تيسير التحرير

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

المرصد الثَّانِي فِي شُرُوطهَا

أَي الْعلَّة (استلزم مَا تقدم من تَعْرِيفهَا اشْتِرَاط الظُّهُور والانضباط ومظنية الْحِكْمَة) وَهِي الَّتِي شرع الحكم لأَجلهَا (أَولا أَو بِوَاسِطَة مَظَنَّة أُخْرَى فلزمت الْمُنَاسبَة) بَينهَا وَبَين الحكم الَّذِي هُوَ معلولها (وَعدم الطَّرْد) أَي مُجَرّد وجود الحكم لأَجلهَا الَّذِي هُوَ معلولها عِنْد وجودهَا كَمَا مر بَيَانه. (وَمِنْهَا) أَي من شُرُوط الْعلَّة (أَن لَا يكون عدما لوجودي) وَهَذَا الشَّرْط (لطائفة من الشَّافِعِيَّة) مِنْهُم الْآمِدِيّ (وَغَيرهم) كَابْن الْحَاجِب وَصَاحب البديع وَغَيرهمَا (وَالْأَكْثَر) مِنْهُم الْبَيْضَاوِيّ مَذْهَبهم (الْجَوَاز) أَي جَوَاز كَونهَا عدما لوجودي (قيل وَجَوَاز) تَعْلِيل (العدمي بِهِ) أَي بالعدمي كَعَدم نَفاذ التَّصَرُّف بِعَدَمِ الْعقل (اتِّفَاق) كَمَا ذكره القَاضِي عضد الدّين وَغَيره. قَالَ (النَّافِي) جَوَاز تَعْلِيل الوجودي بالعدمي: (الْعلَّة) هِيَ الْأَمر (الْمُنَاسب) لمشروعية الحكم (أَو مظنته) أَي مَظَنَّة الْمُنَاسب فَإِن الْعلَّة باعث والباعث منحصر فِي الْمُنَاسبَة ومظنته (والعدم الْمُطلق ظَاهر) أَنه لَيْسَ مناسبا وَلَا مظنته، بل نسبته إِلَى جَمِيع الْمحَال وَالْأَحْكَام سَوَاء (و) الْعَدَم (الْمُضَاف إِمَّا) مُضَاف (إِلَى مَا فِي الشَّرْعِيَّة) أَي مَشْرُوعِيَّة الحكم (مَعَه مصلحَة) لذَلِك الحكم (فَهُوَ) أَي الْعَدَم الْمُضَاف (مَانع) من الحكم، لِأَن الْفَرْض أَن الْمصلحَة مَعَ وجوديه الَّذِي هُوَ مُضَاف إِلَيْهِ وَعدم الْمصلحَة مَانع مِنْهُ فَلَا يكون الْعَدَم الْمَذْكُور مناسبا للْحكم وَلَا مَظَنَّة لَهُ (أَو) مُضَاف إِلَى مَا فِي الشَّرْعِيَّة مَعَه (مفْسدَة) لذَلِك الحكم (فَهُوَ) أَي الْعَدَم الْمُضَاف حِينَئِذٍ (عَدمه) أَي عدم الْمَانِع وَهُوَ لَا يكون عِلّة لِأَن الْعلَّة مُقْتَض وَعدم الْمَانِع لَيْسَ بمقتض. وَاعْترض بِأَنَّهُ لم لَا يجوز أَن يكون منشأ لمصْلحَة ودافعا لمفسدة فَيكون مقتضيا من الْحَيْثِيَّة وعدما للمانع فَيصح التَّعْلِيل بِهِ (أَو) إِلَى (منَاف مُنَاسِب) للْحكم (حَتَّى جَازَ أَن يسْتَلْزم) الْعَدَم الْمُضَاف إِلَى منَاف مُنَاسِب (الْمُنَاسب) فَيحصل بِهِ الْحِكْمَة لاشْتِمَاله عَلَيْهِ من حَيْثُ الاستلزام (فَيكون) الْعَدَم الْمَذْكُور (مظنته) أَي الْمُنَاسب بِهَذَا الِاعْتِبَار

(4/2)


(ثمَّ) نقُول بعد ذَلِك (لَا يصلح) لِأَن تكون مَظَنَّة لَهُ (لِأَن مَا) أَي الْمُنَاسب الَّذِي (هُوَ) أَي الْعَدَم الْمَذْكُور (مَظَنَّة لَهُ ان كَانَ) وَصفا (ظَاهرا) صَالحا لترتب الحكم عَلَيْهِ (أُغني) بِنَفسِهِ عَن المظنة الَّتِي هِيَ الْعَدَم فَكَانَ هُوَ الْعلَّة (أَو) كَانَ (خفِيا فنقيضه) أَي نقيض ذَلِك الْمُنَاسب الْخَفي (وَهُوَ) أَي نقيضه (مَا) أَي الَّذِي (عَدمه مَظَنَّة) للمناسب (خَفِي) أَيْضا، وَإِطْلَاق النقيض على كل وَاحِد من المنافيين شَائِع (لِاسْتِوَاء النقيضين جلاء وخفاء) . وَفِيه أَنه قد يخْتَلف النقيضان جلاء وخفاء لتكرار وإلف وَغير ذَلِك من الْأَسْبَاب، كَيفَ والملكات أجلى من الأعدام، هَذَا وَإِذا كَانَ منافي الْمُنَاسب خفِيا كَانَ عَدمه أَيْضا خفِيا لِاسْتِوَاء النقيضين إِلَى آخِره فَلَا يصلح الْعَدَم الْمَذْكُور عِلّة للْحكم لخفائه (أَو) مُضَاف إِلَى (غير منَاف) للمناسب (فوجوده) أَي غير الْمنَافِي (وَعَدَمه سَوَاء) فِي تحصل الْمصلحَة (فَلَيْسَ عَدمه بِخُصُوصِهِ عِلّة) أَي لَيْسَ كَون عَدمه عِلّة (بِأولى من عَكسه) بِأَن يكون وجوده عِلّة فَلَا يصلح عِلّة (كَمَا لَو قيل يقتل الْمُرْتَد لعدم إِسْلَامه فَلَو كَانَ فِي قَتله مَعَ إِسْلَامه مصلحَة فَاتَت) تِلْكَ الْمصلحَة فِي عَدمه فَيكون مَانِعا من الْقَتْل وَالتَّعْلِيل بِمَا يمْنَع من الحكم بَاطِل (أَو) كَانَ فِي قَتله مَعَ إِسْلَامه (مفْسدَة فَعدم مَانع) أَي الْعَدَم الْمُضَاف حِينَئِذٍ عدم مَانع (أَو يُنَافِي) الْإِسْلَام الَّذِي أضيف إِلَيْهِ الْعَدَم (مناسبا للْقَتْل) الَّذِي هُوَ الحكم فَهَذَا من عطف الْمُضَارع على الْمَاضِي (ظَاهرا) صفة لقَوْله مناسبا (وَهُوَ) أَي الْمُنَاسب الظَّاهِر للْقَتْل (الْكفْر، فَهُوَ) أَي الْكفْر (الْعلَّة) للْقَتْل لِأَنَّهُ أغْنى بِنَفسِهِ عَن المظنية (أَو) يُنَافِي الْإِسْلَام مناسبا (خفِيا) بِأَن يفْرض الْكفْر خفِيا (ف) إِن (الْإِسْلَام كَذَلِك) أَي خَفِي لتماثل النقيضين على مَا مر (فعدمه) أَي الْإِسْلَام (كَذَلِك) أَي خَفِي (أَولا) يُنَافِي الْإِسْلَام مناسبا أصلا ظَاهرا وَلَا خفِيا: بِأَن يفْرض عدم مُنَاسبَة الْكفْر للْقَتْل كَمَا قَالَ مَالك يقتل وَإِن رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَام (فَالْمُنَاسِب) شَيْء (آخر يُجَامع كلا من الْإِسْلَام وَعَدَمه) فهما سيان فِي تَحْصِيل الْمصلحَة فَلَا يكون عَدمه مُتَعَيّنا فِيهِ (وَدفع) الدَّلِيل الْمَذْكُور (من) قبل (الْأَكْثَر بِاخْتِيَار أَنه) أَي مَا أضيف إِلَيْهِ الْعَدَم (يُنَافِيهِ) أَي الْمُنَاسب وَهُوَ الشق الثَّالِث من الترديد (وَجَاز كَونه) أَي الْمُنَاسب الَّذِي يُنَافِيهِ مَا أضيف إِلَيْهِ الْعَدَم (الْعَدَم) الْمُضَاف (نَفسه، لَا) كَون الْعَدَم الْمَذْكُور (مظنته) أَي الْمُنَاسب فَلَا يتَّجه قَوْله: ثمَّ لَا يصلح إِلَى آخِره، ثمَّ علل الْجَوَاز بقوله (لاشْتِمَاله) أَي الْعَدَم (على الْمصلحَة كَعَدم الْإِسْلَام) فَإِنَّهُ مُشْتَمل (على مصلحَة الْتِزَامه) إِضَافَة الْمصلحَة بَيَانِيَّة، وَالضَّمِير لِلْإِسْلَامِ (بِالْقَتْلِ) أَي بِسَبَب خَوفه من الْقَتْل يلْتَزم الْإِسْلَام بِأَن لَا يرْتَد أَو يرجع إِلَيْهِ بعد الارتداد ثمَّ يلازمه إِذا علم أَن عدم الْإِسْلَام عِلّة للْقَتْل. (وَالْحَنَفِيَّة يمْنَعُونَ الْعَدَم الْمُطلق) أَي لَا يجوزون التَّعْلِيل بِالْعدمِ مُطلقًا كَانَ مُضَاف

(4/3)


وجوديا كَانَ الحكم أَو عدميا (فَلم يَصح النَّقْل السَّابِق) أَي نقل الِاتِّفَاق على جَوَاز العدمي بالعدمي (وَالدَّلِيل الْمَذْكُور) للنافي للوجودي خَاصَّة (يصلح لَهُم) أَي للحنفية فِي نفيهم مُطلقًا (لِأَنَّهُ) أَي الدَّلِيل الْمَذْكُور (يبطل الْعَدَم مُطلقًا) أَي كَونه عِلّة لوجودي أَو عدمي، لانْتِفَاء الْمُنَاسبَة ومظنتها فِيهِ، وَعدم الحكم لَا يحْتَاج إِلَى عِلّة لِأَنَّهُ ثَابت بِالْعدمِ الْأَصْلِيّ فَلَا يصلح عِلّة لَا للعدم وَلَا للوجود، كَذَا قيل، وَفِيه أَنه لم لَا يجوز أَن يكون عدم الحكم عدما طارئا (وَيرد) الدَّلِيل الْمَذْكُور لعدم جَوَاز تَعْلِيل الوجودي بِالْعدمِ (نقضا من) قبل (الْأَكْثَر على) دَلِيل (الطَّائِفَة) الْقَائِلين بِعَدَمِ جَوَاز تَعْلِيل الوجودي وَجَوَاز تَعْلِيل العدمي بِهِ بِأَن يُقَال: إِن صَحَّ مَا ذكرْتُمْ فِي منع تَعْلِيل الوجودي بِهِ لزم أَن لَا يجوز تَعْلِيل العدمي بِهِ أَيْضا بِعَين مَا ذكرْتُمْ (وَكَون الْعَدَم نَفسه الْمُنَاسب لم يتَحَقَّق) أورد النَّقْض على الدَّلِيل أَولا، ثمَّ أبطل مَا ذكر سَنَد للْمَنْع على مقدمته وَإِبْطَال السَّنَد إِذا كَانَ مُسَاوِيا للْمَنْع يسْتَلْزم إِثْبَات الْمُقدمَة الممنوعة، ثمَّ بَين عدم التحقق بقوله (وَالْمُنَاسِب فِي الْمِثَال) الْمَذْكُور (الْكفْر، وَهُوَ) أَي الْكفْر (اعْتِقَاد قَائِم) بِذَات الْكَافِر (وجودي ضد الْإِسْلَام، ويستلزم) الْكفْر أَو الِاعْتِقَاد الْمَذْكُور (عَدمه) أَي عدم الْإِسْلَام (كَمَا هُوَ شَأْن الضدين فِي استلزام كل) مِنْهُمَا (عدم الآخر فالإضافة للْقَتْل (فِيهِ) أَي الْمِثَال الْمَذْكُور (إِلَى الْعَدَم) حَيْثُ قيل يقتل لعدم إِسْلَامه إِنَّمَا يكون (لفظا) أَي بِحَسب ظَاهر اللَّفْظ وَفِي الْمَعْنى والحقيقة إِلَى أَمر وجودي وَهُوَ الْكفْر فِي الْمِثَال، وعَلى هَذَا الْقيَاس سَائِر الْأَمْثِلَة، ثمَّ لما ذكر أَن الْحَنَفِيَّة يمْنَعُونَ الْعَدَم مُطلقًا وَأَن الدَّلِيل الْمَذْكُور يصلح لَهُم وَجعل إِضَافَة الحكم إِلَى الْعَدَم لفظا اتجه أَن الْحَنَفِيَّة فِي كثير من الْأَحْكَام عللوا بِالْعدمِ وَأَرَادَ الْجَواب عَن ذَلِك فَقَالَ: (ويطرد) تَعْلِيل الْعَدَم بِالْعدمِ (فِي عدم عِلّة ثَبت اتحادها) يَعْنِي لَيْسَ لحكمها عِلّة غَيرهَا (لعدم حكمهَا) مِثَاله (كَقَوْل مُحَمَّد) أَي كالتعليل فِي قَوْله (فِي ولد الْمَغْصُوب) أَي ولد الْحَيَوَان الْمَغْصُوب الَّذِي لم يكن وَقت الْغَصْب مَوْجُودا (لَا يضمن) بِصِيغَة الْمَجْهُول وَالضَّمِير للْوَلَد، وَيجوز أَن يكون بِصِيغَة الْمَعْلُوم: أَي لَا يضمن الْغَاصِب إِيَّاه (لِأَنَّهُ) أَي الْوَلَد (لم يغصب) لعدم وجوده وَقت الْغَصْب، فَإِن الْغَضَب سَبَب معِين للضَّمَان لَا سَبَب سواهُ فعدمه يسْتَلْزم عدم الضَّمَان (و) كَقَوْل (أبي حنيفَة فِي نفي) وجوب (خمس العنبر لم يوجف عَلَيْهِ) لِأَن سَببه وَاحِد إِجْمَاعًا، وَهُوَ الإيجاف بِالْخَيْلِ والركاب، وَهُوَ إسراعها فِي السّير، من الوجف، وَهُوَ سرعَة السّير، فَإِن الْخمس إِنَّمَا يجب فِيمَا أَخذ من أَيدي الْكفَّار بِإِيجَاف الْخَيل والركاب، والمستخرج من الْبَحْر لَيْسَ فِي أَيْديهم، فَإِن قهر المَاء يمْنَع قهر غَيره عَلَيْهِ فَلم يكن غنيمَة (وَالْوَجْه) فيهمَا (مَا قُلْنَا) من (أَنه) أَي التَّعْلِيل بِالْعدمِ وَإِضَافَة الحكم إِلَيْهِ (لَيْسَ حَقِيقِيًّا وإضافتهما) . قَالَ الشَّارِح

(4/4)


أَي إِضَافَة أبي حنيفَة عدم الْخمس وَمُحَمّد عدم الضَّمَان. وَلَا يخفى مَا فِيهِ، فَالْأولى أَن يُقَال: أَي إِضَافَة الْحكمَيْنِ الْمَذْكُورين فِي كَلَامهمَا، وَقَوله: اضافتهما بِالنّصب عطفا على اسْم إِن واضافتهما لَيست حَقِيقِيَّة بل بِحَسب اللَّفْظ على مَا مر، أَو نقُول تَقْدِير الْكَلَام وَحَقِيقَة إضافتهما (إِنَّمَا هُوَ عدم الحكم لعدم الدَّلِيل) على سَبِيل التَّوَسُّع فِي الْكَلَام (وَلَيْسَ) مَا علل بِهِ من عدم الدَّلِيل (مَا نَحن فِيهِ من الْعلَّة) بِمَعْنى الْبَاعِث وَهُوَ ظَاهر (قَالُوا) أَي الْأَكْثَرُونَ (علل الضَّرْب بِعَدَمِ الِامْتِثَال) وَهُوَ عدمي (وَالضَّرْب ثبوتي أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي التَّعْلِيل (بالكف) أَي كف العَبْد نَفسه عَن الِامْتِثَال وَهُوَ ثبوتي (قَالُوا) أَي الْأَكْثَرُونَ أَيْضا (معرفَة المعجز) أَي كَون المعجز معجزا أَمر (ثبوتي مُعَلل بالتحدي) بالمعجزة (مَعَ انْتِفَاء الْمعَارض) أَي الَّذِي يَأْتِي بِمِثْلِهَا (وَهُوَ) أَي انْتِفَاء الْمعَارض (جُزْء الْعلَّة) لِأَنَّهَا الْإِتْيَان بخارق الْعَادة وَطلب الْإِتْيَان بِمثلِهِ عِنْد دَعْوَى النُّبُوَّة مَعَ انْتِفَاء الْمعَارض، والانتفاء عدم، وَمَا جزؤه عدم فَهُوَ عدم و (كَذَا معرفَة كَون الْمدَار) وَهُوَ مَا أدير عَلَيْهِ الحكم وجودا أَو عدما (عِلّة) للدائر وَهُوَ الحكم (بالدوران) وَكَونه علته وجودي (وجزؤه) أَي الدوران (عدم) وَهُوَ مركب من الطَّرْد، وَالْعَكْس عدمي إِذْ هُوَ عبارَة عَن الْوُجُود مَعَ الْوُجُود والعدم مَعَ الْعَدَم (أُجِيب بِكَوْنِهِ) أَي الْعَدَم (فيهمَا) فِي العلتين (شرطا) خَارِجا عَن حقيقتهما لَا جُزْءا حَتَّى يلْزم عدم العلتين (وَلَو سلم كَون التحدي لَا يسْتَقلّ) عِلّة لمعْرِفَة الْعَجز بل يحْتَاج إِلَى شَيْء آخر مَعَه فِي الْعلية (فمعرف) أَي فَهُوَ معرف للمعجزة (وَالْكَلَام فِي الْعلَّة بِمَعْنى الْمُشْتَمل على مَا ذكرنَا) من الْمُنَاسبَة الباعثة على الحكم، لَا بِمَعْنى الْمُعَرّف. قَالَ القَاضِي عضد الدّين فِي الْجَواب: لَا يخفى أَن نفس التحدي لَا يسْتَقلّ بتعريف المعجز يَعْنِي أَن قَوْلهم مُعَلل بالتحدي يدل على استقلاله بتعريف المعجز وَهُوَ غير صَحِيح، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَو اسْتَقل تحصل الْمعرفَة لكل من حَضَره: وَالْمُصَنّف يُشِير إِلَى أَن عدم استقلاله مَمْنُوع فَإِنَّهُ إِذا تَأمل فِيهِ حق التَّأَمُّل حصل الْعلم بِأَن مَا يتحدى بِهِ معجز، وَلَو سلم فَلَا يحْتَاج فِي ردهم عدم الِاسْتِقْلَال، لأَنا نقُول لَيْسَ من بَاب الْعلَّة الَّتِي كلامنا فِيهِ. (وَمِنْهَا) أَي من شُرُوط صِحَة الْعلَّة (على مَا) عزى (لجمع من الْحَنَفِيَّة) الْكَرْخِي من الْمُتَقَدِّمين وَأبي زيد من الْمُتَأَخِّرين، وَحكى عَن مَشَايِخ الْعرَاق وَأكْثر الْمُتَأَخِّرين وَبَعض الشَّافِعِيَّة وَهُوَ (أَن لَا تكون) الْعلَّة (قَاصِرَة) على الأَصْل مستنبطة، وَذهب جُمْهُور الْفُقَهَاء مِنْهُم مَشَايِخنَا السمرقنديون وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَغَيرهم إِلَى صِحَة التَّعْلِيل بهَا، وَاخْتَارَهُ صَاحب الْمِيزَان وَالْمُصَنّف فَقَالَ: (لنا) فِي صِحَة التَّعْلِيل بهَا (ظن كَون الحكم لأَجلهَا) أَي القاصرة (لَا ينْدَفع) عَن النَّاظر فِي حكم الأَصْل (وَهُوَ) أَي هَذَا الظَّن (التَّعْلِيل) والمجتهد يجب عَلَيْهِ اتِّبَاع ظَنّه (والاتفاق على) صِحَة الْعلَّة القاصرة (المنصوصة)

(4/5)


أَي الثَّابِتَة بِالنَّصِّ وعَلى الْمجمع عَلَيْهَا، مِثَال القاصرة (كجوهرية النَّقْدَيْنِ) أَي كَون الذَّهَب وَالْفِضَّة جوهرين متعينين لثمنية الْأَشْيَاء فِي تَعْلِيل حُرْمَة الرِّبَا فيهمَا فَإِنَّهُ وصف قَاصِر عَلَيْهِمَا (وَأما الِاسْتِدْلَال) للمختار بِأَنَّهُ (لَو توقف صِحَّتهَا) أَي الْعلَّة (على تعديها لزم الدّور) لتوقف تعديها على صِحَّتهَا إِجْمَاعًا (فدور معية) أَي فَغير تَامّ لِأَنَّهُ دور معية حَاصله التلازم لَا تقدم كل مِنْهُمَا على الآخر بِالذَّاتِ كتوقف كل من المتضايفين على الآخر، وَمَعْنَاهُ الْعلَّة لَا تكون إِلَّا متعدية، والمتعدية لَا تكون إِلَّا عِلّة (قَالُوا) أَي مانعو صِحَة التَّعْلِيل بهَا (لَا فَائِدَة) فِيهَا لانحصار فَائِدَة الْعلَّة فِي إِثْبَات الحكم بهَا فِي الْفَرْع وَهُوَ مُنْتَفٍ، وَمَا لَا فَائِدَة فِيهِ لَا يَصح شرعا وَلَا عقلا (أُجِيب بِمَنْع حصرها) أَي الْفَائِدَة (فِي التَّعْدِيَة، بل معرفَة كَون الشَّرْعِيَّة) للْحكم (لَهَا) أَي لِلْعِلَّةِ فَائِدَة (أَيْضا لِأَنَّهُ) أَي كَون الشَّرْعِيَّة لَهَا لِأَنَّهُ (شرح للصدر بالحكم للاطلاع) على الْمُنَاسب الْبَاعِث لَهُ فَإِن الْقُلُوب إِلَى قبُول الْأَحْكَام المعقولة أميل مِنْهَا إِلَى قهر التَّعَبُّد (وَلَا شكّ أَنه) أَي الْخلاف (لَفْظِي فَقيل لِأَن التَّعْلِيل هُوَ الْقيَاس باصطلاح) للحنفية وَهُوَ أَعم من الْقيَاس باصطلاح الشَّافِعِيَّة فالنفي للأخص وَالْإِثْبَات للأعم فَلَا نزاع بِحَسب الْحَقِيقَة (وَلِأَن الْكَلَام فِي عِلّة الْقيَاس لِأَن الْكَلَام فِي شُرُوطه) أَي الْقيَاس (وأركانه) وَلَا شكّ أَن النَّافِي فِي هَذَا السِّيَاق لَا يزِيد إِلَّا عِلّة الْقيَاس وَلَا نزاع بَين الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذَا، فالمثبت لَا يزِيد إِثْبَات الْعلَّة القاصرة للْقِيَاس إِذْ لَا معنى لَهُ فَلَا يتوارد النَّفْي وَالْإِثْبَات فِي مَحل كل وَاحِد، وَلم يرد الْمُثبت مُخَالفَة النَّافِي بل بَيَان أصل التَّعْلِيل، بل يَصح بالقاصرة، والمولعون بِنَقْل الْخلاف نظرُوا إِلَى مَا توهمه ظَاهر كَلَامهم وَحَمَلُوهُ على الْخلاف (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن مُرَاد النَّافِي عِلّة الْقيَاس (فَلهم) أَي النافين من الْحَنَفِيَّة مَعَ غَيرهم (كثير مثله) من إِثْبَات الْعلَّة القاصرة (فِي الْحَج وَغَيره) كَمَا فِي الرمل فِي الأشواط الأول، وَكَانَ سَببه إِظْهَار الْجلد للْمُشْرِكين حَيْثُ قَالُوا: أضناهم حمى يثرب، ثمَّ بَقِي الحكم بعد زَوَال السَّبَب فِي زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَبعده، وكما فِي وجوب الِاسْتِبْرَاء فِيمَا إِذا حدث لَهُ ملك الرَّقَبَة بتعرف بَرَاءَة الرَّحِم قَاصِر عَن الصَّغِيرَة والآيسة، كَذَا ذكره الشَّارِح.
وَأَنت خَبِير بِأَن هَذَا الْأَخير قُصُور آخر غير مَا نَحن فِيهِ فَتدبر (لَكِن رُبمَا سموهُ) أَي الْحَنَفِيَّة التَّعْلِيل بالقاصرة (إبداء حِكْمَة لَا تعليلا) تمييزا بَين القاصرة والمتعدية (وَجعله) أَي الْخلاف (حَقِيقِيًّا مَبْنِيا على اشْتِرَاط التَّأْثِير) فِي التَّعْلِيل (أَو الِاكْتِفَاء بالاخالة) فِيهِ من غير اشْتِرَاط التَّأْثِير كَمَا ذكره صدر الشَّرِيعَة (فعلى الأول) وَهُوَ اشْتِرَاط التَّأْثِير كَمَا عَلَيْهِ الْحَنَفِيَّة (تلْزم التَّعْدِيَة) على الثَّانِي، وَهُوَ الِاكْتِفَاء بالاخالة (غلط، إِذْ لَا يلْزم فِيهِ) أَي فِي التَّأْثِير (وجود عين) الْمُدعى (عِلّة) أَي وجود عين الْوَصْف الَّذِي ادّعى

