تيسير التحرير الْبَاب الْخَامِس
من الْأَبْوَاب الْخَمْسَة من الْمقَالة الثَّانِيَة فِي
أَحْوَال الْمَوْضُوع
(الْقيَاس) خبر لمبتدأ مَحْذُوف الْمُضَاف: أَي أَحْوَال
الْقيَاس من قبيل حمل الْمَدْلُول على الدَّال مجَازًا، فَإِن
الْبَاب عبارَة عَن جُزْء من الْكتاب (قيل هُوَ) أَي الْقيَاس
(لُغَة التَّقْدِير) وَهُوَ أَن يقْصد معرفَة قدر أحد
الْأَمريْنِ بِالْآخرِ كَمَا يُقَال قسمت الثَّوْب بالذراع:
أَي قدرته بِهِ (والمساواة) يُقَال فلَان لَا يُقَاس بفلان:
أَي لَا يساوى بِهِ (وَالْمَجْمُوع) أَي مَجْمُوع التَّقْدِير
والمساواة فَلهُ ثَلَاثَة معَان، التَّقْدِير، والمساواة
فَقَط، وَالْمَجْمُوع، وَفَسرهُ بقوله (أَي يُقَال: إِذا قصدت
الدّلَالَة على مَجْمُوع ثُبُوت الْمُسَاوَاة عقيب التَّقْدِير
قست النَّعْل بالنعل) أَي قدرته بِهِ فساواه (وَلم يزدْ
الْأَكْثَر) أَي أَكثر الْأُصُولِيِّينَ كفخر الْإِسْلَام وشمس
الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ والنسفي
(3/263)
(على التَّقْدِير، واستعلام الْقدر) أَي
طلب معرفَة مِقْدَار الشَّيْء نَحْو (قست الثَّوْب بالذراع
والتسوية) بَين أَمريْن (فِي مِقْدَار) سَوَاء كَانَت حسية
نَحْو (قست النَّعْل بالنعل) أَو معنوية، وَإِلَى هَذَا
التَّعْمِيم أَشَارَ بقوله وَلَو معنويا (وَلَو) كَانَت أمرا
(معنويا) آتى بلو الوصلية إِشَارَة إِلَى أَن إِطْلَاق
التَّسْوِيَة على الحسية أولى، ثمَّ لما ذكر الْمَعْنَوِيّ
أَرَادَ أَن يعرفهُ تعريفا بالمثال، فَقَالَ (أَي) يُقَال
(فلَان لَا يُقَاس بفلان) بِمَعْنى (لَا يقدر) بفلان (أَي لَا
يساوى) لما ذكر أَن الْأَكْثَر لم يزِيدُوا فِي تَفْسِير
الْقيَاس لُغَة على مُجَرّد التَّقْدِير أَرَادَ إدراج
الْمعَانِي الَّتِي تفهم من موارد اسْتِعْمَال لفظ الْقيَاس
فِي اللُّغَة الْمشَار إِلَيْهَا بالتقدير والمساواة
وَالْمَجْمُوع فِيمَا سبق تَحت مَفْهُومه الْكُلِّي، ففسر
الْقيَاس فِي الْمِثَال بالتقدير، ثمَّ فسر التَّقْدِير
بالمساواة تَنْبِيها على الِاتِّحَاد بَينهمَا وَلم يُفَسر
بِمثلِهِ فِي الْمِثَال الَّذِي قبله للظهور، ثمَّ زَاد فِي
التَّصْرِيح بقوله (فَردا مَفْهُومه) أَي مَفْهُوم التَّقْدِير
خبر للمبتدأ، أَعنِي قَوْله استعلام الْقدر وَمَا عطف عَلَيْهِ
وَهُوَ التَّسْوِيَة (فَهُوَ) أَي الْقيَاس إِذن (مُشْتَرك
معنوي) فِي اللُّغَة، يَعْنِي مَوْضُوع بِإِزَاءِ معنى كلي يعم
كل وَاحِد من تِلْكَ الْمعَانِي الْمَذْكُورَة، وَهُوَ الَّذِي
عبر عَنهُ بالتقدير. وَمُلَخَّصه مُلَاحظَة الْمُسَاوَاة بَين
شَيْئَيْنِ سَوَاء كَانَ بطرِيق الاستعلام أَو لَا (لَا)
مُشْتَرك (لَفْظِي) فيهمَا فَقَط أَو فِي الْمَجْمُوع أَيْضا
(وَلَا) حَقِيقَة فِي التَّقْدِير (مجَاز فِي الْمُسَاوَاة
كَمَا قيل) فِي البديع التَّقْدِير يَسْتَدْعِي شَيْئَيْنِ
يُضَاف أَحدهمَا إِلَى الآخر بالمساواة فيستلزمهما،
وَاسْتِعْمَال لفظ الْمَلْزُوم فِي لَازمه شَائِع: لِأَن
التواطؤ مقدم على الِاشْتِرَاك اللَّفْظِيّ وَالْمجَاز إِذا
أمكن وَالْحَاصِل أَن الْمَفْهُوم فِي الشَّرْح العضدي اشْترك
بَين الْمعَانِي الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة، ومختار المُصَنّف
أَنه مُشْتَرك معنوي بَينهمَا كَمَا يدل عَلَيْهِ كَلَام
بَعضهم. (وَفِي الِاصْطِلَاح) على قَول الْجُمْهُور (مُسَاوَاة
مَحل) من محَال الحكم (لآخر) أَي لمحل آخر (فِي عِلّة حكم
لَهُ) أَي لذَلِك الْمحل الآخر (شَرْعِي) صفة لحكم، احْتِرَاز
عَمَّا لَيْسَ بشرعي كالعلة الْعَقْلِيَّة (لَا تدْرك) تِلْكَ
الْعلَّة (من نَصه) أَي ذَلِك الْمحل الآخر (بِمُجَرَّد فهم
اللُّغَة) بِأَن تفهم تِلْكَ الْعلَّة من النَّص كل من يفهم
مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ بل يحْتَاج فهمها إِلَى تَأمل واجتهاد
(فَلَا يُقَاس فِي اللُّغَة) كَأَن يعدى اسْم الْخمر إِلَى
النَّبِيذ بِأَن يخال كَون المخامرة الْمُشْتَركَة بَينهمَا
عِلّة فِي تَسْمِيَتهَا (وَإِطْلَاق حكمه) أَي الأَصْل بِأَن
لَا يُقيد بِقَيْد شَرْعِي (يدْخلهُ) أَي الْقيَاس فِي
اللُّغَة كَمَا يدْخل الْقيَاس فِي الْعقلِيّ الصّرْف لصدق مَا
عداهُ من أَجزَاء التَّعْرِيف عَلَيْهِ والاقتصار على
مُسَاوَاة فرع لأصل فِي عِلّة حكمه) أَي الأَصْل كَمَا فِي
مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب والبديع (يفْسد طرده) أَي مانعية
التَّعْرِيف لانتقاضه (بِمَفْهُوم الْمُوَافقَة) كدلالة
النَّهْي عَن التأفيف على النَّهْي عَن الضَّرْب، لِأَن فِيهِ
مُسَاوَاة فرع هُوَ الضَّرْب لأصل هُوَ التأفيف فِي عِلّة حكم
التأفيف، وَهُوَ الْحُرْمَة المعللة بالأذى (وَاسم الْقيَاس)
أَي إِطْلَاقه (من
(3/264)
بَعضهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ (عَلَيْهِ)
أَي على مَفْهُوم الْمُوَافقَة (مجَاز للُزُوم التَّقْيِيد
بالجلي) أَي التزموا فِي إِطْلَاق الْقيَاس عَلَيْهِ أَن
يقيدوه بالجلي فيقولوا الْقيَاس الْجَلِيّ وَهَذَا التَّقْيِيد
على سَبِيل اللُّزُوم عَلامَة الْمجَاز على مَا عرف (وَإِلَّا)
أَي وَإِن لم يكن مجَازًا (فعلي) تَقْدِير إِطْلَاقه على مَا
نَحن فِيهِ وعَلى مَفْهُوم الْمُوَافقَة على سَبِيل (النواطؤ)
بِأَن يكون للْقِيَاس فِي الِاصْطِلَاح مَفْهُوم عَام يشملهما
(بَطل اشتراطهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ (عدم كَون دَلِيل حكم
الأَصْل شَامِلًا لحكم الْفَرْع) لِأَنَّهُ على تَقْدِير
التواطؤ ينْدَرج فِي الْقيَاس، وَدَلِيل حكم الأَصْل فِيهِ
شَامِل لحكم الْفَرْع وَلَا شكّ أَن اشْتِرَاط مَا يخرج من بعض
أَفْرَاد الْمُعَرّف فِي التَّعْرِيف بَاطِل (و) بَطل (إطباقهم
على تَقْسِيم دلَالَة اللَّفْظ إِلَى مَنْطُوق وَمَفْهُوم) أَي
اتَّفقُوا على أَن مَدْلُول اللَّفْظ يَنْقَسِم اليهما وَلم
يَخْتَلِفُوا فِي مَفْهُوم الْمُوَافقَة، وغن اخْتلفُوا فِي
مَفْهُوم الْمُخَالفَة، وَكَون مَفْهُوم الْمُوَافقَة من
مَدْلُول اللَّفْظ منَاف لكَونه من الْقيَاس لِأَنَّهُ مُقَابل
للْكتاب وَالسّنة والاجماع الَّتِي مَدْلُول اللَّفْظ شرعا
عبارَة عَن مدلولها (وَلَو) كَانَ لفظ الْقيَاس مُشْتَركا
(لفظيا) بَين مَا هُوَ قِيَاس اتِّفَاقًا، وَبَين مَفْهُوم
الْمُوَافقَة (فالتعريف) الْمَذْكُور إِنَّمَا هُوَ (لخُصُوص
أحد المفهومين) يَعْنِي مَا يُقَابل الْمَفْهُوم وَكلمَة لَو
إِشَارَة إِلَى أَن اشتراكه لَيْسَ بِمُسلم (وَأورد عَلَيْهِ)
أَي على هَذَا التَّعْرِيف (الدّور) أَي استلزامه الدّور
(فَإِن تعقل الأَصْل وَالْفرع فرع تعقله) أَي الْقيَاس، فَيكون
تعقلهما مَوْقُوفا على تعقله، وَذَلِكَ لِأَن الأَصْل هُوَ
الْمَقِيس عَلَيْهِ، وَالْفرع هُوَ الْمَقِيس، وَإِذا كَانَا
جزءين من تَعْرِيفه لزم أَن يتَوَقَّف تعقله على تعقلهما
فَيلْزم الدّور (وَأجِيب بِأَن المُرَاد) بِالْأَصْلِ وَالْفرع
(مَا صدق عَلَيْهِ) مفهومهما الْكُلِّي من أَفْرَاده. وَفِي
بعض النّسخ مَا صدقا عَلَيْهِ وحاصلهما وَاحِد (وَهُوَ) أَي
مَا صدق مفهومهما عَلَيْهِ (مَحل) مَنْصُوص على حكمه، وَمحل
غير مَنْصُوص على حكمه، وَإِنَّمَا فسر مَا صدق عَلَيْهِ بقوله
مَحل لِئَلَّا يرد أَن تَفْسِير الأَصْل بِمَا صدق عَلَيْهِ
الأَصْل، وَالْفرع بِمَا صدق عَلَيْهِ الْفَرْع لَا يدْفع
الدّور، لِأَن تعقل فَرد الشَّيْء من حَيْثُ هُوَ فَرده
مُسْتَلْزم لتعقله، وَأما تعقله لَا من حَيْثُ أَنه فَرده، بل
يعنون آخر كالمحلية مثلا لَا يستلزمه (وَهُوَ) أَي هَذَا
المُرَاد (خلاف) مُقْتَضى (اللَّفْظ) لِأَن الْمُتَبَادر من
إِطْلَاق الْوَصْف إِرَادَة الذَّات من حَيْثُ أَنَّهَا متصفة
بِهِ، فإرادتها مُجَرّدَة عَنهُ ملحوظة بعنوان آخر خلاف
مُقْتَضَاهُ (وَقُلْنَا) فِي الْجَواب عَن الدّور إِن كل
وَاحِد من الأَصْل وَالْفرع (ركن) فِي الْقيَاس وركن الشَّيْء
يذكر فِي تَعْرِيفه، وَلَا يتَوَقَّف تعقل الرُّكْن على تعقله،
بل الْأَمر بِالْعَكْسِ. وَلَا نسلم أَن يُلَاحظ الأَصْل
وَالْفرع فِي التَّعْرِيف بعنوان الْمَقِيس عَلَيْهِ والمقيس
وَإِن كَانَا فِي نفس الْأَمر مصداقين لَهما. وَفِي بعض النّسخ
فليذكره بعد قَوْله ركن: أَي فليذكر صَاحب التَّعْرِيف
الرُّكْن
(3/265)
ويكفيه أَن يُلَاحظ الأَصْل بِاعْتِبَار
أصالته من حَيْثُ ثُبُوت الحكم نصا، وَالْفرع بِاعْتِبَار
كَونه مُلْحقًا بذلك الأَصْل من حَيْثُ الحكم (ويستغنى) بِمَا
قُلْنَا (عَن الدُّف) الْمَذْكُور (المنظور) فِيهِ بِمَا ذكر
من خلاف اللَّفْظ (ثمَّ إِن عمم) التَّعْرِيف تعميما يحققه
(فِي) الْقيَاس (الْفَاسِد) كتحققه فِي الصَّحِيح (زيد)
لتَحْصِيل هَذَا التَّعْمِيم (فِي نظر الْمُجْتَهد) الْجَار
وَالْمَجْرُور فِي مَحل الرّفْع بقوله زيد: أَي زيد هَذَا
اللَّفْظ (لتبادر) الْمُسَاوَاة (الثَّابِتَة فِي نفس الْأَمر
من) لفظ (الْمُسَاوَاة) إِن لم يزدْ، لِأَن الْمُتَبَادر من
النّسَب إِذا أطلقت أَن تكون بِحَسب نفس الْأَمر وَكَونهَا
بِحَسب نظر الْعقل خلاف الْمُتَبَادر (وَعنهُ) أَي عَن تبادرها
عِنْد الْإِطْلَاق (لزم المصوبة) أَي الْقَائِلين بِأَن كل
مُجْتَهد مُصِيب (زيادتها) أَي زِيَادَة الزِّيَادَة
الْمَذْكُورَة أُرِيد بالمضاف الْمَعْنى المصدري، وبالمضاف
إِلَيْهِ معنى الْمَفْعُول (لِأَنَّهَا) أَي الْمُسَاوَاة
عِنْدهم (لما لم تكن إِلَّا) الْمُسَاوَاة (فِي نظره) أَي
الْمُجْتَهد، إِذْ كل مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده فَهُوَ عين
حكم الله تَعَالَى عِنْدهم وَلَيْسَ لله تَعَالَى فِي كل
حَادِثَة حكم معِين فِي نفس الْأَمر تَارَة يُوَافقهُ مَا فِي
نظر الْمُجْتَهد، وَتارَة لَا يُوَافقهُ (كَانَ الْإِطْلَاق)
للمساواة عَن الزِّيَادَة الْمَذْكُورَة (كقيد مخرج للأفراد)
أَي أَفْرَاد الْمُعَرّف كلهَا (إِذْ يُفِيد) الْإِطْلَاق
(التَّقْيِيد) أَي تَقْيِيد الْمُسَاوَاة (بِنَفس الْأَمر
وَافق نظره) أَي نظر الْمُجْتَهد (أَولا) يُوَافق وَلَا شَيْء
من أَفْرَاد الْقيَاس بِحَيْثُ يصدق عَلَيْهِ أَنه مُسَاوَاة
فِي نفس الْأَمر مَعَ قطع النّظر عَن نظر الْمُجْتَهد لما
عرفت، وَإِنَّمَا قَالَ كقيد لِأَنَّهُ فِي نفس الْأَمر لَيْسَ
بمخرج بل يتَوَهَّم أَن يكون مخرجا لِأَن نفس الْأَمر فِي
الْمسَائِل الاجتهادية عِنْدهم عبارَة عَمَّا هُوَ فِي نظر
الْمُجْتَهد فَيصدق على كل فَرد أَنه فِي نفس الْأَمر
مُسَاوَاة (وَمن نفي كَونه) أَي الْقيَاس (فعل مُجْتَهد
بِاخْتِيَار الْمُسَاوَاة) فِي تَعْرِيفه فَإِنَّهَا صفة
إضافية قَائِمَة بالمنتسبين الْفَرْع وَالْأَصْل (فَأبْطل
التَّعْرِيف ببذل الْجهد الخ) مُتَعَلق بأبطل: أَي فِي
اسْتِخْرَاج الْحق على مَا نقل عَن بَعضهم (بِأَنَّهُ) أَي بذل
الْمُجْتَهد (حَال القائس) لَا الْقيَاس (مَعَ أعميته)
فَإِنَّهُ مُتَحَقق فِي استنباط كل حكم من الْأَحْكَام سَوَاء
كَانَ بطرِيق الْقيَاس أَو بِدلَالَة النُّصُوص إِلَى غير
ذَلِك، والتعريف بالأعم لَا يُفِيد الْعلم بالمعرف. (ثمَّ
اخْتَار فِي) مقَام (قصد التَّعْمِيم) فِي التَّعْرِيف على
وَجه يعم الصَّحِيح وَالْفَاسِد قَوْله (تَشْبِيه) فرع بِأَصْل
بدل الْمُسَاوَاة، فَقَالَ هُوَ تَشْبِيه فرع بِالْأَصْلِ فِي
عِلّة حكمه، لِأَنَّهُ قد يكون مطابقا لحُصُول الشّبَه، وَقد
لَا يكون لعدمه، وَقد يكون الْمُشبه يرى ذَلِك وَقد لَا يرَاهُ
على مَا ذكر فِي الشَّرْح العضدي (نَاقض) نَفسه، فَإِن
التَّشْبِيه أَيْضا فعل الْمُجْتَهد كَمَا أَن بذل الْمُجْتَهد
فعله (وَدفعه) أَي التَّنَاقُض (بِأَن المُرَاد تَشْبِيه
الشَّارِع) لَا تَشْبِيه الْمُجْتَهد حَتَّى يكون فعله وَهُوَ
ببذل جهده لمعْرِفَة تَشْبِيه الشَّارِع فَإِن وَافق أصَاب
وَإِلَّا أَخطَأ (قد يدْفع) هَذَا
(3/266)
الدّفع (بِأَن شَرعه تَعَالَى) الحكم (فِي
كل الْمحَال) وَاقع (ابْتِدَاء) فَيلْزم أَن يكون دفْعَة
وَاحِدَة، وَإِلَّا لم يكن الِابْتِدَاء فِي الْكل فَلم يبْق
احْتِمَال تقدم الأَصْل على الْفَرْع ثمَّ إِلْحَاقه بِهِ،
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لَا بِنَاء على التَّشْبِيه) بِأَن
أثبت الحكم فِي مَحل ابْتِدَاء ثمَّ أثبت فِي مَحل آخر لشبهه
بِالْأولِ فِي المناط (وَإِن وَقع) التشريع الدفعي فِي حق
الْمحل الأول مَقْرُونا (بذلك الشّبَه) فِي نفس الْأَمر لكنه
لَا مدْخل لَهُ فِي تشريع الحكم فِي الْفَرْع، لِأَن الْكل
ابتدائي (وَأكْثر عباراتهم تفِيد) كَون الْقيَاس (فعله) أَي
فعل الْمُجْتَهد (فَمَا أمكن رده) من تِلْكَ الْعبارَات
بِضَرْب من التَّأْوِيل (إِلَى فعله) تَعَالَى على وَجه يسوغ
مثله فِي الاستعمالات (فَهُوَ) أَي فَذَلِك الرَّد (مخلص)
لذَلِك التَّعْرِيف من عدم الصِّحَّة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم
يُمكن الرَّد إِلَى فعله تَعَالَى كَمَا فِي بعض تِلْكَ
الْعبارَات (لم يَصح) ذَلِك التَّعْرِيف الَّذِي لم يُمكن
فِيهِ الرَّد الْمَذْكُور (لِأَنَّهُ) أَي الْقيَاس (دَلِيل
نَصبه الشَّارِع نظر فِيهِ مُجْتَهد أَولا كالنص) أَي كَمَا
أَن النَّص من الْكتاب وَالسّنة دَلِيل نَصبه الشَّارِع نظر
فِيهِ مُجْتَهد أَولا لَا، وَمَا كَانَ وجوده أمرا مفروغا
عَنهُ بِنصب الشَّارِع بِحَيْثُ يَسْتَوِي فِيهِ وجود
الْمُجْتَهد وَعَدَمه لم يكن فعلا للمجتهد وَهُوَ ظَاهر. فقد
استبان لَك مِمَّا ذكرنَا أَن مَا قيل من أَنه لَا يلْزم من
مُجَرّد هَذَا أَن لَا يكون فعلا للمجتهد وَهُوَ ظَاهر
بِدَلِيل أَن الْإِجْمَاع دَلِيل نَصبه الشَّارِع مَعَ أَنه
فعل الْمُجْتَهدين لجَوَاز أَن يَجْعَل الشَّارِع فعل
الْمُكَلف مناطا لحكم شَرْعِي كَلَام سَاقِط، على أَن كَون
الْإِجْمَاع فعل الْمُجْتَهدين غير مُسلم، إِذْ الْإِجْمَاع
الَّذِي هُوَ حجَّة إِنَّمَا هُوَ تِلْكَ الْهَيْئَة
الاجتماعية الْحَاصِلَة من آرائهم، وَكَون كل وَاحِد من تِلْكَ
الآراء فعل الْمُكَلف مَحل بحث لكَونه من مقولة الكيف، وَإِن
كَانَ مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ وَهُوَ الِاجْتِهَاد فعله كَمَا
سَيَأْتِي فضلا عَن تِلْكَ الْهَيْئَة اللَّازِمَة
لِاجْتِمَاعِهِمْ على وَجه الِاسْتِيعَاب (فَمن الثَّانِي) أَي
مِمَّا لَا يُمكن رده إِلَى كَونه فعل الله تَعَالَى (تَعديَة
الحكم من الأَصْل الخ) أَي إِلَى الْفَرْع بعلة متحدة لَا
تدْرك بِمُجَرَّد اللُّغَة (لصدر الشَّرِيعَة) فَإِنَّهُ لَا
يُوصف بِكَوْنِهِ معديا حكم أصل إِلَى فرع فَإِن قلت لم لَا
يجوز أَن يكون عبارَة عَن جعله تَعَالَى حكم الأَصْل مَقْرُونا
بعلة تصلح لِأَن تكون سَببا تقدمه بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْمُجْتَهد قُلْنَا يأباه مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله. (ثمَّ
فَسرهَا) أَي صدر الشَّرِيعَة مَعْطُوف على مُقَدّر تَقْدِيره
عرفه بهَا. ثمَّ فَسرهَا (بِإِثْبَات حكم مثل) حكم (الأَصْل)
فِي الْفَرْع فَإِنَّهُ تَصْرِيح بحدوث حكم الْفَرْع بعد حكم
الأَصْل بطرِيق التَّعْدِيَة والإلحاق، (وَأورد) على هَذَا
التَّعْرِيف (مَا سَنذكرُهُ) قَرِيبا فِي حكم الْقيَاس
(فَأفَاد أَنَّهَا) أَي التَّعْدِيَة (فعل مُجْتَهد وَلَيْسَت)
التَّعْدِيَة (بِهِ) أَي بِفعل الْمُجْتَهد، وَهَذِه الْعبارَة
تدل على وجود التَّعْدِيَة غير أَنَّهَا لَيست بِفِعْلِهِ بل
هِيَ فعل الشَّارِع إِذْ لَا ثَالِث يكون فعلا لَهُ، وَقد عرفت
شرع الحكم فِي كل الْمحَال ابْتِدَاء. فاحتيج إِلَى تَأْوِيل،
وَمَا ذكرنَا
(3/267)
آنِفا يصلح لِأَن يكون تَأْوِيله، وسيشير
إِلَى تَأْوِيل، ثمَّ بَين عدم كَونهَا فعل الْمُجْتَهد بقوله
(إِذْ لَا فعل لَهُ) أَي للمجتهد فِي ذَلِك (سوى النّظر فِي
دَلِيل الْعلَّة) بِعَدَمِ مُلَاحظَة كَون الأَصْل مُعَللا (و)
سوى النّظر فِي (وجودهَا) أَي الْعلَّة فِي الْفَرْع (ثمَّ
يلْزمه) أَي النّظر فِي دَلِيل الْعلَّة ووجودها فِي الْفَرْع
إِذا أدّى إِلَيْهَا وَإِلَى وجودهَا (ظن حكم الأَصْل فِي
الْفَرْع بخلقه تَعَالَى) إِيَّاه مُتَعَلق باللزوم (عَادَة)
أَي لُزُوما عاديا لَا عقليا بِحَيْثُ يَسْتَحِيل عدم حُصُوله
(فَلَيْسَتْ التَّعْدِيَة سواهُ) أَي سوى ظن حكم الأَصْل فِي
الْفَرْع، وَالظَّن كَيفَ، وَلَيْسَ بِفعل (وَهُوَ) أَي الظَّن
الْمَذْكُور (ثَمَرَة الْقيَاس لَا نفس الْقيَاس) وَهَذَا يدل
على أَن الْقيَاس هُوَ النّظر الْمَذْكُور، وَقد صرح فِيمَا
قبل أَن الْقيَاس دَلِيل نَصبه الشَّارِع نظر فِيهِ مُجْتَهد
أَولا، فبينهما تدافع، وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن النّظر
الْمُؤَدِّي إِلَى تعْيين الْعلَّة ووجودها فِي الْفَرْع نتيجة
نصب الشَّارِع، وَالظَّن الْمَذْكُور نتيجة النّظر الْمَذْكُور
ونتيجة نتيجة الشَّيْء نتيجة لذَلِك الشَّيْء فَتَأمل (وَمثله)
أَي مثل تَعْرِيف صدر الشَّرِيعَة فِي عدم إِمْكَان الرَّد
إِلَى فعله تَعَالَى (قَول القَاضِي أبي بكر: حمل مَعْلُوم على
مَعْلُوم فِي إِثْبَات حكم لَهما الخ) أَي أَو نَفْيه
عَنْهُمَا بِأَمْر جَامع بَينهمَا من إِثْبَات حكم أَو صفة أَو
نفيهما، إِنَّمَا قَالَ مَعْلُوم على مَعْلُوم دون شَيْء على
شَيْء ليشْمل الْمَعْدُوم والمستحيل أَيْضا، وعمم الحكم
ليتناول الوجودي نَحْو قتل عمد عدوان، فَيجب الْقصاص كَمَا فِي
الْمَحْدُود، والعدمي نَحْو قَتِيل تمكن فِيهِ الشُّبْهَة
فَلَا يُوجب الْقصاص كالعصا الصَّغِيرَة، وَفصل فِي الْجَامِع
ليعم الحكم الشَّرْعِيّ نَحْو العدوانية، وَالْوَصْف الْعقل
نَحْو العمدية، ونفيهما كَمَا يُقَال فِي الْخَطَأ لَيْسَ بعمد
وَلَا عدوان: فَلَا يجب الْقصاص كَمَا فِي الصَّبِي، (وَفِيه
زِيَادَة إِشْعَار بِأَن حكم الأَصْل) أَيْضا (بِالْقِيَاسِ)
يَعْنِي شَارك صدر الشَّرِيعَة فِي عدم إِمْكَان الرَّد لِأَن
الْحمل الْمَذْكُور هُوَ التَّعْدِيَة الْمَذْكُورَة فِي
الْمَآل، وَزَاد عَلَيْهِ بِهَذَا الْإِشْعَار (وَأجِيب بِأَن
الْمَعْنى) أَي معنى إِثْبَات حكم لَهما أَنه (كَانَ حكم
الأَصْل) قبل الْقيَاس هُوَ (الظَّاهِر فَظهر) أَن الْقيَاس
(فيهمَا) أَي فِي الأَصْل وَالْفرع جَمِيعًا وَالْحَاصِل أَن
ثُبُوت الحكم فيهمَا بِحَسب نفس الْأَمر مُتَحَقق قبل
الْقيَاس، وَأما ظُهُوره عِنْد الْمُكَلّفين فَفِي الأَصْل
مُتَحَقق قبل الْقيَاس، أَعنِي النّظر وَالِاجْتِهَاد، وَفِي
الْفَرْع يتَحَقَّق بعده، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله
(بِإِظْهَار الْقيَاس إِيَّاه) أَي حكم الأَصْل (فِي الْفَرْع)
وَإِضَافَة الْإِظْهَار إِلَى الْقيَاس مجازية من قبيل
إِسْنَاد الْفِعْل إِلَى السَّبَب. (وَمن الأول) أَي مِمَّا
يُمكن رده إِلَى فعله تَعَالَى (تَقْدِير الْفَرْع بِالْأَصْلِ
فِي الحكم وَالْعلَّة فَإنَّك علمت أَن التَّقْدِير يُقَال)
أَي يُطلق لُغَة (على التَّسْوِيَة فَرجع) التَّقْدِير
الْمَذْكُور (إِلَى تسويته تَعَالَى محلا بآخر) أَي بِمحل آخر
(على مَا ذكر) آنِفا من (أَنَّهُمَا) أَي المحلين (المُرَاد
بهما) أَي بالفرع وَالْأَصْل (وَيقرب مِنْهُ) أَي من هَذَا
التَّعْرِيف
(3/268)
فِي إِمْكَان الرَّد إِلَى فعله تَعَالَى
(قَول أبي مَنْصُور) الماتريدي (إبانة مثل حكم أحد
الْمَذْكُورين بِمثل علته فِي الآخر) فَالْمُرَاد بالمذكورين
الأَصْل وَالْفرع، ومذكورية الأَصْل ظَاهر لكَونه مَنْصُوصا
عَلَيْهِ من حَيْثُ الحكم، وَأما مذكورية الْفَرْع فباعتبار
أَن ذكر الأَصْل مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِحكم مُعَلل بعلة
مَوْجُودَة فِي الْفَرْع يسْتَلْزم ذكر الْفَرْع ضمنا بِأحد
الْمَذْكُورين الأَصْل وَالْآخر الْفَرْع. وَإِنَّمَا قَالَ
بِمثل علته لِأَن الْعلَّة الْمَوْجُودَة فِي الْفَرْع لَيست
عين الْعلَّة الْمَوْجُودَة فِي الأَصْل لكَون كل مِنْهُمَا
عرضا شخصيا قَائِما بمحله الشخصي كَمَا أَن حكم كل وَاحِد
مِنْهُمَا كَذَلِك (فتصحيحه) أَي التَّعْرِيف الْمَذْكُور
(بإبانة الشَّارِع) أَي بِحمْل الْإِبَانَة على إبانة
الشَّارِع لَا على إبانة الْمُجْتَهد، وَهَذَا التَّوْجِيه
وَقع (بِخِلَاف قَوْلهم) أَي جمع من الْحَنَفِيَّة (أَنه) أَي
اخْتِيَار الْإِبَانَة (لإِفَادَة أَن الْقيَاس مظهر للْحكم
لَا مُثبت) لَهُ (بل الْمُثبت هُوَ الله سُبْحَانَهُ)
وَتَعَالَى ثمَّ أَشَارَ إِلَى رد مَا قَالُوا بقوله (لِأَن)
الْأَدِلَّة (السمعية) من الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع
(حِينَئِذٍ) أَي حِين لوحظ هَذَا الْمَعْنى (كلهَا كَذَلِك)
أَي مظهرة للْحكم فِي الْحَقِيقَة لَا مثبتة لَهُ لأئها
(إِنَّمَا تظهر الثَّابِت من حكمه) تَعَالَى (وَهُوَ) أَي حكمه
أَو الثَّابِت من حكمه الْخطاب (النَّفْسِيّ) لكَونه مندرجا
فِي كَلَامه النَّفْسِيّ. (ثمَّ) يرد (عَلَيْهِ) أَي على
تَعْرِيف الماتريدي (أَن إبانته) أَي الْمُجْتَهد على مَا هُوَ
الظَّاهِر، أَو الشَّارِع على التَّصْحِيح (الحكم) مفعول
إبانته (لَيْسَ نفس الدَّلِيل) الَّذِي هُوَ الْقيَاس، وَلَا
بُد من صِحَة الْحمل بَين الْمُعَرّف والمعرف (بل) ذَلِك أَمر
(مُرَتّب على النّظر الصَّحِيح فِيهِ) أَي فِي الدَّلِيل
عَادَة، وكلامنا إِنَّمَا هُوَ فِي تَعْرِيف نفس الدَّلِيل
الَّذِي هُوَ الْقيَاس (وَيجب حذف مثل فِي) قَوْله (مثل حكم)
أحد الْمَذْكُورين (لِأَن حكم الْفَرْع هُوَ حكم الأَصْل)
فَإِن حكم الْخمر والنبيذ مثلا شَيْء وَاحِد، وَهُوَ
الْحُرْمَة، وخصوصية الْمحل غير مَنْظُور فِي كَونهَا حكما
(غير أَنه نَص عَلَيْهِ فِي مَحل) وَهُوَ الأَصْل (وَالْقِيَاس
يُفِيد أَنه) أَي الحكم ثَابت (فِي غَيره) أَي فِي غير ذَلِك
الْمحل وَهُوَ الْفَرْع (أَيْضا) نقل عَن المُصَنّف هَهُنَا،
يَعْنِي أَن حكم كل من الأَصْل وَالْفرع وَاحِد لَهُ إضافتان
إِلَى الأَصْل بِاعْتِبَار تعلقه بِهِ، وَإِلَى الْفَرْع
كَذَلِك فَلَا يَتَعَدَّد فِي ذَاته بِتَعَدُّد الْمحل، بل
هُوَ وَاحِد لَهُ تعلق بكثيرين كَمَا أَن الْقُدْرَة شَيْء
وَاحِد مُتَعَلق بالمقدورات (وَكَذَا) يجب حذف (مثل فِي بِمثل
علته) فَإِن الْعلَّة المثيرة للْحكم فِي الأَصْل بِعَينهَا
المثيرة لَهُ فِي الْفَرْع (ومبنى هَذَا الْوَهم) وَهُوَ أَنه
لَا بُد من ذكر مثل فِي كلا هذَيْن الْمَوْضِعَيْنِ على كثير
(حَتَّى قَالَ مُحَقّق) وَهُوَ القَاضِي شَارِح الْمُخْتَصر
(لَا بُد أَن يعلم عِلّة الحكم فِي الأَصْل، وَثُبُوت مثلهَا
فِي الْفَرْع، إِذْ ثُبُوت عينهَا) فِي الْفَرْع (لَا
يتَصَوَّر لِأَن الْمَعْنى) المتحقق (الشخصي لَا يقوم بمحلين،
وَبِذَلِك) أَي بِالْعلمِ بعلة الحكم فِي الأَصْل
(3/269)
وَثُبُوت مثلهَا فِي الْفَرْع (يحصل ظن مثل
الحكم فِي الْفَرْع، وَبَيَان وهمهم أَن الحكم وَهُوَ الْخطاب
النَّفْسِيّ جزئي حَقِيقِيّ لِأَنَّهُ) أَي الْخطاب
النَّفْسِيّ (وصف مُتَحَقق فِي الْخَارِج قَائِم بِهِ تَعَالَى
فَهُوَ وَاحِد لَهُ متعلقات كَثِيرَة) شارة إِلَى مَا ذهب
إِلَيْهِ أهل الْحق من أَنه تَعَالَى مُتَكَلم بِكَلَام قديم
وَاحِد بالشخص قَائِم بِذَاتِهِ لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت هُوَ
بِهِ طَالب بِهِ مخبر، فَالْكَلَام النَّفْسِيّ من حَيْثُ
إِضَافَته إِلَى فعل العَبْد من حَيْثُ الطّلب اقْتِضَاء، أَو
تَخْيِير، وَمن حَيْثُ أَنه حكم بتعلق شَيْء بِشَيْء كالسببية
والشرطية إِلَى غير ذَلِك يُسمى خطابا نفسيا، وَهَذِه إِضَافَة
على وَجه الْعُمُوم ينْدَرج تَحْتَهُ أَنْوَاع وأصناف وأشخاص
من الْإِضَافَة، فالتعلقات الْكَثِيرَة عبارَة عَن تِلْكَ
الإضافات (وَمَا ذكر) من أَن الْمَعْنى الشخصي لَا يقوم بمحلين
(إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِيقَة قيام الْعرض الشخصي بِالْمحل
كالبياض الشخصي الْقَائِم بِالثَّوْبِ الشخصي يمْتَنع أَن
يقوم) هَذَا الْبيَاض الشخصي الْمَذْكُور حَال كَونه متلبسا
(بِعَيْنِه) أَي بتعينه الشخصي (بِغَيْرِهِ) صلَة للْقِيَام،
أَي بِغَيْر ذَلِك الثَّوْب الشخصي الْمَذْكُور، وصفات الله
تَعَالَى لَيست من مقولة الْعرض وَلَا يُقَاس بهَا، على أَنه
لَو سلم كَونهَا مثل الْأَعْرَاض فِي اسْتِحَالَة قِيَامهَا
بمحلين لَا ينفع الواهم الْمَذْكُور، لِأَن الْخطاب
الْمَذْكُور لَا يقوم إِلَّا بِذَاتِهِ المقدسة، غَايَة
الْأَمر أَن لَهُ تعلقات وإضافات بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيرهَا
لَا أَنه قَائِم بِالْغَيْر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله
(والكائن هُنَا) أَي فِي الْخطاب النَّفْسِيّ الْمُتَعَلّق
بالمحال المتعددة إِنَّمَا هُوَ (مُجَرّد إضافات مُتعَدِّدَة
لوَاحِد شخصي) هُوَ الْخطاب النَّفْسِيّ (وَكَذَلِكَ لَا
يمنعهُ الشخصية) أَي مثل هَذَا الْقدر وَهُوَ أَن يكون
بِاعْتِبَار الإضافات لَا يمنعهُ شخصية الْمَعْنى الْقَائِم
بالشخص (فالتحريم الْمُضَاف إِلَى الْخمر بِعَيْنِه لَهُ
إِضَافَة أُخْرَى إِلَى النَّبِيذ وَمثله مِمَّا لَا يُحْصى)
من الْمعَانِي الشخصية المتكثرة بِاعْتِبَار التعلقات (كالقدرة
الْوَاحِدَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى المقدورات لَيست) الْقُدْرَة
(قَائِمَة بهَا) أَي بالمقدورات (بل) قَائِمَة (بِهِ تَعَالَى،
وَلها إِلَى كل مَقْدُور إِضَافَة يَعْتَبِرهَا الْعقل،
وَكَذَا الْوَصْف) الَّذِي هُوَ عِلّة الحكم فِي الأَصْل
وَالْفرع وَاحِد وَلَا يلْزم مِنْهُ قيام شخص بمحلين (إِذْ
لَيْسَ) الْوَصْف (المنوط بِهِ) الحكم (الْوَصْف الجزئي، بل)
هُوَ الْوَصْف (الْكُلِّي، وَهُوَ) أَي ذَلِك الْكُلِّي
(بِعَيْنِه ثَابت فِي الْمحَال) الأَصْل وَالْفرع بِاعْتِبَار
أَفْرَاد كل مِنْهُمَا، فَإِن الْخمر مثلا مَفْهُوم تحتهَا
جزئيات لَا تحصى، وَكَذَا النَّبِيذ (فمناط حُرْمَة الْخمر
الْإِسْكَار مُطلقًا لَا إسكار الْخمر، وَلِأَنَّهُ) أَي إسكار
الْخمر مَعْطُوف على الْمَعْنى: أَي لما ذكرنَا أَن المنوط
بِهِ كلي ثَابت بِعَيْنِه فِي الْمحَال، وَلِأَنَّهُ (قَاصِر
عَلَيْهِ) أَي على الأَصْل الَّذِي هُوَ الْخمر (فتمتنع
التَّعْدِيَة) لكَونه قاصرا على الأَصْل كَمَا سَيَأْتِي
(وَهَذَا) أَي كَون المناط فِي حُرْمَة الْخمر كليا
(لِأَنَّهُ) أَي المناط إِنَّمَا هُوَ الْأَمر (الْمُشْتَمل
على الْمَفَاسِد واشتماله) عَلَيْهَا (لَيْسَ بِقَيْد كَونه
إسكار كَذَا)
(3/270)
أَي الْخمر مثلا (بل) بِاعْتِبَار أَنه
(إسكار) مُطلق (وَهُوَ) أَي الْإِسْكَار الْمُطلق (بِعَيْنِه
ثَابت فِي الْمحَال) كلهَا (وعَلى هَذَا كَلَام النَّاس) فِيهِ
تَعْرِيض بِأَن مَا ابتدعه هَؤُلَاءِ خلاف كَلَام النَّاس
(وَإِنَّمَا يحصل من العلمين) أَي الْعلم بعلة الحكم فِي
الأَصْل وَالْعلم بثبوتها فِي الْفَرْع (ظن) للْحكم فِي
الْفَرْع لَا قطع (لجَوَاز كَون خُصُوص الأَصْل شرطا) للْحكم
فِيهِ (و) كَون خُصُوص (الْفَرْع مَانِعا) مِنْهُ، وَلَا يخفى
أَن هذَيْن الِاحْتِمَالَيْنِ لَا يُنَافِي وَاحِد مِنْهُمَا
الْعلم بعلية الْوَصْف، إِذْ لَيْسَ المُرَاد من الْعلم بعليته
الْقطع بِكَوْنِهِ عِلّة تَامَّة بِحَيْثُ لَا يحْتَاج فِي
إِثْبَات الحكم إِلَى شَرط. وَدفع مَانع، على أَن الظَّاهِر
أَن المُرَاد بِالْعلمِ مُطلق التَّصْدِيق فَيشْمَل الظَّن
(وَأورد على عكس التَّعْرِيف) الْمَذْكُور وَهُوَ مُسَاوَاة
مَحل لآخر فِي عِلّة حكم شَرْعِي إِلَى آخِره (أَمْرَانِ:
الأول قِيَاس الْعَكْس) وَهُوَ إِثْبَات نقيض حكم الشَّيْء فِي
شَيْء آخر بنقيض علته فَإِنَّهُ قِيَاس، وَلَا يصدق عَلَيْهِ
التَّعْرِيف لعدم الْمُسَاوَاة فِيهِ بَين الأَصْل وَالْفرع
فِي الحكم وَالْعلَّة وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَإِنَّهُ)
أَي قِيَاس الْعَكْس (مُثبت لنقيض حكم الأَصْل فِي الْفَرْع
كَقَوْل حَنَفِيّ) لإِثْبَات وجوب الصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف
الْوَاجِب كَمَا فِي ظَاهر الرِّوَايَة، أَو فِي مطلقه كَمَا
فِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة (لما وَجب الصَّوْم شرطا
للاعتكاف بنذره) أَي الصَّوْم مَعَ الِاعْتِكَاف بِأَن يَقُول
مثلا: نذرت الِاعْتِكَاف صَائِما (وَجب) الصَّوْم للاعتكاف
(بِلَا) شَرط (نذر) للصَّوْم مَعَ الِاعْتِكَاف بِأَن يَقُول
نذرت الِاعْتِكَاف من غير ذكر الصَّوْم إِن كَانَ الْمُدعى
إِثْبَات وجوب الصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف الْوَاجِب، أَو بِأَن
يعْتَكف من غير نذر إِن كَانَ الْمُدعى إِثْبَات وجوب الصَّوْم
فِي مطلقه (كَالصَّلَاةِ لما لم تجب شرطا لَهُ) أَي
الِاعْتِكَاف (بِالنذرِ) أَي بِنذر الصَّلَاة مَعَ
الِاعْتِكَاف بِأَن يَقُول نذرت الِاعْتِكَاف مُصَليا من غير
ذكر الصَّلَاة أَو يعْتَكف من غير نذر (لم تجب بِغَيْر نذر)
للصَّلَاة مَعَ الِاعْتِكَاف بِأَن يَقُول نذرت الِاعْتِكَاف،
ثمَّ أَرَادَ أَن يبين الأَصْل وَالْفرع وَالْعلَّة وَالْحكم
فِي الْقيَاس الْمَذْكُور، فَقَالَ (ومضمون الشَّرْط) يَعْنِي
وجوب الصَّوْم شرطا للاعتكاف بنذره على مَا سبق وَعدم وجوب
الصَّلَاة شرطا للاعتكاف بِالنذرِ (فِي الأَصْل الصَّلَاة) عطف
بَيَان للْأَصْل (وَالْفرع) عطف على الأَصْل: أَي ومضمون
الشَّرْط فِي الْفَرْع (الصَّوْم) عطف بَيَان وَلَا يخفى
عَلَيْك أَن مَضْمُون الشَّرْط عبارَة عَن المضمونين
المتخالفين مُتَحَقق فِي كل من الأَصْل وَالْفرع وَاحِد
مِنْهُمَا (عِلّة) خبر الْمُبْتَدَأ أَعنِي مَضْمُون الشَّرْط
(لمضمون الْجَزَاء) يَعْنِي وجوب الصَّوْم بِلَا نذر، وَعدم
وجوب الصَّلَاة بِغَيْر نذر والتوزيع هَهُنَا كالتوزيع فِي
مَضْمُون الشَّرْط (فيهمَا) أَي فِي الأَصْل وَالْفرع، فقد
عرفت أَن حكم الأَصْل يُخَالف حكم الْفَرْع وَأَن عِلّة الحكم
فِي الأَصْل تخَالف عِلّة الحكم فِي الْفَرْع، وَعرفت أَن قَول
المُصَنّف مُثبت لنقيض حكم
(3/271)
الأَصْل فِيهِ مُسَامَحَة لِأَن وجوب
الصَّوْم بِلَا نذر لَيْسَ بنقيض عدم وجوب الصَّلَاة بِلَا نذر
لعدم اتِّحَاد النِّسْبَة (أُجِيب بِأَن الِاسْم) أَي اسْم
الْقيَاس (فِيهِ) أَي فِي قِيَاس الْعَكْس (مجَاز وَلذَا) أَي
ولكونه مجَازًا (لزم تَقْيِيده) أَي تَقْيِيد الِاسْم
الْمَذْكُور عِنْد إِطْلَاق علته بِقَيْد الْعَكْس: فَيُقَال
قِيَاس الْعَكْس، وَلَا يُطلق الْقيَاس وَيُرَاد بِهِ، وَهَذَا
عَلامَة كَونه مجَازًا فِيهِ (أَو) الِاسْم فِيهِ (حَقِيقَة و)
لَا نسلم عدم صدق التَّعْرِيف عَلَيْهِ لانْتِفَاء
(الْمُسَاوَاة) بل الْمُسَاوَاة فِيهِ (حَاصِلَة ضمنا)
وَبَيَان ذَلِك من وَجْهَيْن. أَحدهمَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ
بقوله (لِأَن المُرَاد) فِي الْمِثَال الْمَذْكُور مثلا
(مُسَاوَاة الِاعْتِكَاف بِلَا نذر الصَّوْم) وَهُوَ الْفَرْع
(لَهُ) أَي للاعتكاف المتلبس (بنذره) أَي الصَّوْم وَهُوَ فِي
الأَصْل (فِي حكم هُوَ) أَي فِي ذَلِك الحكم (اشْتِرَاط
الصَّوْم) فعلى هَذَا التَّقْدِير الْفَرْع وَالْأَصْل
وَالْحكم وَالْعلَّة غير مَا ذكر أَولا من أَن الْفَرْع هُوَ
الصَّوْم، وَالْأَصْل هُوَ الصَّلَاة، وَالشّرط وَالْعلَّة
هُوَ مَضْمُون الشَّرْط، وَالْحكم مَضْمُون الْجَزَاء،
وَسَيَجِيءُ أَن الْعلَّة فِي هَذَا التَّقْدِير الِاعْتِكَاف
(بِمَعْنى) أَنه (لَا فَارق) بَين الاعتكافين فرقا يَقْتَضِي
اخْتِلَافهمَا فِي حكم اشْتِرَاط الصَّوْم الْجَارِي فِي
قَوْله بِمَعْنى إِمَّا مُتَعَلق بِمَحْذُوف هُوَ صفة لمصدر
مَنْصُوب بِلَفْظ المُرَاد أَي إِرَادَة متلبسة بِهَذَا
الْمَعْنى أَو بمساواة، وَالْبَاء للسَّبَبِيَّة فَإِنَّهُ
سَبَب للْحكم بعلية الِاعْتِكَاف الْمُوجبَة للمساواة
وَحَاصِله إِلْغَاء الْفَارِق وَهُوَ النّذر لِاسْتِوَاء وجوده
وَعَدَمه كَمَا فِي الصَّلَاة فَمَا يبْقى مَا يصلح للعلية فِي
الأَصْل سوى الِاعْتِكَاف، وَهَذَا يُسمى تَنْقِيح المناط
كَمَا سَيَأْتِي (أَو بالسبر) بِالْمُوَحَّدَةِ عطف على قَوْله
بِمَعْنى، وَهُوَ على مَا سَيَأْتِي حصر الْأَوْصَاف ثمَّ حذف
بَعْضهَا فَيتَعَيَّن الْبَاقِي، وَيَكْفِي عِنْد مَنعه بحثت
فَلم أجد غَيرهَا، وَالْأَصْل الْعَدَم (عِنْد قَائِله) أَي
الَّذِي يقبل إِثْبَات الْعلَّة بمسلك السبر ظرف للإرادة
الْمَذْكُورَة بِاعْتِبَار تلبسها بالسبر أَو للمساواة
(مِنْهُم) أَي الْأُصُولِيِّينَ (أَي) تَفْسِير للسبر فِي
الْمِثَال الْمَذْكُور (هِيَ) أَي الْعلَّة لوُجُوب الصَّوْم
هِيَ صُورَة النّذر، و (أما الِاعْتِكَاف، أَو هُوَ) أَي
الِاعْتِكَاف (بِنذر الصَّوْم أَو غَيرهمَا) أَي غير
الِاعْتِكَاف الْمُجَرّد والمقترن بِالنذرِ (وَالْأَصْل عَدمه)
أَي عدم غَيرهمَا، وَلَا يعدل عَن الأَصْل بِغَيْر مُوجب
(وَالنّذر ملغي) من حَيْثُ كَونه (فارقا) بَين الاعتكافين فِي
وجوب الصَّوْم وَعَدَمه (أَو وَصفا للسبر) مَعْطُوف على قَوْله
فارقا لما ذكر فِي إِثْبَات وجوب الصَّوْم بعلة الِاعْتِكَاف
مسلكين: أَحدهمَا تَحْقِيق المناط الْمشَار إِلَيْهِ بقوله لَا
فَارق، وَالثَّانِي السبر الْمُفَسّر بِمَا ذكرُوا احْتَاجَ
فِي كل مِنْهُمَا إِلَى إِلْغَاء خُصُوصِيَّة النّذر ذكر على
سَبِيل اللف والنشر والالغاء من حَيْثُ كَونه وَصفا للسبر،
وَمعنى إِلْغَاء النّذر وَصفا للسبر أَنه لَا يصلح لِأَن يكون
وَصفا مؤثرا فِي علته مَا يبْقى من أَوْصَاف السبر بعد حذف مَا
سواهُ (بِالصَّلَاةِ) مُتَعَلق بملغي: أَي بِسَبَب عدم
(3/272)
وجوب الصَّلَاة بنذرها مَعَ الِاعْتِكَاف
فَلَو كَانَ للنذر تَأْثِير فِي وجوب مَا اقْترن بالاعتكاف
عِنْد انْعِقَاده لَوَجَبَتْ الصَّلَاة المقترنة بالاعتكاف
مُصَليا (فَهِيَ) أَي الْعلَّة (الِاعْتِكَاف) فَقَط، فَعلم
أَن الصَّلَاة لم تذكر للْقِيَاس عَلَيْهَا بل لبَيَان
إِلْغَاء مَا يتَوَهَّم كَونه فارقا وَالْوَجْه الثَّانِي مَا
أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (أَو الصَّوْم) بالْخبر عطفا على
الِاعْتِكَاف فِي قَوْله مُسَاوَاة الِاعْتِكَاف: أَي وَلِأَن
المُرَاد مُسَاوَاة الصَّوْم (مَعَ نَذره) أَي مَعَ نذر
الصَّوْم فِي الِاعْتِكَاف فَهُوَ الْفَرْع (بِالصَّلَاةِ)
المتلبسة أَو (بِالنذرِ) فِي الِاعْتِكَاف، فَهِيَ الأَصْل
(فِي حكم هُوَ عدم إِيجَاب النّذر) قرن بالاعتكاف من الصَّوْم
أَو الصَّلَاة فَإِنَّهُمَا متساويان فِي عدم إِيجَاب النّذر
إِيَّاه وَإِن اخْتلفَا فِي الْوُجُوب وَعَدَمه، وَلم يذكر
الْعلَّة لعدم إِيجَابه فِي الصَّلَاة ولعلها كَونهَا عبَادَة
مَقْصُودَة لذاتها فَلَا تجب شرطا لما هُوَ مثلهَا بل دونهَا
(وَهُوَ) أَي الحكم المفاد للْقِيَاس على هَذَا التَّقْدِير
(ملزوم الْمَطْلُوب) لَا عينه (وَهُوَ) أَي الْمَطْلُوب (أَن
وُجُوبه) أَي الصَّوْم (بِغَيْرِهِ) أَي بِغَيْر النّذر
وَغَيره مِمَّا يصلح عِلّة لوُجُوب الصَّوْم منحصر فِي
الِاعْتِكَاف لما عرفت وَالِاعْتِكَاف مَوْجُود فِي اعْتِكَاف
لم ينذر فِيهِ الصَّوْم فَيجب الصَّوْم فِيهِ لوُجُود
الْعلَّة، فقد علم بذلك أَن الْقيَاس تَارَة لَا ينْتج غير
الْمَطْلُوب بل ملزوم لملزوم الْمَطْلُوب فَتدبر (وَالْأَوْجه
كَونه) أَي قِيَاس الْعَكْس (مُلَازمَة وَقِيَاسًا) لبيانها
أَي حَقِيقَة مركبة من شَرْطِيَّة وَقِيَاس مَذْكُور لبيانها،
فالشرطية نَحْو (لَو لم يشرط الصَّوْم للاعتكاف) الْمُطلق (لم
يشرط) الصَّوْم لَهُ (بِالنذرِ) وَالْقِيَاس مَا أَشَارَ
إِلَيْهِ بقوله (كَالصَّلَاةِ) يَعْنِي أَن الصَّوْم
كَالصَّلَاةِ فِي كَون كل وَاحِد مِنْهُمَا بِحَيْثُ يتَفَرَّع
على عدم اشْتِرَاطه للاعتكاف الْمُطلق عدم اشْتِرَاطه للاعتكاف
الْمُقَيد بِالنذرِ، وَهَذِه قَضِيَّة حملية إِحْدَى مقدمتي
الْقيَاس الْمَذْكُور لبَيَان الْمُلَازمَة. وَالْأُخْرَى مَا
أَشَارَ إِلَيْهَا بقوله (لم تشرط فَلم تشرط بِهِ) أَي حَيْثُ
لم تشْتَرط الصَّلَاة للاعتكاف الْمُطلق لم تشْتَرط للاعتكاف
الْمُقَيد بِالنذرِ، وَهَذِه قَضِيَّة حملية إِحْدَى مقدمتي
الْقيَاس الْمَذْكُور الْمُطلق أَمر مُقَرر فَألْحق بهَا
الصَّوْم فِي هَذَا الْمَعْنى لِاسْتِوَائِهِمَا فِي معنى
الْقرْبَة الْمُوجبَة للاعتكاف زِيَادَة الثَّوَاب من غير
فَارق، لَكِن يبْقى هَهُنَا مناقشة وَهُوَ أَن انْتِفَاء
الاشتراطين فِي الصَّلَاة مُسلم لَكِن تفرع أَحدهمَا على الآخر
غير مُسلم، وَالِاسْتِدْلَال مَبْنِيّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا
كَانَ هَذَا التَّوْجِيه أوجه (لعمومه) أَي هَذَا التَّوْجِيه
مَا ذكر من قَول الْحَنَفِيّ وَغَيره فَيعم (قَول شَافِعِيّ
فِي تَزْوِيجهَا) أَي الْحرَّة الْعَاقِلَة الْبَالِغَة
(نَفسهَا يثبت الِاعْتِرَاض) للأولياء (عَلَيْهَا) فَادّعى
أَولا عدم لُزُوم صِحَة تَزْوِيج الْمَرْأَة نَفسهَا لثُبُوت
اعْتِرَاض الْوَلِيّ عَلَيْهَا. ثمَّ بَين الْمُلَازمَة بقوله
كَالرّجلِ إِلَى آخِره، وتلخيص الْبَيَان نَحن وجدنَا صِحَة
تَزْوِيج النَّفس فِي الرجل مَعَ عدم ثُبُوت
(3/273)
الِاعْتِرَاض فَعرفنَا أَن الصِّحَّة لَا
تفارق عدم ثُبُوته، فَحَيْثُ انْتَفَى عدم ثُبُوته حكمنَا
بِعَدَمِ الصِّحَّة. وَلَا يخفى ضعفه، لِأَن اجْتِمَاع
الصِّحَّة مَعَ عدم ثُبُوت الِاعْتِرَاض لَا يُفْضِي أَن لَا
تُفَارِقهُ الصِّحَّة لجَوَاز أَن يجْتَمع مَعَ نقيضه أَيْضا
(فَلَا يَصح مِنْهَا كَالرّجلِ لما صَحَّ مِنْهُ) تَزْوِيج
نَفسه (لم يثبت) الِاعْتِرَاض لَهُم (عَلَيْهِ فمضمون
الْجَزَاء) وَهُوَ عدم ثُبُوت الِاعْتِرَاض (فِي الأَصْل
وَهُوَ) فِي الأَصْل (الرجل عِلّة للْحكم مَضْمُون الشَّرْط)
بِالْجَرِّ على الْبَدَل من الحكم، أَو عطف بَيَان وَهُوَ
صِحَة تَزْوِيج النَّفس حَال كَون مَضْمُون الشَّرْط (قلب
الأَصْل) أَي عكس مَا هُوَ الأَصْل فِي بَيَان الْمُلَازمَة
(وَالْوَجْه) الْوَجِيه (قلبه) أَي قلب الْقلب بِأَن يُقَال
لما لم يثبت الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ صَحَّ مِنْهُ، فَيُقَال
حِينَئِذٍ فمضمون الشَّرْط فِي الأَصْل عَلَيْهِ لمضمون
الْجَزَاء على طبق مَا مر أَولا فِي تَقْرِيره، وَلما كَانَ
الْمَقْصُود من هَذِه التوجيهات تَحْصِيل الْمُسَاوَاة بَين
الْفَرْع وَالْأَصْل فِي عِلّة الحكم، وَكَانَ الْفَرْع
وَالْأَصْل فِي الصُّورَة الأولى الِاعْتِكَاف بِلَا نذر
الصَّوْم وَالِاعْتِكَاف بنذره وهما متساويان فِي الْعلَّة
الَّتِي هِيَ الِاعْتِكَاف. وَفِي الثَّانِيَة الْمَرْأَة
وَالرجل، وَالْعلَّة فِي الأَصْل عدم ثُبُوت الِاعْتِرَاض،
وَهُوَ غير مُتَحَقق فِي الْفَرْع أَرَادَ أَن يبين وَجه
مساواتهما، فَقَالَ (والمساواة فِي هَذَا) الْقلب من قِيَاس
الْعَكْس حَاصِلَة (على تَقْدِير مَضْمُون الْجَزَاء) يَعْنِي
عدم ثُبُوت الِاعْتِرَاض (الْمَقِيس عَلَيْهِ) صفة لمضمون
الْجَزَاء على سَبِيل التَّجَوُّز لِأَن الْمَقِيس عَلَيْهِ
إِنَّمَا هُوَ الرجل غير انه ملحوظ ومعتبر فِي جَانِبه
كَأَنَّهُ متمم لَهُ وَتَقْدِيره عبارَة عَن وُقُوعه جَزَاء
لشرط مَفْرُوض كَمَا يُشِير إِلَيْهِ بقوله (وَتَقْدِيره) أَي
مَضْمُون الْجَزَاء (فِي الْمِثَال) الْمَذْكُور (لَو صَحَّ)
مِنْهَا تَزْوِيج النَّفس (لما ثَبت الِاعْتِرَاض) عَلَيْهَا
كَالرّجلِ لما لم يثبت الِاعْتِرَاض صَحَّ مِنْهُ تَزْوِيج
النَّفس (فَعدم الِاعْتِرَاض تساوى) الْمَرْأَة الَّتِي هِيَ
الْفَرْع (بِهِ) أَي بِسَبَب عدم الِاعْتِرَاض (الرجل)
بِالنّصب على أَنه مفعول تساوى بِنَاء (على التَّقْدِير)
وَالْفَرْض لصِحَّة نِكَاحهَا فَعدم الِاعْتِرَاض ملحوظ فِي
جَانب الْفَرْع، أَعنِي الْمَرْأَة، وَفِي جَانب الأَصْل
وَهُوَ الرجل، وَإِن كَانَ فِي الأول بِحَسب الْفَرْض، وَفِي
الثَّانِي بِحَسب نفس الْأَمر فَصَارَ عدم الِاعْتِرَاض عِلّة
لصِحَّة التَّزْوِيج وَعدم صِحَّته فِي الأَصْل وَالْفرع وجودا
وعدما (والمساواة) الْمَذْكُورَة (فِي التَّعْرِيف وَإِن تبادر
مِنْهُ) أَي من إِطْلَاقهَا (مَا) أَي الْمُسَاوَاة الكائنة
(فِي نفس الْأَمر كَمَا تقدم) آنِفا، لَكِن بِحَسب أصل الْوَضع
(هِيَ) أَي الْمُسَاوَاة (أَعم مِمَّا) أَي من الْمُسَاوَاة
الكائنة بِنَاء (على التَّقْدِير) وَالْفَرْض، وَمِمَّا فِي
نفس الْأَمر فليحمل مَا فِي التَّعْرِيف على مَا يَقْتَضِيهِ
أصل الْوَضع، وَالْمَقْصُود من هَذَا الإطناب إِدْخَال قِيَاس
الْعَكْس فِي تَعْرِيف الْقيَاس الْمُطلق وَلَو بِضَرْب من
التَّكْلِيف، لَا تَصْحِيح قِيَاس الْعَكْس، فَلَا نطول
الْكَلَام بِبَيَان وُجُوه ضعفه، وَجَوَاب الْحَنَفِيَّة
(3/274)
عَن هَذِه الْمُلَازمَة عدم تَسْلِيم عِلّة
ثُبُوت الِاعْتِرَاض لعدم صِحَة تَزْوِيج النَّفس لجَوَاز أَن
يكون تَزْوِيجهَا صَحِيحا، وَيكون ثُبُوت الِاعْتِرَاض لدفع
ضَرَر الْعَار عَن الْوَلِيّ وَأَيْضًا الشَّافِعِي يَقُول
بِعَدَمِ صِحَة تَزْوِيجهَا نَفسهَا مُطلقًا، وَثُبُوت
الِاعْتِرَاض لَيْسَ إِلَّا فِي غير الْكُفْء فَلَا تفِيد
هَذِه الْعلَّة مدعاه مُطلقًا.
