِيّ والآمدي وَابْن
الْحَاجِب وَغَيرهم، وَالَّذِي فِي الْمَحْصُول عَنْهُم إِن
كَانَ الْقَائِل حَاكما لم يكن إِجْمَاعًا وَلَا حجَّة،
وَإِلَّا فَنعم، وَالْفرق بَين النقلين وَاضح، إِذْ لَا يلْزم
من صدوره عَن الْحَاكِم أَن يكون على وَجه الحكم، فقد يُفْتى
الْحَاكِم تَارَة وَيقْضى أُخْرَى أهـ. وَلم يظْهر لي فرق
بَينهمَا إِذْ الْمُتَبَادر من كَون الْقَائِل أَن يكون حَاكما
فِي قَوْله وَالَّذِي يظْهر لي أَن سكوتهم لَا يدل على
موافقتهم إِيَّاه لجَوَاز الْقَضَاء بِمَا أدّى إِلَيْهِ
اجْتِهَاده وَإِن كَانَ مُخَالفا لرأي غَيره فقضاؤه صَحِيح
وَلَيْسَ عَلَيْهِم إِنْكَاره لِأَنَّهُ تَأَكد رَأْيه
بِالْقضَاءِ بِخِلَاف الْفتيا فَإِنَّهَا لم تتأكد بِهِ،
وَفِيه مَا فِيهِ (وَعَن الشَّافِعِي لَيْسَ بِحجَّة) فضلا عَن
أَن يكون إِجْمَاعًا (وَبِه قَالَ ابْن أبان والباقلاني
وَدَاوُد وَبَعض الْمُعْتَزلَة) وَالْغَزالِيّ بل ذكر الإِمَام
الرَّازِيّ والآمدي أَن هَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي والسبكي
الْأَكْثَرُونَ من الْأُصُولِيِّينَ نقلوا أَن الشَّافِعِي
يَقُول أَن السكوتي لَيْسَ بِإِجْمَاع وَاخْتَارَهُ القَاضِي،
وَذكر أَنه آخر أَقْوَاله. قَالَ الْبَاجِيّ وَهُوَ قَول أَكثر
الْمَالِكِيَّة، وَالْقَاضِي عبد الْوَهَّاب هُوَ الَّذِي
يَقْتَضِيهِ مَذْهَب أَصْحَابنَا، وَقَالَ ابْن برهَان:
إِلَيْهِ ذهب كَافَّة الْعلمَاء: مِنْهُم الْكَرْخِي وَنَصره
ابْن السَّمْعَانِيّ وَأَبُو زيد الدبوسي والرافعي أَنه
الْمَشْهُور عِنْد الْأَصْحَاب، وَالنَّوَوِيّ أَنه الصَّوَاب
(و) قَالَ (الجبائي إِجْمَاع بِشَرْط الانقراض) للعصر وَهُوَ
رِوَايَة عَن أَحْمد وَنَقله ابْن فورك عَن أَكثر أَصْحَاب
مذْهبه، والرافعي أَنه أصح الْأَوْجه (ومختار الْآمِدِيّ)
(3/246)
والكرخي والصيرفي وَبَعض الْمُعْتَزلَة
كَأبي هَاشم (إِجْمَاع ظَنِّي أَو حجَّة ظنية) وَقيل إِن كَانَ
الساكتون أقل كَانَ إِجْمَاعًا وَإِلَّا فَلَا، وَهُوَ
مُخْتَار الْجَصَّاص، وَقيل إِن وَقع فِي شَيْء مفوت استدراكه
من اراقة دم واستباحة فرج فإجماع وَإِلَّا فحجة، وَذهب
الرَّوْيَانِيّ إِلَى هَذَا التَّفْصِيل فِيمَا إِذا كَانَ فِي
عصر الصَّحَابَة وَألْحق الْمَاوَرْدِيّ التَّابِعين بالصحابة
فِي ذَلِك، وَذكر النَّوَوِيّ أَنه الصَّحِيح. قَالَ
(الْحَنَفِيَّة لَو شَرط سَماع قَول كل) من المجمعين
(انْتَفَى) الْإِجْمَاع (لتعذره) أَي سَماع قَول كل (عَادَة)
قَالَ السَّرخسِيّ: إِذْ لَيْسَ فِي وسع عُلَمَاء الْعَصْر
السماع من الَّذين كَانُوا قبلهم بقرون فَهُوَ سَاقِط عِنْدهم،
لِأَن المتعذر كالممتنع، وَكَذَا يتَعَذَّر السماع عَن جَمِيع
عُلَمَاء الْعَصْر وَالْوُقُوف على قَول كل فريق مِنْهُم فِي
حكم حَادِثَة حَقِيقَة لما فِيهِ من الْحَرج الْبَين، لَكِن
الْإِجْمَاع غير مُنْتَفٍ فَالشَّرْط الْمَذْكُور مُنْتَفٍ
انْتهى.
وَأَنت خَبِير بِأَن الْفرق بَين السماع من الَّذين قبلهم
بقرون وَبَين السماع من جَمِيع عُلَمَاء الْعَصْر فِي غَايَة
الوضوح فَكيف يُقَاس هَذَا عَلَيْهِ، الأول كالمحال،
وَالثَّانِي فِيهِ بعض حرج، وَالْفرق بَين السكوتي والقولي
حِينَئِذٍ بالتتبع لكيفية وُقُوعه. (وَأَيْضًا الْعَادة فِي كل
عصر إِفْتَاء الأكابر وسكوت الأصاغر تَسْلِيمًا، وللإجماع على
أَنه) أَي السكوتي (إِجْمَاع فِي الْأُمُور الاعتقادية
فَكَذَا) الْأَحْكَام (الفرعية) بل يثبت هَهُنَا بطرِيق أولى.
قَالَ (النافون) لحجيته (مُطلقًا) أَي قطعا وظنا (السُّكُوت
يحْتَمل غير الْمُوَافقَة من خوف أَو تفكر أَو عدم اجْتِهَاد
أَو تَعْظِيم) للقائل فَلَا يكون إِجْمَاعًا وَلَا حجَّة مَعَ
قيام هَذِه الِاحْتِمَالَات. (أجَاب الظني) أَي الْقَائِل
بِأَنَّهُ إِجْمَاع ظَنِّي (بِأَنَّهُ) أَي السُّكُوت (ظَاهر
فِي الْمُوَافقَة) للمفتي وَالْقَاضِي (وَفِي غَيرهَا) أَي
وَالسُّكُوت فِي غير الْمُوَافقَة مِمَّا ذكر (احتمالات) غير
ظَاهِرَة وَهِي (لَا تَنْفِي الظُّهُور. و) أجَاب
(الْحَنَفِيَّة) بِأَنَّهُ (انْتَفَى الأول) وَهُوَ السُّكُوت
للخوف (بِالْعرضِ) حَيْثُ قُلْنَا وَلَا تقية (و) انْتَفَى
(مَا بعده) وَهُوَ السُّكُوت للتفكر (بِمُضِيِّ مُدَّة
التَّأَمُّل فِيهِ عَادَة، و) السُّكُوت (للتعظيم بِلَا تقية
فسق) لترك الْوَاجِب الَّذِي هُوَ الرَّد لِأَن الْفَتْوَى أَو
الْقَضَاء إِذا كَانَ غير حق يكون مُنْكرا وَاجِب الرَّد فَلَا
ينْسب إِلَى المتدين، وَلَا سِيمَا أَئِمَّة الدّين. (وَمَا)
روى (عَن ابْن عَبَّاس فِي سُكُوته عَن عمر فِي القَوْل) من
قَوْله (كَانَ مهيبا نفوا) أَي الْحَنَفِيَّة كفخر الْإِسْلَام
وَالْقَاضِي أبي زيد (صِحَّته) عَنهُ نقلا (وَلِأَنَّهُ) أَي
عمر رَضِي الله عَنهُ (كَانَ يقدمهُ) أَي ابْن عَبَّاس (على
كثير من الأكابر) ويسأله عَن مسَائِل (ويستحسن قَوْله)
فَعَنْهُ كَانَ عمر يدخلني مَعَ أَشْيَاخ بدر فَكَانَ بَعضهم
وجد فِي نَفسه فَقَالَ: لم يدْخل هَذَا مَعنا وَلنَا أَبنَاء
مثله؟ فَقَالَ عمر: أَنه من حَيْثُ علمْتُم فَدَعَا ذَات يَوْم
فَأَدْخلنِي مَعَهم فَمَا رَأَيْت أَنه دَعَاني يَوْمئِذٍ
إِلَّا لِيُرِيَهُمْ، قَالَ مَا تَقولُونَ
(3/247)
فِي قَول الله - {إِذا جَاءَ نصر الله
وَالْفَتْح} - فَقَالَ بَعضهم: أمرنَا أَن نحمد الله
وَنَسْتَغْفِرهُ إِذا نصرنَا وَفتح علينا، فَسكت بَعضهم فَلم
يقل شَيْئا، فَقَالَ لي أكذاك تَقول يَا ابْن عَبَّاس؟ فَقلت
لَا، قَالَ فَمَا نقُول؟ قلت هُوَ أجل رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أعلمهُ لَهُ قَالَ {إِذا جَاءَ نصر الله
وَالْفَتْح} وَذَلِكَ عَلامَة أَجلك {فسبح بِحَمْد رَبك
وَاسْتَغْفرهُ إِنَّه كَانَ تَوَّابًا} ، فَقَالَ عمر مَا أعلم
مِنْهَا إِلَّا مَا تَقول: رَوَاهُ البُخَارِيّ، وَعنهُ قَالَ
دَعَا عمر الْأَشْيَاخ من أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ذَات يَوْم فَقَالَ لَهُم أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي لَيْلَة الْقدر " التمسوها فِي
الْعشْر الْأَوَاخِر وترا فَفِي أَي التوتر ترونها؟ فَقَالَ
رجل بِرَأْيهِ إِنَّهَا تاسعة سابعة خَامِسَة ثَالِثَة،
فَقَالَ يَا ابْن عَبَّاس تكلم، قلت أَقُول برأيي. قَالَ عَن
رَأْيك أَسأَلك، قلت إِنِّي سَمِعت الله أَكثر من ذكر السَّبع
فَذكر الحَدِيث وَفِي آخِره. قَالَ عمر أعجزتم أَن تَقولُوا
مثل مَا قَالَ هَذَا الْغُلَام الَّذِي لم تستو شؤون رَأسه.
أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي مُسْند عمر وَالْحَاكِم وَقَالَ
صَحِيح الْإِسْنَاد إِلَى غير ذَلِك (وَكَانَ) عمر رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ (أَلين للحق) وَأَشد انقيادا لَهُ من غَيره
(وَعنهُ) رَضِي الله عَنهُ (لَا خير فِيكُم إِن لم تَقولُوا)
يَعْنِي كلمة الْحق (وَلَا خير فِي ان لم أسمع) ذكره فِي
التَّقْوِيم وَغَيره (وقصته مَعَ الْمَرْأَة فِي نَهْيه عَن
مغالاة الْمهْر شهيرة) رَوَاهُ غير وَاحِد مِنْهُم أَبُو يعلى
الْموصِلِي بِسَنَد قوي عَن مَسْرُوق قَالَ: ركب عمر ابْن
الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مِنْبَر رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ قَالَ: أَيهَا النَّاس مَا
إكْثَاركُمْ فِي صدَاق النِّسَاء وَقد كَانَ الصَّدقَات فِيمَا
بَين رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين أَصْحَابه
أَرْبَعمِائَة دِرْهَم فَمَا دون ذَلِك وَلَو كَانَ
الْإِكْثَار فِي ذَلِك تقوى عِنْد الله أَو مكرمَة لم
تَسْبِقُوهُمْ إِلَيْهَا فَلَا أَعرفن مَا زَاد رجل فِي صدَاق
امْرَأَة على أَرْبَعمِائَة دِرْهَم، قَالَ ثمَّ نزل
فَاعْتَرَضتهُ امْرَأَة من قُرَيْش فَقَالَت لَهُ يَا أَمِير
الْمُؤمنِينَ نهيت النَّاس أَن يزِيدُوا النِّسَاء فِي صداقهن
على أَرْبَعمِائَة دِرْهَم، قَالَ نعم قَالَت: أما سَمِعت الله
يَقُول - {وَآتَيْتُم إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا
تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئا} - فَقَالَ عمر اللَّهُمَّ عفوا كل
أحد أفقه من عمر، قَالَ ثمَّ رَجَعَ فَركب الْمِنْبَر ثمَّ
قَالَ يَا أَيهَا النَّاس إِنِّي كُنْتُم نَهَيْتُكُمْ أَن
تَزِيدُوا النِّسَاء فِي صداقهن على أَرْبَعمِائَة دِرْهَم
فَمن شَاءَ أَن يُعْطي من مَاله مَا أحب. قَالَ الشَّارِح
لَكِن فِي نفي صِحَة اعتذار ابْن عَبَّاس عَن ترك مُرَاجعَة
عمر بالهيبة نظر، فقد روى الطَّحَاوِيّ وَإِسْمَاعِيل بن
إِسْحَاق وَالْقَاضِي فِي الْأَحْكَام عَن عبيد الله بن عبد
الله بن عتبَة قَالَ: دخلت أَنا وَزفر بن الْحدثَان على ابْن
عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا بعد مَا ذهب بَصَره
فتذاكرنا فَرَائض الْمَوَارِيث فَقَالَ ابْن عَبَّاس:
أَتَرَوْنَ من أحصى رمل عالج عددا لم يخص فِي مَال نصفا وَنصفا
وَثلثا إِذا ذهب نصف وَنصف فَأَيْنَ الثُّلُث، فساق الحَدِيث،
ورأيه فِي ذَلِك وَفِي آخِره، فَقَالَ لَهُ زفر مَا مَنعك أَن
تُشِير عَلَيْهِ بِهَذَا الرَّأْي، قَالَ هَيْبَة وَالله.
قَالَ شَيخنَا الْحَافِظ مَوْقُوف حسن انْتهى، فَإِن قلت كَيفَ
تمنع المهابة
(3/248)
عَن إِظْهَار الْحق قُلْنَا لعلمه
بِأَنَّهُ علم الآراء فِيهِ، وَاخْتَارَ مَا ذهب إِلَيْهِ
الْجُمْهُور وَاسْتَحْسنهُ وَلم يرجع عَن ذَلِك، وَلَا
فَائِدَة فِي المناظرة والمحاجة مَعَه، والاحتشام والإجلال
مَنعه عَن أَمر علم فَائِدَته وَلم يبْق إِلَّا احْتِمَال
مَرْجُوح وَهُوَ أَن يرجع بمناظرته، وَقيل يُمكن أَنه لم يكن
إِذْ ذَاك فِي دَرَجَة الِاجْتِهَاد (وَقد يُقَال السُّكُوت
عَن) إِنْكَار (الْمُنكر مَعَ الْقُدْرَة) عَلَيْهِ (فسق،
وَقَول الْمُجْتَهد لَيْسَ إِيَّاه) أَي مُنْكرا (فَلَا يجب)
على الْمُجْتَهد السَّاكِت (إِظْهَار خِلَافه) أَي خلاف
الْمُجْتَهد الْمُفْتِي أَو القَاضِي (ليَكُون السُّكُوت) عَن
إِنْكَاره (فسقا، بل هُوَ) أَي الْمُجْتَهد السَّاكِت
(مُخَيّر) بَين السُّكُوت وَإِظْهَار الْخلاف، وَهَذَا
(بِخِلَاف الاعتقادي فَإِنَّهُ) أَي الْمُجْتَهد فِيهِ
(مُكَلّف) فِيهِ (بِإِصَابَة الْحق فَغَيره) أَي غير الْحق
إِذا أَتَى بِهِ (عَن اجْتِهَاد مُنكر فَامْتنعَ السُّكُوت)
فِيهِ كَيْلا يكون ساكتا عَن مُنكر فيضيق (إِلَّا أَن يُقَال
يجب) على السَّاكِت إِظْهَار خلاف قَول الْمُفْتِي وَالْقَاضِي
فِي الْفُرُوع أَيْضا (لتجويزه) أَي الْمُجْتَهد السَّاكِت
(رُجُوع الْمُفْتى) أَو القَاضِي (إِلَيْهِ) أَي إِلَى قَوْله
(لحقيته) أَي حقية قَول السَّاكِت فِي اعْتِقَاده ورجاء أَن
يظْهر ذَلِك عِنْد الْمُفْتِي أَو القَاضِي فَيرجع إِلَيْهِ،
وَقد يُقَال أَن هَذَا التجويز لَا يقتضى وجوب إِظْهَار
الْخلاف، كَيفَ وَهُوَ يعلم أَن كلا من الافتاء وَالْقَضَاء
صَحِيح وَاجِب الْعَمَل فِي حق الْمُفْتِي وَالْقَاضِي وَإِن
كَانَ خطأ فِي نفس الْأَمر وسيشير إِلَيْهِ. قَالَ الشَّارِح
على أَنا سنذكر من الْمِيزَان أَن العملى والاعتقادي فِي
الْجَواب سَوَاء على قَول أهل السّنة وَالْقَائِل بِأَن
الْمُجْتَهد قد يُخطئ ويصيب (واذن) أَي وَإِذا كَانَ
الْإِظْهَار وَاجِبا للتجويز الْمَذْكُور (فَقَوْل معَاذ فِي
جلد الْحَامِل) الَّتِي زنت لما هم عمر بجلدها أَن جعل الله
لَك على ظهرهَا سَبِيلا (مَا جعل الله لَك على مَا فِي بَطنهَا
سَبِيلا) فَقَالَ لَوْلَا معَاذ لهلك عمر (للْوُجُوب) أَي
بِسَبَب وجوب إِظْهَار الْمُخَالفَة على الْمُجْتَهد (فَيبْطل)
بِهِ (تَفْصِيل ابْن أبي هُرَيْرَة) الْمشَار إِلَيْهِ بقوله
وَابْن أبي هُرَيْرَة كَذَلِك لَا فِي الْقَضَاء (لكنه) أَي
وجوب إِظْهَار الْمُخَالفَة إِذا جوز رُجُوعه إِلَيْهِ
(مَمْنُوع) لِأَن التجويز غير مُلْزم، وَلَيْسَ مَا ذهب
إِلَيْهِ الْمُجْتَهد الأول مَعْلُوم الْبطلَان وَإِن كَانَ
خطأ فَالْعَمَل بِهِ صَحِيح بظنه، وَلَا نسلم أَن قَول معَاذ
يدل على الْوُجُوب، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَقَول معَاذ
اخْتِيَار لأحد الجائزين) من السُّكُوت وَإِظْهَار
الْمُخَالفَة (أَو) إِظْهَار الْمُخَالفَة وَاجِب (فِي خُصُوص)
هَذِه (الْمَادَّة) لما فِيهِ من صِيَانة نفس مُحْتَرمَة عَن
تعرضها للهلاك (وَقَوله) أَي ابْن أبي هُرَيْرَة (الْعَادة أَن
لَا يُنكر الحكم بِخِلَاف الْفَتْوَى) فَإِنَّهَا تنكر فَلَا
يكون السُّكُوت فِي الْقَضَاء دَلِيل الْمُوَافقَة وَيكون فِي
الْفَتْوَى دليلها، وَقَوله مُبْتَدأ حبره (يعد اسْتِقْرَار
الْمذَاهب) لَا قبله والنزاع إِنَّمَا هُوَ فِيمَا قبله، مفَاد
هَذِه الْعبارَة أَن الْفرق بَينهمَا بالإنكار وَعَدَمه بعد
الِاسْتِقْرَار مُسلم، وَأما قبله فكلاهما يُنكر، وَلَا يخفى
أَن استقرارها
(3/249)
إِنَّمَا يكون سَببا لعدم الْإِنْكَار فِي
الحكم، لِأَن الْمذَاهب إِذا تقررت وَعرف أهل كل مَذْهَب لَا
وَجه للإنكار على صَاحب مَذْهَب فِي الْعَمَل على مُوجبه،
وَهَذِه الْعلَّة مُشْتَركَة بَين الحكم وَالْفَتْوَى فَلَا
وَجه للْفرق بَين الِاسْتِقْرَار أَيْضا: اللَّهُمَّ إِلَّا
أَن يُقَال ارتباط الظّرْف بالْقَوْل بِاعْتِبَار عدم إِنْكَار
الحكم فَقَط، لَا بِاعْتِبَار التَّفْرِقَة بَينهمَا فَتَأمل
(وَقَول الجبائي) فِي اعْتِبَاره الْإِجْمَاع السكوتي بِشَرْط
الانقراض (الِاحْتِمَالَات) الْمَذْكُورَة من الْخَوْف والتفكر
وَغَيرهمَا (تضعف بعد الانقراض) لبعد اسْتِمْرَار هَذِه
الْمَوَانِع إِلَى انْقِرَاض عصرهم (لَا قبله) أَي الانقراض
(مَمْنُوع بل الضعْف) لَهَا (يتَحَقَّق بعد مُضِيّ مُدَّة
التَّأَمُّل فِي مثله) أَي فِي مثل ذَلِك القَوْل (عَادَة وَمن
الْمُحَقِّقين) إِشَارَة إِلَى مَا فِي الشَّرْح العضدي (من
قيد قطعيته) أَي الْإِجْمَاع السكوتي (بِمَا إِذا كثر) وُقُوع
تِلْكَ الْحَادِثَة (وتكرر) تكررا يكون (فِيمَا تعم بِهِ
الْبلوى) وَهُوَ: أَي هَذَا التَّقْيِيد أوجه، هَكَذَا فِي
نُسْخَة اعْتمد عَلَيْهَا، وَفِي نُسْخَة الشَّارِح
(وَحِينَئِذٍ يحْتَمل) أَن يكون مُفِيدا للْقطع بمضمونه على
مَا فسره، وَقَالَ السُّبْكِيّ تكَرر الْفتيا مَعَ طول
الْمدَّة وَعدم الْمُخَالفَة يفضى إِلَى الْقطع وَهُوَ
مُقْتَضى كَلَام إِمَام الْحَرَمَيْنِ.