(4/6)


كَونه عِلّة (لحكم الأَصْل فِي) مَحل (آخر يكون فرعا للاكتفاء بِجِنْسِهِ) أَي بِوُجُود حد جنس الْمُدعى عِلّة (فِي) مَحل (آخر لما صرح بِهِ من صِحَة التَّعْلِيل بِلَا قِيَاس) وَالتَّصْرِيح بِصِحَّتِهِ بِلَا قِيَاس دَلِيل على الِاكْتِفَاء بِوُجُود الْجِنْس فِي مَحل آخر، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا بُد فِي التَّأْثِير عندنَا من اعْتِبَار الشَّارِع الْعين فِي الْعين، وَهُوَ أَعلَى الْمَرَاتِب، أَو فِي الْجِنْس، أَو الْجِنْس فِي الْعين أَو فِي الْجِنْس، وَالْأول يسْتَلْزم وجود عين الْوَصْف فِي عين الحكم فِي مَحل آخر. لَا يُقَال سلمنَا أَنه يسْتَلْزم وجوده فِي عين الحكم فِي مَحل آخر. لأَنا نقُول: كلامنا فِي بَيَان شَرط الْعلَّة المستنبطة وَصِحَّة التَّعْلِيل بهَا، فَلَو كَانَ اعْتِبَار الشَّارِع لعين الْوَصْف فِي عين الحكم فِي الأَصْل لَا فِي مَحل آخر كَانَت الْعلَّة منصوصة لَا مستنبطة، فَلم يحْتَج فِي التَّعْلِيل بهَا إِلَى بَيَان التَّأْثِير، وَإِذا وجد اعْتِبَار الْوَصْف فِي مَحل آخر غير الأَصْل صَحَّ، قِيَاس حكم الأَصْل، وَصِحَّة الْقيَاس لَا تنَافِي كَونه مَنْصُوصا على مَا مر، فَحِينَئِذٍ يكون صِحَة التَّعْلِيل مَعَ الْقيَاس، وَحَيْثُ صَرَّحُوا بِصِحَّة التَّعْلِيل بِلَا قِيَاس كَانَ ذَلِك عِنْد عدم وجود الْعين فِي الْعين فِي مَحل آخر، فَلَزِمَ وجود الْجِنْس فِي مَحل آخر، وَإِلَّا لانتفى التَّأْثِير. وَفِيه أَن صِحَة التَّعْلِيل بِلَا قِيَاس لَا يسْتَلْزم الِاكْتِفَاء بِجِنْسِهِ لانْتِفَاء الْقيَاس فِيمَا إِذا اعْتبر عينه فِي جنس الحكم وَامْتنع اجْتِمَاع الْحكمَيْنِ فِي مَحل وَاحِد من غير تحقق جنسه فِي مَحل آخر، غير أَن تَعْلِيل الِاكْتِفَاء بِمَا ذكر الْتِزَام مِنْهُ لما لَا يلْزم عَلَيْهِ، لِأَن الِاكْتِفَاء بِالْجِنْسِ مُصَرح بِهِ، ثمَّ الِاكْتِفَاء بِهِ يتَحَقَّق فِي صُورَة الْجِنْس فِي الْجِنْس وَفِي الْعين فِي مَحل آخر (وَبِذَلِك) أَي بِوُجُود الْجِنْس فِي مَحل آخر (إِنَّمَا تعدد مَحل الْجِنْس) أَي مَحل جنس الْوَصْف لَا مَحل عينه لتحَقّق الْجِنْس فِي ضمن فَرد آخر غير عين الْوَصْف، والتعدية لَا تحصل إِلَّا بِتَعَدُّد مَحل عين الْوَصْف (وَلَيْسَ) الْجِنْس هُوَ (الْمُعَلل بِهِ وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَلِك بِأَن كَانَ الْجِنْس هُوَ الْمُعَلل بِهِ (لَكَانَ الْأَخَص) الَّذِي هُوَ الْمُعَلل بِهِ فِي نفس الْأَمر (عين الْأَعَمّ) الَّذِي هُوَ جنسه (و) على هَذَا التَّقْدِير (كَانَت الْعلَّة جنسه لَا هُوَ) أَي الْوَصْف نَفسه وَالْمَقْصُود من هَذَا التَّطْوِيل دفع توهم الِاتِّحَاد بَين الْوَصْف وجنسه الْمَحْمُول عَلَيْهِ لِئَلَّا يُقَال أَن تعدد مَحل الْجِنْس تعدد لمحله (وَهُوَ) أَي كَون الْمُعَلل بِهِ الْجِنْس لَا الْعين (غير الْفَرْض) لِأَن لِأَن الْمَفْرُوض كَون الْمُعَلل بِهِ الْعين لَا جنسه (فَلَا يسْتَلْزم التَّأْثِير تعدِي مَا علل بِهِ) لما عرفت من الِاكْتِفَاء وَصِحَّة التَّعْلِيل بِلَا قِيَاس (وَجعل ثَمَرَته) مُبْتَدأ مُضَاف إِلَى مَفْعُوله الأول، وَالضَّمِير للْخلاف الْمَذْكُور (منع تَعديَة) مفعول ثَان للجعل مُضَاف إِلَى مَفْعُوله: أَي إِلَى (حكم أصل فِيهِ) صفة مَا أضيف إِلَيْهِ الحكم (مُتَعَدٍّ وقاصر) فَاعل الظّرْف وَتَابعه (للمجيز) مُتَعَلق بِمَحْذُوف هُوَ حَال عَن منع التَّعْدِيَة (لَا الْمَانِع) مَعْطُوف على الْمُجِيز، يَعْنِي أَن من أجَاز التَّعْلِيل بالقاصرة

(4/7)


يمْنَع تَعديَة الحكم بالمتعدية، وَمن منع التَّعْلِيل بهَا لَا يمْنَعهَا. قَالَ صدر الشَّرِيعَة: وَثَمَرَة الْخلاف أَنه إِذا وجد فِي مورد النَّص وصفان: قَاصِر، ومتعد، وَغلب على ظن الْمُجْتَهد أَن الْقَاصِر عِلّة هَل يمْتَنع التَّعْلِيل بالمتعدي أم لَا، فَعنده يمْتَنع، وَعِنْدنَا لَا يمْتَنع، فَإِنَّهُ لَا اعْتِبَار لغَلَبَة الظَّن لعلية القاصرة فَإِنَّهَا مُجَرّد وهم، فَلَا يُعَارض غَلَبَة الظَّن بعلية الْمُتَعَدِّي الْمُؤثر انْتهى (كَذَلِك) خبر الْمُبْتَدَأ: أَي جعل ثَمَرَته مَا ذكر غلط أَيْضا كَمَا أَن بِنَاء الْخلاف على اشْتِرَاط التَّأْثِير غلط لما ذكر، ثمَّ بَين وَجه الْغَلَط بقوله (بل الْوَجْه) فِيمَا إِذا كَانَ فِي الأَصْل وصفان على مَا ذكر (إِن ظهر اسْتِقْلَال) الْوَصْف (الْمُتَعَدِّي) فِي الْعلية (لَا يمْنَع اتِّفَاقًا) من الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة وَغَيرهم لِأَن الْمُجِيز يمْنَع، وَالْمَانِع لَا يمْنَع (أَو) ظهر (التَّرْكِيب) لِلْعِلَّةِ من الْمُتَعَدِّي والقاصر (منع اتِّفَاقًا) . وَلَا يخفى أَن الْمَفْهُوم من كَلَام صدر الشَّرِيعَة تحقق غَلَبَة الظَّن فِي كل وَاحِد من الوصفين، وَلَا يتَصَوَّر بِالنِّسْبَةِ إِلَى شخص وَاحِد أَن يظنّ علية كل وَاحِد مِنْهُمَا اسْتِقْلَالا فِي وَقت وَاحِد بِنَاء على عدم تَجْوِيز تعدد الْعِلَل المستقلة، وَسَيَأْتِي بَيَانه، وبالنسبة إِلَى شَخْصَيْنِ لَا تعَارض، لِأَنَّهُ يجب على كل مُجْتَهد الْعَمَل بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده، وَعدم الِالْتِفَات إِلَى مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاد الآخر بِاعْتِبَار الْوَقْتَيْنِ كَذَلِك لتعين الظَّن الآخر، وَإِن أُرِيد مدخلية كل من الوصفين فِي الْجُمْلَة من غير اسْتِقْلَال، فالعلة التَّامَّة هِيَ الْمَجْمُوع وَهُوَ قَاصِر فَيتَعَيَّن الْمَنْع اتِّفَاقًا كَمَا قَالَ المُصَنّف: نعم لَو لم يعْتَبر غَلَبَة الظَّن بل تَسَاويا فِي الِاحْتِمَال فَهُوَ كَمَا ذكر السُّبْكِيّ عَن الشَّافِعِيَّة أَنهم اخْتلفُوا، وَالْجُمْهُور يرجح المتعدية، وَقيل يرجح القاصرة، وَقيل بِالْوَقْفِ (وَمَا أورد على الْحَنَفِيَّة) حَيْثُ قَالُوا بِعَدَمِ صِحَة القاصرة (من التَّعْلِيل بالثمنية لِلزَّكَاةِ) فِي الْمَضْرُوب (على ظن الْخلاف) الْمَعْنَوِيّ وَقد عرفت أَنه لَفْظِي (وَهُوَ) أَي الثمنية وصف (قَاصِر منع) وُرُوده خبر الْمَوْصُول (بتعديه) أَي بِسَبَب تعدِي وصف الثمنية (إِلَى الْحلِيّ) فَلَا يكون قاصرا (وَلَقَد كَانَ الْأَوْجه جعل الْخلاف) الْمَذْكُور (على عَكسه) أَي على عكس مَا ذكر من عدم صِحَة التَّعْلِيل بالقاصرة عِنْد جمع من الْحَنَفِيَّة، وَصِحَّته عِنْد الشَّافِعِيَّة وَجُمْهُور الْفُقَهَاء. ثمَّ بَين الْعَكْس بقوله (من التَّعْلِيل) أَي من جَوَاز التَّعْلِيل (بعلة يثبت بهَا) أَي بِتِلْكَ الْعلَّة (حكم مَحل غير مَنْصُوص لما تقدم من قبولهم) أَي الْحَنَفِيَّة (التَّعْلِيل بِلَا قِيَاس) فَلَا تكون الْعلَّة فِي ذَلِك التَّعْلِيل متعدية إِلَى فرع، وَإِلَّا لَكَانَ بِقِيَاس (بِمَا ثَبت لجنسها الخ) أَي بعلة ثَبت لجنسها أَو لعينها اعْتِبَار فِي جنس الحكم، أَو هُوَ من جِنْسهَا فِي الحكم فِي مَحل آخر لجنسها نَفسه وَإِلَّا لصَحَّ قِيَاس الْمحل الثَّانِي على الأول لما مر (وَهُوَ) أَي التَّعْلِيل بعلة يثبت لَهَا حكم مَحل بِلَا قِيَاس تَعْلِيل (بقاصرة، إِذْ لم تُوجد) تِلْكَ الْعلَّة (بِعَينهَا فِي محلين) وَإِذا كَانَ التَّعْلِيل بِمَا ذكر أمرا مقررا عِنْد الْحَنَفِيَّة (فالحنفية)

(4/8)


قَوْلهم (نعم) يجوز التَّعْلِيل بِالْعِلَّةِ القاصرة (إِذا ثَبت الِاعْتِبَار) لَهَا (بِمَا ذكرنَا فِي الْأَقْسَام الثَّلَاثَة) للتأثير اعْتِبَار جِنْسهَا فِي عين الحكم أَو جنسه أَو عينهَا فِي جنسه من النَّص أَو الْإِجْمَاع (وَالشَّافِعِيَّة) قَوْلهم (لَا) يجوز التَّعْلِيل بهَا (لِأَنَّهُ) أَي الْوَصْف الَّذِي هَذَا شَأْنه (من الْمُرْسل) الملائم. وَالْمَشْهُور من مَذْهَب الشَّافِعِي عدم قبُوله (وَمِنْهَا) أَي من شُرُوط صِحَة الْعلَّة (على) قَول (من قدم قَول الصَّحَابِيّ) على الْقيَاس (أَن لَا تكون) الْعلَّة (معدية إِلَى الْفَرْع حكما يُخَالف قَول الصَّحَابِيّ فِيهِ) أَي فِي الْفَرْع (بِشَرْطِهِ) أَي حَال كَون قَوْله فِيهِ مَقْرُونا تَقْدِيمه على الْقيَاس (السَّابِق) أَي الَّذِي سبق ذكره فِي مسئلة قبيل: فصل فِي التَّعَارُض (فِي وجوب تَقْلِيده) مُتَعَلق بِشَرْطِهِ (وتجويز كَونه) أَي قَول الصَّحَابِيّ فِي الْفَرْع ناشئا (عَن) عِلّة (مستنبطة) من أصل آخر ليَكُون اجْتِهَاده بطرِيق الْقيَاس لَا بِسَمَاعِهِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والمجتهد لَا يجب عَلَيْهِ تَقْلِيد مُجْتَهد آخر بل يجب اتِّبَاع ظَنّه على مَا يَقُوله من لم يقدم قَوْله على الْقيَاس (عِنْد هَؤُلَاءِ) الْقَائِلين بالتقديم ظرف لقَوْله (احْتِمَال) هُوَ خبر تَجْوِيز (مُقَابل) صفة احْتِمَال (لظُهُور كَونه) أَي قَول الصَّحَابِيّ وَاقعا (عَن نَص) سَمعه من الشَّارِع، وَاللَّام صلَة مُقَابل، وَلَا عِبْرَة بِالِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوح فِي مُقَابلَة الظَّاهِر الرَّاجِح (كَمَا سبق) فِي مَحَله الْمَذْكُور فيطلب تَفْصِيله هُنَاكَ. (وَمِنْهَا) أَي شُرُوط صِحَة الْعلَّة (عدم نقض) الْعلَّة (المستنبطة) ، والمنصوصة سَيَجِيءُ حكمهَا (تخلف الحكم عَنْهَا فِي مَحل) تحققت فِيهِ الْعلَّة وَلَو بمانع أَو عدم شَرط، وَإِنَّمَا يعرف التَّخَلُّف بِنَصّ أَو إِجْمَاع أَو قِيَاس رَاجِح علته على هَذِه المستنبطة بنصوصية أَو غَيرهَا. وَقَوله تخلف الحكم بِالْجَرِّ عطف بَيَان. لنقض المستنبطة (لمشايخ مَا وَرَاء النَّهر من الْحَنَفِيَّة) كَأبي مَنْصُور الماتريدي وفخر الْإِسْلَام وَالشَّافِعِيّ فِي أظهر قوليه، وَقَوله لمشايخ مُتَعَلق بِمَحْذُوف هُوَ حَال عَن ضمير الْمُبْتَدَأ (وَأبي الْحُسَيْن) الْبَصْرِيّ (إِلَّا أَبَا زيد) من الْمَشَايِخ الْمَذْكُورين فَإِنَّهُ ومالكا وَأحمد وَعَامة الْمُعْتَزلَة على أَنه لَيْسَ بِشَرْط (وَاخْتلفُوا) أَي الْحَنَفِيَّة الشارطون (فِي المنصوصة فمانع أَيْضا) مِنْهُم يمْنَع صِحَة المنصوصة، وَبِه قَالَ الاسفرايني وَعبد القاهر الْبَغْدَادِيّ وَنقل عَن الشَّافِعِي (و) مِنْهُم (مجوز، وَالْأَكْثَر وَمِنْهُم عراقيو الْحَنَفِيَّة كالكرخي والرازي) وَأبي عبد الله الْجِرْجَانِيّ وَأكْثر الشَّافِعِيَّة على مَا فِي البديع (يجوز) التَّخَلُّف فِي مَحل (بمانع أَو عدم شَرط فيهمَا) المستنبطة والمنصوصة، وَقيل يقْدَح مُطلقًا، نسبه السُّبْكِيّ إِلَى الشَّافِعِي وَأَصْحَابه وَقَالَ بعده أَصْحَابنَا فِي مرجحات مَذْهَب الشَّافِعِي بسلامة علله عَن الانتقاض جَارِيَة على مقتضاها. ثمَّ قَالَ وَعَلِيهِ جَمَاهِير الْمُحَقِّقين (وَاخْتَارَ الْمُحَقِّقُونَ) كَابْن الْحَاجِب (الْجَوَاز) للتخلف (فِي المستنبطة إِذا تعين الْمَانِع) وَلَو عدم شَرط وَكَذَا (وَفِي المنصوصة بِنَصّ عَام) يدل بِعُمُومِهِ على الْعلية (لَكِن إِن لم يتَعَيَّن)

(4/9)


الْمَانِع فِي المنصوصة فِي مَحل التَّخَلُّف (قدر) وجوده فِيهِ، مِثَاله أَن خُرُوج النَّجس نَاقض وَثَبت أَن الفصد لَيْسَ بناقض كَمَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي، فَيقدر فِي الفصد مَانع من النَّقْض (أما) إِذا كَانَت منصوصة (بقاطع فِي مَحل النَّقْض فَيلْزم الثُّبُوت) أَي ثُبُوت الحكم (فِيهِ) أَي فِي مَحل النَّقْض لعدم إِمْكَان تخلف مَدْلُول الْقطعِي عَنهُ فَلَا نقض، وَهَذَا إِذا كَانَ دَلِيل التَّخَلُّف ظنيا ظَاهر، وَأما كَونه قَطْعِيا فَالظَّاهِر أَنه لَا تحقق لَهُ (أَو فِي غَيره) أَي غير مَحل النَّقْض (فَقَط) فالقاطع إِنَّمَا يدل على عليتها فِي غير مَحل النَّقْض، وَلَا دَلِيل سوى الْقَاطِع على عليتها فِي مَحل النَّقْض (فَلَا تعَارض) وَلَا نقض (قيل وَلَا فَائِدَة فِي قيد) هَذَا (الْقَاطِع لِأَن الظني) أَيْضا (كَذَلِك) كَمَا أَفَادَهُ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ بقوله لَو ثَبت الْعلية فِي غير مَحل النَّقْض خَاصَّة بظني فَلَا تعَارض أَيْضا (وَهَذَا) التَّفْصِيل فِي كَلَام الْمُحَقِّقين (مُرَاد الْأَكْثَر) الْقَائِلين يجوز بمانع أَو عدم شَرط فيهمَا لِأَنَّهُ مُقْتَضى الدَّلِيل فَلَا يخالفونه (وَلَيْسَ) هَذَا الَّذِي نسب إِلَى الْمُحَقِّقين مذهبا (آخر) كَمَا يدل عَلَيْهِ كَلَام ابْن الْحَاجِب (وَنقل الْجَوَاز) أَي جَوَاز النَّقْض (فيهمَا) أَي فِي المستنبطة والمنصوصة (بِلَا مَانع) قَالَ الشَّارِح: أَي بِلَا قدح عِنْد أَكثر أَصْحَاب أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد انْتهى. وَالظَّاهِر أَن المُرَاد بالمانع هُنَا مَا أُرِيد بِهِ فِي قَوْله يجوز بمانع فِي قَول الْأَكْثَر (و) فِي المستنبطة (كَذَلِك) فَقَط أَي وَنقل الْجَوَاز (فِي المستنبطة فَقَط) بِلَا مَانع. (وَالْحق نقل بَعضهم) وَهُوَ الشَّيْخ قوام الدّين الكاكي (الِاتِّفَاق على الْمَنْع) من التَّعْلِيل بعلة منقوضة (بِلَا مَانع) من تَأْثِير الْعلَّة (وَمعنى قَوْلهم) يجوز فيهمَا أَو فِي المستنبطة بِلَا مَانع (الحكم بِهِ) أَي بالمانع، فالمنفي الحكم بِتَعْيِين الْمَانِع، وَهُوَ مُجْتَمع مَعَ الظَّن بِوُجُودِهِ إِجْمَالا، وَلذَا قَالَ (إِن لم يتَعَيَّن) الْمَانِع، وَإِنَّمَا قُلْنَا معنى قَوْلهم كَذَا (لدليلهم) أَي المجوزين فِي المستنبطة بِلَا مَانع (الْقَائِل) صفة لدليلهم على التَّجَوُّز، ومقول القَوْل (المستنبطة عِلّة بِمَا) أَي بِدَلِيل (يُوجب الظَّن) بعليتها (والتخلف) أَي تخلف الحكم فِي بعض الْموَاد (مشكك) أَي يُوجب الشَّك (فِي عدمهَا) أَي الْعلية (فَلَا يُوجب ظن عدمهَا فَإِنَّهُ) أَي التَّخَلُّف (إِن) كَانَ (لَا لمَانع) . وَفِي بعض النخس بِلَا مَانع (فَلَا عِلّة) لاستناد التَّخَلُّف على هَذَا التَّقْدِير إِلَى عدم الْمُقْتَضى (و) إِن كَانَ (مَعَه) أَي الْمَانِع فالعلة (ثَابِتَة وجوازهما) أَي الِاحْتِمَالَيْنِ وجود الْمَانِع، وَعَدَمه (على السوَاء) . قَالَ الشَّارِح: قَالَ المُصَنّف وَوجه دلَالَة دليلهم على اشْتِرَاط تَقْدِيره أَن قَوْلهم أَن بِلَا عِلّة وَمَعَهُ الْعلية ثَابِتَة فَلم يعلم الْوَاقِع من الْأَمريْنِ وَدَلِيل الْعلية الْقَائِم أوجب ظَنّهَا، فلزوم اعْتِبَار عليتها يُوجب تَقْدِيره (وَأجِيب) عَن هَذَا الدَّلِيل بِأَن التَّخَلُّف (إِن) كَانَ (أوجب الشَّك فِي عدمهَا) أَي الْعلية (أوجب فِي نقيضها) أَي الْعلية، لِأَن الشَّك فِي أحد النقيضين شكّ فِي الآخر (فناقض قَوْلكُم) الْعلَّة (مظنونة) قَوْلكُم الْعلَّة

(4/10)