(الثَّانِي) من الْأَمريْنِ الموردين على عكس التَّعْرِيف
(قِيَاس الدّلَالَة) وَهُوَ (مَا) أَي الْقيَاس الَّذِي (لم
تذكر) الْعلَّة (فِيهِ بل) ذكر فِيهِ (مَا يدل عَلَيْهَا) من
وصف ملازم لَهَا (كَقَوْل الشَّافِعِي فِي الْمَسْرُوق يجب)
على السَّارِق (رده) حَال كَونه (قَائِما) وَإِن انْقَطَعت
الْيَد فِيهِ (فَيجب ضَمَانه) عَلَيْهِ حَال كَونه (هَالكا)
وَإِن قطعت الْيَد فِيهِ (كالمغصوب) فَإِنَّهُ يجب رده قَائِما
وضمانه هَالكا، فَإِن الْعلَّة فِيهِ الْيَد العادية، وَفِي
الْحَقِيقَة قصد الشَّارِع حفظ مَال الْغَيْر وَهِي مُشْتَركَة
بَينهمَا (وَأجِيب بِأَن الِاسْم فِيهِ) أَي لفظ قِيَاس
الدّلَالَة (مجَاز) وَلِهَذَا لم يُطلق عَلَيْهِ إِلَّا
مُقَيّدا بِقَيْد الدّلَالَة، وإفادة علاقَة الْمجَاز بقوله
(لاستلزام الْمَذْكُور فِيهِ) من الْوَصْف الملازم كَمَا ذكر
(الْعلَّة) . وَالْمُعْتَبر فِي حَقِيقَة الْقيَاس ذكر
الْعلَّة بِعَينهَا (وَمِنْهُم من رده) أَي قِيَاس الدّلَالَة
(إِلَى مُسَمَّاهُ) أَي قِيَاس الْعلَّة، وَجعله من أَفْرَاده
كردهم قِيَاس الْعَكْس إِلَيْهِ (بِأَنَّهُ) أَي قِيَاس
الدّلَالَة (يتَضَمَّن الْمُسَاوَاة فِيهَا) أَي الْعلَّة،
وَهَذَا الْقدر كَاف فِي حَقِيقَة الْقيَاس وتضمنه بِاعْتِبَار
مَا ذكر فِيهِ مِمَّا يدل على الْعلَّة على وَجه يفهم مِنْهُ
مُسَاوَاة الْفَرْع الأَصْل فِي الْعلَّة (فَقِيَاس النَّبِيذ)
فِي وجوب الْحَد لشربه (على الْخمر برائحة المشتد) الَّتِي تدل
على الْعلَّة: أَي الْإِسْكَار، فَإِن الرَّائِحَة تدل على
مشاركتها فِي الاشتداد الَّذِي يلازم الْإِسْكَار (يتَضَمَّن
ثُبُوت الْمُسَاوَاة) بَينهمَا (فِي الْإِسْكَار. وَلَا يخفى
أَن الْقيَاس حِينَئِذٍ) أَي حِين كَانَت الْعلَّة متضمنة (غير
الْمَذْكُور) وَهَذَا إِذا شَرط فِي الْقيَاس أَن تكون
الْمُسَاوَاة فِيهِ مدلولا صَرِيحًا.
(وأركانه) أَي أَجزَاء الْقيَاس (لِلْجُمْهُورِ) أَي لقَوْل
الْجُمْهُور أَرْبَعَة: الأول الْوَصْف (الْجَامِع. و)
الثَّانِي (الأَصْل) وَهُوَ إِمَّا (مَحل الحكم الْمُشبه بِهِ)
وَعَلِيهِ الْأَكْثَر من الْفُقَهَاء والنظار (أَو حكمه) أَي
حكم الْمحل الْمَذْكُور، وَعَلِيهِ طَائِفَة (أَو دَلِيله) أَي
دَلِيل حكم الْمحل الْمَذْكُور، وَعَلِيهِ المتكلمون (ومبناه)
أَي مبْنى الْخلاف الْمَذْكُور فِي تَفْسِير الأَصْل (على أَن
الأَصْل مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ غَيره) وكل وَاحِد من هَذِه
الثَّلَاثَة يصلح لهَذَا الْمَعْنى (و) بِنَاء (عَلَيْهِ) أَي
على أَن الأَصْل مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ غَيره (قيل)
وَالْقَائِل: الإِمَام الرَّازِيّ (الْجَامِع فرع حكم الأَصْل)
لِأَنَّهُ لَوْلَا حكم الأَصْل لما فتش عَن الْعلَّة المثيرة
لَهُ وَتَحْصِيل الْجَامِع بِوَاسِطَة التفتيش والفحص عَنهُ
(أصل حكم الْفَرْع) خبر بعد خبر لقَوْله الْجَامِع، وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ لَوْلَا وجود الْجَامِع فِي الْفَرْع لم يكن لحكم
الْفَرْع وجود، فالجامع فرع من وَجه وأصل من وَجه
(3/275)
آخر (إِلَّا أَنه) أَي كَون الْجَامِع
بِهَذِهِ الصّفة (يخص) الْعِلَل (المستنبطة) من حكم الأَصْل
لَا المنصوصة، لَكِن الْأَغْلَب غير المنصوصة، وَلَا يبعد أَن
يُقَال: المنصوصية أَيْضا لَهَا نوع فرعية لِأَنَّهُ لَو لم
يكن حكم الأَصْل لما نَص الشَّارِع على عليته. (و) الثَّالِث
(حكم الأَصْل) . (و) الرَّابِع (الْفَرْع) وَهُوَ (الْمحل
الْمُشبه) على القَوْل بِأَن الأَصْل هُوَ الْمُشبه بِهِ (أَو
حكمه) أَي حكم الْمُشبه على القَوْل بِأَن الأَصْل هُوَ حكم
الْمُشبه بِهِ، ثمَّ أَخذ يبين قَول غير الْجُمْهُور، فَقَالَ
(وَظَاهر قَول فَخر الْإِسْلَام: وركنه مَا جعل علما على حكم
النَّص) مِمَّا اشْتَمَل عَلَيْهِ النَّص (وَجعل الْفَرْع
نظيرا لَهُ فِي حكمه بِوُجُودِهِ فِيهِ) إِلَى هُنَا مقول
قَوْله وَجعل الْفَرْع، الضَّمِير فِي لَهُ وَحكمه للنَّص،
وَفِي بِوُجُودِهِ لما، وَالْبَاء للسَّبَبِيَّة، وَفِي فِيهِ
للفرع: يَعْنِي ركن الْقيَاس وَهُوَ الْوَصْف الَّذِي جعل
عَلامَة وأمارة على حكم يدل عَلَيْهِ النَّص بِحَيْثُ يَدُور
عَلَيْهِ الحكم وجودا وعدما، وَجعل الْفَرْع مماثلا للنَّص
الَّذِي هُوَ مَحل الحكم فِي الحكم بِسَبَب وجود ذَلِك
الْوَصْف فِي الْفَرْع، وَإِنَّمَا قَالَ علما لِأَن الْمُوجب
هُوَ الله تَعَالَى والعلل أَمَارَات، وَوَافَقَهُ القَاضِي
أَبُو زيد وشمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ وَالْجُمْهُور على أَن
الحكم مُضَاف إِلَى الْعلَّة فِي الأَصْل وَالْفرع، ومشايخ
الْعرَاق وَأَبُو زيد والسرخسي وفخر الْإِسْلَام على أَنه فِي
الْمَنْصُوص مُضَاف إِلَى النَّص. وَفِي الْفَرْع إِلَى
الْعلَّة. وَفِي قَوْله مِمَّا اشْتَمَل إِشَارَة إِلَى أَنه
يشْتَرط أَن يكون ذَلِك الْوَصْف من الْأَوْصَاف الَّتِي
اشْتَمَل عَلَيْهَا النَّص، (أَنه) أَي ركن الْقيَاس (الْعلَّة
الثَّابِتَة فِي المحلين) الأَصْل وَالْفرع، فَقَوله: أَنه
إِلَى آخِره خبر الْمُبْتَدَأ، أَعنِي ظَاهر قَول فَخر
الْإِسْلَام، وَإِنَّمَا قَالَ ظَاهر قَوْله نظرا إِلَى
الْمُتَبَادر من إِضَافَة الرُّكْن إِلَى الضَّمِير للاستغراق
مَعَ احْتِمَال أَن لَا يكون ركن سواهُ، وَالْمرَاد بالركن مَا
لَيْسَ بِخَارِج عَنهُ لَا الْجُزْء فَلَا يرد أَنه لَا
يتَصَوَّر أَن يكون للماهية جُزْء وَاحِد للتنافي بَين العينية
والجزئية، وَبِمَا ذكرنَا انْدفع أَن كَلَام فَخر الْإِسْلَام
صَرِيح فِي الْمَقْصُود لَا ظَاهر، لَكِن بَقِي شَيْء أَن مَا
ذكره أَفَادَ ركنية الأَصْل وَالْفرع وَلم يدل على عدم ركنية
حكم الأَصْل، وَقد يُقَال كَمَا أَن طرفِي الْمُسَاوَاة خارجان
عَنْهَا كَذَلِك مَا فِيهِ الْمُسَاوَاة خَارج عَنْهَا
(وَالْمرَاد ثُبُوتهَا) وَالْمرَاد بِالْعِلَّةِ فِي قَوْله
أَنه الْعلَّة الثَّابِتَة ثُبُوتهَا فيهمَا لأنفسهما، إِذْ
لَا وَجه لجعل الْقيَاس عبارَة عَن الْوَصْف الْجَامِع إِذْ
هُوَ مَعَ قطع النّظر عَن ثُبُوته فِي الأَصْل وَالْفرع لَيْسَ
من الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة فَإِن قلت الدَّلِيل الشَّرْعِيّ
مَا يُمكن التَّوَصُّل بِصَحِيح النّظر فِيهِ إِلَى الحكم،
وَالْوَصْف هَكَذَا قلت مَا ذكرت موصل بعيد، وَمَا ذكرنَا موصل
قريب، وترجيح الْبعيد على الْقَرِيب لَيْسَ من دأب أهل الْعلم،
وَلذَلِك اخْتَار الْمُحَقِّقُونَ الْمُسَاوَاة فِي تَعْرِيف
الْقيَاس، وَأَرَادَ المُصَنّف إرجاع كَلَام فَخر الْإِسْلَام
إِلَى مَا اختاروه، فَقَالَ (وَهُوَ) أَي ثُبُوتهَا فيهمَا
(الْمُسَاوَاة) يَعْنِي الْفَرْع وَالْأَصْل فِي الْعلَّة
وَالْحكم على سَبِيل الْمُسَامحَة من قبيل تَفْسِير
الْمَلْزُوم
(3/276)
باللازم، إِذْ ثُبُوتهَا فيهمَا يسْتَلْزم
(الْجُزْئِيَّة) المحققة فِي خصوصيات الأقيسة (لَا)
الْمُسَاوَاة (الْكُلية) الَّتِي تعم الأقيسة كلهَا
(لِأَنَّهَا) أَي الْمُسَاوَاة الْكُلية (مَفْهُوم الْقيَاس
الْكُلِّي الْمَحْدُود والركن) الَّذِي نَحن بصدد تَعْيِينه
هُوَ (جزؤه) أَي الْقيَاس المتحقق فِي حَقِيقَته حِين يدْخل
(فِي الْوُجُود) الْخَارِجِي فِي ضمن الْفَرد وَإِذا لم يكن
للْقِيَاس ركن غير الْمُسَاوَاة كَانَ جزئيته بِاعْتِبَار
حَقِيقَته الخارجية المركبة فِي الْمَاهِيّة والتشخص (وَقد
يخال) أَي يظنّ أَن قَول فَخر الْإِسْلَام أوجه فِي تعْيين
الرُّكْن من قَول الْجُمْهُور بعد اخْتِيَار الْمُسَاوَاة
(لظُهُور أَن الطَّرفَيْنِ) أَي طرفِي كل نِسْبَة (شَرط)
تِلْكَ (النِّسْبَة) وَذَلِكَ (كالأصل وَالْفرع) بِالنِّسْبَةِ
إِلَى الْمُسَاوَاة الْمَشْرُوطَة بهما (هُنَا) أَي فِيمَا
نَحن فِيهِ (لَا أَرْكَانهَا) مَعْطُوف على شَرط، يَعْنِي أَن
الطَّرفَيْنِ شَرط النِّسْبَة لَا أَرْكَان النِّسْبَة (فهما)
أَي الأَصْل وَالْفرع (خارجان عَن ذَات) هَذِه (النِّسْبَة
المتحققة خَارِجا) يَعْنِي الْمُسَاوَاة الْمَذْكُورَة
(والركنية بِهَذَا الِاعْتِبَار) أَي ركنية الشَّيْء
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَاهِيّة إِنَّمَا تكون بِاعْتِبَار
وجودهَا فِي الْخَارِج فِي ضمن الْفَرد، وَإِذا نَظرنَا إِلَى
الْمُسَاوَاة الْجُزْئِيَّة الَّتِي هِيَ فَرد الْمُسَاوَاة
الْمُطلقَة وجدنَا الأَصْل وَالْفرع خَارِجين عَنْهَا شرطين
لَهَا، نعم إِن نَظرنَا إِلَى مَفْهُوم الْمُسَاوَاة
الْمُطلقَة وجدناهما داخلين فِي الْمَفْهُوم من حَيْثُ
التَّصَوُّر، لَكِن الركنية لَيست بِهَذَا الِاعْتِبَار (ثمَّ
اسْتمرّ تمثيلهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ (مَحل الحكم الأَصْل)
بِالنّصب عطف بَيَان لمحل الحكم (بِنَحْوِ الْبر وَالْخمر) فِي
قِيَاس الذّرة والنبيذ عَلَيْهِمَا فِي حكمهمَا (تساهلا)
وتسامحا (تعورف) صفة التساهل: أَي صَار متعارفا بَينهم
(وَإِلَّا) وَإِن لم يكن تمثيلهم بنحوهما بطرِيق التساهل
وقصدوا الْحَقِيقَة (فَلَيْسَ) مَحَله أَي الحكم (فِي) نفس
الْأَمر على (التَّحْقِيق إِلَّا فعل الْمُكَلف لَا
الْأَعْيَان) الْمَذْكُورَة (فَفِي نَحْو النَّبِيذ الْخَاص)
أَي المشتد الْمُسكر (محرم كَالْخمرِ: الأَصْل شرب الْخمر
وَالْفرع شرب النَّبِيذ وَالْحكم الْحُرْمَة) وَفِي قِيَاس
الذّرة الأَصْل بيع الْبر ببر أَكثر مِنْهُ، وَالْفرع بيع
الذّرة كَذَلِك وَهَكَذَا. (وَحكمه) أَي الْقيَاس (وَهُوَ
الْأَثر الثَّابِت بِهِ) أَي (الْقيَاس ظن حكم الأَصْل فِي
الْفَرْع أَيْضا) أَي آض ثُبُوت الحكم وَعَاد عودا، فَلَيْسَ
قَوْله أَيْضا بِاعْتِبَار الظَّن لِأَنَّهُ قد يكون حكم
الأَصْل قَطْعِيا فِيهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الحكم مُطلقًا
الظَّن لجَوَاز كَون خُصُوص الأَصْل شرطا فِيهِ وَالْفرع
مَانِعا (وَهُوَ) أَي ظن حكم الأَصْل فِي الْفَرْع (معنى
التَّعْدِيَة وَالْإِثْبَات وَالْحمل) الْمَذْكُور فِي
عِبَارَات الْقَوْم فِي تَعْرِيف الْقيَاس، وَقد سبق نقل
التَّعْدِيَة عَن الشَّرِيعَة، ثمَّ تَفْسِيره إِيَّاهَا
بِإِثْبَات حكم مثل الأَصْل، وَحمل مَعْلُوم على مَعْلُوم عَن
القَاضِي أبي بكر (فتسميته) أَي ظن حكم الأَصْل فِي الْفَرْع
(تَعديَة اصْطِلَاح) مِمَّن سموا (فَلَا يُبَالِي بإشعاره) أَي
الِاسْم الْمَذْكُور، وَهُوَ لفظ التَّعْدِيَة (لُغَة) أَي من
حَيْثُ مَعْنَاهُ
(3/277)
اللّغَوِيّ (بانتفائه) أَي الحكم (من
الأَصْل) لِأَن الَّذِي يتَعَدَّى عَن مَحل ينتفى عَنهُ
بانتقاله إِلَى مَحل آخر (وَمَا قيل) الْقَائِل صدر
الشَّرِيعَة فِي الْجَواب عَن الْأَشْعَار (بل يشْعر
بِبَقَائِهِ) أَي الحكم (فِيهِ) أَي فِي الأَصْل (كَقَوْلِنَا)
أَي كإشعار قَوْلنَا (للْفِعْل مُتَعَدٍّ إِلَى الْمَفْعُول
مَعَ أَنه) أَي الْفِعْل (ثَابت فِي الْفَاعِل) فِي نفس
الْأَمر بِبَقَائِهِ فِي الْفَاعِل (إِثْبَات اللُّغَة
بالاصطلاح) أَي إِثْبَات معنى فِي اللُّغَة للفظ بِنَاء على
أَنه قصد ذَلِك بِهِ فِي الِاصْطِلَاح وَهُوَ غير جَائِز،
فَقَوله إِثْبَات اللُّغَة خبر قَوْله مَا قيل (مَعَ أَنه) أَي
بَقَاء الْفِعْل فِي الْفَاعِل (مِمَّا لَا يشْعر بِهِ) لفظ
التَّعَدِّي فِي القَوْل الْمَذْكُور (بل) إِنَّمَا يشْعر
(بانتقاله) أَي انْتِقَال الْفِعْل عَن الْفَاعِل وَلَو كَانَ
فِي نفس الْأَمر ثَابتا فِيهِ (إِذْ تعدى الشَّيْء) من مَحل
(إِلَى) مَحل (آخر انْتِقَاله) أَي انْتِقَال ذَلِك الشَّيْء
(إِلَيْهِ) إِلَى الآخر (برمتِهِ) أَي جملَته بِحَسب اللُّغَة
(لَوْلَا الِاصْطِلَاح) فِي التَّعْدِيَة الْمَذْكُورَة فِي
الْفِعْل على خلاف مَا تَقْتَضِيه اللُّغَة لَكنا نفهم مِنْهَا
الِانْتِقَال لَكِن الْعلم بِالْوَضْعِ الاصطلاحي صرفنَا
عَنهُ. (وتقسيم الْمَحْصُول) اسْم كتاب (الْقيَاس إِلَى
قَطْعِيّ وظني لَا يُخَالِفهُ) أَي قَوْلنَا حكم الْقيَاس ظن
حكم الأَصْل فِي الْفَرْع (إِذْ قطعيته) أَي الْقيَاس (بقطعية
الْعلَّة ووجودها) أَي الْعلَّة (فِي الْفَرْع، وَلَا
يسْتَلْزم) مَجْمُوع الْأَمريْنِ (قَطْعِيَّة) ثُبُوت (حكمه)
أَي الْفَرْع (لما تقدم) من جَوَاز كَون خُصُوص الأَصْل شرطا
وخصوص الْفَرْع مَانِعا فَيجوز أَن يكون الْقيَاس قَطْعِيا
بِاعْتِبَار قَطْعِيَّة الْعلَّة ووجودها، وَيكون الحكم ظنيا
لما ذكر، فَعلم أَن المُرَاد بالعلية الْمَقْطُوع بهَا غير
الْعلَّة التَّامَّة، إِذْ لَو كَانَت عِلّة تَامَّة للْحكم
لاستحال تخلفه عَنْهَا أَيْنَمَا وجدت، وَكَانَ يلْزم
حِينَئِذٍ الْقطع بالحكم فِي الْفَرْع فتمام الْكَلَام
مَوْقُوف على عدم تحقق عِلّة كَذَا (غير أَن تمثيله) أَي
الْمَحْصُول الْقيَاس الْقطعِي (بِمَا هُوَ مَدْلُول النَّص،
أَعنِي الفحوى) أَي فحوى الْخطاب كقياس تَحْرِيم الضَّرْب على
تَحْرِيم التأفيف يكون قِيَاسا قَطْعِيا، لأَنا نعلم أَن
الْعلَّة هِيَ الْأَذَى ونعلم وجودهَا فِي الضَّرْب (مناقضة)
لِأَن الْقيَاس إِلْحَاق مسكوت عَنهُ بملفوظ.
