تيسير التحرير

المرصد الثَّالِث

فِي معرفَة الطّرق الموصلة إِلَى الظَّن بعلية الْعلَّة فَإِنَّهُ نَظَرِي، وَبَيَان المسالك الصَّحِيحَة، وَمَا يتَوَهَّم صِحَّته (طرق إِثْبَاتهَا) أَي إِثْبَات علية الْوَصْف الْمعِين للْحكم. وَقَوله طرق إِثْبَاتهَا خبر لقَوْله المرصد الثَّالِث (مسالك الْعلَّة) جمع مَسْلَك، وَهُوَ الطَّرِيق الَّذِي يسلكه الْمُجْتَهد فِي إِثْبَات الْعلية: وَهِي إِمَّا (متفقة) بَين الْفَرِيقَيْنِ على صِحَّتهَا، وَإِمَّا مُخْتَلف فِيهَا، وَلم يذكر هَذَا صَرِيحًا اكْتِفَاء بِبَيَان الْخلاف فِي كل قسم مِنْهُ (تقدم مِنْهَا) أَي من المتفقة (الْمُنَاسبَة) المعبرة (على الاصطلاحين) للشَّافِعِيَّة بِأَنَّهَا عِنْدهم التَّأْثِير على اخْتِلَاف فِي تَعْبِيره، فعندهم كَون الْوَصْف ثَبت اعْتِبَار عينه فِي عين الحكم بِنَصّ أَو إِجْمَاع أَو اعْتِبَار جنسه إِلَى آخر الْأَقْسَام، وَعند الشَّافِعِيَّة الأول فَقَط، فَكل من الْفَرِيقَيْنِ يَقُول بِصِحَّتِهَا على تَعْبِير الْحَنَفِيَّة، وَأما على تَعْبِير الشَّافِعِيَّة فَفِيهَا خلاف كَمَا صرح بقوله (وَالْخلاف فِي الإخالة) بَين الْفَرِيقَيْنِ فِي كَونهَا طَرِيقا مثبتا لاعْتِبَار الشَّرْع الْوَصْف عِلّة للْحكم

(4/38)


(و) المسلك (الثَّانِي) من المتفقة (الْإِجْمَاع) على كَون الْوَصْف عِلّة (فَلَا يخْتَلف) فِي هذَيْن المسلكين (فِي الْفَرْع إِلَّا أَن كَانَ ثُبُوتهَا) أَي الْمُنَاسبَة (أَو طَرِيقه) أَي طَرِيق نقل الْإِجْمَاع (ظنيا) كَالثَّابِتِ بالآحاد (أَو ذَاته) أَي الْإِجْمَاع ظنيا (كالسكوتي) أَي كالإجماع السكوتي وَقد مر تَفْسِيره فِي مبَاحث الْإِجْمَاع بِنَاء (على الْخلاف) الْوَاقِع فِي أَنه ظَنِّي أَو قَطْعِيّ مُطلقًا أَو إِذا كثر وتكرر فِيمَا تعم بِهِ الْبلوى كَمَا مر (أَو يدعى فِيهِ) أَي فِي الْفَرْع (معَارض) بإقامتها الدَّلِيل على اخْتِصَاص عليته بِالْأَصْلِ، أَو يكون الْخصم مِمَّن يجوز تَخْصِيص الْعلَّة بِبَعْض الْمحَال ويدعى تخصيصها بِمَا سوى الْفَرْع لمَانع فِيهِ والخصم يمْنَع وجود الْمَانِع. ثمَّ مثل مَا هُوَ عِلّة بِالْإِجْمَاع بقوله (كالصغر فِي ولَايَة المَال) فَإِنَّهُ عِلّة لَهَا بِالْإِجْمَاع ثمَّ يُقَاس عَلَيْهَا ولَايَة النِّكَاح. قَالَ الشَّارِح: وَلَا خَفَاء فِي أَنه من علل الْولَايَة فِي النِّكَاح بِلَا خلاف انْتهى قُلْنَا مَقْصُود المُصَنّف مُجَرّد التَّمْثِيل لما هُوَ عِلّة بِالْإِجْمَاع. (و) المسلك (الثَّالِث النَّص) وَهُوَ (صَرِيح) من الْكتاب وَالسّنة يدل على الْعلية (للوضع) أَي لأجل كَونه مَوْضُوعا للعلية وَلَا يلْزمه لُزُوما بَينا أَو مُحْتَاجا إِلَى النّظر وَهُوَ (مَرَاتِب كعلة) كَذَا أَو بِسَبَب كَذَا (أَو لأجل كَذَا) كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " إِنَّمَا جعل الاسْتِئْذَان لأجل الْبَصَر، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ إِنَّمَا جعل الاسْتِئْذَان من أجل النّظر " (أَو كي) مُجَرّدَة عَن حرف النَّفْي كَقَوْلِه تَعَالَى - {كي تقر عينهَا} - أَو بهَا - {كَيْلا يكون دولة} - (أَو إِذن) كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " إِذن تَكْفِي همك وَيغْفر لَك ذَنْبك " بعد قَول الصَّحَابِيّ أجعَل لَك صَلَاتي كلهَا (ودونه) أَي دون هَذَا الْقسم فِي قُوَّة الدّلَالَة (مَا) يكون (بِحرف ظَاهر فِيهِ) أَي فِي التَّعْلِيل مَعَ كَونه مُحْتملا لغيره احْتِمَالا مرجوحا (كلكذا) نَحْو قَوْله - {لتخرج النَّاس من الظُّلُمَات} - (أَو بِهِ) أَي بِكَذَا - {جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ} - (أَو أَن) حَال كَونهَا (شرطا أَو) أَن (الناصبة) - {أفنضرب عَنْكُم الذّكر صفحا أَن كُنْتُم قوما مسرفين} - بِكَسْر الْهمزَة فِي قِرَاءَة نَافِع وَحَمْزَة وَالْكسَائِيّ، وَبِفَتْحِهَا فِي قِرَاءَة البَاقِينَ (أَو) أَن (الْمَكْسُورَة الْمُشَدّدَة بعد جملَة والمفتوحة) نَحْو، ان عَذَاب رَبك بالكفار مُلْحق وان الْحَمد وَالنعْمَة لَك، فَإِن فِي أَن فيهمَا الْوَجْهَيْنِ إِذْ هَذِه الْحُرُوف قد تَجِيء لغير الْعلية فَاللَّام للعاقبة، وَالْبَاء للحاجية، وَأَن لمُجَرّد اللُّزُوم من غير سَبَبِيَّة، وَأَن لمُجَرّد نصب الْمُضَارع، وأنّ وأنّ لمُجَرّد التَّأْكِيد، وَأنكر السُّبْكِيّ كَون أَن بِالْكَسْرِ للتَّعْلِيل: قَالَ وَإِنَّمَا ترد للشّرط وَالنَّفْي وَالزِّيَادَة، وَأَن فهم التَّعْلِيل فِي الشّرطِيَّة فَهُوَ من تَعْلِيل الحكم على الْوَصْف (ودونه) أَي هَذَا الْقسم (الْفَاء فِي الْوَصْف) الصَّالح لعلية الحكم الْمُتَقَدّم على الْوَصْف كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَتْلَى أحد: زملوهم بكلومهم وَدِمَائِهِمْ (فَإِنَّهُم يحشرون) يَوْم الْقِيَامَة وأوداجهم تشخب دَمًا (أَو) فِي (الحكم) الْوَاقِع بعد مَا صلح لعلية كَقَوْلِه تَعَالَى - {وَالسَّارِق والسارقة} -

(4/39)


(فَاقْطَعُوا) أَيْدِيهِمَا، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا دون مَا قبله (لِأَنَّهَا) أَي الْفَاء بِحَسب الْوَضع (للتعقيب) وَالتَّرْتِيب (والباعث مقدم عقلا) على الحكم (مُتَأَخّر خَارِجا) عَنهُ تَارَة فِي الْجُمْلَة، فسوغ مُلَاحظَة الْأَمريْنِ دُخُول الْفَاء على كل مِنْهُمَا، فالعلية إِنَّمَا تفهم بِالنّظرِ وَالِاسْتِدْلَال، فَإِذا دخلت على الحكم الْوَاقِع بعد الْوَصْف الصَّالح للعلية ظهر بِالتَّأَمُّلِ أَن ترتبه على الْوَصْف بِاعْتِبَار باعثية الْوَصْف وتقدمه العقلى عَلَيْهِ، وفيا لعكس ظهر بِالتَّأَمُّلِ أَن تَأَخّر الْوَصْف بِاعْتِبَار تَأَخره الْخَارِجِي فالعلية بِحَسب الذِّهْن، وَالْخَارِج إِنَّمَا يفهم بطرِيق الِاسْتِدْلَال لَا بِوَضْع الْفَاء لَهَا، وَإِلَى مَا قُلْنَا أَشَارَ بقوله (فلوحظا) أَي التَّقَدُّم الْعقلِيّ والتأخر الْخَارِجِي (فِيهَا) أَي فِي الْفَاء عِنْد دُخُولهَا على الْعلَّة وَالْحكم (واذن) أَي وَإِذ كَانَ فهم الْعلية بملاحظة التَّقَدُّم والتأخر الْمَذْكُورين والتأمل فِي معنى الْكَلَام (فَلَا دلَالَة لَهَا) أَي للفاء وضعا (على علية مَا بعْدهَا) لما قبلهَا (أَو) على (حكميته) أَي على كَون مَا بعْدهَا حكما شرع لعلية مَا قبلهَا (بل) إِنَّمَا تدل على أَحدهمَا (بِخَارِج) عَمَّا وضع لَهُ الْفَاء، وَهُوَ الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور (ودونه) أَي هَذَا الْقسم (ذَلِك) أَي دُخُول الْفَاء على الحكم (فِي لفظ الرَّاوِي سَهَا فَسجدَ) . عَن عمرَان بن حُصَيْن أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلّى بهم فَسَهَا فِي صلَاته فَسجدَ سَجْدَتي السَّهْو (وزنى مَاعِز فرجم) دلَالَته على الْعلية بِاعْتِبَار تَرْتِيب الحكم على الْوَصْف الْمُسْتَفَاد من وضع الْفَاء، فَكَانَ هَذَا دون مَا قبله (لاحْتِمَال الْغَلَط) من الرَّاوِي فِي فهم السَّبَبِيَّة (وَلَا ينفى) احْتِمَال الْغَلَط (الظُّهُور) لعدم الْغَلَط الْمُفِيد للظن لكَون الِاحْتِمَال مرجوحا (وَقيل هَذَا) إِيمَاء وَلَيْسَ بِصَرِيح، وَالْقَائِل الْآمِدِيّ والبيضاوي (كَمَا قيل فِي) قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّهَا يَعْنِي الْهِرَّة لَيست بنجسة (إِنَّهَا من الطوافين) عَلَيْكُم والطوافات، وذكرهما بِصِيغَة التمريض يدل على أَن الْمُخْتَار دخولهما فِي الصَّرِيح على مَا فعله المُصَنّف (وإيماء) مَعْطُوف على قَوْله صَرِيح (وتنبيه) لقب آخر لهَذَا الْقسم، وَهُوَ (ترتيبه) أَي الحكم (على الْوَصْف) الصَّالح لعليته (فيفهم لُغَة) لَا وَصفا، بِمَعْنى أَن من يعرف اللُّغَة يفهم (أَنه) أَي الْوَصْف (عِلّة لَهُ) أَي للْحكم من التَّرْتِيب الْمَذْكُور (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن ذَلِك الْوَصْف عِلّة لذَلِك الحكم (كَانَ) ذَلِك التَّرْتِيب (مستبعدا) من الْعَارِف بمواقع التَّرْكِيب (وَهُوَ) أَي هَذَا الْقسم (إِيمَاء اللَّفْظ) من قبيل الْمَنْطُوق، وَقد مر فِي بَيَان اصْطِلَاح الشَّافِعِيَّة فِي الْفُصُول الْمُتَعَلّقَة بالمفرد (وَلَا يخص) هَذَا الْإِيمَاء (الشَّارِع إِلَّا أَنه) أَي عدم كَون الْوَصْف عِلّة (فِيهِ) أَي فِي الشَّارِع (أبعد) لكَون فَصَاحَته فِي الدرجَة الْعليا، وَقد ألف مِنْهُ اعْتِبَاره للمناسبات، فيغلب من الْمُقَارنَة مَعَ الْمُنَاسبَة ظن الِاعْتِبَار وَجعله عِلّة (وَلذَا) أَي ولكونه أبعد من الشَّارِع (يجب فِيهِ) أَي فِي الْوَصْف

(4/40)


الَّذِي هُوَ عِلّة (الْمُنَاسبَة) لذَلِك الحكم، وَقد مر تَفْسِيرهَا (من الشَّارِع) أَي حَال كَونه صادرا مِنْهُ (للْقطع بِحِكْمَتِهِ) المستلزمة لرعاية الْمُنَاسبَة بَينهمَا، لِأَنَّهَا عبارَة عَن فعل الشَّيْء كَمَا يَنْبَغِي، عَن السُّبْكِيّ: أَن الْفُقَهَاء على أَنه لَا يجب على الله تَعَالَى رِعَايَة الْمصَالح، وَلَكِن لَا يَقع حكم إِلَّا بحكمة، والمتكلمون من أهل السّنة يَقُولُونَ: قد يَقع بحكمة، وَقد يَقع وَلَا حِكْمَة: قَالَ وَهُوَ الْحق انْتهى. وَاخْتَارَ المُصَنّف قَول الْفُقَهَاء فِي هَذَا الْمقَام، لِأَنَّهُ الْأَوْجه وَعدم بُلُوغ فهم الْبشر إِلَى الْحِكْمَة لَا يسْتَلْزم عدمهَا: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال مُرَادهم من نفي الْحِكْمَة الَّتِي تفهمها الْعُقُول على أَنه لَو فرض ترك رِعَايَة الْحِكْمَة فِي بعض الْأَحْكَام كَانَ ذَلِك تَنْبِيها على أَنه لَا يجب عَلَيْهِ تَعَالَى رعايتها، وَلَك أَن تَقول: هَذَا أَيْضا حِكْمَة فَتدبر (دون غَيره) أَي لَا تجب الْمُنَاسبَة فِي الْوَصْف الَّذِي صدر من غير الشَّارِع لعدم الْقطع بِحِكْمَتِهِ (كأكرم الْجَاهِل) إِذا صدر من غير الشَّارِع (وَإِن قضى بحمقه) أَي بحمق قَائِله، وَكَانَ هَذَا بِاعْتِبَار الزَّمَان السَّابِق (وَمِنْه) أَي الْإِيمَاء قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا يقْضى القَاضِي) بَين اثْنَيْنِ (وَهُوَ غَضْبَان) إِذْ فِيهِ تَنْبِيه على أَن الْغَضَب عِلّة عدم جَوَاز الحكم، لِأَنَّهُ يشوش الْفِكر وَيُوجب الِاضْطِرَاب ثمَّ إِن وجود الْإِيمَاء عِنْد ذكر الْوَصْف وَالْحكم مَعًا مُتَّفق عَلَيْهِ (فَإِن ذكر الْوَصْف فَقَط كأحل الله البيع) فَإِن الْوَصْف، وَهُوَ حل البيع مَذْكُور، وَالْحكم وَهُوَ الصِّحَّة غير مَذْكُور، بل مستنبط من الْحل لِأَنَّهُ لَو لم يَصح لم يكن مُفِيدا لغايته فَكَانَ قبيحا، والقبيح حرَام (أَو) ذكر (الحكم) فَقَط (كأكثر) الْعِلَل (المستنبطة) نَحْو قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " حرمت الْخمر ": الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو حنيفَة وَغَيره، فَإِن الحكم فِيهِ مَذْكُور وَهُوَ التَّحْرِيم، وَالْوَصْف وَهُوَ الشدَّة المطربة مستنبطة مِنْهُ (فَفِي كَونهَا) أَي كَون الْعلَّة (إِيمَاء) أَي مومى إِلَيْهِ عِنْد ذكر أَحدهمَا فَقَط (تقدم) على صِيغَة الْمَجْهُول صفة كاشفة لإيماء (على غَيرهَا) من المستنبطة بِلَا إِيمَاء، وَقَوله فَفِي كَونهَا خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف بِقَرِينَة مَا بعده، أَعنِي ثَلَاثَة (مَذَاهِب) الأول (نعم) إِيمَاء بِنَاء (على أَن الْإِيمَاء اقتران) الْوَصْف بالحكم (مَعَ ذكرهمَا) أَي الْوَصْف وَالْحكم، وَفِي الْكَلَام مُسَامَحَة، لِأَن الْإِيمَاء لَيْسَ نفس الاقتران، بل مفاده (أَو) مَعَ ذكر (أَحدهمَا) وَتَقْدِير الآخر سَوَاء كَانَ الْمَذْكُور الْوَصْف أَو الحكم (و) الثَّانِي (لَا) يكون إِيمَاء (على أَنه) أَي الْإِيمَاء إِنَّمَا يكون (مَعَ ذكرهمَا) أَي الحكم وَالْوَصْف، وَإِذا لم يذكر فَلَا اقتران، والإيماء عِنْد الاقتران. (و) الثَّالِث (التَّفْصِيل فَمَعَ ذكر الْوَصْف) إِيمَاء (لَا) مَعَ ذكر (الحكم لِأَنَّهُ) أَي الْوَصْف هُوَ (المستلزم) للْحكم (فَذكره) أَي الْوَصْف (ذكره) أَي الحكم (فَيدل الحكم على الصِّحَّة) لما مر، فَإِن الْإِيمَاء بالاقتران، والاقتران ذكرهمَا مَعًا، وَذكر الْوَصْف مُسْتَلْزم

(4/41)


لذكر الحكم، وَأما ذكر الحكم وَحده فَلَا يسْتَلْزم ذكر الْوَصْف (مِثَال الْمُتَّفق) عَلَيْهِ أَنه إِيمَاء قَول الْأَعرَابِي للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (واقعت أَهلِي، فَقَالَ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كفر) ، وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ أَن رجلا أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ يَا رَسُول الله هَلَكت: فَقَالَ وَيحك، قَالَ وَقعت على أَهلِي فِي رَمَضَان، قَالَ أعتق رَقَبَة، قَالَ مَا أجد: قَالَ فَصم شَهْرَيْن مُتَتَابعين، قَالَ لَا أَسْتَطِيع، قَالَ فأطعم سِتِّينَ مِسْكينا، قَالَ مَا أجد: الحَدِيث. قَالَ الشَّارِح هَذَا الَّذِي ذكره المُصَنّف رِوَايَة بِالْمَعْنَى قلت: لَعَلَّه جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات (والمستبعد فِيهِ) أَي فِي هَذَا الْكَلَام (إخلاء السُّؤَال عَن جَوَابه) وَذَلِكَ لِأَن غَرَض الْأَعرَابِي واقعت عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لبَيَان حكمهَا، فَلَو لم يكن قَوْله كفر ذكرا للْحكم جَوَابا لَهُ للَزِمَ إخلاء السُّؤَال عَن الْجَواب فَيكون السُّؤَال مُقَدرا فِي الْجَواب كَأَنَّهُ قَالَ واقعت فَكفر (وَمنع تَأْخِير الْبَيَان عَن وقته) أَي وَقت الْبَيَان الْمُحْتَاج إِلَيْهِ (شَرْعِي) خبر لقَوْله منع إِلَى آخِره: أَي الْمَنْع الْمَذْكُور حكم شَرْعِي، وَلَا يَقع من الشَّارِع مَا هُوَ مَمْنُوع شرعا (وَالظَّاهِر علية عين الوقاع) للاعتاق وأخويه (وَكَونه) أَي كَون الحكم من الاعتاق وَغَيره (لما تضمنه) الوقاع من هتك حُرْمَة الصَّوْم مثلا كَمَا ذكره صدر الشَّرِيعَة (احْتِمَال) غير ظَاهر (وَحذف بعض الصِّفَات) الَّذِي لَا مدْخل لَهُ فِي الْعلية (فِي مثله) أَي فِي مثل هَذَا النَّوْع من الْإِيمَاء (وَاسْتِيفَاء الْبَاقِي يُسمى تَنْقِيح المناط) أَي تَلْخِيص مَا ربط الشَّارِع الحكم بِهِ عَن الزَّوَائِد (فِي اصْطِلَاح غير الْحَنَفِيَّة كحذف أعرابيته) أَي السَّائِل فِي الْخَبَر الْمَذْكُور (والأهل) أَي وكحذف كَون المواقع أَهلا، إِذْ لَا فرق فِي الْأَحْكَام بَين كَون الْمُكَلف أَعْرَابِيًا أَو غَيره، وَبَين كَون كل مَحل الوقاع أَهلا لَهُ وَبَين أَن لَا يكون أَهلا، فَإِن الزِّنَا بِإِيجَاب الْكَفَّارَة أَجْدَر (وتزيد الْحَنَفِيَّة) على الْحَذف الْمَذْكُور (كَونه) أَي حذف كَون الْفِعْل الْمُفطر (وقاعا) إِذْ لَا مدْخل لخصوصه فِي الْعلَّة لمساواته لغيره فِي تَفْوِيت ركن الصَّوْم وَهُوَ الْإِمْسَاك الْخَاص (فَيبقى) بعد حذف الزَّوَائِد (كَونه) أَي كَون هَذَا الْفِعْل، أَعنِي الوقاع (إفسادا عمدا بمشتهى) فَيكون المناط لوُجُوب الْكَفَّارَة، فَيجب بعمد أكل أَو شرب لمشتهي كَمَا يجب بالعمد من الْجِمَاع (و) يُسمى (النّظر فِي معرفَة وجودهَا) أَي الْعلَّة على التَّفْصِيل (فِي آحَاد الصُّور) أَي فِي أَفْرَاد مواد تحقق الْعلَّة (بعد تعرفها) أَي مَعْرفَتهَا إِجْمَالا فِي نَفسهَا (بِنَصّ) كَمَا فِي جِهَة الْقبْلَة فَإِنَّهَا منَاط وجوب استقبالها، وَهِي مَعْرُوفَة بقوله تَعَالَى - {وَحَيْثُ مَا كُنْتُم فَوَلوا وُجُوهكُم شطره} - وَكَون هَذِه الْجِهَة جِهَة الْقبْلَة مظنون (أَو إِجْمَاع) كالعدالة فَإِنَّهَا منَاط وجوب قبُول الشَّهَادَة وَهِي مَعْلُومَة بِالْإِجْمَاع، وَأما عَدَالَة شخص معِين فمظنونة تعرف بِالِاجْتِهَادِ (تَحْقِيق المناط) مفعول ثَان للتسمية (وَلَا يخْتَلف فِيهِ) أَي فِي تَحْقِيق المناط، وَكَونه

(4/42)


مسلكا صَحِيحا لمعْرِفَة وجود الْعلَّة فَإِن النَّص أَو الْإِجْمَاع أَفَادَ تعرفها إِجْمَالا، وَلَيْسَ سوى النّظر سَبِيل إِلَى معرفَة وجودهَا فِي الْآحَاد (ككون هَذَا) الشَّاهِد (عدلا فَيقبل) قَوْله فِي الشَّهَادَة وَهَذَا لَا يُنَافِي الْخلاف فِي وجود الْعَدَالَة فِي هَذَا الْمعِين، وَإِنَّمَا الْمُتَّفق عَلَيْهِ أَن طَرِيق معرفَة وجودهَا فِي الْآحَاد النّظر المستجمع شَرَائِط الصِّحَّة (وَالْأَكْثَر على الأول) أَي القَوْل بتنقيح المناط، وَغير الْأَكْثَر لَا يَقُول بإلغاء مَا لَا قطع لعدم مدخلية بل يظنّ لكنه دون تَحْقِيق المناط كَمَا نقل عَن الْغَزالِيّ وَغَيره (و) يُسمى النّظر (فِي تعرفها) أَي إِثْبَات الْعلَّة (لحكم نَص عَلَيْهِ) أَو أجمع (فَقَط) أَي لم ينص على علته وَلم يجمع، بل إِنَّمَا عرفت باستخراج الْمُجْتَهد لَهَا بِرَأْيهِ واجتهاده (تَخْرِيج المناط) كالنظر فِي إِثْبَات كَون الشدَّة المطربة عِلّة لتَحْرِيم الْخمر، وَهَذَا دون الْأَوَّلين وَقد أنكرهُ كثير من النَّاس (وَهُوَ) أَي تَخْرِيج المناط (أَعم من الأخالة) لِأَنَّهُ يصدق على مَا يثبت بالسبر (وَفِي كَلَام بعض) كَابْن الْحَاجِب (إِفَادَة مساواتها) أَي الإخالة لتخريج المناط، فَإِنَّهُ قَالَ الْمُنَاسبَة الإخالة وَيُسمى تَخْرِيج المناط تعْيين الْعلَّة بِمُجَرَّد إبداء الْمُنَاسبَة من ذَاته لَا بِنَصّ وَغَيره (وَعنهُ) أَي عَن تساويهما (نسب للحنفية) أَي إِلَيْهِم (نَفْيه) أَي نفي القَوْل بتخريج المناط كَمَا فِي البديع من أَنهم ينفون الإخالة لِأَن علية الْوَصْف لحكم شَرْعِي أَمر شَرْعِي لَا بُد من اعْتِبَار الشَّرْع لَهُ بِنَصّ أَو إِجْمَاع (وَاعْتذر بعض الْحَنَفِيَّة عَن عدم ذكرهم) أَي الْحَنَفِيَّة (تَنْقِيح المناط بِأَن مرجعه إِلَى النَّص) أَو الْإِجْمَاع والمناسبة فَذكرهَا يُغني عَن ذكره، وأيد المُصَنّف ذَلِك الِاعْتِذَار بقوله (وَلَا شكّ أَن) قبُول (معنى تَنْقِيح المناط وَاجِب على كل مُجْتَهد حَنَفِيّ وَغَيره وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يقبل مَعْنَاهُ (منع الحكم فِي مَوضِع وجود الْعلَّة) فَيمْنَع وجوب الْكَفَّارَة على غير الْأَعرَابِي وعَلى من جَامع فِي رَمَضَان غير أَهله لعدم حذف الزَّوَائِد من الصِّفَات الَّتِي لَا مدْخل لَهَا فِي الْعلَّة (غير أَن الْحَنَفِيَّة لم يضعوا لَهُ) أَي لِمَعْنى تَنْقِيح المناط (اسْما اصطلاحيا كَمَا لم يضعوا الْمُفْرد) لما وضع لِمَعْنى وَاحِد فَقَط كَمَا وضعُوا الْمُشْتَرك لما وضع لمعان (و) لم يضعوا (تَخْرِيج المناط وتحقيقه) أَي وَلم يضعوا تَحْقِيق المناط (مَعَ الْعَمَل بهَا فِي الْكل، وَكَون مرجع الِاسْتِدْلَال إِذا نقح النَّص المناط) أَي كَون مرجعه النَّص عِنْد التَّنْقِيح فَإِن حذف الزَّوَائِد عَن المناط الْمَنْصُوص رُجُوع إِلَى خُلَاصَة النَّص (لَا يصلح عِلّة لعدم الْوَضع) كَمَا يفِيدهُ اعتذار صدر الشَّرِيعَة وَذَلِكَ لِأَن التَّنْقِيح تصرف مَخْصُوص بِهِ يتَبَيَّن حَقِيقَة المناط الْمَنْصُوص ليستحق أَن يوضع لَهُ اسْم خَاص (بل ذَلِك) أَي عدم الْوَضع (رَاجع إِلَى الِاخْتِيَار) لذَلِك فَإِن الْإِنْسَان مُخَيّر فِي مثل ذَلِك لَا يجب عَلَيْهِ الْوَضع ومرجح الِاخْتِيَار الِاحْتِرَاز عَن تَكْثِير الِاصْطِلَاح مَعَ الْعلم بِالْمُسَمّى بِمُوجب الْعَمَل بِهِ (وَقَوْلهمْ) أَي الشَّافِعِيَّة الْإِيمَاء (اقتران) لحكم (بِوَصْف لَو لم يكن هُوَ) أَي ذَلِك الْوَصْف (أَو نَظِيره)