(مشكوكة) لعدم إِمْكَان اجْتِمَاع الظَّن وَالشَّكّ فِي مَحل وَاحِد. (وَقَول الْفُقَهَاء لَا يرفع الظَّن بِالشَّكِّ: أَي حكمه السَّابِق لَا يرفع شرعا لطرو الشَّك فِيهِ) أَي فِي مَحل الظَّن (المستلزم لارتفاعه) أَي الظَّن (عَن الْبَقَاء) بَعْدَمَا كَانَ مَوْجُودا، فجوز الشَّرْع بَقَاء حكم الزائل فَإِنَّهُ جوز الصَّلَاة مَعَ زَوَال الظَّن الطَّهَارَة بِالشَّكِّ فِي الْحَدث فَلَيْسَ مَعْنَاهُ وجود نفس الظَّن مَعَ طرُو الشَّك فِي مُتَعَلّقه (وَلَا يُمكن مثله) أَي مثل مَا قَالَه الْفُقَهَاء (هُنَا، لِأَنَّهُ) أَي الْكَلَام (فِي ظن الْعلية لَا حكمهَا) فَإِذا زَالَ بِالشَّكِّ حكمنَا بِعَدَمِ اعْتِبَارهَا، لِأَنَّهُ لم يثبت من الشَّارِع جَوَاز الْقيَاس مَعَ زَوَال ظن الْعلية بِالشَّكِّ. ثمَّ لما حكم بِأَن الْحق نقل الِاتِّفَاق على الْمَنْع، وَأول قَول المجوزين لدليلهم الْمَذْكُور، ثمَّ رد ذَلِك الدَّلِيل بِكَوْنِهِ مستلزما للتناقض أَرَادَ تَقْرِير الدَّلِيل على وَجه يسلم عَن التَّنَاقُض، فَقَالَ (وَإِذا لزم من كَلَامهم) أَي المجوزين (تَقْدِير الْمَانِع) على مَا نقل من الِاتِّفَاق وَبَين معنى قَول المجوزين (كفاهم) فِي مُعَارضَة المانعين أَن يَقُولُوا (التَّخَلُّف) أَي تخلف الحكم عَن الْعلَّة فِي مَحل النَّقْض لَا (لمَانع يُوجب نفي ظَنّهَا) أَي الْعلية (وَالدَّلِيل) الدَّال عَلَيْهَا (أوجبه) أَي ظَنّهَا (وَأمكن الْجمع) بَين القَوْل بَان التَّخَلُّف بِلَا مَانع يُوجب نفي الظَّن، وَالدَّلِيل الدَّال على عليتها، أَو بَين دَلِيل الْعلية وَدَلِيل الإهدار، وَهُوَ التَّخَلُّف، فَعمل بِمُوجب الأول فِي غير صُورَة النَّقْض، وَبِالثَّانِي فِي صورته (بتقديره) أَي الْمَانِع، فَيُقَال: نعم التَّخَلُّف بِلَا مَانع يُوجب نَفْيه، لَكِن لَا تخلف هَهُنَا، لأَنا نقدر الْمَانِع، وَالْمَانِع مَوْجُود تَقْديرا احْتِرَازًا عَن إهدار الدَّلِيل بِحَسب الْإِمْكَان (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ فِي المستنبطة ثَانِيًا (لَو توقف الثُّبُوت) للْحكم (بهَا) أَي بالعلية (فِي غير مَحل التَّخَلُّف عَلَيْهِ) أَي على ثُبُوت الحكم (بهَا) أَي بالعلية (فِيهِ) أَي فِي مَحل التَّخَلُّف كَمَا زعمتم أَيهَا الشارطون عدم النَّقْض فِي ثُبُوت الحكم بهَا (انعكس) أَي توقف ثُبُوت الحكم فِي مَحل التَّخَلُّف عَلَيْهِ بهَا فِي غير مَحل التَّخَلُّف (فدار) وَهُوَ ظَاهر (أَولا) ينعكس (فتحكم) أَي فَعدم انعكاسه تحكم، لِأَن ثُبُوت الحكم بهَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ على السوية فِي التَّوَقُّف وَعدم التَّوَقُّف، فإثبات توقف أَحدهمَا دون الآخر تحكم (أُجِيب) بِاخْتِيَار الأول، وَهُوَ التَّوَقُّف من الْجَانِبَيْنِ وَمنع بطلَان اللَّازِم، إِذْ هُوَ (دور معية) لَا دور تقدم (وَهَذَا) الْجَواب (صَحِيح إِذا أُرِيد توقف اعْتِبَار الشَّارِع) كَونهَا عِلّة فِي غير مَحل التَّخَلُّف على اعْتِبَار كَونهَا عِلّة فِي مَحل التَّخَلُّف (لَكِن الْكَلَام فِي الدّلَالَة عَلَيْهَا) أَي على الْعلية، يَعْنِي لَيْسَ الْكَلَام فِي توقف الثُّبُوت على الثُّبُوت بِحَسب التحقق، بل بِحَسب الْعلم وَمَا يفِيدهُ وَيدل عَلَيْهِ وَالْحَاصِل أَن قَوْلهم لَو توقف الثُّبُوت بهَا إِلَى آخِره يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا توقف ثُبُوت الحكم بهَا عِنْد الشَّارِع بِاعْتِبَارِهِ عليتها للْحكم فِي غير مَحل النَّقْض على

(4/11)


ثُبُوت الحكم بهَا كَذَلِك فِي مَحل النَّقْض، وَحِينَئِذٍ يكون التَّوَقُّف من الْجَانِبَيْنِ بِمَعْنى التلازم وَلَا مَحْذُور فِيهِ، وَالثَّانِي توقف الْعلم بعليتها فِي غير مَحل النَّقْض على الْعلم بعليتها لَهُ فِي مَحل النَّقْض وَهَذَا معنى قَوْله (أَي لَو توقف الْعلم بالثبوت بهَا: أَي بعليتها الخ) . قَوْله: أَي بعليتها تَفْسِير للثبوت بهَا من قبيل التَّفْسِير باللازم، فَإِن ثُبُوت الحكم بهَا يلْزمه عليتها (وَإِذن) أَي وَإِذا توقف الْعلم بعليتها فِي غير مَحل النَّقْض على الْعلم بعليتها فِي مَحَله وانعكس (فترتب) أَي فالدور دور تَرْتِيب وَتقدم من الْجَانِبَيْنِ لَا دور معية (لأَنا لَا نعلمها) أَي الْعلية (إِلَّا بالثبوت) أَي بِالْعلمِ بِثُبُوت الحكم (فِي الْكل) فِي جَمِيع صور وجودهَا (فَلَو علم بهَا) أَي بالعلية (الثُّبُوت تقدم كل) مِنْهُمَا على الآخر وَلَا يخفى عَلَيْك أَن الْمُدعى إِثْبَات الترتب والتقدم لكل من الْعلم بعليتها فِي غير مَحل النَّقْض، وَالْعلم بعليتها فِي مَحَله، وَالدَّلِيل يُفِيد إثْبَاته لكل من الْعلم بالعلية وَالْعلم بِثُبُوت الحكم بهَا فِي جَمِيع صور وجودهَا، فالدليل لَا يُطَابق الْمُدعى.
وَاعْلَم أَن هَذَا نَظِير مَا فِي الشَّرْح العضدي من قَوْله لَو توقف كَونهَا أَمارَة، وَهُوَ ثُبُوت الحكم بهَا فِي غير صُورَة التَّخَلُّف على ثُبُوت الحكم بهَا فِي صُورَة التَّخَلُّف لانعكس فتوقف ثُبُوته فِيهَا على ثُبُوته فِي غَيرهَا وَيلْزم الدّور، ثمَّ ذكر أَنه دور معية ثمَّ رده وَقَالَ هَذَا لَيْسَ بِحَق، إِذْ لَا يعلم عليتها إِلَّا بِثُبُوت الحكم بهَا فِي جَمِيع صور وجودهَا، فَلَو علم ثُبُوت الحكم بهَا لزم دور تقدم قطعا، إِذْ مَا بِهِ يعلم الشَّيْء قبل الْعلم بالشَّيْء فالمصنف ترك كَونهَا أَمارَة وَاكْتفى بتفسيره، فالإيراد مُشْتَرك بَينهمَا. وَالْجَوَاب أَن قَوْلهم فِي الِاسْتِدْلَال ثُبُوت الحكم بهَا أُرِيد بِهِ علية الْعلَّة فِي جَانب الْمَوْقُوف فِي التَّوَقُّف الأول لكَونه مَعْنَاهُ وَأُرِيد بِهِ حَقِيقَته، وَهُوَ تحقق الحكم بِسَبَب الْعلَّة فِي جَانب الْمَوْقُوف عَلَيْهِ فِي ذَلِك التَّوَقُّف، فَالْمَوْقُوفُ حِينَئِذٍ الْعلم بعليتها، وَالْمَوْقُوف عَلَيْهِ الْعلم بتحقق الحكم بِسَبَبِهَا، وَفِي التَّوَقُّف الثَّانِي عكس ذَلِك: فَالْمَوْقُوفُ فِيهِ الْعلم بتحقق الحكم بِسَبَبِهَا، وَالْمَوْقُوف عَلَيْهِ الْعلم بعليتها، فانطبق الدَّلِيل على الْمُدعى، غير أَنه لم يذكر المحلين فِي هَذَا التَّقْدِير تسهيلا للفهم مَعَ الِاسْتِغْنَاء عَنهُ فَهُوَ جَوَاب بتفسير يسير للدليل (لِأَن مَا بِهِ الْعلم قبله) تَعْلِيل لتقدم كل من الْعلم بالعلية وَالْعلم بالثبوت، يَعْنِي مَا يحصل بِهِ الْعلم بالشَّيْء الْعلم بِهِ قبل الْعلم بذلك الشَّيْء (وَحِينَئِذٍ) أَي وَحين قرر الِاسْتِدْلَال على هَذَا الْوَجْه (الْجَواب) عَن الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور (منع لُزُوم الانعكاس و) منع لُزُوم (التحكم) على تَقْدِير عدم الانعكاس (إِذْ ابْتِدَاء ظن الْعلية) إِنَّمَا يكون (بِأحد المسالك) لِلْعِلَّةِ من الْمُنَاسبَة وَغَيرهَا على مَا بَين فِي مَوْضِعه فبذلك يحصل الظَّن بهَا، غير أَنه يبْقى احْتِمَال ظُهُور مَا يُنَافِيهِ (فَإِذا استقرئت الْمحَال) لِلْعِلَّةِ (لاستعلام معارضه) أَي لطلب الْعلم بِوُجُود مَا يُعَارض ذَلِك الْمُوجب للظن (من التَّخَلُّف) بِأَن تُوجد الْعلَّة فِي مَحل وَلَا يُوجد

(4/12)


فِيهِ الحكم (لَا لمَانع) مُتَعَلق بالتخلف، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ لمَانع لَا يضر بعليتها (فَلم يُوجد) التَّخَلُّف مَعْطُوف على استقرئت (اسْتمرّ) الظَّن الْحَاصِل بِأحد المسالك (فاستمراره) أَي الظَّن الْمَذْكُور هُوَ (الْمَوْقُوف على الثُّبُوت) أَي على الْعلم بِثُبُوت الحكم فِي جَمِيع الْمحَال (أَو) على (عَدمه) أَي عدم الثُّبُوت فِي بعض الْمحَال (مَعَ الْمَانِع، وَالْحكم بالثبوت) أَي بِثُبُوت الحكم (بِهِ) أَي بِالْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الْعلَّة يتَوَقَّف (على ابْتِدَاء ظَنّهَا) أَي علية الْوَصْف الْمَذْكُور (فِي الْجُمْلَة) لما بَين عدم توقف الْعلم بالعلية على الثُّبُوت انْدفع بذلك الدّور، ثمَّ أَرَادَ أَن يبين التَّوَقُّف من جَانب الثُّبُوت بهَا فَقَالَ وَالْحكم الخ: يَعْنِي الْعلم بِأَن الحكم ثَابت بِالْعِلَّةِ يتَوَقَّف على ابْتِدَاء ظَنّهَا الْحَاصِل بِأحد المسالك فِي بعض الْموَاد، وَالْمرَاد نفي الْعلَّة أصل الظَّن من غير قيد الِاسْتِمْرَار فقد علم بذلك أَن توقف الْعلم بالعلية على الثُّبُوت فِي الْكل إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار اسْتِمْرَار الظَّن بهَا، لَا بِاعْتِبَار أصل الظَّن، وَتوقف الْعلم بالثبوت إِنَّمَا هُوَ على ابْتِدَاء الظَّن، فالاستمرار الَّذِي هُوَ الْمَوْقُوف فِي التَّوَقُّف الأول لم يصر مَوْقُوفا عَلَيْهِ فِي التَّوَقُّف الثَّانِي حَتَّى يلْزم الانعكاس بل الْمَوْقُوف عَلَيْهِ فِي التَّوَقُّف الثَّانِي إِنَّمَا هُوَ ابْتِدَاء الظَّن الْحَاصِل بِأحد المسالك. (وَاسْتشْكل) الْجَواب الْمَذْكُور (بِمَا إِذا قَارن) ظن الْعلية (الْعلم بالتخلف) أَي تخلف الحكم عَن الْعلَّة (كَمَا لَو سَأَلَهُ فقيران) : غير فَاسق، وفاسق (فَأعْطى أَحدهمَا) وَهُوَ غير الْفَاسِق (وَمنع الْفَاسِق) فالمشاهد لصنيعه يشك بِسَبَب ذَلِك الْمَنْع فِي أَن عِلّة الْإِعْطَاء هَل هُوَ الْفقر أَو غَيره فَلَا يحصل لَهُ الْعلم بعليته، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَإِن الْعلم بعلية الْفقر يتَوَقَّف على الْعلم بمانعية الْفسق) من تحقق الحكم وَهُوَ الْإِعْطَاء فَإِن ظهر أَن بِالْفِسْقِ منع علم أَن الْفقر هُوَ الْعلَّة وَإِنَّمَا تخلف الحكم عَنهُ فِي الْمَمْنُوع بِسَبَب الْفسق الْمَانِع من تَأْثِيره، والاعلم أَنه لَيْسَ بعلة وَإِلَّا يلْزم تخلف الْمَعْلُول عَن الْعلَّة (وَبِالْعَكْسِ) أَي ويتوقف الْعلم بمانعية الْفسق على الْعلم بعلية الْفقر لِأَنَّهُ لَو كَانَ الْعلَّة أمرا آخر مفقودا فِي الْمَمْنُوع كَانَ عدم الْإِعْطَاء لعدم الْمُقْتَضى لَا لوُجُود الْمَانِع، فَحِينَئِذٍ توقف الْعلم بِثُبُوت الحكم بِهِ على الْعلم بالعلية فِي حق من أعْطى فَلَزِمَ الدّور، وَإِذا علم أَن الْجَواب الْمَذْكُور لَا يدْفع الدّور فِي صُورَة الْمُقَارنَة (فَالصَّوَاب) فِي الْجَواب مَا يدْفع الدّور فِي جَمِيع الصُّور وَهُوَ (أَن المتوقف على الْعلم بالعلية الْعلم بالمانعية بِالْفِعْلِ) لَا المانعية بِالْقُوَّةِ لِأَنَّهُ قد يعلم كَون الشَّيْء بِحَيْثُ إِذا جَامع وَصفا منع مُقْتَضَاهُ مَعَ أَن ذَلِك الْوَصْف لم تعلم عليته بِالنِّسْبَةِ إِلَى حكم بِخِلَاف الْعلم بتحقق المانعية فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر بِدُونِ الْعلم بعلية الْوَصْف للْحكم للْعلم بتخلفه عَنهُ فِي بعض الْموَاد بِسَبَب الْمَانِع (والمتوقف عَلَيْهِ الْعلية هُوَ المانعية بِالْقُوَّةِ، وَهُوَ) أَي المانعية بِالْقُوَّةِ، والتذكير بِاعْتِبَار الْخَبَر (كَون الشَّيْء بِحَيْثُ إِذا جَامع باعثا مَنعه) أَي الْبَاعِث (مُقْتَضَاهُ) فَفِي الْمِثَال الْمَذْكُور علمنَا بِأَن الْفسق منع عَن

(4/13)


الْإِعْطَاء مَوْقُوف على الْعلم بِكَوْن الْفقر عِلّة لَهُ وَلَكِن علمنَا بِأَن الْفقر عِلّة لَهُ لَا يتَوَقَّف على علمنَا بِأَن الْفسق قد يمْنَع بل يَكْفِي فِيهِ أَن الْفسق من شَأْنه أَن يمْنَع فَظن الْعلية المقرون بتخلف الْإِعْطَاء لَا يحْتَاج إِلَى الْعلم بِأَن الْفسق قد منع بل يَكْفِيهِ كَون الْفسق بِحَيْثُ إِذا جَامع الْفقر يمنعهُ مُقْتَضَاهُ (وَهَذَا) الدَّلِيل مَعَ جَوَابه (مُشْتَرك) صَالح (للقولين) اللَّذين أَحدهمَا جَوَاز النَّقْض فِي المنصوصة والمستنبطة، وَالْآخر جَوَازه فِي المستنبطة فَقَط (وَيزِيد الْمَانِع فِي المنصوصة) فِي تَعْلِيل الْمَنْع قَوْله (باستلزامه) أَي النَّقْض فِيهَا، فتقرير الْكَلَام لَا يجوز فِي المنصوصة بِسَبَب استلزامه (بطلَان النَّص لمقْتَضى الثُّبُوت) أَي ثُبُوت الحكم (فِي مَحل التَّخَلُّف) لتناول النَّص الْمَذْكُور إِيَّاه (بِخِلَاف المستنبطة) فَإِن دليلها يَسْتَدْعِي ترَتّب الحكم عَلَيْهَا عِنْد خلوها عَن الْمَانِع فَلَا تخلف للْحكم عَن هَذَا الدَّلِيل عِنْد وجود الْمَانِع (أُجِيب) عَن هَذِه الزِّيَادَة بِأَنَّهُ (إِن) كَانَ النَّص (قَطْعِيا) يقطع (بالثبوت) أَي ثُبُوت الحكم (فِي مَحل التَّخَلُّف لم يقبل) عُمُوم ذَلِك النَّص الدَّال على علية المنصوصة الثَّابِت مَعهَا الحكم فِي مَحل التَّخَلُّف قطعا (التَّخْصِيص) بِمَا عدا مَحل التَّخَلُّف، لِأَن ثُبُوت الحكم فِيهِ قَطْعِيّ فَلَا تخلف حِينَئِذٍ (أَو) كَانَ النَّص الْمَذْكُور (ظنيا) فَكَانَ ثُبُوت الحكم فِي مَحل التَّخَلُّف بِمُقْتَضى ذَلِك النَّص ظنيا (وَجب قبُوله) أَي قبُول عُمُوم ذَلِك النَّص الظني التَّخْصِيص (و) وَجب (تَقْدِير الْمَانِع جمعا) بَين الدَّلِيلَيْنِ أَحدهمَا مَا يُفِيد ظن الْعلية، وَالْآخر مَا يُفِيد إهدارها، وَهُوَ التَّخَلُّف (وَأَنت علمت مَا يكفيهم) فِي الْجَواب عَن هَذَا من أَن التَّخَلُّف لَا لمَانع يُوجب نفي ظَنّهَا، وَالدَّلِيل أوجبه وَأمكن الْجمع بتقديره فَوَجَبَ (فَإِنَّمَا هَذَا) أَي التَّطْوِيل فِي الْبَيَان مَعَ الِاسْتِغْنَاء بِمَا يَكْفِي فِي أَدَاء المُرَاد وَدفع الْإِيرَاد (من تَصَرُّفَات المولعين بِنَقْل الْخلاف دون تَحْرِير) منقح عَن الإطناب المخل (وللعاكس) للْجُوَاز فِي المستنبطة لَا المنصوصة بتجويره فِي المنصوصة لَا المستنبطة (نَحوه) أَي نَحْو هَذَا الدَّلِيل الْمَذْكُور للْجُوَاز فِي المستنبطة، وَهُوَ قَوْلهم (لَو صحت المستنبطة مَعَ نقضهَا كَانَ) كَونهَا صَحِيحَة (للمانع) أَي لوُجُود الْمَانِع فِي مَحل النَّقْض (فتوقفت صِحَّتهَا) حَال كَونهَا (منقوضة عَلَيْهِ) أَي الْمَانِع (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتَوَقَّف عَلَيْهِ وَجَاز التَّخَلُّف بِلَا مَانع (فَلَا اقْتِضَاء) لتِلْك الْعلَّة (وتحققه) أَي الْمَانِع (فرع صِحَة عليتها) إِذْ لَو لم تصح الْعلية لَكَانَ عدم الحكم لعدم الْعلَّة لَا لوُجُود الْمَانِع فتوقف الصِّحَّة على الْمَانِع وَالْمَانِع على الصِّحَّة (فدار أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي هَذَا الدّور (معية) أَي دور معية كَمَا مر فِي جَوَاب الِاسْتِدْلَال السَّابِق. (وَدفع) هَذَا الْجَواب (بِأَن حَقِيقَة المُرَاد) من الْمَوْقُوف وَالْمَوْقُوف عَلَيْهِ (الْعلم بِالصِّحَّةِ) أَي صِحَة الْعلية (والمانعية) أَي وَالْعلم بالمانعية، وَإِضَافَة الْحَقِيقَة إِلَى المُرَاد من قبيل إِضَافَة حُصُول الصُّورَة: أَي المُرَاد الْحق وَفِي

(4/14)


ذكر الْحَقِيقَة مَوضِع الْحق مُبَالغَة، وَإِذا كَانَ الْعلم بِالصِّحَّةِ مَوْقُوفا على الْعلم بالمانعية وَبِالْعَكْسِ كَانَ الدّور دور ترَتّب، إِذْ مَا بِهِ الْعلم بالشَّيْء قبل الْعلم بذلك الشَّيْء بِالذَّاتِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَهُوَ) أَي توقف كل مِنْهُمَا على الآخر (ترَتّب) أَي دور تقدم (بل الْجَواب أَنا نظن صِحَّتهَا) أَي الْعلية (أَولا بِمُوجبِه) أَي الظَّن (ثمَّ نستقرئ الخ) أَي الْمحَال لاستعلام معارضه من التَّخَلُّف، لَا لمَانع فَإِن لم نجد اسْتمرّ الظَّن بِصِحَّتِهَا إِلَى آخر مَا ذكر قَرِيبا فَارْجِع إِلَيْهِ (وَيجْرِي فِيهِ) أَي فِي هَذَا الْجَواب مَا جرى فِي الْجَواب السَّابِق، وَهُوَ (إِشْكَال الْمُقَارنَة) أَي إِذا كَانَ الْعلم بالتخلف مُقَارنًا للْعلم بِالصِّحَّةِ لَا يَتَأَتَّى الْجَواب، فَإِن الْمَوْقُوف على الْعلم بالمانعية إِنَّمَا هُوَ الِاسْتِمْرَار (وَدفعه) أَي وَيجْرِي أَيْضا دفع الْإِشْكَال الْمَذْكُور بِأَن يُقَال مَا يتَوَقَّف على الْعلم بِالصِّحَّةِ وَهُوَ الْعلم بالمانعية بِالْفِعْلِ إِنَّمَا هُوَ الِاسْتِمْرَار، وَمَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْعلم بِالصِّحَّةِ هُوَ الْعلم بالمانعية بِالْقُوَّةِ على مَا مر (وَجه) الْمَذْهَب (الْمُخْتَار) من أَن عدم النَّقْض فِي كل من المنصوصة لَيْسَ بِشَرْط فِي صِحَّتهَا (أَنه) أَي التَّخَلُّف وَعدم ثُبُوت الحكم فِي مَحل النَّقْض (تَخْصِيص لعُمُوم دَلِيل حكم) وَهُوَ مَا يدل عَلَيْهِ الْوَصْف من نَص فِي المنصوصة وَأحد المسالك فِي المستنبطة، وَالْحكم كَون الْوَصْف عِلّة، وعمومه شُمُوله جَمِيع صور وجود الْعلَّة بِاعْتِبَار ثُبُوت الحكم، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِدَلِيل الحكم الْعلَّة وبالحكم مَا هُوَ الْمُتَعَارف (فَوَجَبَ قبُوله) أَي قبُول تَخْصِيص عُمُومه (كاللفظ) أَي كَمَا يجب قبُول تَخْصِيص عُمُوم اللَّفْظ عِنْد وجود مَا يَقْتَضِيهِ. (وَمَا قيل) مَا مَصْدَرِيَّة وَالتَّقْدِير، وَقَوْلهمْ (الْخلاف مَبْنِيّ على الْخلاف فِي قبُول الْمعَانِي الْعُمُوم) أَو مَوْصُولَة، وَالتَّقْدِير: أَعنِي الْخلاف إِلَى آخِره، أَو الْمحل بدل من الْمَوْصُول: يَعْنِي الْخلاف الْمَذْكُور فِي هَذَا الْمقَام مَبْنِيّ على الْخلاف الْوَاقِع فِي قبُول الْمعَانِي الْعُمُوم (فالمانع) ثمَّ أَن لَهَا عُمُوما (إِذْ) الْمَعْنى وَاحِد (لَا تعدد إِلَّا فِي محاله) بِخِلَاف الْأَلْفَاظ لشمولها المتعدد بِذَاتِهِ (مَانع هُنَا) من تَخْصِيص الْعلَّة لِأَنَّهَا معنى، وَالْمعْنَى لَا يقبل الْعُمُوم، والتخصيص فرع الْعُمُوم (غير لَازم) خبر لقَوْله مَا قيل، وَقَول الشَّارِح الْخلاف مُبْتَدأ وَخَبره غير لَازم غير مُسْتَقِيم وَهُوَ ظَاهر (لوُقُوع الِاتِّفَاق حِينَئِذٍ) أَي حِين كَانَت حجَّة الْمَانِع هَذَا (على تعدد محاله) أَي الْمَعْنى (وَالْكَلَام هُنَا) أَي فِي تَخْصِيص الْعلَّة (لَيْسَ إِلَّا باعتبارها) أَي محالها، والمناقشة بِأَن التَّخْصِيص فرع الْعُمُوم، وَالْمعْنَى لَا يُوصف بِالْعُمُومِ غير موجه (إِذْ حَاصله) أَي حَاصِل تَخْصِيص الْعلَّة (أَنه) أَي الْوَصْف الَّذِي هُوَ الْعلَّة (يُوجب الحكم فِي محاله) أَي فِي محَال ذَلِك الْوَصْف (إِلَّا مَحل الْمَانِع) وَإِذا صَحَّ حَاصِل الْمَعْنى المُرَاد فالمضايقة فِي التَّعْبِير بِلَفْظ التَّخْصِيص لَيْسَ من دأب المحصلين (وَالْمَانِع هُوَ دَلِيل التَّخْصِيص. وَبِه) أَي بِمَا ذكر من معنى تَخْصِيص الْعلَّة المستلزم عِنْد اعْتِبَارهَا لُزُوم الحكم لمُطلق الْعلَّة فِي جَمِيع الصُّور لكَون المخصصة من جملَة أفرادها