فصل فِي الشُّرُوط
أَي فِي بَيَان شُرُوط صِحَة الْقيَاس (مِنْهَا لحكم الأَصْل
أَن لَا يكون معدولا عَن سنَن الْقيَاس) قَوْله أَن لَا يكون
إِلَى آخِره مُبْتَدأ خَبره قَوْله مِنْهَا، وَضمير لَا يكون
رَاجع إِلَى حكم الأَصْل: يَعْنِي عدم كَون الحكم معدولا بِهِ
عَن طَريقَة الْقيَاس من جملَة الشُّرُوط وَقَوله لحكم الأَصْل
مُتَعَلق بِمَحْذُوف: أَي شَرط هَذَا لحكم الأَصْل فَهِيَ
مُعْتَرضَة، وَيجوز أَن يكون حَالا من
(3/278)
الضَّمِير المستكن فِي الْخَبَر، وَيحْتَمل
أَن يكون الْعُدُول بِمَعْنى الصّرْف فَلَا يحْتَاج إِلَى
تَقْدِير الْبَاء وحذفها: أَي لَا يكون مصروفا عَنهُ، ثمَّ
بَين سنَن الْقيَاس بقوله (أَن يعقل مَعْنَاهُ) أَي معنى حكم
الأَصْل، وَالْمرَاد بمعقولية مَعْنَاهُ أَن تدْرك علته وحكمته
الَّتِي شرع لَهَا (وَيُوجد) مَعْنَاهُ (فِي) مَحل (آخر فَمَا
لم يعقل) مَعْنَاهُ من الْأَحْكَام (كأعداد الرَّكْعَات
والأطوفة) فَإِن كَون رَكْعَات الْفجْر ثِنْتَيْنِ وَالظّهْر
أَرْبعا وَالْمغْرب ثَلَاثًا وَكَون اشْتِرَاط الطّواف سبعا
أَحْكَام لَا نَعْرِف علتها (ومقادير الزَّكَاة) من ربع
الْعشْر فِي النَّقْدَيْنِ وَنَحْوهمَا وَغَيره على أنحاء
مُخْتَلفَة (و) حكم (بعض مَا) أَي مَحل (خص) ذَلِك الْمحل
(بِحكمِهِ كالأعرابي) الْمَعْهُود فَإِنَّهُ مَحل خص (بإطعام
كَفَّارَته) عَن وُقُوعه على أَهله فِي نَهَار رَمَضَان، وقصته
مَشْهُورَة (أَهله) مفعول إطْعَام، وَالْحكم الَّذِي اخْتصَّ
بِهِ هُوَ الْإِطْعَام الْمَذْكُور فَإِنَّهُ لَا يُوجد فِي
مَحل آخر غَيره (أَو عقل) مَعْنَاهُ (وَلم يَتَعَدَّ) حكمه
إِلَى غَيره وَإِن كَانَ غَيره أعلا رُتْبَة مِنْهُ فِي ذَلِك
الْمَعْنى (كَشَهَادَة خُزَيْمَة) بن ثَابت، روى أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم اشْترى فرسا من سَوَاء بن الْحَارِث الْمحَاربي
فجحده فَشهد لَهُ فَقَالَ مَا حملك على هَذَا وَلم تكن حَاضرا
مَعنا، فَقَالَ صدقتك بِمَا جِئْت بِهِ وَعلمت أَنَّك لَا
تَقول إِلَّا حَقًا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" من شهد لَهُ خُزَيْمَة أَو شهد عَلَيْهِ فحسبه " (نَص على
الِاكْتِفَاء بهَا) أَي بِشَهَادَتِهِ فَلَا حَاجَة إِلَى
شَاهد آخر مَعَه (وَلَيْسَ) النَّص على الِاكْتِفَاء بهَا
(مُفِيد الِاخْتِصَاص) أَي اخْتِصَاصه بالخصوصية (بل) مفيده
(الْمَجْمُوع) الْمركب (مِنْهُ) أَي النَّص على الِاكْتِفَاء
بهَا (وَمن دَلِيل منع تَعْلِيله) أَي النَّص على الِاكْتِفَاء
(وَهُوَ) أَي دَلِيل منع تَعْلِيله (تكريمه) أَي خُزَيْمَة
(لاختصاصه بفهم جلّ الشَّهَادَة لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
شَهَادَة ناشئة عَن إخْبَاره لَا عَن مُعَاينَة الْمخبر بِهِ
من بَين الْحَاضِرين لإِفَادَة إخْبَاره الْعلم بِمَنْزِلَة
العيان (فَلَا يبطل) اخْتِصَاصه (بِالتَّعْلِيلِ) المستلزم
وجود الِاكْتِفَاء بِشَهَادَة غَيره عِنْد وجود الْعلَّة فِيهِ
(فَقَوْل فَخر الْإِسْلَام) أَن الله شَرط الْعدَد فِي عَامَّة
الشَّهَادَات وَثَبت بِالنَّصِّ قبُول شَهَادَة خُزَيْمَة
وَحده لكنه (ثَبت كَرَامَة فَلَا يبطل بِالتَّعْلِيلِ فِي غير
مَوْضِعه) قَوْله فِي غير مَوْضِعه خبر قَوْله، فَقَوْل فَخر
الْإِسْلَام: وَإِنَّمَا اكْتفى بِالنَّقْلِ فِي الْمَنْقُول
بِمُجَرَّد قَوْله ثَبت كَرَامَة فَلَا يبطل بِالتَّعْلِيلِ
إِشَارَة إِلَى أَن عدم إِفَادَة مَا قبله للمقصود ظَاهر، نقل
عَن المُصَنّف فِي بَيَان هَذَا الْمحل أَنه قَالَ: لِأَن
التَّعْلِيل لَا يبطل كَونه كَرَامَة حَتَّى يمْتَنع بل تعديها
إِلَى غَيره فَإِنَّمَا يبطل اخْتِصَاصه بِهَذِهِ الْكَرَامَة،
فَالْوَجْه أَن يُقَال ثَبت كَرَامَة خص بهَا فَلَا يبطل
بِالتَّعْلِيلِ، وَدَلِيل اخْتِصَاصه بهَا كَونهَا وَقعت فِي
مُقَابلَة اخْتِصَاصه بالفهم فَإِن قلت اشْتِرَاط الْعدَد
(3/279)
فِي عَامَّة الشَّهَادَات من غير
اسْتثِْنَاء لما سوى شَهَادَته دَلِيل الِاخْتِصَاص قلت لَا
يدل عَلَيْهِ لجَوَاز أَن يكون حكم الْمُسْتَثْنى مُعَللا بعلة
تُوجد فِي غَيره، غَايَة الْأَمر أَن غَيره لَا يكون مَنْصُوصا
عَلَيْهِ فِي الِاسْتِثْنَاء وَهُوَ لَا يسْتَلْزم
الِاخْتِصَاص. وسيشير المُصَنّف إِلَى هَذَا الْجَواب
(وَالنِّسْبَة) أَي نِسْبَة الِاخْتِصَاص (إِلَى الْمَجْمُوع)
من دَلِيل الِاكْتِفَاء، وَدَلِيل منع التَّعْلِيل على مَا ذكر
(لِأَنَّهُ) أَي الِاخْتِصَاص (بالإثبات) أَي إِثْبَات
الِاكْتِفَاء بِشَهَادَتِهِ (وَهُوَ) أَي إثْبَاته (نَص
الِاكْتِفَاء بِهِ) شَاهدا بِحَذْف الْمُضَاف فِي جَانب
الْمُبْتَدَأ: أَي دَلِيل الْإِثْبَات، أَو الْخَبَر: أَي
مَدْلُول نَص الِاكْتِفَاء (وَالنَّفْي) أَي وبنفي
الِاكْتِفَاء (عَن غَيره وَهُوَ) أَي النَّفْي عَن غَيره
(بمانع الْإِلْحَاق) لغيره بِهِ، وَهُوَ اخْتِصَاصه بِهَذِهِ
الْكَرَامَة لاختصاصه بالفهم الْمَذْكُور (فمجرد خُرُوجه) أَي
خُرُوج هَذَا الحكم الْمَخْصُوص بِهِ خُزَيْمَة (عَن قَاعِدَة)
عَامَّة هِيَ اشْتِرَاط الْعدَد فِي الشَّهَادَات مُطلقًا (لَا
يُوجِبهُ) أَي الِاخْتِصَاص (كَمَا ظن) وَهُوَ ظَاهر كَلَام
الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب إِلَّا أَنَّهُمَا جعلاه من قبيل
مَا لَا يعقل مَعْنَاهُ، وَقد عرفت أَنه لَيْسَ كَذَلِك
وَإِنَّمَا لَا يُوجِبهُ (لجَوَاز الْإِلْحَاق بالمخصص) على
صِيغَة اسْم الْمَفْعُول: يَعْنِي إِذا خصص حكم من عُمُومه حكم
كل وَكَانَ ذَلِك الْمُخَصّص مَعْقُول الْمَعْنى مُعَللا بعلة
وجدت فِي مَحل آخر جَازَ إِلْحَاق ذَلِك الآخر بذلك الْمُخَصّص
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (بِجَوَاز تَعْلِيل دَلِيل
التَّخْصِيص) أَي يجوز أَن يُعلل النَّص الَّذِي يدل على
خُرُوج الْمُخْتَص عَن الْقَاعِدَة الْعَامَّة وَيتَفَرَّع على
جَوَاز الْإِلْحَاق لما مر (وَمثله) أَي مثل الِاكْتِفَاء
بِشَهَادَة خُزَيْمَة فِي كَونه عقل وَلم يَتَعَدَّ إِلَى
غَيره (قصر الْمُسَافِر) الرّبَاعِيّة من الْمَكْتُوبَة
فَإِنَّهُ (امْتنع تَعْلِيله) أَي تَعْلِيل قصره (بِمَا) أَي
بِمَعْنى (يعديه) أَي يعدى الْقصر إِلَى غير الْمُسَافِر
(لِأَنَّهَا) أَي الْعلَّة للقصر (فِي الْحَقِيقَة
الْمَشَقَّة) لِأَنَّهَا الْمَعْنى الْمُنَاسب للرخصة
بِالْقصرِ وَأَمْثَاله (وَامْتنع اعْتِبَارهَا) أَي اعْتِبَار
الْمَشَقَّة نَفسهَا (لتفاوتها) أَي الْمَشَقَّة (وَعدم ضبط
مرتبَة) مِنْهَا (تعْتَبر) تِلْكَ الْمرتبَة (مناطا) لحكم
الْقصر (فتعينت) الْمَشَقَّة أَي مشقة السّفر: أَي تعْيين
إِطْلَاقهَا فِي ضمن هَذِه الخصوصية بقوله (مشقة السّفر) مفعول
تعيّنت لتَضَمّنه معنى الضَّرُورَة: يَعْنِي لَا بُد أَن يكون
المناط وَصفا منضبطا، وَلَا انضباط لمُطلق الْمَشَقَّة للتفاوت
الْفَاحِش بَين أفرادها مَعَ الْعلم بِعَدَمِ الِاعْتِدَاد
بِبَعْض أفرادها، وَكَانَ هَذَا الْقدر: أَي كَونهَا مشقة
السّفر مَعْلُوما فاعتبرت ضَرُورَة وَكَانَ مشقة السّفر أَيْضا
غير منضبط (فَجعلت) الْعلَّة (السّفر) لكَونه مظنتها مَعَ
الانضباط (فَامْتنعَ) الْقصر (فِي غَيره) أَي السّفر
(وَالسّلم) أَي وَمثل الِاكْتِفَاء الْمَذْكُور فِيمَا ذكر
السّلم، وَهُوَ (بيع مَا لَيْسَ فِي الْملك) أَي ملك البَائِع
الْمَشْرُوع (لمصْلحَة المفاليس) وَلذَا سمي بيع المفاليس
(يَنْتَفِعُونَ) أَي البائعون بذلك البيع (بِالثّمن)
(3/280)
عَاجلا ويحصلون الْبَدَل) أَي الْمَبِيع
الْمَعْدُوم (آجلا) عِنْد حُلُول الْأَجَل الْمُسَمّى فِي
البيع وَالْقَاعِدَة الشَّرْعِيَّة فِي البيع تَقْتَضِي محلا
مَمْلُوكا للْبَائِع حَال البيع، وَقد أخرج السّلم عَن عمومها
النَّص الدَّال على جَوَازه لعِلَّة أُشير إِلَيْهَا وَهِي
مصلحَة المفاليس لما ذكر، وَفِيه إِشَارَة لما أَن الْعلَّة
فِيهِ مَا ذكرنَا لَا مَا سَيذكرُهُ الشَّافِعِي (على مَا تشهد
بِهِ الْآثَار) مُتَعَلق بِمَحْذُوف، تَقْدِير الْكَلَام شرع
للْمصْلحَة الْمَذْكُورَة بِنَاء على مَا تشهد بِهِ الْآثَار
فِي مَوْضِعه، وَلَا خلاف فِي جَوَاز السّلم آجلا (غير أَنه
اخْتلف فِي جَوَازه حَالا فَلَمَّا كَانَ حَاصله) أَي السّلم
(تَخْصِيصًا) لعُمُوم النَّهْي عَن بيع مَا لَيْسَ ملك
الْإِنْسَان (عِنْد الشَّافِعِي علله) أَي الشَّافِعِي
التَّخْصِيص أَو النَّص الدَّال عَلَيْهِ (بِدفع الْحَرج
بإحضار السّلْعَة مَحل البيع وَنَحْوه) أَي نَحْو مَحَله أَو
نَحْو إِحْضَار السّلْعَة بِمَا يُوجب الْحَرج لِأَن دَلِيل
التَّخْصِيص يُعلل كَمَا ذكر، وَهَذِه الْعلَّة تَشْمَل
الْحَال والمؤجل (وَوَقع للحنفية أَنه) أَي هَذَا التَّعْلِيل
وَاقع (فِي مُقَابلَة النَّص الْقَائِل: من أسلف فِي شَيْء
فليسلف فِي كيل مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم)
وَوصف النَّص بالْقَوْل مجَاز، أَو المُرَاد بِهِ اللَّفْظ،
وَأَرَادَ بِمن أسلف إِلَى آخِره الْمَعْنى فَلَا يلْزم
اتِّحَاد الْقَائِل وَالْمقول فقد (أوجب فِيهِ) أَي فِي السّلم
(الْأَجَل فالتعليل لتجويزه) أَي الْحَال (مُبْطل لَهُ) أَي
للنَّص الْمُوجب للتأجيل، وَالتَّعْلِيل الْمُبْطل للنَّص
بَاطِل، فَقَالَ الْحَنَفِيَّة وَمَالك وَأحمد لَا يجوز حَالا
(وَمِنْه) أَي من الحكم الْمُخْتَص بِمحل كَرَامَة بِالنَّصِّ
فَلَا يجوز إِبْطَاله بِالتَّعْلِيلِ بِنَاء (على ظن
الشَّافِعِيَّة النِّكَاح بِلَفْظ الْهِبَة) أَي صِحَة
النِّكَاح بلفظها (خص) النَّبِي (بِهِ) أَي بالحكم الْمَذْكُور
(صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بخالصة لَك) فِي قَوْله تَعَالَى -
{وَامْرَأَة مُؤمنَة إِن وهبت نَفسهَا للنَّبِي إِن أَرَادَ
النَّبِي أَن يستنكحها خَالِصَة لَك من دون الْمُؤمنِينَ} ) -
خَالِصَة مصدر مُؤَكد: أَي خلص إحلالها: أَي إحلال مَا
أَحللنَا لَك على الْقُيُود الْمَذْكُورَة خلوصا لَك (فَلَا
يُقَاس عَلَيْهِ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (غَيره) فِي
انْعِقَاد نِكَاحه بِهِ لما فِيهِ من إبِْطَال الخصوصية
الثَّابِتَة لَهُ كَرَامَة (وَالْحَنَفِيَّة) يَقُولُونَ
الِاخْتِصَاص للمفهوم من قَوْله تَعَالَى - {خَالِصَة لَك} -
(يرجع إِلَى نفي الْمهْر) أَي صِحَة النِّكَاح بِدُونِ الْمهْر
خَالِصَة لَك لَيست لغيرك (وَمن تَأمل) فِي قَوْله تَعَالَى
قبل هَذِه الْآيَة - {يَا أَيهَا النَّبِي إِنَّا (أحلننا لَك
أَزوَاجك اللَّاتِي آتيت أُجُورهنَّ وَامْرَأَة} مُؤمنَة إِن
(وهبت نَفسهَا لَك} ) أَي للنَّبِي (حَتَّى فهم الطباق) بَين
الْقسمَيْنِ، حَتَّى غَايَة للتأمل، والطباق فِي علم البديع
عبارَة عَن الْجمع بَين مَعْنيين مُتَقَابلين (فهم) من
السِّيَاق، والسياق أَن مَدْلُول الْكَلَام أَنا (أَحللنَا لَك
بِمهْر وَبلا مهر) خَالِصَة هَذِه الْخصْلَة لَك من دون
الْمُؤمنِينَ (وتعليل الِاخْتِصَاص بِنَفْي الْحَرج) فِي
قَوْله تَعَالَى - {لكيلا يكون على الْمُؤمنِينَ حرج} - بعد
قَوْله خَالِصَة لَك (يُنَادي بِهِ) أَي بِرُجُوعِهِ إِلَى نفي
الْمهْر (زِيَادَة) حَال من ضمير يُنَادي: أَي التَّعْلِيل
الْمَذْكُور يُنَادي بِمَا ذكره حَال كَونه زَائِدا فِي
إِفَادَة المُرَاد على مَا يدل عَلَيْهِ بِالتَّأَمُّلِ
(3/281)
الْمَذْكُور (إِذْ هُوَ) أَي الْحَرج (فِي
لُزُوم المَال لَا فِي ترك لفظ) يَعْنِي الْهِبَة قصدا (إِلَى)
لفظ (آخر) لَا على سَبِيل التَّعْيِين (بِالنِّسْبَةِ إِلَى
أقدر الْخلق على التَّعْبِير) عَن مُرَاده لِأَنَّهُ أفْصح
الْعَرَب والعجم فَإِن لم يُوسع عَلَيْهِ بتجويز لفظ الْهِبَة
فِي تزَوجه فَعنده وسعة من الْأَلْفَاظ الْأُخَر فَلَا يلْزم
حرج عَلَيْهِ (وَمِنْه) وَمن الحكم الْمُخْتَص بمحله
الْمَنْصُوص عَلَيْهِ بِمَا يمْنَع عَن تَعْلِيله (مَا عقل
مَعْنَاهُ) حَال كَونه وَاقعا (على خلاف مُقْتَضى) على صِيغَة
الْمَفْعُول (مُقْتَض شَرْعِي كبقاء صَوْم) الصَّائِم
(النَّاسِي) الْآكِل أَو الشَّارِب (مَعَ عدم الرُّكْن) وَهُوَ
الْكَفّ عَن المفطرات، إِذْ بَقَاؤُهُ مَعَ عدم رُكْنه (معدول)
أَي مَصْرُوف (عَن مُقْتَضى عدم الرُّكْن) إِذْ مُقْتَضَاهُ
بطلَان الصَّوْم لِأَن الشَّيْء لَا يبْقى مَعَ عدم رُكْنه
كَمَا أَن من نسي فَترك ركنا من الصَّلَاة تفْسد صلَاته كَمَا
لَو تَركه عَامِدًا غير أَن النَّص سلم بِبَقَائِهِ كَمَا
سَيَأْتِي، وسيشير إِلَى وَجه معقولية مَعْنَاهُ وَأَنه لَا
يجوز تَعْلِيله بِسَبَب ذَلِك الْمُقْتَضى. (فَإِن قيل لما علل
دَلِيل التَّخْصِيص) أَي لما جَازَ تَعْلِيل النَّص الدَّال
على تَخْصِيص عُمُوم انْتِفَاء الشَّيْء بِانْتِفَاء رُكْنه
وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " تمّ على صومك
فَإِنَّمَا أطعمك الله " الحَدِيث بِمَا عدا صُورَة النسْيَان
بِنَاء على رَأْي من يجوز تَعْلِيل دَلِيل التَّخْصِيص (لزم
مجيزي تَخْصِيص الْعلَّة من الْحَنَفِيَّة تَعْلِيله) أَي
تَعْلِيل دَلِيل التَّخْصِيص الْمَذْكُور (لإلحاق الْمُخطئ)
كمن تمضمض فسبقه المَاء إِلَى جَوْفه (وَالْمكْره والمصبوب فِي
حلقه) المَاء وَهُوَ صَائِم بِعَدَمِ قصد الْجِنَايَة صلَة
التَّعْلِيل، قد اخْتلف فِي جَوَاز تَخْصِيص الْعلَّة فَمن
جوزه من الْحَنَفِيَّة لزمَه تَعْلِيل النَّص الْمَذْكُور،
وَمِنْهُم من جوزه فالمجوز إِن علل النَّص الْمَذْكُور (ب)
عِلّة (عدم قصد الْجِنَايَة) فَإِنَّهُ لَا يلْزمه الْمَحْذُور
بِأَن يُقَال هَذِه الْعلَّة منقوضة بِكَذَا وَكَذَا كَتَرْكِ
ركن الصَّلَاة نَاسِيا لِأَنَّهُ يخصصها على وَجه لَا ينْتَقض
بِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ لَزِمَهُم لأَنهم مِمَّن يجوز تَعْلِيل
دَلِيل التَّخْصِيص والضرورة وَهِي إِلْحَاق مَا ذكر دعت إِلَى
التَّعْلِيل بِالْعِلَّةِ الْمَذْكُورَة، وَالْمَانِع وَهُوَ
النَّقْض مَدْفُوع بتخصيص الْعلَّة، وَعند وجود الْمُقْتَضى
وَدفع الْمَانِع يلْزم أَن يعْمل بالمقتضى وَالله أعلم
(كالشافعي) مُتَعَلق بقوله تَعْلِيله أَي تعليلا كتعليله
(لكِنهمْ) أَي الْحَنَفِيَّة (اتَّفقُوا على نَفْيه) أَي
التَّعْلِيل الْمَذْكُور للإلحاق (فَالْجَوَاب أَن ظنهم) أَي
الْحَنَفِيَّة (أَنه) أَي التَّخْصِيص للناسي ثَابت (بعلة
منصوصة هِيَ قطع نِسْبَة الْفِعْل) الْمُفطر (عَن الْمُكَلف)
صلَة الْقطع (مَعَ النسْيَان وَعدم الْمُذكر) لَهُ بِالصَّوْمِ
إِذْ لَا هَيْئَة لَهُ مُخَالفَة للهيئة القادمة وَقَوله مَعَ
النسْيَان إِلَى آخِره حَال من الْفِعْل مشْعر بِمَا يُنَاسب
الْمَقْصُود من الْقطع عَنهُ (إِلَيْهِ تَعَالَى بقوله) صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم مُتَعَلق بمنصوصه (تمّ على صومك
فَإِنَّمَا أطعمك الله وسقاك) هَذَا لفظ الْهِدَايَة، وَفِي
صَحِيح ابْن حبَان وَسنَن الدَّارَقُطْنِيّ " أتم صومك فَإِن
الله أطعمك وسقاك " وَزَاد الدَّارَقُطْنِيّ " وَلَا قَضَاء
عَلَيْك " (لِأَنَّهُ) أَي قطع نِسْبَة الْفِعْل
(3/282)
إِلَيْهِ تَعَالَى (فَائِدَته) أَي قَوْله
تَعْلِيل لكَونه نصا فِيمَا ذكر (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن
الْقطع الْمَذْكُور مَقْصُودا بِهِ (فمعلوم أَنه الْمطعم) صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ (مُطلقًا) أَي فَلَا يبْقى
للْكَلَام فَائِدَة لِأَنَّهُ مَعْلُوم أَنه الْمطعم فِي كل
أكل سَهوا كَانَ أَو عمدا (وقطعه) أَي الشَّارِع نِسْبَة
للْفِعْل (مَعَه) أَي النسْيَان الْمَذْكُور (وَهُوَ) أَي
النسْيَان (جبلي لَا يُسْتَطَاع الاحتراس عَنهُ بِلَا مُذَكّر)
الْجَار مُتَعَلق بقوله لَا يُسْتَطَاع، وَهُوَ صفة قَوْله
جبلي، وَالْجُمْلَة الاسمية حَال عَن ضمير النسْيَان فِي مَعَه
وَقَوله بِلَا مُذَكّر يُشِير إِلَى أَنه تَعَالَى الْمُذكر
فَإِن قلت الْأَمر الْجبلي لَا يَدْفَعهُ شَيْء قلت لَيْسَ
كَونه جبليا بِمَعْنى أَن الطبيعة تَقْتَضِيه ضَرُورَة بل
كَونه بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيع الْإِنْسَان أَن يحترس عَنهُ
بِلَا مُذَكّر، وَمَعَ الْمُذكر وُقُوعه نَادِر فَهُوَ عِنْد
ذَلِك ينْسب إِلَى التَّقْصِير فَلَا يستأصل لِأَن قطع نِسْبَة
الْفِعْل عَنهُ إِلَيْهِ تَعَالَى، وَخبر قَوْله وقطعه قَوْله
(لَا يستلزمه) أَي الْقطع عَنهُ إِلَيْهِ تَعَالَى (فِيمَا
هُوَ دونه) أَي فِيمَا دون جبلي لَا يُسْتَطَاع الاحتراس عَنهُ
بِلَا مُذَكّر، وَإِنَّمَا وصف النسْيَان الْمَذْكُور بذلك
إشعارا بِمَا هُوَ مُوجب لقطع النِّسْبَة عَن الْمُكَلف
إِلَيْهِ تَعَالَى ليَكُون كالدليل على عدم الاستلزام
الْمَذْكُور. ثمَّ لما بَين أَن عِلّة الْقطع مَجْمُوع
الْأَوْصَاف الجبلية وَعدم إِمْكَان الاحتراس وَعدم الْمُذكر
لزم أَن ينتفى الْمَعْلُول بِانْتِفَاء كل وَاحِد مِنْهَا
فَأخذ بَين ذَلِك وَبَدَأَ بِانْتِفَاء الْأَخير. فَقَالَ
(مَعَ مُذَكّر) حَال عَن الْمَوْصُول أَي لم يقطع مَا دونه
حَال كَونه مَعَ مُذَكّر من حَيْثُ النِّسْبَة، مِثَال
الْمُذكر (كَالصَّلَاةِ) أَي كَهَيئَةِ الصَّلَاة (ففسدت)
الصَّلَاة (فعله مُفسد) فَلَعَلَّهُ الْمُصَلِّي (سَاهِيا)
ثمَّ بَين مَا انْتَفَى فِيهِ الثَّانِي بقوله (وَمَا يُمكن
الاحتراس) عَنهُ، مِثَاله (كالخطأ، وَلذَا) أَي كَون الْخَطَأ
مِمَّا يُمكن الاحتراس عَنهُ (ثَبت عدم اعْتِبَاره) فِي
الشَّرْع مسْقطًا للمجازاة بِالْكُلِّيَّةِ (فِي خطأ الْقَتْل
فَأوجب) الشَّارِع بِهِ (الدِّيَة) بدل الْمحل (حَقًا للْعَبد)
فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن مُوجب تَعْلِيل الشَّافِعِي بَقَاء
الصَّوْم بعلة قصد الْجِنَايَة بطلَان حق العَبْد فِي قتل
الْخَطَأ لعدم قصد الْجِنَايَة، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله
(مَعَ تحقق مَا عينه) الشَّافِعِي فِي مقَام التَّعْلِيل
فِيمَا نَحن (فِيهِ) أَي فِي الْقَتْل الْخَطَأ طرف الْحجَّة
لتحَقّق مَا عينه فَلَزِمَ الدِّيَة إِجْمَاعًا فِي الْقَتْل
الْخَطَأ يرد عَلَيْهِ فِي تعْيين مَا عينه (و) أوجب
(الْكَفَّارَة) تأهبا (لتَقْصِيره) أَي الْقَاتِل خطأ فِي
التحفظ فِيمَا يُسْتَطَاع الاحتراس عَنهُ فَلم يسْقط فِيهِ
إِلَّا الْإِثْم بِمُوجب " رفع عَن أمتِي " الحَدِيث ثمَّ
أَشَارَ إِلَى مَا يَنْفِي الأول بقوله (وَالْمكْره أمكنه
الالتجاء) إِلَى من يخلصه من الْمُكْره (والهرب) مِنْهُ (وَلَو
عجز) عَن الالتجاء والهرب (وانقطعت النِّسْبَة) أَي نِسْبَة
الْفِعْل عَنهُ بِسَبَب الْعَجز (صَارَت) النِّسْبَة (إِلَى
غَيره تَعَالَى أَعنِي الْمُكْره كَفعل الصب) أَي كانقطاع
نِسْبَة فعل الصب عَن المصبوب فِي عِلّة (نسب) فعل الصب (إِلَى
العَبْد لَا إِلَيْهِ تَعَالَى حَتَّى أثمه) أَي أَثم الله
(3/283)
تَعَالَى الصاب أَو أَثم الصاب إِلَيْهِ
(فانتفت الْعلَّة) الْمُعَلل بهَا دَلِيل التَّخْصِيص وَهُوَ
قطع نِسْبَة الْفِعْل عَن الْمُكَلف مَعَ النسْيَان وَعدم
الْمُذكر إِلَيْهِ تَعَالَى فِي الصُّور الْمَذْكُورَة فَلَا
يحوز إلحاقها بالناسي فِي بَقَاء الصَّوْم (وَمِنْه) أَي وَمن
الحكم الْمُخْتَص بمحله الْمَنْصُوص عَلَيْهِ بِمَا يمْنَع من
التَّعْلِيل (تقوم الْمَنَافِع فِي الْإِجَارَة) ثَبت
بِالنَّصِّ واختص بمحله لما سَيَأْتِي (يمنعهُ) أَي تقومها فِي
الْإِجَارَة (الْقيَاس على الْحَشِيش وَالصَّيْد) وَصُورَة
الْقيَاس (هَكَذَا لم تحرز) للمنافع كَمَا أَنه لم يحرز
الْحَشِيش وَالصَّيْد (فَلَا مَالِيَّة) لَهَا لِأَن
الْمَالِيَّة بالإحراز وَالدُّخُول تَحت الْيَد (فَلَا تقوم)
إِذْ لَا قيمَة إِلَّا لِلْمَالِ (كالصيد قبل) الِاصْطِيَاد،
والحشيش قبل الاحتشاش فِي عدم (الْإِحْرَاز) والمالية والتقوم
(أما الأول) أَي أَنَّهَا لم تحرز (فَلِأَنَّهَا) أَي
الْمَنَافِع (أَعْرَاض متصرمة) أَي متلاشية مضمحلة بِمُجَرَّد
الْوُجُود (فَلَو قُلْنَا بِبَقَاء شخص الْعرض) فِي الْجُمْلَة
كَمَا ذهب إِلَيْهِ غير الْأَشْعَرِيّ فِيمَا نَحن فِيهِ (لم
يكن مِنْهُ) أَي مِمَّا نقُول بِبَقَائِهِ، بل مِمَّا لَا
بَقَاء لَهُ بِإِجْمَاع الْعُقَلَاء (ثمَّ الْمَالِيَّة
بالإحراز والتقوم بالمالية فَلَا يلْحق بِهِ) أَي بتقويم
الْمَنَافِع فِي الْإِجَارَة (غصبهَا) أَي غصب الْمَنَافِع
بإتلافها وتعطيلها (إِذْ لَا جَامع مُعْتَبر) بَينهمَا فِي
ذَلِك شرعا (لتَفَاوت الْحَاجة) الَّتِي كَانَت الْمَنَافِع
بِسَبَبِهَا مُتَقَومَة (وَعدم ضبط مرتبَة) مُعينَة مِنْهَا
يناط التَّقْوِيم بهَا (كمشقة السّفر) فَإِنَّهُ لما لم تكن
الْمَشَقَّة فِيهِ منضبطة للتفاوت بَين مراتبها نيط حكم الْقصر
بِمَشَقَّة السّفر، وَكَانَ مشقة السّفر أَيْضا غير منضبطة نيط
بِأَصْل السّفر (فنيط) تقوم الْمَنَافِع (بِعقد الْإِجَارَة)
لِأَنَّهُ مظنتها كالسفر. وَلما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة سُؤال،
وَهُوَ أَن عدم تقوم مَنَافِع الْغَصْب فتح لباب الْعدوان
أَشَارَ إِلَى دَفعه بقوله (وَالْحَاجة لدفع الْعدوان تدفع
بالتعزيز) على ارْتِكَاب الْمحرم، وَهُوَ الْغَصْب (وإحرازها)
أَي الْمَنَافِع (بِالْمحل) وَهُوَ الْمَغْصُوب إِحْرَاز
(ضمني) ثَبت بتبعية إِحْرَاز الْمحل والضمني (غير مضمن كالحشيش
النَّابِت فِي أرضه) فَإِنَّهُ مُحرز تبعا لإحراز الأَرْض،
وَلَا ضَمَان على متلفه اتِّفَاقًا (وَلَو سلم) أَن
الْإِحْرَاز المضمني كالقصدي فِي التَّضْمِين (ففحش تفَاوت
الْمَالِيَّة) بَين الْمَنَافِع الَّتِي هِيَ الْأَعْرَاض
وَبَين الْأَعْيَان الَّتِي تلْزم الْغَاصِب عِنْد إِتْلَاف
الْمَنَافِع على تَقْدِير التقوم والتضمين (يمْنَع) أَي فحش
التَّفَاوُت (ضَمَان الْعدوان الْمَبْنِيّ) صفة الضَّمَان
(على) اشْتِرَاط (الْمُمَاثلَة) بَين قطعه بِالتَّعَدِّي،
وَمَا وَجب عَلَيْهِ فِي مُقَابلَته مجازاة بقوله - {فاعتدوا
عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم} - {وَجَزَاء سَيِّئَة
سَيِّئَة مثلهَا} - ومدار الْمُمَاثلَة على الْمُسَاوَاة فِي
الْمَالِيَّة، وَقد عرفت انتفاءها بَين الْمَنَافِع والأعيان
(بِخِلَاف الْفَاكِهَة مَعَ النَّقْد) جَوَاب سُؤال وَهُوَ
أَنكُمْ ضمنتم متْلف الْفَاكِهَة بِالنَّقْدِ مَعَ عدم
الْمُمَاثلَة لكَون الْفَاكِهَة مِمَّا يتسارع إِلَيْهِ
الْفساد بِخِلَاف النَّقْد، وَالْمعْنَى أَن اشْتِرَاط
الْمُمَاثلَة يمْنَع ضَمَان الْعدوان بِخِلَافِهَا فَإِنَّهُ
لَا يمْنَع
(3/284)
الضَّمَان فيهمَا لوُجُود الْمُمَاثلَة
بَينهمَا فِي الْجُمْلَة (لاتصافهما) أَي الْفَاكِهَة والنقد
(بالاستقلال بالوجود والبقاء) فَإِن كل وَاحِد مِنْهُمَا يُوجد
مُسْتقِلّا من غير أَن يكون تَابعا لوُجُود شَيْء آخر كتبعية
الْمَنَافِع للمحال، وَلذَلِك يسْتَقلّ بِالْبَقَاءِ وَإِن
اخْتلفَا فِي زمَان الْبَقَاء بِخِلَاف الْمَنَافِع فَإِنَّهُ
لَا اسْتِقْلَال لَهَا بالوجود وَلَا بَقَاء لَهَا أصلا
(والتفاوت) بَينهمَا (فِي قدره) أَي فِي مِقْدَار زمَان
الْبَقَاء (لَا يعْتَبر) لِأَن قدره غير مضبوط فأدير الحكم على
نفس الْبَقَاء دفعا للْحَرج (وسره) أَي سر عدم اعْتِبَار
الْمُسَاوَاة فِي الْبَقَاء (أَن اعْتِبَار الْمُسَاوَاة لَا
يُجَاب الْبَدَل إِنَّمَا هُوَ حَال الْوُجُوب) أَي وجوب
الْبَدَل (لِأَنَّهُ) أَي حَال الْوُجُوب (حَال إِقَامَة
أَحدهمَا مقَام الآخر والتساوي) بَين الْبَدَلَيْنِ
الْفَاكِهَة والنقد (فِيهِ) أَي فِي الِاسْتِقْلَال بالوجود
والبقاء (إِذْ ذَاك) أَي حَال الْوُجُوب (ثَابت) فَلَا يضر
التَّفَاوُت فِي الْبَقَاء بعد ذَلِك. (وَمِنْه) أَي من الحكم
الْمُخْتَص بمحله الْمَنْصُوص عَلَيْهِ بِمَا يمْنَع من
التَّعْلِيل (حل مَتْرُوك التَّسْمِيَة) تركا (نَاسِيا) أَي
ذَا نِسْيَان لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " فَإِن نسي أَن
يُسَمِّي حِين يذبح فليسم وليذكر الله ثمَّ ليَأْكُل " رَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ إِلَى غير ذَلِك (على خلاف
الْقيَاس) مُتَعَلق بِمَحْذُوف هُوَ حَال من ضمير الْمُبْتَدَأ
أَعنِي حل المستكن فِي الظّرْف (على ترك شَرط الصَّلَاة)
قَوْله على صلَة الْقيَاس وَذَلِكَ أَنه إِذا ترك شَرط
الصَّلَاة من الطَّهَارَة أَو غَيرهَا (نَاسِيا لَا تصح)
الصَّلَاة عِنْد ذَلِك (حَتَّى وَجَبت) إِعَادَتهَا (إِذا ذكر)
مَا تَركه، وَكَانَ مُقْتَضى هَذَا أَن لَا يحل مَتْرُوك
التَّسْمِيَة نَاسِيا لفَوَات شَرط حلّه، وَهُوَ التَّسْمِيَة.