مسئلة
(إِذا أجمع على قَوْلَيْنِ فِي مسئلة) فِي عصر (لم يجز
إِحْدَاث) قَول (ثَالِث) فِيهَا (عِنْد الْأَكْثَر) مِنْهُم
الإِمَام الرَّازِيّ فِي المعالم، وَنَصّ عَلَيْهِ مُحَمَّد بن
الْحسن وَالشَّافِعِيّ فِي رسَالَته (وَخَصه) أَي عدم جَوَاز
إِحْدَاث ثَالِث (بعض الْحَنَفِيَّة بالصحابة) أما إِذا كَانَ
الْإِجْمَاع على قَوْلَيْنِ مِنْهُم فَلم يجوزوا لمن بعدهمْ
أَحْدَاث ثَالِث فِيهَا (ومختار الْآمِدِيّ) وَابْن الْحَاجِب
يجوز إِن لم يرفع شَيْئا مِمَّا أجمع عَلَيْهِ الْقَوْلَانِ،
وَلَا يجوز (إِن رفع مجمعا عَلَيْهِ كرد الْمُشْتَرَاة بكرا
بعد الْوَطْء لعيب قبل الْوَطْء) كَانَ بهَا عِنْد البَائِع
على المُشْتَرِي بعد الْوَطْء (قيل لَا) يردهَا (وَقيل) يردهَا
(مَعَ الْأَرْش) أَي أرش الْبكارَة. (لَا يُقَال) يردهَا
(مجَّانا) أَي بِغَيْر أرش الْبكارَة لِأَنَّهُ قَول ثَالِث
رَافع لمجمع عَلَيْهِ. نقل الأول عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود،
وَالثَّانِي عَن عمر وَزيد بن ثَابت، وأنهما قَالَا يرد مَعهَا
عشر قيمتهَا إِن كَانَت بكرا، وَنصف عشر قيمتهَا إِن كَانَت
ثَيِّبًا، فقد اتَّفقُوا على عدم ردهَا مجَّانا. قَالَ
الشَّارِح: وَقَالَ شَيخنَا الْحَافِظ، وَفِي هَذَا الْمِثَال
نظر. فَإِن الَّذِي يرْوى عَنْهُم ذَلِك من الصَّحَابَة لم
يثبت عَنْهُم، وَأما التابعون فَصحت عَنْهُم الْأَقْوَال
الثَّلَاثَة: الأول عَن عمر بن عبد الْعَزِيز وَالْحسن
الْبَصْرِيّ، وَالثَّانِي عَن سعيد بن الْمسيب وَشُرَيْح
وَمُحَمّد ابْن سِيرِين وَكثير، وَالثَّالِث عَن الْحَارِث
العكلي وَهُوَ من فُقَهَاء الْكُوفَة من أَقْرَان إِبْرَاهِيم
(3/250)
النَّخعِيّ (ومقاسمة الْجد) الصَّحِيح،
وَهُوَ الَّذِي لَا يدْخل فِي نسبته إِلَى الْمَيِّت أُنْثَى
(الْأُخوة) لِأَبَوَيْنِ أَو لأَب (وحجبه الْأُخوة فَلَا
يُقَال بحرمانه) أَي بحرمان الْجد بهم لِأَنَّهُ قَول ثَالِث
رَافع الْمجمع عَلَيْهِ لِاتِّفَاق الْقَوْلَيْنِ على أَن
للْجدّ حظا من الْمِيرَاث، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي قدره. وَنقل
الشَّارِح عَن شَيْخه الْمَذْكُور فِي هَذَا الْمِثَال أَيْضا
أقوالا ثَلَاثَة مَشْهُورَة عَن الصَّحَابَة: حجبه لَهُم عَن
أبي بكر الصّديق وَعمر وَعُثْمَان وَابْن عَبَّاس وَابْن
الزبير وَغَيرهم، وَأَنه رَجَعَ بَعضهم إِلَى الْمُقَاسَمَة،
وَهُوَ قَول الْأَكْثَر، وَجَاء حرمانه عَن زيد بن ثَابت وَعلي
بن أبي طَالب وَعبد الرَّحْمَن ابْن غنم، ثمَّ رَجَعَ زيد
وَعلي إِلَى الْمُقَاسَمَة. ثمَّ قَالَ اللَّهُمَّ إِلَّا أَن
يثبت إِجْمَاع من بعدهمْ على بطلَان الثَّالِث الَّذِي هُوَ
الحرمان فَلَا يسمع بعد ذَلِك بِنَاء على أَن الْإِجْمَاع
اللَّاحِق يرفع الْخلاف السَّابِق (وعدة الْحَامِل
الْمُتَوفَّى عَنْهَا) زَوجهَا (بِالْوَضْعِ) لحملها كَمَا
عَلَيْهِ عَامَّة أهل الْعلم من الصَّحَابَة وَغَيرهم (أَو
أبعد الْأَجَليْنِ) من الْوَضع ومضي أَرْبَعَة أشهر وَعشر
كَمَا روى عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس. (لَا يُقَال) تنقضى
عدتهَا (بِالْأَشْهرِ فَقَط) لِأَنَّهُ قَول ثَابت رَافع لمجمع
عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إِذا مضى الشَّهْر الأول وَلم تضع الْحمل
اتّفق الْفَرِيقَانِ على عدم مُضِيّ الْعدة. أما على القَوْل
بِالْوَضْعِ فَظَاهر، وَأما على القَوْل بالأبعد فَإِن
الْأَبْعَد يتَحَقَّق (بِخِلَاف الْفَسْخ) للنِّكَاح (بالعيوب)
من الْجُنُون والجذام والبرص والجب والعنة والقرن والرتق وَعدم
الْفَسْخ بهَا (وَزَوْجَة وأبوين أَو زوج) وأبوين (للْأُم ثلث
الْكل أَو ثلث مَا بَقِي) بعد فرض الزَّوْجَيْنِ (يجوز) فيهمَا
قَول ثَالِث وَهُوَ (التَّفْصِيل فِي الْعُيُوب) . قَالَ
الشَّارِح: الْأَقْوَال الثَّلَاثَة فِيهَا مَشْهُورَة عَن
الصَّحَابَة (وَبَين الزَّوْج وَالزَّوْجَة) فَإِن التَّفْصِيل
فِي كل من هذَيْن لَا يرفع مجمعا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ وَافق فِي
كل صُورَة قولا. (وَطَائِفَة) كالظاهرية وَبَعض الْحَنَفِيَّة
قَالُوا (يجوز) إِحْدَاث ثَالِث (مُطلقًا) سَوَاء كَانَ
المجمعون على قَوْلَيْنِ الصَّحَابَة أَو غَيرهم، وَسَوَاء رفع
الثَّالِث مجمعا عَلَيْهِ أَو لم يرفع. قَالَ (الْآمِدِيّ)
إِنَّمَا يجوز الْأَحْدَاث إِذا لم يرفع مجمعا عَلَيْهِ
لِأَنَّهُ (لم يُخَالف مجمعا) عَلَيْهِ (وَهُوَ) أَي خلاف
الْمجمع عَلَيْهِ (الْمَانِع) من الْأَحْدَاث لِأَنَّهُ خرق
للْإِجْمَاع وَلم يُوجد (بل) الثَّالِث حِينَئِذٍ (وَافق كلا)
من الْقَوْلَيْنِ (فِي شَيْء) إِذْ حَاصِل التَّفْصِيل كَون
الْمفصل مَعَ أحد الْفَرِيقَيْنِ فِي صُورَة، وَمَعَ الآخر فِي
غير تِلْكَ الصُّورَة. وَلما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال
وَهُوَ أَن الطَّائِفَتَيْنِ أجمعتا على عدم التَّفْصِيل.
فالتفصل خلاف الْإِجْمَاع قَالَ (وَكَون عدم التَّفْصِيل مجمعا
مَمْنُوع بل هُوَ) أَي الْإِجْمَاع على عدم التَّفْصِيل
(القَوْل بِهِ) أَي بِعَدَمِ التَّفْصِيل، وَالْفَرْض أَنهم
سكتوا عَنهُ، بل يجوز عدم خطوره ببالهم فَكيف يكون مجمعا
عَلَيْهِ لَهُم (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْأَمر كَذَلِك
بِأَن يكون السُّكُوت عَن الشَّيْء قولا بِعَدَمِهِ (امْتنع
القَوْل فِيمَا يحدث) أَي فِي
(3/251)
مسئلة لم يَقع ذكرهَا بَين الْعلمَاء،
وَفِي الزَّمَان السَّابِق وَلَيْسَ لأحد مِنْهُم قَول فِيهَا
(إِذْ) لَو (كَانَ عدم القَوْل قولا بِالْعدمِ) أَي بِعَدَمِ
القَوْل على ذَلِك التَّقْدِير، فَذَلِك بَاطِل إِجْمَاعًا
فَإِن قلت فرق بَين أَن لم يكن للمسئلة ذكر أصلا، وَبَين أَن
يَقع الِاجْتِهَاد فِي طلب الثَّوَاب فِيهَا. ثمَّ ينْحَصر مَا
أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد فِي الْقَوْلَيْنِ قلت مَعَ ذَلِك
لَا يلْزم أَن يخْطر التَّفْصِيل ببالهم فَلم يرتضوا بِهِ
ليَكُون قولا بِعَدَمِهِ. (وَلنَا) على الْمُخْتَار وَهُوَ عدم
جَوَاز إِحْدَاث الثَّالِث مُطلقًا (لَو جَازَ التَّفْصِيل
كَانَ) جَوَازه (مَعَ الْعلم بخطئه) أَي التَّفْصِيل
(لِأَنَّهُ) أَي التَّفْصِيل لَا عَن دَلِيل مُمْتَنع فَهُوَ
(عَن دَلِيل) وَحِينَئِذٍ (فَإِن اطلعوا) أَي المطلقون
(عَلَيْهِ) أَي على ذَلِك الدَّلِيل (وتركوه أَو لم يطلعوا)
عَلَيْهِ (حَتَّى تقرر إِجْمَاعهم على خِلَافه) وَهُوَ الاطلاق
وَعدم التَّفْصِيل (لزم خَطؤُهُ) أَي ذَلِك الدَّلِيل (إِذْ
لَو كَانَ) أَي ذَلِك الدَّلِيل (صَوَابا) لزم أَن المطلقين
وهم جَمِيع مجتهدي الْعَصْر السَّابِق (أخطؤا) بترك الْعَمَل
بِهِ علموه أَو جهلوه (والتالي) أَي خطؤهم (مُنْتَفٍ) وَإِلَّا
يلْزم اجْتِمَاع الْأمة فِي ذَلِك الْعَصْر على الضَّلَالَة
(فَلَيْسَ) دَلِيل التَّفْصِيل (صَوَابا) وَإِذا كَانَ دَلِيل
التَّفْصِيل خطأ فدليل من يحدث ثَالِثا بِلَا تَفْصِيل كَانَ
أولى بالْخَطَأ إِذْ فِي التَّفْصِيل مُوَافقَة لكل من
الْقَوْلَيْنِ فِي شَيْء وَقد عرفت (وَالْمَانِع) من أَحْدَاث
القَوْل الثَّالِث (لم ينْحَصر فِي الْمُخَالفَة) لما أجمع
عَلَيْهِ. لجَوَاز أَن يكون مانعه الْعلم بِأَنَّهُ لَو صَحَّ
لزم خطأ الْكل لما عرفت (مَعَ أَنا نعلم أَن الْمُطلق) من
الْفَرِيقَيْنِ (يَنْفِي التَّفْصِيل) لِأَنَّهُ يَقُول: الْحق
مَا ذهبت إِلَيْهِ لَا غير (فتضمنه) أَي نفي التَّفْصِيل
(إِطْلَاقه) أَي الْمُطلق فَيكون بِمَنْزِلَة التَّنْصِيص على
نفي التَّفْصِيل من الْكل. (وَأما قَوْلهم) أَي الْأَكْثَرين
بِأَنَّهُ لَو جَازَ التَّفْصِيل (يلْزم تخطئة كل فريق)
لكَوْنهم لم يفصلوا (فَيلْزم تخطئتهم) أَي الْأمة كلهَا،
وَهُوَ غير جَائِز للنَّص على أَنَّهَا لَا تَجْتَمِع على
ضَلَالَة، فالتفصيل غير جَائِز (فَدفع بِأَن المنتفى) فِي
النَّص (تخطئة الْكل فِيمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ، لَا تخطئة كل)
أَي كل فريق من الْكل (فِي غير مَا خطئَ فِيهِ) وَفِي بعض
النّسخ فِي غيرما أَخطَأ فِيهِ (الآخر) ولازم التَّفْصِيل من
هَذَا الْقَبِيل قَالَ الْبَيْضَاوِيّ: وَفِيه نظر وَلم
يُبينهُ، وَوَجهه الأسنوى وَغَيره بِأَن الْأَدِلَّة المتضمنة
لعصمة الْأمة عَن الْخَطَأ شَامِلَة للصورتين. وَقَالَ
السُّبْكِيّ: وَهَذَا النّظر لَهُ أصل مُخْتَلف فِيهِ، وَهُوَ
أَنه هَل يجوز انقسام الْأمة إِلَى شطرين كل شطر مُخطئ فِي
مسئلة الْأَكْثَر أَنه لَا يجوز، وَاخْتَارَ الْآمِدِيّ وَابْن
الْحَاجِب خِلَافه وَهُوَ مُتَّجه ظَاهر فَإِن الْمَحْذُور
حُصُول الْإِجْمَاع مِنْهَا على الْخَطَأ إِذْ لَيْسَ كل فَرد
من الْأمة بمعصوم فَإِذا انْفَرد كل وَاحِد بخطأ غير خطأ
صَاحبه فَلَا إِجْمَاع انْتهى قلت يرجع هَذَا الْكَلَام إِلَى
أَن المُرَاد من الضَّلَالَة فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم " لَا تَجْتَمِع أمتِي على الضَّلَالَة " الشخصية إِذْ
(3/252)
لَو حمل على مُطلق الضَّلَالَة لزم كَونهَا
شَامِلَة للصورتين وَالله تَعَالَى أعلم. قَالَ (المجوز
مُطلقًا اخْتلَافهمْ) أَي المجمعين على قَوْلَيْنِ (دَلِيل
تسويغ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد) فِيهَا لدلالته على
كَونهَا اجتهادية والتسويغ الْمَذْكُور من لوازمه (فَلَا يكون)
إِجْمَاعهم على قَوْلَيْنِ المتضمن ذَلِك التسويغ (مَانِعا) من
إِحْدَاث ثَالِث فِيهَا بل مسوغا لَهُ (أُجِيب) بِأَن
اخْتلَافهمْ دَلِيل تسويغ ذَلِك (بِشَرْط عدم حُدُوث إِجْمَاع
مَانع) من الِاجْتِهَاد، وَهَهُنَا قد حدث ضمنا لِأَن كلا من
الْفَرِيقَيْنِ يَنْفِي قَول الآخر، وكل قَول سوى قَوْله
فاختلفا فِي الْقَوْلَيْنِ واتفقا فِيمَا سواهُمَا نفيا،
وَالْقَوْل الثَّالِث مِمَّا سواهُمَا (كَمَا لَو اخْتلفُوا)
فِي حكم حَادِثَة (ثمَّ أَجمعُوا هم) بِأَنْفسِهِم على قَول
وَاحِد فِيهِ. وَأَنت خَبِير بِأَنَّهُ لَوْلَا أَن هَذَا
الْكَلَام ذكر فِي مقَام الْمَنْع كَانَ يُقَال لَا يُقَاس
الْإِجْمَاع الضمني الْمَشْكُوك فِيهِ على الْإِجْمَاع
الصَّرِيح الْمَقْطُوع بِهِ، كَيفَ والمتبادر من الْإِجْمَاع
الْمَذْكُور فِي لَا تَجْتَمِع أمتِي إِنَّمَا هُوَ الصَّرِيح.