(4/15)


(انْدفع قَول المانعين) من تَخْصِيص الْعلَّة (أَنه) أَي تخصيصها (تنَاقض لَا تَخْصِيص، لِأَن دَلِيل الْعلية يُوجب قَوْله) أَي الشَّارِع لَا الْمُعَلل كَمَا زعم الشَّارِح (هَذَا الْوَصْف مُؤثر فِي الحكم كَقَوْلِه جعلته أَمارَة عَلَيْهِ) أَي كَمَا أَنه يُوجب قَوْله جعلته أَمارَة على الحكم (أَيْنَمَا وجد) الْوَصْف الْمَذْكُور، فَقَوله أَيْنَمَا مُتَعَلق بِكُل من التَّأْثِير، والجعل على سَبِيل التَّنَازُع، وَإِنَّمَا انْدفع قَوْلهم لِأَن دَلِيل الْعلية لَا يُوجب جعله أَمارَة عَلَيْهِ أَيْنَمَا وجد (بل فِي غير مَحل التَّخَلُّف) فَإِن قلت دليلها لَا يخْتَص بِغَيْر مَحل التَّخَلُّف، فَإِن نسبته إِلَى جَمِيع الْمحَال على السوية قلت نعم وَلَكِن فِي مَحل التَّخَلُّف يَقع مُعَارضَة بَينه وَبَين دَلِيل التَّخْصِيص فَيعْمل بِمُقْتَضَاهُ فِي غير مَحل التَّخَلُّف. وبمقضتى دَلِيل التَّخْصِيص فِي مَحَله احْتِرَاز عَن إهدار أحد الدَّلِيلَيْنِ بِالْكُلِّيَّةِ، فَلَمَّا كَانَ فِي مَحل التَّخَلُّف مَانع عَن إِيجَاب مُقْتَضَاهُ صَحَّ قَوْلنَا لَا يُوجب جعله أَمارَة فِي مَحل التَّخَلُّف بل فِي غَيره (غير أَنا إِذا قَطعنَا بِانْتِفَاء الحكم فِي بعض محاله) أَي الْوَصْف (مَعَ النَّص على الْعلَّة، وَلم يظْهر مَا يَصح إِضَافَة التَّخَلُّف إِلَيْهِ) من أَمر معِين مَانع عَن تَأْثِير الْعلَّة فِي مَحل الانتفاء (قَدرنَا مَانِعا) على سَبِيل الْإِجْمَال فِي ذَلِك الْمحل (جمعا بَين الدَّلِيلَيْنِ) دَلِيل الْعلية وَدَلِيل الإهدار على مَا مر (وَهُوَ) أَي الْجمع بالتقدير أَو التَّقْدِير للْجمع (أولى من إبِْطَال دَلِيل الْعلَّة) يرد عَلَيْهِ أَن الْأَوْلَوِيَّة تَقْتَضِي جَوَاز إِبْطَاله مرجوحا وَالْمَفْهُوم مِمَّا سبق عدم جَوَازه، وَذَلِكَ أَن تَقول إِذا ثَبت أَوْلَوِيَّة الْجمع وَجب على الْمُجْتَهد الْعَمَل بِهِ لِئَلَّا يلْزم تَرْجِيح الْمَرْجُوح وَإِذا وَجب لم يجز الْإِبْطَال. (وَمَا قيل) على مَا أَشَارَ إِلَيْهِ صدر الشَّرِيعَة وَقرر فِي التَّلْوِيح من أَن (التَّخْصِيص ملزوم للمجاز) أَي يلْزمه اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي غير مَا وضع لَهُ، وَذَلِكَ لِأَن اللَّفْظ الْمَوْضُوع بِإِزَاءِ مَجْمُوع إِذا أخرج مِنْهُ الْبَعْض وَاسْتعْمل فِيهِ كَانَ بِالضَّرُورَةِ مُسْتَعْملا فِي غير مَا وضع لَهُ (الْمَلْزُوم للفظ) وَإِنَّمَا وصف الْمجَاز بالملزومية بِاللَّفْظِ لَا باللزوم لَهُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِم للفظ، على أَن اللَّازِم قد يتَحَقَّق بِدُونِ الْمَلْزُوم، وَأَن الْمَقْصُود أَن غير اللَّفْظ لَا يُوصف بِهِ (منع) خبر للموصول (بِأَن الْمَلْزُوم للمجاز مِنْهُ) أَي من التَّخْصِيص (تَخْصِيص اللَّفْظ لَا) التَّخْصِيص حَال كَونه (مُطلقًا، بل هُوَ) أَي التَّخْصِيص مُطلقًا (أَعم) من أَن يكون ملزوما للمجاز أَولا، فَالْمَعْنى الْأَعَمّ لَهُ مثل أَن يُقَال هُوَ بَيَان إِرَادَة الْبَعْض من مُتَعَدد حكم عَلَيْهِ بِحكم يَشْمَل الْمَجْمُوع لَو لم يبين المُرَاد سَوَاء كَانَ مدلولا لفظا أَولا، والمتعدد هَهُنَا موارد الْعلَّة الْمَحْكُوم عَلَيْهَا بِثُبُوت الحكم فِيهَا وَالْبَعْض المُرَاد مَا لم يكن فِيهِ مَانع من ثُبُوت حكمه (قَالُوا) أَي المانعون الْمَوْجُود الْعلَّة فِي غير مَحل التَّخَلُّف (إِذْ لَا بُد فِي صِحَّتهَا من الْمَانِع) أَي من عدم الْمَانِع. قَالَ الشَّارِح سقط لفظ عدم من الْقَلَم (وَوُجُود الشَّرْط فعدمه) أَي الْمَانِع (ووجوده) أَي الشَّرْط (جُزْء الْعلَّة لِأَن الْمَجْمُوع) مِنْهُمَا وَمن الْوَصْف هُوَ (المستلزم) للْحكم وَقد وجد الْمَانِع أَو فقد الشَّرْط فِي مَحل التَّخَلُّف فَلم يُوجد

(4/16)


تَمام الْعلَّة (قُلْنَا فَرجع) حِينَئِذٍ (لفظيا مَبْنِيا على تَفْسِيرهَا: أَهِي الْبَاعِث) على الحكم فَلَا يلْزم من عدم الحكم عدمهَا، لِأَن الْعلَّة الباعثة قد يتَخَلَّف عَنْهَا الْمَعْلُول لمَانع أَو فَوَات شَرط (أَو) هِيَ (جملَة مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ) الحكم فَلَا يُمكن أَن يتَخَلَّف عَنْهَا فَحَيْثُ لم يُوجد الحكم يحكم لعدمها (لَكِن الْحق خطؤكم) فِي جعلكُمْ الْعلَّة هَهُنَا جملَة مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ (لتفسيركم) الْعلَّة (بالمؤثر) كَمَا نفسرها بِهِ (وَالشّرط وَعدم الْمَانِع لَا دخل لَهما فِي التَّأْثِير بموافقتكم) مَعنا فِي هَذَا، فالمجموع الْمركب من الْمُؤثر وَغَيره لَا يصدق عَلَيْهِ أَنه مُؤثر (وَأما إِلْزَام تصويب كل مُجْتَهد) على القَوْل بِجَوَاز تَخْصِيص الْعلَّة فَإِن كل مُجْتَهد إِذا ورد عَلَيْهِ النَّقْض فِي عليته لَهُ أَن يَقُول خصت بِمَا عدا تِلْكَ الْمَادَّة، وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه لَا ينْحَصر إبِْطَال دَلِيله فِي النَّقْض حَتَّى يتَخَلَّص فِي كل بحث بِهَذَا الْجَواب، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فمنتف لِأَن ادعاءه علية الْوَصْف لَا يقبل مِنْهُ أَولا إِلَّا بِدَلِيل) وَيتَّجه عَلَيْهِ أَنْوَاع من الْإِبْطَال (وَمَعَ التَّخَلُّف لَا يقبل مِنْهُ) أَنه امْتنع الحكم فِي مَحل كَذَا لمَانع (إِلَّا أَن يبين مَانِعا، وَإِنَّمَا ذَلِك) أَي قبُول مَا ذكر (لَازم مَعَ إِجَازَته) أَي الْبَعْض (بِلَا تَعْيِينه كَمَا حررناه) وَعرفت من أَن الْحق أَنه لَا بُد من بَيَان مَانع صَالح للتخصيص (أَو) إِجَازَته (بِلَا مَانع كَمَا قيل أَو دَلِيل) مَعْطُوف على إِجَازَته: أَي لَا يقبل مِنْهُ ادِّعَاء الْعلية مَعَ التَّخَلُّف إِلَّا مَعَ دَلِيل يدل على اعْتِبَار عليته مَعَ التَّخَلُّف. (وَقَوْلهمْ: صِحَة الْعلية تَسْتَلْزِم ثُبُوت الحكم فِي مَحل التَّخَلُّف لَيْسَ بِشَيْء بَعْدَمَا ذَكرْنَاهُ) من وجوب الْجمع بَين دليلي الْعلَّة والتخلف. (وَقَوْلهمْ تعَارض دَلِيل الِاعْتِبَار) لِلْعِلَّةِ (و) دَلِيل (الإهدار فَلَا اعْتِبَار) بِشَيْء مِنْهَا للتساقط فَلَا علية (مَمْنُوع لِأَن التَّخَلُّف لَيْسَ دَلِيل الإهدار إِلَّا بِلَا مَانع) فِي الشَّرْح العضدي اخْتلف فِي جَوَاز النَّقْض على مَذَاهِب: أَولهَا يجوز مُطلقًا، ثَانِيهَا لَا يجوز مُطلقًا، ثَالِثهَا يجوز فِي المنصوصة دون المستنبطة، رَابِعهَا يجوز فِي المستنبطة لمَانع أَو عدم شَرط دون المنصوصة، خَامِسهَا يجوز فِي المستنبطة وَلَو بِلَا مَانع أَو عدم شَرط دون المنصوصة. ثمَّ ذكر مذهبا مُخْتَارًا حَاصله أَنه لَا بُد من مَانع أَو عدم شَرط، لَكِن فِي المستنبطة يجب الْعلم بِعَيْنِه، وَفِي المنصوصة يَكْفِي التَّقْدِير، وَمَا ذكره المُصَنّف من الْمذَاهب خَمْسَة: أَولهَا لَا يجوز فِي المستنبطة والمنصوصة، ثَانِيهَا لَا يجوز فِي المستنبطة وَيجوز فِي المنصوصة، ثَالِثهَا يجوز بمانع أَو عدم شَرط فيهمَا، ورد إِلَى هَذَا مُخْتَار الْمُحَقِّقين من الْجَوَاز فِي المستنبطة إِذا تعين الْمَانِع، وَفِي المنصوصة بِنَصّ عَام: لَكِن إِن لم يتَعَيَّن قدر، رَابِعهَا الْجَوَاز فيهمَا، خَامِسهَا يجوز فِي المستنبطة بِلَا مَانع دون المنصوصة. فَأول مَا فِي الْعَضُد رَابِع المُصَنّف، وثانيه أَوله، وثالثه ثَانِيه، وخامسه خامسه، وَأما رابعه وَهُوَ الْجَوَاز فِي المستنبطة لمَانع أَو عدم شَرط دون المنصوصة فَلَيْسَ فِي أَقسَام المُصَنّف: كَمَا أَن ثَالِث المُصَنّف، وَهُوَ الْجَوَاز فِي المستنبطة

(4/17)


لمَانع أَو عدم شَرط لَيْسَ فِي أقسامه، وَالْمُصَنّف من أَئِمَّة النَّقْل وَهُوَ مُخْتَار مُتَحَقق.
(تَنْبِيه: قسم المصححون) لتخصيص الْعلَّة (مَعَ الْمَانِع من الْحَنَفِيَّة الْمَوَانِع إِلَى خَمْسَة) الأول (مَا يمْنَع انْعِقَاد الْعلَّة كَبيع الْحر) فَإِن الْحُرِّيَّة المستلزمة لعدم الْمَحَلِّيَّة للْبيع تمنع انْعِقَاد البيع فَإِنَّهُ عبارَة عَن مُبَادلَة المَال بِالْمَالِ، وَالْحر لَيْسَ بِمَال، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَهُوَ) أَي الْمَانِع من انْعِقَادهَا هَهُنَا (انْتِفَاء محلهَا) أَي مَحل الْعلَّة الَّتِي هِيَ البيع (وَلَا عِلّة فِي غير مَحل. و) الثَّانِي مَا يمْنَع (تَمامهَا) أَي الْعلَّة (فِي حق غير الْعَاقِد كَبيع عبد الْغَيْر) من غير ولَايَة لَهُ عَلَيْهِ فَإِن بَيْعه عِلّة (تَامَّة فِي حق الْعَاقِد) حَتَّى لَا يبْقى لَهُ ولَايَة إِبْطَاله (لَا) فِي حق (الْمَالِك) وَكَذَا يبطل بِمَوْتِهِ وَلَا يتَوَقَّف على إجَازَة وَارثه (فَجَاز) البيع (بإجازته) أَي الْمَالِك (وَبَطل بإبطاله. و) الثَّالِث (مَا يمْنَع ابْتِدَاء الحكم كَخِيَار الشَّرْط للْبَائِع يمْنَع الْملك) ابْتِدَاء (للْمُشْتَرِي) وَإِن انْعَقَد البيع تَاما، فالمنع بِاعْتِبَار ترَتّب الحكم ابْتِدَاء على الْعلَّة. (و) الرَّابِع مَا يمْنَع (تَمَامه) أَي تَمام الحكم وَلَا يمْنَع أَصله (كَخِيَار الرُّؤْيَة لَا يمْنَع ثُبُوته) أَي الحكم وَهُوَ الْملك (لَكِن لَا يتم) الحكم (بِالْقَبْضِ مَعَه) أَي مَعَ خِيَار الرُّؤْيَة (ويتمكن من لَهُ الْخِيَار من الْفَسْخ بِلَا قَضَاء و) لَا (رضَا) للمتعاقد الآخر، وَكَانَ غير لَازم. (و) الْخَامِس مَا يمْنَع (لُزُومه) أَي الحكم (كَخِيَار الْعَيْب يثبت) الحكم (مَعَه تَاما) حَتَّى لَا يكون لَهُ ولَايَة التَّصَرُّف فِي الْمَبِيع (وَلَا يتَمَكَّن من الْفَسْخ بعد الْقَبْض إِلَّا بتراض) من الْمُتَعَاقدين (أَو قَضَاء) وَإِنَّمَا اخْتلفت مَرَاتِب الخيارات بِكَوْن الأول مَا خلا على الحكم فَهُوَ مَعَه، وَتمّ قبل وجوده، وَفِي الثَّانِي صدر البيع مُطلقًا عَن الشَّرْط فَأوجب الحكم لَكِن غير تَامّ لاحْتِمَال زَوَال الرِّضَا عِنْد الرُّؤْيَة، وَفِي الثَّالِث ثمَّ السَّبَب وَالرِّضَا لوُجُود الرُّؤْيَة، لَكِن قُلْنَا بِعَدَمِ اللُّزُوم لاحْتِمَال تضرر المُشْتَرِي بِظُهُور الْعَيْب وَلذَا يتَمَكَّن من رد بعض الْمَبِيع بعد الْقَبْض، لِأَنَّهُ تَفْرِيق للصفقة بعد التَّمام وَإنَّهُ جَائِز، وَلَا يتَمَكَّن مِنْهُ فِي خِيَار الرُّؤْيَة لِأَنَّهُ تَفْرِيق قبل التَّمام وَهُوَ غير جَائِز. ثمَّ الْمَوَانِع خَمْسَة عِنْد جمَاعَة كفخر الْإِسْلَام وشمس الْأَئِمَّة وَغَيرهمَا، والحصر استقرائي، وَعند القَاضِي أبي زيد وَبَعض (7) أَرْبَعَة يَجْعَل خِيَار الرُّؤْيَة وَالْعَيْب مِمَّا يمْنَع من لُزُوم الحكم (وَخرج بَعضهم) أَي الْحَنَفِيَّة (على الْخلاف) فِي تَخْصِيص الْعلَّة (فرعا على مَذْهَبهم) وَهُوَ الصَّائِم (النَّائِم إِذا صب حلقه مَاء فسد) صَوْمه (عِنْدهم لفَوَات رُكْنه) وَهُوَ الْإِمْسَاك عَن الْمُفطر (فَهُوَ) أَي فَوَات الرُّكْن (عِلّة الْفساد) أَي (تخلف) الحكم (عَنْهَا) أَي عَن الْعلَّة الْمَذْكُورَة (فِي النَّاسِي) أَي فِي الصَّائِم الَّذِي أكل وَشرب نَاسِيا فَإِن الْعلَّة وَهِي فَوَات الرُّكْن أعنى الْإِمْسَاك مَوْجُود فِيهِ، وَالْحكم وَهُوَ الْفساد غير مَوْجُود فِيهِ (فالمجيز) تَخْصِيص الْعلَّة يَقُول: تخلف الحكم

(4/18)


(لمَانع هُوَ الحَدِيث) الدَّال على عدم فَسَاد صَوْم النَّاسِي كَونه صَائِما بِفَوَات رُكْنه (مَعَ وجود الْعلَّة وَالْمَانِع) تَخْصِيص الْعلَّة، يَقُول: تخلف الحكم (لعدمها) أَي الْعلَّة الْمَذْكُورَة (حكما) تَمْيِيز عَن نِسْبَة الْعَدَم إِلَى الضَّمِير، يَعْنِي أَن فَوَات الرُّكْن وَإِن كَانَ مَوْجُودا صُورَة لكنه مَعْدُوم حكما: أَي فِي حكم الْمَعْدُوم (لِأَن فعل النَّاسِي) وَهُوَ الْأكل وَالشرب (نسب إِلَى مُسْتَحقّ الصَّوْم لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فِي جَوَاب من استفتاه عَن أكله وشربه نَاسِيا (إِنَّمَا أطعمك الله وسقاك) والمستحق هُوَ الله سُبْحَانَهُ، لِأَن الصَّوْم عبَادَة وَلَا يسْتَحق الْعِبَادَة إِلَّا هُوَ، وَإِنَّمَا قَالَ فعل النَّاسِي نسب إِلَيْهِ، مَعَ أَن فعله الطّعْم وَالشرب، والمنسوب إِلَيْهِ الْإِطْعَام، والسقي لِأَن مَدْلُول الحَدِيث بِحَسب سِيَاق كَلَام السَّائِل الظَّان فَسَاد الصَّوْم بِالْفِعْلِ الْمُضَاف إِلَى الصَّائِم المفوت ركن الصَّوْم سلب إِضَافَته إِلَى العَبْد، لِأَنَّهُ لَو لم يرد ذَلِك لم يَصح إِيرَاد هَذَا الْكَلَام فِي معرض التَّعْلِيل على عدم الْفساد فَإِن قلت كَيفَ يَصح سلب إِضَافَته إِلَيْهِ مَعَ أَنه صدر عَنهُ بِالْحَقِيقَةِ قلت هَذَا من قبيل قَوْله تَعَالَى - {وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى} - (فَكَانَ أكله كلا أكل) لإِسْقَاط إِضَافَته إِلَيْهِ ونسبته إِلَى من لَهُ الصَّوْم (فَبَقيَ الرُّكْن) وَهُوَ الْإِمْسَاك (حكما) وَإِن انْتَفَى صُورَة لعدم الِاعْتِدَاد بِمَا يُنَافِيهِ لما ذكر (والمصبوب فِي فِيهِ) المَاء (لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ) أَي فِي معنى النَّاسِي (إِذْ لَيْسَ) الصاب (مُضَافا إِلَى الْمُسْتَحق) للصَّوْم ليَكُون صبه بِمَنْزِلَة إطعامه سُبْحَانَهُ وَيصير شربه كلا شرب بِنِسْبَة فعل الشَّارِب إِلَيْهِ (فَلم يسْقط اعْتِبَاره) أَي اعْتِبَار الْمُفطر أَو فَوَات الرُّكْن فِي تَأْثِيره فِي فَسَاد الصَّوْم (بِخِلَاف) الصَّائِم (السَّاقِط فِي حلقه نَائِما مطر) فَإِنَّهُ لَا يفْسد صَوْمه (كَمَا هُوَ مُقْتَضى النّظر) فَإِن إِسْقَاط الْمَطَر سقى من الله تَعَالَى وَالنَّوْم أَدخل فِي الْمَقْصُود من النسْيَان، لِأَن النَّاسِي يُبَاشر الْفِعْل بِاخْتِيَارِهِ بِخِلَاف النَّائِم، فإسقاط إِضَافَة الْفِعْل إِلَيْهِ ونسبته إِلَى الله تَعَالَى بِالطَّرِيقِ الأولى (وَلَا خَفَاء أَنه) أَي الْفَرْع الْمَذْكُور (غير مَا نَحن فِيهِ) من الْعلَّة بِمَعْنى الْبَاعِث الَّتِي شرع الحكم عِنْدهَا لحُصُول الْحِكْمَة على مَا مر تَفْصِيله فَإِن عدم الرُّكْن لَيْسَ من ذَلِك (فَظهر أَن حَقِيقَة الْمَانِع الْإِضَافَة إِلَى الْمُسْتَحق) وَقَوْلهمْ لمَانع هُوَ الحَدِيث مَبْنِيّ على الظَّاهِر، وَكَونه متضمنا للإضافة إِلَيْهِ فَإِن قلت: لم لَا يجوز أَن يكون الْمَانِع فِي الْحَقِيقَة نفس الحَدِيث لدلالته على عدم فَسَاد الصَّوْم المستلزم لعدم تَأْثِير الْعلَّة قلت قد علل فِي الحَدِيث عدم الْفساد بِالْإِضَافَة الْمَذْكُورَة فينسب الْمَنْع إِلَيْهِ (وَأما نقض الْحِكْمَة) الَّتِي شرع الحكم لحصولها (فَقَط بِأَن تُوجد الْحِكْمَة) لَعَلَّ وضع الظَّاهِر مَوضِع الْمُضمر، لِأَن لفظ نقض الْحِكْمَة صَار فِي عرف الْأُصُول بِمَنْزِلَة كلمة وَاحِدَة مَوْضُوعَة بِإِزَاءِ نوع من النَّقْض كنقض الْعلَّة، وَلَا يجوز إرجاع الضَّمِير إِلَى أَجزَاء الْكَلِمَة، فَلَا يَنْبَغِي إرجاعه إِلَى مَا هُوَ كجزئها

(4/19)