قَالَ الله تَعَالَى - {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم
الله عَلَيْهِ} - وَإِذا كَانَ على خلاف الْقيَاس (فَلَا يلْحق
بِهِ) أَي بمتروك التَّسْمِيَة نَاسِيا (الْعمد) أَي مَتْرُوك
التَّسْمِيَة عمدا، سمي بالعمد مُبَالغَة، أَو الْمَعْنى لَا
يلْحق بِالنِّسْيَانِ الْعمد على الْمُسَامحَة لِأَن خلاف
الْقيَاس مقتصر على مورد النَّص، وَلَيْسَ الْعمد فِي
مَعْنَاهُ لَو فرض كَونه مَعْقُول الْمَعْنى (لعدم) الْجَامِع
(الْمُشْتَرك) بَينهمَا لِأَن النَّاسِي مَعْذُور غير معرض عَن
ذكر الله تَعَالَى، والعامد جَان معرض عَنهُ (وَلِأَنَّهُ) لَو
ألحق الْعَامِد بِهِ (لم يبْق تَحت الْعَام شَيْء) من
أَفْرَاده يَعْنِي قَوْله {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر
اسْم الله عَلَيْهِ} لِأَن مَا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ لَا
يَخْلُو من أحد الْأَمريْنِ إِمَّا مَتْرُوك التَّسْمِيَة
نِسْيَانا وَإِمَّا متروكها عمدا (فَينْسَخ) الْكتاب
(بِالْقِيَاسِ) أَي بِقِيَاس الْعمد على النسْيَان وَهُوَ غير
جَائِز (وَفِيه) أَي فِي هَذَا الدَّلِيل (نظر يَأْتِي) فِي
الْكَلَام فِي فَسَاد الِاعْتِبَار. (وَمِنْهَا) أَي الشُّرُوط
لحكم الأَصْل (أَن يكون) حكم الأَصْل حكما (شَرْعِيًّا فَلَا
قِيَاس فِي اللُّغَة) بِأَن يُقَاس معنى على معنى فِي
التَّسْمِيَة باسم لِكَوْنِهِمَا مشتركين فِيمَا يُنبئ عَنهُ
الِاسْم (وَتقدم) هَذَا الشَّرْط فِي المبادئ اللُّغَوِيَّة
(وَلَا فِي العقليات) كقياس الْغَائِب على الشَّاهِد كَمَا
يُقَال العالمية فِي
(3/285)
الشَّاهِد: أَي الْمَخْلُوق معللة
بِالْعلمِ، فَكَذَا فِي الْغَائِب عَن الْحس: أَي الْخَالِق
(خلافًا لأكْثر الْمُتَكَلِّمين) فَإِنَّهُم جوزوه فِيهَا إِذا
تحقق جَامع عَقْلِي كالعلة، أَو الْحَد، أَو الشَّرْط، أَو
الدَّلِيل، وَإِنَّمَا لَا يكون الْقيَاس فِي العقليات (لعدم
إِمْكَان إِثْبَات المناط) أَي منَاط الحكم فِي الأَصْل (فَلَو
أثبت حرارة حُلْو قِيَاسا) مفعول لَهُ للإثبات (على الْعَسَل
لَا تثبت عَلَيْهِ الْحَلَاوَة) للحرارة (إِلَّا أَن استقرئ)
أَي بِأَن استقرئ: أَي تتبع كل حُلْو فَوجدَ حارا، وَيحْتَمل
أَن تكسر الْهمزَة بِمَعْنى إِذا (فَتثبت) حِينَئِذٍ عَلَيْهِ
الْحَلَاوَة للحرارة (فِيهِ) أَي فِي ذَلِك الحلو (بِهِ) أَي
بالاستقراء كَذَا قَالَ الشَّارِح، وَالصَّوَاب فَتثبت
حِينَئِذٍ الْحَرَارَة فِي ذَلِك الحلو بالاستقراء لِأَن
الثَّابِت بِالْقِيَاسِ حكم الْفَرْع، لَا علية الْعلَّة
وَهُوَ ظَاهر (لَا بِالْقِيَاسِ فَلَا أصل وَلَا فرع)
لِأَنَّهُمَا فرع الْقيَاس، وَهُوَ مَعْدُوم حِينَئِذٍ فَإِن
قلت لَا نسلم أَن الْعلية فِيهَا لَا تثبت إِلَّا بالاستقراء
قلت: لَو ثَبت عليتها بِدَلِيل آخر صَحَّ أَيْضا قَوْلنَا
فَتثبت بِهِ لَا بِالْقِيَاسِ من غير تفَاوت، لِأَن مَدْلُول
ذَلِك الدَّلِيل علية الْحَلَاوَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْحَرَارَة مَعَ قطع النّظر عَن محلهَا الْمَخْصُوص كالعسل،
بِخِلَاف الْعِلَل الشَّرْعِيَّة فَإِن النَّص أَو الاستنباط
يُفِيد عليتها بِالنِّسْبَةِ إِلَى الحكم الْمُضَاف إِلَى
الْمحل الْخَاص وَهُوَ الأَصْل ابْتِدَاء، ثمَّ يجرد الحكم عَن
خُصُوصِيَّة الْمحل فَيجْعَل الْمَعْلُوم نفس الحكم وَيقطع
النّظر عَن خُصُوصِيَّة الْمحل (وَعنهُ) أَي عَن لُزُوم حكم
الْفَرْع بِالْقِيَاسِ (اشْترط عدم شُمُول دَلِيل حكم الأَصْل
الْفَرْع) خلافًا لمشايخ سَمَرْقَنْد، إِذْ لَو شَمله
ابْتِدَاء كَانَ نِسْبَة ذَلِك الدَّلِيل إِلَى حكم الْفَرْع
كنسبته إِلَى حكم الأَصْل فَلَا يبْقى لأصالته وَجه
(وَبِهَذَا) أَي مَا اشْترط من عدم الشُّمُول (بَطل قياسهم)
أَي الْمُتَكَلِّمين (الْغَائِب على الشَّاهِد فِي أَنه) أَي
الشَّاهِد (عَالم بِعلم) هُوَ صفة زَائِدَة على الذَّات ردا
على الْمُعْتَزلَة حَيْثُ زَعَمُوا أَن علمه تَعَالَى عين
ذَاته كَسَائِر صِفَاته (مَعَ فحش الْعبارَة) حَيْثُ أطْلقُوا
عَلَيْهِ الْغَائِب وَإِن أَرَادوا الْغَيْبَة عَن الْحس،
فَإِن الْفَاحِش من الْكَلَام مَا يستهجن ذكره، {وَالله لَا
يعزب عَنهُ شَيْء - وَهُوَ مَعكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُم} -
وَإِنَّمَا بَطل قياسهم (لِأَن ثُبُوته) أَي الْعلم (فيهمَا)
أَي الْخَالِق والمخلوق (بِاللَّفْظِ لُغَة) أَي بِمَا
يَقْتَضِيهِ ظَاهر اللَّفْظ من حَيْثُ اللُّغَة (وَهُوَ) أَي
مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظ لُغَة (أَن الْعَالم من قَامَ بِهِ)
الْعلم فِي لُغَة الْعَرَب، وَإِثْبَات صِفَات الْحق بِمَا
يَقْتَضِيهِ اللَّفْظ من حَيْثُ الْوَضع مَعَ أَن الْمجَاز فِي
الْكتاب وَالسّنة أَكثر من أَن يُحْصى رجم بِالْغَيْبِ
(وثمرته) أَي كَون حكم الأَصْل شَرْعِيًّا تظهر (فِي قِيَاس
النَّفْي) وَهُوَ قِيَاس يكون حكم الأَصْل فِيهِ نفيا سَوَاء
كَانَ حكم الْفَرْع فِيهِ أَيْضا نفيا أَو وجود مَا (لَو
كَانَ) النَّفْي (أَصْلِيًّا) بِأَن لَا يكون حَادِثا (فِي
الأَصْل امْتنع) الْقيَاس عَلَيْهِ (لعدم مناطه) أَي النَّفْي
الْأَصْلِيّ، لِأَن المناط وصف اعْتَبرهُ الشَّارِع وَجعله
إجَازَة لحكم شَرْعِي، والعدم الْأَصْلِيّ لَيْسَ بِحكم
شَرْعِي لِأَنَّهُ
(3/286)
لَا يصلح لِأَن يكون مَطْلُوبا من العَبْد
لِاسْتِحَالَة طلب حُصُول الْحَاصِل (بِخِلَافِهِ) أَي
النَّفْي إِذا كَانَ (شَرْعِيًّا) بِأَن لَا يكون أَصْلِيًّا
بل عدما حَادِثا مَطْلُوبا من العَبْد كَعَدم الْإِتْيَان
بالمحرم بِمَعْنى كف النَّفس عَنهُ، وكالعدم الطَّارِئ على
الْوُجُود (يَصح) الْقيَاس عَلَيْهِ (بِوُجُودِهِ) أَي بِسَبَب
وجود مناطه فِيهِ (وَهُوَ) أَي المناط (عَلامَة شَرْعِيَّة)
نصبها الشَّارِع على حكم شَرْعِي وَالنَّفْي إِذا كَانَ حكما
شَرْعِيًّا يصلح لِأَن ينصب لَهُ، فَلَا يُقَال: إِن الْعَدَم
الْأَصْلِيّ أَيْضا لَهُ عِلّة لِأَنَّهُ إِن كَانَ عدما
مُطلقًا فعلته عدم عِلّة الْوُجُود الْمُطلق، وَإِن كَانَ عدما
مُضَافا فعلته عدم عِلّة وجود مَا أضيف إِلَيْهِ، لِأَن
الْكَلَام فِي الْعِلَل الشَّرْعِيَّة المنصوبة على
الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة كَمَا عرفت لَا فِي الْعِلَل
الْحكمِيَّة، وَسَيَأْتِي لَك بَيَان لهَذَا الْمَعْنى.
(وَمِنْهَا) أَي شُرُوط حكم الأَصْل (أَن لَا يكون) حكم
الأَصْل (مَنْسُوخا للْعلم بِعَدَمِ اعْتِبَار) الْوَصْف
(الْجَامِع) فِيهِ للشارع لزوَال الحكم مَعَ ثُبُوت الْوَصْف
فِيهِ فَلَا يتَعَدَّى الحكم بِهِ إِذا لم يبْق الاستلزام
الَّذِي كَانَ دَلِيلا للثبوت. (وَمِنْهَا) أَي أَي من شُرُوط
حكم الأَصْل (أَن لَا يثبت) حكم الأَصْل (بِالْقِيَاسِ بل
بِنَصّ أَو إِجْمَاع) كَمَا هُوَ معزو إِلَى الْكَرْخِي
وَجُمْهُور الشَّافِعِيَّة، وَفِي البديع هُوَ الْمُخْتَار
(وَهَذَا) معنى (مَا يُقَال أَن لَا يكون) حكم الأَصْل (فرعا)
أَي حكم فرع (لاستلزامه) أَي كَون حكم الأَصْل فرعا تحقق
(قياسين) أَحدهمَا مقدم وَهُوَ الَّذِي فَرعه صَار أصلا فِي
الْقيَاس الثَّانِي (فالجامع إِن اتَّحد فيهمَا كالذرة) أَي
كقياس الذّرة (على السمسم بعلة الْكَيْل، ثمَّ هُوَ) أَي
السمسم بل قِيَاسه (على الْبر) بعلة الْكَيْل (فَلَا فَائِدَة
فِي الْوسط) الَّذِي هُوَ السمسم (لَا مَكَانَهُ) أَي قِيَاس
الذّرة (على الْبر، وَإِنَّمَا هِيَ) أَي هَذِه المناقشة
(مشاحة لفظية) لِأَن الْمُعْتَرض معترف بِصِحَّة قِيَاس الذّرة
على السمسم، غير أَنه يَقُول: تَطْوِيل للمسافة بِغَيْر
فَائِدَة وَقد يُجَاب عَن التَّطْوِيل بِأَنَّهُ قد ينسى أصل
الْقيَاس الأول ويتذكر أصل الْقيَاس التَّالِي، والتطويل
إِنَّمَا يتَحَقَّق عِنْد تذكرهما مَعًا (أَو اخْتلف) مَعْطُوف
على اتَّحد أَي أَو اخْتلف الْجَامِع فيهمَا (كقياس الجذام على
الرتق) وَهُوَ التحام مَحل الْجِمَاع بِاللَّحْمِ (فِي أَنه)
أَي الرتق (يفْسخ بِهِ النِّكَاح) بِأَن يُقَال يفْسخ
النِّكَاح بالجذام كَمَا يفْسخ بالرتق (بِجَامِع أَنه) أَي أَن
كل وَاحِد مِنْهُمَا (عيب يفْسخ فِيهِ البيع) وَإِذا اشْتَركَا
فِي الْجَامِع الْمَذْكُور فَكَمَا أَنه يفْسخ بالرتق
النِّكَاح كَذَلِك يفْسخ بالجذام (فَيمْنَع) الْخصم (فسخ
النِّكَاح بالرتق) الَّذِي هُوَ الأَصْل الْمَقِيس عَلَيْهِ
(فيعلله) أَي الْمُسْتَدلّ فسخ النِّكَاح بالرتق (بِأَنَّهُ)
أَي الرتق (مفوت للاستمتاع) الَّذِي شرع النِّكَاح لَهُ
(كالجب) أَي كَمَا أَن الْجب قطع الذّكر مفوت للاستمتاع
الْمَذْكُور وَقد ثَبت فسخ النِّكَاح بالجب مَنْصُوصا عَلَيْهِ
فَيلْحق بِهِ الرتق لاشْتِرَاكهمَا فِي الْجَامِع الْمَذْكُور:
أَعنِي تَفْوِيت الِاسْتِمْتَاع
(3/287)
(وَهَذِه) الْعلَّة بِمَعْنى تَفْوِيت
الِاسْتِمْتَاع (لَيست) مَوْجُودَة (فِي الْفَرْع الْمَقْصُود
بالإثبات) أَي الَّذِي قصد إِثْبَات فسخ النِّكَاح فِيهِ،
يَعْنِي الجذام لِأَنَّهُ غير مفوت للاستمتاع. (وَمَا نقل عَن
الْحَنَابِلَة وَأبي عبد الله الْبَصْرِيّ من تجويزه) أَي
تَجْوِيز الْقيَاس على فرع قِيَاس آخر مَعَ اخْتِلَاف
الْجَامِع (لتجويز أَن يثبت) الحكم (فِي الْفَرْع بِمَا لم
يثبت فِي الأَصْل) أَي بعلة وَوصف لم يثبت بِهِ الحكم فِي
الأَصْل (كالنص وَالْإِجْمَاع) يَعْنِي كَمَا أَنه يثبت الحكم
فِي الأَصْل بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع وَالْفرع بِغَيْرِهِمَا،
وَهُوَ الْقيَاس كَذَلِك يثبت فِي الأَصْل بعلة وَفِي الْفَرْع
بِأُخْرَى فَقَوله كالنص وَالْإِجْمَاع لَيْسَ تمثيلا للموصول
فِي قَوْله بِمَا لم يثبت فِي الأَصْل، إِذْ لَا معنى لَهُ بل
لتشبيه مَا لم يثبت بِهِ فِي الأَصْل بهما فِي الِاخْتِصَاص
بِأحد الْحكمَيْنِ وَعدم التحقق فِي الآخر (يبعد صدوره) أَي
صُدُور مَا نقل عَنْهُم (مِمَّن عقل الْقيَاس) وَفهم مَعْنَاهُ
(فَإِن ذَاك) أَي ثُبُوت حكم الأَصْل بِدَلِيل غير مَا ثَبت
بِهِ حكم الْفَرْع (فِي أصل لَيْسَ فرع قِيَاس) وَلَا مَحْذُور
فِي ذَلِك، لِأَن حَاصله يرجع إِلَى أَن الشَّارِع نصب لحكم
الأَصْل دَلِيلا ظَاهرا، وَهُوَ النَّص أَو الْإِجْمَاع وأمارة
خُفْيَة، وَهُوَ الْعلَّة المثيرة لَهُ وَلم ينصب لحكم
الْفَرْع إِلَّا أَمارَة خُفْيَة هِيَ بِعَينهَا تِلْكَ
الْعلَّة المثيرة وَحَاصِل الْقيَاس إِظْهَار مُسَاوَاة
الْحكمَيْنِ فِي الأمارة الْمَذْكُورَة، فَلَا بُد فِي
الْقيَاس من الْمُسَاوَاة بَينهمَا بعلة وَاحِدَة مثيرة للْحكم
فيهمَا، وَإِذا فرض كَون مثير حكم الأَصْل الَّذِي هُوَ فرع
فِي الْقيَاس الْمُقدم غير مثير حكم الْفَرْع فِي الثَّانِي
لزم عدم تحقق معنى الْقيَاس، وَهُوَ ظَاهر فَإِن قلت: مدَار
الْجَواب وجود تِلْكَ الأمارة وَعدمهَا، لَا نفي الفرعية
ووجودها قلت: الفرعية المعللة بِوَصْف لَا يُوجد فِي الْفَرْع
الثَّانِي يسْتَلْزم عدم وجودهَا، فنفي الفرعية كِنَايَة عَن
عدم مَا يسْتَلْزم ذَلِك، مَعَ أَن وجودهَا فِيمَا اسْتشْهدُوا
بِهِ ظَاهر لَا يحْتَاج إِلَى الذّكر (هَذَا) الْمَذْكُور
(إِذا كَانَ الأَصْل) فِي الْقيَاس الْمُتَأَخر (فرعا
يُوَافقهُ الْمُسْتَدلّ) لكَون حكمه على وفْق مَا أدّى
إِلَيْهِ اجْتِهَاده (لَا الْمُعْتَرض) لكَونه على خلاف ذَلِك
(فَلَو) كَانَ الأَصْل (قلبه) أَي عكس مَا ذكر بِأَن كَانَ
فرعا لَا يُوَافقهُ الْمُسْتَدلّ وَيُوَافِقهُ الْمُعْتَرض
(فَلَا يعلم فِيهِ) أَي فِي قلبه قَول (الإعدام الْجَوَاز)
مِثَاله (كشافعي) أَي كَقَوْلِه (فِي نفي قتل الْمُسلم بالذمي)
أَي بقتْله الذِّمِّيّ قصاصا قتل الْمُسلم لَهُ قتل (تمكنت
فِيهِ شُبْهَة) وَهِي عدم التكافؤ فِي الشّرف المنشئ عَنهُ
الْقصاص (فَلَا يقتل) الْمُسلم (بِهِ) أَي بالذمي (كَمَا) لَا
يقتل الْقَاتِل (بالمثقل) لتمكن شُبْهَة العمدية والشبهة دارئة
للحد، وَإِنَّمَا لم يجز (لاعْتِرَافه) أَي الْمُسْتَدلّ
(بِبُطْلَان دَلِيله بِبُطْلَان مقدمته) أَي مُقَدّمَة
ضَرُورَة بطلَان الْكل بِبُطْلَان الْجُزْء، لِأَن
الْمُسْتَدلّ يثبت الْقصاص عِنْده بالمثقل (وَلَو) كَانَ هَذَا
(فِي مناظرة) لم يقْصد بهَا الْمُسْتَدلّ إِثْبَات الْمطلب
(فَأَرَادَ) بهَا (الْإِلْزَام) للمعترض الْحَنَفِيّ
(3/288)
مثلا (لم يلْزم) تَسْلِيمه الْمُعْتَرض
(لجَوَاز قَوْله) أَي الْمُعْتَرض (هِيَ) أَي الْعلَّة فِي
الأَصْل وَهُوَ الْقَتْل بالمثقل (عِنْدِي غير مَا ذكرت) من
تمكن شُبْهَة العمدية وَلَا يجب عَليّ بَيَانهَا فِي عرف
المناظرة وَفِيه مَا فِيهِ (أَو اعْترف بخطئي فِي الأَصْل)
وَهُوَ الْقَتْل بالمثقل فَلَا يضرني ذَلِك الْفَرْع الَّذِي
قسته عَلَيْهِ، وَهُوَ قتل الْمُسلم بالذمي. (وَمِنْهَا) أَي
من شُرُوط حكم الأَصْل (فِي كتب الشَّافِعِيَّة) مُعْتَرضَة:
أَي ذكر فِيهَا، وَقَوله (أَن لَا يكون) حكم الأَصْل (ذَا
قِيَاس مركب) مُبْتَدأ خَبره الظّرْف الْمُقدم، وَمعنى كَونه
ذَا قِيَاس مركب ثُبُوته (وَهُوَ) أَن الْقيَاس الْمركب (أَي
يسْتَغْنى) الْمُسْتَدلّ (عَن إِثْبَات حكم الأَصْل) للْأَصْل
بِالدَّلِيلِ (بموافقة الْخصم) مَعَه (عَلَيْهِ) أَي على
ثُبُوته للْأَصْل من غير أَن يكون مَنْصُوصا أَو مجمعا
عَلَيْهِ. ثمَّ الْقيَاس الْمركب قِسْمَانِ: أَحدهمَا مَا
أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (مَانِعا علية وصف الْمُسْتَدلّ) حَال
من الْخصم لكَونه فَاعِلا للموافقة بِحَسب الْمَعْنى، وَفِيه
إِشَارَة إِلَى أَن الْخصم أَيْضا يُعلل حكم الأَصْل لَكِن
بِوَصْف آخر كَمَا صرح بِهِ بقوله (معينا) عِلّة (أُخْرَى على
أَنَّهَا) أَي الْعلَّة الَّتِي عينهَا (إِن لم تصح منع) أَي
الْخصم (حكم الأَصْل) يَعْنِي تَعْيِينه الْعلَّة الْأُخْرَى
وَاقع على هَذَا الْوَجْه، وَهُوَ أَنه إِن لم تصح عَلَيْهِ
مَا عينه منع حكم الأَصْل، وَلَا يسلم ثُبُوته فِي الأَصْل،
فَقَوله على أَنَّهَا حَال عَن الْعلَّة الْأُخْرَى أَي كائنة
على أَنَّهَا الخ، أَو عَن ضمير معينا أَي عَازِمًا على
أَنَّهَا الخ. وَلما كَانَ محصول هَذَا الْقيَاس إِلْحَاق فرع
بِأَصْل حكمه مُتَّفق عَلَيْهِ بَين الْمُسْتَدلّ وخصمه،
والخصم يمْنَع كَون ذَلِك الحكم مُعَللا بعلة الْمُسْتَدلّ
إِمَّا بِمَنْعه لعليتها أَو لوجودها فِي الأَصْل انقسم إِلَى
قسمَيْنِ، فعين المُصَنّف الْقسم الأول بقوله (وَهَذَا)
الَّذِي منع فِيهِ الْعلية (مركب الأَصْل لِأَن الْخلاف فِي
عِلّة حكم الأَصْل يُوجب اجْتِمَاع قياسيهما) الْمُسْتَدلّ
وخصمه (فِيهِ) أَي فِي الأَصْل، لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا
يثبت حكمه بِقِيَاس آخر، وَذَلِكَ لِأَن حكمه لم يثبت بِنَصّ
أَو إِجْمَاع كَمَا سَيَأْتِي بل ثَبت بِالْقِيَاسِ، وَعند
اخْتِلَافهمَا فِي تعْيين الْعلَّة لزم اخْتِلَاف الْقيَاس
فَلَزِمَ اجْتِمَاع قياسهما فِي الأَصْل (فَكَانَ) الْقيَاس
بِاعْتِبَار المتخاصمين (مركبا وَهُوَ) أَي اجْتِمَاع القياسين
فِي الأَصْل (بِنَاء) أَي مَبْنِيّ (على لُزُوم فرعية الأَصْل)
وَقد بَيناهُ آنِفا، (وَلذَا) أَي وَلأَجل لُزُوم فرعيته
(صَحَّ مَنعه) أَي الْخصم (حكم الأَصْل بِتَقْدِير عدم
صِحَّتهَا) أَي علته على مَا مر (فَلَو) كَانَ حكم الأَصْل
ثَابتا (بِنَصّ أَو إِجْمَاع عِنْده) أَي الْخصم (انْتَفَى)
مَنعه حكم الأَصْل على تَقْدِير عدم صِحَة مَا ادَّعَاهُ وَصفا
مَنُوطًا بِهِ الحكم الْمَذْكُور وَأَشَارَ إِلَى الْقسم
الثَّانِي بقوله (أَو) حَال كَون الْخصم مَانِعا (وجودهَا) أَي
الْعلَّة نَفسهَا فِي الأَصْل معينا عِلّة أُخْرَى (وَهُوَ)
أَو وجودهَا (وصفهَا فمركب الْوَصْف) وبأدنى تَمْيِيز يفرق
(3/289)
بَينهمَا بِاعْتِبَار الْأَصَالَة والوصفية
بالتأويل الْمَذْكُور (أَو بِأَدْنَى تَمْيِيز) بَينهمَا،
وَفِيه مَا فِيهِ (فَإِن قلت كَيفَ يَصح قَوْله) أَي الْخصم
(إِن لم تصح) الْعلَّة الَّتِي عينهَا (منعت حكم الأَصْل
وَظُهُور عدم الصِّحَّة) لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَة (فرع
الشُّرُوع فِي الْإِثْبَات) أَشَارَ إِلَى أَن كل وَاحِد من
وَجْهي التَّسْمِيَة مَوْجُود فِي كل من الْقسمَيْنِ، إِذْ
اجْتِمَاع القياسين فِي الأَصْل على تَقْدِير منع وجودهَا
فِيهِ أَيْضا حَاصِل: كَمَا أَن مورد الْمَنْع فِي الأول
أَيْضا وصف: أَعنِي عَلَيْهِ الْعلَّة غير أَن مُلَاحظَة
عليتها يكون قبل مُلَاحظَة وجودهَا، فَبِهَذَا الِاعْتِبَار
يحسن اعْتِبَار الْأَصَالَة فِي الأول، وَالْوَصْف فِي
الثَّانِي، وَهُوَ التَّمْيِيز الْأَدْنَى، وَفِيه مَا فِيهِ
(بِدُونِ الْمُطَالبَة بِهِ) أَي الْإِثْبَات (فيعجز)
الْمُعْتَرض عَنهُ (وَفِيه) أَي فِي تَصْحِيح هَذَا (قلب
الْوَضع) لِأَنَّهُ يَنْقَلِب الْمُسْتَدلّ مُعْتَرضًا،
والمعترض مستدلا. أما الأول فَلِأَن الْمُعْتَرض لم يقل إِن لم
تصح علتي الخ إِلَّا بعد طعن الْمُسْتَدلّ فِيهَا والاعتراض
عَلَيْهَا بِإِظْهَار عدم صِحَّتهَا. وَأما الثَّانِي فَلِأَن
قَوْله إِن لم تصح منعت استدلالي. حَاصله أَن أحد الْأَمريْنِ
لَازم: إِمَّا صِحَة علته المستلزمة ثُبُوت مدعاه، وَأما منع
حكم الأَصْل الْمُوجب لهدم مدعي الْمُسْتَدلّ فَإِن قلت سلمنَا
أَن ظُهُور عدم الصِّحَّة فرع الشُّرُوع إِلَى آخِره، لَكِن
قَوْله إِن لم تصح إِلَى آخِره لَا يَسْتَدْعِي ظُهُوره، بل
يَكْفِيهِ فَرْضه إِجْمَالا قلت إِذا كَانَ الْمَنْع
مَشْرُوطًا بِعَدَمِ الصِّحَّة بِحَسب نفس الْأَمر وَإِن لم
يعلم بِعَيْنِه، وَذَلِكَ غير مَعْلُوم يلْزم عدم الْعلم
بِوُجُود الْمَنْع، وَقد يُقَال أَن مُرَاده أَن أحد
الْأَمريْنِ لَازم بِحَسب نفس الْأَمر وَإِن لم يعلم بِعَيْنِه
(قلت) يَصح قَوْله الْمَذْكُور (لِأَن الصُّورَة الْمَذْكُورَة
للْقِيَاس الْمركب) فِي الْقسمَيْنِ (من صور الْمُعَارضَة فِي
حكم الأَصْل) لِأَن كل وَاحِد من المتخاصمين يدعى كَون حكم
الأَصْل مُعَللا بعلة خلاف عِلّة الآخر، وَيُقِيم الدَّلِيل