(4/43)


أَي الْوَصْف (عِلّة) لذَلِك الحكم (كَانَ) ذَلِك الاقتران (بَعيدا، ثمَّ تَمْثِيل الثَّانِي) أَي النظير (بقوله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (و) قد (سَأَلته) الخثعمية (عَن وَفَاة أَبِيهَا وَعَلِيهِ الْحَج أفيجزيه حَجهَا عَنهُ) ومقوله قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَرَأَيْت لَو كَانَ على أَبِيك دين فقضيته الخ غير مُطَابق لِأَن النظير دين الْعباد، وَلَيْسَ) دين الْعباد (الْعلَّة) لِأَنَّهُ نفس الأَصْل، وَدين الله تَعَالَى الْفَرْع (بل) الْعلَّة للْحكم الَّذِي هُوَ سُقُوط مَا فِي الذِّمَّة بِفعل الْمُتَبَرّع (كَونه) أَي الْمقْضِي (دينا، وَذكره) أَي الشَّارِع دين الْعباد (ليظْهر أَن الْمُشْتَرك) بَينهمَا وَهُوَ الدّين الْمُطلق (الْعلَّة، وَتقدم التَّمْثِيل بِهِ) أَي بِهَذَا الحَدِيث (للحنفية لِلْعِلَّةِ الْوَاقِعَة حكما شَرْعِيًّا، وَلذَلِك) أَي وَلِأَن ذكر الشَّارِع إِيَّاه لظُهُور كَون الْمُشْتَرك عِلّة (يُسمى مثله تَنْبِيها على أصل الْقيَاس) وَهُوَ الدّين الْمُشْتَرك بَينهمَا (وَبِقَوْلِهِ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعْطُوف على الضَّمِير الْمَجْرُور فِي قَوْله وَتقدم التَّمْثِيل بِهِ، وَعطفه الشَّارِح على بقوله وَسَأَلته فَيكون التَّقْدِير، ثمَّ تَمْثِيل الثَّانِي بقوله لعمر فَاحْتَاجَ إِلَى الْخَبَر، لِأَن مَا هُوَ خبر فِي جَانب الْمَعْطُوف عَلَيْهِ وَهُوَ غير مُطَابق لَا يصلح للخبرية هُنَا، وَهُوَ ظَاهر، وَمَا ذكرنَا مَعَ قربه غير محوج إِلَى الْخَبَر، وَكَأَنَّهُ عدل عَنهُ لعدم اشتراكهما فِي قَوْله للحنفية الخ.
وَأَنت خَبِير بِأَنَّهُ لَا يضر فِي الْعَطف لجَوَاز أَن يخْتَص الْمَعْطُوف عَلَيْهِ بِبَعْض الْقُيُود عِنْد وجود الْقَرِينَة (لعمر) رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (و) قد (سَأَلَهُ عَن قبْلَة الصَّائِم) بِأَنَّهَا (هَل تفْسد) الصَّوْم، ومقول قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَرَأَيْت لَو تمضمضت بِمَاء ثمَّ مججته أَكَانَ يفْسد) فَإِن قلت قد ذكر تقدم التَّمْثِيل بِحَدِيث الخثعمية بتقريب تَمْثِيل الشَّافِعِيَّة نَظِير الْوَصْف بِهِ، فَمَا تقريب ذكر تقدم التَّمْثِيل بِحَدِيث عمر قلت بِقَرِينَة كَونه من التَّنْبِيه على أصل الْقيَاس، وَإِنَّمَا تقدم التَّمْثِيل بِهِ فِي بحث اعْتِبَار الشَّارِع الْعلَّة (وَقيل لَيْسَ) هَذَا الْمِثَال (مِنْهُ) أَي من التَّنْبِيه على أصل الْقيَاس (إِذْ لَا يُنَاسب كَونه) أَي التمضمض بِالْمَاءِ (مُقَدّمَة) لإفساد الصَّوْم لِأَنَّهُ مُقَدّمَة الشّرْب وَالشرب من مفسداته (غير مفضية) إِلَى الْإِفْسَاد لعدم فَسَاده بالمضمضة (عدم الْفساد) مَنْصُوب بقوله لَا يُنَاسب: يَعْنِي أَن الْمَضْمَضَة لَا مُنَاسبَة بَينهَا وَبَين عدم الْفساد بِسَبَب كَونهَا من مُقَدمَات الْفساد وَإِن لم تكن مفضية إِلَيْهِ، وَالْعلَّة يجب أَن تكون مُنَاسبَة للْحكم (بل) إِنَّمَا يُنَاسب عدم الْإِفْسَاد مُنَاسبَة مسوغة للعلية (وجود مَا يمْنَع مِنْهُ) أَي من الْإِفْسَاد، والتمضمض لَيْسَ كَذَلِك لِأَن نسبته إِلَى الْإِفْسَاد وَعَدَمه على السوية، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَوُجُود مَا يتَّفق مَعَه) أَي الْفساد تَارَة (وَلَا يتَّفق) مَعَه أُخْرَى (لَا يلْزم عِلّة) أَي وجود أَمر كَذَلِك لَا يلْزم عِلّة الْفساد (فَإِنَّمَا هُوَ) النّظر الْمَذْكُور (نقض توهمه) أَي توهم عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عليته

(4/44)


للإفساد (وَمِنْه) أَي الْإِيمَاء (أَن يفرق بَين الْحكمَيْنِ بِذكر وصفين كللراجل سهم وللفارس سَهْمَان) فَإِن الْفرق بَين الْحكمَيْنِ من حَيْثُ الْعدَد فِي مثل هَذَا الْمقَام: أَعنِي عِنْد وجود مَا يَقْتَضِي عدم الْفرق بَين الْحكمَيْنِ ككون الراجل والفارس متساويين فِي أصل الْجِهَاد بِذكر وصفين هما الراجلية والفارسية مشيرين إِلَى وَجه الْفرق بَين الموصوفين فِي الحكم إِيمَاء إِلَى أَن عِلّة الْحكمَيْنِ الوصفان الْمَذْكُورَان (أَو) يذكر (أَحدهمَا) أَي أحد الوصفين فَقَط (كلا يَرث الْقَاتِل) فَإِنَّهُ لم يذكر الْوَصْف الآخر وَهُوَ غير الْقَاتِل لكنه يفهم بِقَرِينَة الْمُقَابلَة، فتخصص الْقَاتِل بِالْمَنْعِ من الْإِرْث (بعد ثُبُوت عُمُومه) أَي الْإِرْث لَهُ وَلغيره يشْعر بِأَن عِلّة الْمَنْع الْقَتْل، فالتفريق بَين منع الْإِرْث وَالْإِرْث بِوَصْف الْقَتْل الْمَذْكُور مَعَ منع الْإِرْث لَو لم يكن لعلية الْقَتْل لمنع الْإِرْث لَكَانَ بَعيدا (أَو) يفرق بَينهمَا (فِي ضمن غَايَة) كَقَوْلِه تَعَالَى - {وَلَا تقربهن (حَتَّى يطهرهن} } فَإِنَّهُ فرق بَين منع القربان وإباحته المفهومة من ذكر الْغَايَة الْمَدْلُول عَلَيْهَا بقوله تَعَالَى - {فَإِذا تطهرن فأتوهن} - بِذكر الْغَايَة وَهُوَ الطُّهْر، فَلَو لم يكن لعلية الطُّهْر للْجُوَاز لَكَانَ بَعيدا (أَو) فِي ضمن (اسْتثِْنَاء) كَقَوْلِه تَعَالَى - {فَنصف مَا فرضتم إِلَّا أَن يعفون} أَي الزَّوْجَات عَن ذَلِك النّصْف فَلَا شَيْء لَهُنَّ فتفريقه بَين لُزُوم النّصْف وَعَدَمه فِي ضمن الِاسْتِثْنَاء لَو لم يكن لعلية الْعَفو للانتفاء لَكَانَ بَعيدا (أَو) فِي ضمن (شَرط) كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا اخْتلف الجنسان فبيعوا كَيفَ شِئْتُم) وَفِي لفظ مُسلم، فَإِذا اخْتلفت هَذِه الْأَجْنَاس، فبيعوا كَيفَ شِئْتُم لَعَلَّه جَاءَ بِهَذَا اللَّفْظ أَيْضا، وَإِلَّا فَهُوَ نقل بِالْمَعْنَى، فالتفريق بَين منع بيع الْجِنْس بِجِنْسِهِ مُتَفَاضلا وَبَين جَوَازه بِغَيْر جنسه لَو لم يكن لعلية الِاخْتِلَاف للْجُوَاز لَكَانَ بَعيدا، ثمَّ هَذَا الْمِثَال مِمَّا نَحن فِيهِ (لَو لم تكن) أَي لم تُوجد (الْفَاء) دَاخِلَة على الحكم لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ من قبيل الصَّرِيح كَقَوْلِه تَعَالَى - {فَاقْطَعُوا أَيْدِيهِمَا} - (على مَا قيل) وَهُوَ مُتَّجه (وَذكر فِي اشْتِرَاط الْمُنَاسبَة فِي) صِحَة (علل الْإِيمَاء) ثَلَاثَة مَذَاهِب: الأول (نعم) يشْتَرط لإِجْمَاع الْفُقَهَاء على لُزُوم الحكم فِي الْأَحْكَام، وَلِأَن الْغَالِب فِي الْأَحْكَام التَّعْلِيل بالعلل الْمُنَاسبَة، فَإِنَّهُ أقرب إِلَى الانقياد من التَّعَبُّد الْمَحْض فَيلْحق بالأعم الْأَغْلَب. (و) الثَّانِي (لَا) يشْتَرط لِأَن الْعلية تفهم بِدُونِهَا (و) الثَّالِث (الْمُخْتَار) لِابْنِ الْحَاجِب وَغَيره أَنه (إِن فهم التَّعْلِيل من الْمُنَاسبَة) كَمَا فِي لَا يقْضِي القَاضِي وَهُوَ غَضْبَان (اشْترطت) معنى الِاشْتِرَاط حِينَئِذٍ اللُّزُوم وَعدم التحقق بِدُونِ الْمُنَاسبَة (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يفهم التَّعْلِيل من الْمُنَاسبَة بل بغَيْرهَا من الطّرق (فَلَا) يشْتَرط، لِأَن التَّعْلِيل يفهم من غَيرهَا فَلَا حَاجَة إِلَيْهَا. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: وَلَا يخفى ضعف هَذَا فَإِن وجود مَا يفهم مِنْهُ الْعلية لَا يَقْتَضِي عدم اشْتِرَاط أَمر آخر لصِحَّة الْعلية واعتبارها فِي بَاب الْقيَاس (قيل وَإِنَّمَا يَصح)

(4/45)


عدم الِاشْتِرَاط (إِذا أُرِيد بالمناسبة ظُهُورهَا) عِنْد النظار (وَإِلَّا فَلَا بُد مِنْهَا) أَي الْمُنَاسبَة (فِي الْعلَّة الباعثة) الَّتِي لَا يتَحَقَّق بِدُونِهَا (بِخِلَاف الأمارة الْمُجَرَّدَة) عَن الباعثية. قَالَ المُصَنّف: (وَأَنت تعلم أَن الْفَرْض أَنَّهَا) أَي الْعلَّة (علمت من إِيمَاء النَّص، فَكيف يفصل إِلَى أَن تعلم) الْعلَّة (بالمناسبة: يَعْنِي فَقَط فتشترط) الْمُنَاسبَة (أَو) تعلم (لَا بهَا) أَي الْمُنَاسبَة (فَلَا) تشْتَرط. (و) المسلك (الرَّابِع السبر التَّقْسِيم) وَهُوَ (حصر الْأَوْصَاف) الْمَوْجُودَة فِي الأَصْل الصَّالِحَة للعلية ظَاهرا فِي عدد (وَيَكْفِي) الْمُسْتَدلّ المناظر (عِنْد مَنعه) أَي منع حُصُولهَا أَن يَقُول (بحثت فَلم أجد) مَا يصلح للعلية غَيرهَا لِأَن الظَّاهِر أَنَّهَا لَو كَانَت لما خفيت على الْمُجْتَهد الباحث (أَو) يَقُول (الأَصْل) فِي الْأَشْيَاء (الْعَدَم) فَالْأَصْل عدم غير الْأَوْصَاف الَّتِي وَجدتهَا فَلَا يعدل عَنهُ إِلَّا عِنْد قيام دَلِيل الْوُجُود، وَلَا دَلِيل (ثمَّ حذف بَعْضهَا) أَي الْأَوْصَاف المحصورة، وَهُوَ مَا سوى الَّذِي ظن عليته (فَيتَعَيَّن الْبَاقِي) بعد الْحَذف للعلية، فَظهر أَن السبر اخْتِيَار الْوَصْف هَل يصلح للعلية أَولا، والتقسيم هُوَ أَن الْعلَّة إِمَّا كَذَا وَإِمَّا كَذَا، نقل عَن المُصَنّف أَنه كَانَ الْمُنَاسب تَقْدِيم التَّقْسِيم فِي اللَّفْظ لتقدمه فِي الْخَارِج إِلَّا أَن اللقب وَقع هَكَذَا (وَلَو أبدى) الْمُعْتَرض وَصفا (آخر فالمختار لَا يَنْقَطِع) الْمُسْتَدلّ، بل عَلَيْهِ دَفعه بِإِبْطَال التَّعْلِيل بِهِ (إِلَّا أَن لم يُبطلهُ) أَي الْمُسْتَدلّ كَون المبدي عِلّة وصلاحية لَهَا فَإِنَّهُ يلْزم الِانْقِطَاع حِينَئِذٍ، وَإِنَّمَا لَا يَنْقَطِع بِمُجَرَّد منع الْحصْر مصروفا بِسَنَدِهِ (لِأَنَّهُ) أَي الْمُسْتَدلّ (لم يدع الْحصْر قطعا) فمجرد احْتِمَال وَصرف آخر لَا يضرّهُ (ويكفيه) أَي الْمُسْتَدلّ عِنْد الْمَنْع الْمَذْكُور (عَلمته وَلم أدخلهُ) فِي الْحصْر (لعدم صلاحيته) لكذا. وَقيل يَنْقَطِع الْمُسْتَدلّ بِمُجَرَّد إبداء الْمُعْتَرض وَصفا زَائِدا لِأَنَّهُ ظهر بطلَان حصره. وَقد عرفت جَوَابه (وطرق الْحَذف بَيَان إلغائه) أَي الْمَحْذُوف ثمَّ بَين كَيْفيَّة إلغائه بقوله (بِثُبُوت الحكم بِالْبَاقِي) بعد الْحَذف من الْأَوْصَاف المحصورة (فَقَط فِي مَحل) بِأَن يُوجد الحكم فِي مَحل لَا يُوجد فِيهِ سوى الْبَاقِي من تِلْكَ الْأَوْصَاف (فَلَزِمَ) من ثُبُوته بِالْبَاقِي فَقَط فِي ذَلِك الْمحل (استقلاله) أَي اسْتِقْلَال الْبَاقِي فِي الْعلية، وَإِلَّا لم يثبت الحكم مَعَه (وَعدم جزئية الملغي) فِي الْعلية: أَي عدم مدخليته (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن بَيَان الإلغاء ثُبُوت الحكم بِالْبَاقِي فَقَط، بل بِأَن يُقَال لَو كَانَ الْمَحْذُوف عِلّة لانتفى الحكم عِنْد انتفائه، وَحَيْثُ لم ينتف عِنْد انتفائه لم يكن عِلّة (فَهُوَ) أَي مرجع بَيَان الإلغاء الْمُبين بِهَذَا الطَّرِيق (الْعَكْس) الْمُفَسّر فِيمَا سبق بِانْتِفَاء الحكم لانْتِفَاء الْوَصْف وَقد عرفت بِأَنَّهُ مَبْنِيّ على منع تعدد الْعلَّة المستقلة كَمَا ذهب إِلَيْهِ قوم، وَالْمُخْتَار جَوَاز التَّعَدُّد فَلَا يشْتَرط الانعكاس فِي الْعلَّة (غير أَنه) أَي الْمحل الَّذِي ثَبت فِيهِ الحكم بِالْبَاقِي فَقَط (أصل آخر) لإلحاق الْفَرْع غير الأَصْل الَّذِي فِيهِ الْبَاقِي مَعَ غَيره من غَيره من تِلْكَ الْأَوْصَاف (فَالْقِيَاس

(4/46)


عَلَيْهِ) أَي على الأَصْل الآخر مُتَعَيّن لِأَنَّهُ (يسْقط) من الْإِسْقَاط (مُؤنَة الْحَذف) أَي إِلْغَاء مَا سوى الْوَصْف الَّذِي ادّعى عليته لِأَنَّهُ لم يُوجد فِي هَذَا الأَصْل غَيره خلاف الأَصْل الَّذِي هُوَ فِيهِ مَعَ غَيره فَلَا بُد من إِلْغَاء الْغَيْر فِيهِ كَمَا إِذا اسْتدلَّ على ربوية الذّرة قِيَاسا على الْبر الَّذِي فِيهِ الطّعْم والقوت والكيل فَلَا يتَعَيَّن أَحدهَا للعلية إِلَّا بإلغاء مَا عداهُ، بِخِلَاف مَا إِذا قيس بالملح الَّذِي لَيْسَ فِيهِ سوى الْكَيْل فَإِنَّهُ مُتَعَيّن، فَلَيْسَ فِيهِ مُؤنَة الْحَذف والالغاء (وَبعد أَنَّهَا) أَي الْمُعَارضَة بابداء أصل آخر وادعاء تعين ذَلِك للأصالة سُقُوط مُؤنَة الْحَذف (مشاحة) أَي مضايقة ومناقشة (لفظية) لثُبُوت الحكم لكل من الْأَصْلَيْنِ بِلَا تفَاوت (قد تكون أَوْصَافه) أَي أَوْصَاف الأَصْل الآخر كالملح (أَكثر) من الأَصْل الأول كالبر فَيلْزم أَن تكونة مُؤنَة الْحَذف أَكثر (وَكَونه) بِالْجَرِّ عطفا على الْمَجْرُور فِي قَوْله ثُبُوت الحكم: أَي وَيكون الْمَحْذُوف (مِمَّا علم إلغاؤه) فِي الشَّرْع (مُطلقًا) أَي فِي جَمِيع الْأَحْكَام كالاختلاف فِي الطول وَالْقصر والسواد وَالْبَيَاض إِلَى غير ذَلِك (أَو) لكَونه مِمَّا علم إلغاؤه (فِي ذَلِك) الحكم المبحوث عَنهُ وَإِن اعْتبر فِي غَيره (كالذكورة وَالْأُنُوثَة فِي أَحْكَام الْعتْق) فَإِنَّهُ قد اعْتبر الِاخْتِلَاف فيهمَا فِي الشَّهَادَة وَالْقَضَاء والإمامة الصُّغْرَى والكبرى وَالْإِرْث (وَأَن لَا يظْهر لَهُ) أَي للمستدل مَعْطُوف أَيْضا على الْمَجْرُور الْمَذْكُور، وَالْبَاء مقدرَة، يَعْنِي بَيَان الإلغاء بِأَن لَا يظْهر لَهُ (مُنَاسبَة) بَين الْمَحْذُوف وَبَين الحكم بعد الْبَحْث عَنْهَا (وَيَكْفِي) لَهُ أَن يَقُول (بحثت) عَن الْمُنَاسبَة (فَلم أَجدهَا) فلكونه مُجْتَهدا يعْتَمد على بَحثه. فَعدم وجدانه دَلِيل الْعَدَم، ولعدالته يصدق، وَلَا سَبِيل إِلَى معرفَة وجدانه إِلَّا بإخباره (فَإِن قَالَ) الْمُعْتَرض (الْبَاقِي كَذَلِك) أَي غير مُنَاسِب لَا فِي بحثت فَلم أجد لَهُ مُنَاسبَة (تَعَارضا) أَي وصف الْمُسْتَدلّ، وَوصف الْمُعْتَرض، لِأَنَّهُ أَيْضا مُجْتَهد عدل (وَوَجَب) على الْمُسْتَدلّ (التَّرْجِيح) لوصفه الْحَاصِل من سبره على الْوَصْف الْحَاصِل من سبر الْمُعْتَرض، وَهَذَا لِأَنَّهُ فِي مقَام المناظرة، وَإِلَّا فالمجتهد يجب عَلَيْهِ الْعَمَل بظنه وَإِن كَانَ ظن غَيره أرجح فِي نفس الْأَمر، وَإِنَّمَا لم يجب على الْمُعَلل بَيَان الْمُنَاسبَة (إِذْ لَو أَوجَبْنَا بَيَانهَا على الْمُعَلل انْتقل) عَن طَرِيق السبر (إِلَى الإخالة) إِذْ هِيَ تعْيين الْعلَّة بإبداء الْمُنَاسبَة، وَهِي انْقِطَاع (وَقد يُقَال لما اخْتلف حَاله) أَي الْمُعَلل (بِحَقِيقَة الْمُعَارضَة) من الْمُعْتَرض (فَكَأَنَّهُ) أَي التَّعْلِيل (ابْتِدَاء) غير التَّعْلِيل الأول، فَلَا يضر ذَلِك الِانْتِقَال (مَعَ أَنَّهَا) أَي هَذِه الطَّرِيقَة، يَعْنِي عدم الِانْتِقَال من مَسْلَك إِلَى مَسْلَك آخر طَريقَة (تحسينية) غير ضَرُورِيَّة، فَإِن انْتقل من السبر إِلَى الإخالة فَلهُ ذَلِك، وَلَا يعد ذَلِك انْقِطَاعًا كَمَا سَيذكرُهُ المُصَنّف فِي فصل الأسولة (وَله) أَي للمعلل أَن يرجح وَصفه الْحَاصِل من سبره (بِالتَّعَدِّي) إِذا كَانَ وصف الْمُعْتَرض قاصرا على الأَصْل، والمتعدي مجمع عَلَيْهِ، والقاصر مُخْتَلف فِيهِ، أَو يُقَال:

(4/47)