(قَالُوا) أَي المجوزون مُطلقًا أَيْضا (لَو لم يجز) إِحْدَاث
قَول ثَالِث (لأنكر إِذْ وَقع) لكنه وَقع (وَلم يُنكر. قَالَ
الصَّحَابَة للْأُم ثلث مَا بَقِي) بعد فرض الزَّوْجَيْنِ
(فيهمَا) أَي فِي مسئلة زوج وأبوين، وَزَوْجَة وأبوين (و)
قَالَ (ابْن عَبَّاس) لَهَا (ثلث الْكل) فيهمَا، روى
الدَّارمِيّ عَنهُ وَعَن عَليّ أَيْضا (وأحدث ابْن سِيرِين
وَغَيره) وَهُوَ جَابر وَابْن زيد أَبُو الشعْثَاء كَمَا ذكر
الْجَصَّاص (أَن) اللَّازِم (فِي مسئلة الزَّوْج) وأبوين
(كَابْن عَبَّاس) أَي كَمَا عين لَهَا (و) للْأُم فِي مسئلة
(الزَّوْجَة) مَعَ الْأَبَوَيْنِ (كالصحابة وَعكس تَابِعِيّ
آخر) وَهُوَ القَاضِي شُرَيْح. كَذَا فِي الْكَافِي، فَفِي
مسئلة الزَّوْج كالصحابة، وَفِي مسئلة الزَّوْجَة كَابْن
عَبَّاس (وَلم يُنكر) إِحْدَاث كل من هذَيْن الْقَوْلَيْنِ
(وَإِلَّا) لَو أنكر (نقل) وَلم ينْقل (أجَاب الْمفصل
بِأَنَّهُ) أَي هَذَا التَّفْصِيل (من قسم الْجَائِز) إحداثه
إِذْ لم يرفع مجمعا عَلَيْهِ (و) أجَاب (مطلقو الْمَنْع
بِمَنْع) كل من (انْتِفَاء الْإِنْكَار وَلُزُوم النَّقْل لَو
أنكر، و) لُزُوم (الشُّهْرَة لَو نقل) بل يجوز أَن يكون أنكر
وَلم ينْقل الْإِنْكَار، وَيجوز أَن يكون نقل وَلم يشْتَهر
فَإِن مثل هَذَا لَيْسَ مِمَّا تتوفر الدَّوَاعِي على حِكَايَة
إِنْكَاره، وَفِيه تَأمل.
مسئلة
قَالَ (الْجُمْهُور إِذا أَجمعُوا) أَي أهل عصر (على دَلِيل)
لحكم (أَو تَأْوِيل جَازَ إِحْدَاث غَيرهمَا) . فِي الشَّرْح
العضدي. إِذا اسْتدلَّ أهل الْعَصْر بِدَلِيل، أَو أولُوا
تَأْوِيلا فَهَل لمن بعدهمْ إِحْدَاث دَلِيل أَو تَأْوِيل آخر
لم يَقُولُوا بِهِ، الْأَكْثَرُونَ على أَنه جَائِز وَهُوَ
الْمُخْتَار، وَمنعه الأقلون هَذَا إِذا لم ينصوا على
بُطْلَانه، وَأما إِذا نصوا فَلَا يجوز اتِّفَاقًا انْتهى،
وَهَذَا الْقَيْد لم يُصَرح بِهِ
(3/253)
المُصَنّف لظُهُوره، إِذْ يسْتَلْزم
أَحْدَاث غَيرهمَا على تَقْدِير التَّنْصِيص خلاف الْإِجْمَاع
(وَهُوَ الْمُخْتَار، وَقيل لَا) يجوز (لنا) أَن كلا من
الدَّلِيل والتأويل (قَول) عَن اجْتِهَاد (لم يُخَالف
إِجْمَاعًا لِأَن عدم القَوْل) بذلك الدَّلِيل أَو التَّأْوِيل
(لَيْسَ قولا بِالْعدمِ) أَي بِعَدَمِ حقيته، فَجَاز لوُجُود
الْمُقْتَضى وَعدم الْمَانِع (بِخِلَاف عدم التَّفْصِيل فِي
مسئلة وَاحِدَة) الْمَذْكُور فِي الْمَسْأَلَة السَّابِقَة
(لِأَنَّهُ) أَي أحد المطلقين (يَقُول لَا يجوز التَّفْصِيل
لبُطْلَان دَلِيله) أَي التَّفْصِيل، وَهَذَا القَوْل لَيْسَ
بتصريح مِنْهُ، بل (بِمَا ذكرنَا) من أَنه لَو جَازَ
التَّفْصِيل كَانَ مَعَ الْعلم بخطئه إِلَى آخِره وَيرد
عَلَيْهِ أَن الْمُطلق صَاحب أحد الْقَوْلَيْنِ فِي
الْمَسْأَلَة الْوَاحِدَة كَابْن عَبَّاس فِيمَا سبق وَكَيف
يتَصَوَّر فِيهِ أَن يَقُول بِلِسَان الْحَال لَو جَازَ
التَّفْصِيل كَانَ مَعَ الْعلم بخطئه. وَأَقُول يتَصَوَّر
لِأَنَّهُ يعلم أَن التَّفْصِيل بَاطِل إِجْمَاعًا فَهُوَ
مَعْلُوم الْخَطَأ عِنْده فَهُوَ يَقُول لَو فرض جَوَازه كَانَ
مَعَ الْعلم بخطئه وَالْأَظْهَر أَن يُقَال قَوْله مَا ذكرنَا
إِشَارَة إِلَى قَوْله مَعَ أَنا نعلم أَن الْمُطلق يَنْفِي
التَّفْصِيل إِلَى آخِره، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَقُول: الْحق
مَا ذهبت إِلَيْهِ لَا غير فَافْهَم (وَكَذَا) الْمُطلق
(الآخر) يَقُول مثل ذَلِك القَوْل بذلك التَّأْوِيل (فَيلْزم)
من الْأَحْدَاث لَهُ (خطؤهم) أَي الْأمة. (وَأَيْضًا لولم يجز)
أَحْدَاث كل من الدَّلِيل والتأويل (لأنكر) أحداثه (حِين وَقع)
لكَونه مُنْكرا، وهم لَا يسكتون عَنهُ (لَكِن) لم يُنكر، بل
(كل عصر بِهِ) أَي بأحداث كل مِنْهُمَا (يتمدحون) ويعدون ذَلِك
فضلا. قَالَ مانعو جَوَازه هُوَ اتِّبَاع غير سَبِيل
الْمُؤمنِينَ إِذْ سبيلهم الدَّلِيل أَو التَّأْوِيل السَّابِق
فَرد عَلَيْهِم بقوله (وَاتِّبَاع غير سبيلهم اتِّبَاع خلاف
مَا قَالُوهُ) مُجْمِعِينَ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادر
من الْمُغَايرَة (لَا مَا لم يقولوه) كَمَا نَحن فِيهِ، ثمَّ
أَن الْمُحدث لَهُ لم يتْرك دَلِيل الْأَوَّلين وَلَا تأويلهم
وَإِنَّمَا ضم دَلِيلا وتأويلا إِلَى دليلهم وتأويلهم كَذَا
ذكره الشَّارِح، وَلَا يخفى أَنه لَا يَسْتَقِيم إِلَّا إِذا
كَانَ مَا أحدثه مستلزما لبُطْلَان مَا قَالُوهُ. (قَالُوا)
أَي مانعو جَوَازه قَالَ الله تَعَالَى - {كُنْتُم خير أمة
أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ} - أَي بِكُل مَعْرُوف
للاستغراق (فَلَو كَانَ) الدَّلِيل أَو التَّأْوِيل (مَعْرُوفا
أمروا) أَي الْأَولونَ (بِهِ) أَي بذلك الدَّلِيل أَو
التَّأْوِيل لَكِن لم يأمروا بِهِ فَلم يكن مَعْرُوفا فَلم يجز
الْمصير إِلَيْهِ (عورض) الدَّلِيل الْمَذْكُور بِأَنَّهُ (لَو
كَانَ) الدَّلِيل أَو التَّأْوِيل (مُنْكرا لنهوا عَنهُ)
لقَوْله تَعَالَى - {وتنهون عَن الْمُنكر} -
مسئلة
(لَا إِجْمَاع إِلَّا عَن مُسْتَند) أَي لدَلِيل قَطْعِيّ أَو
ظَنِّي إِذْ رُتْبَة الِاسْتِدْلَال بِإِثْبَات الْأَحْكَام