(دون الْعلَّة فِي مَحل وَلم يُوجد الحكم، وَيُسمى) نقض الْحِكْمَة (كسرا) لما يحصل بِهِ من نوع انكسار فِي علية الْعلَّة، إِذْ الحكم إِنَّمَا شرع عِنْدهَا لحُصُول تِلْكَ الْحِكْمَة وَلَو لم تُوجد بِدُونِ تِلْكَ الْعلَّة لَكَانَ أَدخل فِي عليتها (باصطلاح) لطائفة من الْأُصُولِيِّينَ (فَشرط عَدمه) أَي عدم نقض الْحِكْمَة عِنْد بعض (لصِحَّة الْعلَّة. وَالْمُخْتَار نَفْيه) أَي نفي اشْتِرَاط عدم نقض الْحِكْمَة (فَلَو قَالَ) قَائِل (لَا تصح علية السّفر) لرخصه الْقصر والإفطار (لانتقاض حكمتها الْمَشَقَّة) عطف بَيَان لحكمتها (بصنعة شاقة فِي الْحَضَر) لوُجُود الْمَشَقَّة الَّتِي هِيَ الْحِكْمَة مَعَ عدم السّفر وَالْحكم. وَالْفَاء فِي قَوْله فَلَو قَالَ لَيْسَ للتفريع على عدم الِاشْتِرَاط، بل لتفصيل بعض مَا يتَعَلَّق بالْمقَام، يدل عَلَيْهِ الْجَواب وَمَا بعده (لم يقبل) قَوْله جَوَاب للشرطية (لِأَنَّهَا) أَي الْمَشَقَّة بالصنعة الشاقة (غَيرهَا) أَي غير الْمَشَقَّة الَّتِي هِيَ حِكْمَة علية السّفر، وَهِي مشقة السّفر، فَعدم وجود الحكم مَعهَا لَا يسْتَلْزم انْتِقَاض الْحِكْمَة الْمُعْتَبرَة بِالسَّفرِ (وَكَونهَا) أَي كَون الْمَشَقَّة مَعَ قطع النّظر عَمَّا أضيفت إِلَيْهِ (الْمَقْصُودَة) من اعْتِبَار الْعلية وَشرع الحكم (فَيبْطل ببطلانها مَا لم يعْتَبر إِلَّا لَهَا) أَي فَيبْطل الَّذِي لم يعْتَبر شرعا إِلَّا لَهَا بِمَعْنى علية الْعلَّة بِسَبَب بُطْلَانهَا بالانتقاض بِمَشَقَّة الصَّنْعَة الشاقة، وَقَوله كَونهَا مُبْتَدأ خَبره قَوْله (إِنَّمَا يلْزم) الْكَوْن المتفرع عَلَيْهِ مَا ذكر (لَو اعْتبر) فِي الْعلية (مُطلقهَا) يَعْنِي علية الْعلَّة: أَي الْمَشَقَّة (وَهُوَ) أَي اعْتِبَار مُطلقهَا (مُنْتَفٍ بالصنعة) أَي بِسَبَب عدم رخصَة السّفر بِمَشَقَّة الصَّنْعَة، وَلَو كَانَ الْمُعْتَبر فِي السّفر مُطلق الْمَشَقَّة لرخص بهَا لوُجُود الْمُطلق فِي ضمنهَا، وَحَيْثُ لم يرخص علم عدم اعْتِبَار الْمُطلق (فالحكمة الَّتِي هِيَ الْعلَّة فِي الْحَقِيقَة مشقة السّفر) لَا الْمَشَقَّة الْمُطلقَة حَتَّى يرد النَّقْض بِمَا ذكر، وَالْحكم بالاتحاد بَين الْحِكْمَة وَالْعلَّة بِحَسب الْحَقِيقَة بِاعْتِبَار أَن الْعلَّة عبارَة عَن الْبَاعِث على شرع الحكم، والباعث الْحَقِيقِيّ إِنَّمَا هُوَ حُصُول الْحِكْمَة، وَإِنَّمَا جعلت الْعلَّة عِلّة لاشتمالها على الْحِكْمَة (وَلم يعلم مساواتها المنقوضة) أَي مُسَاوَاة مشقة السّفر للْمَشَقَّة المنقوضة بهَا، وَهِي مشقة الصَّنْعَة، وَإِنَّمَا نفي الْعلم بالمساواة لِئَلَّا يرد أَنه سلمنَا الْمُغَايرَة بَينهمَا لكنهما متساويتان فِي المقصودية والمصلحة فَيجب مساواتهما فِي علية الرُّخْصَة أَيْضا (وَلَو فرض الْعلم برجحان) الْحِكْمَة (المنقوضة) بهَا فِي الْمَعْنى الَّذِي صَارَت الْحِكْمَة بِاعْتِبَارِهِ باعثا لعلية الْعلَّة وَشرع الحكم على المنقوضة (فِي مَوضِع) غير الْموضع الْمَذْكُور فَإِنَّهُ نفي فِيهِ الْعلم بالمساواة فضلا عَن الرجحان أَن يذكر (يلْزم بطلَان الْعلَّة) فِي ذَلِك الْموضع، لِأَنَّهُ لَو كَانَ منشأ اعْتِبَار عليتها اشتمالها على الْحِكْمَة المتضمنة للمعنى الْمَذْكُور لاعتبر عليتها فِي مَحل النَّقْض بِالطَّرِيقِ الأولى، وَيرد عَلَيْهِ أَنه كَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر صُورَة مُسَاوَاة المنقوضة بهَا للمنقوضة أَيْضا: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال يعلم حكمهَا ضمنا لاشْتِرَاكهمَا فِيمَا هُوَ

(4/20)


سَبَب الْبطلَان.
وَأَنت خَبِير بِأَن الأولى حِينَئِذٍ ذكر الْمُسَاوَاة ليعلم مِنْهُ الرجحان بِالطَّرِيقِ الأولى، ثمَّ اسْتثْنى من جملَة لمواضع الَّتِي علم فِيهَا رُجْحَان المنقوضة فِيهَا بقوله (إِلَّا أَن شرع) فِي ذَلِك الْموضع (حكم أليق بهَا) أَي بِتِلْكَ الْحِكْمَة (كالقطع بِالْقطعِ) كَقطع الْيَد بِقطع الْيَد (لحكمة الزّجر) عَن الْإِتْيَان بِمثلِهِ (تخلف) الْقطع الَّذِي هُوَ الحكم عَن الْحِكْمَة الَّتِي هِيَ الزّجر (فِي الْقَتْل) الْعمد مَعَ أَن الْحِكْمَة فِيهِ أرجح (لشرع مَا هُوَ أنسب بِهِ) أَي بِالْقَتْلِ الْعمد (وَهُوَ) أَي مَا هُوَ أنسب (الْقَتْل) قصاصا (وَأَنت إِذْ علمت أَن الْحِكْمَة الْمُعْتَبرَة) عِنْد الشَّارِع (ضبطت شرعا) بمظنة خَاصَّة وَهُوَ الْوَصْف الظَّاهِر المنضبط، وَذَلِكَ لعسر ضبط نفس الْحِكْمَة وَتعذر تعْيين قدرهَا (لم تكد تقف على الْجَزْم) أَي تجزم أَلْبَتَّة (بِأَن التَّخَلُّف) أَي تخلف الحكم (عَن مثلهَا) أَي عَن مثل حكمته (أَو) عَن أَمر (أكبر) من حكمته لرجحانه عَلَيْهَا فِي الْمَعْنى الَّذِي صَارَت بِاعْتِبَارِهِ باعثا لشرع الحكم (مِمَّا لم يدْخل تَحت ضابطها) بَيَان لكل وَاحِد من الْمثل والأكبر المتخلف عَنهُ الحكم، وَالْمرَاد بضابط الْحِكْمَة الْوَصْف الظَّاهِر المنضبط الَّذِي أَقَامَهُ الشَّرْع مقَامهَا لظُهُوره وانضباطه دونهَا لما مر، وَلَو كَانَ ذَلِك التَّخَلُّف (بِلَا مَانع) عَن ترَتّب الحكم عَلَيْهِ لَا ينْقض التَّخَلُّف الْمَذْكُور عليتها: أَي الْحِكْمَة، قَوْله لَا ينْقض خبر أَن فِي قَوْله بِأَن التَّخَلُّف خُصُوصا إِذا (كَانَت) الْحِكْمَة (مومى إِلَيْهَا) فِي الْكتاب أَو السّنة: مثل إِيمَاء قَوْله تَعَالَى فِي رخصَة الْإِفْطَار فِي السّفر - {أَو على سفر فَعدَّة من أَيَّام أخر} - بعد قَوْله - {كتب عَلَيْكُم الصّيام كَمَا كتب على الَّذين من قبلكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون أَيَّامًا معدودات فَمن كَانَ مِنْكُم مَرِيضا} - فَإِنَّهُ يُومِئ إِلَى علية وصف السّفر لرخصة الْإِفْطَار وَقَضَاء الصَّوْم فِي أَيَّام أخر (لِأَن الْحِكْمَة الْمُعْتَبرَة شرعا مثلا مشقة السّفر بِخُصُوصِهِ) تَعْلِيل لعدم نقض عليتها وَحَاصِله أَن الشَّرْع لم يعْتَبر إِلَّا علية مشقة السّفر بِخُصُوصِهِ، وَلم يعْتَبر مُطلق الْمَشَقَّة، وَلَا يتَوَجَّه النَّقْض إِلَّا عِنْد تخلف الحكم عَن الْعلَّة الْمُعْتَبرَة شرعا فَقَوله وَأَنت إِذا علمت الخ تَحْقِيق للمقام من المُصَنّف وَقَوله وَلَو فرض الخ كَلَام الْقَوْم (أَلا ترى أَن الْبكارَة عِلّة الِاكْتِفَاء فِي الْإِذْن بِالسُّكُوتِ) فِي النِّكَاح، الظرفان الْأَوَّلَانِ متعلقان بالاكتفاء وَالثَّالِث بِالْإِذْنِ، وَيجوز أَن يتَعَلَّق بالاكتفاء (لحكمة الْحيَاء) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قلت أَن الْبكر تَسْتَحي فتسكت قَالَ سكُوتهَا إِذْنهَا (وَلَو فرض ثيب أوفر حَيَاء من الْبكر (أَو سَبَب اقْتَضَاهُ) مَعْطُوف على ثيب، وَالْمعْنَى وَلَو فرض سَبَب فِي الثّيّب اقْتضى حَيَاء) أوفر من حَيَاء الْبكر (كزنا اشْتهر) فِي ثيب فَتَسْتَأْذِن فِي نِكَاح من اشْتهر بزناها (لم يكتف بسكوتها) أَي بسكوت الثّيّب فِي الصُّورَتَيْنِ (إِجْمَاعًا فَتخلف) حكم الِاكْتِفَاء بِالسُّكُوتِ

(4/21)


عَمَّا هُوَ أكبر من حكمته (وَلم تبطل علية الْبكارَة) إِجْمَاعًا (وَمَا ذَاك) أَي عدم بُطْلَانهَا وأمثالها (إِلَّا لِأَن الْحِكْمَة حَيْثُ ضبطت بالبكارة) لانضباطها وَعدم انضباط الْحيَاء من حَيْثُ الْقدر (كَانَت الْعلَّة بِالْحَقِيقَةِ حَيَاء الْبكر فَلم يلْزم فِي حَيَاء فَوْقه) أَي فَوق حَيَاء الْبكر (ثُبُوت الحكم) وَهُوَ الِاكْتِفَاء الْمَذْكُور (مَعَه) أَي مَعَ ذَلِك الْحيَاء الَّذِي هُوَ فَوق حَيَاء الْبكر (لعدم دَلِيله) أَي دَلِيل اعْتِبَار ذَلِك الْحيَاء الأوفر شرعا (بِخُصُوصِهِ فَلَا تنْتَقض الْعلَّة) وَهِي الْبكارَة (بنقضه) أَي بِنَقْض حَيَاء الْبكر، لِأَنَّهُ لم ينْتَقض لعدم تحَققه فِي مَادَّة النَّقْض وَإِن سمينا توهم النَّقْض نقضا فَالْمَعْنى لَا تنْتَقض الْعلَّة بِهَذَا النَّقْض الموهوم (لِأَنَّهُ) أَي ذَلِك الْحيَاء الأوفر (غير) الْحيَاء (الْمُعْتَبر) شرعا فِي الحكم الْمَذْكُور (وَأما النَّقْض المكسور وَهُوَ نقض بعض) الْعلَّة (المركبة على اعْتِبَار استقلاله) أَي الْبَعْض المنقوض (بالحكمة) لاشْتِمَاله كاشتمال الْكل عَلَيْهَا (كَمَا لَو قَالَ) الشَّافِعِي (فِي منع بيع الْغَائِب) هُوَ بيع فِيهِ مَبِيع (مَجْهُول الصّفة فَلَا يَصح كَبيع عبد بِلَا تعْيين فنقض المجهولية) الَّتِي هِيَ بعض من الْعلية، وَهُوَ الْمَجْمُوع الْمركب من المبيعية والمجهولية على اعْتِبَار استقلالها بالحكمة الَّتِي هِيَ الْإِفْضَاء إِلَى الْمُنَازعَة (بتزوج من لم يرهَا) لتحَقّق المجهولية فِي هَذَا العقد (مَعَ الصِّحَّة) فقد تحقق جُزْء الْعلَّة المستقل بالحكمة، وتخلف عَنهُ الحكم وَهُوَ عدم الصِّحَّة (وَحذف) على صِيغَة الْمَاضِي الْمَجْهُول مَعْطُوف على نَظِيره، وَهُوَ قَوْله نقض، ونائب الْفَاعِل قَوْله (الْمَبِيع) أَي نقض بعض أَجزَاء الْعلَّة وَهُوَ قَوْله مَجْهُول الصِّيغَة وَحذف بَعْضهَا: وَهُوَ قَوْله مَبِيع (وَالْمُخْتَار لَا يمْنَع) أَي اخْتلف فِي منع النَّقْض الْمَذْكُور صِحَة الْعلَّة، قيل يمْنَع، وَالْمُخْتَار أَنه لَا يمْنَع صِحَّتهَا وَهَذَا عِنْد الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب وَالْمُصَنّف وَغَيرهم (لِأَنَّهَا) أَي الْعلَّة (الْمَجْمُوع) الْمركب (وَلم ينْقض) الْمَجْمُوع (فَلَو أضَاف) الْقَائِل بِالْمَنْعِ أَو الناقض (إِلَيْهِ) أَي إِلَى نقض الْبَعْض (إِلْغَاء الْمَتْرُوك) أَي الْمَحْذُوف وَقَالَ لَا دخل فِي الْعلية كَمَا أَشَارَ بقوله (بِأَن قَالَ الْجَهَالَة) الْمَذْكُورَة فِي الْعلَّة (مُسْتَقلَّة بالمناسبة) الْمُوجبَة للعلية (وَلَا دخل لكَونه) أَي الْمَعْقُود عَلَيْهِ (مَبِيعًا صَحَّ) جَوَاب لَو: أَي صَحَّ النَّقْض الْمَذْكُور لوروده على مَا هُوَ الْعلَّة فِي الْحَقِيقَة إِذْ لَا دخل للملغي فِي الْعلية، وَإِذا صَحَّ النَّقْض بَطل الْعلية (وَحَاصِله) أَي حَاصِل النَّقْض بعد مَا أضَاف إِلَيْهِ أَنه (إِن عنيت) أَيهَا الْمُسْتَدلّ بِمَا جعلته عِلّة فِي قياسك (الْمَجْمُوع لم يَصح) مَا عنيت (لإلغاء الملغي، أَو) عنيت بهَا (مَا سواهُ) أَي مَا سوى الملغى (فَكَذَا) لَا يَصح مَا عنيت (للنقض) أَي لوُرُود النَّقْض على مَا جعلته عِلّة، وَهُوَ مَا سوى الملغي. (وَمِنْهَا) أَي من شُرُوط الْعلَّة (انعكاسها) أَي الْعلَّة (عِنْد قوم وَهُوَ) أَي انعكاسها (انْتِفَاء الحكم لانتفائها) أَي الْعلَّة، وَإِنَّمَا يلْزم: أَي انْتِفَاء الحكم لانْتِفَاء الْعلَّة (لمنع تعدد) الْعلَّة (المستقلة فينتفى) الحكم الَّذِي هُوَ مدلولها علته المستقلة الْمَخْصُوصَة (لانْتِفَاء خُصُوص هَذَا الدَّلِيل

(4/22)


وَهُوَ) أَي هَذَا الدَّلِيل (الْعلَّة إِذْ لَا يكون الحكم بِلَا باعث) وَلم يكن لَهُ باعث سوى الْمَفْرُوض انتفاؤه وَعدم كَونه بِلَا باعث إِمَّا أَن يكون (تفضلا) من الله سُبْحَانَهُ ليهتدوا بذلك الْبَاعِث إِلَى الحكم، أَو يكون وجوبا كَمَا قَالَه الْمُعْتَزلَة بِنَاء على مسئلة وجوب الْأَصْلَح عَلَيْهِ، تَعَالَى شَأْنه عَن ذَلِك، وَلَيْسَ المُرَاد من كلمة أَو التَّسْوِيَة بَينهمَا، بل تَقْسِيم مَا ذهب إِلَيْهِ الأصولي (وَالْمُخْتَار جَوَاز التَّعَدُّد) فِي الْعلَّة الباعثة (مُطلقًا) منصوصة كَانَت أَو مستنبطة (والوقوع) مَعْطُوف على الْجَوَاز (فَلَا يشْتَرط انعكاسها) أَي الْعلَّة كَيفَ وَانْتِفَاء عِلّة بِعَينهَا لَا يسْتَلْزم انتفاءها مُطلقًا فَيجوز أَن يتَحَقَّق بغَيْرهَا من الْعِلَل فَلَا يلْزم أَنه كلما انْتَفَى الْعلَّة الْمعينَة يَنْتَفِي الحكم. جوز (القَاضِي) أَبُو بكر تعددها (فِي المنصوصة لَا المستنبطة، وَقيل عَكسه) أَي يجوز فِي المستنبطة لَا المنصوصة. قَالَ (الإِمَام) يَعْنِي إِمَام الْحَرَمَيْنِ (يجوز) التَّعَدُّد (وَلم يَقع لنا) على الْمُخْتَار جَوَاز التَّعَدُّد ووقوعه (أَن الْبَوْل والمذى والرعاف) وَهِي أُمُور مُخْتَلفَة الْحَقِيقَة (ثمَّ كل) مِنْهَا (يُوجب الْحَدث) إِذا تحققت مَعًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ إِسْنَاد الْإِيجَاب إِلَى أَحدهَا دون الآخر تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح، بِخِلَاف مَا إِذا تحققت متعاقبة فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يُضَاف إِلَى الأول لَا الثَّانِي، وَألا يلْزم تَحْصِيل الْحَاصِل فَتَأمل (وَهُوَ) أَي إِيجَاب الْحَدث (الِاسْتِقْلَال) فالعلية فَكل مِنْهَا عِلّة مُسْتَقلَّة للْحَدَث، وَهُوَ حكم وَاحِد (وَكَذَا الْقَتْل) عُدْوانًا (وَالرِّدَّة تحله) أَي الْقَتْل فَكل مِنْهُمَا عِلّة مُسْتَقلَّة لَهُ (فَإِن منع اتِّحَاد الحكم) وَيُقَال (بل وجوب الْقَتْل قصاصا) بعلة الْقَتْل عُدْوانًا (غَيره) أَي غير وُجُوبه (بِالرّدَّةِ وَلذَا) أَي وللمغايرة بَينهمَا (انْتَفَى) كل مِنْهُمَا (ب) مسْقط ك (الْعَفو) من الْمولى فِي الْقَتْل قصاصا (أَو الْإِسْلَام) فِي قتل الرِّدَّة (وَبَقِي) الْقَتْل ل (لآخر) يَعْنِي انْتَفَى الْقَتْل الْقصاص وَبَقِي الْقَتْل للردة، وَبِالْعَكْسِ (عورض) كل مِنْهُمَا جَوَاب الشَّرْط: أَي عورض دَلِيل الْمَانِع اتِّحَاد الحكم بِأَنَّهُ (لَو تعدّدت) الْأَحْكَام فِي أَمْثَال ذَلِك (كَانَ) تعددها (بالإضافات) إِلَى أدلتها (إِذْ لَيْسَ مَا بِهِ الِاخْتِلَاف) فِيهَا (سواهُ) أَي سوى مَا ذكر من الإضافات (وَاللَّازِم بَاطِل لِأَن الإضافات لَا توجب تعددا فِي ذَات الْمُضَاف وَإِلَّا لوَجَبَ لكل حدث وضوء) لكَون الْحَدث الْحَاصِل بِسَبَب الْبَوْل مثلا حِينَئِذٍ غير الْحَاصِل بالرعاف، فبارتفاع الأول لَا يرْتَفع الثَّانِي، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَكَانَ) اسْمه ضمير الشَّأْن وَخَبره (يرْتَفع أَحدهَا وَيبقى الآخر، ثمَّ الْجَواب) عَن لُزُوم الْوضُوء لكل حدث (أَن ذَلِك) أَي بِأَن ارْتِفَاع أَحدهمَا وَبَقَاء الآخر وَعَدَمه مفوض (إِلَى الشَّرْع فَجَاز أَن يعْتَبر التلازم بَين مسببات فِي الأرتفاع) فيستلزم ارْتِفَاع حدث الْبَوْل مثلا ارْتِفَاع حدث الرعاف (وَلَا يعْتَبر) التلازم (فِي) مسببات (أُخْرَى) فَلَا يسْتَلْزم ارْتِفَاع الْقَتْل بِسَبَب الْقَتْل مثلا ارتفاعه بِسَبَب الرِّدَّة (كَلَام على السَّنَد) خبر الْمُبْتَدَأ: أَعنِي قَوْله وَالْجَوَاب، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن قَول عورهض إِلَى آخِره منع

(4/23)


وَسَنَد، وَإِطْلَاق الْمُعَارضَة على سَبِيل الِاسْتِعَارَة تَشْبِيها لَهَا بالمعارضة الْحَقِيقِيَّة بِاعْتِبَار دلَالَة السَّنَد على خلاف مَا يدل عَلَيْهِ دَلِيل الْمُسْتَدلّ فَكَأَنَّهُ أَقَامَ الدَّلِيل على خلاف مَا أَقَامَ عَلَيْهِ الْخصم وَيلْزمهُ قَوْله: فَإِن منع على الْمُعَارضَة فِي الْمُقدمَة فَإِن قلت للخصم أَن يَقُول مرادي الْمَنْع لِئَلَّا يرد عَلَيْهِ الْمَنْع قلت لَا يَنْفَعهُ، لِأَن سَنَده مسَاوٍ للْمَنْع فإبطاله إِثْبَات للمقدمة الممنوعة فتتم حجَّة الْمُسْتَدلّ الأول فَافْهَم (وَالْمَطْلُوب وَهُوَ الْمُعَارضَة الْمَذْكُورَة) عدم التَّعَدُّد فِي ذَات الْمُضَاف بالإضافات (ثَابت دونه) أَي بِدُونِ السَّنَد الْمَذْكُور، فَفِيهِ إِشَارَة إِلَى كَونه سندا أخص، فَإِن إبِْطَال السَّنَد الْأَخَص غير موجه فِي الإضافات بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ مُسَاوِيا للْمَنْع فَإِنَّهُ موجه لاستلزام إِبْطَاله بطلَان الْمَنْع فَتثبت الْمُقدمَة الممنوعة (للْقطع بِأَن تعدد الْإِضَافَة لَا يُوجِبهُ) أَي التَّعَدُّد (فِي ذَاته) أَي الْمُضَاف (وَثُبُوت ارْتِفَاع بَعْضهَا) أَي بعض المسببات (دون بعض فِي صُورَة) دون أُخْرَى كارتفاع الْقَتْل بِسَبَب الرِّدَّة مثلا مَعَ بَقَاء الْقَتْل بِسَبَب الْقَتْل (إِنَّمَا يَكْفِي دَلِيلا على التَّعَدُّد) أَي تعدد الْمُضَاف (فِيهَا) أَي فِي صُورَة ارْتَفع فِيهَا الْبَعْض دون الْبَعْض (لَا فِي غَيرهَا) أَي لَا يَكْفِي دَلِيلا على التَّعَدُّد فِي صُورَة أُخْرَى غير تِلْكَ الصُّورَة (كَمَا فِي الْقَتْل) تَمْثِيل للصورة الأولى (لِأَن أَحدهمَا) أَي أحد المسببين وَهُوَ الْقَتْل بِسَبَب الرِّدَّة (حق الله تَعَالَى، وَالْآخر) وَهُوَ الْقَتْل بِسَبَب الْقَتْل (حق العَبْد) وَلَا وَجه لارْتِفَاع حق العَبْد بِسَبَب ارْتِفَاع حق الله تَعَالَى (وَمَا) روى (عَن أبي حنيفَة) من أَنه إِذا (حلف لَا يتَوَضَّأ من الرعاف فَبَال، ثمَّ رعف ثمَّ تَوَضَّأ حنث لَا يشكل مَعَ قَوْله باتحاد الحكم) جَوَاب سُؤال، وَهُوَ أَن أَبَا حنيفَة يَقُول باتحاد الحكم عِنْد تعدد الْأَسْبَاب وَمُقْتَضَاهُ أَن لَا يَحْنَث فِي الْحلف الْمَذْكُور لِأَن الْحَدث الْحَاصِل بالرعاف عين الْحَاصِل بالبول، فَالظَّاهِر أَنه يُقَال فِي حَقه أَنه تَوَضَّأ من الْبَوْل لسبقه بِالِاسْتِحْقَاقِ للإضافة أَو تَوَضَّأ عَنْهُمَا جَمِيعًا لاشْتِرَاكهمَا فِي السبقية، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ لَا يصدق عَلَيْهِ أَنه تَوَضَّأ من الرعاف، فَأجَاب بِأَن الْحِنْث إِنَّمَا هُوَ (للْعُرْف فِي مثله) فَإِنَّهُ يُقَال فِيهِ عرفا (تَوَضَّأ من الرعاف) إِذا توَسط الرعاف بَين الْوضُوء وَالسَّبَب الآخر (وَغَيره) من أَسبَاب الْحَدث: أَي يُقَال عرفا تَوَضَّأ من الْبَوْل مثلا إِذا توَسط بَين الْوضُوء وَالسَّبَب الآخر، والأيمان مَبْنِيَّة على الْعرف فَإِن قلت لَا نسلم كَون الْعرف مَا ذكرت، بل الظَّاهِر أَن الْأَمر بِالْعَكْسِ قلت: قد اشْتهر فِيمَا بَين النَّاس أَن الْحَدث فِي مثل هَذِه الصُّورَة مُضَاف إِلَى السَّبَب الآخر. هَذَا وَلم يظْهر لي كَون الثَّانِي سَببا للْحَدَث، لِأَنَّهُ إِنَّمَا يحدث بِالسَّبَبِ إِذا كَانَ الْمحل مَوْصُوفا بِالطَّهَارَةِ، وَلَا شكّ أَنه لَيْسَ بموصوف بهَا فِي تحقق الثَّانِي، فِي الشَّرْح العضدي اتَّفقُوا على أَنَّهَا إِذا ترتبت حصل الحكم بِالْأولَى، وَأما إِذا اجْتمعت مَعًا دفْعَة كمن مس ولمس وبال مَعًا فقد اخْتلفُوا، وَالْمُخْتَار أَن كل وَاحِد عِلّة مُسْتَقلَّة (قيل وَالْخلاف فِي الْوَاحِد بالشخص)