الْمُتَعَدِّي أَكثر فَائِدَة كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَكَثْرَة الْفَائِدَة) فَهَذَا مكمل للترجيح الْمَذْكُور. وَيُمكن أَن يكون إِشَارَة إِلَى مُرَجّح آخر، وَذَلِكَ بِأَن يكون متحققا فِي محَال مُتعَدِّدَة من الْأُصُول وَالْفُرُوع فيستنبط مِنْهُ أقيسة مُتعَدِّدَة وَأَحْكَام كَثِيرَة (فَإِن قلت علم بِمَا ذكر) من عد عدم ظُهُور الْمُنَاسبَة من طرق الْحَذف حَتَّى لَو قَالَ الْمُعْتَرض: أَن المستبقى كَذَلِك بتحقق الْمُعَارضَة فَيخرج الْمُعَلل إِلَى التَّرْجِيح (اشْتِرَاط مناسبته) أَي الْوَصْف المستبقى (فَلم لم تتفق الْحَنَفِيَّة) مَعَ الشَّافِعِيَّة وَغَيرهم (على قبُوله) أَي قبُول هَذَا الطَّرِيق بعد اشْتِرَاط الْمُنَاسبَة فِيهِ (قُلْنَا يجب على أصولهم) أَي الْحَنَفِيَّة (نَفْيه) أَي نفي قبُوله (وَإِن رضية الْجَصَّاص والمرغيناني) مِنْهُم، دفع لما يَأْتِي: من أَنه كَيفَ يجب على أصولهم نَفْيه مَعَ اخْتِيَار الشَّيْخَيْنِ الْمَذْكُورين إِيَّاه مَعَ كَمَال معرفتهما أصولهم وَحَاصِله أَن الْبُرْهَان إِذا قَامَ على وجوب نَفْيه على أصولهم يحكم بِمُوجب الْبُرْهَان وَإِن كَانَ مرضيهما خِلَافه فلعلهما خالفاهم فِي تِلْكَ الْأُصُول، أَو غفلا عَن موجبهما إِلَى غير ذَلِك (لِأَن الْبَاقِي بعد نفي غَيره) أَي بعد حذف غير الْبَاقِي من الْأَوْصَاف (لم يثبت اعْتِبَاره) شرعا (بِظُهُور التَّأْثِير) وَهُوَ ظُهُور أثر الْوَصْف شرعا، أَعنِي اعْتِبَاره علية جنسه أَو عينه فِي جنس الحكم أَو عينه كَأَنَّهُ أَرَادَ بالتأثير أثر الْوَصْف إِلَى آخِره، وَإِلَّا يلْزم التّكْرَار (والملاءمة) تَصْرِيح بِمَا علم ضمنا لما مر: من أَن التَّأْثِير يسْتَلْزم الْمُنَاسبَة ويسمونها ملاءمة فَالْحَاصِل أَن الْحَنَفِيَّة إِنَّمَا يشترطون التَّأْثِير بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور فِي الْعلَّة، وَالْحَاصِل بالسبر وَإِن اعْتبر فِيهِ الْمُنَاسبَة من أَيْن لَهُ التَّأْثِير الْمَذْكُور، وَمُجَرَّد الْمُنَاسبَة لَا تزيد عَن الإخالة وَهِي غير مُعْتَبرَة عِنْدهم (فَلِذَا) أَي فَلَمَّا ذكرنَا من لُزُوم التَّأْثِير (رده) أَي رَجَعَ الْحَاصِل بالسبر (من قبله من متأخريهم) أَي الْحَنَفِيَّة (إِلَى النَّص أَو الْإِجْمَاع. قَالَ) الْمُتَأَخر الْمَذْكُور (أَو الْمُنَاسبَة) . قَالَ الشَّيْخ شمس الدّين التَّفْتَازَانِيّ فِي فُصُول الْبَدَائِع: إِنَّمَا لم يذكرهُ مَشَايِخنَا مَعَ صِحَّته طَرِيقا واستعمالهم إِيَّاه كثيرا، لِأَن مآله فِي التَّحْقِيق إِلَى أَخذ الْبَاقِيَة من النَّص وَالْإِجْمَاع أَو الْمُنَاسبَة والتأثير انْتهى. (وَفِيه نظر) لِأَن كَلَامه يدل على أَن رده إِلَى كل وَاحِد من الثَّلَاثَة يستدعى قبُوله وَلَيْسَ كَذَلِك (إِذْ تبين أَنَّهَا) أَي الْمُنَاسبَة الْحَاصِلَة فِي المستبقى من أَوْصَاف السبر (لَا تَسْتَلْزِم التَّأْثِير) فَإِن أَرَادَ الْمُنَاسبَة مَعَ التَّأْثِير كَمَا يفهم من عبارَة الشَّيْخ الْمَذْكُور يمْنَع الرَّد إِلَيْهَا، وَإِن أَرَادَ مَا هُوَ أَعم لَا يُفِيد الْقبُول عِنْد الْحَنَفِيَّة لاعتبارهم التَّأْثِير كَمَا مر غير مرّة (وَشَرطه) أَي الْمُتَأَخر الْمَذْكُور (فِي بَيَان الْحصْر) أَي حصر مَا يُمكن أَن يكون عِلّة من أَوْصَاف السبر فِي المستبقى (أَن يثبت عدم علية غير المستبقى بِالْإِجْمَاع أَو النَّص) قَوْله أَن يثبت إِلَى آخِره مفعول شَرطه وَخَبره قَوْله (لَا يُوجب كَونهَا) أَي كَون علية المستبقى (ثَابِتَة بِالْإِجْمَاع) أَو النَّص (إِلَّا مَعَ)

(4/48)


ضميمة أُخْرَى من (الْقطع بالحذف والحصر) أَي مُجَرّد عدم ثُبُوت علية غير المستبقى لَا يسْتَلْزم عليته لجَوَاز أَن لَا يكون المستبقى أَيْضا عِلّة: نعم إِذا انْضَمَّ إِلَيْهِ الْإِجْمَاع على أَن الصَّالح للعلية مُطلقًا منحصر فِي هَذِه الْأَوْصَاف، وَأجْمع أَيْضا على أَن مَا عدا المستبقى مَحْذُوف ملغي، فَحِينَئِذٍ يثبت إِجْمَاعًا علية المستبقى، لِأَن الحكم لَا يكون بِلَا عِلّة كَمَا مر (وَلَيْسَ) الْقطع الْمَذْكُور (بِلَازِم للشَّافِعِيَّة) أَي عِنْد الشَّافِعِيَّة الْقَائِلين بحجيته، وَكَذَا عِنْد من وافقهم فِيهِ (بل رتبته) أَي ثُبُوت الْعلية للمستبقى، وَفِي بعض النّسخ مرتبته (الإخالة) أَي رتبته الإخالة (فَالْخِلَاف فِيهِ ثَابت، و) المسلك (الْخَامِس الدوران) وَيُسمى الطَّرْد وَالْعَكْس، اخْتلفُوا فِيهِ هَل هُوَ مَسْلَك صَحِيح أم لَا؟ (نَفَاهُ) أَي نفى كَونه مسلكا صَحِيحا للعلية (الْحَنَفِيَّة ومحققو الأشاعرة) كَابْن السَّمْعَانِيّ وَالْغَزالِيّ والآمدي وَابْن الْحَاجِب (وَالْأَكْثَر) قَالُوا (نعم) هُوَ مَسْلَك صَحِيح. (ثمَّ) اخْتلف الْقَائِلُونَ بِصِحَّتِهِ هَل يُفِيد الْقطع أَو الظَّن (قيل يُفِيد ظنا) بالعلية، قَالَه الإِمَام الرَّازِيّ وعراقيو الشَّافِعِيَّة، وَعَلِيهِ جُمْهُور الجدليين (وَقيل) يُفِيد (قطعا) وَهُوَ معزو إِلَى بعض الْمُعْتَزلَة (وَشرط بَعضهم لاعتباره) أَي الدوران (قيام النَّص) الدَّال على الحكم (فِي حَالي وجود الْوَصْف وَعَدَمه) وَالْحكم لَا يُضَاف إِلَى النَّص، بل إِلَى الْوَصْف (كَالْوضُوءِ وَجب للْقِيَام) إِلَى الصَّلَاة حَال كَون الْقَائِم (مُحدثا، وَلم يجب لَهُ) أَي للْقِيَام (دونه) أَي دون الْحَدث، فوجوب الْوضُوء مُعَلل بِالْحَدَثِ دائر مَعَه وجودا وعدما، وَالنَّص وَهُوَ الْقيام إِلَى الصَّلَاة قَائِم: أَي مَوْجُود فِي حَال وجود الْحَدث وَعَدَمه من غير أَن يُضَاف الحكم إِلَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذا قَامَ إِلَيْهَا مُحدثا يجب الْوضُوء للْحَدَث لَا للْقِيَام إِلَيْهَا، وَإِذا قَامَ إِلَيْهَا غير مُحدث لَا يجب (وَمُقْتَضى النَّص) أَي قَوْله تَعَالَى - {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} - الْآيَة (الْوُجُوب) أَي وجوب الْوضُوء على الْقَائِم إِلَيْهَا مَعَ عدم الْحَدث (كَمَا) مُقْتَضَاهُ وُجُوبه على الْقَائِم إِلَيْهَا (مَعَه) أَي مَعَ الْحَدث، وَذَلِكَ لِأَن الْجَزَاء وَهُوَ الْأَمر بِالْغسْلِ لَازم للشّرط وَهُوَ الْقيام إِلَى الصَّلَاة، وَإِنَّمَا شَرط هَذَا لاعْتِبَار الدوران، لِأَنَّهُ عِنْد كَون الحكم دائرا مَعَ الْوَصْف وجودا وعدما، وَعدم كَونه مُضَافا إِلَى النَّص حَال وجود الْوَصْف، وَعدم دلَالَة ظَاهِرَة على علية الْوَصْف (وَالْقَضَاء) حَال كَون القَاضِي (غَضْبَان بِلَا شغل بَال جَائِز، وَالنَّص) وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا يقْضِي) القَاضِي بَين اثْنَيْنِ (وَهُوَ غَضْبَان) الْمُفِيد حُرْمَة الْقَضَاء فِي حَال الْغَضَب (قَائِم) فِي حَالي وجود الْوَصْف: أَي شغل البال وَعَدَمه، وَالْحكم دائر مَعَ عدم شغل البال وجودا وعدما، فَإِذا كَانَ غَضْبَان غير مَشْغُول البال يجوز قَضَاؤُهُ، وَإِذا كَانَ مَشْغُول البال بِغَيْر غضب بل بِنَحْوِ جوع وعطش مفرطين، أَو وجع شَدِيد

(4/49)


أَو مدافعة الأخبثين لَا يجوز قَضَاؤُهُ، فَعلم أَن الحكم لَا يُضَاف إِلَى النَّص لِأَن مُقْتَضَاهُ أَن لَا يقْضى فِي الْغَضَب، وَيقْضى فِي غير الْغَضَب: إِمَّا بطرِيق الْمَفْهُوم عِنْد الْقَائِل بِهِ وَإِمَّا بِالْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّة، أَو بِإِطْلَاق النُّصُوص عِنْد غَيره (وَلَا دَلِيل لَهُ) أَي لهَذَا الشارط على اعْتِبَار هَذَا الشَّرْط (غير الْوُجُود) أَي وجود مَا شَرطه فِي هذَيْن النصين، وَأَنت تعلم أَن الْوُجُود لَا يسْتَلْزم الِاشْتِرَاط (و) قد (منع) وجود الشَّرْط الْمَذْكُور فيهمَا (بِأَن مُرَاده) تَعَالَى وَهُوَ أعلم بمراده إِذا أردتم الْقيام إِلَى الصَّلَاة (وَأَنْتُم محدثون) كَمَا هُوَ مأثور عَن ابْن عَبَّاس ومنصوص فِي التَّيَمُّم، وَهُوَ بدله، وَالْبدل لَا يُفَارق الأَصْل فِي مثله، وَإِلَّا لم يكن بَدَلا بل كَانَ وَاجِبا ابْتِدَاء على مَا قَالُوا (و) بِأَن (الشّغل) للقلب (لَازم) للغضب فَلَا يُوجد الْغَضَب بِدُونِهِ، فَلم يُوجد جَوَاز الْقَضَاء مَعَ قيام النَّص (فالنص) مَحْمُول (على ظَاهره) . وَلَا نسلم أَن من حكم هَذَا النَّص حل الْقَضَاء عِنْد عدم الْغَضَب: أما عندنَا فلعدم الْمَفْهُوم، وَأما عِنْد الْقَائِل بِهِ فَيشْتَرط عدم التَّسَاوِي بَين الْمَنْطُوق وَالْمَفْهُوم، وَعند شغل الْقلب بِغَيْر الْغَضَب مِمَّا ذكر من الْأَسْبَاب، فالتساوي بَينهمَا مَوْجُود. (النافون) لكَون الدوران مسلكا صَحِيحا (قَالُوا تحقق انتفاؤها) أَي الْعلية (مَعَ وجوده) أَي الدوران (فِي المتضايفين) كالأبوة والبنوة، والفوقية والتحتية: فَإِنَّهُ كلما تحقق أَحدهمَا تحقق الآخر، وَكلما انْتَفَى انْتَفَى، وَلَا علية وَلَا معلولية بَينهمَا اتِّفَاقًا (و) فِي (غَيرهمَا) أَي المتضايفين (كالحرمة مَعَ رَائِحَة الْمُسكر) الْمَخْصُوصَة بِهِ، فَإِنَّهَا تَدور مَعهَا وجودا وعدما (وَلَيْسَت) الرَّائِحَة (الْعلَّة) للْحُرْمَة (وَلَو الْتفت إِلَى نفي غَيره) أَي غير الْمدَار من الْأَوْصَاف الَّتِي لَا يَدُور مَعهَا الحكم (بِالْأَصْلِ) بِأَن يُقَال وَالْأَصْل عدم علية الْغَيْر (أَو السبر) بِأَن يحصل الْأَوْصَاف وينفي مَا عدا الْمدَار (خرج) كَون الْمدَار عِلّة (عَنهُ) أَي عَن ثُبُوته بالدوران. (وَيدْفَع) هَذَا الدَّلِيل (بِأَنَّهُ) أَي انْتِفَاء الْعلية (فِيمَا ذكر) من المتضايفين وَغَيرهمَا (لمَانع) من الْعلية (كَمَا تبين) قَرِيبا، والتخلف لمَانع غير قَادِح (فَلَا يَنْفِي) انتفاؤها لمَانع (ظَنّهَا) أَي الْعلية (إِذا تجرد) الْمدَار (عَنهُ) أَي عَن الْمَانِع (وَالْكَلَام فِيهِ) أَي فِيمَا تجرد عَن الْمَانِع. قَالَ (الْغَزالِيّ) من النافين: الدوران عبارَة عَن اطراد الْوَصْف وانعكاسه، وَلَا يُفِيد شَيْء مِنْهُمَا الْعلية، إِذْ (الاطراد) حَاصله (عدم النَّقْض) وَأَن لَا يُوجد الْوَصْف فِي صُورَة بِدُونِ الحكم، والنقض من جملَة مفسدات الْعلَّة، وَانْتِفَاء المفسدات كلهَا لَا يَكْفِي فِي صِحَة الْعلية فضلا عَن انْتِفَاء وَاحِد مِنْهَا، إِذْ عدم الْمَانِع وَحده لَا يصلح عِلّة مقتضية (فَأَيْنَ الْمُقْتَضى للعلية أَولا) كَمَا يُقَال: اثْبتْ الْعَرْش ثمَّ انقش، فَلَا بُد أَولا من بَيَان وجود الْمُقْتَضى ثمَّ بَيَان عدم الْمَانِع. (وَأما الانعكاس فَلَيْسَ شرطا لَهَا) أَي لِلْعِلَّةِ (وَلَا لَازِما) لَهَا. فِي الشَّرْح العضدي: شَرط فِي الْعلَّة الانعكاس، وَهُوَ أَنه كلما عدم الْوَصْف عدم الحكم

(4/50)


وَلم يَشْتَرِطه آخَرُونَ؛ وَالْحق أَنه مَبْنِيّ على جَوَاز تَعْلِيل الحكم الْوَاحِد بعلتين مختلفتين، لِأَنَّهُ إِذا جَازَ ذَلِك صَحَّ أَن يَنْتَفِي الحكم بِوُجُود الْوَصْف الآخر (أُجِيب) عَن احتجاج الْغَزالِيّ بِأَن (الْمُدَّعِي) إِثْبَات الْعلية (بالمجموع) الْمركب من الاطراد والانعكاس (لَا بِكُل وَاحِد مِنْهُمَا) وَقد يكون للهيئة الاجتماعية أثر لَيْسَ لكل وَاحِد. (القاطعون) أَي الْقَائِلُونَ بِأَن الدوران يُفِيد الْعلية قطعا قَالُوا (إِذا وَقع الدوران) أَي تحقق (وَعلم انْتِفَاء مَانع الْمَعِيَّة فِي التضايف) أَي الْمَانِع الَّذِي هُوَ الْمَعِيَّة المنافية لتقدم أَحدهمَا على الآخر فَإِنَّهُمَا يوجدان مَعًا ذهنا وخارجا، وَفِيه أَن الْمَعِيَّة الزمانية لَا تنَافِي التَّقَدُّم الذاتي (و) علم انْتِفَاء مَانع (عدم التَّأْثِير كالشرط الْمسَاوِي) فَإِن الشَّرْط عبارَة عَن عِلّة لَا تَأْثِير لَهَا، وَقيد بالتساوي ليتَحَقَّق الطَّرْد، أَعنِي الدوران وجودا: إِذْ مَعَ الْأَعَمّ لَا يلْزم وجود الْمَشْرُوط (و) علم انتقا مَانع (التَّأَخُّر) الْكَائِن (فِي المعلولية) فَإِن وصف التَّأَخُّر لَازم للمعلولية مَانع عَن كَونه عِلّة (قطع بهَا) أَي بالعلية جَوَاب للشّرط الْمُتَقَدّم (للْعَادَة المستمرة فِيمَن تكَرر دوران غَضَبه عَن اسْم حَتَّى علمه من لَا أَهْلِيَّة فِيهِ للنَّظَر كالصبيان) يَعْنِي إِذا دعى شخص باسم مغضب فَغَضب ثمَّ ترك فَلم يغْضب وتكرر ذَلِك علم بِالضَّرُورَةِ أَن ذَلِك سَبَب الْغَضَب حَتَّى أَن من لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ النّظر كالأطفال يعلمُونَ ذَلِك ويتبعونه فِي الدروب ويقصدون إغضابه فيدعونه بِهِ، وَلَوْلَا أَنه ضَرُورِيّ لما علموه، فَهَذِهِ الْعَادة المستمرة تُفْضِي بإفادة الدوران الْعلم بسببية الْمدَار لما يَدُور مَعَه قطعا، فَإِنَّهُ لَا مُوجب فِيهَا لحُصُول الْعلم الْمَذْكُور سوى الدوران (أُجِيب بِأَن النزاع) إِنَّمَا هُوَ (فِي حُصُول الْعلم بِمُجَرَّدِهِ) أَي الدوران) (وَالظَّن) بالعلية إِنَّمَا يحصل فِي الْمِثَال الْمَذْكُور (عِنْده) أَي عِنْد الدوران حَال كَونه مُنْضَمًّا (مَعَ غَيره) أَي الدوران (من التكرر) بَيَان للْغَيْر (لَا) مَعَ (عَدمه) أَي عدم غير الْمدَار (بِعَدَمِ وجدانه) أَي الْغَيْر (مَعَ) وُقُوع (الْبَحْث) والتفتيش (عَنهُ) أَي عَن الْغَيْر كَمَا ذكره فِي الشَّرْح العضدي فِي تَقْرِير الْجَواب من قَوْله: الْجَواب مَحل النزاع لَيْسَ هُوَ حُصُول الْعلم بِهِ، بل حُصُوله بِمُجَرَّدِهِ: وَذَلِكَ فِيمَا ذكرْتُمْ من الْمِثَال مَمْنُوع، إِذْ لَوْلَا انْتِفَاء غير ذَلِك إِمَّا بِأَنَّهُ بحث عَنهُ فَلم يُوجد، وَإِمَّا أَن الأَصْل عَدمه لما ظن انْتهى. فَعلم أَن الظَّن إِنَّمَا يحصل بمساعدة الْغَيْر لَا بِمُجَرَّدِهِ (فضلا عَن) حُصُول (الْعلم) بِمُجَرَّدِهِ، وَإِنَّمَا جعل التكرر غير الدوران، لِأَنَّهُ عبارَة عَن الْوُجُود مَعَ الْوُجُود والعدم مَعَ الْعَدَم. وَلَا شكّ أَن تكَرر الْوُجُود مَعَ الْوُجُود أَمر زَائِد على أصل الْوُجُود مَعَ الْوُجُود. وَلَا شكّ أَن انضمام أَمر وجودي إِلَيْهِ فِي الدّلَالَة على الْعلية أَدخل فِي نفي الِاسْتِقْلَال فِيهَا من انضمام أَمر عدمي إِلَيْهِ (وَدفع) هَذَا الْجَواب (بِأَنَّهُ) أَي إِنْكَار حُصُول الْعلم بالدوران فِي مثل مَا ذكر (إِنْكَار للضروريات) أَي البديهيات (وقدح فِي التجريبيات، فَإِن الْأَطْفَال

(4/51)


يقطعون بِهِ) أَي بِكَوْنِهِ مُفِيدا للعلية (بِلَا أَهْلِيَّة اسْتِدْلَال) وَلَا يخفى عَلَيْك أَن الْمُجيب لَا يُنكر أصل حُصُول الْعلم بالعلية، بل يُنكر حُصُوله بِمُجَرَّد الدوران، فَلَا يلْزم عَلَيْهِ إِنْكَار الضروريات فَتدبر (وَيُجَاب) عَن هَذَا الدّفع (بِأَن مثله) أَي الدوران (يصلح لإِثْبَات الْعلية لغير الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة المبنية على الْمصَالح) وَهُوَ العقليات، فَإِنَّهَا لَا تخْتَلف باخْتلَاف الزَّمَان وَالْمَكَان (أما هِيَ) أَي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة (فَلَا بُد فِي بَيَان عللها من مُنَاسبَة أَو اعْتِبَار من الشَّارِع) . وَقد سبق أَن الْمُنَاسبَة عندنَا تَسْتَلْزِم التَّأْثِير: وَحَاصِله اعْتِبَار جنس الْوَصْف أَو نَوعه فِي جنس الحكم أَو نَوعه، وَالِاعْتِبَار من الشَّارِع عبارَة عَمَّا ذكر، وَكلمَة أَو للتنويع فِي التَّعْبِير (إِذْ فِي القَوْل) بِإِثْبَات الْعلَّة (بالطرد فتح بَاب الْجَهْل) اكْتفى بِذكر الطَّرْد، لِأَن الْعُمْدَة فِي الدوران أَو لِأَن الْعَكْس لَا يعْتَبر فِي الْعلَّة لما مر من جَوَاز تَعْلِيل الحكم الْوَاحِد بعلتين، وَأما كَونه فتح بَاب الْجَهْل فَلِأَن الْعلم عبارَة عَمَّا يُوجد من الشَّارِع، أَو من الْعقل بالبرهان الْقطعِي وَلَا يتَحَقَّق شَيْء مِنْهَا فِي الطَّرْد، وَيجوز فِيهِ وجود الْمعَارض والمناقض، وَبِالْجُمْلَةِ يحْتَمل أَن لَا يعْتَبر علية الْمدَار الشَّرْع احْتِمَالا قَوِيا (و) فتح بَاب (التَّصَرُّف فِي الشَّرْع) وَهُوَ نوع استهزاء بقواعد الدّين، وتطريق لكل قَائِل أَن يَقُول مَا أَرَادَ فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة إِلَى غير ذَلِك، (وَهَذَا) الْجَواب (دفع) لحجة القاطعين (من) قبل (الْحَنَفِيّ) فَإِنَّهُ يعْتَبر فِي الْعلَّة الْمُنَاسب وَالِاعْتِبَار من الشَّارِع (وَقَوله) أَي الْمُجيب (من مُنَاسبَة) أُرِيد بهَا الْمُنَاسبَة الْمَخْصُوصَة (أَي الْمُنَاسب المقبول إِجْمَاعًا) أَي مُنَاسبَة الْمُنَاسب الَّذِي قبل إِجْمَاعًا (وَهُوَ) أَي الْمُنَاسب المقبول إِجْمَاعًا (الضَّرُورِيّ) أَي الْوَصْف الْمُشْتَمل على مصلحَة ضَرُورِيَّة لم تهدر فِي مِلَّة كحفظ النَّفس (أَو المصلحي) أَي الْمُشْتَمل على مصلحَة حاجية دون الأول كَالْبيع وَالْإِجَارَة وَقد مر بيانهما (لَا) من قبل (الشَّافِعِي لِأَنَّهُ) أَي الشَّافِعِي (لَا يمْتَنع أَن يثبت طَرِيقا للعلية) أَي لإثباتها (لَا يجب فِيهَا) أَي فِي تِلْكَ الطَّرِيق (ظُهُور الْمُنَاسبَة كالسبر والدوران) وَإِنَّمَا قَالَ لَا يجب فِيهَا ظُهُورهَا لِأَنَّهُ قد يظْهر فِيهَا لكنه غير لَازم (وَأَن شَرطهَا) أَي الشَّافِعِي الْمُنَاسبَة (فِي نفس الْأَمر) يَعْنِي لم يُصَرح بالاشتراط، لكنه لزم عَلَيْهِ فِي نفس الْأَمر (على معنى أَنه) أَي تَعْلِيله فِي موارده (يدل على ثُبُوتهَا) أَي الْمُنَاسبَة بَينهمَا (فِي نفس الْأَمر، وَقد يخْتَلف) أَي يَقع الِاخْتِلَاف (فِيهِ) أَي فِي ثُبُوتهَا (كَمَا فِي الدوران، وَقيل منشأ الْخلاف فِيهِ) أَي فِي إِفَادَة الدوران الْعلية (عدم أَخذ قيد صَلَاحِية الْوَصْف) للعلية (أما مَعَه) أَي مَعَ ذَلِك الْقَيْد (وَهُوَ) أَي الْقَيْد الْمَذْكُور (مُرَاد) للقائل بإفادة الدوران الْعلية (فَلَا خَفَاء فِي حُصُول ظن عليته) أَي الْوَصْف الْمدَار بعد تحقق الْقَيْد الْمَذْكُور (بالدوران، بِخِلَاف مَا) إِذا (لم يظْهر لَهُ فِيهِ) أَي فِي

(4/52)