على مَا ادَّعَاهُ بِخِلَاف الصُّورَة الْأُخْرَى من الْقيَاس
الْمركب، وَهُوَ الْقسم الثَّانِي فَإِنَّهَا لَيست من صور
الْمُعَارضَة فِي حكم الأَصْل لِأَنَّهُ لم يدع كل مِنْهُمَا
فِيهَا كَون حكم الأَصْل مُعَللا بعلة أُخْرَى، بل
الْمُسْتَدلّ يلْحق فرعا بِأَصْل فِي حكم زعم وجوده فِي
الأَصْل لعِلَّة زعم اشتراكهما فِيهَا وَحَاصِل اعْتِرَاض
الْمُعْتَرض أحد الْأَمريْنِ: إِمَّا منع وجود تِلْكَ
الْعلَّة، وَإِمَّا منع وجود ذَلِك الحكم فِي الأَصْل (وَفِيه)
أَي وَفِيمَا ذكر يَعْنِي صور الْمُعَارضَة يكون (ذَلِك)
الانقلاب (فَإِن جوابها) أَي الْمُعَارضَة (منع الْمُسْتَدلّ
لما عينه) الْمعَارض من الْعلَّة الَّتِي بهَا يثبت الحكم
الَّذِي يَدعِيهِ (فَلَزِمَهُ) أَي الْمعَارض (الْإِثْبَات)
لعلية مَا عينه (وَإِذا صَار) الْمعَارض (مَانع) أَي منع مَا
عينه الْمُسْتَدلّ من الْعلَّة (لزم الْمُسْتَدلّ إِثْبَاتهَا)
أَي إِثْبَات عِلّة مَا عينه (ووجودها) أَي وجود تِلْكَ
الْعلَّة وكما أَنه يلْزم الْمُسْتَدلّ إِثْبَات الْعلية
والوجود كَذَلِك يلْزم الْمعَارض غير أَنه اكْتفى بالتفصيل
هَهُنَا وَالْحَاصِل أَن كلا من المتخاصمين فِي الْمُعَارضَة
مستدل بِالنّظرِ إِلَى مَا يَدعِيهِ، ومانع بِالنّظرِ إِلَى
مَا يَدعِيهِ خَصمه (وينتهض)
(3/290)
دَلِيل الْمُسْتَدلّ على الْمعَارض
بِإِثْبَات الْوُجُود كَمَا أَنه ينتهض دَلِيل الْمعَارض على
الْمُسْتَدلّ بِهِ (إِذْ لَيْسَ ثُبُوته) أَي ثُبُوت حكم
الأَصْل (إِلَّا بهَا) أَي بِالْعِلَّةِ (للفرعية) أَي للُزُوم
فرعية الأَصْل فِيمَا نَحن فِيهِ (بِخِلَاف مَا إِذا أثبت)
الْمُسْتَدلّ (الْوُجُود) أَي وجود الْعلَّة (فِي مركب
الْوَصْف) إِذْ لَا ينْتَقض دَلِيله حِينَئِذٍ بِإِثْبَات
الْوُجُود (فَإِنَّهُ) أَي الْمُعْتَرض (مَعَه) أَي مَعَ
إِثْبَات الْمُسْتَدلّ الْوُجُود فِيهِ (يمْنَع حكم الأَصْل،
وَهُوَ) أَي مَنعه حكم الأَصْل (دَلِيل أَنه) أَي الْمُعْتَرض
(مَانع صِحَة مَا عينه الْمُسْتَدلّ فيهمَا) أَي مركبي الأَصْل
وَالْوَصْف (وَإِذن) أَي وَإِذا كَانَ وجود الْعلَّة فِي
الأَصْل تَارَة يجْتَمع مَعَ منع الحكم فِيهِ (فَقَوْلهم) أَي
الْأُصُولِيِّينَ (للمستدل) فِي مركب الْوَصْف (أَن يثبت
وجودهَا) أَي الْعلَّة فِي الأَصْل (بدليله) أَي بِدَلِيل
الثُّبُوت (من حس أَو عقل أَو شرع أَو لُغَة) بِأَن يكون
وجودهَا فِيهِ محسوسا أَو ثَابتا بِدَلِيل عَقْلِي أَو شَرْعِي
أَو بِمُقْتَضى اللُّغَة (فينتهض) جَوَاب الشَّرْط: أَي يقوم
الدَّلِيل (عَلَيْهِ) أَي على الْمُعْتَرض (لِأَنَّهُ) أَي
الْمُعْتَرض (معترف بِصِحَّة الْمُوجب) بِكَسْر الْجِيم،
وَهُوَ عَلَيْهِ عِلّة الحكم (ووجوده) أَي الْمُوجب فِي
الأَصْل (إِذْ قد ثَبت بِالدَّلِيلِ) فَلَزِمَهُ القَوْل
بِمُقْتَضَاهُ (فِيهِ نظر) هَذِه الْجُمْلَة خبر للمبتدأ
أَعنِي قَوْلهم، وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى مَنْظُور فِيهِ على
أَن يكون الظّرْف لَغوا قدم لكَون الْمصدر بِمَعْنى
الْمَفْعُول، أَو توسعة فِي الظروف (بل) ينتهض (إِذا أثبتهما)
أَي صِحَة مَا عينه الْمُسْتَدلّ ووجوده فِي الأَصْل
(كَالْأولِ) أَي مركب الأَصْل حَاصِل الْكَلَام أَن قَوْلهم
الْمَذْكُور يُفِيد أَنه يَكْفِي الْمُسْتَدلّ فِي مركب
الْوَصْف إِثْبَات الْوُجُود، وَإِذ قد عرفت أَن منع حكم
الأَصْل منع لصِحَّة مَا عينه الْمُسْتَدلّ علمت أَنه لَا بُد
فِيهِ أَيْضا من إِثْبَات الْأَمريْنِ غير أَنه يتَّجه على
عِبَارَته مَا قصرت الطَّاقَة عَن تَوْجِيهه بِحَيْثُ ترْتَفع
الْعبارَة وَالله تَعَالَى أعلم. (فَالْأول) أَي مِثَال الأول:
يَعْنِي مركب الأَصْل (قَول الشَّافِعِي) فِي أَن الْحر لَا
يقتل بِعَبْد قَتله الْمَقْتُول (عبد فَلَا يقتل بِهِ الْحر
كَالْمكَاتبِ الْمَقْتُول) ذَاهِبًا (عَمَّا بَقِي) من المَال
(بكتابته) أَي ببدلها (و) عَن (وَارِث غير سَيّده) لَا يقتل
قَاتله الْحر بِهِ، وَإِن اجْتمع السَّيِّد وَالْوَارِث على
طلب الْقصاص فَيلْحق العَبْد بِهِ بِجَامِع الرّقّ (والحنفي
يُوَافقهُ) أَي الشَّافِعِي (فِيهِ) أَي فِي فِي حكم الأَصْل،
وَهُوَ عدم قتل الْحر بالمكاتب الْمَذْكُور وَيُخَالِفهُ فِي
الْعلَّة (فَيَقُول الْعلَّة جَهَالَة الْمُسْتَحق) للْقصَاص
(من السَّيِّد وَالْوَرَثَة لاخْتِلَاف الصَّحَابَة فِي
عبديته) نظرا إِلَى عدم أَدَائِهِ بدل الْكِتَابَة (وحريته)
نظرا إِلَى مَا ينزل منزلَة الْأَدَاء. أخرج الْبَيْهَقِيّ عَن
الشّعبِيّ كَانَ زيد بن ثَابت يَقُول الْمكَاتب عبد مَا بقى
عَلَيْهِ دِرْهَم لَا يَرث وَلَا يُورث، وَكَانَ عَليّ رَضِي
الله عَنهُ يَقُول إِذا مَاتَ الْمكَاتب وَترك مَالا قسم مَا
ترك على مَا أدّى وعَلى مَا بقى، فَمَا أصَاب مَا أدّى فللورثة
وَمَا أصَاب مَا بَقِي فللمسلمين، وَكَانَ عبد الله يَقُول
(3/291)
يُؤَدِّي إِلَى موَالِيه مَا بَقِي من
مُكَاتبَته ولورثته مَا بَقِي، وَعَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله
عَنهُ مثل هَذَا، وَاخْتِلَافهمْ يُوجب اشْتِبَاه الْوَلِيّ،
وَالْقصاص يَنْتَفِي بِالشُّبْهَةِ (فَإِن صحت) علتي (بَطل
إلحاقك) العَبْد بالمكاتب (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم تصح علتي بل
صحت علتك، وَهِي العبدية (منعت حكم الأَصْل فَيقْتل الْحر
بِهِ) أَي بالمكاتب فَلم يَنْفَكّ الْحَنَفِيّ عَن عدم
الْعلَّة فِي الْفَرْع على تَقْدِير كَونهَا الْجَهَالَة، أَو
منع الحكم على تَقْدِير أَنَّهَا الرّقّ فَلَا يتم الْقيَاس
على التَّقْدِيرَيْنِ (وَلَا يَتَأَتَّى) أَي لَا يَصح منع حكم
الأَصْل فِي الصُّورَتَيْنِ (إِلَّا من مُجْتَهد) إِذْ لَيْسَ
للمقلد مُخَالفَة إِمَامه (أَو من علم عَنهُ) أَي الْمُجْتَهد
(مساواتها) أَي الْعلَّة الَّتِي أبداها فِي مقَام
الِاعْتِرَاض لحكم الأَصْل فينتفى الحكم بانتفائها وَالْمرَاد
مساواتها بِحَسب التحقق، وَذَلِكَ لِأَن منع حكم الأَصْل من
الْمعَارض عِنْد عدم صِحَة علته مَبْنِيّ على علمه بالتلازم
بَينهمَا، وَالْعلم بِهِ إِمَّا بِالِاجْتِهَادِ أَو بالتقليد
للمجتهد (وَالثَّانِي) أَي مِثَال مركب الْوَصْف قَول
شَافِعِيّ فِي عدم صِحَة تَعْلِيق الطَّلَاق قبل النِّكَاح
بِمَا هُوَ سَبَب الْملك (فِي أَن تزوجت زَيْنَب) وَفِي بعض
النّسخ فُلَانَة (فطالق) هَذَا (تَعْلِيق للطَّلَاق قبل
النِّكَاح فَلَا يَصح كَقَوْلِه) أَي الْقَائِل فُلَانَة
(الَّتِي أَتَزَوَّجهَا طَالِق) حَيْثُ لَا يَصح حَتَّى إِذا
تزَوجهَا لَا تطلق (فَيَقُول) الْحَنَفِيّ (كَونه) القَوْل
الْمَذْكُور (تَعْلِيقا مُنْتَفٍ فِي الأَصْل) أَي فُلَانَة
الَّتِي أَتَزَوَّجهَا (بل تنجيزا) للطَّلَاق (فَإِن صَحَّ)
كَونه تنجيزا (بَطل إلحاقك) الْفَرْع الْمَذْكُور بِالْأَصْلِ
الْمَذْكُور (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يَصح كَونه تنجيزا بل
كَانَ تَعْلِيقا (منعت حكم الأَصْل) وَهُوَ عدم وُقُوع
الطَّلَاق (فَتطلق) فُلَانَة فِي قَوْله فُلَانَة الَّتِي
أَتَزَوَّجهَا طَالِق إِذا تزَوجهَا فَلَا يتم الْقيَاس على
التَّقْدِيرَيْنِ، فقد علم بذلك أَن الصُّورَتَيْنِ اشتركتا
فِي أَن الأَصْل فيهمَا فرع، وَفِي أَن كل وَاحِد من
المتخاصمين يعين عِلّة أُخْرَى لحكم الأَصْل، وَفِي أَن الْخصم
فِي كل مِنْهُمَا يمْنَع أَولا عِلّة الْمُسْتَدلّ ويعين عِلّة
أُخْرَى، ثمَّ يَقُول إِن لم تصح علتي منعت حكم الأَصْل غير
أَنه يمْنَع فِي الصُّورَة الأولى علية الْمُسْتَدلّ، وَفِي
الثَّانِيَة وجودهَا، ومنشأ اخْتِلَافهمَا فِي كَيْفيَّة
الْمَنْع أَن الْمَذْكُور للتَّعْلِيل فِي الثَّانِيَة ذُو
وَجْهَيْن بِاعْتِبَار أَحدهمَا يصلح للعلية عِنْد الْخصم
كتعليق الطَّلَاق قبل النِّكَاح إِن كَانَ بِدُونِ الْإِضَافَة
إِلَى الْملك يَقْتَضِي عدم وُقُوعه، وَإِن كَانَ مَعَه
يَقْتَضِي وُقُوعه فيحمله الْخصم أَولا على الْوَجْه الأول
وَيمْنَع وجوده فِي فُلَانَة الَّتِي أَتَزَوَّجهَا طَالِق
لِأَنَّهُ تَنْجِيز كَمَا هُوَ الْمُتَبَادر مِنْهُ، ثمَّ
نقُول وَإِن لم ترض بذلك أَيهَا الْمُسْتَدلّ وَتقول أَنه
تَعْلِيق أمنع الحكم فِي الأَصْل وَأَقُول تطلق لِأَنَّهُ مَعَ
الْإِضَافَة وَلَيْسَ مثل هذَيْن الْوَجْهَيْنِ فِي الصُّورَة
الأولى فَافْتَرقَا، وَالله تَعَالَى أعلم (وَهَذَا) القَوْل
الْمَذْكُور فِي الْجَواب عَن الْقيَاس الْمَذْكُور حَاصِل
(مَا ذكرنَا من مَنعه) أَي الْمُعْتَرض (الْأَمريْنِ) : وجود
الْعلَّة فِي الأَصْل، وَحكمه (وَلَو كَانَ اخْتِلَافهمَا)
(3/292)
أَي الْمُسْتَدلّ والمعترض (ظَاهرا من
الأول) أَي قبل الشُّرُوع فِي الِاسْتِدْلَال (فِيهِ) أَي فِي
حكم الأَصْل (وَلَيْسَ) حكم الأَصْل (مجمعا) عَلَيْهِ مُطلقًا
وَلِأَنَّهُمَا تَأْكِيد للْكَلَام السَّابِق (فحاول)
الْمُسْتَدلّ (إثْبَاته) أَي حكم الأَصْل بِنَصّ (ثمَّ)
إِثْبَات (علته) أَي عِلّة ذَلِك الحكم بمسلك من مسالك
الْعلَّة (قيل لَا يقبل) هَذَا الأسلوب لِئَلَّا يلْزم
الِانْتِقَال من مَطْلُوب إِلَى آخر، وانتشار كَلَام يُوجب
تسلسل الْبَحْث الْمَانِع من حُصُول الْمَقْصُود (وَالأَصَح
يقبل) أَي قَوْله (لِأَن إِثْبَات حكم الأَصْل) حِينَئِذٍ
مُقَدّمَة (من مُقَدمَات دَلِيله) أَي القائس (على إِثْبَات
حكم الْفَرْع) لِأَن ثُبُوت الحكم للفرع فرع ثُبُوته للْأَصْل
(فَلَو لم يقبل) إِثْبَات حكم الأَصْل وَهُوَ من مُقَدمَات
دَلِيله (لم يقبل) مَنعه أَي أَن يُؤْخَذ فِي الِاسْتِدْلَال
(مُقَدّمَة تقبل الْمَنْع) مُطلقًا لِأَن أَخذهَا فِيهِ
يسْتَلْزم إِثْبَاتهَا فَلَزِمَ الْمَحْذُور الْمَذْكُور، وَجه
الاستلزام أَنَّهَا تمنع فَيجب على الْمُسْتَدلّ إِثْبَاتهَا
(وَكَونه) أَي حكم الأَصْل (يَسْتَدْعِي) من الْأَدِلَّة
والشرائط (كالآخر) أَي حكم الْفَرْع لكَونه حكما شَرْعِيًّا
مثله فيكثر الْجِدَال، بِخِلَاف مُقَدمَات تقبل الْمَنْع فِي
المناظرة فِي إِثْبَات حكم وَاحِد (لَا أثر لَهُ) أَي للكون
الْمَذْكُور فِي الْفرق بعد مَا تبين أَن حكم الأَصْل صَار من
مُقَدمَات دَلِيل القائس على حكم الْفَرْع، إِذْ قد تكْثر
مُقَدمَات دَلِيل الْمُدَّعِي أَكثر من ذَلِك، وَفِيه تَعْرِيض
لما فِي الشَّرْح العضدي (وَمَا قيل) من أَن (هَذِه
اصْطِلَاحَات لَا يشاح فِيهَا) يَعْنِي أَن أَمْثَال عدم قبُول
المجادلة لإِثْبَات حكم الأَصْل فِي أثْنَاء إِثْبَات حكم
الْفَرْع أُمُور قد اصْطلحَ عَلَيْهَا الأصوليون فِي آدَاب
المناظرة، وَلَا مشاحة فِي الِاصْطِلَاح على مَا ذكر فِي
الشَّرْح الْمَذْكُور (غير لَازم) خبر الْمَوْصُول إِذْ لَا
يلْزم اتِّبَاع مُوجبه (لمن لم يلتزمه) أَي الِاصْطِلَاح
الْمَذْكُور فَلهُ أَن يعْمل بِخِلَاف ذَلِك الِاصْطِلَاح فِي
مناظرته (وَلم يذكر الْحَنَفِيَّة هَذَا) الشَّرْط، وَهُوَ أَن
لَا يكون حكم الأَصْل ذَا قِيَاس مركب (لبُطْلَان كَونه شرطا
لحكم الأَصْل، بل) انتفاؤه شَرط (للانتهاض) وَقيام الْحجَّة
للمناظرة (على المناظر) فِي المناظرة (بِهَذَا الطَّرِيق من
الجدل) يَعْنِي لَيْسَ بِشَرْط فِي إِثْبَات حكم الأَصْل، بل
فِي إِلْزَام الْخصم فِي إِلْحَاق الْفَرْع الْمَذْكُور فَإِن
قلت فِيهِ تنَاقض لِأَن المناظرة بِهَذَا الطَّرِيق تستدعي
تحقق الْقيَاس الْمركب، وَشرط الانتهاض على المناظر بِهِ
يَسْتَدْعِي انتفاءه قُلْنَا المُرَاد الَّذِي هُوَ من شَأْنه
أَن يناظر بِهِ، فَإِنَّهُ إِذا انْتَفَى لزم عدم قابلية
الْمحل للمعارضة بِهَذَا الطَّرِيق فيعجز الَّذِي من شَأْنه
عَنْهَا فَتدبر فَهِيَ مسئلة جدلية لَا أصولية (وأفادوه) أَي
الْحَنَفِيَّة اشْتِرَاطه (بِاخْتِصَار) فَقَالُوا (لَا يُعلل
بِوَصْف مُخْتَلف) فِيهِ اخْتِلَافا ظَاهرا (كَقَوْل شَافِعِيّ
فِي إبِْطَال الْكِتَابَة الْحَالة) كَقَوْلِك كاتبتك على ألف
من غير ذكر أجل (عقد) مقول القَوْل خبر مَحْذُوف (يَصح مَعَه
التَّكْفِير بِهِ) أَي بالمكاتب بِهَذَا العقد، وَالْجُمْلَة
صفة عقد، وَلَو كَانَ هَذَا العقد صَحِيحا لما جَازَ أَن يكفر
بِهِ عَن ظِهَار أَو غَيره مِمَّا يُوجب الْكَفَّارَة
(3/293)
لِأَنَّهُ لَا يجوز التَّكْفِير إِلَّا
بِمَا هُوَ عقد حَقِيقِيّ وَالْمكَاتب لَيْسَ كَعبد يدا وَإِن
كَانَ عبدا رَقَبَة (فَكَانَ بَاطِلا كالكتابة على الْخمر)
إِذا كَانَ الْمكَاتب وَالْمكَاتب مُسلمين أَو أَحدهمَا مُسلما
(فَحكم الأَصْل) وَهُوَ بطلَان الْكِتَابَة على الْخمر
(مُتَّفق) عَلَيْهِ (لَكِن علته عِنْد الْحَنَفِيَّة كَون
المَال) الَّذِي جعل بدل لكتابة وَهُوَ الْخمر (غير مُتَقَوّم،
لَا مَا ذكر من صِحَة التَّكْفِير بِهِ) أَي الْمكَاتب (وَله)
أَي للمستدل (إثْبَاته) أَي إِثْبَات الْوَصْف الْمُخْتَلف
فِيهِ من حَيْثُ أَنه عِلّة (على مَا تقدم) من جَوَاز إِثْبَات
مُقَدمَات الدَّلِيل، أَن كل مُقَدّمَة تقبل الْمَنْع مِنْهَا
فإثباتها مَقْبُول. (ولبعضهم) وَهُوَ صدر الشَّرِيعَة أَنه
(لَا يجوز التَّعْلِيل بعلة اخْتلف فِي وجودهَا فِي الْفَرْع
أَو) فِي (الأَصْل كَقَوْل شَافِعِيّ فِي الْأَخ) هُوَ (شخص
يَصح التَّكْفِير بإعتاقه فَلَا يعْتق إِذا ملكه كَابْن الْعم
فَإِن أَرَادَ) الشَّافِعِي بإعتاقه (عتقه) أَي الْأَخ (إِذا
ملكه) بشرَاء قصد بِهِ الْكَفَّارَة. فِي الْهِدَايَة أَن
اشْترى أَبَاهُ أَو ابْنه يَنْوِي بِالشِّرَاءِ الْكَفَّارَة
جَازَ عَنْهَا، فِي شرح المُصَنّف عَلَيْهَا الْحَاصِل أَنه
إِذا دخل فِي ملكه بضع مِنْهُ أَن نوى عِنْد صنعه أَن يكون
عتقه عَن الْكَفَّارَة أَجزَأَهُ انْتهى، فقد علم أَنه
يتَحَقَّق الْملك ويعقبه الْعتْق، وَالنِّيَّة السَّابِقَة
تُؤثر فِي وُقُوع الْعتْق عَن الْكَفَّارَة فقد تحقق هَاهُنَا
عتق بِمُوجب الْقَرَابَة من غير إِعْتَاق بعد الْملك، فَإِن
كَانَ مُرَاده هَذَا الْعتْق (فَغير مَوْجُود فِي ابْن الْعم)
فَلم يتَحَقَّق بِالْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ صِحَة التَّكْفِير
بِالْإِعْتَاقِ فِي الأَصْل فَإِنَّهُ إِذا اشْتَرَاهُ بنية
الْكَفَّارَة لَا يجوز عَنْهَا اتِّفَاقًا (أَو) أَرَادَ
(إِعْتَاقه بعده) بِأَن يصير ملكه ثمَّ يعتقهُ قصدا
(فَمَمْنُوع فِي الْأَخ) أَي لَا نسلم وجود هَذَا الْوَصْف
فِيهِ، إِذْ هُوَ يعْتق بِمُجَرَّد الْملك (وَذكر) الْبَعْض
الْمَذْكُور (الصُّورَتَيْنِ) المذكورتين: أَن تزوجت فُلَانَة،
وَعبد فَلَا يقتل بِهِ الْحر إِلَى آخرهما (ثمَّ على مَا
ذكرنَا) من أَن الْأَصَح قبُول إِثْبَات حكم الأَصْل مِمَّن
هُوَ بصدد إِثْبَات حكم الْفَرْع (لَهُ) أَي للمستدل هُنَا
(إِثْبَاتهَا) أَي الْعلَّة الَّتِي اخْتلف فِي وجودهَا فِي
الْفَرْع أَو الأَصْل، لِأَن إِثْبَاتهَا من مُقَدمَات دَلِيله
على حكم الْفَرْع (وَلَيْسَ من الشُّرُوط) لحكم الأَصْل
(كَونه) أَي كَون حكم الأَصْل (قَطْعِيا بل يَكْفِي ظَنّه
فِيمَا) أَي فِي قِيَاس (يقْصد بِهِ) أَي بذلك الْقيَاس
(الْعَمَل) فَإِن مَا يقْصد بِهِ الِاعْتِقَاد لَا يَكْفِي
فِيهِ الظَّن، وَفِيه نظر لأَنهم ذكرُوا فِي العقائد مَا لَا
مطمع فِيهِ للْقطع فَتدبر (وَكَون الظَّن يضعف بِكَثْرَة
الْمُقدمَات) الظنية، فَإِن كل مُقَدّمَة مُشْتَمِلَة على
احْتِمَال خلاف الْمُدَّعِي (لَا يسْتَلْزم الاضمحلال) أَي
بطلَان الظَّن رَأْسا فَلَا يبْقى للْقِيَاس فَائِدَة غَايَة
الْأَمر لُزُوم ضعفه (بل هُوَ) أَي اجْتِمَاع الظنون (انضمام
مُوجب) أَي أَمر يُفِيد الظَّن بِثُبُوت الحكم (إِلَى مُوجب
فِي الشَّرْع) إِشَارَة إِلَى أَن الْمُوجب الْعقلِيّ لَا
يُفَارق الْمُوجب، وانضمام الْمُوجب إِلَى الْمُوجب يُوجب
قُوَّة فِي الْمُوجب. (وَالْخلاف فِي كَونه) أَي حكم الأَصْل
(ثَابتا بِالْعِلَّةِ عِنْد
(3/294)
الشَّافِعِيَّة) وَالْحَنَفِيَّة
السمرقنديين (وبالنص عِنْد الْحَنَفِيَّة) الْعِرَاقِيّين
والدبوسي والبزدوي والسرخسي وَغَيرهم (لَفْظِي) عِنْد تَحْقِيق
مُرَادهم يرجع إِلَى أَمر يُوهِمهُ ظَاهر لَفظهمْ، وَلَا نزاع
بَينهم بِحَسب الْمَعْنى والحقيقة (فمراد الشَّافِعِيَّة) من
علية الْوَصْف (أَنَّهَا) أَي الْعلَّة (الباعثة عَلَيْهِ) أَي
على شرع الحكم فِي الأَصْل، وَلَا يلْزم مِنْهُ أَن يكون عِلّة
غائية فَيلْزم استكمال الشَّارِع بهَا بل هِيَ الْحِكْمَة
الْمُقْتَضِيَة للتشريع (و) مُرَاد (الْحَنَفِيَّة) من ثُبُوت
الحكم بِالنَّصِّ (أَنه) أَي النَّص إِنَّمَا هُوَ
(الْمُعَرّف) لِلْعِلَّةِ الباعثة لِأَنَّهَا تستنبط مِنْهُ
(وَلَا يتَأَكَّد فِي ذَلِك) أَي مرادي الْفَرِيقَيْنِ
(وَكَيف) يَصح إِرَادَة أَنَّهَا تثبت الحكم (وَقد تكون)
الْعلَّة (ظنية) بِاعْتِبَار عليتها لَهُ لعدم مَا يُفِيد
الْقطع بهَا، أَو بِاعْتِبَار وجودهَا فِيهِ (وَحكم الأَصْل
قَطْعِيّ) لثُبُوته بِنَصّ أَو إِجْمَاع قَطْعِيّ، والظني لَا
يُوجب الْقطع، وَعَن السُّبْكِيّ إِنْكَار تَفْسِير الْعلَّة
بالباعث، وتفسيرها بالمعرف بِمَعْنى كَونهَا أَمارَة
مَنْصُوبَة يسْتَدلّ بهَا الْمُجْتَهد على وجود الحكم إِذا لم
يكن عَارِفًا بِهِ، وَيجوز أَن يتَخَلَّف فِي حق الْعَارِف
كالغيم الرطب أَمارَة للمطر وَقد يتَخَلَّف، الاسكار مثلا
عِلّة للتَّحْرِيم فَهُوَ حَيْثُ وجده قضى بِالتَّحْرِيمِ مَعَ
أَنه يعرف تَحْرِيمهَا بِالنَّصِّ، كَذَا ذكره الشَّارِح فِي
إطناب غير منقح، وَكَانَ مُرَاد السُّبْكِيّ أَن تَحْرِيم
الْخمر على وَجه الْإِطْلَاق يعرفهُ بِالنَّصِّ، ووجوده فِي
الخصوصات يعرفهُ بالإسكار، فَعلمه بِأَن تَحْرِيم الْخمر
بِسَبَب الْإِسْكَار وَقد يعرفهُ فِي بعض الخصوصات بِدُونِ
الْإِسْكَار لاطلاعه على النَّص الدَّال على تَحْرِيم الْخمر
وَعلمه بِأَنَّهَا خمر، فالتخلف هَاهُنَا من جَانب الأمارة على
عكس الْغَيْم الرطب، فَإِن التَّخَلُّف فِيهِ من جَانب ذِي
الأمارة وَبِالْجُمْلَةِ لم يعْتَبر فِي الْمُعَرّف الطَّرْد
وَالْعَكْس كَمَا قَالَ بعض المنطقيين من أَنه يجوز
التَّعْرِيف بالأعم والأخص.