(4/24)


كَمَا نَقله التَّفْتَازَانِيّ عَن الْآمِدِيّ (والمخالف يمنعهُ) أَي يمْنَع كَون الحكم وَاحِد بالشخص (فِي الصُّورَة الْمَذْكُورَة) يَعْنِي الْحَدث المتعدد علته كالبول والرعاف والمذى (وَالظَّاهِر بعده) أَي بعد مثل هَذَا التدقيق الفلسفي (من الشَّرْع) فَإِن قلت لزم فِي الصُّورَة الْمَذْكُورَة اجْتِمَاع الْعِلَل على الحكم الْوَاحِد بالشخص شرعا فَمَا معنى بعده قلت هَذَا حكم اقتضته العمومات وَالْكَلَام إِنَّمَا هُوَ فِي اعْتِبَار الْوحدَة الشخصية فِي مَحل النزاع، وَهُوَ أَن الحكم الْوَاحِد هَل يكون لَهُ علل أم لَا وَالْحَاصِل أَن الْبعد فِي اعْتِبَار الْعِلَل للْحكم الشخصي ابْتِدَاء لَا فِي لُزُومهَا للشخصي بعد اعْتِبَارهَا عُمُوما (وشخصية مُتَعَلّقه) أَي الحكم كَمَا عز مثلا فَإِنَّهُ شخص معِين ثَبت حكم الزِّنَا فِي حَقه ابْتِدَاء (لَا توجبه) أَي لَا توجب تشخص الحكم، لِأَن ثُبُوته فِي ذَلِك الشَّخْص لَيْسَ بِاعْتِبَار خصوصيته (بل) من حَيْثُ أَنه فَرد من أَفْرَاد مَحل الْعلَّة كَالزِّنَا، وَإِلَّا لاختص حكم الزِّنَا بِمَا عز، بل يُوجب تشخص الحكم (مَا) أَي دَلِيل يَقْتَضِيهِ (كَشَهَادَة خُزَيْمَة) أَي كتشخص حكم شَهَادَته، وَهُوَ الِاكْتِفَاء بهَا وَحدهَا لدليله، وَهُوَ كَونه مُنْفَردا بَين الصَّحَابَة، يفهم أَن جَوَاز الشَّهَادَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمُجَرَّد إخْبَاره من غَيره حُضُور فِي تِلْكَ الْبيعَة، وَذَلِكَ يَقْتَضِي انْفِرَاده فِي الِاكْتِفَاء إِكْرَاما لَهُ (وَلَا يَتَعَدَّد فِي مثله) أَي فِي مثل مَا ذكر من شَهَادَة خُزَيْمَة (علل) لِأَن عِلّة الحكم فِيهِ أَمر شخصي لَا تعدد فِيهِ أصلا (وَأما الِاسْتِدْلَال) بِأَنَّهُ (لَو امْتنع) تعدد الْعلَّة (امْتنع تعدد الْأَدِلَّة فقد منعت الْمُلَازمَة) أَي لَا نسلم أَن امْتنَاع تعدد الْعلَّة يسْتَلْزم امْتنَاع الْأَدِلَّة منعا مُسْتَندا (بِأَن الْأَدِلَّة الباعثة) وَهُوَ الْعِلَل (أخص) من الْأَدِلَّة الْمُطلقَة، وَلَا يلْزم من امْتنَاع الْأَخَص امْتنَاع الْأَعَمّ. (المانعون) تعدد الْعلَّة قَالُوا (لَو تعدّدت) الْعِلَل (لزم التَّنَاقُض، وَهُوَ) أَي التَّنَاقُض (الِاسْتِقْلَال) بالعلية (وَعَدَمه) أَي عدم الِاسْتِقْلَال بهَا (للثبوت) أَي لثُبُوت الحكم (بِكُل) من ذَلِك المتعدد (بِلَا حَاجَة إِلَى غَيره وَهُوَ) أَي ثُبُوت الحكم بِهِ من غير حَاجَة إِلَى الْغَيْر (الِاسْتِقْلَال وَعَدَمه) أَي عدم الثُّبُوت (لاستقلال غَيره بِهِ) تَعْلِيل لعدم استقلاله، لَكِن على وَجه يلْزم مِنْهُ عدم مدخليته فِي الحكم بِالْكُلِّيَّةِ فضلا عَن الِاسْتِقْلَال بِهِ، وَهَذَا تنَاقض فِي جَانب الْعلَّة (واستغناء الْمحل) أَي مَحل الحكم (فِي ثُبُوت الحكم لَهُ عَن كل) من الْعِلَل (بِالْآخرِ) أَي بِالْعِلَّةِ الْأُخْرَى لاستقلاله فِي حُصُول الحكم للمحل، والتذكير بِاعْتِبَار كَونه وَصفا (وَعَدَمه) أَي عدم اسْتغْنَاء الْمحل فِي ثُبُوت الحكم لَهُ عَن كل ضَرُورَة احْتِيَاج الْمَعْلُول إِلَى علته التَّامَّة، وَهَذَا تنَاقض فِي جَانب الْمحل (مُطلقًا) مُتَعَلق بِكُل من الِاسْتِقْلَال والاستغناء وَعَدَمه (والثبوت بهما) أَي العلتين لكَون كل مِنْهُمَا عِلّة تَامَّة والثبوت (لَا بهما) بِاعْتِبَار أَن كلا مِنْهُمَا اسْتغنى عَنهُ بِاعْتِبَار مُلَاحظَة الْأُخْرَى

(4/25)


وَهَذَا تنَاقض فِي جَانب الحكم (فِي الْمَعِيَّة) على تَقْدِير اجْتِمَاع العلتين بِحَسب الزَّمَان فِي التَّأْثِير (وَتَحْصِيل الْحَاصِل فِي) صُورَة (التَّرْتِيب) وَعدم اجْتِمَاعهمَا فِي الزَّمَان، فَإِن الحكم يتَحَقَّق على هَذَا التَّقْدِير بِالْأولَى، وتحققه بِالثَّانِيَةِ تَحْصِيل الْحَاصِل (وَالْجَوَاب) منع لُزُوم التَّنَاقُض الَّذِي هُوَ اجْتِمَاع النقيضين فِي الْوُجُود بِحَسب نفس الْأَمر و (الِاسْتِقْلَال) الَّذِي يلْزم على تَقْدِير تعدد الْعلَّة إِنَّمَا هُوَ (كَونهَا) أَي الْعلَّة (بِحَيْثُ إِذا انْفَرَدت ثَبت) الحكم (بهَا: أَي عِنْدهَا) لِأَن الْعِلَل الشَّرْعِيَّة لَا تَأْثِير لَهَا فِي وجود الْمَعْلُول فِي الْحَقِيقَة، وَمعنى عليتها مَا ذكر (و) هَذِه (الْحَيْثِيَّة) الْمعبر عَنْهَا بالكون الْمَذْكُور ثَابِتَة (لَهَا فِي) صُورَة (الْمَعِيَّة و) فِي صُورَة (التَّرْتِيب) ونقيض هَذِه الْحَيْثِيَّة، وَهُوَ كَونهَا بِحَيْثُ إِذا انْفَرَدت لَا يثبت بهَا الحكم غير ثَابِتَة فَلَا تنَاقض، فقد عرفت أَن الِاسْتِقْلَال بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور (لَا بِمَعْنى إفادتها) أَي الْعِلَل (الْوُجُود) أَي وجود الْمَعْلُول فِي الْخَارِج (كالعقلية) أَي كإفادة الْعِلَل الْعَقْلِيَّة للوجود (عِنْد الْقَائِل بِهِ) أَي بِمَا ذكر من إفادتها الْوُجُود، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَن الْوُجُود عِنْد أهل الْحق لَا يفِيدهُ إِلَّا الْفَاعِل الْمُخْتَار جلّ ذكره (فَانْتفى الْكل) أَي جَمِيع مَا ذكر من التَّنَاقُض وَتَحْصِيل الْحَاصِل على التَّفْصِيل الَّذِي عَرفته (قَالُوا) أَي المانعون تعدد الْعلَّة (أَيْضا أَجمعُوا) أَي الْأَئِمَّة (على التَّرْجِيح فِي عِلّة الرِّبَا) أَهِي (الْقدر وَالْجِنْس أَو الطّعْم أَو الأقتيات، وَهُوَ) أَي التَّرْجِيح (فرع صِحَة اسْتِقْلَال كل) من الْأُمُور الْمَذْكُورَة، إِذْ لَو لم يَصح اسْتِقْلَال كل وَاحِد مِنْهَا بالعلية لَا معنى لترجيحه، بل يجب حِينَئِذٍ أَن يضم إِلَيْهِ أَمر آخر وَيجْعَل الْمَجْمُوع عِلّة (و) أَيْضا فرع (لُزُوم انْتِفَاء التَّعَدُّد) إِذْ لَو جَازَ التَّعَدُّد لقالوا بِهِ وَلم يتعلقوا بالترجيح لتعيين وَاحِد نفي مَا سواهُ (وَالْجَوَاب أَنه) أَي التَّرْجِيح الْمجمع عَلَيْهِ (للْإِجْمَاع على أَنَّهَا) أَي الْعلَّة (هُنَا) أَي فِي الرِّبَا (إِحْدَاهَا) أَي إِحْدَى الْعِلَل الْمَذْكُورَة فَقَط (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْإِجْمَاع على هَذَا الْوَجْه (جعلوها) أَي الْعلَّة (الْكل) أَي الْمَجْمُوع، لِأَن الْمَفْرُوض أَنهم يُرِيدُونَ صَلَاحِية كل للعلية، وَلَا دَلِيل على إِلْغَاء وَاحِد مِنْهَا فَوَجَبَ اعْتِبَارهَا، وَذَلِكَ بالْقَوْل بالجزئية، سِيمَا عِنْد عدم ظُهُور وَجه التَّرْجِيح. لَا يُقَال إِذا كَانَ الْمُخْتَار عنْدكُمْ جَوَاز تعدد الْعلَّة فاجعلوا كل وَاحِدَة مِنْهَا عِلّة مُسْتَقلَّة. لأَنا نقُول: مرادنا من التَّعَدُّد مَا ذكر من كَون كل وَاحِدَة بِحَيْثُ إِذا انْفَرَدت ثَبت بهَا لاجتماعها فِي إِفَادَة الحكم بِأَن يكون كل وَاحِدَة مُسْتَقلَّة فِي الإفادة فَإِنَّهُ محَال. قَالَ (القَاضِي) فِيمَا ذهب إِلَيْهِ من جَوَاز التَّعَدُّد فِي المنصوصة دون المستنبطة (إِذا نَص على اسْتِقْلَال كل) أَي كل وَاحِد (من مُتَعَدد) بالعلية (فِي مَحل و) الْحَال أَنه (لَا مَانع مِنْهُ) إِذْ لَا مَانع من أَن يعين الله سُبْحَانَهُ للْحكم أمارتين (ارْتَفع احْتِمَال التَّرْكِيب) أَي كَون الْعلَّة مَجْمُوع ذَلِك المتعدد (و) كَون كل وَاحِد

(4/26)


مِنْهُ جُزْءا مِنْهَا (مَا لم ينص مَعَ الصلاحية بِأحد الْأَمريْنِ من الْجُزْئِيَّة والاستقلال) أَي وَمَا دَامَ لم ينص فِي المتعدد بِأحد الْأَمريْنِ وهما جزئية كل وَاحِد مِنْهُ واستقلاله فِي الْعلية مَعَ صَلَاحِية كل وَاحِد للعلية، وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى وكل مُتَعَدد لم ينص فِيهِ إِلَى آخر مَا ذكرنَا (فتعيين أَحدهمَا) أَي الْجُزْئِيَّة والاستقلال دون الآخر (تحكم) لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الِاحْتِمَال (فَظهر أَن اعْتِقَاده) أَي القَاضِي (جَوَاز التَّعَدُّد فيهمَا) أَي المنصوصة والمستنبطة (غير أَنه لَا يقدر على الحكم بِهِ فِي المستنبطة للاحتمال) أَي لاحْتِمَال جزئية كل وَاحِد كَمَا يحْتَمل الِاسْتِقْلَال (فَإِذا اجْتمعت) تِلْكَ الْأُمُور الصَّالِحَة للعلية (يثبت الحكم على كل تَقْدِير) لِأَنَّهُ على تَقْدِير الْجُزْئِيَّة إِذا اجْتمع جَمِيع أَجزَاء الْعلَّة فقد تحققت بِلَا شُبْهَة، وَأما على تَقْدِير الِاسْتِقْلَال فَالْأَمْر ظَاهر (وَالْجَوَاب مَنعه) أَي منع لُزُوم التحكم على تَقْدِير التَّعْيِين لجَوَاز استنباط الِاسْتِقْلَال عقلا (بِالْعلمِ بالحكم مَعَ أَحدهَا) أَي الْأُمُور الصَّالِحَة للعلية (فِي مَحل كَمَا) أَي كَالْعلمِ بالحكم (مَعَ أُخْرَى) من تِلْكَ الْعِلَل (فِي) مَحل (آخر) فلولا اسْتِقْلَال كل وَاحِدَة مِنْهَا بالعلية لما ثَبت الحكم مَعهَا وَحدهَا (فَيحكم بِهِ) أَي بالاستقلال (لكل فِي مَحل الِاجْتِمَاع) بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور آنِفا الْمعبر عَنهُ بالحيثية الْمَذْكُورَة. (وعاكسه) أَي الَّذِي يَقُول بعكس مَذْهَب القَاضِي من جَوَاز التَّعَدُّد فِي المستنبطة دون المنصوصة، يَقُول (يقطع فِي المنصوصة بِأَنَّهَا) أَي الْعلَّة المنصوصة (الْبَاعِث) لشروع الحكم (فَانْتفى احْتِمَال غَيرهَا) أَي احْتِمَال كَون الْعلَّة غير المنصوصة (كلا وجزءا) تَمْيِيز عَن نِسْبَة الْغَيْر إِلَى الضَّمِير: أَي انْتَفَى احْتِمَال الْغَيْر مُطلقًا سَوَاء كَانَ مُغَايرَة ذَلِك الْغَيْر إِيَّاهَا بِاعْتِبَار جَمِيع الْأَجْزَاء أَو بِاعْتِبَار بَعْضهَا (والمستنبطة وهمية) أَي عليتها ظنية غير مَقْطُوعَة (لَا ينتفى فِيهَا) أَي فِي المستنبطة (ذَلِك) الِاحْتِمَال، فَيجوز أَن يكون فِي نفس الْأَمر غَيرهَا كلا وجزءا (وَالْجَوَاب منع الْكل) أَي لَا نسلم الْقطع فِي المنصوصة لاحْتِمَال أَن يكون النَّص ظَنِّي الْمَتْن: أَي وَالدّلَالَة، وَأَيْضًا لَا نسلم وهميته المستنبطة لجَوَاز أَن يتَحَقَّق هُنَاكَ أَمَارَات كَثِيرَة تفِيد الْقطع بعليتها. قَالَ (الإِمَام) فِيمَا ذهب إِلَيْهِ من جَوَاز التَّعَدُّد دون وُقُوعه (لَو لم يمْتَنع) التَّعَدُّد (شرعا) قيد بِهِ دفعا للتناقض. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: ظَاهره مُخَالف لِلْقَوْلِ بِالْجَوَازِ، ثمَّ بَين أَن المُرَاد جَوَازه عقلا وامتناعه شرعا (وَقع عَادَة وَلَو نَادرا) . فِي الشَّرْح العضدي أَن الإِمَام زعم أَن هَذَا الدَّلِيل الْغَايَة القصوى فِي الْقُوَّة، وفلق الصُّبْح فِي الوضوح، ثمَّ ذكر فِيهِ: أما الْمُلَازمَة فَلِأَن إِمْكَانه وَاضح، وَمَا خَفِي إِمْكَانه، يُمكن أَن يتَوَهَّم امْتِنَاعه فَلَا يَقع، لَكِن مَا كَانَ إِمْكَانه وَاضحا مَعْلُوما لكل أحد مَعَ التكثر والتكرر لموارده مِمَّا تقضى الْعَادة بامتناعه لَا يَقع أصلا، وَأما انْتِفَاء اللَّازِم، فَلِأَنَّهُ لَو وَقع لعلم عَادَة، وَلما لم يعلم علم أَنه لم يَقع انْتهى. (وَالثَّابِت بِأَسْبَاب الْحَدث

(4/27)


مُتَعَدد كَمَا تقدم) دفع لما يرد عَلَيْهِ، من أَنه كَيفَ يقطع بِعَدَمِ الْوُقُوع مَعَ تعدد أَسبَاب الْحَدث وَالْقَتْل وَحَاصِل الْجَواب أَن مَحل النزاع تعدد علل حكم وَاحِد، وَالْحكم فِيمَا ذكرْتُمْ مُتَعَدد، فالحدث الْحَاصِل بالبول غير الْحَاصِل بالرعاف، وَلذَا قيل إِذا نوى رفع أحد أحداثه لم يرْتَفع الآخر وَإِنَّمَا خص الْحَدث لِأَنَّهُ مَحل الْإِلْزَام على مَا سبق، لِأَن المتعدد فِي الْقَتْل وَاحِد: إِذْ لَا نزاع فِي ارْتِفَاع أَحدهمَا دون الآخر فِيهِ (أُجِيب بِمَنْع عدم الْوُقُوع، بل مَا ذكر) أَي بل هُوَ وَاقع فِي الْحَدث وَالْقَتْل على مَا سبق (وَكَون الثَّابِت بِكُل) من أَسبَاب الْحَدث وَالْقَتْل (غَيره) أَي غير الثَّابِت (بِالْآخرِ) من تِلْكَ الْأَسْبَاب (أَن أثْبته) أَي أثبت الْخصم الْكَوْن الْمَذْكُور (بالانفكاك نفيا) أَي لانْتِفَاء أَحدهمَا وَبَقَاء الآخر (فَتقدم اقْتِصَاره) أَي اقْتِصَار الانفكاك على حكم الْقَتْل لتَعَدد الْمُسْتَحق (وانتفاؤه) أَي انْتِفَاء الانفكاك (فِي الْحَدث ظَاهر، وتجويزه) أَي تَجْوِيز تعدد الْحَدث بِتَعَدُّد الْأَسْبَاب (لَا يَكْفِيهِ) أَي الإِمَام (لِأَنَّهُ مستدل) على دَعْوَى عدم الْوُقُوع فَيلْزم عَلَيْهِ الحكم بِتَعَدُّد الْحَدث المنازع فِيهِ قطعا ليتم استدلاله. (ثمَّ اتّفق المعددون) أَي الْقَائِلُونَ بِتَعَدُّد الْعلَّة (أَنه) أَي الحكم يثبت (بِالْأولِ) من الْأَوْصَاف الصَّالِحَة للعلية (فِي) صُورَة (التَّرْتِيب) وَعدم اجْتِمَاعهمَا مَعًا (وَفِي) صُورَة (الْمَعِيَّة، قيل) الحكم يثبت (بالمجموع فَكل) أَي من تِلْكَ الْأَوْصَاف (جُزْء) من الْعلَّة وَإِن كَانَ كل وَاحِد مِنْهَا يصلح للعلية اسْتِقْلَالا، وَذَلِكَ لِئَلَّا يلْزم التَّرْجِيح بِلَا مُرَجّح (وَقيل وَاحِدَة) مِنْهَا (لَا بِعَينهَا) فِي نَظرنَا (وَالْمُخْتَار) أَن الحكم يثبت (بِكُل) أَي بِكُل وَاحِد من تِلْكَ الْأَوْصَاف اسْتِقْلَالا (لِأَنَّهُ لَو امْتنع) ثُبُوته بِكُل اسْتِقْلَالا، والمفروض أَنه يصلح للاستقلال (كَانَ) ذَلِك الِامْتِنَاع (لِاجْتِمَاع الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة على مَدْلُول) وَاحِد يَعْنِي لَا مُوجب لامتناعه إِلَّا لُزُوم اجتماعها عَلَيْهِ (وَهُوَ) أَي الِاجْتِمَاع الْمَذْكُور (حق اتِّفَاقًا) يَعْنِي أَن الْعِلَل لَيست فِي الْحَقِيقَة إِلَّا أَدِلَّة وأمارات تدل على ثُبُوت الحكم فِي مَحل كَسَائِر الْأَدِلَّة الشَّرْعِيَّة من الْكتاب وَالسّنة، وَكم من حكم لَهُ أَدِلَّة مِنْهُمَا يسْتَقلّ كل وَاحِد مِنْهَا فِي الدّلَالَة عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْأَدِلَّة الْعَقْلِيَّة فكم من مطلب أقيم عَلَيْهِ عدَّة من الْبَرَاهِين بِخِلَاف الْعِلَل الْعَقْلِيَّة المؤثرة فِي وجود الْمَعْلُول فَإِنَّهَا لَا يُمكن فِيهَا ذَلِك على الْخلاف الَّذِي وَقع فِيهَا أَيْضا على مَا عرف فِي الْكَلَام. قَالَ الذَّاهِب إِلَى أَن الْعلَّة (الْمَجْمُوع) الْمركب من تِلْكَ الْأَوْصَاف (لَو اسْتَقل) كل وَاحِد مِنْهَا (فِي) صُورَة (الْمَعِيَّة) فِي الزَّمَان (لزم التَّنَاقُض) كَمَا مر (بِلُزُوم الثُّبُوت) أَي بِثُبُوت الحكم (بِكُل) لاستقلاله بِهِ (وَعَدَمه) أَي الثُّبُوت بِكُل لثُبُوته بِغَيْرِهِ اسْتِقْلَالا (وَمر جَوَابه) من قَوْله وَالْجَوَاب الِاسْتِقْلَال كَونهَا بِحَيْثُ إِذا انْفَرَدت ثَبت بهَا أَي عِنْدهَا والحيثية لَهَا فِي الْمَعِيَّة وَالتَّرْتِيب لَا معنى إفادتها الْوُجُود كالعقلية عِنْد الْقَائِل

(4/28)