لَيست للبشر كَذَا ذكره الشَّارِح، وَفِيه نظر لِأَنَّهُ على
تَقْدِير إِجْمَاعهم على حكم يصير ذَلِك حَقًا بالأدلة
(3/254)
الدَّالَّة على نفي ضَلَالَة الْأمة فَلَا
يلْزم الِاسْتِدْلَال فَافْهَم (وَإِلَّا) لَو تحقق
الْإِجْمَاع صَوَابا لَا عَن مُسْتَند (انقلبت الأباطيل)
وَهُوَ مَجْمُوع أَقْوَال أهل الْإِجْمَاع (صَوَابا أَو أجمع
على خطأ) إِن لم يكن صَوَابا، ثمَّ بَين وَجه الانقلاب بقوله
(لِأَنَّهُ) أَي مَا أجمع عَلَيْهِ بِلَا مُسْتَند (قَول كل)
أَي قَول كل الْأمة (وَقَول كل) فَرد مِنْهُم (بِلَا دَلِيل
محرم) فَثَبت بِهَذِهِ الْمُقدمَة كَون مَجْمُوع الْأَقْوَال
أباطيل، وبالمقدمة الأولى انقلابها صَوَابا لعدم اجْتِمَاعهم
على الضَّلَالَة، وَقد يُقَال لَا نسلم امْتنَاع انقلاب
الأباطيل صَوَابا. أَلا ترى أَن صَاحب التَّرْتِيب إِذا
فَاتَتْهُ صَلَاة وَلم يقضها وَصلى بعْدهَا خمس صلوَات وقتية
حكمنَا بِفساد الْكل. ثمَّ إِذا ضم السَّادِسَة إِلَيْهَا
انقلبت صَحِيحَة، وَله نَظَائِر غير هَذَا فَتَأمل
(وَاسْتدلَّ) لهَذَا القَوْل الْمُخْتَار بِأَنَّهُ
(يَسْتَحِيل) الْإِجْمَاع (عَادَة من الْكل لَا لداع) يَدْعُو
إِلَى الحكم من دَلِيل أَو أَمارَة (كالاجتماع) أَي كاستحالة
اجْتِمَاعهم (على اشتهاء طَعَام) وَاحِد. (وَيدْفَع) هَذَا
الِاسْتِدْلَال (بِأَنَّهُ) أَي الِاجْتِمَاع لَا يلْزم أَن
يكون بِسَبَب دَلِيل. بل يجوز أَن يكون (بِخلق) الْعلم
(الضَّرُورِيّ) بِكَوْن ذَلِك حكم الله تَعَالَى فِي قُلُوبهم
جَمِيعًا (وَيصْلح) هَذَا الدّفع أَن يكون (جَوَاب) الدَّلِيل
(الأول) وَهُوَ لُزُوم انقلاب الأباطيل صَوَابا (أَيْضا إِذْ)
الْعلم (الضَّرُورِيّ حق) فَلَا يصدق على قَول وَاحِد مِنْهُم
أَنه محرم إِذْ حرمته على تَقْدِير عدم الدَّلِيل وَعدم الْعلم
الضَّرُورِيّ فَلَيْسَ الْجَواب أَن الدَّلِيل الثَّانِي أَن
انْتَفَى. فَالْأول كَاف فِي إِثْبَات الْمَطْلُوب (بل
الْجَواب أَنه) أَي احْتِمَال خلق الضَّرُورِيّ (فرض غير
وَاقع) بِإِضَافَة فرض إِلَى غير وَاقع أَو بتوصيفه بِهِ،
وَالْمرَاد بِهِ مَفْرُوض غير مُحْتَمل للوقوع، وَإِلَّا فمجرد
عدم الْوُقُوع لَا يُفِيد عدم جَوَاز الْإِجْمَاع بِلَا
مُسْتَند إِلَّا أَن يكون الْمطلب عدم الْوُقُوع لَا عدم
الْجَوَاز (لِأَن كَونه تَعَالَى خَاطب بِكَذَا) لَا بُد
مِنْهُ فِي الحكم الشَّرْعِيّ بل هُوَ هُوَ لِأَنَّهُ خطاب
الله الْمُتَعَلّق بِفعل العَبْد وَهُوَ (لَا يثبت) شرعا
(ضَرُورَة عقلية) أَي ثبوتا بطرِيق البداهة من غير مَأْخَذ
سَمْعِي (بل) يثبت (بِالسَّمْعِ) أَي بِالدَّلِيلِ السمعي
وَالْفَرْض انتفاؤه، لَا يُقَال هَذَا أول الْبَحْث، لِأَن
مَأْخَذ الْأَحْكَام مضبوطة محصورة إِجْمَاعًا والضرورة لَيست
مِنْهَا وَالْكَلَام فِي ثُبُوته عِنْد كل وَاحِد من المجمعين
قبل انْعِقَاد الْإِجْمَاع (وَلَو ألْقى فِي الروع) بِضَم
الرَّاء الْقلب (فالهام) فِي الْقَامُوس ألهمه لله خيرا لقنه
الله إِيَّاه، وَلَا يظْهر الْفرق بَين هَذَا الْإِلْقَاء
وَبَين ذَلِك الْعلم الضَّرُورِيّ الْحَاصِل بِغَيْر سَبَب من
الْأَسْبَاب، وَهل هُوَ إِلَّا إِلْقَاء من الله فِي الْقلب
دون الإلهام بطرِيق الْفَيْض بِخِلَاف ذَلِك غير ظَاهر،
والإلهام (لَيْسَ بِحجَّة إِلَّا عَن نَبِي. قَالُوا) أَي
المجوزون (لَو كَانَ) الْإِجْمَاع عَن سَنَد (لم يفد
الْإِجْمَاع) للاستغناء بالسند عَنهُ (أُجِيب بِأَن فَائِدَته)
أَي الْإِجْمَاع حِينَئِذٍ (التَّحَوُّل) من الْأَحْكَام
الظنية
(3/255)
(إِلَى الْأَحْكَام القطعية) وَهَذَا إِذا
كَانَ السَّنَد ظنيا، وَأما إِذا كَانَ قَطْعِيا فالفائدة
تَأْكِيد الْقطع وَإِثْبَات الحكم بِكُل مِنْهُمَا وَسُقُوط
الْبَحْث عَن ذَلِك الدَّلِيل وَكَيْفِيَّة دلَالَته، وسنشير
إِلَى بَعْضهَا (على أَنه) أَي نفي فَائِدَة لإِجْمَاع على
دَلِيل (يسْتَلْزم لُزُوم نفي الْمُسْتَند) لإيجابه كَونه عَن
غير دَلِيل، وَلَا قَائِل بِهِ لأَنهم يَقُولُونَ لَا يجب
الْمُسْتَند، لَا أَنه يجب عَدمه (ثمَّ يجوز كَونه) أَي
الْمُسْتَند (قِيَاسا خلافًا للظاهرية) وَابْن جرير
الطَّبَرِيّ، أما الظَّاهِرِيَّة فَلَا يستغرب مِنْهُم لأَنهم
لَا يَقُولُونَ بِالْقِيَاسِ، وَأما ابْن جرير فَهُوَ قَائِل
بِالْقِيَاسِ (وَبَعْضهمْ) أَي الْأُصُولِيِّينَ (يجوزه) أَي
كَونه عَن قِيَاس عقلا (و) يَقُول (لم يَقع لنا لَا مَانع
يقدر) أَي لَا يُوجد شَيْء يفْرض مَانِعا عَن كَون الْقيَاس
سَنَد الاجماع (الا الظنية) أَي كَونه دَلِيلا ظنياً بِأَن
يُقَال كَيفَ يكون الظني سَبَب انْعِقَاد قَطْعِيّ (وَلَيْسَت)
الظنية (مَانِعَة) عَن ذَلِك (كالآحاد) فَإِنَّهُ ظَنِّي، فِي
البديع لَا خلاف فِي انْعِقَاد الْإِجْمَاع عَن خبر الْآحَاد
(وَوَقع قِيَاس الْإِمَامَة) الْكُبْرَى للصديق (على إِمَامَة
الصَّلَاة) مُسْتَند إِجْمَاع الصَّحَابَة عَلَيْهَا،
فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عين أَبَا بكر رَضِي الله
عَنهُ لإمامة الصَّلَاة كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا.