الْمدَار (مُنَاسبَة كالرائحة) أَي رَائِحَة الْمُسكر وَظن عليتها (للتَّحْرِيم) فَإِنَّهُ غير موجه لعدم ظُهُور الْمُنَاسبَة بَينهَا وَبَين التَّحْرِيم على وَجه يقتضى عليتها لَهُ (وَأما الشّبَه) الْمَعْدُود من المسالك لِلْعِلَّةِ (عِنْد الشَّافِعِيَّة فَلَيْسَ من المسالك) فِي نفس الْأَمر (لِأَنَّهَا) أَي المسالك إِنَّمَا هِيَ (المثبتة لعلية الْوَصْف) للْحكم (والشبه تثبت عليته بهَا) أَي بالمسالك.
وَقد اخْتلفت عباراتهم فِي تَفْسِيره، وَاخْتَارَ المُصَنّف مَا لخص فِي الشَّرْح العضدي فَقَالَ (وَالْمرَاد) بِهِ هَهُنَا (مَا) أَي الْوَصْف الَّذِي (مناسبته) للْحكم (لَيست بِذَاتِهِ) أَي بِالنّظرِ إِلَى ذَات ذَلِك الْوَصْف (بل) مناسبته لَهُ (بشبهه) الْوَصْف الْمُنَاسب بِذَاتِهِ شبها يَقْتَضِي الظَّن بعليته للْحكم (فَيحْتَاج) فِي إِثْبَات عليته (إِلَى الْمُثبت) لَهَا، وَكَذَا قيل فِيهِ: وصف لم يثبت مناسبته إِلَّا بِدَلِيل مُنْفَصِل عَنهُ (فَلَا يَصح إِنْكَاره) أَي إِنْكَار علية الشّبَه (بعد إثْبَاته) أَي إِثْبَات كَونه عِلّة بِالدَّلِيلِ (غير أَنه لَا يثبت) كَونه عِلّة (بالإخالة) بل بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاع أَو السبر عِنْد الْقَائِل بِهِ (وَإِلَّا) لَو ثَبت بالإخالة أَيْضا (كَانَ) الشّبَه (الْمُنَاسب الْمَشْهُور) وَهُوَ الْمُنَاسب بِذَاتِهِ، وَلَيْسَ إِيَّاه، بل بَينهمَا تقَابل، ثمَّ بَين مِثَاله بقوله (كطهارة) بِالرَّفْع على الْحِكَايَة: أَي كَأَن يُقَال فِي إِلْحَاق إِزَالَة الْخبث بِإِزَالَة الْحَدث فِي تعين المَاء، إِن إِزَالَة الْخبث طَهَارَة (ترَاد للصَّلَاة فَلَا يجزى فِيهَا غير المَاء كَالْوضُوءِ) فَإِنَّهُ طَهَارَة يُرَاد للصَّلَاة لَا يَجْزِي فِيهِ غير المَاء، فالشبه كَونهَا طَهَارَة ترَاد للصَّلَاة لِأَن الْمُنَاسبَة بَينه وَبَين تعين المَاء لَيست بِذَاتِهِ بل بشبهه: وَهُوَ الْوضُوء الَّذِي هُوَ لإِزَالَة الْحَدث فَإِن الشَّارِع قد اعْتبر فِيهِ خُصُوصِيَّة المَاء فِي الصَّلَاة وَمَسّ الْمُصحف وَالطّواف، وَإِطْلَاق الشّبَه على الْوضُوء لكَونه مشتبها بِهِ، إِذْ إِزَالَة الْخبث وَهُوَ الْوضُوء يشبه بِهِ والكون الْمَذْكُور مُشْتَرك بَينهمَا وَإِضَافَة الشّبَه بِمَعْنى المشتبه إِلَيْهِ لأدنى مُلَابسَة، وَإِذا عرفت أَن الْمُنَاسبَة بَينهمَا لَيست لذاته بل لشبهه فَلَا بُد من إِثْبَات كَون الْوَصْف الْمَذْكُور عِلّة للْحكم، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَإِن ثَبت بِأحد المسالك أَن كَون الطَّهَارَة ترَاد للصَّلَاة يَصح عِلّة تعين المَاء لزم) فَقَوله أَن مَعَ اسْمهَا وخبرها فَاعل ثَبت وَاسْمهَا كَون، وَقد أضيف إِلَى اسْمه، وَقَوله ترَاد للصَّلَاة خبر كَون، وَقَوله يَصح خبر أَن، وَقَوله عِلّة تعين المَاء تَمْيِيز عَن نِسْبَة يَصح إِلَى ضَمِيره: أَي يَصح الْكَوْن الْمَذْكُور من حَيْثُ عليته للتعيين، وَقَوله لزم جَزَاء الشَّرْط: أَي لزم على ذَلِك التَّقْدِير اعْتِبَار علية كَون الْمَذْكُور (وَإِلَّا) وَإِن لم يثبت بِأحد المسالك مَا ذكر (لَا يُوجِبهُ) أَي تعين المَاء (مُجَرّد اعْتِبَاره) أَي اعْتِبَار الشَّارِع تعين المَاء (فِي) إِزَالَة (الْحَدث) أَي فِي الْوضُوء، فَإِن غَايَته اعْتِبَار خُصُوص المَاء فِيهِ، وَهَذَا لَا يسْتَلْزم أَن يكون عِلّة ذَلِك الِاعْتِبَار الْكَوْن الْمَذْكُور (وعَلى هَذَا أَي على اشْتِرَاط ثُبُوت ذَلِك بِأحد المسالك (فمرجعه) أَي الشّبَه (إِلَى إِثْبَات علية وصف بِأحد

(4/53)


المسالك وَلَيْسَ شَيْئا آخر) فَانْتفى مَا صرح بِهِ الْآمِدِيّ وَغَيره من أَنه من مسالك الْعلَّة، وَنقل الشَّارِح تصريحهم بِأَن الْمُثبت لمناسبة الْوَصْف الشبهي للْحكم اعْتِبَار الشَّارِع إِيَّاه فِي بعض الصُّور بِإِثْبَات الحكم فِي مَحل وجود ذَلِك الْوَصْف الموهم كَونه مناسبا لَا يلْتَفت إِلَيْهِ بعد هَذَا الْبَيَان الْوَاضِح لظُهُور أَن ثُبُوت الحكم فِي مَحل وجود الْوَصْف لَا يسْتَلْزم عليته قَالُوا وَظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي وَعَلِيهِ أَكثر أَصْحَابه قبُوله وَلم يقبله آخَرُونَ مِنْهُم الباقلاني والصيرفي وَأَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ كأصحابنا (وَيُقَال) الشّبَه (أَيْضا لأشبهية) أحد (وصفين) كائنين (فِي فرع تردد) ذَلِك الْفَرْع (بهما) أَي بِسَبَب ذَيْنك الوصفين (بَين أصلين) بِحَيْثُ يُمكن إِلْحَاق ذَلِك الْفَرْع لكل مِنْهُمَا (كالآدمية والمالية) فَإِنَّهُمَا وصفان كائنان (فِي العَبْد الْمَقْتُول) وَقد (تردد) العَبْد الْمَقْتُول (بهما) أَي بالآدمية والمالية (بَين الْأَصْلَيْنِ الْإِنْسَان وَالْفرس) فَإِن نَظرنَا إِلَى آدميته ألحقناه بالإنسان الْحر وأوجبنا على قَاتله الدِّيَة، غير أَن الدِّيَة عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد قِيمَته لَا تزاد على عشرَة آلَاف دِرْهَم إِلَّا عشرَة، وان نَظرنَا إِلَى مَالِيَّته ألحقناه بالفرس فأوجبنا عَلَيْهِ الْقيمَة بَالِغَة مَا بلغت كَمَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ، لَكِن العَبْد أشبه بِالْحرِّ، لِأَن مشاركته مَعَ الْحر فِي الْأَوْصَاف وَالْأَحْكَام أَكثر، لكَونه ناطقا قَابلا للصناعات إِلَى غير ذَلِك، فالأشبهية فِي الْحَقِيقَة للموصوف بالوصفين، لكنه أضيف إِلَيْهِمَا لِأَن أَحدهمَا سَبَب لأشبهيته (وَاعْلَم أَن الْحَنَفِيَّة ينسبون الدوران لأهل الطَّرْد وَكَذَا السبر) ينسبونه إِلَيْهِم (إِذْ يُرِيدُونَ) أَي الْحَنَفِيَّة بِأَهْل الطَّرْد (من لَا يشْتَرط ظُهُور التَّأْثِير) فِي الْوَصْف الَّذِي يَدعِي عليته (وَعلمت) فِي المرصد الأول (أَنه) أَي التَّأْثِير عِنْد الْحَنَفِيَّة (يُسَاوِي الملاءمة عِنْدهم) أَي الشَّافِعِيَّة، فِيهِ أَن التَّأْثِير عِنْد الْحَنَفِيَّة أَعم من الملاءمة لصدقه على مُؤثر الشَّافِعِيَّة أَيْضا على مَا مر، فَكَأَنَّهُ لدورانه لَا يتَجَاوَز الملاءمة بعد الْمُؤثر (وعَلى هَذَا) أَي على التَّسَاوِي الْمَذْكُور (فَمن الطَّرْد) بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور (الإخالة) لِأَنَّهَا إبداء الْمُنَاسبَة بَين الْوَصْف وَالْحكم من غير اعْتِبَار ظُهُور التَّأْثِير (وَيُؤَيِّدهُ) أَي كَون المُرَاد من الطَّرْد عِنْدهم مَا ذكر (تصريحهم) أَي الْحَنَفِيَّة (بِأَن عَامَّة أهل النّظر مالوا إِلَى الِاحْتِجَاج بِهِ) أَي بالطرد (وَمَعْلُوم تصريحهم) أَي الْحَنَفِيَّة (بِأَن علل الشَّرْع لَا بُد فِيهَا من الْمُنَاسبَة) فَلَا يحْتَمل أَن يُرِيدُوا بالطرد مَالا مُنَاسبَة فِيهِ أصلا، لِأَنَّهُ خلاف مَا أجمع عَلَيْهِ من لُزُوم الْمُنَاسبَة فِي الْجُمْلَة (فَلَيْسَ أَهله) أَي الطَّرْد (عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة (إِلَّا من ذكرنَا) أَي من لَا يشْتَرط ظُهُور التَّأْثِير الَّذِي شَرطه الْحَنَفِيَّة (فَلَا أحد يضيف حكم الشَّرْع إِلَى مَالا مُنَاسبَة لَهُ أصلا) أَي إِلَى وصف لَا مُنَاسبَة بَينه وَبَين الحكم بجعله عِلّة لَهُ (كالطول وَالْقصر) فَإِنَّهُمَا فِي عدم الْمُنَاسبَة بِحَيْثُ لَا يضيف إِلَيْهِمَا أحد حكما من الْأَحْكَام، وَلِهَذَا لَا يجد التَّعْلِيل بِأَحَدِهِمَا فِي

(4/54)


التَّعْلِيل بأمثالهما فِي الشَّرْع فِي مَذْهَب من الْمذَاهب أصلا، بِخِلَاف الذُّكُورَة وَالْأُنُوثَة فَإِنَّهُ قد يُعلل بهما (فالطرد مَا) أَي وصف (لَا مُنَاسبَة لَهُ) مُنَاسبَة (يثبت اعْتِبَارهَا اتِّفَاقًا) أَي لَو ثَبت اعْتِبَارهَا مُنَاسبَة بالِاتِّفَاقِ، بل اخْتلف فِي اعْتِبَارهَا مِنْهُم من اعتبرها، وَمِنْهُم من لَا يَعْتَبِرهَا (وَالْخلاف فِيمَا بِهِ الِاعْتِبَار (فالحنفية) يَقُولُونَ (لَيْسَ) مَا بِهِ الِاعْتِبَار (إِلَّا التَّأْثِير الَّذِي هُوَ الملاءمة) الْمُعْتَبرَة (للشَّافِعِيَّة) بِمَا مر (وَالشَّافِعِيَّة) تعْتَبر الْمُنَاسبَة (بغَيْرهَا) أَي الملاءمة (أَيْضا، وَلَا يخْتَلف) بِصِيغَة الْمَجْهُول (فِي أَن الشَّارِع إِذا وضع أمرا) لِأَن يكون (عَلامَة) دَالَّة (على حكم كالدلوك) أَي كوضعه زَوَال الشَّمْس أَو غُرُوبهَا عَلامَة (على الْوُجُوب) أَي وجوب الصَّلَاة بقوله تَعَالَى - {أقِم الصَّلَاة لدلوك الشَّمْس} - (أضيف) ذَلِك الحكم (إِلَيْهِ) أَي إِلَى مَا جعل عَلامَة عَلَيْهِ من غير توقف على بَيَان مُنَاسبَة أَو ملاءمة (لكنه) أَي ذَلِك الْأَمر (لَيْسَ عِلّة) لذَلِك الحكم (إِلَّا مجَازًا) لمشاركته إِيَّاهَا فِي كَونه عَلامَة للْحكم، وَالْعلَّة لَهُ حَقِيقَة إِنَّمَا هُوَ الْخطاب، وَاصْطِلَاحا مَا شرع الحكم عِنْده لحُصُول مصلحَة. (وَاعْلَم أَن الأمارة فِي اصْطِلَاح الْحَنَفِيَّة لَيست بشهرة الْعَلامَة) أَي لَيست بمشهورة بشهرة كشهرة الْعَلامَة، بل الْعَلامَة عِنْدهم أشهر (وتقسيمهم) أَي الْحَنَفِيَّة (الْخَارِج) عَن الحكم (الْمُتَعَلّق بالحكم إِلَى مُؤثر فِيهِ) أَي فِي الحكم (ومفض إِلَيْهِ) أَي موصل إِلَى الحكم (بِلَا تَأْثِير) هما (الْعلَّة وَالسَّبَب، وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْخَارِج مؤثرا وَلَا مفضيا إِلَيْهِ (فَإِن توقف عَلَيْهِ) أَي على هَذَا الْخَارِج (الْوُجُود) أَي وجود الحكم (فَالشَّرْط وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْخَارِج مؤثرا وَلَا مفضيا إِلَيْهِ، فَإِن توقف عَلَيْهِ: أَي على هَذَا الْخَارِج الْوُجُود: أَي وجود الحكم فَالشَّرْط، وَإِن لم يتَوَقَّف عَلَيْهِ الْوُجُود (فَإِن دلّ) ذَلِك الْخَارِج (عَلَيْهِ) أَي على الحكم بِأَن يكون الْعلم بتحققه مستلزما للْعلم بِوُجُود الحكم (فالعلامة) . قَوْله تقسيمهم مُبْتَدأ، وَمَا بعده مُتَعَلق بِهِ، وَخَبره مَحْذُوف بِقَرِينَة السِّيَاق والسباق، يَعْنِي يُفِيد مَا قُلْنَا من أَن الْعَلامَة لَيست بعلة حَقِيقِيَّة، ثمَّ ذكر تقسيمهم هَهُنَا تَوْطِئَة لتفصيل كل وَاحِد مِنْهُم من هَذِه الْأَقْسَام وتقسيمه إِلَى أَقسَام سوى الْعلَّة كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (فالعلة) الْحَقِيقِيَّة وَمَا يُطلق عَلَيْهِ لفظ الْعلَّة بالاشتراك أَو بالمجاز (تقدّمت بأقسامها) فِي تَتِمَّة من المرصد الأول (وَهَذَا) الَّذِي نشرع فِيهِ (تقسيمهم مَا سواهَا) أَي الْعلَّة (فالسبب تجب) أَن تكون (الْعلَّة بَينه) أَي بَين السَّبَب (وَبَين الحكم) لِأَنَّهُ لَا بُد لَهُ من عِلّة مُؤثرَة فِيهِ أَو مَوْضُوعَة لَهُ، وَالسَّبَب طَرِيق مفض إِلَيْهِ من غير تَأْثِير فِيهِ وَوضع لَهُ (فَلَمَّا تُضَاف) الْعلَّة (إِلَيْهِ) أَي إِلَى السَّبَب (كالسوق) للدابة (الْمُضَاف إِلَيْهِ الْعلَّة وَطْؤُهَا) عطف بَيَان لِلْعِلَّةِ: أَي وَطْء الدَّابَّة نفسا أَو مَالا، فالسوق سَبَب التّلف، وَلَيْسَ بعلة لَهُ لِأَنَّهُ (لم يوضع للتلف) بل لسير الدَّابَّة لما يُرَاد بِهِ (وَلم يُؤثر فِيهِ) أَي فِي التّلف (بل

(4/55)


طَرِيق) مفض (إِلَيْهِ) وَالْعلَّة المؤثرة وَطْء الدَّابَّة بقوائمها (فالسبب فِي معنى الْعلَّة) أَي إِذا كَانَ السَّبَب بِحَيْثُ تُضَاف إِلَيْهِ الْعلَّة فَهُوَ فِي معنى الْعلَّة لحدوث الْعلَّة بِهِ فَإِن السُّوق يحمل الدَّابَّة على ذَلِك كرها (فَلهُ) أَي لهَذَا السَّبَب (حكمهَا) أَي الْعلَّة (فِيمَا يرجع إِلَى بدل الْمحل) أَي مَحل الحكم وَهُوَ الْإِتْلَاف هُنَا: يَعْنِي الضَّمَان (لَا) فِيمَا يرجع إِلَى (جَزَاء الْمُبَاشرَة، فَعَلَيهِ) أَي على السَّائِق (الدِّيَة) إِذا وطِئت إنْسَانا فَقتلته لِأَنَّهَا بدل الْمحل، والسوق وَإِن جَازَ للْحَاجة إِلَيْهِ لَكِن بِشَرْط السَّلامَة، وَالْقَصْد لَيْسَ بِشَرْط الضَّمَان فِي حُقُوق الْعباد، والعجماء إِنَّمَا يكون فعلهَا جبارا إِذا لم يكن لَهَا قَائِد وَلَا سائق (لَا) علية (حرمَان الْإِرْث وَنَحْوه) من الْكَفَّارَات لَا الْقصاص لِأَنَّهَا جَزَاء الْمُبَاشرَة (وَالشَّهَادَة) بِالْجَرِّ عطفا على السُّوق، مِثَال آخر للسبب الْمُضَاف إِلَيْهِ الْعلَّة (للْقصَاص) أَي لوُجُوبه فَإِن الشَّهَادَة (لم تُوضَع لَهُ) أَي للْقصَاص (وَلم تُؤثر فِيهِ بل) هِيَ (طَرِيقه) أَي الْقصاص (وعلته) أَي الْقصاص (الْمُتَوَسّط) أَي مَا توَسط بَين الشَّهَادَة وَوُجُوب الْقصاص (من فعل) الْفَاعِل (الْمُخْتَار الْمُبَاشر للْقَتْل: لَكِن فِيهِ) أَي السَّبَب الَّذِي هُوَ الشَّهَادَة (معنى الْعلَّة لِأَنَّهَا) أَي الشَّهَادَة مؤدية إِلَى الْقَتْل بِوَاسِطَة إِيجَابهَا الْقَضَاء) على القَاضِي فَيحكم بِوُجُوبِهِ (و) بِوَاسِطَة (اخْتِيَار الْوَلِيّ) أَي ولي الْمَقْتُول (إِيَّاه) أَي الْقَتْل (على الْعَفو) فَإِن الِاخْتِيَار فرع الْقُدْرَة الْحَاصِلَة بِالشَّهَادَةِ فَإِنَّهَا سلطته عَلَيْهِ (فَعَلَيْهِم) أَي الشُّهُود (برجوعهم) عَن الشَّهَادَة (الدِّيَة) لِأَنَّهَا بدل الْمحل (لَا الْقصاص لِأَنَّهُ) أَي الْقصاص (جَزَاء الْمُبَاشرَة) للْقَتْل فَإِن الْجَزَاء يجب أَن يكون مماثلا للْفِعْل الْمُوجب لَهُ (وَعند الشَّافِعِي يقْتَصّ) من الشُّهُود الراجعين (إِذا قَالُوا تعمدنا الْكَذِب وَعلم من حَالهم أَنه لم يخف عَلَيْهِم قبولهم) أَي قبُول شَهَادَتهم، وَإِن كَانُوا مِمَّن يجوز أَن يخفى عَلَيْهِ مثله لقرب عَهدهم بِالْإِسْلَامِ حلفوا عَلَيْهِ، وَلَا يجب الْقصاص وعزروا، وَتجب دِيَة مُغَلّظَة فِي أَمْوَالهم إِلَّا أَن تصدقهم الْعَاقِلَة فَيكون عَلَيْهِم، وَإِنَّمَا يقْتَصّ مِنْهُم عِنْد ذَلِك (جعلا للسبب) الْقوي (الْمُؤَكّد بِالْقَصْدِ الْكَامِل كالمباشرة) فِي إِيجَاب الْقصاص (وَدفع) قَوْله (بِأَن الْقصاص بالمماثلة وَلَيْسَت) الْمُمَاثلَة ثَابِتَة (بَين الْمُبَاشرَة والتسبب وَإِن قوي) السَّبَب وتأكد، وَفِي الْكَشْف وَالتَّحْقِيق وَقَالَ القَاضِي الإِمَام أَبُو زيد لهَذَا السَّبَب حكم الْعلَّة من كل وَجه لِأَن عِلّة الحكم لما حدثت بِالْأولَى صَارَت الْعلَّة الْأَخِيرَة حكما للأولى مَعَ حكمهَا، لِأَن حكم الثَّانِيَة مُضَاف إِلَيْهَا، وَهِي مُضَافَة إِلَى الأولى فَصَارَت الأولى بِمَنْزِلَة عِلّة لَهَا حكمان انْتهى، وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَن شُبْهَة، وَالْحُدُود تندرئ بِالشُّبُهَاتِ فَتَأمل. (وَمِنْه) أَي السَّبَب فِي معنى الْعلَّة (وضع الْحجر) فِي الطَّرِيق (وإشراع الْجنَاح) فِيهِ، الْجنَاح رُءُوس الأخشاب الَّتِي تخرج من فَوق الْبَيْت. بِمِقْدَار ذِرَاع أَو أَكثر حَتَّى يَبْنِي عَلَيْهِ بعض بَيت الْعُلُوّ، وإشراعه إِظْهَاره وإخراجه (والحائط المائل

(4/56)


بعد التَّقَدُّم) أَي ترك هَدمه بعد أَن مَال إِلَى الطَّرِيق، أَو إِلَى دَار جَاره بعد مُطَالبَة بعض النَّاس أَو الْجَار نقضه (فَالْوَجْه أَنه) أَي كلا من هَذِه (مثله) أَي مثل السَّبَب فِي معنى الْعلَّة (لتعديه فِي إبْقَاء الْفِعْل) الْمُسَبّب للتلف، لَا أَنه من (السَّبَب) فِي معنى الْعلَّة لِأَن الْعلَّة لَا تُضَاف إِلَيْهِ لِأَن سَبَبِيَّة ترك هدم الْحَائِط مثلا لَيست فِي رُتْبَة سَبَبِيَّة السُّوق للتلاف (وَإِمَّا لَا تُضَاف) الْعلَّة (إِلَيْهِ) أَي السَّبَب (لكَونهَا) أَي الْعلَّة (فعلا اختياريا كدلالة السَّارِق) أَي كدلالة شخص سَارِق على مَال آخر ليسرقه (الْمُتَوَسّط سَرقته) الَّتِي هِيَ فعل اخْتِيَاري يباشره السَّارِق (فالحقيقي) أَي فَهَذَا السَّبَب يُقَال لَهُ السَّبَب الْحَقِيقِيّ لتمحضه فِي السَّبَبِيَّة من غير كَونه فِي معنى الْعلَّة لعدم إضافتها إِلَيْهِ لتخلل الْفِعْل الِاخْتِيَارِيّ بَينه وَبَين الحكم (فَلَا يُضَاف الحكم إِلَيْهِ) أَي إِلَى السَّبَب كَمَا لَا تُضَاف الْعلَّة إِلَيْهِ (فَلَا يضمن دَال السَّارِق) الْمَسْرُوق، لِأَن الْإِتْلَاف مُضَاف إِلَى فعل السَّارِق، لَا إِلَى الدَّال كَمَا سيشير إِلَيْهِ (وَلَا يُشْرك فِي الْغَنِيمَة الدَّال) للمجاهدين (على حصن فِي دَار الْحَرْب) بِوَصْف طَرِيقه (لقطع نِسْبَة الْفِعْل) وَهُوَ الْإِتْلَاف فِي الأول، والاغتنام فِي الثَّانِي (إِلَيْهِ) أَي إِلَى السَّبَب وَهُوَ الدّلَالَة لتخلل اخْتِيَار الْمُبَاشر بَينه وَبَين الحكم فدلالته سَبَب مَحْض. قَالَ الشَّارِح: نعم لَو ذهب مَعَهم فدلهم على الْحصن شركهم فِي الْغَنِيمَة فِيهِ لِأَن فعله حِينَئِذٍ سَبَب فِيهِ معنى الْعلَّة (وَلَا) يضمن (دَافع السكين لصبي) ليمسكها للدافع (فَقتل) الصَّبِي بهَا (نَفسه) لِأَن ضربه نَفسه صَار بِاخْتِيَارِهِ غير مُضَاف إِلَى الدَّافِع. قَالَ الشَّارِح فِي تَعْلِيله لِأَنَّهُ أمره بالإمساك، لَا بِالِاسْتِعْمَالِ انْتهى وَلَا يخفى أَن هَذَا يُفِيد أَنه لَو أمره بِالِاسْتِعْمَالِ يضمن، وتعليلهم لعدم الضَّمَان بتخلل الْفِعْل الِاخْتِيَارِيّ بَين هَذَا السَّبَب وَقَتله نَفسه يدل على عدم ضَمَانه، وَأَن أمره بِالِاسْتِعْمَالِ لتخلل الْفِعْل الْمَذْكُور بَين الْأَمر والتلاف: نعم عدم الضَّمَان عِنْد الْأَمر بالإمساك دون الِاسْتِعْمَال أظهر (بِخِلَاف سُقُوطهَا) أَي بِخِلَاف مَا إِذا دَفعهَا ليمسكها فَسَقَطت بِلَا قصد (مِنْهُ) أَي من الصَّبِي على وَجه أهلكته فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يضمن الدَّافِع لعدم تخَلّل فعل اخْتِيَاري من الصَّبِي متوسط بَين الدّفع والهلاك، فالدفع حِينَئِذٍ سَبَب فِي معنى الْعلَّة الَّتِي هِيَ السُّقُوط لِأَنَّهَا تُضَاف إِلَيْهِ وَلم يتوسط بَينهمَا إِلَّا الْإِمْسَاك الَّذِي هُوَ حكم الدّفع (وَلَا) يضمن (الْقَائِل) لغيره (تزَوجهَا) أَي هَذِه الْمَرْأَة (فَإِنَّهَا حرَّة) فَتَزَوجهَا واستولدها ثمَّ ظهر أَنَّهَا أمة شخص (لقيمة الْوَلَد) الَّذِي أَدَّاهَا إِلَى ذَلِك الشَّخْص لتخلل الْفِعْل الِاخْتِيَارِيّ وَهُوَ العقد بَين الْإِخْبَار وَالِاسْتِيلَاد (بِخِلَاف تَزْوِيج الْوَلِيّ أَو الْوَكِيل) أَي وَليهَا أَو وكيلها (بِالشّرطِ) أَي بِشَرْط أَنَّهَا حرَّة (الْمَغْرُور) مفعول التَّزْوِيج، يَعْنِي الْمُقدم إِلَى الزواج بِنَاء على الشَّرْط الَّذِي ظهر خِلَافه آخرا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يرجع الزَّوْج بِقِيمَة الْوَلَد على الْوَلِيّ أَو الْوَكِيل فَإِن الشَّرْط

(4/57)