بِهِ انْتهى، وَقد مر تَفْسِيره (والتحكم) مَعْطُوف على التَّنَازُع: أَي وَلزِمَ التحكم أَيْضا فَإِن القَوْل بعلية كل وَاحِد بِعَيْنِه مَعَ عدم رجحانه على الآخر تحكم (قُلْنَا) إِنَّمَا يلْزم التحكم (لَو لم يثبت) الحكم (بِكُل) أَي بِكُل وَاحِد وَقد عرفت مَعْنَاهُ فِي الْجَواب عَن التَّنَاقُض (كالمشاهد) أَي كالثبوت بِكُل الْمشَاهد (فِي) الْأَدِلَّة (السمعية) الدَّالَّة (على حكم) وَاحِد. قَالَ الذَّاهِب إِلَى أَن مَا يثبت بِهِ الحكم مِنْهَا (غير الْمعِين: لولاه) أَي لَوْلَا أَن ثُبُوته بِغَيْر الْمعِين (لزم التحكم فِي التَّعْيِين) وَالْقَوْل بِأَنَّهُ يثبت بِوَاحِد مِنْهَا معِين (و) لزم (خلاف الْوَاقِع فِي الْجُزْئِيَّة) وَالْقَوْل بِأَن الْعلَّة إِنَّمَا هُوَ الْمَجْمُوع وكل وَاحِد مِنْهَا جُزْء الْعلَّة (لثُبُوت الِاسْتِقْلَال) أَي الِاسْتِقْلَال (لكل) وَاحِد مِنْهَا بالعلية فِي الْوَاقِع (الْجَواب) عَن دَلِيل هَذَا الْقَائِل (اخْتِيَار) شقّ (ثَالِث) وَهُوَ القَوْل بِأَن كل وَاحِد مِنْهَا عِلّة اسْتِقْلَالا (كَمَا ذكرنَا وَلنَا فِي) جَوَاز (عكس مَا تقدم) فِي الشَّرْح العضدي لَا خلاف فِي جَوَاز ثُبُوت الْحكمَيْنِ بعلة وَاحِدَة بِمَعْنى الأمارة، وَإِمَّا بِمَعْنى الْبَاعِث فقد اخْتلف فِيهِ وَالْمُخْتَار جَوَازه، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (تعدد حكم عِلّة) قَوْله تعدد بِالْجَرِّ عطف بَيَان لعكس مَا تقدم (بِمَعْنى الأمارة الْمُجَرَّدَة) عَن الباعثية للْحكم (كالغروب) أَي كغروب الشَّمْس (لجَوَاز الْإِفْطَار وَوُجُوب) صَلَاة (الْمغرب بِلَا خلاف وَتَسْمِيَة هَذَا) أَي الأمارة الْمُجَرَّدَة (عِلّة اصْطِلَاح) أَي مُجَرّد اصْطِلَاح من الْأُصُولِيِّينَ من غير رِعَايَة الْمَعْنى الْأَصْلِيّ لِلْعِلَّةِ بِخِلَاف تَسْمِيَة الْوَصْف المثير للْحكم، فَإِنَّهُ روعي فِيهِ ذَلِك لِأَنَّهُ كالعلة الغائية كَمَا يفهم من قَوْله (وَبِمَعْنى الْبَاعِث فِي) الْمَذْهَب (الْمُخْتَار لَا بعد فِي مُنَاسبَة وصف) وَاحِد من أَوْصَاف الْعلَّة (لحكمين) تَقْدِير الْكَلَام لنا قَوْلنَا لَا بعد الخ مُبْتَدأ وَخَبره (كَالزِّنَا) فَإِنَّهُ وصف وَاحِد عِلّة (للْحُرْمَة وَوُجُوب الْحَد) وهما حكمان مُخْتَلِفَانِ بِالذَّاتِ (قَوْلهم) أَي المانعين جَوَازه (فِيهِ) أَي فِي كَون الْوَصْف الْوَاحِد عِلّة لِلْحكمَيْنِ أَو فِي كَونه مناسبا لَهما (تَحْصِيل الْحَاصِل لحُصُول الْمصلحَة بِأحد الْحكمَيْنِ) يَعْنِي أَن مناسبته للْحكم أَن مصْلحَته حَاصِلَة عِنْد الحكم وَالْحكم الْوَاحِد تحصل الْمصلحَة الْمَقْصُودَة مِنْهُ، فَإِذا حصل الحكم الثَّانِي حصلها مرّة أُخْرَى، وَأَنه تَحْصِيل الْحَاصِل (إِنَّمَا يلْزم) خبر الْمُبْتَدَأ أَعنِي قَوْلهم (لَو لم يحصل بِالْوَصْفِ مصلحتان) فَإِنَّهُ إِذا جَازَ حُصُول المصلحتين بِالْوَصْفِ فَالْحَاصِل بِكُل حكم مصلحَة أُخْرَى فَلَا تَحْصِيل للحاصل (أَو لَا تحصل) الْمصلحَة (الْمَقْصُودَة) من الْوَصْف (إِلَّا بهما) قَوْله لَا تحصل مَعْطُوف على لم يحصل وَلَا يخفى أَن مَضْمُون قَوْله لَا تحصل الخ انحصار حُصُول الْمَقْصُودَة فِي تحقق الْحكمَيْنِ وَإِذا دخل كلمة لَو عَلَيْهِ أفادت نفي الْمَضْمُون الْمَذْكُور، فَالْمَعْنى حِينَئِذٍ أَن تَحْصِيل الْحَاصِل لَا يلْزم عِنْد انْتِفَاء الْأَمريْنِ جَمِيعًا عدم حُصُول تحقق مصلحتين بِالْوَصْفِ، والانحصار الْمَذْكُور، فَإِذا لم ينتف

(4/29)


أَحدهمَا لَا يلْزم، أما الأول فقد بَيناهُ، وَأما الثَّانِي فَغير ظَاهر: لِأَنَّهُ إِذا لم تَنْحَصِر الْمَقْصُودَة فِي تحقق الْحكمَيْنِ مَعًا لزم حُصُولهَا بِدُونِ تحققهما مَعًا، وَكَون حُصُول الْمَقْصُودَة بدونهما مخلصا عَن تَحْصِيل الْحَاصِل غير موجه، وَمَا فِي الشَّرْح العضدي من قَوْله الْجَواب منع لُزُوم تَحْصِيل الْحَاصِل لجَوَاز أَن يحصل الحكم الآخر مصلحَة أُخْرَى، أَو أَن الْمصلحَة الْمَقْصُودَة لَا تحصل إِلَّا بهما وَاضح فَإِن الْمصلحَة الْمَقْصُودَة إِذا لم تحصل إِلَّا بِمَجْمُوع الْحكمَيْنِ كَيفَ يلْزم بِالثَّانِي تَحْصِيل الْحَاصِل فَالْوَجْه أَن يحمل كَلَام المُصَنّف على مَا يُوَافق الشَّرْح الْمَذْكُور بِأَن يقدر فِي كَلَامه لفظ يكن ويعطف مَدْخُول أَو على مَدْخُول لم فالتقدير لَو لم يكن لَا يحصل إِلَى آخِره: أَي لَو لم يكن مضمونه وَهُوَ الانحصار الْمَذْكُور (وَمِنْهَا) أَي وَمن شُرُوط عِلّة حكم الأَصْل (أَن لَا تتأخر) الْعلَّة (عَن حكم الأَصْل) ثبوتا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يشْتَرط عدم تأخرها وَيجوز ثُبُوتهَا بعده (ثَبت) حكم الأَصْل (بِلَا باعث، وَأَيْضًا يثبت بذلك) التَّأَخُّر (أَنه لم يشرع) الحكم (لَهَا) أَي لأجل تِلْكَ الْعلَّة الْمُتَأَخِّرَة (وَمثل) تَأَخّر الْعلَّة (بتعليل نَجَاسَة مصاب عرق الْخِنْزِير) أَي الْمحل الَّذِي أَصَابَهُ عرق الْخِنْزِير (بِأَنَّهُ) أَي عرقه (مستقذر، وَهُوَ) أَي التَّعْلِيل بالاستقذار فِي الأَصْل (تَعْلِيل نَجَاسَة اللعاب) أَي فرع تَعْلِيل نَجَاسَة اللعاب (بِهِ) أَي بالاستقذار (لِأَنَّهُ) أَي الْعرق من حَيْثُ النَّجَاسَة (قِيَاس) أَي مقيس (عَلَيْهِ) أَي على اللعاب، أَو الْمَعْنى لِأَن التَّعْلِيل بالاستقذار مآله قِيَاس مصاب الْعرق على مصاب اللعاب فَيجب اعْتِبَار النَّجَاسَة فِي اللعاب ليَصِح قِيَاس مصاب الْعرق عَلَيْهِ بِجَامِع الاستقذار (وَهُوَ) أَي وصف الاستقذار (مُتَأَخّر عَنْهَا) أَو نَجَاسَة اللعاب (وَهُوَ) أَي الْمُتَأَخر الَّذِي ادّعى (غير لَازم لجَوَاز الْمُقَارنَة) أَي لجَوَاز أَن يكون وصف الاستقذار مُقَارنًا لنجاسة اللعاب فِي الثُّبُوت. الْحَاصِل أَن الممثل يُوهم عدم ثُبُوت الاستقذار عِنْد ثُبُوت حكم الأَصْل: وَهُوَ نَجَاسَة اللعاب أَو مصابه، لِأَنَّهُ إِنَّمَا ذكر عِنْد إِلْحَاق الْمُصَاب الْعرق بِهِ وَلم يعرف أَن تَأَخّر الذّكر لَا يسْتَلْزم تَأَخّر الثُّبُوت، ثمَّ الشَّرْط مُقَارنَة الْوَصْف للْحكم بِحَسب اعْتِبَاره فِي الْمحل شرعا لَا بِحَسب ثُبُوت الْمحل فِي الْخَارِج (و) الْمِثَال (الْمُتَّفق عَلَيْهِ) كَونه من الممثل (تَعْلِيل ولَايَة الْأَب على الصَّغِير الَّذِي عرض لَهُ الْجُنُون بالجنون لِأَن ولَايَته قبله) فَإِن ولَايَته مُقَدّمَة على عرُوض الْجُنُون للصَّغِير (وَأما سلبها بعروضه للْوَلِيّ) أَي أما التَّمْثِيل بتعليل سلب الْولَايَة عَن الصَّغِير بالجنون الْعَارِض للْوَلِيّ كَمَا فِي الشَّرْح العضدي (فعكس المُرَاد) لِأَن الْعلَّة: وَهِي الْجُنُون الْعَارِض للْوَلِيّ مقدم على الحكم الَّذِي هُوَ سَبَب ولَايَته. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ غَايَة مَا أدّى إِلَيْهِ نظر الناظرين: أَي فِي تَوْجِيه كَلَامه أَنه من وضع الظَّاهِر مَوضِع الْمُضمر، وَالْمعْنَى سلب الْولَايَة عَن الصَّغِير بالجنون الْعَارِض لَهُ انْتهى. كَأَنَّهُمْ أَرَادوا بالصغير فِي قَوْله عَن الصَّغِير الْوَلِيّ الصَّغِير فَإِن سلب الْولَايَة حَاصِل

(4/30)


بِسَبَب مقدم: وَهُوَ الصغر وَالْجُنُون الْعَارِض مُتَأَخّر عَن السَّبَب الْمَذْكُور وَإِلَّا لَا يتم توجيههم (وَأما مَنعه) أَي منع تَأَخّر وصف الْعلَّة عَن الحكم (إِذا قدر) الْوَصْف الْمَذْكُور (أَمارَة) مُجَرّدَة عَن الباعثية (لِأَنَّهُ تَعْرِيف الْمُعَرّف) تَعْلِيل للْمَنْع: يَعْنِي أَن الأمارة إِنَّمَا تكون معرفَة لما هُوَ أَمارَة لَهُ فَإِذا فرض ثُبُوت الحكم قبله لزم مَعْرفَته أَيْضا قبله فَيلْزم تَعْرِيف الْمُعَرّف (فَلَا) جَوَاب أما: أَي فَلَا يَصح (لِاجْتِمَاع الأمارات) أَي لجَوَاز أَن يجْتَمع لشَيْء وَاحِد أَمَارَات لكَونهَا بِمَنْزِلَة الدَّلِيل وتعدد الْأَدِلَّة أَكثر من أَن تحصى (وَلَيْسَ تعاقبها) أَي الأمارات (مَانِعا) عَن كَون الثَّانِي أَمارَة ومعرفا لِئَلَّا يلْزم تَحْصِيل الْحَاصِل، لِأَن الثَّانِي يعرفهُ بِوَجْه آخر (و) من شُرُوط الْعلَّة (أَن لَا يعود) التَّعْلِيل بهَا (على أَصله بالإبطال) أَي لَا يلْزم مِنْهُ بطلَان الحكم الْمُعَلل بهَا لِأَن ذَلِك الحكم أَصله، إِذْ التَّعْلِيل فرع الثُّبُوت وَبطلَان الأَصْل يسْتَلْزم بطلَان الْفَرْع فصحبته تَسْتَلْزِم بُطْلَانه، فَلَو صَحَّ لصَحَّ وَبَطل فيجتمع النقيضان، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَتبْطل هِيَ: مِثَاله) الْوَاقِع (للشَّافِعِيَّة تَعْلِيل الْحَنَفِيَّة) الحكم الْمُسْتَفَاد بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا مثلا بِمثل سَوَاء بِسَوَاء) وَهُوَ (يعم مَا لَا يُكَال قلَّة) أَي لَا يُكَال عَادَة لقلته (بِالْكَيْلِ) مُتَعَلق بتعليل الْحَنَفِيَّة (فَخرج) مَا لَا يُكَال من دَائِرَة عُمُومه بِسَبَب اعْتِبَار هَذِه الْعلَّة لِأَن عِلّة حكم النَّهْي لَا بُد أَن تتَحَقَّق فِي كل مَا يتَحَقَّق فِيهِ فموجب عمومها يبطل عُمُوم مُوجب الأَصْل بِحَسب مَنْطُوق النَّص (و) تَعْلِيلهم فِي قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (فِي أَرْبَعِينَ شَاة شَاة بسد خلة الْمُحْتَاج) أَي حَاجته (فَانْتفى وُجُوبهَا) أَي وجوب عين الشَّاة منتقلا عَن خصوصيتها (إِلَى التَّخْيِير بَينهَا وَبَين قيمتهَا، وَتقدم دَفعه) أَي دفع لُزُوم إبِْطَال تَعْلِيلهم بسد الْخلَّة حكم الأَصْل (فِي التأويلات) بِالْمَعْنَى وَالنَّص فَارْجِع إِلَيْهِ (و) تقدم دفع (الأول) وَهُوَ لُزُوم إبِْطَال تَعْلِيلهم بِالْكَيْلِ حكم أَصله (فِي) بحث (الِاسْتِثْنَاء، ثمَّ المُرَاد عدم الْكَيْل) فِي تَعْلِيلهم لجَوَاز بيع مَا لَا يدْخل تَحت الْكَيْل مُتَفَاضلا، فَإِن هَذَا الْجَوَاز بِسَبَب عدم تحقق الْكَيْل الَّذِي هُوَ سَبَب منع التَّفَاضُل يعرف كَونه مرَادا (بِأَدْنَى تَأمل) وَلَا يخفى عَلَيْك أَن الْمُتَبَادر من قَوْله ثمَّ المُرَاد إِلَى آخِره بَيَان المُرَاد بِالتَّعْلِيلِ الْمُسْتَفَاد بقوله تَعْلِيل الْحَنَفِيَّة إِلَى قَوْله بِالْكَيْلِ وَهُوَ غير صَحِيح لِأَن الْعلَّة فِي ذَلِك التَّعْلِيل لَا الْكَيْل على مَا بَيناهُ لكنه لما لم يظْهر إبِْطَال ذَلِك التَّعْلِيل حكم بِالْأَصْلِ إِلَّا فِي مسئلة جَوَاز بيع مَا لَا يُكَال إِلَّا مثلا بِمثل مُتَفَاضلا وَيحْتَاج هَذَا الْجَوَاز إِلَى عِلّة تبين مُرَادهم فِي هَذَا التَّعْلِيل فَإِن قلت الْعلَّة فِي التَّعْلِيل الأول الْقدر وَالْجِنْس لَا الْكَيْل فَقَط قلت مُرَاده من الْكَيْل الْقدر وَإِنَّمَا اكْتفى بِذكرِهِ لِأَن مدَار الْإِبْطَال عَلَيْهِ (و) مِثَاله (للحنفية تَعْلِيل) حكم (نَص السّلم) يَعْنِي تَعْلِيل الشَّافِعِيَّة إِيَّاه (يخرج إِحْضَار السّلْعَة) مجْلِس البيع فَإِنَّهُ قد يكون لَهَا مُؤنَة وَثقل (الْمُبْطل) صفة لتعليل

(4/31)


بِمَا ذكر (لأجل مَعْلُوم) وَقد دلّ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " من أسلم فليسلم فِي كيل مَعْلُوم وَوزن مَعْلُوم إِلَى أجل مَعْلُوم " على اشْتِرَاطه فِي السّلم، وَأما الْإِبْطَال فَلِأَن منَاط جَوَاز السّلم إِذا كَانَ خرج إحضارها، فَفِي كل مَبِيع تحقق الْخُرُوج الْمَذْكُور تحقق الْجَوَاز وَإِن كَانَ على سَبِيل الْحُلُول من غير أجل (وَأما الِافْتِتَاح) أَي جَوَاز افْتِتَاح الصَّلَاة (بِنَحْوِ الله أعظم) أَو أجل كَمَا هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى (فبالنص) أَي فثبوته بِالنَّصِّ قَوْله تَعَالَى - {وَرَبك فَكبر} -: لَا بِالْقِيَاسِ حَتَّى يرد عَلَيْهِ أَنه يبطل مُوجب النَّص (إِذْ التَّكْبِير) الْمَأْمُور بِهِ فِي الِافْتِتَاح إِنَّمَا هُوَ (التَّعْظِيم) وَهُوَ ذكر يدل على عَظمته سُبْحَانَهُ، فَيعم الله أعظم وَنَحْوه (وَتقدم) . قَالَ الشَّارِح سَهْو، فَإِنَّهُ لم يتَقَدَّم وَإِنِّي لم أحط بِالنَّفْيِ، وَيجوز تَقْدِيم تَفْسِير التَّكْبِير صَرِيحًا أَو ضمنا. (وَمِنْهَا) أَي شُرُوط الْعلَّة (أَن لَا تخَالف نصا) بِأَن تفِيد فِي الْفَرْع حكما يُخَالف نصا. ثمَّ أَشَارَ إِلَى مِثَاله بقوله (تقدم اشْتِرَاط التَّمْلِيك فِي طَعَام الْكَفَّارَة) الْمُسْتَفَاد من قَوْله تَعَالَى - {فكفارته إطْعَام عشرَة مَسَاكِين} - (كالكسوة) أَي كاشتراطه فِي الْكسْوَة الْمُسْتَفَاد من قَوْله تَعَالَى - {وكسوتهم} - فَإِنَّهُ لَا يُقَال كَسَاه إِلَّا إِذا ملكه، بِخِلَاف أطْعمهُ فَإِنَّهُ يُقَال إِذا أَبَاحَ، وَإِثْبَات الِاشْتِرَاط فِي الْفَرْع الَّذِي بنوا عَلَيْهِ الْإِطْعَام قِيَاسا على الْكسْوَة كَمَا سيشير إِلَيْهِ مُخَالف لعُمُوم كَيَوْم (7) الْإِطْعَام نَقله كَونهمَا كَفَّارَة (و) تقدم (شَرط الْإِيمَان) فِي الرَّقَبَة المحررة كَفَّارَة (فِي الْيَمين) مُتَعَلق بالاشتراط وَالشّرط على سَبِيل التَّنَازُع (كَالْقَتْلِ) أَي قِيَاسا على اشْتِرَاطه فِي الرَّقَبَة المحررة كَفَّارَة فِي الْقَتْل (يبطل) الِاشْتِرَاط وَالشّرط وَفِي بعض النّسخ يبطلان (إِطْلَاق نَص الْإِطْعَام) كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ (و) إِطْلَاق نَص (الرَّقَبَة) فِي قَوْله تَعَالَى - {أَو تَحْرِير رَقَبَة} - فَإِنَّهَا تعم الرَّقَبَة المؤمنة والكافرة (أَو إِجْمَاعًا) مَعْطُوف على قَوْله نصا، فَالْمَعْنى لَا يُخَالف شَيْئا مِنْهُمَا، ومثاله (مَا مر من مَعْلُوم الإلغاء) أَي التَّعْلِيل الَّذِي علم إلغاؤه وَعدم اعْتِبَاره إِجْمَاعًا، فَلَا تقاس صَلَاة الْمُسَافِر على صَوْمه فِي عدم وجوب الْأَدَاء فِي السّفر بِجَامِع السّفر، لِأَن الْإِجْمَاع على وجوب أَدَائِهَا فِيهِ (و) من شُرُوط الْعلَّة (أَن لَا تكون) الْعلَّة (المستنبطة) مُعَارضَة (بمعارض) مَوْجُود (فِي الأَصْل: أَي وصف) فِيهِ (يَصح) للعلية حَال كَونه (غير ثَابت فِي الْفَرْع) وَهَذَا الِاشْتِرَاط مَبْنِيّ (على عدم تعدد) الْعلَّة (المستقلة) بمعارض مَوْجُود فِي الأَصْل: أَي وصف فِيهِ يَصح للعلية، لِأَنَّهُ لَو جَازَ تعددها وَثَبت بَعْضهَا فِي الْفَرْع لم يضر عدم ثُبُوت الْبَعْض الآخر فِيهِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لَا) يشْتَرط عدم الْمعَارض الْمَذْكُور (مَعَ جَوَازه) أَي تعددها، بل يجوز وجود الْمعَارض الْمَذْكُور مَعَه (إِلَّا مَعَ عدم تَرْجِيحه) أَي التَّعَدُّد (على التَّرْكِيب فِيهِ) أَي فِي الأَصْل الَّذِي هُوَ مَحل اجتماعها بِأَن تكون تِلْكَ الْأَوْصَاف بِحَيْثُ تصلح للعلية، مُنْفَرِدَة ومجتمعة، وَلم يتَرَجَّح الِاحْتِمَال الأول على الثَّانِي،

(4/32)


فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يجوز وجوده، لِأَنَّهُ يلْزم على احْتِمَال التَّرْكِيب عدم وجود الْعلَّة فِي الْفَرْع، يرد عَلَيْهِ أَنه على تَقْدِير الْبناء على عدم جَوَاز التَّعَدُّد لَا فرق بَين أَن يكون ذَلِك الْمعَارض مَوْجُودا فِي الْفَرْع، وَأَن لَا يكون مَوْجُودا فِيهِ فَلَا وَجه لتقييده بِعَدَمِ الثُّبُوت فِيهِ، وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَنَّهُ على تَقْدِير ثُبُوته فِيهِ يُمكن أَن يَجْعَل الْمَجْمُوع عِلّة، وعَلى تَقْدِير عَدمه فِيهِ لَا يُمكن ذَلِك فَافْتَرقَا فَتَأمل (وَمَا قيل و) من شُرُوط الْعلَّة أَن (لَا) تكون المستنبطة مُعَارضَة بمعارض مَوْجُود (فِي الْفَرْع تقدم) ذكره فِي شُرُوط الْفَرْع. (و) من شُرُوطهَا (أَن لَا توجب) المستنبطة (زِيَادَة فِي حكم الأَصْل كتعليل) حُرْمَة بيع الطَّعَام بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا المستفادة من (حَدِيث الطَّعَام) أَي لَا تَبِيعُوا الطَّعَام بِالطَّعَامِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء (بِأَنَّهُ) أَي بَيْعه مُتَفَاضلا (رَبًّا) فِيمَا يُوزن كالنقدين (فَيلْزم التَّقَابُض) فِي الْمجْلس فِيهِ كَمَا فِي الأَصْل، وَهُوَ النقدان (وَلَيْسَ) لُزُوم التَّقَابُض مَذْكُورا (فِي نَص الأَصْل) الَّذِي استنبطت مِنْهُ الْعلَّة، وَهُوَ الحَدِيث الْمَذْكُور، فَعلم أَن المُرَاد بِالْأَصْلِ هَهُنَا أصل الْعلَّة، لَا أصل الْفَرْع الْمَقِيس (وَقيل إِن كَانَت) الزِّيَادَة (مُنَافِيَة لَهُ) أَي لحكم الأَصْل اشْترط عدم إِيجَاب الْعلَّة لَهَا (وَهُوَ) أَي هَذَا التَّقْيِيد (الْوَجْه) أَي الْوَجْه المرضي، وَاخْتَارَهُ السُّبْكِيّ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يلْزم النّسخ بِالِاجْتِهَادِ، وَهُوَ غير جَائِز (وَيرجع) مآل هَذِه الْعلَّة (إِلَى مَا يبطل أَصله، وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن هَذَا التَّقْيِيد (لَا يُوجب) اشْتِرَاط عدم إِيجَاب الْعلَّة إِيَّاهَا (و) من شُرُوطهَا (أَن لَا يكون دليلها) أَي الدَّلِيل الدَّال على علية الْعلَّة بِعُمُومِهِ أَو بِخُصُوصِهِ (متناولا حكم الْفَرْع) لِأَنَّهُ يُمكن إِثْبَات حكم الْفَرْع بِالنَّصِّ من غير احْتِيَاج إِلَى الْقيَاس المستلزم ادِّعَاء اشْتِرَاك الأَصْل فِي الْفَرْع فِي الْعلَّة ووجودها فيهمَا فَإِنَّهُ تَطْوِيل من غير حَاجَة، وَقد يمْنَع تَأْثِير الْعلَّة أَو وجودهَا فيهمَا (وَالْوَجْه نَفْيه) أَي هَذَا الشَّرْط (لجَوَاز تعدد الْأَدِلَّة) فَلْيَكُن كل وَاحِد من الْقيَاس وَالدَّلِيل الْمَذْكُور دَلِيلا على الحكم، وَلما كَانَ هَذَا مَظَنَّة سُؤال، وَهُوَ أَنه إِذا كَانَ للْحكم طَرِيقَانِ، فَكَانَ أَحدهمَا مُسْتقِلّا وَالْآخر متوقفا عَلَيْهِ تعين الأول ولغى الثَّانِي، فَيلْزم الرُّجُوع عَنهُ: أجَاب عَنهُ بقوله (وَلَا يسْتَلْزم) تنَاول الْمَدْلُول حكم الْفَرْع (الرُّجُوع عَن الْقيَاس، بل) يسْتَلْزم (الإفادة) للْحكم (بِهِ) أَي بِالْقِيَاسِ حَال كَونه (غير ملاحظ غَيره) أَي غير الْقيَاس (و) الإفادة (بِغَيْرِهِ) أَي بِغَيْر الْقيَاس، وَهُوَ الدَّلِيل الْمَذْكُور فَإِن قلت: كَيفَ يفاد بِالْقِيَاسِ بِدُونِ مُلَاحظَة الْغَيْر ومدار الْقيَاس على دَلِيل علته قلت: إِثْبَات الْعلَّة مطلب آخر مُفَرع عَنهُ عِنْد إِثْبَات الحكم لَا يُلَاحظ (أما لَو تنوزع فِي دلَالَته) أَي دلَالَة الدَّلِيل الْمَذْكُور (على حكم الْفَرْع) من غير نزاع فِي دلَالَته على علية الْعلَّة بِأَن يكون النَّص مُخَصّصا