وَأَنت خَبِير بِأَن مَا ذكره المُصَنّف أقرب إِلَى
التَّحْقِيق (وَمن شُرُوط الْفَرْع) أَي من شُرُوط الْقيَاس
الْمُعْتَبر وجودهَا فِي جَانب الْفَرْع الْمُعَرّف (لبَعض
الْمُحَقِّقين) كَابْن الْحَاجِب (أَن يُسَاوِي) الْفَرْع
(الأَصْل فِيمَا علل بِهِ حكمه) أَي الأَصْل (من عين) بَيَان
للموصول: أَي يُسَاوِي الْفَرْع الأَصْل فِي عين الْعلَّة
بِأَن تُوجد بِعَينهَا فِي الْفَرْع كَمَا وجدت فِي الأَصْل
(كالنبيذ) أَي كمساواة النَّبِيذ (للخمر فِي الشدَّة المطربة)
اللَّازِمَة للإسكار، وَلذَا يُفَسر بهَا (وَهِي) أَي الشدَّة
المطربة (بِعَينهَا مَوْجُودَة فِي النَّبِيذ، أَو جنس)
لِلْعِلَّةِ مَعْطُوف على عين وَعند ذَلِك مَا يقْصد مُسَاوَاة
الْفَرْع للْأَصْل فِيهِ إِنَّمَا هُوَ الْجِنْس كَمَا أَنه
الْعين فِي الأول (كالأطراف) وَهِي الْفَرْع (على الْقَتْل)
وَهُوَ الأَصْل (فِي الْقصاص بِالْجِنَايَةِ) وَالْمرَاد
إِتْلَاف الْأَطْرَاف قِيَاسا (على إِتْلَاف النَّفس) بِجَامِع
الْجِنَايَة الْمُشْتَركَة بَينهمَا فَإِنَّهَا جنس للجناية
المحققة فِي إِتْلَاف النَّفس والأطراف، وهما مُخْتَلِفَانِ
بِالْحَقِيقَةِ (وَفِيمَا يقْصد) مَعْطُوف على الْمَوْصُول:
أَي وَمن شُرُوط الْفَرْع أَن يُسَاوِي الأَصْل فِيمَا يقْصد
الْمُسَاوَاة
(3/295)
بَين الْفَرْع وَالْأَصْل (من عين الحكم)
بَيَان لما يقْصد (كَالْقَتْلِ بالمثقل) الْمَقِيس (عَلَيْهِ)
أَي على الْقَتْل بالمحدد فِي الْقصاص فَإِن الْقَتْل
الْكَائِن فِي الْفَرْع بِعَيْنِه هُوَ الْكَائِن فِي الأَصْل،
وَفِي إِطْلَاق عين الحكم على الْقصاص مُسَامَحَة، لِأَن الحكم
فِي الْحَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ وجوب الْقصاص (أَو جنسه) أَي
جنس الحكم (كالولاية) أَي كثبوت الْولَايَة (على الصَّغِيرَة
فِي انكاحها) مُتَعَلق بِالْولَايَةِ المقيسة (على) ثُبُوت
الْولَايَة عَلَيْهَا فِي (مَالهَا) فَإِن ولَايَة الانكاح من
جنس ولَايَة المَال لَا عينهَا، كَذَا قَالُوا. (و) قَالَ
المُصَنّف (لَا معنى للتقسيم) فِي كل من هذَيْن الشَّرْطَيْنِ
(أما فِي الْعلَّة فَلَا نعني بِالْعينِ) أَي بِعَين الْعلَّة
(إِلَّا مَا علل بِهِ) فِي الْقيَاس (حكم الأَصْل) وَلَا شكّ
أَنما علل بِهِ نفس الْجِنْس لَا نَوعه، وَإِلَّا فَلَا يَصح
الْقيَاس، لِأَنَّهُ لَا بُد من مُشَاركَة الْفَرْع وَالْأَصْل
فِي عين الْعلَّة (وَكَونه) أَي كَون مَا علل بِهِ (جِنْسا
لشَيْء) مُتَحَقق فِي الأَصْل، وَشَيْء آخر مُتَحَقق فِي
الْفَرْع (لَا يُوجب أَن الْعلَّة جنس الْوَصْف) لِأَن
الْوَصْف وَالْعلَّة شَيْء وَاحِد لَا مُغَايرَة بَينهمَا
(فالجناية على الذَّات) احْتِرَاز عَن الْجِنَايَة على المَال
والذات تعم الْكل والجزء (عين مَا علل بِهِ) حكم الأَصْل (لَا
جنس مَا علل بِهِ) كَمَا عرفت (وَإِن كَانَ هُوَ) أَي
الْجِنَايَة الْمَذْكُورَة، ذكر الضَّمِير بِاعْتِبَار
الْخَبَر (جنس جِنَايَة الْقَتْل. وَأما الحكم فَلَيْسَ المعدى
قطّ) من الأَصْل إِلَى الْفَرْع، وَهُوَ (جنس حكم الأَصْل بل
عينه) وَقد سبق مَا يُغْنِيك عَن زِيَادَة الْبَيَان
(فَالْمَال الأَصْل، وَالنَّفس الْفَرْع، وَحكم الأَصْل ثيوت
الْولَايَة) الْمُطلقَة عَن قيد النَّفس وَالْمَال (فيعدى) أَي
ثُبُوت الْولَايَة بِعَيْنيهِ من المَال (إِلَى النَّفس،
وَقَوله) أَي بعض الْمُحَقِّقين هَا هُنَا (وَهِي بِعَينهَا
الخ) حَال كَونه (يُنَاقض مَا قدمه) فِي أول بحث الْقيَاس (من
الْمثل) أَي الثَّابِت فِي الْفَرْع مثل عِلّة الأَصْل لَا
عينهَا لِأَن الْمَعْنى الشخصي لَا يقوم بمحلين (رَجَعَ إِلَى
الصَّوَاب) خبر المتبدأ، فِيهِ تَعْرِيض بِأَن قَوْله رَجَعَ
إِلَى الصَّوَاب لَا نَفسه، هَذَا، وَلَا يخفى عَلَيْك سَعَة
ميدان التَّوْجِيه إِن حصلت الْعِنَايَة (وَأَن لَا يتَغَيَّر
فِيهِ) أَي وَمن شُرُوط الْفَرْع أَن لَا يتَغَيَّر فِي
الْفَرْع، وَهُوَ مَعْطُوف على قَوْله أَن يُسَاوِي (حكم نَص
أَو إِجْمَاع على حكم الأَصْل) الْجَار مُتَعَلق من حَيْثُ
الْمَعْنى بِالْإِجْمَاع وَالنَّص على سَبِيل التَّنَازُع أعمل
الثَّانِي، وَقدر فِي الأول: أَي نَص دَال على حكم الأَصْل،
يَعْنِي إِذا كَانَ هُنَاكَ نَص دَال أَو إِجْمَاع على حكم
الأَصْل على وَجه وَكَيْفِيَّة من الْعُمُوم وَالْخُصُوص وَغير
ذَلِك، وَقد تحقق فِي الأَصْل فَلَا بُد أَن يتَحَقَّق ذَلِك
فِي الْفَرْع على ذَلِك الْوَجْه أَيْضا (كظهار الذِّمِّيّ)
الْمَقِيس (على) ظِهَار (الْمُسلم فِي الْحُرْمَة) على
الْوَجْه الْمَذْكُور فِي الْفِقْه (فَإِن المعدى) من الأَصْل
وَهُوَ ظِهَار الْمُسلم إِلَى الْفَرْع وَهُوَ ظِهَار
الذِّمِّيّ (غير حكم الأَصْل وَهِي) أَي حكم الأَصْل، أنثه
بِاعْتِبَار الْخَبَر (الْحُرْمَة المتناهية بِالْكَفَّارَةِ)
المتضمنة لِلْعِبَادَةِ (إِذْ لَا عبَادَة) تصح (مِنْهُ) أَي
الذِّمِّيّ لعدم الْإِيمَان، تَعْلِيل للتغير الْمَذْكُور
(3/296)
(فالحرمة فِي الْفَرْع مُؤَبّدَة) لعدم
انتهائها بِالْكَفَّارَةِ لما ذكر فَإِن قيل فَلَا يُقَاس
ظِهَار العَبْد على ظِهَار الْحر أَيْضا، لِأَنَّهُ لَا
يَتَأَتَّى مِنْهُ الْإِعْتَاق وَالْإِطْعَام كَمَا فِي الْحر
فقد تغير فِي الْفَرْع حكم النَّص الدَّال على حكم الأَصْل لما
فِيهِ من تَرْتِيب خِصَال الْكَفَّارَة فَالْجَوَاب مَا
أَفَادَهُ المُصَنّف بقوله (بِخِلَاف العَبْد) فَإِنَّهُ (أهل)
لِلْكَفَّارَةِ إِلَّا أَنه (عَاجز) عَن التَّكْفِير
بِالْمَالِ لانْتِفَاء الْملك (كالفقير) أَي الْحر الْعَاجِز
عَن ذَلِك، فَكَمَا صَحَّ ظِهَار الْفَقِير صَحَّ ظِهَار
العَبْد الْمُسلم حَتَّى لَو عتق وَأصَاب مَالا كَانَت
كَفَّارَته بِالْمَالِ فَإِن قلت فَكَذَلِك الذِّمِّيّ أَن
أسلم صَار أَهلا وَالْحَاصِل أَنكُمْ إِن اعتبرتم
الْأَهْلِيَّة بِالْفِعْلِ فَقَط فَهِيَ مفقودة فيهمَا مَعًا،
وَإِن عممتم فَلَا فرق بَينهمَا أَيْضا قلت بل بَينهمَا فرق،
لِأَن الذِّمِّيّ لَا أَهْلِيَّة لَهُ لِلْكَفَّارَةِ مُطلقًا،
بِخِلَاف العَبْد فَإِن لَهُ أَهْلِيَّة بِالنِّسْبَةِ إِلَى
بعض أَنْوَاعهَا، على أَن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على عدم الْفرق
بَين الْمُسلم الْغَنِيّ وَالْفَقِير فِي صِحَة الظِّهَار
بِخِلَاف الذِّمِّيّ (أَو على غَيره) عطف على حكم الأَصْل: أَي
وَأَن لَا يتَغَيَّر فِي الْفَرْع حكم نَص أَو إِجْمَاع على
غير حكم الأَصْل لِئَلَّا يلْزم إبِْطَال النَّص أَو
الْإِجْمَاع بِالْقِيَاسِ (فَبَطل قِيَاس تمْلِيك الطَّعَام
على) تمْلِيك (الْكسْوَة) فِي وُجُوبه عينا (فِي الْكَفَّارَة)
لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ أَن يتَغَيَّر فِي الْفَرْع الَّذِي
هُوَ تمْلِيك الطَّعَام حكم النَّص الَّذِي يدل على حكم هُوَ
وجوب الطَّعَام مَعَ عدم التَّعْيِين، وَلَا شكّ أَنه غير حكم
الأَصْل (فَإِنَّهُ فِي الْفَرْع) أَي فَإِن حكم النَّص فِي
الْإِطْعَام (أَعم من الْإِبَاحَة وَالتَّمْلِيك) لِأَن
الْإِطْعَام الْمَنْصُوص أَعم مِنْهُمَا بِحَسب اللُّغَة إِذْ
هُوَ جعل الْغَيْر طاعما، لِأَنَّهُ فعل مُتَعَدٍّ بِنَفسِهِ،
لَازمه ومطاوعه طعم، وَذَلِكَ يحصل بالتمكين من الطَّعَام على
أَي وَجه كَانَ، فالتغيير بِغَيْر (وَالسّلم الْحَال) أَي
وَبَطل قِيَاس السّلم الْغَيْر الْمُؤَجل فِي الْحَال
(بالمؤجل) أَي عَلَيْهِ (لِأَن حكم الأَصْل، وَهُوَ السّلم
الْمُؤَجل اشْتَمَل على جعل الْأَجَل خلفا عَن ملك الْمُسلم
فِيهِ) للْمُسلمِ إِلَيْهِ (وَالْقُدْرَة عَلَيْهِ) أَي
الْمُسلم فِيهِ لِأَن من شُرُوط جَوَاز البيع كَون الْمَبِيع
مَوْجُودا مَمْلُوكا للْبَائِع أَو مُوكله، فَلَمَّا رخص
الشَّارِع فِي السّلم بِصِيغَة الْأَجَل الْمَعْلُوم علمنَا
أَنه أَقَامَ الْأَجَل الَّذِي هُوَ سَبَب الْقُدْرَة
الْحَقِيقِيَّة عَلَيْهِ مقَامهَا، وفوات الشَّيْء إِلَى خلف
كلا فَوَات (وَإِن) كَانَ الْمُسلم فِيهِ (عِنْده) أَي
الْمُسلم إِلَيْهِ (بِنَاء على كَونه) أَي الْمُسلم فِيهِ
(مُسْتَحقّا لحَاجَة أُخْرَى) فَيكون بِمَنْزِلَة الْعَدَم
كَالْمَاءِ الْمُسْتَحق للشُّرْب فِي جَوَاز التَّيَمُّم
(والإقدام) على الْإِسْلَام (دَلِيله) أَي كَونه مُسْتَحقّا
لَهَا، وَإِلَّا لباعه فِي الْحَال بأوفر ثمن (بِدَلِيل النَّص
على الْأَجَل) وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى
أجل مَعْلُوم الْجَار مُتَعَلق بقوله اشْتَمَل، كَأَنَّهُ قيل
من أَيْن لكم أَن حكم الأَصْل مُشْتَمل على جعل الْأَجَل خلفا
عَن الْملك وَالْقُدْرَة، فَأجَاب بِهِ فَإِن قلت: النَّص دلّ
على اعْتِبَار الْأَجَل لَا مَا ذكرت من الخلفية قلت: لما
كَانَ اشْترط الْملك وَالْقُدْرَة أَمر مقررا فِي البيع
مُطلقًا وَوجدنَا
(3/297)
فِي النَّص مَا يصلح لِأَن يكون بَدَلا
عَنْهُمَا عرفنَا أَن الْمَقْصُود من اشْتِرَاطه ذَلِك
(وَهُوَ) أَي جعل الْأَجَل خلفا الخ (مُنْتَفٍ من) السّلم
(الْحَال) قيل: يلْزم من هَذَا تَغْيِير حكم الأَصْل
الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي الْفَرْع، لَا تَغْيِير حكم نَص على
غير حكم الأَصْل وَأجِيب بِأَنَّهُ فِيهِ تَغْيِير حكم نَص آخر
أَيْضا، وَهُوَ نَهْيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن بيع مَا
لَيْسَ عِنْد الْإِنْسَان فَهُوَ يصلح مِثَالا لكل من
الْقسمَيْنِ (وَلَا يخفى أَنه) أَي الشَّرْط الْمَذْكُور
(بِالذَّاتِ شَرط التَّعْلِيل، لَا) شَرط (حكم الْفَرْع،
ويستلزم) انتفاؤه (التَّغَيُّر فِي الْفَرْع) فَإِن قيل جوزتم
دفع قيمَة الْوَاجِب فِي الزَّكَاة قِيَاسا على الْعين، وَصرف
الزَّكَاة إِلَى صنف وَاحِد قِيَاسا على صرفهَا إِلَى الْكل
بعلة دفع الْحَاجة، وَفِيه تَغْيِير لحكم النَّص الدَّال على
وجوب عين الشَّاة، وَالدَّال على كَونهَا جَمِيع الْأَصْنَاف
قُلْنَا: تَغْيِير النصين مَمْنُوع كَمَا سبق فِي أَوَاخِر
التَّقْسِيم الثَّانِي للمفرد بِاعْتِبَار ظُهُور دلَالَته،
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَتقدم دفع النَّقْض بِدفع الْقيم)
وَكَذَا تقدم دَفعه فِي جَوَاز دفع الزَّكَاة لصنف وَأورد
أَيْضا بِأَنَّهُ ثَبت وجوب اسْتِعْمَال المَاء فِي تَطْهِير
الثَّوْب من النَّجَاسَة بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقد جوزتم
إِزَالَتهَا بِكُل مَائِع طَاهِر قالع سوى المَاء فَفِيهِ
تَغْيِير النَّص، فَأجَاب بقوله (وإلحاق غير المَاء بِهِ) أَي
بِالْمَاءِ فِي إِزَالَة النَّجَاسَة الْحَقِيقِيَّة إِنَّمَا
هُوَ (للْعلم بِأَن الْمَقْصُود) للشارع من الْأَمر بِغسْل
الثَّوْب (الْإِزَالَة) للنَّجَاسَة (لَا الِاسْتِعْمَال)
للْمَاء من حَيْثُ هُوَ (وَإِن نَص على المَاء فِي قَوْله:
واغسليه بِالْمَاءِ للاكتفاء بِقطع محلهَا (أَي النَّجَاسَة
تَعْلِيل للْعلم بِالْمَقْصُودِ: أَي للْإِجْمَاع على
الِاكْتِفَاء عَن اسْتِعْمَال المَاء بِقطع محلهَا فِي
إِسْقَاط الْوَاجِب، وَلَو كَانَ اسْتِعْمَاله وَاجِبا لعَينه
لم يسْقط بذلك (فيتعدى) هَذَا الحكم وَهُوَ طَهَارَة الثَّوْب
(إِلَى كل مزيل) الخ، وَإِنَّمَا نَص على المَاء، لِأَنَّهُ
الْغَالِب فِي الِاسْتِعْمَال مَعَ مَا فِيهِ من الْيُسْر
(بِخِلَاف) إِزَالَة (الْحَدث) بالمائع الْمَذْكُور، وَجَوَاب
سُؤال، وَهُوَ أَنه: جوزتم إِزَالَة النَّجَاسَة عَن الثَّوْب
بالمائع الْمَذْكُور لكَون مَقْصُود الشَّارِع إِزَالَة
النَّجَاسَة وَهِي حَاصِلَة بِهِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَن يجوز
إِزَالَة الْحَدث بِهِ أَيْضا، لِأَن مَقْصُوده إِزَالَة
تِلْكَ النَّجَاسَة الْحكمِيَّة. فَأجَاب بِمَا حَاصله أَن
إِزَالَة الْحَدث غير مَعْقُول الْمَعْنى كإزالة النَّجَاسَة
عَن الثَّوْب إِذْ (لَيْسَ) الْحَدث (أمرا محققا) مَوْجُودا
فِي الْخَارِج مَعَ قطع النّظر عَن اعْتِبَار الشَّرْع (يزَال)
بِالْمَاءِ كالنجاسة على الثَّوْب وَالْبدن (بل) هُوَ
(اعْتِبَار) شَرْعِي اعْتَبرهُ قَائِما بالأعضاء ثمَّ (وضع
المَاء لقطعه) فَهُوَ أَمر تعبدي، وَإِلَّا فالماء إِنَّمَا
يزِيل الأجرام الحسية لَا الْأُمُور المعنوية (فاقتصر حكمه)
أَي حكم الْقطع الْمَذْكُور (على مَا علم قطع الشَّارِع
اعْتِبَاره) أَي اعْتِبَار الْحَدث (عِنْده) وَهُوَ
اسْتِعْمَال المَاء، وَلَا يُقَاس الْمَائِع الآخر عَلَيْهِ
فِي هَذَا، فَإِن الطَّهَارَة على خلاف الْقيَاس لما ذكر،
وَقيل الْقيَاس أَن يَتَنَجَّس المَاء بِمُجَرَّد ملاقاة
النَّجَاسَة فَتخلف النَّجَاسَة البلة النَّجِسَة، وَكَذَا فِي
الْمرة الثَّانِيَة وهلم جرا. وَأجِيب بِأَن الشَّارِع أسقط
(3/298)
هَذَا لتتحقق إِزَالَة النَّجَاسَة،
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَإِذ سقط التنجس بالملاقاة فِيهِ)
أَي فِي المَاء (لتحَقّق الْإِزَالَة سقط) التنجس بالملاقاة
(فِي غَيره) أَي غير المَاء من الْمَائِعَات (لذَلِك) أَي
لتحَقّق الْإِزَالَة، والاشتراك فِي الْعلَّة يُوجب
الِاشْتِرَاك فِي الحكم. (وَمَا يُقَال) من أَن (فِي المَاء)
سقط مُقْتَضى الْقيَاس الْمَذْكُور وَهُوَ التنجس بالملاقاة
(للضَّرُورَة) بِخِلَاف غَيره لعدم الضَّرُورَة (أَن أُرِيد
ضَرُورَة الْإِزَالَة فَكَذَا فِي غَيره) سقط مُقْتَضَاهُ فِي
غَيره من سَائِر الْمَائِعَات لتِلْك الضَّرُورَة، وَفِيه أَن
حَقِيقَة الضَّرُورَة اسْتِحَالَة الْإِزَالَة عِنْد عدم
السُّقُوط، وَهِي لَا تُوجد فِي غير المَاء لاندفاع
الضَّرُورَة بِهِ فَتدبر (أَو) أُرِيد (أَنه لَا يزِيل سواهُ)
أَي المَاء حسا (فَلَيْسَ) هَذَا المُرَاد (وَاقعا) وَهُوَ
ظَاهر (أَو لَا يزِيل) النَّجَاسَة غَيره: أَي غير المَاء
(شرعا فَمحل النزاع) فَعلم أَنه لَا وَجه لما يُقَال، وَقد
يُقَال أَن الْخصم إِن كَانَ مستدلا فَجعله الشَّارِع فِيهِ
عِلّة الحكم غير صَحِيح، وَأما إِذا كَانَ مَانِعا فَيجوز أَن
يَجْعَل سندا لمنع وجود الْعلَّة فِي الْفَرْع، وَحَاصِله لم
لَا يجوز أَن تكون الْعلَّة هَكَذَا وَلَا يضرّهُ عدم تَسْلِيم
الْخصم إِيَّاه (وَأَن لَا يتَقَدَّم) حكم الْفَرْع بالشرعية
(على حكم الأَصْل) أَي وَمن شُرُوط الْفَرْع هَذَا
(كَالْوضُوءِ) إِذا قيس (فِي وجوب النِّيَّة) فِيهِ (على
التَّيَمُّم) بِجَامِع أَن كلا مِنْهُمَا تَطْهِير حكمي، لِأَن
شَرْعِيَّة الْوضُوء قبل شَرْعِيَّة التَّيَمُّم، إِذْ شرع
الْوضُوء قبل الْهِجْرَة، وَالتَّيَمُّم بعْدهَا (لثُبُوته)
أَي حكم الْفَرْع: أَي الْوضُوء من (قبل علته) أَي قبل ثُبُوت
علته لِأَنَّهَا مستنبطة من حكم الأَصْل الْمُتَأَخر (إِلَّا)
أَن يكون (إلزاما بِمَعْنى لَا فَارق) الِاسْتِثْنَاء إِمَّا
مُنْقَطع، وَالْمعْنَى قِيَاس الْوضُوء على التَّيَمُّم لَا
يَصح لما ذكر لَكِن إِن لم يكن الِاسْتِدْلَال بطرِيق
الْإِلْزَام على الْخصم يَصح، تَقْرِيره أَن النِّيَّة فِي
التَّيَمُّم وَاجِبَة إِجْمَاعًا، وَقد اعترفتم بِعَدَمِ
الْفرق بَين الْوضُوء وَالتَّيَمُّم كل مِنْهُمَا طَهَارَة
حكمِيَّة وَلم يخْتَص كل شَيْء مِنْهُمَا بخصوصية لَا تُوجد
فِي الآخر، فَلَزِمَ عَلَيْكُم الِاعْتِرَاف بِوُجُوب
النِّيَّة فِي الْوضُوء أَيْضا وَإِلَّا لاختص التَّيَمُّم
بخصوصية لم تُوجد فِي الْوضُوء، وَهُوَ خلاف الْمَفْرُوض،
وَإِمَّا مُتَّصِل، وَالْمعْنَى لَا يسْتَدلّ بِوُجُوب
النِّيَّة فِي التَّيَمُّم على وُجُوبهَا فِي الْوضُوء بِوَجْه
من الْوُجُوه إِلَّا بطرِيق الْإِلْزَام (وأبدل متأخرو
الْحَنَفِيَّة هَذَا) الشَّرْط (بِأَن يكون) الْفَرْع
(نَظِيره) أَي مثل الأَصْل فِي الْوَصْف الَّذِي تعلق بِهِ
الحكم فِي الأَصْل بِأَن يُوجد مثل ذَلِك فِي الْفَرْع من غير
تفَاوت (وَلَيْسَ الْوضُوء نَظِيره) أَي التَّيَمُّم
(لِأَنَّهُ) أَي الْوضُوء (مطهر فِي نَفسه: أَي منظف) فسره
لِئَلَّا يتَوَهَّم أَن المُرَاد من الطَّهَارَة الْمَعْنى
الْمُتَنَازع، فتلزم المصادرة على الْمَطْلُوب، بل المُرَاد
التَّنْظِيف من الأخباث والأوساخ (وَالتَّيَمُّم ملوث، اعْتبر
مطهرا شرعا عِنْد قصد أَدَاء الصَّلَاة، وَهُوَ) أَي قصد
أَدَائِهَا (النِّيَّة) الْوَاجِبَة فِيهِ (فَلَا يلْزم فِيمَا
هُوَ مطهر فِي نَفسه منظف قصر طَهَارَته شرعا على
(3/299)
ذَلِك الْقَصْد) أَي قصد أَدَاء الصَّلَاة
حَتَّى لَا تستباح بِهِ إِلَّا مَعهَا (وَحَاصِله) أَي حَاصِل
هَذَا الْمَنْع (فرق) بَين الْمَقِيس والمقيس عَلَيْهِ (من
جِهَة الْآلَة الَّتِي يُقَام بهَا الفعلان) الْوضُوء
وَالتَّيَمُّم وَهِي المَاء، الْمُطلق والصعيد الطَّاهِر
(وَتجوز بِالْوضُوءِ فِي المَاء) وبالتيمم فِي التُّرَاب،
يَعْنِي ذكر الْوضُوء فِي قَوْلهم الْوضُوء مطهر وَالتَّيَمُّم
ملوث (كَمَا يفِيدهُ التَّعْلِيل) فَإِنَّهُ صرح فِيهِ بقوله
من جِهَة الْآلَة إِلَى آخِره، بعد ذكر التَّنْظِيف والتلويث.