من الْوَلِيّ وَالْوَكِيل بِمَنْزِلَة قَوْله أَنا ضَامِن بِمَا يلحقك بِسَبَب هَذَا التَّزَوُّج، وَقيل لِأَن الِاسْتِيلَاد حكم التَّزْوِيج لكَونه مَوْضُوعا لطلب النَّسْل، وَفِيه مَا فِيهِ (وَلَا يلْزم) على هَذِه الْمسَائِل بطرِيق النَّقْض أَن يُقَال (الْمُودع وَالْمحرم) إِذا دلّ سَارِقا وصائدا (على الْوَدِيعَة وَالصَّيْد) فَسرق وصاد (يضمنَانِ) أَي الْمُودع وَالْمحرم الْمَسْرُوق جَزَاء الصَّيْد (وهما مسببان) على صِيغَة الْفَاعِل يَعْنِي فعلهمَا سَبَب مَحْض لتخلل الْفِعْل الِاخْتِيَارِيّ بَينه وَبَين الحكم، ثمَّ علل عدم اللُّزُوم بقوله (لِأَن ضَمَان الْمُودع بترك الْحِفْظ) الْمُلْتَزم بِعقد الْوَدِيعَة، وَهُوَ مبَاشر مَا يُخَالف الْتِزَامه بِدلَالَة السَّارِق (و) ضَمَان (الْمحرم بِإِزَالَة الْأَمْن) عَن الصَّيْد وَقد الْتَزمهُ بِالْإِحْرَامِ (المتقررة) صفة الْإِزَالَة (بِالْقَتْلِ) فقد بَاشر الْإِزَالَة بِدلَالَة الْقَاتِل عَلَيْهِ، وَلذَا قَالَ (فَهُوَ) أَي كل وَاحِد مِنْهُمَا (مبَاشر) للجناية على الْوَدِيعَة وَالصَّيْد، فضمانه بِالْمُبَاشرَةِ لَا بالتسبب (بِخِلَافِهَا) أَي بِخِلَاف الدّلَالَة (على صيد الْحرم) وَالدَّال غير محرم فَإِنَّهُ إِذا قَتله الْمَدْلُول لَا يضمن الدَّال (لِأَن أَمنه) أَي صيد الْحرم (بِالْمَكَانِ) وَهُوَ الْحرم الْأَمْن إِلَى آخر الدُّنْيَا (وَلم يزل) مِنْهُ (بِالدّلَالَةِ) فَكَانَ سَببا مَحْضا (بِخِلَاف غَيره) أَي غير صيد الْحرم من صيود الْمحرم (فَإِنَّهُ) أَي أَمن غَيره (بتواريه) وتستره ببعده عَن أعين النَّاس (فالدلالة عَلَيْهِ) أَي على غير صيد الْحرم (إِزَالَة أَمنه وَهُوَ) أَي هَذَا السَّبَب الَّذِي هُوَ إِزَالَة الْأَمْن (الْجِنَايَة على إِحْرَامه) يَعْنِي أَن إِزَالَة الْأَمْن فِي غير صيد الْحرم إِنَّمَا وَجب لكَونه جِنَايَة على الْإِحْرَام لَا لذاتها، وَإِلَّا لزم إِيجَاب الضَّمَان فِي حق غير الْمحرم أَيْضا، ثمَّ حَقِيقَة الدّلَالَة احداث الْعلم فِي الْغَيْر فَلَزِمَ عدم كَون الْمَدْلُول عَالما بمَكَان الصَّيْد قبل الدّلَالَة وَأَن لَا يكذب الدَّال فَلَو كَانَ عَالما أَو كذب لَا يضمن الدَّال، وَيجب أَيْضا أَن يتَّصل الْقَتْل بِالدّلَالَةِ حَتَّى لَو أَخذه بدلالته ثمَّ انفلت ثمَّ أَخذه فَقتله لم يضمن الدَّال لانْتِهَاء دلَالَته بالانقلاب، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله فِيمَا سبق المتقررة (وفتوى الْمُتَأَخِّرين بِالضَّمَانِ بالسعاية) أَي بِأَن يسْعَى فِي حق غَيره بِغَيْر حق إِلَى حَاكم ظَالِم فيغرمه المَال ظلما (بِخِلَاف الْقيَاس) لتخلل الْفِعْل الِاخْتِيَارِيّ من الظَّالِم، وَهُوَ الْأَخْذ ظلما بَين السّعَايَة واتلاف المَال، وَإِنَّمَا أفتوا (اسْتِحْسَانًا لغَلَبَة السعاة) بِغَيْر الْحق إِلَى الظلمَة فِي زَمَاننَا، وَبِه يُفْتى سدا لهَذَا الْبَاب (وَيَنْبَغِي مثله) أَي الافتاء بِالضَّمَانِ، بِخِلَاف الْقيَاس اسْتِحْسَانًا (لَو غلب غصب الْمَنَافِع) فَإِنَّهُ على خلاف الْقيَاس لعدم كَونهَا محرزا لتجددها، وَالْغَصْب إِثْبَات الْيَد المبطلة، وَإِبْطَال الْيَد المحقة، وَذَلِكَ فرع فِي الْإِحْرَاز، وَإِنَّمَا قَالَ يَنْبَغِي إِلَى آخِره زجرا للغصبة عَن ذَلِك (وَيُقَال لفظ السَّبَب مجَازًا على الْمُعَلق من تطليق وإعتاق وَنذر بِمَا) أَي بِشَرْط مُتَعَلق بالمعلق (لَا يُرِيد) الْمُعَلق (كَونه) أَي وجوده: كَانَ دخلت فَأَنت طَالِق أَو فُلَانَة حرَّة أَو فعلي لله صِيَام سنة قبل وجود الشَّرْط

(4/58)


وَالتَّقْيِيد بِقَيْد لَا يُرِيد كَونه مُوَافق لما قَالَ بعض الشُّرَّاح من أَن التَّعْلِيق بِشَرْط يُريدهُ مفض إِلَى وجود الشَّرْط المفضي إِلَى الحكم (وعَلى الْيَمين) بِاللَّه بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكَفَّارَة قبل الْحِنْث (إِذْ لَيست) الْمَذْكُورَات (مفضية إِلَى الْوُقُوع) فِي المعلقات (و) إِلَى (الخنث) فِي الْيَمين أما الأول فَلِأَنَّهُ أَرَادَ بهَا منع نَفسه من الشَّرْط احْتِرَازًا عَن الْوُقُوع، وَأما الثَّانِي فَلِأَنَّهَا شرعت للبر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (بل) هِيَ (مَانِعَة) من الْوُقُوع والحنث (وَإِنَّمَا) يكون (لَهَا) أَي لهَذِهِ الْمَذْكُورَات (نوع إفضاء) إِلَى الحكم (فِي الْجُمْلَة وَلَو) كَانَ ذَلِك الْإِفْضَاء (بعد حِين) عِنْد تحقق الشَّرْط والحنث، وَإِنَّمَا قَالَ نوع إفضاء لِأَنَّهُ لَو لم يكن التَّعْلِيق وَالْيَمِين لما وَقع شَيْء مِمَّا ترَتّب على الشَّرْط والحنث وَإِن قيل، وَلِأَن الْمَرْء حَرِيص لما منع فَلَا يَخْلُو عَن وَجه (فَهِيَ) أَي هَذِه التعليقات وَالْيَمِين سَبَب (مجَاز) أَي مجازي بِتِلْكَ الرَّائِحَة من الْإِفْضَاء الْمَذْكُور (وَإِذا صدر الشَّرْط الْمُعَلق صَار) الْمُعَلق بِهِ (عِلّة حَقِيقِيَّة) للوقوع لتأثيره فِيهِ مَعَ الْإِضَافَة إِلَيْهِ واتصاله بِهِ كَالْبيع للْملك (بِخِلَاف السَّبَب فِي معنى الْعلَّة لِأَنَّهُ لم يُؤثر فِي الْمُسَبّب) وَهُوَ الحكم (وَأَن اثر فِي علته) أَي عِلّة الحكم على مَا عرفت فِي سوق الدَّابَّة إِذا وطِئت إنْسَانا فَقتلته (فَلم تنتف حَقِيقَة السَّبَبِيَّة) فِي السَّبَب بِمَعْنى الْعلَّة (بِوُجُود التَّأْثِير) وَلَو أثرت فِي نفس الحكم لانتفت (ثمَّ للمعلق الْمجَاز) أَي الَّذِي هُوَ سَبَب مجَازًا (شبه الْعلَّة الْحَقِيقِيَّة) من حَيْثُ الحكم (عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة (خلافًا لزفَر) فَإِنَّهُ لَا يَقُول بشبهه (وثمرته) أَي الْخلاف تظهر (فِي تَنْجِيز الثَّلَاث) بعد تَعْلِيق بَعْضهَا أَو جَمِيعهَا على شَرط لم يُوجد بعد (يبطل) تنجيزها (التَّعْلِيق عِنْدهم، خلافًا لَهُ) حَتَّى لَو عَادَتْ إِلَيْهِ بعد زوج آخر وَوجد الْمُعَلق عَلَيْهِ لَا يَقع الْمُعَلق عِنْدهم، وَيَقَع عِنْده (وَهِي) أَي هَذِه المسئلة (طَوِيلَة فِي فقههم، والمبنى) فِي الْإِبْطَال وَعَدَمه (الِاحْتِيَاج) أَي احْتِيَاج الْمُعَلق فِي الْبَقَاء (إِلَى بَقَاء الْمحل للشُّبْهَة) بِالْعِلَّةِ الْحَقِيقِيَّة (وَعَدَمه) أَي وَعدم احْتِيَاج الْمُعَلق فِي الْبَقَاء إِلَى بَقَاء الْمحل (لعدمها) أَي عدم شُبْهَة الْعلَّة الْحَقِيقِيَّة للمعلق، وَإِنَّمَا قُلْنَا بشبه الْعلية فِيهِ لِأَنَّهُ كاليمين بِاللَّه شرع لتأكيد الْبر الْمَضْمُون بالجزاء، أَو هُوَ كَونه بِحَيْثُ إِن فَاتَ لزم الْجَزَاء أَو الْكَفَّارَة فالبر الْمُؤَكّد أَمر ثَابت بِسَبَب هُوَ التَّعْلِيق وَالْيَمِين، وَهَذَا الثَّابِت مَضْمُون باللازم الْمَذْكُور على الْوَجْه الَّذِي ذكر، وكل شَيْء يكون الثَّابِت بِسَبَبِهِ مَضْمُونا بِهِ لشُبْهَة الثُّبُوت فاللازم الْمَذْكُور لَهُ شُبْهَة الثُّبُوت، وَمن ضروريته تحقق شُبْهَة الثُّبُوت بِسَبَبِهِ الَّذِي هُوَ التَّعْلِيق وَالْيَمِين، أَلا ترى أَن وجوب رد الْعين ثَبت بِسَبَب الْغَصْب مَضْمُونا بِالْقيمَةِ عِنْد فَوَاته، وَيصِح الْإِبْرَاء عَن الْقيمَة حَال قيام الْعين، وَكَذَا الْكفَالَة بهَا وَالرَّهْن، فلولا أَن للقيمة شُبْهَة الثُّبُوت لما صَحَّ ذَلِك، وشبهة الشَّيْء مُعْتَبرَة بحقيقته فَلَا يسْتَغْنى عَن الْمحل بحقيقته. وَقَالَ زفر لَيْسَ فِيهِ شُبْهَة الْحَقِيقَة لِأَنَّهُ فرض للتطليق

(4/59)


مثلا وَفرض الشَّيْء غَيره فَلَا يستدعى محلا، وَلذَا صَحَّ تَعْلِيق طَلَاق الْمُطلقَة ثَلَاثًا بتزوجها فَيَقَع لَو تزَوجهَا بعد التَّحْلِيل فَلم يستدع ابتداؤه الْمحل، فبقاؤه وَهُوَ أسهل أولى، وَاشْتِرَاط الْملك عِنْد ابْتِدَاء التَّعْلِيق ليَكُون الْجُزْء الْمَوْقُوف على الْملك غَالب الْوُجُود بالاستصحاب فَيجْعَل تَأْكِيد الْبر الْمَقْصُود من الْيَمين، وَلَا حَاجَة للتعليق بِالْملكِ إِلَى ذَلِك لتيقن وجوده عِنْد فَوَات الْبر بِالتَّزْوِيجِ مثلا وَمَعَ هَذَا لَا يشْتَرط عِنْد بَقَائِهِ فَلَا يبطل التَّعْلِيق بِزَوَال الْملك بِأَن يطلقهَا دون الثَّلَاث، فَكَذَا بِزَوَال الْحل بِأَن يطلقهَا ثَلَاثًا قُلْنَا شُبْهَة الثُّبُوت للمعلق بِالنِّكَاحِ مُحَققَة لِأَن ملك النِّكَاح عِلّة ملك الطَّلَاق وَصِحَّته، وَلَيْسَ للشَّيْء قبل عِلّة صِحَّته حَقِيقَة الثُّبُوت فَكَذَا شبهته فَلم يشْتَرط للمعلق بِالنِّكَاحِ قيام الْمحل بِخِلَاف الْمُعَلق بِغَيْرِهِ، وَأَيْضًا ملك الطَّلَاق مُسْتَفَاد من ملك النِّكَاح، وَلما استدعى صِحَة ملك النِّكَاح الْحل، لَا الْملك استدعى ملك الطَّلَاق إِيَّاه أَيْضا، فالمنافي لَهَا زَوَال الْحل لَا الْملك كَذَا فِي مرْآة الْأُصُول، وَلَا يخفى أَن الْمُدعى شُبْهَة الْعلَّة للمعلق، وَالدَّلِيل يُفِيد شُبْهَة الثُّبُوت فِيهِ، وَبَيَان تحقق شبهته فِي السَّبَب الَّذِي هُوَ التَّعْلِيق زَائِد على الْمَقْصُود: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون إِشَارَة إِلَى دَلِيل آخر على الِاحْتِيَاج إِلَى بَقَاء الْمحل، ثمَّ المُرَاد بِنَفْي شُبْهَة الْحَقِيقَة فِي قَول زفر شُبْهَة الْمُعَلق بالمنجز الَّذِي هُوَ عِلّة للطَّلَاق مثلا، وَقَوله إِلَى آخِره لَا حَاجَة لزفَر إِلَيْهِ، وَقَوله وَمَعَ هَذَا أَي مَعَ اشْتِرَاط ابْتِدَاء التَّعْلِيق فِي المنازع فِيهِ، وَبِالْجُمْلَةِ هُوَ إطناب من غير تَنْقِيح (وَجَرت عَادَتهم) أَي الْحَنَفِيَّة (أَن يعينوا) أَي بِأَن يعينوا (أَسبَاب المشروعات) لَا خلاف فِي أَن الشَّارِع هُوَ الله الْمُنْفَرد بِإِيجَاب الْأَحْكَام غير أَن جلها مُضَافَة إِلَى مَا هُوَ سَبَب فِي الظَّاهِر ليتوصلوا بِهِ إِلَى مَعْرفَتهَا تيسيرا على الْعباد (قَالُوا: السَّبَب لوُجُوب الْإِيمَان أَي التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار) بِوُجُودِهِ تَعَالَى ووحدانيته وَسَائِر صِفَاته على مَا عرف فِي الْكَلَام (حُدُوث الْعَالم) أَي كَونه مَسْبُوقا بِالْعدمِ وافتقاره إِلَى مُؤثر وَاجِب لذاته قطعا للتَّعْلِيل، وَلذَا يُسمى عَالما فَإِنَّهُ يحصل الْعلم بِوُجُود الصَّانِع وَهُوَ (كل مَا سواهُ تَعَالَى مِمَّا فِي الْآفَاق والأنفس) وَيجوز أَن يكون كل بِالْجَرِّ على الْبَدَل من الْعَالم. قَالَ الله تَعَالَى: - {سنريهم آيَاتنَا فِي الْآفَاق وَفِي أنفسهم} - الْآيَة (أَي أصل الْوُجُوب) فِي الذِّمَّة، لَا وجوب الْأَدَاء (فَلِذَا) أَي لأجل كَون السَّبَب حُدُوثه (صَحَّ إِيمَان الصَّبِي الْعَاقِل) لتحَقّق سَبَب الْوُجُوب، وَأَدَاء الْوَاجِب بعد تحقق سَبَب وُجُوبه صَحِيح، ثمَّ تحقق رُكْنه وَهُوَ التَّصْدِيق وَالْإِقْرَار الصَّادِر عَن نظر وَتَأمل عَن أَهله (وَقد ثَبت الحكم بِهِ) أَي بِالْإِيمَان (عَلَيْهِ) أَي على الصَّبِي (شرعا اتِّفَاقًا تبعا) لِأَبَوَيْهِ (فَيصح) إيمَانه (مَعَ إِقْرَاره اخْتِيَارا) صادرا (عَن اعْتِقَاد صَحِيح) بطرِيق (أولى) لِأَنَّهُ إِذا حكم بِصِحَّة الْإِيمَان من غير إِقْرَار وَلَا اخْتِيَار من غير أَهْلِيَّة بِمُجَرَّد التّبعِيَّة فإيمان من استجمع ذَلِك أولى بالحكم بِالصِّحَّةِ (وَتقدم

(4/60)


مَا فِيهِ) أَي فِي تحقق أصل الْوُجُوب فِي الصَّبِي الْعَاقِل من خلاف شمس الْأَئِمَّة فِي الْفَصْل الرَّابِع فِي الْمَحْكُوم عَلَيْهِ وَمَا يتَعَلَّق بِهِ (فَأَما وجوب الْأَدَاء) للْإيمَان (فَأَبُو الْيُسْر) أَي فَقَالَ أَبُو الْيُسْر هُوَ (بِالْخِطَابِ) أَي ببلوغ الْخطاب التكليفي بعد الْبلُوغ (عِنْد عَامَّة الْمَشَايِخ فعذر من بلغ بشاهق) فِي الْقَامُوس: الشاهق الْمُرْتَفع من الْجبَال والأبنية وَغَيرهَا (وَلم يبلغهُ) الْخطاب الْمُتَعَلّق بِالْإِيمَان إِذا مَاتَ من غير إِيمَان وَإِن أدْرك مُدَّة أمكن فِيهَا التَّأَمُّل وَالنَّظَر فِي الْآيَات (و) عِنْد (الآخرين) مِنْهُم القَاضِي أَبُو بكر وفخر الْإِسْلَام هُوَ (بِالْأولِ) أَي بحدوث الْعَالم فَلَا يعْذر من ذكر بَعْدَمَا أدْرك الْمدَّة الْمَذْكُورَة (وَشرط الْخطاب) أَي بُلُوغه فِي أَوَان التَّكْلِيف عِنْد الآخرين (فِيمَا) أَي فِي حكم (يحْتَمل النّسخ) من الْأَحْكَام العملية (وَهُوَ) أَي هَذَا الِاخْتِلَاف (بِنَاء على اسْتِقْلَال الْعقل يدْرك إِيجَابه) تَعَالَى للْإيمَان (و) على (عَدمه) أَي عدم استقلاله بذلك كَمَا هُوَ قَول عَامَّة الْعلمَاء (و) هُوَ الْمُخْتَار (تقدم) الْكَلَام فِي هَذَا فِي الْفَصْل الثَّانِي فِي الحكم (و) السَّبَب (لوُجُوب الصَّلَاة الْوَقْت) أَي وَقتهَا الْمَشْرُوعَة هِيَ فِيهِ، لإضافتها إِلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى - {وَمن بعد صَلَاة الْعشَاء} - لِأَنَّهَا تفِيد الِاخْتِصَاص وكماله فِي السَّبَبِيَّة، ولتكرر وُجُوبهَا بتكرره، وَلعدم صِحَّتهَا قبله كَمَا قَالُوا (وَالْوَجْه) الْوَجِيه (قَول الْمُتَقَدِّمين) مِنْهُم وَهُوَ (أَنه) أَي سَبَب الْوُجُوب (لكل) من (الْعِبَادَات توالي النعم المفضية فِي) نظر (الْعقل إِلَى وجوب الشُّكْر فللإيمان) أَي فالسبب لوُجُوبه (شكر نعْمَة الْوُجُود وَكَمَال الْعقل، وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن السَّبَب مَا قُلْنَا وَكَانَ مَا ذكر أَولا (فالعالم دَلِيل وجوده تَعَالَى دون إِيجَابه) أَي فَيُقَال فِي رده الْعَالم دَلِيل وجود مبدأ الْوَاجِب لبُطْلَان التسلسل والدور واحتياجه إِلَى الْمُؤثر، فَإِن جعل الدَّلِيل سَببا للمدلول كَانَ الْعَالم من حَيْثُ النّظر فِيهِ سَببا للْعلم بِالْوُجُوب، دون نفس الْوُجُوب لِأَنَّهُ مُتَقَدم بِالذَّاتِ على الْعَالم، وَلَيْسَ دَلِيلا على إِيجَابه على الْعُقَلَاء شَيْئا كَمَا تقدم أَنه الْمُخْتَار، وَلَو كَانَ دَلِيلا على الْإِيجَاب لأمكن اعْتِبَار سببيته لوُجُوب الْإِيمَان (و) سَبَب الْوُجُوب (للصَّلَاة شكر نعْمَة الْأَعْضَاء السليمة) فَإِنَّهُ لما كَانَت الْأَعْضَاء كلهَا تسْتَعْمل فِي الصَّلَاة ناسب أَن تجْعَل شكرا لسلامتها (و) سَبَب الْوُجُوب (للصَّوْم شكر نعْمَة اقْتِضَاء الشَّهَوَات و) سَبَب الْوُجُوب (لِلزَّكَاةِ شكر نعْمَة المَال) الْفَاضِل عَن الْحَاجة الْأَصْلِيَّة (و) سَبَب الْوُجُوب (لِلْحَجِّ شكر نعْمَة الْبَيْت المجعول هدى للْعَالمين ومثابة للنَّاس) وَاعْترض عَلَيْهِ الشَّارِح بِأَن السَّبَب نفس النعم الْمَذْكُورَة وَالشُّكْر سَببا لَهَا، فَالْوَجْه إِمَّا حذف الْجَار من قَوْله للْإيمَان وَمَا عطف عَلَيْهِ، وَإِمَّا حذف شكر ليَكُون التَّقْدِير الْإِيمَان شكر نعْمَة الْوُجُود أَو السَّبَب لَهُ نعْمَة

(4/61)


الْوُجُود، وَالْجَوَاب أَن المُصَنّف أَشَارَ إِلَى أَنهم جعلُوا النعم الْمَذْكُورَة سَببا بِاعْتِبَار شكرها، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ الْبَاعِث لاقدام الْفَاعِل على الْأَفْعَال الْمَذْكُورَة فَهُوَ المفضي إِلَيْهَا، وَتلك النعم من حَيْثُ ذَاتهَا منشؤه وَلَا يُفْضِي إِلَيْهَا غَالِبا (غير أَنه قدر مَا اعْتبر مِنْهَا سَببا بوقته) فِي بعض تِلْكَ الْأَفْعَال (كَالصَّلَاةِ) يَعْنِي أَن نعْمَة الْأَعْضَاء أَمر مُسْتَمر، لَكِن الشَّارِع جعله قطعا وَاعْتبر كل قِطْعَة مِنْهُ سَببا لصَلَاة، وَقدر تِلْكَ الْقطعَة بِقِيَاس هُوَ وقته، وَإِضَافَة الْوَقْت لأدنى مُلَابسَة، لِأَن الْمُتَبَادر مِنْهَا أَن يكون الْوَقْت مُسْتَغْرقا لتِلْك الْقطعَة، وَالْوَقْت الَّذِي جعل سَببا للصَّلَاة لَيْسَ كَذَلِك، بل جُزْء من أَجزَاء وَقت مَا هُوَ سَبَب لَهَا (أَو قدره) مَعْطُوفًا على وقته يَعْنِي بوقته تَارَة وبقدره أُخْرَى كالنصاب فِي الزَّكَاة (أما الْوَقْت) الْمُقدر بِهِ (فجدير بِهِ) أَي بِالْوَقْتِ (الْعَلامَة) أَي يَلِيق بِهِ أَن يَجْعَل عَلامَة كَمَا سَيَأْتِي، وَقد مر تَفْسِيرهَا وَعدم اعْتِبَار التَّأْثِير والإفضاء والتوقف فِيهَا (و) جعل مَا قدر بِهِ السَّبَب (لِلزَّكَاةِ النّصاب) الشَّرْعِيّ الْمُوجب للغني (لعقلية الْغَنِيّ) أَي لمعقولية كَون الْغَنِيّ (سَببا) لِأَنَّهُ يتَمَكَّن من مواساة الْفَقِير، وَلذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا صَدَقَة إِلَّا عَن ظهر غنى ". (وَشرط النَّمَاء) فِي النّصاب لوُجُوب الْأَدَاء (تيسيرا) للْأَدَاء وتخفيفا للغني لِأَنَّهُ إِذا لم يكن ناميا تفنيه الْحَوَائِج المتجددة على الِاسْتِمْرَار قَرِيبا (وأقيم الْحول مقَامه) أَي مقَام النَّمَاء (لِأَنَّهُ) أَي الْحول (طَرِيقه) الْموصل إِلَيْهِ لاشْتِمَاله على الْفُصُول المؤثرة فِي النَّمَاء بالدر والنسل وَزِيَادَة الْقيمَة بتفاوت الْحَاجَات الْمُتَعَلّقَة باخْتلَاف تِلْكَ الْفُصُول، فَصَارَ الْحول شرطا بتكرره بِتَكَرُّر السَّبَب، لِأَن المَال بِاعْتِبَار كل نَمَاء غَيره بالنماء الآخر (و) جعل مَا قدر بِهِ السَّبَب (للصَّوْم الْجُزْء الأول من الْيَوْم) الَّذِي لَا يتَجَزَّأ (لِأَن إِيجَاب الْعِبَادَة) الَّتِي هِيَ صَوْم رَمَضَان إِنَّمَا يَبْغِي أَن يَقع (فِي وَقت شرِيف) عين (لَهُ) أَي للصَّوْم (وَلَا دخل لِليْل فِيهِ) أَي فِي الصَّوْم، ثمَّ صَوْم كل يَوْم عبَادَة على حِدة مُخْتَصّ بشرائط وجوده مُنْفَرد الانتقاض بنواقضه مُتَعَلق بِسَبَب على حِدة، وَذهب شمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ وَمن وَافقه إِلَى اتِّحَاد السَّبَب للشهر، وَهُوَ مُطلق شُهُود الشَّهْر، وَهُوَ اسْم لمجموع اللَّيَالِي وَالْأَيَّام إِلَى أَن السَّبَب هُوَ الْجُزْء الأول مِنْهُ لِئَلَّا يلْزم تقدم الشَّيْء على سَببه: وَلذَا جَازَ نيه الْفَرْض فِي اللَّيْلَة الأولى مَعَ عدم جَوَاز النِّيَّة قبل سَبَب الْوُجُوب، كَمَا إِذا نوى قبل غرُوب الشَّمْس، وَلزِمَ قَضَاء الشَّهْر لمن كَانَ أَهلا لوُجُوب الصَّوْم فِي أول لَيْلَة مِنْهُ ثمَّ جن وَاسْتمرّ حَتَّى مضى الشَّهْر فأفاق، ولمجنون أَفَاق فِي لَيْلَة مِنْهُ ثمَّ جن قبل أَن يصبح وَاسْتمرّ حَتَّى مضى الشَّهْر فأفاق، فسببية الْجُزْء الأول فِي حَقه مُنْعَقد مَوْقُوفا أَن أَفَاق الْعقل وَإِلَّا فَلَا، وَلَو لم يَتَقَرَّر السَّبَب فِي حَقه لم يلْزمه الْقَضَاء. فَأجَاب المُصَنّف عَمَّا ذكر بقوله: (وَأما جَوَاز النِّيَّة من اللَّيْل وَوُجُوب الْقَضَاء على من أَفَاق) من جُنُونه