وَقَالَ ابْن مَسْعُود: لما قبض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَت الْأَنْصَار منا أَمِير ومنكم أَمِير فَأَتَاهُم
عمر فَقَالَ: ألستم تعلمُونَ أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَبَا بكر أَن يصلى بِالنَّاسِ فَأَيكُمْ
تطيب نَفسه أَن يتَقَدَّم أَبَا بكر، فَقَالُوا نَعُوذ
بِاللَّه أَن نتقدم أَبَا بكر حَدِيث حسن أخرجه أَحْمد
وَالدَّارَقُطْنِيّ عَن النزال بن سُبْرَة، وَعَن عَليّ رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ أَنه قيل لَهُ حَدثنَا عَن أبي بكر قَالَ:
ذَاك رجل سَمَّاهُ الله تَعَالَى الصّديق على لِسَان جِبْرِيل
خَليفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الصَّلَاة
رضيه لديننا فرضيناه لدنيانا (وَفِيه) أَي كَون مُسْتَند هَذَا
الْإِجْمَاع الْقيَاس (نظر لأَنهم) أَي الصَّحَابَة (أثبتوه)
أَي كَونه خَليفَة (بِأولى وَهِي) أَي طَريقَة إفادته
(الدّلَالَة) فِي اصْطِلَاح الْحَنَفِيَّة (وَمَفْهُوم
الْمُوَافقَة) فِي اصْطِلَاح الشَّافِعِيَّة، وَقد مر
تَفْسِيره غير مرّة، ومرجعه النَّص لَا الْقيَاس (لَكِن
مَأْخَذ وُقُوع الْإِجْمَاع مُسْتَندا إِلَى الْقيَاس (حد
الشّرْب) للخمر فَإِنَّهُ ثَمَانُون بِإِجْمَاع الصَّحَابَة
قِيَاسا (على) حد (الْقَذْف) وأصل هَذَا الْقيَاس (لعَلي رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ) فِي الْمُوَطَّأ وَغَيره أَن عمر
اسْتَشَارَ فِي الْخمر يشْربهَا الرجل، فَقَالَ لَهُ عَليّ بن
أبي طَالب: نرى أَن يجلد ثَمَانِينَ فَإِنَّهُ إِذا شرب سكر
وَإِذا سكر هذى وَإِذا هذى افترى وعَلى المفتري ثَمَانُون
انْتهى، فالجامع بَينهمَا الافتراء (ويمنعه) أَي ثُبُوت الْحَد
بِالْقِيَاسِ (بعض الْحَنَفِيَّة) بِنَاء على أَنه لَا يثبت
الْحَد عِنْدهم بِخَبَر الْوَاحِد، وَإِذا منع هَذَا (فالشيرج
النَّجس على السّمن فِي الإراقة) أَي الْإِجْمَاع على إِرَاقَة
الشيرج النَّجس الْمَائِع الْمُسْتَفَاد مِمَّا فِي سنَن أبي
دَاوُد وصحيح ابْن حبَان عَن أبي هُرَيْرَة سُئِلَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(3/256)
عَن الْفَأْرَة تقع فِي السّمن فَقَالَ إِن
كَانَ جَامِدا فألقوها وَمَا حولهَا وكلوه، وَإِن كَانَ
مَائِعا فَلَا تقربوه وَقد أعل بتفرد معمر عَن الزُّهْرِيّ،
وبالاضطراب فِي إِسْنَاده وَمَتنه على أَنه مَتْرُوك الظَّاهِر
عِنْد عَامَّة السّلف لتجويزهم الاستصباح بِهِ، وَكثير مِنْهُم
يجوز بَيْعه. وَقَوله فالشيرج خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف أَعنِي
أولى بِالْمَنْعِ: أَي فمثاله، وَيحْتَمل أَن يكون مُبْتَدأ
خَبره مَحْذُوف: أَعنِي أولى بِالْمَنْعِ، لِأَن أصل الْقيَاس
مطعون وَالْإِجْمَاع غير ثَابت، إِذْ لَو ثَبت لما جوز السّلف
وَالْخلف مَا ذكر (وَصرح مُتَأَخّر من الْحَنَفِيَّة أَيْضا
بِنَفْي قَطْعِيَّة الْمُسْتَند) للْإِجْمَاع (فِي الشرعيات،
بل الْإِجْمَاع يفيدها) أَي القطعية (كَأَنَّهُ) أَي
التَّصْرِيح بِمَا ذكر (لنفي الْفَائِدَة) للْإِجْمَاع على
تَقْدِير كَون الْمُسْتَند قَطْعِيا لثُبُوت الْقطع بالحكم
بِنَفس الْمُسْتَند، وَقد عرفت مَا فِيهِ، ولعامة الْعلمَاء
أَن الدَّلَائِل الْمُوجبَة لكَون الْإِجْمَاع حجَّة لَا تفصل
بَينهمَا (وَإِذا قيل) الْإِجْمَاع الْمُسْتَند إِلَى قَطْعِيّ
(يفيدها) أَي القطعية (بِأولى) أَي بطرِيق أولى لما فِيهِ من
زِيَادَة التَّأْكِيد واطمئنان الْقلب (انْتَفَى) مَا ذكر من
نفي الْفَائِدَة، ثمَّ (هَذَا) بِنَاء (على عدم تفَاوت
الْقطعِي قُوَّة كَمَا أسلفناه) وَأما على تفاوته فَالْأَمْر
ظَاهر. وَفِي التَّلْوِيح: وَاعْلَم أَنه لَا معنى للنزاع فِي
كَون السَّنَد قَطْعِيا لِأَنَّهُ إِن أُرِيد بِهِ أَنه لَا
يَقع اتِّفَاق مجتهدي عصر على حكم ثَابت بِدَلِيل قَطْعِيّ
فَظَاهر الْبطلَان، وَكَذَا إِن أُرِيد بِهِ أَنه لَا يُسمى
إِجْمَاعًا، لِأَن الْحَد صَادِق عَلَيْهِ، وَإِن أُرِيد أَنه
لَا يثبت الحكم فَلَا يتَصَوَّر النزاع فِيهِ لِأَن إِثْبَات
الثَّابِت محَال انْتهى. وَمُوجب هَذَا أَن لَا يصلح قَوْلنَا
هَذَا الحكم ثَبت بِالْكتاب وَالسّنة فَلْيتَأَمَّل.
مسئلة
(لَا يجوز أَن يعلمُوا) أَي مجتهدو عصر (دَلِيلا راجحا) أَي
سالما عَن الْمعَارض المكافئ لَهُ، كَذَا ذكره الشَّارِح،
وَلَا يخفى أَن هَذَا تَفْسِير باللازم وَمَفْهُوم الرجحان
بَين، والمحتاج إِلَى الْبَيَان تعْيين الْمَدْلُول: وَهُوَ
خلاف مَا أدّى إِلَيْهِ اجتهادهم: كَمَا يفِيدهُ قَوْله
(عمِلُوا بِخِلَافِهِ) أَي بِخِلَاف مُوجبه. تَوْضِيحه أَنه
لَا يُمكن أَن يكون لخلاف مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ دَلِيل رَاجِح
على دَلِيل مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ وهم لَا يعلمُونَ ذَلِك
الدَّلِيل (وَاخْتلفُوا فِيمَا) أَي فِي عدم الْعلم بِدَلِيل
رَاجِح (عمِلُوا على وَفقه) بِأَن يكون عَمَلهم مَبْنِيا على
دَلِيل مَرْجُوح لعدم علمهمْ بالمرجح فهم حِينَئِذٍ مصيبون فِي
الحكم مخطئون فِي الدَّلِيل، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله
(مصيبين) أَي فِي الحكم لَكِن بِدَلِيل مَرْجُوح (فَقيل
كَذَلِك) أَي لَا يجوز (لِأَن الرَّاجِح سبيلهم) أَي
الْمُؤمنِينَ (وَعمِلُوا بِغَيْرِهِ) حَيْثُ بنوا مَذْهَبهم
(3/257)
على الْمَرْجُوح (والمجوز) لعدم علمهمْ
بِالدَّلِيلِ الرَّاجِح الَّذِي عمِلُوا على وَفقه يَقُول:
(لَيْسَ) عدم الْعلم بالراجح (بِإِجْمَاع على عَدمه) أَي
الرَّاجِح (ليَكُون خطأ) واجتماعا على الضَّلَالَة كَمَا إِذا
لم يحكموا بِحكم هُوَ صَوَاب لَا يكون ذَلِك قولا بِعَدَمِهِ
(وسبيلهم) أَي الْمُؤمنِينَ (مَا عمِلُوا بِهِ، لَا مَا لم
يخْطر لَهُم) بالبال (بل هُوَ) أَي الَّذِي لم يخْطر لَهُم
(حِينَئِذٍ) أَي حِين لم يخْطر لَهُم (من شَأْنه) أَن يكون
سبيلهم، لَا أَنه سبيلهم بِالْفِعْلِ.
مسئلة
(الْمُخْتَار امْتنَاع ارتداد أمة عصر سمعا وَإِن جَازَ)
ارتدادهم (عقلا) إِذْ لَا مَانع مِنْهُ (وَقيل يجوز) شرعا
كَمَا يجوز عقلا (لنا أَنه) أَي ارتدادهم (إِجْمَاع على
الضَّلَالَة والسمعية) من الْأَدِلَّة الْمُتَقَدّمَة على حجية
الْإِجْمَاع (تنفيه) أَي الْإِجْمَاع على الضَّلَالَة
(وَاعْترض بِأَن الرِّدَّة تخرجهم) أَي الَّذين كَانُوا أمة
قبل الرِّدَّة (عَن تنَاولهَا) أَي الْأَدِلَّة: أَي السمعية
إيَّاهُم حَال الرِّدَّة (إِذْ لَيْسُوا أمته) حِينَئِذٍ
(وَالْجَوَاب يصدق) إِذا ارْتَدُّوا أَنه (ارْتَدَّت أمته
قطعا) أَو رد عَلَيْهِ أَن صدقه بطرِيق الْحَقِيقَة غير مُسلم،
وَإِنَّمَا هُوَ مجَاز بِاعْتِبَار مَا كَانَ وَأجِيب بِأَن
ذَلِك إِذا أطلق بعد وُقُوع الرِّدَّة، أما فِي حَالهَا
فَالظَّاهِر أَنه حَقِيقَة. قَالَ السُّبْكِيّ الارتداد عِلّة
الْخُرُوج فَإِن كَانَت الْعلَّة سَابِقَة فَهِيَ حَقِيقَة،
وَإِلَّا فَلَا انْتهى.
مسئلة
(ظن أَن قَول الشَّافِعِي: دِيَة الْيَهُودِيّ الثُّلُث) من
دِيَة الْمُسلم (يتَمَسَّك فِيهِ بِالْإِجْمَاع لقَوْل الْكل
بِالثُّلثِ، إِذْ قيل بِهِ) أَي بِالثُّلثِ (وبالنصف و) ب
(الْكل، وَلَيْسَ) كَذَلِك (لِأَن نفي الزَّائِد) على الثُّلُث
(جُزْء قَوْله) أَي الشَّافِعِي لِأَنَّهُ يَقُول بِوُجُوب
الثُّلُث فَقَط (وَلم يجمع عَلَيْهِ) أَي على نفي الزَّائِد،
وَقد يُقَال أحد الجزءين وَهُوَ وجوب الثُّلُث ثَابت
بِالْإِجْمَاع، وَوُجُوب مَا زَاد عَلَيْهِ مَشْكُوك فِيهِ
لمَكَان الِاخْتِلَاف فِيهِ فَلَا يثبت مَعَ وجود الشَّك،
وَالْأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة، وَهَذَا معنى التَّمَسُّك
فِيهِ بِالْإِجْمَاع فَتَأمل.