وَلما نفى الْمُعْتَرض كَون الْوضُوء نَظِير التَّيَمُّم
فِيمَا علل بِهِ وجوب النِّيَّة فِيهِ. وَهُوَ كَونه ملوثا
فَإِنَّهُ منظف فِي نَفسه أجَاب المُصَنّف عَن الْمُسْتَدلّ
بِبَيَان عدم كَونه ملوثا فِي وُجُوبهَا لكَونه فِي ذَلِك
اعْتِبَارا شَرْعِيًّا يَسْتَوِي بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تنظيف
الْآلَة وتلويثها فَقَالَ (وَأَنت تعلم أَن التَّعْدِيَة)
هُنَا (لحكم شَرْعِي هُوَ اشْتِرَاط النِّيَّة لثُبُوت
التَّطْهِير بِالتُّرَابِ) . ثمَّ فسر التَّطْهِير بقوله (أَي
رفع المانعية الشَّرْعِيَّة) من قرْبَان الصَّلَاة وَنَحْوهَا
الْقَائِمَة بالأعضاء (لَا) أَن التَّعْدِيَة (لوصف طبيعي)
للمقيس عَلَيْهِ: أَي لَا لثُبُوت وصف طبعي المَاء وَالتُّرَاب
من حَيْثُ الْإِفْضَاء إِلَى ذَلِك الثُّبُوت (وَالْمَاء
كالتراب فِي ذَلِك) أَي فِي رفع المانعية الشَّرْعِيَّة
فَكَمَا أَن الرّفْع الْمَذْكُور بِسَبَب اسْتِعْمَال
التُّرَاب لَيْسَ مَعْقُول الْمَعْنى، فَكَذَلِك سَبَب
اسْتِعْمَال المَاء لَيْسَ مَعْقُول الْمَعْنى (وَقد شَرط
الشَّرْع فِي ذَلِك) أَي الرّفْع الْمَذْكُور (النِّيَّة) فِي
اسْتِعْمَال التُّرَاب (فَكَذَا المَاء، وَكَونه) أَي المَاء
(لَهُ وصف اخْتصَّ بِهِ طبيعي هُوَ إِزَالَة القذر والتنظيف
لَا دخل لَهُ فِي الحكم) الْمَذْكُور: أَي اشْتِرَاط النِّيَّة
لرفع المانعية (وَلَا الْجَامِع) بَين الْمَقِيس والمقيس
عَلَيْهِ: وَهُوَ الطَّهَارَة الْحكمِيَّة مَعْطُوف على الحكم
(وَقَوْلهمْ) أَي الْحَنَفِيَّة (عِنْد قصد الصَّلَاة تجوز)
بِالصَّلَاةِ (عَن قربَة مَقْصُودَة لذاتها) أَي مَشْرُوعَة
ابْتِدَاء يعقل فِيهَا معنى الْعِبَادَة (لَا تصح إِلَّا
بِالطَّهَارَةِ) فَدخل التَّيَمُّم لسجدة التِّلَاوَة كَمَا
هُوَ الصَّحِيح، وَخرج التَّيَمُّم لمس الْمُصحف لِأَنَّهُ
لَيْسَ بِعبَادة مَقْصُودَة لذاتها، وَالتَّيَمُّم
لِلْإِسْلَامِ وَالسَّلَام، لِأَن كلا مِنْهُمَا وَإِن كَانَ
عبَادَة مَقْصُودَة لذاتها لكنه يَصح بِدُونِ الطَّهَارَة
(وَيُمكن دَفعه) أَي دفع هَذَا الْبَحْث الْمَذْكُور بقوله:
وَأَنت تعلم إِلَى آخِره (بِمَنْع المثلية) بَين المَاء
وَالتُّرَاب: بِأَن يُقَال (بل جعل) المَاء (مزيلا بِنَفسِهِ)
أَي بطبعه (شرعا) للمانعية (كالخبث) أَي كإزالته الحسية للخبث
عملا (باطلاق - ليطهركم بِهِ) سَوَاء قرن تَطْهِيره
بِالنِّيَّةِ أَولا، بِخِلَاف التُّرَاب فَإِنَّهُ لم يَجعله
رَافعا لتِلْك المانعية شرعا إِلَّا بِالْقَصْدِ، إِذْ طبعه
ملوث ومغير فَلَا مثلية (وَإِذن يبطل) قَول الْخصم (لَا فَارق)
بَين التَّيَمُّم وَالْوُضُوء للْفرق بَينهمَا بِاعْتِبَار
الْإِطْلَاق وَالتَّقْيِيد (وَأَن لَا ينص على حكمه مُوَافقا)
أَي وَمن شُرُوط الْفَرْع أَن لَا يكون حكمه مَنْصُوصا
عَلَيْهِ حَال كَون ذَلِك الحكم الْمَنْصُوص عَلَيْهِ مُوَافقا
لما يَقْتَضِيهِ الْقيَاس (إِذْ لَا حَاجَة) حِينَئِذٍ إِلَى
الْقيَاس لثُبُوت حكم الْفَرْع مِمَّا هُوَ أقوى: نقل هَذَا
الشَّرْط عَامَّة أَصْحَابنَا
(3/300)
كالجصاص وَأبي زيد وفخر الْإِسْلَام وشمس
الْأَئِمَّة، وَبِه قَالَ الْغَزالِيّ والآمدي (وَاعْترض على
هَذَا الشَّرْط (بِأَن وجوده) أَي النَّص الْمَذْكُور (لَا
يُنَافِي صِحَّته) أَي صِحَة الْقيَاس (وَلذَا) أَي لعدم
الْمُنَافَاة (لم يشرطه) أَي الشَّرْط الْمَذْكُور (مَشَايِخ
سَمَرْقَنْد) بل شرطُوا أَن لَا يثبت الْقيَاس زِيَادَة على
النَّص، وَقيل هَذَا القَوْل أشبه فَإِن فِيهِ تَأْكِيد
النَّص، وَلَا مَانع شرعا وعقلا من تعاضد الْأَدِلَّة وتأكيد
بَعْضهَا بِبَعْض (وَكثير) بل نَقله الرَّازِيّ عَن
الْأَكْثَرين. وَنقل عَن الشَّافِعِي جَوَازه سَوَاء لم يثبت
زِيَادَة لم يتَعَرَّض لَهَا النَّص أَو أثبت لاحْتِمَال
النَّص الْبَيَان، ورد بِأَن إِثْبَات زِيَادَة كَذَا
بِمَنْزِلَة النّسخ، فَإِن مُوجب النَّص أَن الْعَمَل
بِمُجَرَّد مَا تنَاوله النَّص كَاف فِي بَرَاءَة الذِّمَّة
سَوَاء كَانَ مَقْرُونا مَعَ تِلْكَ الزِّيَادَة أَولا،
وَالْقِيَاس يبطل إِحْدَى الصُّورَتَيْنِ، وَإِمَّا أَنه لَا
ينص على حكم الْفَرْع مُخَالفا فَهُوَ إجماعي، وَمن شُرُوط حكم
الْفَرْع أَيْضا مَا أَفَادَهُ بقوله (وَعدم الْمعَارض
الرَّاجِح أَو المساوى فِيهِ) أَي فِي الْفَرْع يُوجب غير
ذَلِك الحكم، فِيهِ ظرف للوجود الْمُضَاف إِلَيْهِ الْعَدَم،
وَيجوز أَن يكون ظرفا للعدم (لعِلَّة الأَصْل) مُتَعَلق
بالمعارض فَهِيَ الْمعَارض بزنة اسْم الْمَفْعُول. ثمَّ بَين
الْمُعَارضَة بقوله (بِثُبُوت وصف فِيهِ) أَي فِي الْفَرْع
(يُوجب غير ذَلِك الحكم فِيهِ) أَي فِي الْفَرْع (إِلْحَاقًا
بِأَصْل آخر، وَإِلَّا) وَإِن لم يشْتَرط ذَلِك (ثَبت حكم
الْمَرْجُوح فِي مُقَابلَة الرَّاجِح) فِيمَا إِذا كَانَ فِي
الْفَرْع معَارض رَاجِح (أَو) ثَبت (التحكم فِيمَا إِذا كَانَ
فِيهِ معَارض مسَاوٍ (وَحَقِيقَته) أَي هَذَا الشَّرْط (أَنه
شَرط إِثْبَات الحكم بِالْعِلَّةِ، لَا شَرط تحققها عِلّة
لِأَن وجوده) أَي الْمعَارض (لَا يبطل شهادتها) أَي الْعلَّة،
إِذْ الْمُنَاسبَة لَا تَزُول بالمعارضة كَالشَّهَادَةِ إِذا
عورضت بِأُخْرَى، فَإِنَّهُ لَا يبطل إِحْدَاهمَا حَتَّى إِذا
ترجحت بمرجح لم يحْتَج إِلَى الْإِعَادَة. (وَمِنْهَا) مَا عزى
(لأبي هَاشم كَون حكمه) أَي الْفَرْع (ثَابتا بِالنَّصِّ جملَة
وَالْقِيَاس) احْتِيجَ إِلَيْهِ (لتفصيله) أَي ذَلِك الْمُجْمل
(كثبوت حد الْخمر) من غير تَقْدِير بِعَدَد معِين عَن
الشَّارِع كَمَا يفِيدهُ الصحيحان وَغَيرهمَا (فَيتَعَيَّن
عدده) ثَمَانِينَ (بِالْقِيَاسِ على حد الْقَذْف) كَمَا تقدم
تَخْرِيجه عَن عَليّ وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف رَضِي الله
عَنْهُمَا فِي مسئلة: لَا إِجْمَاع إِلَّا عَن مُسْتَند،
وَيَأْتِي الْجَواب عَنهُ كَمَا فِي مسئلة الْحَنَفِيَّة لَا
يثبت بِهِ الْحُدُود (ورد) اشْتِرَاط هَذَا (بِأَنَّهُم قاسوا)
قَوْله لزوجته (أَنْت عَليّ حرَام تَارَة على الطَّلَاق
فَيَقَع، وَتارَة على الظِّهَار فالكفارة) أَي فَحكمه
الْكَفَّارَة حِينَئِذٍ (وعَلى الْيَمين فإيلاء) أَي
فَالْقَوْل الْمَذْكُورَة إِيلَاء وعَلى هَذَا التَّقْدِير
(فَيثبت حكمه) أَي الْإِيلَاء (وَلَا نَص فِي الْفَرْع أصلا)
لَا جملَة وَلَا تَفْصِيلًا، ذكر ابْن الْحَاجِب فِي
الْمُخْتَصر الْكَبِير أَن المُرَاد بالقائسين الْأَئِمَّة،
وَالزَّرْكَشِيّ أَنهم الصَّحَابَة، وَعَن ابْن عَبَّاس أَنه
يَمِين، وَعَن ابْن الْمُنْذر قَالَت طَائِفَة أَنه طَلَاق
ثَابت، مِنْهُم عَليّ وَزيد بن ثَابت وَابْن عمر، وَبِه قَالَ
الْحسن وَالْحكم وَمَالك وَابْن
(3/301)
فِي الْمُسْتَقْبل بِالتَّحْرِيمِ (لَيْسَ
نسخا) لِأَن النّسخ رفع لحكم شَرْعِي وَالْإِبَاحَة
الْأَصْلِيَّة لَيست إِيَّاه على الْمُخْتَار وَقد مر.
مسئلة
(يجوز نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ) عِنْد جُمْهُور الْفُقَهَاء
والمتكلمين ومحققي الشَّافِعِيَّة (وَأَصَح قولي الشَّافِعِي
الْمَنْع) فَإِنَّهُ قَالَ لَا ينْسَخ كتاب الله إِلَّا كتاب
الله كَمَا كَانَ الْمُبْتَدِئ بفرضه فَهُوَ المزيل الْمُثبت
بِمَا شَاءَ مِنْهُ جلّ جَلَاله وَلَا يكون ذَلِك لأحد من
خلقه، وَهَكَذَا سنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَاخْتلف أَصْحَابه فَقيل المُرَاد نفي الْجَوَاز الْعقلِيّ،
وَنسب إِلَى المحاسبي وَعبد الله ابْن سعيد والقلانسي وهم من
أكَابِر أهل السّنة، ويروى عَن أَحْمد وَأبي إِسْحَاق
الاسفراينى وَأبي الطّيب الصعلوكي وَأبي مَنْصُور، وَقيل لم
يمْنَع الْعقل والسمع لكنه لم يقل وَهُوَ قَول ابْن سُرَيج.
قَالَ السُّبْكِيّ: وَنَصّ الشَّافِعِي لَا يدل على أَكثر
مِنْهُ ثمَّ قَالَ حَيْثُ وَقع نسخ الْقُرْآن بِالسنةِ فمعها
قُرْآن عاضد لَهَا يبين توَافق الْكتاب وَالسّنة أَو نسخ
السّنة بِالْقُرْآنِ فمعه سنة عاضدة لَهُ تبين توافقهما (لنا
لَا مَانع) عَقْلِي وَلَا شَرْعِي من ذَلِك (وَوَقع) والوقوع
دَلِيل الْجَوَاز (فَإِن التَّوَجُّه إِلَى الْقُدس) أَي بَيت
الْمُقَدّس (لَيْسَ فِي الْقُرْآن وَنسخ) التَّوَجُّه إِلَيْهِ
(بِهِ) أَي بِالْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى - {فول وَجهك شطر
الْمَسْجِد الْحَرَام} - (وَكَذَا حُرْمَة الْمُبَاشرَة) بقوله
تَعَالَى - {أحل لكم لَيْلَة الصّيام الرَّفَث} - الْآيَة
فَإِن تَحْرِيمهَا لَيْسَ فِي الْقُرْآن (وتجويز كَونه) أَي
نسخ كل مِنْهُمَا (بِغَيْرِهِ) أَي غير الْقُرْآن (من سنة أَو)
تَجْوِيز ثُبُوت حكم (الأَصْل) فِيهَا (بِتِلَاوَة) أَي بمتلو
من الْقُرْآن (نسخت وَذَلِكَ) التجويز (على) تَقْدِير
(الْمُوَافقَة) فِيهِ مَعَ الْخصم (احْتِمَال بِلَا دَلِيل)
فَلَا يسمع (ثمَّ لَو صَحَّ) مَا ذكرْتُمْ من التجويز
الْمَذْكُور (لم يتَعَيَّن نَاسخ علم تَأَخره مَا لم يقل صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا نَاسخ) لكذا وَنَحْوه لذَلِك
الِاحْتِمَال (وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع قَالُوا أَي المانعون)
أَولا قَوْله تَعَالَى - {وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين
للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم} - يقتضى أَن شَأْنه الْبَيَان
للْأَحْكَام، والنسخ رفع لَا بَيَان (أُجِيب) بِتَسْلِيم
شَأْنه وَمنع أَنه لَيْسَ بِبَيَان بقوله (والنسخ) رفع لَا
بَيَان (مِنْهُ) أَي من الْبَيَان لِأَنَّهُ بَيَان انْتِهَاء
مُدَّة الحكم (قَالُوا) ثَانِيًا نسخ السّنة بِالْقُرْآنِ
(يُوجب التنفير) للنَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لِأَنَّهُ يفهم أَن الله تَعَالَى لم يرض بِمَا سنه رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ منَاف لمقصد الْبعْثَة
وَهُوَ التأسي بِهِ والاقتداء (أُجِيب) بِأَنا لَا نسلم حُصُول
النفرة على تَقْدِير النّسخ (إِذا آمنا بِأَنَّهُ مبلغ) وسفير
يعبر بِهِ عَن الله تَعَالَى لَا غير، وَإِذا كَانَ
التَّصَرُّف كُله من الله - {وَمَا ينْطق عَن الْهوى} -
(3/302)
الْمَذْكُورَة (وَهَذَا) أَي كَون مَا شرع
الحكم عِنْده لحُصُول الْحِكْمَة مَظَنَّة الْحِكْمَة إِلَى
آخِره (معنى اشتماله) أَي الْوَصْف (على حِكْمَة مَقْصُودَة
للشارع من شرع الحكم) والإ فَنَفْس الْوَصْف غير مُشْتَمل
لذَلِك، إِذْ الاسكار الَّذِي هُوَ عِلّة حُرْمَة الْخمر مثلا
لَا يشْتَمل على الْحِكْمَة الْمَقْصُودَة وَهِي حفظ الْعُقُول
من شرع الحكم الَّذِي هُوَ التَّحْرِيم بل على ذهَاب الْعقل
(فحقيقة الْعلَّة) فِي الْعُقُود (الرِّضَا) لِأَنَّهُ
مَظَنَّة أَمر هُوَ الْحَاجة، وَتَحْصِيل الْحِكْمَة الَّتِي
هِيَ دفع الْحَاجة من شرع الحكم الْخَاص، وَهُوَ ملك الْبَدَل
وحله مَعَه وَلكنه خَفِي لِأَنَّهُ أَمر قلبِي لَا اطلَاع
للنَّاس عَلَيْهِ (وَإِذ خفى) الرضى (علق الحكم) وَهُوَ ملك
الْبَدَل وحله (بالصيغة فَهِيَ) أَي الصِّيغَة (الْعلَّة
اصْطِلَاحا وَهِي) أَي الصِّيغَة (دَلِيل مَظَنَّة مَظَنَّة
مَا تحصل الْحِكْمَة مَعَه بالحكم) إِذْ هِيَ مَظَنَّة الرضى
الَّذِي هُوَ مَظَنَّة الْحَاجة الَّتِي شرع الحكم الَّذِي
هُوَ ملك الْبَدَل مِنْهُ لدفع الْحَاجة الَّتِي هِيَ
الْمصلحَة (فَظهر أَن الرضى لَيْسَ الْحِكْمَة) فِي
التِّجَارَة (كَمَا قيل) قَالَه عضد الدّين، وَهَذَا مِثَال
الثَّالِث (وَالْقَتْل الْعمد الْعدوان مَظَنَّة انتشاره) أَي
الْعدوان (إِن لم يشرع الْقصاص فَوَجَبَ) الْقصاص (دفعا لَهُ)
أَي لانتشار الْعدوان وَهَذَا مِثَال الثَّانِي فاللف والنشر
مشوش (وَكَون الْوَصْف كَذَلِك) أَي بِحَيْثُ يكون مَظَنَّة
الْحِكْمَة إِلَى آخِره وَجعل الشَّارِح الْإِشَارَة إِلَى
كَونه بِحَيْثُ شرع الحكم عِنْده لحُصُول الْحِكْمَة
لِأَنَّهَا مظنتها، وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه حِينَئِذٍ لَا
يُنَاسب قَوْله (فَهُوَ) (مَا قَالَ أَبُو زيد) الخ لِأَنَّهُ
محصول مَا قُلْنَا، وَشرع الحكم عِنْده أَمر زَائِد عَلَيْهِ
لَا يسلتزمه، نعم ذكر صدر الشَّرِيعَة أَن أَصْحَابنَا اعتبروا
فِي الْمُنَاسبَة اعْتِبَار الشَّارِع عين الْوَصْف أَو جنسه
فِي نوع الحكم أَو جنسه لذَلِك، وَقد عرفت تَفْسِيره،
وَالضَّمِير رَاجع إِلَى الْوَصْف (وَهُوَ) أَي الْوَصْف
(مناسبته) خبر الْمُبْتَدَأ (كَذَلِك الْمُنَاسب فَهُوَ) أَي
مَا ذكرنَا فِي تَفْسِير الْمُنَاسب بِحُصُول مَا قَالَ أَبُو
زيد (مَا لَو عرض على الْعُقُول) كَونه عِلّة الحكم
(تَلَقَّتْهُ بِالْقبُولِ وَكَون الشَّارِع قضى بالحكم عِنْده)
أَي الْوَصْف الْمَذْكُور (للحكمة اعْتِبَاره) أَي الشَّارِع
لذَلِك الْوَصْف أَو الْوَصْف، وَهَذَا أَيْضا يُؤَيّد مَا
ذكرنَا فِي تَفْسِير الْمُنَاسبَة (ومعرفته) أَي معرفَة
اعْتِبَار الشَّارِع إِيَّاه (مسالك الْعلَّة) وطرقها
(وَشَرطهَا) أَي اشْتِرَاط الْعلَّة فِي كل حكم بِحَسب نفس
الْأَمر (تفضل) من الله تَعَالَى على الْعباد (لَا وجوب) كَمَا
زعمت الْمُعْتَزلَة، تَعَالَى عَن ذَلِك، نعم لَو فسروا
الْوُجُوب بِأَنَّهُ أَمر لَا بُد مِنْهُ لَا يتَخَلَّف
أَلْبَتَّة فَلَا نزاع، وَلَكِن إِن نفوا قدرته على خلاف ذَلِك
فالتنزيه عَنهُ وَاجِب (وَهَذَا) أَي القَوْل بالاشتراط حَاصِل
معنى (مَا يُقَال: الْأَحْكَام مَبْنِيَّة على مصَالح الْعباد
دنيوية كَمَا ذكر) من الرُّخْصَة للْمُسَافِر وَدفع الْحَاجة
وَدفع انتشار الْفساد (وأخروية للعبادات) أَي موعودة للعبادات
(وَهُوَ) أَي كَونهَا مَبْنِيَّة على مصالحهم (وفَاق) أَي مَحل
اتِّفَاق (بَين النافين للطرد) أَي
(3/303)
الْقَائِلين بِأَن الْعلَّة لَا تصح إِلَّا
بالمناسبة (وَإِن اخْتلف اسْمه) أَي التَّعْبِير عَن هَذَا،
إِذْ مِنْهُم من قَالَ أَحْكَام الشَّارِع مَبْنِيَّة على
مصَالح الْعباد، وَمِنْهُم من قَالَ أَفعَال البارئ
سُبْحَانَهُ معللة بمصالح الْعباد، أَو معللة بالأغراض
كالمعتزلة، نقل الشَّارِح عَن المُصَنّف أَنه قَالَ: فَلَو قيل
النزاع لَفْظِي جَازَ (وَمنع أَكثر الْمُتَكَلِّمين)
الِاشْتِرَاط الْمَذْكُور مُبْتَدأ (لظنهم لُزُوم استكماله فِي
ذَاته كَمَا لَا لم يكن) أَي ظنُّوا لِأَنَّهُ لَو اشْترط لزم
أَن يكون الْحق سُبْحَانَهُ طَالبا بِوُقُوع تِلْكَ
الْأَفْعَال حُصُول كَمَال فِي ذَاته لم يكن لَهُ قبل ذَلِك،
وَهَذَا نقص فِي حَقه سُبْحَانَهُ (ذُهُول) خبر للمبتدأ:
يَعْنِي أَنهم ذهلوا عَن أَمر ظَاهر كَانُوا يعلمونه بل
صَرَّحُوا بِهِ مرَارًا (بل) إِنَّمَا يلْزم (ذَلِك) الاستكمال
(لَو رجعت) الْمصَالح (إِلَيْهِ) تَعَالَى (أما) إِذا رجعت
(إِلَى غَيره) من الْعباد (فَمَمْنُوع) لُزُوم ذَلِك. قَالَ
الشَّارِح أَنه قَالَ المُصَنّف قَوْله مَمْنُوع يُشِير إِلَى
أَنه على تَقْدِير رُجُوعهَا إِلَى الْعباد أَيْضا ألزموا مثل
ذَلِك؟ وَهُوَ أَن رُجُوعهَا إِلَى الْعباد يسْتَلْزم كمالا
لَهُ فَأجَاب بِمَنْع ذَلِك (بل هُوَ) أَي رُجُوع الْمصَالح
إِلَى الْفُقَرَاء (أثر كَمَاله الْقَدِيم) وَهُوَ كَونه فِي
الْأَزَل مفيضا معطيا جوادا بِالْإِطْلَاقِ الْعَام فَإِن صدق
الْمُطلقَة دائمي فَإِن قلت فرق بَين أَن تكون الْإِفَاضَة فِي
عَالم الْإِمْكَان وَبَين أَن تخرج من الْقُوَّة إِلَى
الْفِعْل، فَإِن مَا بِالْفِعْلِ لَهُ مزية على مَا بالقوه،
وَلِهَذَا يُسَمِّيه الحكم كمالا فَالْجَوَاب مَا أَشَارَ
إِلَيْهِ بقوله (وَلَا يخفى أَن اللَّازِم فِي المتجدد) أَي
الْمَحْذُور الَّذِي ادعيتم أَن لُزُومه فِيمَا يَتَجَدَّد
وَيحدث من مصَالح الْعباد على تَقْدِير الِاشْتِرَاط
الْمَذْكُور (بتعلق الْأَحْكَام) أَي بِسَبَب تعلقهَا بهم
(لَازم فِي فواضله) أَي يلْزم بِعَيْنِه فِي انعاماته
(المتجددة) الذوات والاقتضاء المستمرة (فِي ممر الْأَيَّام على
الْأَنَام) قَالَ الشَّارِح: أَنه قَالَ المُصَنّف هَذَا
إِلْزَام على قَوْلهم يلْزم كَمَال لَهُ لم يكن أَي لَو صَحَّ
مَا ذكرْتُمْ لزم مثله فِي الْمصَالح الْوَاصِلَة إِلَى
الْعباد ابْتِدَاء لَا بِوَاسِطَة شرع من إِنْزَال الْمَطَر
وإنبات الشّجر والأقوات إِلَى غير ذَلِك (فَمَا هُوَ جوابهم)
أَي المانعين (فِيهِ) أَي فِي الْإِلْزَام الْمَذْكُور فَهُوَ
(جَوَابنَا) عَن كَون الْأَحْكَام مَبْنِيَّة على مصَالح
الْعباد (وَلَقَد كثرت لَوَازِم بَاطِلَة لكلامهم) كَمَا عرف
فِي فن الْكَلَام فَلَا يعول عَلَيْهَا. قَالَ الْمُحَقق
التَّفْتَازَانِيّ: وَالْحق أَن تَعْلِيل بعض الْأَفْعَال
سِيمَا شَرْعِيَّة الْأَحْكَام بالحكم والمصالح ظَاهر كإيجاب
الْحُدُود وَالْكَفَّارَات وَتَحْرِيم المسكرات وَمَا أشبه
ذَلِك، والنصوص أَيْضا شاهدة بذلك كَقَوْلِه تَعَالَى - {وَمَا
خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} . من أجل ذَلِك
كتبنَا على بني إِسْرَائِيل. فَلَمَّا قضى زيد - إِلَى قَوْله
تَعَالَى - {لكيلا يكون على الْمُؤمنِينَ حرج} - وَلِهَذَا
كَانَ الْقيَاس حجَّة إِلَّا عِنْد شرذمة لَا يعْتد بهم، وَأما
تَعْمِيم ذَلِك بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو فعل من أَفعاله من غَرَض
فَمحل بحث (وَالْأَقْرَب) إِلَى التَّحْقِيق (أَنه) أَي
الْخلاف (لَفْظِي مَبْنِيّ على معنى الْغَرَض) فَمن فسره
بِالْمَنْفَعَةِ العائدة إِلَى الْفَاعِل قَالَ لَا تعلل وَلَا
يَنْبَغِي أَن
(3/304)
يُنَازع فِي هَذَا، وَمن فسره بالعائدة
إِلَى الْعباد قَالَ تعلل وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَن
يُنَازع فِيهِ (أَو) أَنه (غلط) وَقع (من اشْتِبَاه الحكم
بِالْفِعْلِ فاذكر مَا قدمْنَاهُ) فِي فصل الحكم (من أَنه) عز
وَجل (غير مُخْتَار فِيهِ) أَي فِي الحكم لِأَنَّهُ قديم،
وَأثر الْفَاعِل الْمُخْتَار لَا يكون إِلَّا حَادِثا، وَهُوَ
فِي حق صِفَاته الْقَدِيمَة فَاعل مُوجب وَفِي حق غَيرهَا
مُخْتَار (بِخِلَاف الْفِعْل) فَإِنَّهُ مُخْتَار فِيهِ
تَعَالَى فَمن لم يُعلل الْفِعْل اشْتبهَ عَلَيْهِ بالحكم (غير
أَن اتصافه) تَعَالَى (بأقصى مَا يُمكن من الكمالات مُوجب
لموافقة حكمه للحكمة بِمَعْنى أَنه لَا يَقع إِلَّا كَذَلِك)
أَي على الْوَجْه الْمُوَافق للحكمة (وَإِذ لزم فِيهَا
الْمُنَاسبَة بطلت الطردية) أَي الْوَصْف الَّذِي لم يتَحَقَّق
فِيهِ الْمُنَاسبَة (لِأَن عَلَيْهِ الْوَصْف) أَي الحكم بِأَن
هَذَا الْوَصْف عِلّة لهَذَا الحكم (حكم نَظَرِي بتعلق حكمه)
تَعَالَى (عِنْده) أَي ذَلِك الْوَصْف الْبَاء صلَة الحكم:
يَعْنِي مَضْمُون ذَلِك أَن حكم الله تَعَالَى مُتَعَلق
بِهَذَا الْمحل عِنْد هَذَا الْوَصْف، وَقد عرفت كَيْفيَّة
التَّعَلُّق (وَهِي) أَي الطردية اباطة الحكم بهَا قَول (بِلَا
دَلِيل فبطلت، وَمَا قيل) قَائِله ابْن الْحَاجِب من أَن
بطلَان الطردية (للدور لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ) أَي حِين كَونهَا
طردية (أَمارَة مُجَرّدَة لَا فَائِدَة لَهَا إِلَّا تَعْرِيف
الحكم) للْأَصْل (فتوقف) الحكم عَلَيْهَا (وَكَونهَا مستنبطة
مِنْهُ) أَي الحكم (يُوجب توقفها عَلَيْهِ) أَي الحكم
(مَدْفُوع) خبر الْمُبْتَدَأ أَعنِي مَا قيل (بِأَن الْمُعَرّف
لحكم الأَصْل النَّص، وَهِي) الطردية معرفَة (أَفْرَاد الأَصْل
فَيعرف حكمهَا) أَي أَفْرَاد الأَصْل (بِوَاسِطَة ذَلِك) أَي
عرفان أَفْرَاد الأَصْل (مثلا معرف حُرْمَة الْخمر النَّص
والإسكار يعرف) الجزئي (الْمشَاهد أَنه مِنْهَا) أَي من
أَفْرَاد الأَصْل (فتعرف حرمته) أَي الأَصْل (فِيهِ) أَي فِي
الْمشَاهد (فَلَا دور، ثمَّ لَيْسَ) تَعْرِيف الْعلَّة لأفراد
الأَصْل أمرا (كليا بل) إِنَّمَا هُوَ (فِيمَا) أَي وصف (لَهُ
لَازم ظَاهر خَاص كرائحة الْمُسكر إِن لم يشركها) أَي الْخمر
(فِيهَا) أَي الرَّائِحَة (غَيرهَا) أَي الْخمر (وَإِلَّا) أَي
وَإِن لم يكن لَهُ لَازم كَذَا أَو شاركها غَيرهَا (فتعريف
الْإِسْكَار بِنَفسِهِ) أَي معرفَة الْإِسْكَار فِي حد ذَاته
لمن يُرِيد الحكم بِحرْمَة الْمشَاهد (لَا يتَحَقَّق إِلَّا
بِشرب) الْفَرد (الْمشَاهد) لعدم اللَّازِم الْمَذْكُور فالشرب
طَرِيق مَعْرفَته فتتوقف الحكم بِحرْمَة الْمشَاهد على شربه
(وَهُوَ) أَي توقفها عَلَيْهِ (بَاطِل) بِالْإِجْمَاع (وَكَون
الْإِسْكَار طردا) إِنَّمَا هُوَ (على) قَول (الْحَنَفِيَّة)
لِأَن حُرْمَة الْخمر عِنْدهم لعينها (وعَلى) قَول (غَيرهم
هُوَ) أَي الْإِسْكَار (مِثَال) لِلْعِلَّةِ.
(وَالْكَلَام فِي تقسيمها) أَي الْعلَّة (وشروطها وطرق
مَعْرفَتهَا) الدَّالَّة على اعْتِبَار الشَّارِع عليتها (فِي
مراصد) ثَلَاثَة.
(3/305)
|