(4/62)


(فِي لَيْلَة من رَمَضَان فَلِأَن اللَّيْل تَابع) للنهار (فِي الشّرف) أَي الشّرف الَّذِي هُوَ بِاعْتِبَار الظَّرْفِيَّة للصَّوْم فَلَا يُنَافِي استقلاله فِي الشّرف من حَيْثُ الْقيام للتهجد وَغَيره، فَإِن السَّبَبِيَّة بِاعْتِبَار ذَلِك الشّرف لَا مُطلق الشّرف (وتحققت ضَرُورَة فِي ذَلِك) أَي فِي جعل اللَّيْل تَابعا للنهار فِي جَوَاز النِّيَّة من اللَّيْل دفعا للْحَرج اللَّازِم لاشْتِرَاط قرَان النِّيَّة بِأول جُزْء من النَّهَار، وَلَا ضَرُورَة فِيمَا نَحن فِيهِ، وَلما كَانَ الْجَواب الْمَذْكُور متضمنا وجوب الصَّوْم على الْمَجْنُون اتجه أَن يُقَال إِن الْمَجْنُون لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّة الْخطاب فَكيف يجب عَلَيْهِ، وَالْقَضَاء فرع وجوب الأَصْل أجَاب عَنهُ بقوله (وَالْجُنُون لَا يُنَافِي أَهْلِيَّة الْوُجُوب بِالسَّبَبِ) يَعْنِي أَن الْوُجُوب على نَوْعَيْنِ: أَحدهمَا شغل الذِّمَّة بِالدّينِ من غير مُطَالبَة الْأَدَاء فِي الْحَال كشغل ذمَّة المُشْتَرِي بِالثّمن الْمُؤَجل قبل حُلُول الْأَجَل: وَهَذَا يَتَرَتَّب على السَّبَب كَالْبيع من غير خطاب الطّلب. وَالثَّانِي وجوب الأول، وَالْجُنُون لَا يُنَافِي أَهْلِيَّة الأول (بل) يُنَافِي أَهْلِيَّة الْوُجُوب (بِالْخِطَابِ) بِالسَّبَبِ شرعا فِي الْمَجْنُون وَمَا أشبهه (ليظْهر) أَثَره (فِي الْحَال فِي) الْوَاجِب (المالي غير الزَّكَاة) من نَفَقَة الزَّوْجِيَّة وَالْأَوْلَاد وَالْخَرَاج وَالْعشر وَضَمان الْمُتْلفَات، لِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ المَال ووصوله إِلَى الْمُسْتَحق وَهُوَ لَا يتَعَذَّر مَعَ الْجُنُون فَإِنَّهُ مِمَّا يحصل بالنائب، بِخِلَاف الْعِبَادَة الْمَحْضَة كَالزَّكَاةِ فَإِن الْمَقْصُود من إِيجَابهَا أَصَالَة نفس الْفِعْل ابتلاء ليظْهر الْمُطِيع من العَاصِي، وَهُوَ لَا يتَحَقَّق إِلَّا عَن اخْتِيَار الْعقل (و) ليظْهر (فِي المَال) أَي بعد الْإِفَاقَة (فَائِدَة الْقَضَاء) الْإِضَافَة بَيَانِيَّة (بِلَا حرج) تَقْيِيد للْقَضَاء، احْتِرَاز عَمَّا إِذا لزم الْحَرج من إِيجَاب الْقَضَاء (وَهُوَ فِيهِ) أَي الْحَرج فِي الْقَضَاء (بِالْكَثْرَةِ اسْتِيعَاب الشَّهْر) عطف بَيَان للكثرة (جنونا) تَمْيِيز عَن نِسْبَة الِاسْتِيعَاب: أَي اسْتِيعَاب الشَّهْر جنونا، فالمستوعب هُوَ الْجُنُون (وَفِيه) أَي فِي تَقْدِير الْكَثْرَة بالاستيعاب (تَأمل) إِذْ يلْزم من الْحَرج فِي قَضَاء الشَّهْر فِيمَا إِذا أَفَاق فِي سَاعَة من ليل أَو نَهَار، وَمَا يلْزم مِنْهُ فِي قَضَائِهِ لَو استوعبه لَا يبعد أَن يُقَال إِنَّمَا بنى الحكم على الِاسْتِيعَاب وَعَدَمه لمصْلحَة الضَّبْط، وَالْتزم الْحَرج الْوَاقِع فِي نقض الصُّور على سَبِيل الندرة، ثمَّ قد أيد قَول السَّرخسِيّ بِأَن كَون الْيَوْم معيارا للصَّوْم يُنَافِي كَون الْجُزْء الأول مِنْهُ سَببا، لِأَن سَبَب الْوُجُوب خَارج عَن مَحل الْأَدَاء لتقدم السَّبَب على الْمُسَبّب وَأجِيب بِأَن السَّبَب الشَّرْعِيّ قد يقارن الْمُسَبّب كالعلل الْعَقْلِيَّة كَمَا فِي الِاسْتِطَاعَة مَعَ الْفِعْل، وَفِيه تَفْصِيل ذكره فِي مَحَله، على أَن خُرُوج جُزْء لَا يتَجَزَّأ من الْيَوْم لَا يضر بمعياريته عرفا (و) إِنَّمَا قُلْنَا سَبَب الْوُجُوب (لِلْحَجِّ الْبَيْت للإضافة) كَقَوْلِه تَعَالَى - {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} - وَالْإِضَافَة من دَلَائِل السَّبَبِيَّة على مَا عرف (وَلذَا) أَي ولكونه سَببا للْوُجُوب (لم يتَكَرَّر) وجوب الْحَج لعدم تكَرر سَببه، وَأما الْوَقْت فَشرط جَوَاز أَدَائِهِ، والاستطاعة شَرط وُجُوبه (فاتفقوا)

(4/63)


أَي الْمُتَأَخّرُونَ والمتقدمون فِي هَذِه الْأَسْبَاب (فِيمَا سوى) سَبَب (الصَّلَاة) كَذَا فسره الشَّارِح. وَفِيه أَنه سبق مَا يدل على الْخلاف بَين الْفَرِيقَيْنِ من قَوْله: وَالْوَجْه قَول الْمُتَقَدِّمين إِلَى آخِره، وَبَين الْمُتَأَخِّرين فِي سَبَب الصَّوْم هَل هُوَ شُهُود الشَّهْر، أَو أول جُزْء من الْيَوْم؟ غير أَنه قَالَ: وَالَّذِي يظْهر فِيمَا سوى سَبَب الْأَيْمَان، لِأَن الْقَائِلين بِأَن سَبَب وجوب الصَّلَاة الْوَقْت مُرَادهم نعم الله تَعَالَى على الْعباد فِيهِ، وَأَنَّهَا قدرت بِالْوَقْتِ، فقد اتَّفقُوا على أَن السَّبَب لوُجُوبهَا النعم إِلَّا أَن مِنْهُم من خصصها بِنِعْمَة الْأَعْضَاء انْتهى وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه لَو حمل قَول المُصَنّف على أَنهم اتَّفقُوا فِيمَا سوى الصَّلَاة من الْفُرُوع الْمَذْكُورَة لَا يرد اعتراضه بِاعْتِبَار سَبَب الْإِيمَان. وَأما قَضِيَّة الِاتِّفَاق على سَبَب الصَّلَاة فَإِنَّمَا يتم إِذا كَانَ سببيته النعم عِنْد الْمُتَأَخِّرين، وَالَّذِي يفهم من الْمَتْن أَنه قَول الْمُتَقَدِّمين، وَتَأْويل التَّقْدِير إِنَّمَا هُوَ من المُصَنّف وَأَمْثَاله، لَكِن يرد عَلَيْهِ أَن الصَّلَاة كَغَيْرِهَا اتِّفَاقًا واختلافا على التَّوْفِيق بَين الْفَرِيقَيْنِ وَعَدَمه، فَالْوَجْه أَن يعرض عَن التوجيهات الرَّكِيكَة وَيحمل على سَهْو الْقَلَم فِي وضع الصَّلَاة مَوضِع الْإِيمَان، فَإِنَّهُ اخْتلف فِي سَببه هَل هُوَ حُدُوث الْعَالم أَو نعْمَة الْوُجُود إِلَى آخِره، وَمَا سواهُ مُتَّفق عَلَيْهِ بالتأويل الْمَذْكُور وَالله تَعَالَى أعلم. (و) سَبَب الْوُجُوب (لصدقة الْفطر الرَّأْس الَّذِي يمونه) أَي يقوم بكفايته وَيحمل ثقله (ويلي عَلَيْهِ) . وَالْولَايَة نَفاذ القَوْل على الْغَيْر شَاءَ أَو أَبى، فَلَا يكون الرَّأْس سَببا إِلَّا بِهَذَيْنِ الوصفين، فَخرج الصَّغِير الَّذِي لَهُ مَال تجب نَفَقَته فِيهِ لَيست مُؤْنَته على الْغَيْر حَتَّى الْأَب عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف (وَالْإِضَافَة إِلَى الْفطر) فِي عرف أهل الشَّرْع فِي قَوْلهم: صَدَقَة الْفطر (الشَّرْط) لوُجُوبهَا صفة الْفطر، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا إِنَّمَا تجب عِنْد أَصْحَابنَا بِطُلُوع فجر يَوْم الْفطر (مجَاز) أَي فِي النِّسْبَة الإضافية، لِأَن حَقِيقَتهَا إِنَّمَا تتَحَقَّق بَين الحكم وَسَببه، وَإِنَّمَا حكم بمجازاتيها وَسَببه الرَّأْس (بِدَلِيل التَّعَدُّد) لوُجُوبهَا (بِتَعَدُّد الرَّأْس) فسر الشَّارِح التَّعَدُّد بالتقديرين وَقَالَ: لِأَن الرَّأْس لما صَار سَببا بِوَصْف الْمُؤْنَة، وَهِي تتجدد فِي كل وَقت بتجدد الْحَاجة، كَأَن الرَّأْس بتجددها متجدد تَقْديرا انْتهى، وَيرد على هَذَا أَن تعدد الْفطر حَقِيقِيّ لَا يحْتَاج إِلَى التَّقْدِير فَهُوَ أولى بالسببية بِاعْتِبَار هَذَا الْمَعْنى، وَلَك أَن تحمل التَّعَدُّد بِتَعَدُّد الرَّأْس على تعدد الْوُجُوب بِاعْتِبَار مُتَعَلّقه وَهُوَ الصَّدَقَة، فَإِنَّهُ يجب فِي الرَّأْس الْوَاحِد صَدَقَة وَاحِدَة وَفِي الِاثْنَيْنِ صدقتان وَهَكَذَا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر غير أَن تعدد الْوَاجِب فِي الصَّلَاة وَالزَّكَاة بِاعْتِبَار تعدد السَّبَب على وَجه يُنَاسب مَا فسر بِهِ، وَقد عرفت مَا فِيهِ (وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَدّوا) يَعْنِي صَدَقَة الْفطر (عَمَّن تمونون أَفَادَ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا، وَأفَاد قَوْله (تعلقهَا) أَي تعلق وجوب صَدَقَة الْفطر (بالمؤن) جمع مُؤنَة، وَالْجمع إِمَّا بِاعْتِبَار من تجب عَلَيْهِ، وَإِمَّا بِاعْتِبَار من تجب عَنهُ، وَالْمرَاد تعلق

(4/64)


الْمُسَبّب بِالسَّبَبِ، وَذَلِكَ لِأَن من الانتزاعية دخلت على من يمونه وَلَا يحْتَمل هُنَا الأوجهين: أَحدهمَا أَن يكون سَببا لِلْأَمْرِ بِالْأَدَاءِ، وَهُوَ الْمَطْلُوب، وَالثَّانِي أَن يكون محلا للْوُجُوب فِي الأَصْل ثمَّ يسري عَنهُ إِلَى الْمَأْمُور كسراية الدِّيَة عَن الْقَاتِل إِلَى الْعَاقِلَة، لَا سَبِيل إِلَيْهِ، لِأَن العَبْد الْمُسلم لَا مَال لَهُ فَلَا يُكَلف بِوُجُوب مَالِي، وَالْكَافِر لَيْسَ من أهل الْقرْبَة. وَلَا يُقَال: لم لَا يجوز أَن يجب على العَبْد ثمَّ يَنُوب الْمولى عَنهُ؟ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَار مملوكيته الْتحق بالبهيمة فِي حق الْوُجُوب المالي، وَأورد عَلَيْهِ أَن الْجد إِذا كَانَت نوافله صغَارًا فِي عِيَاله لَا يجب عَلَيْهِ الْإِخْرَاج عَنْهُم فِي ظَاهر الرِّوَايَة مَعَ أَنه يمونهم لَكِن فِي رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه يجب إخْرَاجهَا عَنْهُم (و) سَبَب الْوُجُوب (للعشر الأَرْض النامية بالحقيقي) أَي بالنماء الْحَقِيقِيّ بِأَن يُؤْخَذ محصولها (لِأَنَّهُ) أَي الْعشْر أَمر (إضافي) لِأَنَّهُ عبارَة عَن الْوَاحِد من الْعشْرَة، فَمَا لم يتَحَقَّق خَارج لَا يتَحَقَّق عشره، وَهُوَ (عبَادَة) أَي مُؤنَة فِيهَا معنى الْعِبَادَة، وَقد مر بَيَانه (بِخِلَاف الْخراج) الموظف، فَإِن سَبَب وُجُوبه الأَرْض النامية (بالتقديري) أَي بالنماء التقديري (وَهُوَ) أَي التقديري (بالتمكن من الزِّرَاعَة) وَالِانْتِفَاع بِالْأَرْضِ، إِذْ هُوَ مُقَدّر بِمَا عين من الدَّرَاهِم، وَغَيره فِي بَدْء الْفَتْح غير مُتَعَلق بالخارج (فَكَانَ) الْخراج الموظف (عُقُوبَة) لما فِي الِاشْتِغَال بتحصيله بالزراعة من عمَارَة الدُّنْيَا والاعراض عَن الْجِهَاد، وَهُوَ سَبَب المذلة (مُؤنَة لَهَا) أَي الأَرْض لِأَنَّهُ سَبَب لبقائها فِي أَيدي أَرْبَابهَا، وَذَلِكَ لِأَن الْمُقَاتلَة يَذبُّونَ عَن الدَّار ويصونونها عَن الْكفَّار فَوَجَبَ الْخراج لَهُم ليتمكنوا من ذَلِك (فلزما) أَي الْعشْر وَالْخَرَاج (فِي مَمْلُوكَة الصَّبِي) أَي فِي أَرض هِيَ مَمْلُوكَة للصَّبِيّ، وَالْأَرْض الْمَوْقُوفَة، فَيجب فيهمَا الْعشْر إِن كَانَتَا عشريتين، وَالْخَرَاج إِن كَانَتَا خراجيتين (وَلم يجتمعا) أَي الْعشْر وَالْخَرَاج (فِي أَرض وَاحِدَة) عندنَا خلافًا للأئمة الثَّلَاثَة لِأَنَّهُمَا حقان مُخْتَلِفَانِ ذاتا لما عرفت من معنى الْعِبَادَة فِي الْعشْر والعقوبة فِي الْخراج، ومحلا لِأَن الْعشْر فِي الْخَارِج وَالْخَرَاج فِي الذِّمَّة، وسببا لما عرفت من أَن سَبَب الْعشْر الأَرْض النامية بالنماء الْحَقِيقِيّ، وَسبب الْخراج بالنماء التقديري، ومصرفا فَإِن مصرف الْعشْر، الْفُقَرَاء ومصرف الْخراج الْمُقَاتلَة، وَلَا مُنَافَاة بَين حقين مُخْتَلفين بسببين مُخْتَلفين تحققا فِي كل وَاحِد، وَحجَّتنَا أَن اخْتِلَافهمَا ذاتا على الْوَجْه الْمَذْكُور يمْنَع اجْتِمَاعهمَا، وَفِيه مَا فِيهِ، وَلَا نسلم اخْتِلَافهمَا سَببا بل هُوَ الأَرْض النامية إِلَّا أَنه يعْتَبر فِي الْعشْر تَحْقِيقا، وَفِي الْخراج تَقْديرا، واتحاد السَّبَب يُوجب اتِّحَاد الحكم، فالسبب أَحدهمَا من غير جمع بَينهمَا كالدية وَالْقصاص (وَقد يُقَال جَازَ) أَن يكون السَّبَب (الْوَاحِد سَببا لمتعدد) الْأَحْكَام (كالعلة الْوَاحِدَة) أَي كَمَا جَازَ أَن تكون الْعلَّة الْوَاحِدَة عِلّة لمتعدد مِنْهَا كَالزِّنَا

(4/65)


عِلّة للتَّحْرِيم وَوُجُوب الْجد كَمَا تقدم (وَيُجَاب بِأَن جهتيهما) أَي جهتي الْعشْر وَالْخَرَاج (متنافية) أَي مُنَافِيَة كل وَاحِدَة مِنْهُمَا الْأُخْرَى: يَعْنِي أَن تعدد الحكم عِنْد اتِّحَاد السَّبَب أَو الْعلَّة يسْتَلْزم تحقق الْجِهَتَيْنِ، مَعًا، لِأَن الشَّيْء من جِهَة وَاحِدَة يَسْتَحِيل أَن يكون مُبْتَدأ لأمرين مُخْتَلفين، وَإِذا كَانَت الجهتان متنافيتين لَا يُمكن تحققهما مَعًا فِي مَحل وَاحِد. ثمَّ بَين التَّنَافِي بقوله (لِأَنَّهَا) أَي الْجِهَة (فِي إِحْدَاهمَا) أَي أرضي الْعشْر وَالْخَرَاج (أما) كَونهَا أَرضًا تسقى (بِمَاء خَاص) وَهُوَ الْأَنْهَار الَّتِي سقتها الْأَعَاجِم: كنهر يزدجرد وَغَيره مِمَّا يدْخل تَحت الْأَيْدِي وَمَاء الْعُيُون والآبار الَّتِي كَانَت بدار الْحَرْب ثمَّ ملكناها قهرا والمستنبطة من بَيت المَال (أَو) كَونهَا أَرضًا صَارَت للْمُسلمين من (فتح عنْوَة) أَي قهرا (الخ) أَي إِلَى آخر مَا ذكره الْفُقَهَاء وَأقر أَهلهَا عَلَيْهَا وَوضع عَلَيْهِم الْجِزْيَة وَعَلَيْهَا الْخراج، أَو صَالحهمْ من جماجمهم وأراضيهم على وَظِيفَة مَعْلُومَة، وَكَذَا إِذا فتحت صلحا وَأقر أَهلهَا عَلَيْهَا لِأَن فِي ابْتِدَاء التوظيف على الْكَافِر الْخراج مُتَعَيّن، وَهَذِه الْأَرَاضِي كلهَا خَرَاجِيَّة (و) الْجِهَة (فِي) الأَرْض (الْأُخْرَى) وَهِي العشرية كَونهَا أَرضًا مَوْقُوفَة (بخلافهما) أَي السَّقْي بِمَا ذكر وَالْفَتْح الْمَذْكُور بِأَن يسقى بِمَاء السَّمَاء أَو الْبحار أَو الْأَنْهَار الْعِظَام الَّتِي لَا تدخل تَحت الْأَيْدِي، وَبِأَن فتحت عنْوَة وَقسمت بَين الْغَانِمين (فَلَا يَجْتَمِعَانِ) أَي الْعشْر وَالْخَرَاج (فِي) مَحل (وَاحِد) لتنافي لازميهما: أَي الْجِهَتَيْنِ المذكورتين وَتعقبه الشَّارِح بِأَن بعض صور الْخراج يكون مَعَ الْفَتْح عنْوَة، وَهُوَ فِيمَا إِذا أقرّ عَلَيْهَا أَهلهَا وَكَذَا بعض صور الْعشْر: وَهُوَ فِيمَا إِذا قسمهَا بَين الْغَانِمين، كَمَا أَن بعض صور الْخراج لَا يكون مَعَ العنوة، بل مَعَ الصُّلْح، أَو بِأَن أَحْيَاهَا وسقاها بِمَاء الْأَنْهَار الصغار وَكَانَت قريبَة من أَرض الْخراج على الْخلاف، فَلَا يلْزم عدم تصور اجْتِمَاعهمَا مُطلقًا وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه غير مُتَّجه، إِذْ المُصَنّف جعل مدَار التَّنَافِي بَينهمَا التَّنَافِي بَين لازميهما، وَجعل لَازم الْخراج أحد الْأَمريْنِ: السَّقْي بِمَا ذكر، وصور الْأَحْيَاء الْمَذْكُورَة أَولا مندرجة تَحْتَهُ والقرب من الشَّيْء فِي حكمه وَالْفَتْح عنْوَة، وَقَالَ إِلَى آخِره: فقد أَشَارَ إِلَى الْقَيْد الْمُمَيز للخراجي عَن العشري فلازم الْخراج الْفَتْح مَعَ ذَلِك قيدا وصلحا على الْوَجْه الْمَذْكُور، وَلم يَجْعَل الْفَتْح عنْوَة مدَار التَّنَافِي فَلَا يرد عَلَيْهِ شَيْء، وَأَيْضًا لم ينْقل عَن الْخُلَفَاء الرَّاشِدين الْجمع بَين الْحَقَّيْنِ وَلَو وَقع لنقل، ثمَّ إِن إِخْرَاج الْمُقَاسَمَة بِمَنْزِلَة الْعشْر فِي كَون الْوَاجِب مِنْهُمَا شَيْئا من الْخَارِج، ويفارقه فِي الْمصرف وَالْقدر وَغَيره (و) سَبَب الْوُجُوب (للطَّهَارَة إِرَادَة الصَّلَاة) لقَوْله تَعَالَى {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا} الْآيَة (وَالْإِجْمَاع على عدم اعْتِبَار حَقِيقَة الْقيام بل) الْإِجْمَاع على اعْتِبَار (الْإِرَادَة) للصَّلَاة (وَالْحَدَث) وَيحْتَمل أَن يكون عطف الْإِرَادَة وَالْحَدَث على قَوْله إِرَادَة الصَّلَاة، وَالْمعْنَى بل السَّبَب لوُجُوبهَا مَجْمُوع الْإِرَادَة وَالْحَدَث، وَأورد أَن سَبَب

(4/66)