مسئلة
(إِنْكَار حكم الْإِجْمَاع الْقطعِي يكفر) متعاطيه وَيجوز أَن
يكون بِصِيغَة الْمَعْلُوم بِأَن يَجْعَل سَبَب التَّكْفِير
مكفرا (عِنْد الْحَنَفِيَّة وَطَائِفَة) لما ذكر من أَن
إِجْمَاع مثل هَذَا الْجمع الْعَظِيم لَا يكون إِلَّا بِسَنَد
قَاطع، فإنكاره إِنْكَار لذَلِك الْقَاطِع، وإنكاره كفر
لاستلزامه تَكْذِيب الرَّسُول
(3/258)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ الشَّارِح:
أَن نسبته إِلَى الْحَنَفِيَّة لَيْسَ على الْعُمُوم، إِذْ فِي
الْمِيزَان فَأَما إِنْكَار مَا هُوَ ثَابت قطعا من الشرعيات
بِأَن علم بِالْإِجْمَاع وَالْخَبَر الْمَشْهُور فَالصَّحِيح
من الْمَذْهَب أَنه لَا يكفر انْتهى، وَفِي التَّقْوِيم نفي
تَكْفِير الروافض والخوارج فِي إنكارهم إِمَامَة أبي بكر وَعمر
لكَونه عَن شُبْهَة وَإِن كَانَت فَاسِدَة. (و) قَالَت
(طَائِفَة لَا) يكفر وَهُوَ معزو إِلَى بعض الْمُتَكَلِّمين
بِنَاء على أَن الْإِجْمَاع حجَّة ظنية لِأَن دَلِيل حجيته
لَيْسَ بقطعي، وَقد عرفت قطعيته فِي أول الْبَاب (وَيُعْطِي)
أَي يُفِيد (الْأَحْكَام) للآمدي (وَغَيره) كمختصر ابْن
الْحَاجِب أَن فِي هَذِه المسئلة (ثَلَاثَة) من الْأَقْوَال
(هذَيْن وَالتَّفْصِيل) وَهُوَ (مَا) كَانَ (من ضروريات
الدّين) أَي دين الْإِسْلَام: وَهُوَ مَا يعرفهُ الْخَواص
والعوام من غير قبُول للتشكيك كالتوحيد والرسالة وَوُجُوب
الصَّلَاة وَالصَّوْم وَالزَّكَاة وَالْحج (يكفر) منكره
(وَإِلَّا فَلَا) يكفر (وَهُوَ) أَي هَذَا الَّذِي أَفَادَهُ
الْأَحْكَام من كَون الْأَقْوَال ثَلَاثَة (غير وَاقع)
لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ عدم إكفار مُنكر نَحْو الصَّلَاة عِنْد
الْبَعْض، وَهَذَا لَا يتَصَوَّر (إِذْ لَا مُسلم يَنْفِي كفر
مُنكر نَحْو الصَّلَاة) فَلَيْسَ فِي الْوَاقِع إِلَّا
قَولَانِ: أَحدهمَا التَّكْفِير مُطلقًا، وَهُوَ الَّذِي مَشى
عَلَيْهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ لَكِن قَالَ: فَشَا فِي لِسَان
الْفُقَهَاء أَن خارق الْإِجْمَاع يكفر، وَهُوَ بَاطِل قطعا،
فَإِن من يُنكر أصل الْإِجْمَاع لَا يكفر، نعم من اعْترف
بِالْإِجْمَاع وَأقر بِصدق المجمعين فِي النَّقْل، ثمَّ أنكر
مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ كَانَ تَكْذِيبًا للشارع وَهُوَ كفر،
وَثَانِيهمَا التَّفْصِيل الْمَذْكُور، وَقد يُقَال: إِن
مُرَاد الْآمِدِيّ أَن مِنْهُم من قَالَ إِنْكَار حكم
الْإِجْمَاع الْقطعِي كفر مُطلقًا، وَمِنْهُم من قَالَ لَيْسَ
بِكفْر مُطلقًا بِمَعْنى أَنه لَيْسَ بِكفْر من حَيْثُ أَنه
مُنكر للْإِجْمَاع، غَايَة الْأَمر أَنه يلْزم عَلَيْهِ عدم
تَكْفِير مُنكر الصَّلَاة من حَيْثُ الْإِجْمَاع، وَهَذَا لَا
يُنَافِي تكفيره من حَيْثُ الضَّرُورَة الدِّينِيَّة، وَصَاحب
القَوْل الثَّالِث يَجْعَل الضَّرُورَة رَاجِعَة إِلَى
الْإِجْمَاع فَتَأمل (وَإِذا حمل حكم الْإِجْمَاع) المبحوث عَن
تَكْفِير منكره الْمَذْكُور فِي الْأَحْكَام (على الْخُصُوص)
وَهُوَ مَا لَيْسَ من ضروريات الدّين دفعا للإيراد الْمَذْكُور
لَا يَصح أَيْضا إِذْ (لم يتَنَاوَلهُ) أَي الْإِجْمَاع على
مَا هُوَ من ضروريات الدّين بل يباينه، هَكَذَا فسر الشَّارِح
هَذَا الْمحل ولارتباط قَول المُصَنّف (لِأَن حكمه حِينَئِذٍ
مَا لَيْسَ إِلَّا عَنهُ) قدر قبل التَّعْلِيل قَوْله وَلَيْسَ
كَون الشَّيْء ملزما بِالضَّرُورَةِ عَن الدّين حكم
الْإِجْمَاع، وَلَا يخفى مَا فِيهِ، وَالْأَوْجه أَن يُقَال
أَن حكم الشَّيْء أَثَره الْمُتَرَتب عَلَيْهِ، وَإِذا حمل حكم
الْإِجْمَاع على مَا يَتَرَتَّب على خُصُوص كَونه إِجْمَاعًا:
أَي على حكم الْإِجْمَاع من حَيْثُ هُوَ إِجْمَاع لَا
بِالنّظرِ إِلَى الْمجمع لم يتَنَاوَل الحكم بِهَذَا الْمَعْنى
حكم الْإِجْمَاع وَلَا يخفى مَا فِيهِ، وَالْأَوْجه أَن يُقَال
أَن حكم الشَّيْء أَثَره الْمُتَرَتب عَلَيْهِ بِهَذَا
الْمَعْنى حكم الْإِجْمَاع المنضم إِلَيْهِ الضَّرُورَة
الدِّينِيَّة، فنحو تَكْفِير مُنكر الصَّلَاة أثر يَتَرَتَّب
على خُصُوصِيَّة الْمجمع عَلَيْهِ
(3/259)
بِاعْتِبَار كَونه من ضروريات الدّين،
وَمعنى قَوْله لِأَن حكمه الخ: أَي حكم الْإِجْمَاع حِينَئِذٍ:
أَي حِين حمل الحكم على الْخُصُوص بِالْمَعْنَى الَّذِي
عَرفته: أَي حكم لَيْسَ إِلَّا ناشئا عَن الْإِجْمَاع من
حَيْثُ هُوَ إِجْمَاع وَالله تَعَالَى أعلم، وَإِنَّمَا قيد
الْإِجْمَاع بالقطعي لِأَن الظني لَا يكفر جاحده وفَاقا (و)
قيد (فَخر الْإِسْلَام) الْإِجْمَاع الَّذِي يكفر جاحده
(بالقطعي) الَّذِي (من إِجْمَاع الصَّحَابَة نصا) أَي
إِجْمَاعًا على سَبِيل التَّنْصِيص من الْبَعْض (كعلي) أَي
كالإجماع على (خلَافَة أبي بكر و) كالإجماع على (قتال مانعي
الزَّكَاة وَمَعَ سكُوت بَعضهم) أَي الصَّحَابَة. قَالَ
الشَّارِح بعد مَا نقل من كَلَام فَخر الْإِسْلَام مَا يدل على
أَن الْإِجْمَاع بِاعْتِبَار الْعلَّة أَصله كالكتاب وَالسّنة
المتواترة فيكفر جاحده، وَأَن التَّقْيِيد بِالْأَصْلِ
لِأَنَّهُ رُبمَا لَا يُوجب لعَارض كَمَا إِذا ثَبت بِنَصّ بعض
وسكوت آخَرين إِلَى غير ذَلِك، فَظهر أَن كَون فَخر
الْإِسْلَام قَائِلا بإكفار مُنكر الْإِجْمَاع السكوتي من
الصَّحَابَة غير ظَاهر انْتهى. وَالْمُصَنّف لَو لم يثبت
عِنْده مَا نَقله عَنهُ مَا كَانَ يَنْقُلهُ فَكَأَنَّهُ يفرق
بَين سكُوت الصَّحَابَة وسكوت غَيرهم (وَأما) مُنكر إِجْمَاع
(من بعدهمْ) أَي الصَّحَابَة (بِلَا سبق خلاف فيضلل) ويخطأ من
غير اكفار (كالخبر الْمَشْهُور) أَي كمكره (و) الْإِجْمَاع
(الْمَسْبُوق بِهِ) أَي بِخِلَاف مُسْتَقر (ظَنِّي مقدم على
الْقيَاس كالمنقول) أَي كالإجماع الْمَنْقُول (آحادا) بِأَن
روى ثِقَة أَن الصَّحَابَة أَجمعُوا على كَذَا فَإِنَّهُ
بِمَنْزِلَة السّنة المنقولة بالآحاد فَيُوجب الْعَمَل لَا
الْعلم عِنْد الْعلمَاء. (وَوجه التَّرْتِيب) فِي هَذِه
الاجماعات (قَطْعِيَّة) إِجْمَاع (الصَّحَابِيّ) (إِذْ لم
يعْتَبر خلاف منكره) أَي إِجْمَاعهم (وَضعف الْخلاف) أَي خلاف
مُنكر الْإِجْمَاع (فِيمَن سواهُم فَنزل) إِجْمَاع من سواهُم
(عَن القطعية إِلَى قربهَا) أَي القطعية (من الطُّمَأْنِينَة،
وَمثله) أَي مثل إِجْمَاع من سواهُم فِي النُّزُول إِلَى
الطُّمَأْنِينَة (يجب) أَن يتَحَقَّق (فِي) الْإِجْمَاع
(السكوتي على) الراي (الْأَوْجه فضلل) مُنكر حكمه (وقوى)
الْخلاف (فِي) الْإِجْمَاع (الْمَسْبُوق) بِخِلَاف مُسْتَقر
(و) الْإِجْمَاع (الْمَنْقُول آحادا) أَي حَال كَون ناقله
آحادا (فحجة ظنية تقدم على الْقيَاس فَيجوز فيهمَا) أَي فِي
حكمي الْمَسْبُوق وَالْمَنْقُول آحادا (الِاجْتِهَاد) لمجتهد
من غير المجمعين، كَذَا قَيده الشَّارِح، وَلَا يظْهر وَجه
التَّقْيِيد فِي الْمَسْبُوق فَإِنَّهُ يجوز أَن يجْتَهد
بَعضهم أَيْضا (بِخِلَافِهِ) بعد اتفاقه مَعَهم عِنْد
الِانْعِقَاد، ويسوغ لَهُ الْعَمَل بِمَا أدّى إِلَيْهِ
اجْتِهَاده مُخَالفا لرأيه الأول، وأو فِي الْمَنْقُول فَلَا
يتَصَوَّر مثل هَذَا إِلَّا إِذا أخبر بعض المجمعين بِاتِّفَاق
من سواهُ من أهل عصره بأخبار الْآحَاد فَتَأمل، وَيدل على مَا
قُلْنَاهُ قَوْله (فرجوع بَعضهم) أَي المجمعين عَنهُ إِلَى
غَيره اجْتِهَادًا يجوز بطرِيق (أولى) إِذْ فِي مُخَالفَة
غَيرهم الْإِجْمَاع مَوْجُود عِنْد من يشْتَرط انْقِرَاض عصر
المجمعين، وَعند غَيره رُجُوع الْبَعْض فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ
يَنْعَدِم
(3/260)
(ثمَّ لَيْسَ) هَذَا الْإِجْمَاع (نسخا)
للْأولِ هَكَذَا فسر الشَّارِح ضمير لَيْسَ بِتَأْوِيل أَن
قَوْله فَيجوز فيهمَا الِاجْتِهَاد بِاعْتِبَار إِطْلَاقه
مُفِيد جَوَاز أَن يَنْتَهِي تضافر الاجتهادات فِي جَانب
الْخلاف إِلَى دَرَجَة الْإِجْمَاع عَلَيْهِ فَيصير مجمعا
عَلَيْهِ، بِخِلَاف مَا أجمع عَلَيْهِ، وَأَنت خَبِير بِأَن
هَذَا تكلّف مُسْتَغْنى عَنهُ، إِذْ الظَّاهِر أَن يرجع
الضَّمِير إِلَى الْمَذْكُور من جَوَاز الِاجْتِهَاد بِخِلَاف
مَا أجمع أَو جَوَاز رُجُوع الْبَعْض فَإِنَّهُ يُوهم نسخ
الْإِجْمَاع السَّابِق، وَمَعَ عدم منسوخيته لَا مجَال للْخلاف
(بل) الِاجْتِهَاد بِخِلَافِهِ (معَارض) لذَلِك الْإِجْمَاع
الظني لجَوَاز التَّعَارُض بَين ظنيين (رجح) الِاجْتِهَاد
بِخِلَافِهِ على ذَلِك الْإِجْمَاع بمرجح من المرجحات بِحَسب