(4/33)


مثلا، فالمستدل: أَي الْمُعْتَرض لَا يرَاهُ حجَّة إِلَّا فِي أقل الْجمع، فَلَو أَرَادَ إدراج الْفَرْع فِيهِ تعسر فثبتت فِيهِ بِهِ الْعلية فِي الْجُمْلَة، ثمَّ يعمم بِهِ الحكم فِي جَمِيع موارد وجود الْعلَّة، كَذَا فِي الشَّرْح العضدي، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فجوازه اتِّفَاق لِأَنَّهُ يثبت بِهِ الْعلية، ثمَّ يعمم بهَا) . وَفِي الشَّرْح الْمَذْكُور، وَأَيْضًا فقد تكون دلَالَته على الْعلية أوضح من دلَالَته على الْعُمُوم كَمَا تَقول: حرمت الرِّبَا فِي الطَّعَام للطعم، فَإِن الْعلية فِي غَايَة الوضوح والعموم فِي الْمُفْرد الْمُعَرّف مَحل خلاف ظَاهر. ثمَّ لَا يخفى عَلَيْك أَن مُقْتَضى قَوْله لَا يرَاهُ حجَّة الخ، إِذْ لَا يحْتَج بِهِ للعلية أَيْضا إِلَّا أَن يُقَال المُرَاد نفي حجيته فِي حق الْأَفْرَاد الَّتِي تندرج تَحت عُمُومه، وَعليَّة الْعلَّة لَيست مِنْهَا، بل يثبت مِنْهُ بطرِيق الِاقْتِضَاء واللزوم إِلَى غير ذَلِك. (وَالْمُخْتَار جَوَاز كَونهَا) أَي الْعلَّة (حكما شَرْعِيًّا، مِثَاله للحنفية) مَا ورد عَن الخثعمية أَنَّهَا قَالَت يَا رَسُول الله: إِن فَرِيضَة الْحَج أدْركْت أبي وَهُوَ شيخ كَبِير لَا يسْتَمْسك على الرَّاحِلَة أفأحج عَنهُ؟ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين) فقضيته أما كَانَ ذَلِك يقبل مِنْك؟ قَالَت نعم: قَالَ فدين الله أَحَق (قَاس) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِجْزَاء الْحَج عَنهُ بإجزاء قَضَاء الدّين عَنهُ (بعلة كَونه) أَي الْمقْضِي (دينا، وَهُوَ) أَي الدّين (حكم شَرْعِي هُوَ) أَي ذَلِك الحكم الشَّرْعِيّ (لُزُوم أَمر فِي الذِّمَّة) فَإِن هَذَا اللُّزُوم اعْتِبَار من اعتبارات الشَّرْع مترتب على خطابه تَعَالَى الْمُتَعَلّق بأَدَاء الْحق. (و) أَيْضا مِثَاله (قَوْلهم) أَي الْحَنَفِيَّة (فِي) عدم صِحَة بيع (الْمُدبر: مَمْلُوك تعلق عتقه بِمُطلق موت الْمولى) قيد الْإِطْلَاق احْتِرَاز عَن الْمُدبر الْمُقَيد كَأَن مت فِي هَذَا الْمَرَض فَأَنت حر (فَلَا يُبَاع كَأُمّ الْوَلَد) فَالْأَصْل أم الْوَلَد، وَالْفرع الْمُدبر، وَالْعلَّة كَونهمَا مملوكين تعلق عتقهما بِمُطلق موت الْمولى (وَقيل لَا) يجوز أَن تكون تِلْكَ الْعلَّة حكما شَرْعِيًّا (للُزُوم النَّقْض) أَي تخلف الْمَعْلُول عَمَّا فرض عِلّة (فِي التَّقَدُّم) أَي فِي صُورَة تقدمها بِالزَّمَانِ على الحكم (و) لُزُوم (ثُبُوت الحكم بِلَا باعث فِي) صُورَة (التَّأَخُّر) أَي تَأَخّر مَا فرض عِلّة عَن الْمَعْلُول (و) لُزُوم (التحكم فِي) صُورَة (الْمُقَارنَة) إِذْ لَيْسَ أَحدهمَا حِينَئِذٍ أولى بالعلية من الآخر لكَون كل مِنْهُمَا حكما شَرْعِيًّا (وَمنع الْأَخير) أَي لُزُوم التحكم فِي الْمُقَارنَة (لتمييز الْمُنَاسبَة) الْمُعْتَبرَة فِي الْعلية بَينهمَا تمييزا يُفِيد تعين أَحدهمَا بالعلية دون الآخر (وَغَيرهَا) أَي غير الْمُنَاسبَة من الْأُمُور الدَّالَّة على الْعلية الْمَذْكُورَة فِي مسالك الْعلَّة (وَتقدم) فِي جَوَاب المانعين تعدد الْعلَّة (مَا) يُجَاب بِهِ (فِيمَا قبله) أَي مَا قبل الْأَخير وَهُوَ لُزُوم كَون الحكم بِلَا باعث والنقض فِي التَّقَدُّم من أَن تَأْثِير الْعِلَل الشَّرْعِيَّة لَيْسَ بِمَعْنى إفادتها الْوُجُود كالعقلية حَتَّى يمْتَنع فِيهَا التَّقَدُّم أَو التَّخَلُّف (ثمَّ اختير) اخْتَارَهُ الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب (تعين كَونهَا) أَي كَون حكم الْعلَّة الَّتِي هِيَ الحكم الشَّرْعِيّ (لجلب مصلحَة)

(4/34)


يقتضيها حكم الأَصْل لكَونه مَشْرُوعا لحصولها (كبطلان بيع الْخمر) أَي كتعليل بُطْلَانه (بِالنَّجَاسَةِ) الَّتِي هِيَ حكم شَرْعِي لمناسبتها بُطْلَانه لكَونهَا تمنع عَن الملابسة، وَفِي شرع بطلَان بيعهَا بِسَبَب النَّجَاسَة جلب مصلحَة هِيَ تَكْمِيل الْمَقْصُود من الْبطلَان وَهُوَ عدم الِانْتِفَاع (لَا لدفع مفْسدَة) يقتضيها حكم الأَصْل (لِأَن) الحكم (الشَّرْعِيّ لَا يشْتَمل عَلَيْهَا) أَي على مفْسدَة مَطْلُوبَة الدّفع (وحقق) فِي الشَّرْح العضدي (جَوَازهَا) أَي جَوَاز كَون حكمهَا لدفع تِلْكَ الْمفْسدَة (لجَوَاز اشتماله) أَي الحكم الشَّرْعِيّ (على مصلحَة راجحة ومفسدة تدفع بِحكم آخر كوجوب حد الزِّنَا لحفظ النّسَب على الإِمَام ثقيل يُؤَدِّي إِلَى مفْسدَة إِتْلَاف النُّفُوس فعلل بِوُجُوب شَهَادَة الْأَرْبَع) قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ مَا مَعْنَاهُ أَن حد الزِّنَا حكم شَرْعِي مُشْتَمل على مصلحَة راجحة هِيَ حفظ النّسَب وَهُوَ حد ثقيل لكَونه دائرا بَين رجم كَمَا فِي الْمُحصن، وَبَين جلد وتغريب عَام كَمَا فِي غَيره، وَفِي كَثْرَة وُقُوعه مفْسدَة مَا: من إِتْلَاف النُّفُوس وإيلامها فشرع الْمُبَالغَة وَالِاحْتِيَاط فِي طَرِيق ثُبُوته: أَعنِي الشَّهَادَة دفعا للمفسدة القليلة، وَهَذَا معنى كَون ذَلِك عِلّة لَهُ باعثة عَلَيْهِ فوجوب الْحَد المفضي إِلَى كَثْرَة الْإِتْلَاف، والإيلام حكم شَرْعِي مُعَلل بِوُجُوب الْأَرْبَع دفعا للمفسدة الْكَثِيرَة لتبقى مصلحَة حفظ النّسَب خَالِصَة انْتهى. فَالْحَاصِل أَنه لَوْلَا هَذَا الدَّافِع للمفسدة الْمَذْكُورَة لما شرع وجوب الْحَد المفضي إِلَيْهَا فوجوب الْأَرْبَع مصحح لمشروعية الْحَد الْمَذْكُور باعث لَهُ. وَلَا يخفى أَن توقف صِحَة مَشْرُوعِيَّة الْحَد على وجوب الْأَرْبَع لَا يَسْتَدْعِي كَونه باعثا لَهَا وَالْكَلَام فِي الْعلَّة بِمَعْنى الْبَاعِث، وَالْحق أَن الاشتمال على الْمفْسدَة الْمَطْلُوب دَفعهَا بشرع الحكم إِنَّمَا هُوَ شَأْن الْعلَّة كالسكر وَالْقَتْل الْمُشْتَمل على الْبغضَاء والإضافات لعِلَّة وجوب الْحَد لاشْتِمَاله عَلَيْهَا، والدافع لَهَا وجوب الْأَرْبَع كَمَا يفِيدهُ أول كَلَام الْمُحَقق، لَا عَكسه كَمَا يفِيدهُ آخر كَلَامه، وَالْمُصَنّف وَافق الآخر حَيْثُ قَالَ فعلل بِوُجُوب شَهَادَة الْأَرْبَع بِهِ، فَكَأَنَّهُ وَقع سَهْو الْقَلَم بَينهمَا، وَالصَّوَاب مُعَلل بِهِ وجوب الْأَرْبَع، وَعلل بِهِ وجوب شَهَادَة الْأَرْبَع وَالله تَعَالَى أعلم (وَالْمُخْتَار) كَمَا هُوَ قَول الْجُمْهُور (جَوَاز كَونهَا) أَي الْعلَّة (مَجْمُوع صِفَات، وَهِي) أَي الْعلَّة الَّتِي يُقَال لَهَا (المركبة إِذْ لَا مَانع مِنْهُ) أَي من جَوَازه (فِي الْعقل وَوَقع) كَونهَا لذَلِك مَعْطُوف على قَوْله لَا مَانع فَهُوَ دَلِيل آخر على الْجَوَاز يفِيدهُ على الْوَجْه الآكد (كَالْقَتْلِ الْعمد الْعدوان) الْمركب من الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة لحكم الْقصاص. (وَقَوْلهمْ) أَي الشارطين فِي الْعلَّة كَونهَا وَصفا وَاحِدًا المانعين تركبها (لَو كَانَ) أَي لَو تحقق كَونهَا مَجْمُوع صِفَات (والعلية صفة زَائِدَة) أَي وَالْحَال أَنَّهَا صفة زَائِدَة على ذَات الْعلَّة الَّتِي هِيَ مَجْمُوع الصِّفَات (فقيامها) أَي الْعلَّة (إِن) كَانَ (بِجُزْء) وَاحِد مِنْهَا (أَو بِكُل جُزْء) مِنْهَا على حِدة (فَهُوَ) أَي الْجُزْء الْوَاحِد على الأول أَو كل جُزْء على الثَّانِي (الْعلَّة) والمفروض

(4/35)


خِلَافه، وَهُوَ أَنَّهَا الْمَجْمُوع لَا الْوَاحِد بِعَيْنِه أَو لَا بِعَيْنِه وَلَا كل وحد (أَو بالمجموع من حَيْثُ هُوَ مَجْمُوع) وَهَذَا هُوَ الشق الثَّالِث للترديد وَالِاحْتِمَال منحصر فِيهَا (فَلَا بُد من جِهَة وحدة) بهَا يكون الْمَجْمُوع شَيْئا وَاحِدًا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن لَهُ جِهَة وحدة (لم تقم) الْعلية (بِهِ) أَي بالمجموع من حَيْثُ هُوَ لعدم أَمر آخر سوى الْأَوْصَاف المتعددة، فالعلية إِمَّا قَائِمَة بِبَعْض مِنْهَا أَو بِكُل وَاحِد على مَا مر (وَيعود مَعهَا) أَو مَعَ جِهَة الْوحدَة للمجموع (الْكَلَام) فِي جِهَة الْوحدَة (بقيامها) أَي بِاعْتِبَار قيام تِلْكَ الْوحدَة بِأَن يُقَال بِمَ تقوم؟ إِذْ لَا بُد لَهَا من مَحل فَهِيَ (إِمَّا) قَائِمَة (بِكُل إِلَى آخِره) أَي بِكُل جُزْء أَو بِجُزْء وَاحِد، وكل وَاحِد مِنْهُمَا خلاف الْمَفْرُوض فَهِيَ قَائِمَة بالمجموع من حَيْثُ هُوَ مَجْمُوع فَلَا بُد لَهُ من جِهَة وحدة أُخْرَى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فتتحقق وحدة أُخْرَى ويتسلسل قُلْنَا) قَوْلهم الْمَذْكُور فِي إبِْطَال تركب الْعلَّة (تشكيك فِي) جَوَاز أَمر (ضَرُورِيّ) أَي بديهي جَوَازه بل وُقُوعه، وَذَلِكَ لِأَن خُلَاصَة دَلِيله جَارِيَة فِي كل وصف قَائِم بِمَجْمُوع أُمُور مُتعَدِّدَة، ووقوعه أظهر من أَن يخفى، وَأكْثر من أَن يُحْصى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (للْقطع بِنَحْوِ خبرية الْكَلَام) من كَونه استفهاما أَو تَعَجبا إِلَى غير ذَلِك (وَهُوَ) أَي الْكَلَام (مُتَعَدد) لِأَنَّهُ مركب من الْحُرُوف المتعددة، والخبرية وَنَحْوهَا صفة زَائِدَة عَلَيْهِ فَإِن قَامَت بِكُل حرف كَانَ كل حرف كلَاما أَو بِحرف وَاحِد إِلَى آخر مَا تقدم (وَإِنَّمَا هِيَ) أَي هَذِه الشُّبْهَة لمانعي تركيب الْعلَّة بقوله (مغلطة يطردها) أَي يوردها على سَبِيل الاطراد الإِمَام (الرَّازِيّ للشَّافِعِيّ) أَي لإِثْبَات مذْهبه (فِي نفي التَّرْكِيب) فِي كثير من الْمَوَاضِع، ثمَّ الحكم أَن النَّقْض الْمَذْكُور دلّ على بطلَان دليلهم إِجْمَالا (والحل) أَي حل شبهتهم تَفْصِيلًا بِتَعْيِين مَحل الْخلَل فِي دليلهم (أَنَّهَا) أَي الْعلية قَائِمَة (بالمجموع بِاعْتِبَار جِهَة وحدته الْمعينَة هَيئته) عطف بَيَان لجِهَة وحدته: يَعْنِي هَيئته الْحَاصِلَة بالتركيب الْقَائِمَة بِذَات الْمَجْمُوع من غير اعْتِبَار جِهَة وحدة أُخْرَى قبلهَا: يَعْنِي قيام الْعلية بِهِ بِاعْتِبَار قِيَامهَا بِذَات الْمَجْمُوع الْمُغَايرَة لكل جُزْء من حَيْثُ اتصافها بالوحدة الاعتبارية الْحَاصِلَة بالتركيب، لَا من حَيْثُ تعددها بِاعْتِبَار الْأَجْزَاء وَإِذا قُلْنَا الْعلية قَائِمَة بالمجموع تعين مَحل قِيَامهَا (فَلَا يتَصَوَّر) بعد ذَلِك (الترديد) فِي مَحل الْقيام بِأَن كل جُزْء أَو جُزْء وَاحِد إِلَى غير ذَلِك. (ثَانِيًا) بعد الترديد الأول فَلَا يتَصَوَّر (وَلَا وحدة أُخْرَى مَعَ أَنَّهَا) أَي الْعلية كالوحدة صفة (اعتبارية) فالوحدة تَنْقَطِع بِانْقِطَاع اعْتِبَار الْعقل فَلَا تسلسل ثمَّ بَين حَقِيقَة الْعلية بقوله (كَون الشَّارِع قضى بالحكم عِنْدهَا) أَي الْعلَّة فِيهِ مُسَامَحَة، وَالْمرَاد كَونهَا بِحَيْثُ قضى الشَّارِع بالحكم عِنْدهَا فِيهِ لما سَيَجِيءُ (والمستدعي) الَّذِي يَسْتَدْعِي (محلا) مَوْجُودا يقوم بِهِ إِنَّمَا هُوَ الصّفة (الْحَقِيقِيَّة) الْمَوْجُودَة فِي الْخَارِج (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْعلية

(4/36)


اعتبارية (بطلت علية) الْوَصْف (الْوَاحِد) أَيْضا (بِلُزُوم قيام الْعرض بِالْعرضِ) فَإِن الْعلَّة أَيْضا عرض، وَإِذا كَانَت الْعلية صفة حَقِيقِيَّة كَانَت عرضا فَلَزِمَ قيام الْعرض بِالْعرضِ (وَجعلهَا) أَي الْعلية (صفة لَهُ) أَي للشارع (تَعَالَى بِاعْتِبَار جعله) أَي الشَّارِع ذَلِك الْوَصْف عِلّة (يضعف) خبر لجعلها (بِأَنَّهَا) أَي الْعلية (كَون الْوَصْف كَذَلِك) مجعولا علته (لَا) أَن الْعلية (جعله) أَي عين جعل الشَّارِع ذَلِك عِلّة. (وَقَوْلهمْ) أَي مانعي كَونهَا مَجْمُوع الْأَوْصَاف (نفي كل جُزْء عِلّة انتفائها) أَي لَو كَانَت الْعلَّة أوصافا مُتعَدِّدَة لَكَانَ عدم كل جُزْء عِلّة لانْتِفَاء صفة الْعلية لِأَن تحققها مَوْقُوف على تحقق جَمِيع الْأَوْصَاف فَيلْزم انتفاؤها، لَا انْتِفَاء كل وصف (وَيلْزم النَّقْض) من جملَة مقول القَوْل أَن مُقْتَضى ترك الْعلَّة علية نفي كل جُزْء لانتفائها وَيلْزم النَّقْض لهَذِهِ الْعلية (بِانْتِفَاء جُزْء آخر) من أَجزَاء الْعلَّة (بعد انْتِفَاء جُزْء أول) مِنْهَا لِأَن بِانْتِفَاء الآخر لَا يتَحَقَّق انْتِفَاء الْعلَّة (لِاسْتِحَالَة إعدام الْمَعْدُوم) وَأَنَّهَا قد عدمت بِانْتِفَاء الْجُزْء الأول مِنْهَا فَانْتقضَ الْكُلية الْمَذْكُورَة: أَعنِي أَن انْتِفَاء كل جُزْء مِنْهَا عِلّة لانتفائها لتخلفها فِي الصُّورَة الْمَذْكُورَة وَلزِمَ تخلف الْمَعْلُول من علته (إِنَّمَا يَجِيء فِي) الْعِلَل (الْعَقْلِيَّة، لَا) الْعِلَل (الْمَوْضُوعَة) من الشَّارِع (عَلامَة عِنْد اشتمالها) ظرف للوضع إِشَارَة إِلَى منشئة ومناسبتها إِلَى مَا جعلت عَلامَة لَهُ أَعنِي الحكم الْمُعَلل بهَا (على الْمصلحَة) مُتَعَلق باشتمالها (على الانتفاء) مُتَعَلق بعلامة وَلَا يخفى عَلَيْك أَن هَذَا الْمُتَعَلّق يدل على أَن المُرَاد بالموضوعة انتفاءات الْأَجْزَاء لِلْعِلَّةِ المركبة، وَقَوله عِنْد اشتمالها على الْمصلحَة يُفِيد أَن المُرَاد بهَا نفس الْعِلَل الشَّرْعِيَّة لِأَنَّهَا الْمُشْتَملَة على الْمصلحَة لَا الانتفاءات الْمَذْكُورَة، فبينهما تدافع، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يلْتَزم أَن الانتفاءات الْأَجْزَاء على تَقْدِير علتها لانْتِفَاء الْعلَّة المركبة علل شَرْعِيَّة مُشْتَمِلَة على الْمصلحَة، وَأَن معلولها وَهُوَ الانتفاء الْمَذْكُور حكم شَرْعِي، وَفِيه مَا فِيهِ، وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن المُرَاد بهَا الانتفاءات الْمَوْضُوعَة عَلامَة على الانتفاء غير أَن وَضعهَا لذَلِك عِنْد اشْتِمَال تِلْكَ الْعلية المركبة على الْمصلحَة فَتَأمل (إِذْ حَاصله) أَي حَاصِل كَون انْتِفَاء كل جُزْء عِلّة لانْتِفَاء الْكل وَوُقُوع تِلْكَ الانتفاءات مجتمعة أَو متعاقبة (تعدد أَمَارَات) على الْعَدَم، وَلَا مَحْذُور فِيهِ.
مسئلة

(لَا يشْتَرط فِي تَعْلِيل انْتِفَاء حكم بِوُجُود مَانع) من ثُبُوته كَعَدم وجوب الْقصاص للِابْن على الْأَب لمَانع الْأُبُوَّة (أَو) بِسَبَب (انْتِفَاء شَرط) لَهُ كَعَدم وجوب رجم الزَّانِي لانْتِفَاء احصانه الَّذِي هُوَ شَرط وجوب رجمه (وجود مقتضيه) أَي وجود مُقْتَضى ذَلِك الحكم كَمَا هُوَ مُخْتَار

(4/37)


ابْن الْحَاجِب والرازي وَأَتْبَاعه (خلافًا للْبَعْض) كالآمدي وَغَيره وَعَزاهُ السُّبْكِيّ إِلَى الْجُمْهُور (لِأَن كلا مِنْهُمَا) أَي وجود الْمَانِع وَانْتِفَاء الشَّرْط (وَعدم الْمُقْتَضى) باستقلاله (عِلّة عَدمه) أَي الحكم (فَجَاز إِسْنَاده) أَي إِسْنَاد عدم الحكم (إِلَى كل) من الثَّلَاثَة، أما استناد عَدمه إِلَى وجود الْمَانِع عِنْد وجود الْمُقْتَضى فَظَاهر، وَأما عِنْد عَدمه فَمَا أَفَادَهُ بقوله (بِمَعْنى لَو كَانَ لَهُ) أَي للْحكم (مقنض مَنعه) أَي الْمَانِع الحكم، وَأما استناده إِلَى انْتِفَاء الشَّرْط فَلَا يخْتَلف فِيهِ الْحَال بِاعْتِبَار وجود الْمُقْتَضى وَعَدَمه كَمَا لَا يخفى (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْمَانِع الَّذِي أسْند عدم الحكم إِلَيْهِ عِنْد عدم الْمُقْتَضى بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور (فحقيقة المانعية) لَا يتَحَقَّق إِلَّا بِالْمَنْعِ (بِالْفِعْلِ وَهُوَ) أَي الْمَنْع بِالْفِعْلِ (فرع) وجود (الْمُقْتَضى) لِأَنَّهُ إِذا لم يتَحَقَّق مَا يقتضى وجود الشَّيْء لَا يكون ذَلِك الشَّيْء فِي معرض البروز من الْقُوَّة إِلَى الْفِعْل حَتَّى يتَصَوَّر هُنَاكَ منع عَن البروز والوجود، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَإِذا لم يُوجد) الحكم (لعدم وجوده) أَي الْمُقْتَضى (فَيمْنَع) الْمَانِع (مَاذَا) أَي فَإِن قُلْنَا بمانعيته عِنْد ذَلِك يُقَال يمْنَع أَي شَيْء؟ وَالْحكم لَيْسَ بصدد الْوُجُود (وَاذْكُر مَا تقدم فِي فك الدّور) وَدفعه (لَهُم) أَي للقائل بِجَوَاز نقض الْعلَّة (فِي مسئلة النَّقْض) لَهَا من بَيَان الْفرق بَين المانعية بِالْفِعْلِ والمانعية بِالْقُوَّةِ، وتفصيل ذكر هُنَاكَ فَارْجِع إِلَيْهِ، وَفِي الْمَحْصُول انْتِفَاء الحكم لانْتِفَاء الْمُقْتَضى أظهر فِي الْعقل من انتفائه بِحُضُور الْمَانِع وَهَذَا يُفِيد أَن إِسْنَاد عدم الحكم إِلَى الْمَانِع فِي صُورَة عدم الْمُقْتَضى بِمَا يجوزه الْعقل أَيْضا فَافْهَم وفقك الله تَعَالَى للتوفيق بَين أَقْوَال الْمَشَايِخ.