الشَّيْء مَا يُفْضِي إِلَيْهِ، وَالْحَدَث يزِيل الطَّهَارَة وينافيها وَأجِيب بِأَن الْمُسَبّب وجوب الطَّهَارَة لَا نَفسهَا، وَهُوَ لَا يُنَافِيهِ (ثمَّ إِن نقضهَا) أَي نقض الْمدَّة للطَّهَارَة السَّابِقَة عَلَيْهِ (لم يمْتَنع) كَونه (سَببا لوُجُوب) طَهَارَة (أُخْرَى) دفع لما يتَوَهَّم من أَن سَبَبِيَّة الْحَدث للطَّهَارَة مُنَافِيَة لسببيته لنقضها (لَكِن) عدم الِامْتِنَاع يُفِيد صلاحيته لذَلِك، و (مَعَ) وجود (الصلاحية يحْتَاج إِلَى دَلِيل الِاعْتِبَار) أَي اعْتِبَار الشَّارِع كَونه سَببا لَهَا لِأَن السَّبَبِيَّة لَا تتَحَقَّق إِلَّا بِهِ وَهُوَ مَفْقُود (فَالْأَوْجه) أَن يُقَال: سَبَب وجوب الطَّهَارَة (وجوب مشروطها) أَي الْمَشْرُوط صِحَّته بِالطَّهَارَةِ هُوَ الصَّلَاة لما تقرر من أَن وجوب الشَّيْء يسْتَلْزم وجوب شَرطه (وَأَسْبَاب الْعُقُوبَات الْمَحْضَة) أَي الْأَحْكَام الَّتِي هِيَ عقوبات مَحْضَة لَيْسَ فِيهَا معنى الْعِبَادَة (كالحدود مَحْظُورَات مَحْضَة) كَالزِّنَا وَالسَّرِقَة وَالْقَذْف وَغَيره (و) أَسبَاب (مَا فِيهِ معنى الْعقُوبَة وَالْعِبَادَة من الْكَفَّارَات) بَيَان لما، ثمَّ علل كَون الْكَفَّارَات فِيهَا معنى الْعقُوبَة وَالْعِبَادَة بقوله (إِذْ لم تجب) الْكَفَّارَة (ابْتِدَاء تَعْظِيمًا) لله تَعَالَى كَسَائِر الْعِبَادَات، بل جَزَاء لفعل العَبْد، وفيهَا معنى الْحَظْر والزجر، وَهَذَا معنى الْعقُوبَة. ثمَّ بَين كَونهَا فِيهَا معنى الْعِبَادَة بقوله (وَشرع فِيهَا) أَي فِي الْكَفَّارَات (نَحْو الصَّوْم) من الصَّدَقَة وَالْإِعْتَاق (ولزمت النِّيَّة) فِيهَا: أَي فِي أَدَاء الْكَفَّارَات، ثمَّ أَسبَاب مَا فِيهِ إِلَى آخِره مُبْتَدأ وَخَبره (مَا يتَرَدَّد بَين الْحَظْر وَالْإِبَاحَة) ليلائم السَّبَب الْمُسَبّب ويقابل الْحَظْر الْعقُوبَة، وَالْإِبَاحَة الْعِبَادَة، وَلذَا لَا يصلح الْمَحْظُور الْمَحْض كَالْقَتْلِ الْعمد وَالْيَمِين الْغمُوس سَببا لَهَا كَمَا لَا يصلح الْمُبَاح الْمَحْض كَالْقَتْلِ بِحَق وَالْيَمِين المنعقدة قبل الْحِنْث سَببا لَهَا (كالإفطار) الْعمد فِي نَهَار رَمَضَان لِأَنَّهُ مُبَاح من حَيْثُ أَنه يلاقي فعل نَفسه الَّذِي هُوَ مَمْلُوك لَهُ ومحظور من حَيْثُ أَنه جِنَايَة على مُبَاح الصَّوْم، وَأورد عَلَيْهِ الْإِفْطَار بِالزِّنَا أَو شرب الْخمر فَإِنَّهُ تجب بِهِ الْكَفَّارَة، وَهُوَ حرَام من كل وَجه وَأجِيب بِأَنَّهُ مُبَاح من وَجه، لِأَن الْإِفْطَار يلاقي الْإِمْسَاك والإمساك حَقه والإفطار بِاعْتِبَار كَونه جِنَايَة على الصَّوْم يكون مَحْظُورًا، وَالزِّنَا وَشرب الْخمر ليسَا بسببين لِلْكَفَّارَةِ، أَلا ترى أَنه لَو كَانَ نَاسِيا لَا تجب الْكَفَّارَة بهما، وَدفع بِأَنَّهُ ينْتَقض بِالْقَتْلِ الْعمد لِأَنَّهُ يلاقي فعل الْقَاتِل فَلَا يكون مَحْظُورًا مَحْضا، وَالَّذِي يظْهر أَن الْتِزَام كَون سَبَب الْكَفَّارَة فِي مثل الْإِفْطَار بِالزِّنَا مَحْظُورًا مَحْضا، وَعدم تَحْصِيل تِلْكَ الملائمة بَين السَّبَب والمسبب خير من التَّأْوِيل الْمَذْكُور كَمَا لَا يخفى على الْمنصف (وَالظِّهَار) وَهُوَ تَشْبِيه الزَّوْجَة أَو جُزْء مِنْهَا شَائِع أَو معِين يعبر بِهِ عَن الْكل بِمَا لَا يحل النّظر إِلَيْهِ من الْمُحرمَة على التَّأْبِيد فَإِنَّهُ من حَيْثُ كَونه طَلَاقا مُبَاح، وَمن حَيْثُ أَنه مُنكر من القَوْل وزور مَحْظُور، وَالْعود شَرط، وَقيل السَّبَب مَجْمُوع الظِّهَار وَالْعود، لِأَن الظِّهَار كَبِيرَة لَا يصلح وَحده سَببا لِلْكَفَّارَةِ وَيصْلح مَعَ الْعود لِأَنَّهُ

(4/67)


مُبَاح وَلَا يخفى عَلَيْك تَحْصِيل وَجه إِبَاحَة مثل مَا ذكر فِي الْإِفْطَار بِالزِّنَا، وَقيل السَّبَب الْعَزْم على الْوَطْء، وَالظِّهَار شَرطه عِنْد الشَّافِعِي سُكُوته بعد ظِهَاره قدر مَا يُمكنهُ طَلاقهَا (وَالْقَتْل الْخَطَأ) إِمَّا فِي الْقَصْد بِأَن يَرْمِي مُسلما ظَنّه صيدا أَو حَرْبِيّا، أَو فِي الْفِعْل بِأَن يَرْمِي غَرضا فَيُصِيب آدَمِيًّا، فَهُوَ مُبَاح بِاعْتِبَار الْقَصْد، مَحْظُور بِاعْتِبَار إِصَابَة مَعْصُوم الدَّم (وَفِي تحريره) أَي تَحْرِير هَذَا الْقسم من السَّبَب (نوع طول) لَا يَلِيق بالمتون فَمن أَرَادَ التَّفْصِيل فَليرْجع إِلَى المطولات (و) السَّبَب (لشرعية الْمُعَامَلَات) كَالْبيع وَالنِّكَاح وَغَيرهمَا (الْبَقَاء) للْعَالم (على النظام) وَهُوَ فِي الأَصْل كل خيط ينظم بِهِ اللُّؤْلُؤ وَنَحْوه يُرَاد بِهِ مَا يَنْتَظِم أُمُور الْعَالم من تَدْبِير الصَّانِع تَعَالَى (الْأَكْمَل) قيد بِهِ لِأَنَّهُ قد يبْقى بِدُونِ شَرْعِيَّة الْمُعَامَلَات كَمَا فِي الْجَاهِلِيَّة، لَكِن لَا على الْوَجْه الْأَكْمَل، وَالْمرَاد النظام المنوط بِنَوْع الْإِنْسَان (إِلَى الْوَقْت الْمُقدر) بَقَاؤُهُ إِلَيْهِ، وَذَلِكَ لِأَن اعْتِدَال مزاجه بِأُمُور صناعية فِي الْغذَاء واللباس والمسكن وَنَحْوهَا لَا يسْتَقلّ بهَا كل فَرد فَيحْتَاج إِلَى بني نَوعه، ثمَّ التوالد والتناسل لَا يحصل إِلَّا بالازدواج فَيَقَع بَينهم معاملات لَا تَخْلُو عَادَة عَن الْجور المخل بالنظام فَلَا بُد من أصُول كُلية قَاطِعَة للنزاع مبينَة لكيفية الْمُعَامَلَة (وَمَا تقدم) فِي المرصد الأول فِي تَقْسِيم الْعلَّة (من حفظ الضروريات والحاجيات تَفْصِيل هَذَا، و) السَّبَب (للاختصاصات) الشَّرْعِيَّة (كالملك) فَإِنَّهُ الْمُطلق الحاجز: أَعنِي يُطلق تصرف الْمَالِك ويحجز عَن تصرف الْغَيْر، وَكَذَلِكَ الْحُرْمَة وَإِزَالَة الْملك لَا إِلَى أحد (التَّصَرُّفَات) القولية والفعلية (المجعولة أسبابا شرعا) لَهَا (كَالْبيع وَالطَّلَاق وَالْعتاق، فقد أطْلقُوا لفظ السَّبَب على مَا تقدم) فِي فصل الْعلَّة إِطْلَاقهم عَلَيْهِ (عِلّة) فَاحْتَاجَ إِلَى بَيَان يدْفع الالتباس ويميز كلا مِنْهُمَا عَن الآخر (فَقيل) وقائله صدر الشَّرِيعَة (مَا ترَتّب عَلَيْهِ الحكم وَلم يعقل تَأْثِيره) فِيهِ (وَلَيْسَ صنع الْمُكَلف خص باسم السَّبَب) لِأَنَّهُ مفض إِلَيْهِ من غير تَأْثِير فِيهِ (وَإِن) كَانَ مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ وَلم يعقل تَأْثِيره ثَابتا (بصنعه) أَي الْمُكَلف (وَذَلِكَ الحكم هُوَ الْغَرَض من وَضعه) أَي وضع ذَلِك الْمُتَرَتب عَلَيْهِ الحكم (فعلة) أَي فَذَلِك الْمُتَرَتب عَلَيْهِ الحكم عِلّة (وَيُطلق عَلَيْهِ سَبَب) أَي لفظ سَبَب (مجَازًا كَالْبيع للْملك) مجَازًا (وَإِن لم يكن) ذَلِك الحكم (الْغَرَض من وَضعه: كالشراء لملك الْمُتْعَة لَا يعقل تَأْثِيره) فِي ملك الْمُتْعَة (وَلَيْسَ) ملك الْمُتْعَة (الْغَرَض مِنْهُ) أَي الشِّرَاء (بل) الْغَرَض مِنْهُ (ملك الرَّقَبَة فسببه) أَي فَذَلِك سَبَب الحكم (وَإِن عقل تَأْثِيره خص) ذَلِك الْمُرَتّب عَلَيْهِ الحكم (باسم الْعلَّة) ثمَّ أَفَادَ مَا حَقَّقَهُ بقوله (والاصطلاح الظَّاهِر) للحنفية (أَن مَا لم يعقل تَأْثِيره: أَي مناسبته بِنَفسِهِ بل بِمَا هُوَ مظنته) أَي بِاعْتِبَار أَمر هُوَ مَظَنَّة لذَلِك الْأَمر بِأَن يكون بَين ذَلِك الْأَمر وَالْحكم مُنَاسبَة فَمن حَيْثُ أَنه مَظَنَّة للمناسب يحصل لَهُ مُنَاسبَة بالواسطة (على

(4/68)


مَا قدمْنَاهُ) فِي فصل الْعلَّة (وَثَبت) شرعا (اعْتِبَاره) أَي اعْتِبَار مَا لم يعقل مناسبته بِنَفسِهِ بل بِمَا هُوَ مظنته، وَقد مر تَفْسِير الِاعْتِبَار (عِلّة) خبر أَن، فَعلم أَن مدَار الْعلية على مُنَاسبَة مَا ترَتّب عَلَيْهِ الحكم: أما بِنَفسِهِ أَو بِوَاسِطَة مَا ذكر وَثُبُوت اعْتِبَاره، فَإِن لم يتَحَقَّق فِيهِ أحد الْأَمريْنِ مَعَ ثُبُوت الِاعْتِبَار فَلَيْسَ بعلة وَإِن كَانَ بصنع الْمُكَلف مَعَ كَون الحكم هُوَ الْغَرَض من وَضعه، فَبين مَا ذكره المُصَنّف وَمَا ذكره صدر الشَّرِيعَة عُمُوم من وَجه بِحَسب الْمَفْهُوم (وَمَا هُوَ مفض) إِلَى الحكم (بِلَا تَأْثِير) فِيهِ (سَبَب) وَإِن تحقق الصنع وَالْغَرَض الْمَذْكُورَان، وَقد عرفت معنى التَّأْثِير (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن المُرَاد مَا قُلْنَا، بل بِمَا قَالَه الْقَائِل الْمَذْكُور (خص اسْم الْعلَّة الْحِكْمَة) بِحَذْف الْبَاء: أَي بالحكمة، وَذَلِكَ لِأَن مَا بنى عَلَيْهِ الْعلية إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الْحِكْمَة لَيْسَ إِلَّا (والاصطلاح نَاطِق بِخِلَافِهِ) أَي بِخِلَاف التَّخْصِيص الْمَذْكُور، وَقد مر مَا يفِيدهُ من تَفْسِير كل من الْحِكْمَة وَالْعلَّة على وَجه يُفَارق الآخر (وَيُطلق كل) من الْعلَّة وَالسَّبَب (على الآخر مجَازًا) وَمن هَذَا الْقَبِيل إِطْلَاق الْعلَّة على البيع وَنَحْوه (وَأما الشَّرْط فَمَا يُطلق عَلَيْهِ) أَي مَا يُطلق اسْمه عَلَيْهِ، فالمحكوم عَلَيْهِ الشَّرْط الاصطلاحي، وَالْحكم بَيَان حَاله بِاعْتِبَار معَان تقصد باسمه لُغَة أَو شرعا حَقِيقَة أَو مجَازًا: أما (حَقِيقِيّ) وَهُوَ مَا (يتَوَقَّف عَلَيْهِ الشَّيْء فِي الْوَاقِع) كالحياة للْعلم فَإِنَّهُ لما كَانَ التَّوَقُّف فِيهِ بِحَسب نفس الْأَمر كَانَ حَقِيقا بِأَن يُسمى شرطا (و) أما (جعلى) أما (للشارع فَيتَوَقَّف) وجود الْمَشْرُوط عَلَيْهِ (شرعا) أَي توقفا شَرْعِيًّا كَمَا أَن وجود الْمَشْرُوط وجود شَرْعِي (كالشهود للنِّكَاح وَالطَّهَارَة للصَّلَاة) فَإِن وجودهما الشَّرْعِيّ مَوْقُوف على الشُّهُود وَالطَّهَارَة توقفا شَرْعِيًّا (وَالْعلم بِوُجُوب الْعِبَادَات على من أسلم فِي دَار الْحَرْب) وَلم يُهَاجر إِلَى دَار الْإِسْلَام، فَإِن وُجُوبهَا عَلَيْهِ مَوْقُوف على الْعلم بِهِ حَتَّى لَو لم يعلم بِهِ حَتَّى مضى عَلَيْهِ زمَان لَا يلْزم عَلَيْهِ قَضَاء شَيْء مِنْهَا قيل الْمَوْقُوف على الْعلم وجوب الْأَدَاء الثَّابِت بِالْخِطَابِ دون نفس الْوُجُوب الثَّابِت بِالسَّبَبِ، وَإِلَّا لما وَجَبت الصَّلَاة على النَّائِم والمغمى عَلَيْهِ إِذا لم يَمْتَد الْإِغْمَاء، وَلما وَجب الصَّوْم على الْمَجْنُون الَّذِي لم يسْتَغْرق جُنُونه الشَّهْر لعدم الْعلم وَأجِيب بِأَنا لَا نسلم عدم حُصُول الْعلم فِي حَقهم لثُبُوته تَقْديرا لشيوع الْخطاب، وبلوغه إِلَى سَائِر الْمُكَلّفين بِمَنْزِلَة بُلُوغه إِلَيْهِم، كَذَا قَالُوا: وَفِيه نظر (أَو للمكلف) مَعْطُوف على قَوْله للشارع، ثمَّ بَين كَيْفيَّة التَّوَقُّف يَجْعَل الْمُكَلف بقوله (بتعليق تصرفه عَلَيْهِ) أَي على الْمُعَلق بِهِ بأداة الشَّرْط (مَعَ إجَازَة الشَّارِع) لَهُ ذَلِك (كَأَن دخلت) الدَّار فَأَنت طَالِق، فَإِنَّهُ جعل وُقُوع الطَّلَاق مَوْقُوفا على الدُّخُول، وَقد أَبَاحَ لَهُ الشَّارِع التَّعَلُّق (أَو مَعْنَاهُ) مَعْطُوف على مَدْخُول الْبَاء، يَعْنِي أَو بِمَا هُوَ فِي معنى التَّعْلِيق بهَا (كَالْمَرْأَةِ الَّتِي أَتَزَوَّجهَا) أَي كَمَا إِذا قَالَ: الْمَرْأَة الَّتِي أَتَزَوَّجهَا طَالِق، فَإِن التَّعْلِيق بهَا يُفِيد

(4/69)


ارتباط شَيْء بِشَيْء على خطر الْوُجُود متوقعا نزُول المرتبط على المرتبط بِهِ وَقد وجد فِيهِ، ثمَّ إِن الْوَصْف: أَعنِي التَّزَوُّج لما كَانَ لامْرَأَة غير مُعينَة اعْتبر لحُصُول التعين الَّذِي لَا بُد مِنْهُ فِي وُقُوع الطَّلَاق، لِأَن إِضَافَته إِلَى مَجْهُول غير صَحِيحَة، وَإِذا اعْتبر صَار بِمَعْنى الشَّرْط فِي ترَتّب الحكم عَلَيْهِ (بِخِلَاف) مَا لَو دخل الْوَصْف على معِين بِأَن أَشَارَ إِلَى أَجْنَبِيَّة أَو ذكرهَا باسمها الْعلم، فَقَالَ (هَذِه) الْمَرْأَة الَّتِي أَتَزَوَّجهَا طَالِق (وَزَيْنَب الخ) أَي الَّتِي أَتَزَوَّجهَا طَالِق فَإِنَّهُ لَا يصلح دلَالَة على الشَّرْط: لِأَن الْوَصْف فِي الْمعِين لَغْو (فَيلْغُو) الْوَصْف الْمَذْكُور فَتبقى هَذِه الْمَرْأَة طَالِق وَزَيْنَب فَيلْغُو لعدم الْمَحَلِّيَّة وَعدم مَا يَجعله فِي معنى التَّعْلِيق بِصِيغَة الشَّرْط، بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ التَّعْلِيق بصيغته فَإِنَّهُ يَصح فِي الْمعينَة وَغَيرهَا، كَأَن تزوجت امْرَأَة وَهَذِه الْمَرْأَة فَهِيَ طَالِق، فَإِن الطَّلَاق يتَعَلَّق بِالشّرطِ فيهمَا (وَيُسمى) هَذَا النَّوْع مِمَّا يُطلق عَلَيْهِ اسْم الشَّرْط (شرطا مَحْضا) لَيْسَ فِيهِ معنى الْعلية (لِامْتِنَاع) تحقق (الْعلَّة بِالتَّعْلِيقِ) أَي بِسَبَب التَّعْلِيق لِأَن مَا يتَحَقَّق بِهِ الْعلية لَا يحصل بِسَبَب تَعْلِيق شَيْء بِهِ وَهُوَ ظَاهر بَعْدَمَا عرفت معنى الْعلَّة. لَا يُقَال قَوْله لِامْتِنَاع الخ إِشَارَة إِلَى مَا تقرر عِنْد الْحَنَفِيَّة، من أَن التَّعْلِيق يمْنَع تحقق الْعلَّة، فَإِن قَوْله أَنْت طَالِق عِلّة للطَّلَاق لَوْلَا التَّعْلِيق، فَإِن هَذَا الْمَنْع لَا دخل لَهُ فِي كَون الْمُعَلق بِهِ شرطا مَحْضا فَتدبر (وَلما شابه) الشَّرْط (الْعلَّة للتوقف) أَي لتوقف الحكم عَلَيْهِ، كَمَا أَن الْعلَّة يتَوَقَّف الحكم عَلَيْهَا (والوضع) أَي ولكونه وضع أَمارَة على الحكم شرعا كالعلة، وَقَوله (أضافوا إِلَيْهِ) أَي الشَّرْط (الحكم أَحْيَانًا) جَوَاب لما، ثمَّ بَين أَن تِلْكَ الأحيان إِنَّمَا هِيَ (فِي) ضَمَان (التَّعَدِّي: وَذَلِكَ عِنْد عدم عِلّة صَالِحَة للإضافة) أَي إِضَافَة الحكم إِلَيْهَا، لِأَن شَبيه الشَّيْء قد يخلفه، وَزَاد بَعضهم عدم سَبَب كَذَلِك على مَا ذكر لِأَنَّهُ إِذا لم تصلح الْعلَّة وَصلح السَّبَب يُضَاف الحكم إِلَيْهِ (وسموه) أَي الشَّرْط الْمُضَاف إِلَيْهِ الحكم مَعْطُوف على الْجَواب (شرطا فِيهِ معنى الْعلَّة) بِاعْتِبَار تِلْكَ الْإِضَافَة (كشق الزق) الَّذِي فِيهِ مَائِع تَعَديا فَسَالَ مِنْهُ وَتلف (وحفر الْبِئْر فِي الطَّرِيق) تَعَديا، فَإِن كلا مِنْهُمَا شَرط أضيف إِلَيْهِ الحكم فَيضمن الشاق والحافر (لِأَن الْعلَّة) أَعنِي (السيلان لَا تصلح لإضافة الحكم) أَي (الضَّمَان) للعدوان إِلَيْهِ (إِذْ لَا تعدِي فِيهِ) أَي السيلان لِأَنَّهُ أَمر طبيعي للمائع ثَابت بِخلق الله تَعَالَى (والشق شَرطه) إِذْ يتَوَقَّف عَلَيْهِ السيلان وَحكمه (و) هُوَ (إِزَالَة الْمَانِع) من السيلان وَهُوَ الزق (تَعَديا) على مَالِكه (فيضاف) الضَّمَان (إِلَيْهِ) أَي الشَّرْط وَعلة السُّقُوط فِي الْبِئْر ثقل السَّاقِط، وَهُوَ أَيْضا طبيعي لَا تعدِي فِيهِ فَلَا يصلح لإضافة الضَّمَان إِلَيْهِ وَإِزَالَة الْمَانِع من السُّقُوط وَهُوَ الأَرْض بِالْحفرِ وَقع تَعَديا فأضيف إِلَيْهِ الحكم، لَا يُقَال الشَّيْء سَبَب وَهُوَ أقرب إِلَى الْعلَّة فيضاف إِلَيْهِ إِذْ لَا تعدِي فِيهِ لِأَنَّهُ مُبَاح مَحْض، وَلَا بُد فِيمَا يُضَاف إِلَيْهِ من صفة

(4/70)


التَّعَدِّي وَلَو تعمد الْمُرُور على الْبِئْر فَوَقع فِيهَا وَهلك يُضَاف التّلف إِلَيْهِ لتحَقّق التَّعَدِّي حِينَئِذٍ (وكشهود وجود الشَّرْط) كدخول الدَّار بعد تَعْلِيق الطَّلَاق بِهِ على رجل لم يدْخل بِزَوْجَتِهِ (فَإِذا رجعُوا) أَي شُهُود الشَّرْط وحدهم (بعد الْقَضَاء) بِالطَّلَاق وَلزِمَ نصف الْمهْر (ضمنُوا) نصف الْمهْر للزَّوْج، بِخِلَاف مَا إِذا دخل بهَا فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ قد استوفى بدل الْمهْر مِنْهَا، فالشهود لم يتلفوا عَلَيْهِ شَيْئا: وَهَذَا التَّخْرِيج فِي تضمين الشُّهُود (لفخر الْإِسْلَام وَالَّذِي فِي الْجَامِع الْكَبِير لَا) يضمنُون (وَعَلِيهِ) شمس الْأَئِمَّة (السَّرخسِيّ وَأَبُو الْيُسْر، وَفِي الطَّرِيقَة البرعزية: هُوَ) أَي ضَمَان شُهُود الشَّرْط (قَول زفر، وَالثَّلَاثَة) أَبُو حنيفَة وصاحباه قَالُوا (لَا تضمين قيل) فِي تَعْلِيل عدم الضَّمَان وقائله صَاحب الْكَشْف (لِأَن الْعلَّة وَإِن لم تكن صَالِحَة لإيجابه) أَي الضَّمَان لخلوها عَن صفة التَّعَدِّي (صَالِحَة لقطعه) أَي الحكم (عَن) الْإِضَافَة إِلَى (الشَّرْط إِذْ كَانَت) الْعلَّة (فعل مُخْتَار) فبينه المُصَنّف بقوله (أَي الْقَضَاء فَإِنَّهُ لَا يصلح) عِلّة لإِيجَاب الضَّمَان (وَإِلَّا) لَو صلح لَهُ (ضمن القَاضِي) مَعَ أَنه فعل بِمَا أوجبه الله تَعَالَى عَلَيْهِ، فَيفْسد بَاب الْقَضَاء (وَبِه) أَي بِهَذَا التَّقْرِير (ينتفى مَا قيل) وقائله الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ (أَنه) أَي هَذَا الْمِثَال (مِثَال مَا لَا عِلّة فِيهِ أصلا، وَمِمَّا فِيهِ) أَي وَمن الشَّرْط الَّذِي فِيهِ معنى الْعلَّة (وَلَا تصلح) الْعلَّة لإضافة الحكم إِلَيْهَا (شَهَادَة شَرط الْيَمين الأول) صفة شَرط الْيَمين (فِي قَوْله) لعَبْدِهِ (إِن كَانَ قَيده عشرَة) من الأرطال (فَهُوَ حر، وَإِن حل فَهُوَ حر فشهدا بِعشْرَة) أَي بِأَنَّهُ عشرَة أَرْطَال (فَقضى بِعِتْقِهِ ثمَّ) حل و (وزن فَبلغ ثَمَانِيَة) فَظهر كذبهما (ضمنا) قيمَة العَبْد لمَوْلَاهُ (عِنْده) أَي أبي حنيفَة (لنفاذه) أَي الْقَضَاء بِالْعِتْقِ (بَاطِنا) أَي فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى كنفاذه ظَاهرا بِالْإِجْمَاع، وَإِنَّمَا نفذ مَا قُلْنَا (لابتنائه) أَي الْقَضَاء (على مُوجب شَرْعِي) للْقَضَاء يَعْنِي الشَّهَادَة فَلَا بُد من صيانته قدر الْإِمْكَان على وَجه لَا يتَضَرَّر الْمولى، وَذَلِكَ بِالْعِتْقِ والتضمين ومسئلة النَّفاذ بَاطِنا عِنْده مَشْهُورَة مفصلة فِي محلهَا، وَيرد عَلَيْهِ أَنه مِمَّا يُمكنهُ الْوُقُوف عَلَيْهِ، وَفِي مثله لَا ينفذ بَاطِنا، فَأَشَارَ إِلَى الْجَواب بقوله (بِخِلَاف مَا إِذا ظَهَرُوا) أَي الشُّهُود (عبيدا أَو كفَّارًا) لنُقْصَان الْمُوجب الشَّرْعِيّ لتقصير القَاضِي فِي تعرف حَالهم (لِإِمْكَان الْوُقُوف عَلَيْهِ) أَي على كل من رقهم وكفرهم فَلم ينفذ قَضَاؤُهُ بَاطِنا (وَفِيمَا نَحن فِيهِ سقط) عَن القَاضِي (معرفَة وَزنه) لتحَقّق صدقهم (لِأَنَّهُ) أَي عرفان وَزنه (بحله) أَي الْقَيْد ليوزن (وَبِه) أَي بحله (يعْتق) فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ فَينفذ بِدُونِ الْحل (وَإِذا نفذ) بَاطِنا (عتق قبل الْحل فَامْتنعَ إِضَافَته) أَي الْعتْق (إِلَيْهِ) أَي إِلَى الْحل لتقدم الْعتْق عَلَيْهِ (وَالْعلَّة وَهِي الْيَمين) على التسامح من الْفُقَهَاء، وَكَذَا فَسرهَا بقوله (أَي الْجَزَاء) وَهُوَ قَوْله فَهُوَ حر (فِيهِ) أَي فِي التَّعْلِيق الْمَذْكُور (غير صَالح

(4/71)