مَا ظهر لأَجله، وَإِذا كَانَ كَذَلِك (فَلَا يقطع بخطأ الأول
وَلَا صَوَابه) فِي الْوَاقِع (بل هُوَ) أَي قَول كل بخطأ
مخالفه وإصابة نَفسه بِنَاء (على ظن الْمُجْتَهد) ذَلِك،
وَهُوَ قد يكون مطابقا للْوَاقِع، وَقد لَا (فدليل القطعية)
للْإِجْمَاع الْمُسْتَفَاد (من إِجْمَاع الصَّحَابَة على
تَقْدِيمه) أَي الْإِجْمَاع (على الْقَاطِع) إِنَّمَا يتم
(فِي) حق (إِجْمَاعهم) لما أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله فِي
أَوَائِل الْبَاب من أَن قطع مثلهم عَادَة لَا يكون إِلَّا عَن
سَمْعِي قَاطع فِي ذَلِك (وَمنع الْغَزالِيّ وَبَعض
الْحَنَفِيَّة حجية الآحادي) أَي الْإِجْمَاع الَّذِي نقل
إِلَيْنَا بأخبار الْآحَاد (إِذْ لَيْسَ) الْآحَاد (نصا)
وَهُوَ ظَاهر (وَلَا إِجْمَاعًا لِأَنَّهُ) أَي الْإِجْمَاع
دَلِيل (قَطْعِيّ) والآحادي لَيْسَ بقطعي (وحجية غير
الْقَاطِع) إِنَّمَا تثبت (بقاطع كَخَبَر الْوَاحِد) أَي كَمَا
تثبت حجية خبر الْوَاحِد بقطعي على مَا مر (وَلَا قَاطع فِيهِ)
أَي فِي الآحادي (وَالْجَوَاب بل فِيهِ) أَي كَون الآحادي
حجَّة قَاطع (وَهُوَ) أَي الْقَاطِع فِيهِ (أولويته) أَي
الْإِجْمَاع الآحادي (بهَا) أَي بالحجية (من خبر الْوَاحِد
الظني الدّلَالَة، لِأَن الْإِجْمَاع على وجوب الْعَمَل بِهِ)
أَي بِخَبَر الْوَاحِد الظني الدّلَالَة الَّذِي تخللت
الْوَاسِطَة بَين الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبَين من
بلغه (إِجْمَاع عَلَيْهِ) أَي على وجوب الْعَمَل (فِي)
الْإِجْمَاع (الْقطعِي الْمَنْقُول آحادا) إِذْ كل مِنْهُمَا
يُفِيد الْقطع بِاعْتِبَار أَصله، وَنقل إِلَيْنَا بِوَاسِطَة
الْآحَاد فاستويا من حَيْثُ الشُّبْهَة الناشئة عَن
الْوَاسِطَة، وترجح الْإِجْمَاع الآحادي بِاعْتِبَار
قَطْعِيَّة دلَالَته، بِخِلَاف الْخَبَر الْمَذْكُور (وَقد
فرق) بَين خبر الْوَاحِد وَالْإِجْمَاع الآحادي (بإفادة نقل
الْوَاحِد الظَّن فِي الْخَبَر دون الْإِجْمَاع لبعد
انْفِرَاده) أَي الْوَاحِد (بالاطلاع) على إِجْمَاع أهل عصر،
وَعدم بعد انْفِرَاده بالاطلاع على الْخَبَر (وَيدْفَع) هَذَا
(الاستبعاد بعدالة النَّاقِل) إِذْ صُدُور الْكَذِب من الْعدْل
فِي أصل ديني أبعد من الِانْفِرَاد، خُصُوصا إِذا كَانَ خبر
الْآحَاد متحققا فِي جمع كثير فَإِن عدد المخبرين إِذا كَانَ
دون عدد التَّوَاتُر يُقَال لَهُ خبر الْوَاحِد (وَلَا
يسْتَلْزم) نقل الْوَاحِد (الِانْفِرَاد) فِي الْعلم بتحقق
ذَلِك الْإِجْمَاع فِي نفس الْأَمر (بل) يسْتَلْزم (مُجَرّد
علمه أَي النَّاقِل مَعَ تَجْوِيز أَن يكون لَهُ شَرِيكا فِي
الْعلم بِهِ (فَجَاز علم من لم يَنْقُلهُ أَيْضا، مِثَاله) أَي
الْإِجْمَاع
(3/261)
الآحادي (قَول عُبَيْدَة) السَّلمَانِي
(مَا اجْتمع أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على
شَيْء كاجتماعهم على مُحَافظَة الْأَرْبَع قبل الظّهْر،
والأسفار بِالْفَجْرِ، وَتَحْرِيم نِكَاح الْأُخْت فِي عدَّة
الْأُخْت) . قَالَ الشَّارِح: كَذَا توارده الْمَشَايِخ
رَحِمهم الله تَعَالَى وَالله أعلم بِهِ. أخرجه ابْن أبي شيبَة
عَن معمر ابْن مَيْمُون قَالَ: لم يكن أَصْحَاب رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتركون أَربع رَكْعَات قبل الظّهْر
وَرَكْعَتَيْنِ قبل الْفجْر على حَال. وَعَن إِبْرَاهِيم
قَالَ: مَا أجمع أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
على شَيْء مَا أَجمعُوا على التَّنْوِير بِالْفَجْرِ. هَذَا
وَفِي التَّقْوِيم حكى مَشَايِخنَا عَن مُحَمَّد بن الْحسن نصا
أَن إِجْمَاع كل عصر حجَّة إِلَّا أَنه على مَرَاتِب
أَرْبَعَة، فالأقوى إِجْمَاع الصَّحَابَة نصا لِأَنَّهُ لَا
خلاف فِيهِ بَين الْأمة، لِأَن الْعشْرَة وَأهل الْمَدِينَة
يكونُونَ فيهم، ثمَّ الَّذِي ثَبت بِنَصّ الْبَعْض وسكوت
البَاقِينَ، ثمَّ إِجْمَاع من بعد الصَّحَابَة على حكم لم
يظْهر فِيهِ قَول من سبقهمْ. قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم "
خير النَّاس رهطي الَّذِي أَنا فيهم، ثمَّ الَّذين
يَلُونَهُمْ، ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ، ثمَّ يفشو الْكَذِب "،
ثمَّ إِجْمَاعهم على حكم سبقهمْ فِيهِ مُخَالف لِأَن هَذَا فصل
اخْتلف الْفُقَهَاء فِيهِ انْتهى فَإِن قلت كَيفَ يَصح قَوْله
لَا خلاف فِيهِ بَين الْأمة، وَقد سبق خلاف النظام وَبَعض
المبتدعة قلت خلافهم فِي أصل انْعِقَاده لَا فِي حجيته بعد
الِانْعِقَاد مستجمعا للشروط، على أَنه لَو فرض خلاف فِيهِ لَا
يعْتد بِهِ.
مسئلة
(يحْتَج بِهِ) أَي بِالْإِجْمَاع (فِيمَا لَا يتَوَقَّف حجيته)
أَي الْإِجْمَاع (عَلَيْهِ من الْأُمُور الدِّينِيَّة) بَيَان
للموصول سَوَاء كَانَ ذَلِك (عقليا كالرؤية) أَي رُؤْيَة الله
تَعَالَى فِي دَار الْآخِرَة. رزقنا الله تَعَالَى إِيَّاهَا
(لَا فِي جِهَة) أَي حَال كَون المرئي لَيْسَ فِي جِهَة من
الْجِهَات السِّت لتعاليه عَن ذَلِك (وَنفي الشَّرِيك) لَهُ
تَعَالَى. (ولبعض الْحَنَفِيَّة) وَهُوَ صدر الشَّرِيعَة (فِي
الْعقلِيّ) أَي فِي الِاحْتِجَاج بِالْإِجْمَاع فِيمَا يدْرك
بِالْعقلِ خلاف بقول (مفيده) أَي مُفِيد مَا يدْرك بِالْعقلِ
(الْعقل لَا الْإِجْمَاع) لاستقلال الْعقل بإفادة الْيَقِين
فِيهِ، وَمَشى عَلَيْهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي برهانه،
وَلَا أثر للْإِجْمَاع فِي العقليات فَإِن الْمُمْتَنع فِيهَا
الْأَدِلَّة القاطعة، فَإِذا انتصبت لم يعارضها شقَاق وَلم
يعضدها وفَاق (أَولا) أَي أَو غير عَقْلِي (كالعبادات) أَي
كوجوبها من الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج (وَفِي
الدُّنْيَوِيَّة كترتيب أُمُور الرّعية والعمارات) لمصَالح
الْمُسلمين (وتدبير الجيوش قَولَانِ لعبد الْجَبَّار) أَحدهَا،
وَعَلِيهِ جمَاعَة أَنه لَيْسَ بِحجَّة فِي القواطع هُوَ
الصَّحِيح لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَكْثَرَ من قَول الرَّسُول،
وَقد ثَبت أَن قَوْله إِنَّمَا هُوَ حجَّة فِي أَحْكَام
الشَّرْع دون مصَالح الدُّنْيَا. قَالَ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم " أَنْتُم أعلم بِأُمُور دنياكم وَأَنا أعلم بِأُمُور
دينكُمْ ". وَكَانَ إِذا رأى رَأيا فِي الْحَرْب يُرَاجِعهُ
(3/262)
الصَّحَابَة فِي ذَلِك، وَرُبمَا ترك رَأْيه برأيهم كَمَا وَقع
فِي حَرْب بدر وَالْخَنْدَق، ثَانِيهمَا هُوَ الْأَصَح عِنْد
الإِمَام الرَّازِيّ والآمدي وَابْن الْحَاجِب مَا أَفَادَهُ
المُصَنّف بقوله. (وَالْمُخْتَار) أَنه (حجَّة إِن كَانَ
اتِّفَاق أهل الِاجْتِهَاد وَالْعَدَالَة) لِأَن الْأَدِلَّة
السمعية على حجيته لَا تفصل. وَقَول النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي أَمر الْحَرْب وَغَيره إِن كَانَ عَن وَحي
فَهُوَ الصَّوَاب، وَإِن كَانَ عَن رَأْي وَكَانَ خطأ فَهُوَ
لَا يقر عَلَيْهِ. وَفِي الْمِيزَان ثمَّ على قَول من جعله
إِجْمَاعًا هَل يجب الْعَمَل بِهِ فِي الْعَصْر الثَّانِي
كَمَا فِي الْإِجْمَاع فِي أُمُور الدّين أم لَا؟ إِن لم
يتَغَيَّر الْحَال يجب وَإِن تغير لَا يجب (بِخِلَافِهِ) أَي
الْإِجْمَاع (على المستقبلات من أَشْرَاط السَّاعَة) وقيدها
الشَّارِح بالحسيات (وَأُمُور الْآخِرَة لَا يعْتَبر
إِجْمَاعهم عَلَيْهِ من حَيْثُ هُوَ إِجْمَاع) لأَنهم لَا
يعلمُونَ الْغَيْب (بل) يعْتَبر (من حَيْثُ هُوَ مَنْقُول)
عَمَّن أعلم بِالْغَيْبِ (كَذَا للحنفية) . وَفِي التَّلْوِيح
أَن الِاسْتِقْبَال قد لَا يكون مِمَّا لم يُصَرح بِهِ الْمخبر
الصَّادِق، بل استنبطه الْمُجْتَهد من نصوصه فَيُفِيد
الْإِجْمَاع قطعيته، وَدفع بِأَن الْحسي الاستقبالي لَا مدْخل
للِاجْتِهَاد فِيهِ. فَإِن ورد بِهِ نَص فَهُوَ ثَابت بِهِ
وَلَا اجتياج إِلَى الاجماع، وَإِن لم يرد فَلَا مساغ
للِاجْتِهَاد فِيهِ: هَذَا وَلَا يتَمَسَّك بِالْإِجْمَاع
فِيمَا تتَوَقَّف صِحَة الْإِجْمَاع عَلَيْهِ كوجود البارئ
تَعَالَى، وَصِحَّة الرسَالَة، وَدلَالَة المعجزة على صدق
الرَّسُول للُزُوم الدّور، لِأَن صِحَة الْإِجْمَاع متوقفة على
النَّص الدَّال على عصمَة الْأمة عَن الْخَطَأ الْمَوْقُوف على
ثُبُوت صدق الرَّسُول الْمَوْقُوف على دلَالَة المعجزة على
صدقه الْمَوْقُوف على وجود البارئ وإرساله، فَلَو توقفت صِحَة
هَذِه الْأَشْيَاء على صِحَة الْإِجْمَاع لزم الدّور وَالله
أعلم بِالصَّوَابِ. |