لإضافة الضَّمَان إِلَيْهِ) أَي الْعلَّة، والتذكير بِاعْتِبَار الْجَزَاء (لِأَنَّهُ تصرف الْمَالِك) فِي ملكه (لَا تعد) مِنْهُ فِيهِ (فَتعين) أَن يُضَاف الحكم (إِلَى الشَّرْط وَهُوَ) أَي الشَّرْط (كَونه) أَي الْقَيْد (عشرَة وَقد كذب بِهِ الشُّهُود تَعَديا فيضمنونه، وَعِنْدَهُمَا) أَي أبي يُوسُف وَمُحَمّد (لَا) يضمنُون قِيمَته لمَوْلَاهُ (إِذْ لَا ينفذ) الْقَضَاء عِنْدهمَا (بَاطِنا) لِأَن صِحَّته بِالْحجَّةِ وَقد ظهر بُطْلَانهَا وَالْعَدَالَة الظَّاهِرَة دَلِيل الصدْق ظَاهرا، فَلَا نَفاذ إِلَّا فِي الظَّاهِر (فَهُوَ رَقِيق بَاطِنا بعد الْقَضَاء ثمَّ عتق بِالْحلِّ) لَا بِالشَّهَادَةِ فَلَا يضمنُون (وَمَا فِيهِ) أَي وَمِثَال مَا فِيهِ عِلّة (صَالِحَة) لإضافة الحكم إِلَيْهَا مَعَ الشَّرْط (شهادتا الْيَمين وَالشّرط فيضاف) الحكم (إِلَيْهَا) أَي الْيَمين يَعْنِي إِلَى شَهَادَتهمَا (فَيضمن شُهُود الْيَمين إِذا رَجَعَ الْكل) أَي شُهُود الْيَمين وشهود وجود الشَّرْط، لِأَن شُهُود الْيَمين شُهُود الْعلَّة، وَهُوَ قَوْله فَأَنت طَالِق مثلا على تَقْدِير: إِمَّا بِاعْتِبَار تَعْمِيم الْعلَّة بِحَيْثُ يَشْمَل مَا فِيهِ معنى السَّبَبِيَّة، وَإِمَّا بِاعْتِبَار أَنه يحصل للمعلق بعد شَهَادَة الْفَرِيقَيْنِ وَالْقَضَاء اتِّصَال بالحكم وَأورد عَلَيْهِ أَن شُهُود التَّعْلِيق إِنَّمَا شهدُوا بِالْعِلَّةِ. وَهُوَ قَوْله فَأَنت طَالِق مثلا على تَقْدِير وجود الشَّرْط لَا مُطلقًا فتحقق الْعلية مَوْقُوف على وجود الشَّرْط، فشهوده أولى بِالضَّمَانِ وَأجِيب بِمَنْع كَون شَهَادَتهم بهَا على ذَلِك التَّقْدِير، بل شهدُوا بِسَمَاع التَّعْلِيق مُطلقًا، وَحَاصِله بَيَان أَن المُرَاد بِالْعِلَّةِ الْمَشْهُود بهَا التَّعْلِيق الْمُطلق، لَا الْمُطلق الْقَيْد وَهُوَ عِلّة لَوْلَا الْمَانِع، وَإِنَّمَا قيل هُوَ عِلّة لاشْتِمَاله على الْعلَّة وَهِي قَوْله فَأَنت حر مثلا، وَالْمَانِع إِنَّمَا هُوَ انْتِفَاء الشَّرْط، وَلَا تعلق بِشَهَادَة شُهُود الشَّرْط بتحقق الْعلَّة غير أَنهم يشْهدُونَ بِشَيْء يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الْعلَّة، لِأَن الْمُعَلق بِالشّرطِ عِنْد وجود الشَّرْط كالمنجز، وَفِيه نظر، لِأَن الشَّهَادَة بِسَمَاع مَا هُوَ عِلّة لَوْلَا وجود الْمَانِع لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ شَيْء بِدُونِ مَا يدل على ارْتِفَاع الْمَانِع وَهُوَ شُهُود الشَّرْط فَكل مِنْهُمَا عِلّة نَاقِصَة وَالْمَجْمُوع عِلّة تَامَّة، وَمُقْتَضَاهُ تضمين الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا غير أَنه نوروا إِلَى الْجَواب بقَوْلهمْ: أَلا ترى أَنهم لَو شهدُوا بِالتَّعْلِيقِ لم يتَحَقَّق الشَّرْط من غير شَهَادَتهم، ثمَّ رجعُوا بعد الحكم يضمنُون وَلَو تحقق التَّعْلِيق من غير شَهَادَة بِاتِّفَاق الْخَصْمَيْنِ ثمَّ شهدُوا بِوُجُود الشَّرْط ثمَّ رجعُوا لم يضمنوا، فَعرفنَا أَن تحقق الْعلَّة وتأثيرها غير مُضَاف إِلَى شَهَادَة الشَّرْط بِوَجْه انْتهى وَلَا يخفى أَن فَائِدَة ذكر الضَّمَان فِي الصُّورَة الأولى أَن شُهُود التَّعْلِيق عِنْد الِانْفِرَاد يضمنُون، بِخِلَاف شُهُود الشَّرْط فَإِنَّهُم عِنْد الِانْفِرَاد لَا يضمنُون على مَا صرح بِهِ فِي الصُّورَة الثَّانِيَة المفيدة للمقصود بِدُونِ الصُّورَة الأولى، لِأَنَّهُ لَو ضمن شُهُود الشَّرْط عِنْد الِاجْتِمَاع لضمنوا عِنْد تحقق التَّعْلِيق بِاتِّفَاق الْخَصْمَيْنِ لِأَن خُصُوصِيَّة الِاجْتِمَاع لَا دخل لَهَا فِي التَّضْمِين (و) سموا (مَا لم يضف) أَي الشَّرْط الَّذِي لم يضف الحكم (إِلَيْهِ أصلا كأول المفعولين من شرطين علق عَلَيْهِمَا) طَلَاق أَو غَيره (كَأَن دخلت هَذِه) الدَّار (وَهَذِه) الدَّار فَأَنت طَالِق (شرطا مجَازًا اصْطِلَاحا) لتخلف حكم الشَّرْط

(4/72)


الاصطلاحي عَنهُ، وَهُوَ وجود الحكم عِنْد وجوده، لِأَن الحكم يَتَرَتَّب على الْمَجْمُوع فهما شَرط وَاحِد فِي الْحَقِيقَة، وعلاقة الْمجَاز توقف الحكم عَلَيْهِ كالحقيقي (وَهُوَ) أَي هَذَا الْمُسَمّى (جدير بحقيقته) أَي الشَّرْط لتوقف وجود الحكم عَلَيْهِ من غير تَأْثِير وَلَا إفضاء، وَقد علم مِمَّا سبق أَن هَذَا معنى الشَّرْط وَلَا يلْزمه الْوُجُود عِنْد الْوُجُود (وَيُقَال) لهَذَا أَيْضا (شَرط اسْما لَا حكما) أما اسْما فَلَمَّا ذكر من علاقَة الْمجَاز: وَأما عدم الحكم فَلَمَّا عرفت من التَّخَلُّف، وَقد عرفت مَا فِيهِ. وَمن هَذَا الْقسم الطَّهَارَة وَستر الْعَوْرَة وَالنِّيَّة (و) سموا (مَا) أَي الشَّرْط الَّذِي (اعْترض بعده) أَي توَسط بَينه وَبَين التلاف (فعل) فَاعل (مُخْتَار) فِي فعله سَوَاء كَانَ إنْسَانا أَو غَيره مِمَّا يَتَحَرَّك بالإرادة (لم يتَّصل) هَذَا الْفِعْل (بِهِ) أَي بذلك الشَّرْط بِأَن يتَحَقَّق بعد تحَققه بِغَيْر فَاعله حَال كَون هَذَا الْفِعْل (غير مَنْسُوب إِلَى الشَّرْط) وَسَيَجِيءُ مِثَال الْمَنْسُوب إِلَيْهِ (كحل قيد العَبْد) فَإِنَّهُ شَرط لتوقف التلاف عَلَيْهِ وَاعْترض بعده اباق العَبْد وَهُوَ فعل اخْتِيَاري (شرطا فِيهِ معنى السَّبَب) مفعول ثَان للتسمية: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مفض إِلَى الحكم بِلَا تَأْثِير (فَلَا ضَمَان) على من صدر مِنْهُ الشَّرْط الْمَذْكُور (بِهِ) أَي بِسَبَب صدوره مِنْهُ لاعتراض مَا يصلح لإضافة الحكم إِلَيْهِ بعده، وَهُوَ اباق الْآبِق (فَلَا يضمن) الْحَال (قِيمَته) أَي العَبْد (أَن أبق) لِأَن الْحل إِزَالَة الْمَانِع وَالْعلَّة الآباق، بِخِلَاف مَا إِذا اعْترض على الشَّرْط فعل غير مُخْتَار، بل طبيعي كَمَا إِذا شقّ زق الْغَيْر فَسَالَ الْمَائِع مِنْهُ فَتلف، وَمَا إِذا أَمر عبد الْغَيْر بالاباق فأبق فَإِنَّهُ وَإِن اعْترض عَلَيْهِ فعل مُخْتَار، فَأمر الِاسْتِعْمَال للْعَبد مُتَّصِل بالاباق فَيصير الْآمِر غَاصبا للْعَبد، فعمله على وفْق اسْتِعْمَاله كالآلة للْآمِر فَكَأَنَّهُ غير اخْتِيَاري (وَكَذَا فِي فتح القفص و) فتح بَاب (الاصطبل لَا يضمنهما) أَي الفاتح قيمَة الطير وَالدَّابَّة وَإِن ذَهَبا مِنْهُمَا فَوْرًا، لِأَن الْفَتْح شَرط اعْترض بعده فعل اخْتِيَاري من الطير وَالدَّابَّة (خلافًا لمُحَمد) فَإِنَّهُ قَالَ يضمنهما إِذا ذَهَبا على الْفَوْر، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي (جعله) أَي مُحَمَّد الْفَتْح (كَشَرط فِيهِ معنى الْعلَّة إِذْ طبعهما) أَي الطير وَالدَّابَّة (الِانْتِقَال) أَي الْخُرُوج عَنْهُمَا بِحَيْثُ لَا يصبران عَنهُ عَادَة (عِنْد عدم الْمَانِع) مِنْهُ، وَالْعَادَة إِذا تأكدت صَارَت طبيعية لَا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنْهَا (فَهُوَ) أَي انتقالهما (كسيلان) الْمَائِع من (الزق عِنْد الشق، وَلِأَن فعلهمَا) أَي الطير وَالدَّابَّة (هدر) سَاقِط الِاعْتِبَار شرعا لفساد اختيارهما كَمَا إِذا صَاح فَذَهَبت صَار ضَامِنا فَلَا يصلح لإضافة التّلف إِلَيْهِ (فيضاف التّلف إِلَى الشَّرْط) وَهُوَ الْفَتْح (وهما) أَي أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف (منعا الْإِلْحَاق) أَي إِلْحَاق فعل الطير وَالدَّابَّة بالسيلان الْمَذْكُور (بعد تحقق الِاخْتِيَار) لَهما فَإِن الْحَيَوَان يَتَحَرَّك بالإرادة (وَكَونه) أَي فعلهمَا (هدرا) لَا يصلح لإِيجَاب حكم بِهِ لِأَن الْوُجُوب مَحَله الذِّمَّة وَلَا ذمَّة لَهما (لَا يمْنَع قطع

(4/73)


الحكم عَن الشَّرْط كالمرسل) من ذَوَات الأنياب (إِلَى صيد فَمَال) مَعْطُوف على فعل مَفْهُوم من صلَة اللَّام: أَي الَّذِي أرسل فَمَال (عَنهُ) أَي الصَّيْد (ثمَّ رَجَعَ) الْمُرْسل (إِلَيْهِ) أَي الصَّيْد بعد مَا مَال عَنهُ (فَأَخذه ميله هدر) فِي إِضَافَة الحكم إِلَيْهِ لكَونه بَهِيمَة (و) مَعَ هَذَا (قطع) ميله (النِّسْبَة) أَي نِسْبَة إرسالهِ (إِلَى الْمُرْسل) وَلِهَذَا لَا يحل أكل مَا صَاده فَقتله (أما لَو نسب) خروجهما (إِلَيْهِ) أَي الفاتح (كفتحه على وَجه نفره) أَي كلا من الطير وَالدَّابَّة (فَفِي معنى الْعلَّة) أَي ففتحه لَيْسَ فِي معنى السَّبَب، بل فِي معنى الْعلَّة (فَيضمن) الفاتح. وَالْمُخْتَار للْفَتْوَى قَول مُحَمَّد صِيَانة لأموال النَّاس وَهُوَ اسْتِحْسَان، وَالْقِيَاس قَوْلهمَا: وَأما إِذا لم يخرجَا فِي فَور الْفَتْح بل بعده فَكَانَ ذَلِك دَلِيلا على ترك الْعَادة الْمُؤَكّدَة وَكَانَ ذَلِك بِحكم الِاخْتِيَار كحل الْقَيْد (وَأما الْعَلامَة) الَّتِي سبق أَنَّهَا لمُجَرّد الدّلَالَة على الحكم (فكالأوقات للصَّلَاة وَالصَّوْم) فَإِنَّهَا دَالَّة على تحقق وجوبهما من غير إفضاء وَلَا تَأْثِير (وعد الْإِحْصَان) لإِيجَاب الرَّجْم (مِنْهَا) أَي الْعَلامَة، وَهُوَ كَون الْإِنْسَان حرا عَاقِلا بَالغا مُسلما قد تزوج امْرَأَة نِكَاحا صَحِيحا وَدخل بهَا، وهما على صفة الْإِحْصَان حَتَّى لَو تزوج الْحر الْمُسلم الْبَالِغ الْعَاقِل أمة، أَو وصبية، أَو مَجْنُونَة، أَو كِتَابِيَّة وَدخل بهَا لَا يصير بِهَذَا الدُّخُول مُحصنا، وَكَذَا لَو تزوجت الموصوفة بِمَا ذكر من عبد أَو مَجْنُون أَو صبي وَدخل بهَا لَا تصير مُحصنَة (لثُبُوته) أَي الْإِحْصَان (بِشَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال) أَي بِشَهَادَة رجل وَامْرَأَتَيْنِ، وجمعهما إِمَّا بِاعْتِبَار المُرَاد، وَإِمَّا بِاعْتِبَار إِرَادَة الْجِنْس خلافًا للأئمة الثَّلَاثَة وَزفر، وَلَو كَانَ عِلّة، أَو سَببا أَو شرطا لم يثبت بشهادتهن مَعَ الرِّجَال لوُجُود الشُّبْهَة فِي هَذِه الشَّهَادَة، وَالْحُدُود تندرئ بِالشُّبُهَاتِ، ثمَّ قَوْله عد الْإِحْصَان مُبْتَدأ خَبره (مُشكل، بل هُوَ) أَي الْإِحْصَان (شَرط لوُجُوب الْحَد كَمَا ذكره الْأَكْثَر) مِنْهُم متقدمو مَشَايِخنَا وَعَامة الْمُتَأَخِّرين (لتوقفه) أَي وجوب الْحَد (عَلَيْهِ) أَي الْإِحْصَان (بِلَا عقلية تَأْثِير) لَهُ فِي الحكم (وَلَا إفضاء) إِلَيْهِ وَهَذَا شَأْن الشَّرْط (لَا) أَنه عَلامَة (لتوقف مُجَرّد الْعلم بِهِ) أَي لوُجُوب الْحَد عَلَيْهِ كَمَا هُوَ شَأْن الْعَلامَة. وَلما اتجه على هَذَا تضمين شُهُوده إِذا رجعُوا بعد الرَّجْم. أجَاب بقوله (وَعدم الضَّمَان بِرُجُوع شُهُود الشَّرْط هُوَ الْمُخْتَار) وَقد سبق وَجهه (وَإِنَّمَا تكلفه) أَي تكلّف فِي جعل الْإِحْصَان (عَلامَة المضمن) بِشُهُود الشَّرْط ليندفع عَنهُ إِلْزَام تضمين شُهُود الْإِحْصَان على تَقْدِير كَونه شرطا (وَهُوَ) أَي تكلفه عَلامَة (غلط لِأَنَّهُ لَو) كَانَ الْإِحْصَان (شرطا لم تضمن) شُهُوده (بِهِ) أَي الرُّجُوع، وإيراد كلمة لَو مكالمة بِلِسَان التَّكَلُّف، وَإِلَّا فالتحقيق عِنْده أَنه شَرط كَمَا ذكره (إِذْ شَرطه) أَي شَرط ضَمَان شُهُود الشَّرْط (عدم) الْعلَّة (الصَّالِحَة) لإضافة الحكم إِلَيْهَا (وَالزِّنَا عِلّة صَالِحَة لإضافة الْحَد) إِلَيْهِ فَلَا يُضَاف إِلَى الْإِحْصَان لَو كَانَ شرطا. وَلما اتجه على كَون الْإِحْصَان شرطا، إِذْ الشَّرْط مَا يمْنَع ثُبُوت الْعلَّة

(4/74)


حَقِيقَة بعد وجودهَا صُورَة إِلَى حِين وجوده كَمَا فِي تَعْلِيق الْعتاق بِالدُّخُولِ وَالزِّنَا إِذا تحقق لَا يتَوَقَّف انْعِقَاده عِلّة للرجم على إِحْصَان يحدث بعده. أجَاب بقوله (وتقدمه) أَي الْإِحْصَان (على الْعلَّة) وَهِي (الزِّنَا غير قَادِح) فِي كَونه شرطا (إِذْ تَأَخره) أَي الشَّرْط (عَنْهَا) أَي الْعلَّة (غير لَازم) إِذْ يتَقَدَّم (كَشَرط الصَّلَاة) من إِزَالَة الْحَدث والخبث، وَستر الْعَوْرَة وَغَيرهَا فَإِنَّهُ وَإِن كَانَ مُتَأَخِّرًا من حَيْثُ الْوُجُوب عَن علتها: أَي الْخطاب بهَا أَو تضيق الْوَقْت لِأَنَّهُ قد يتَقَدَّم من حَيْثُ الْوُجُود وكالعقل فَإِنَّهُ شَرط لصِحَّة التَّصَرُّف مقدم عَلَيْهِ (إِلَّا فِي) الشَّرْط (التعليقي) اسْتثِْنَاء من عدم لُزُوم تَأَخّر الشَّرْط فَإِن تَأَخره عَن صُورَة الْعلَّة لَازم (بل قيل) وقائله الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ (وَلَا فِيهِ) أَي وَلَا يلْزم تَأَخّر التَّعْلِيق أَيْضا (فقد يتَقَدَّم) التعليقي (وَيكون الْمُتَأَخر الْعلم بِهِ) أَي التَّعْلِيق (كالتعليقي) أَي كالشرط التعليقي فِي التَّعْلِيق (بِكَوْن قَيده عشرَة) بِأَن قَالَ: إِن كَانَ زنة قيد عَبدِي عشرَة أَرْطَال فَهُوَ حر، فَإِن كَونه عشرَة مُتَقَدم بِحَسب الْوُجُود على عِلّة الْحُرِّيَّة، وَهُوَ الْجَزَاء، وَهُوَ قَوْله: فَهُوَ حر، وَإِن كَانَ الْعلم بالكون الْمَذْكُور مُتَأَخِّرًا عَن هَذِه الْعلَّة. ثمَّ أَفَادَ أَن الْمُعَلق عَلَيْهِ فِي نفس الْأَمر لَيْسَ نفس الْكَوْن الْمَذْكُور، بل ظُهُوره بقوله: (وَالظَّاهِر أَن التَّعْلِيق فِي مثله) يكون (على الظُّهُور وَإِن لم يذكر) أَي وَإِن لم يقل إِن ظهر أَن وَزنه كَذَا (لِأَن حَقِيقَته) أَي حَقِيقَة التَّعْلِيق تَعْلِيق أَمر (على مَعْدُوم) كَائِن (على خطر الْوُجُود فعلى كَائِن) أَي إِذا اعْتبر فِي حَقِيقَة التَّعْلِيق كَون الْمُعَلق عَلَيْهِ مَعْدُوما على خطر الْوُجُود، فَإِن التَّعْلِيق الصُّورِي على أَمر مَوْجُود (تَنْجِيز) معنى، وَالْعبْرَة للمعنى، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا فرق بَين إنْشَاء الطَّلَاق مثلا بِلَا تَعْلِيق، وَبَين تَعْلِيقه بِأَمْر مَوْجُود حَال التَّعْلِيق فِي تحقق الْإِيقَاع، وَإِنَّمَا قَالَ الظَّاهِر وَلم يجْزم لاحْتِمَال أَن لَا يكون تَعْلِيقا على الظُّهُور (فكونه) أَي الْإِحْصَان (عَلامَة) لوُجُوب الرَّجْم (مجَاز) لتوقف وجوب الرَّجْم على وجوده شرعا من غير تَأْثِير وَلَا إفضاء كَمَا هُوَ شَأْن الشَّرْط وَاعْتِبَار عدم التَّوَقُّف فِي الْعَلامَة كَمَا سبق، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَلَا تتقدم الْعَلامَة على مَا هِيَ) عَلامَة (لَهُ كالدخان) عَلامَة للنار وَلَا يتَقَدَّم عَلَيْهَا وجودا (وَمِنْه) أَي وَمن هَذَا الْقسم الْمُسَمّى بالعلامة (ولادَة المبتوتة) أَي الْمُطلقَة طَلَاقا بَائِنا (والمتوفى عَنْهَا) زَوجهَا فَإِنَّهَا (عَلامَة الْعلُوق السَّابِق) على الطَّلَاق وَالْمَوْت إِذا كَانَت فِي مُدَّة تحتمله (وَلَو) كَانَت تِلْكَ الْولادَة (بِلَا) تقدم (حَبل ظَاهر وَلَا اعْتِرَاف) من الزَّوْج بالحبل (عِنْدهمَا) أَي أبي يُوسُف وَمُحَمّد (فَقبلا شَهَادَة الْقَابِلَة عَلَيْهَا) أَي الْولادَة كَمَا روى عَن الزُّهْرِيّ من أَنه مَضَت السّنة أَن كَون شَهَادَة النِّسَاء فِيمَا لَا يطلع عَلَيْهِ غَيْرهنَّ من ولادات النِّسَاء وعيوبهن، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَهِي) أَي شَهَادَة الْمَرْأَة (مَقْبُولَة فِيمَا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال) وبشهادتها يثبت أصل الْولادَة (ثمَّ ثُبُوت نسبه) أَي

(4/75)


الْمَوْلُود من الزَّوْج إِنَّمَا هُوَ (بالفراش السَّابِق) الْقوي الَّذِي يثبت بِهِ النّسَب، وَإِن أنكر الزَّوْج كَونه مِنْهُ إِلَّا مَعَ الْمُلَاعنَة (وَعِنْده) أَي أبي حنيفَة (لَيست) الْولادَة الْمَذْكُورَة (عَلامَة إِلَّا مَعَ أَحدهمَا) أَي الْحَبل الظَّاهِر قبل الطَّلَاق أَو الْمَوْت واعتراف الزَّوْج (فَلَا تقبل) شَهَادَة الْقَابِلَة (دونه) أَي دون أَحدهمَا (لِأَن الْولادَة وَالْحَالة هَذِه) أَي وَالْحَال أَن كَيْفيَّة الْوَاقِعَة عدم ظُهُور الْحَبل وَعدم اعْتِرَاف الزَّوْج بِهِ سَابِقًا (كالعلة لثُبُوت النّسَب) حرا، وَالْجُمْلَة الخالية عَن الْمُضمر المستقر فِيهِ توسطت بَين اسْمهَا وخبرها، وَإِنَّمَا قيد كَونه كالعلة بهَا لِأَن الْولادَة عِنْد ظُهُور الْحَبل أَو الِاعْتِرَاف سَابِقًا أَو الْفراش الْقَائِم لَيست كالعلة فَإِن كلا من ذَلِك دَلِيل ظَاهر يسْتَند إِلَيْهِ ثُبُوت النّسَب وَتَكون الْولادَة حِينَئِذٍ عَلامَة فَقَط (فَيلْزم النّصاب) أَي إِذا كَانَت الْولادَة كالعلة حِينَئِذٍ فَيشْتَرط نِصَاب الشَّهَادَة رجلَانِ أَو رجل وَامْرَأَتَانِ لإثباتها (وَمثله) أَي مثل هَذَا الْخلاف وَاقع (إِذا علق طَلاقهَا عَلَيْهَا) أَي على الْولادَة وَأُرِيد إِثْبَات الطَّلَاق لوُجُود الْمُعَلق عَلَيْهِ (قبلت) شَهَادَة الْقَابِلَة على الْولادَة (عِنْدهمَا) أَي الصاحبين اعْتِبَار الْجَانِب كَونهَا عَلامَة (وَعِنْده يلْزم النّصاب) فَلَا تقبل (لِأَنَّهَا) أَي شهادتها حِينَئِذٍ (على الطَّلَاق معنى) وَإِن كَانَت على الْولادَة، وَصُورَة (كَمَا) إِذا شهِدت امْرَأَة (على ثيابة أمة بِيعَتْ بكرا لَا تقبل اتِّفَاقًا للرَّدّ) يَعْنِي إِذا اشْترى أمة على أَنَّهَا بكر، ثمَّ ادّعى أَنَّهَا ثيب وَأنكر البَائِع فَشَهِدت إِلَى آخِره، فَإِنَّهَا لَا تقبل اتِّفَاقًا لاسْتِحْقَاق المُشْتَرِي ردهَا على البَائِع لفَوَات الشَّرْط الْمَعْقُود عَلَيْهِ: أَي الْبكارَة (وَإِن قبلت) شهادتها (فِي الثيابة والبكارة) حَتَّى تثبت الثيابة فِي هَذِه فِي حق توجه الْخُصُومَة فَلَا تنْدَفع عَن البَائِع قبل الْقَبْض إِلَّا بحلفه بِاللَّه مَا بهَا هَذَا الْعَيْب، وَبعده بِاللَّه لقد سلمهَا بِحكم هَذَا البيع وَمَا بهَا هَذَا الْعَيْب.