تيسير التحرير الْمقَالة الثَّالِثَة فِي الِاجْتِهَاد
وَمَا يتبعهُ من التَّقْلِيد والإفتاء
(هُوَ) أَي الِاجْتِهَاد (لُغَة بذل الطَّاقَة) أَي استفراغ
الْقُوَّة بِحَيْثُ يحس بِالْعَجزِ عِنْد الْمَزِيد (فِي
تَحْصِيل ذِي كلفة) أَي مشقة، يُقَال: اجْتهد فِي حمل
الصَّخْرَة
(4/178)
وَلَا يُقَال اجْتهد فِي حمل النواة
(وَاصْطِلَاحا: ذَلِك) أَي بذل الطَّاقَة (من الْفَقِيه) وَقد
مر تَفْسِيره فِي أول الْكتاب (فِي تَحْصِيل حكم شَرْعِي
ظَنِّي) فبذلها من غَيره كالعامي خَارج عَن الِاجْتِهَاد وَخرج
أَيْضا بذل طَاقَة الْفَقِيه فِي غير حكم كالعبادة مثلا، وبذله
طاقته فِي حكم غير شَرْعِي من حسي أَو عَقْلِي، وَإِنَّمَا
قَالَ ظَنِّي لِأَن الْقطعِي لَا اجْتِهَاد فِيهِ، وَسَيَأْتِي
الْكَلَام عَلَيْهِ. وَفِي قَوْله حكم إِشْعَار بِأَن استغراق
الْأَحْكَام لَيْسَ بِشَرْط فِي تحقق حَقِيقَة الِاجْتِهَاد
كَمَا لَا يلْزم إحاطة الْمُجْتَهد جَمِيع الْأَحْكَام
ومداركها بِالْفِعْلِ، لِأَن ذَلِك خَارج عَن طوق الْبشر
(وَنفي الْحَاجة إِلَى قيد الْفَقِيه) كَمَا ذكره
التَّفْتَازَانِيّ (للتلازم بَينه) أَي بَين الْفَقِيه (وَبَين
الِاجْتِهَاد) فَإِنَّهُ لَا يصير فَقِيها إِلَّا بِهِ وَلذَا
لم يذكرهُ الْغَزالِيّ والآمدي (سَهْو لِأَن الْمَذْكُور) فِي
التَّعْرِيف إِنَّمَا هُوَ (بذل الطَّاقَة لَا الِاجْتِهَاد)
وَكَيف يذكر الِاجْتِهَاد فِي تَعْرِيف نَفسه، وَكَأن
المُصَنّف أغمض عَن هَذَا (وَيتَصَوَّر) بذل الطَّاقَة (من
غَيره) أَي الْفَقِيه (فِي طلب حكم) شَرْعِي، وَلَا يبعد أَن
يُقَال بذل الوسع لَا يتَحَقَّق إِلَّا بتحصيل جَمِيع مَا
يتَوَقَّف عَلَيْهِ استنباط ذَلِك الحكم، وَعند ذَلِك يصير
مُجْتَهدا فِيهِ فَتَأمل (وشيوع) إِطْلَاق (الْفَقِيه لغيره)
أَي الْمُجْتَهد (مِمَّن يحفظ الْفُرُوع) إِنَّمَا هُوَ (فِي
غير اصْطِلَاح الْأُصُول، ثمَّ هُوَ) أَي هَذَا التَّعْرِيف
لَيْسَ تعريفا للِاجْتِهَاد مُطلقًا، بل هُوَ (تَعْرِيف لنَوْع
من الِاجْتِهَاد) وَهُوَ الِاجْتِهَاد فِي الحكم الشَّرْعِيّ
العملي الظني (لِأَن مَا) يَقع من بذل الوسع (فِي العقليات) من
الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الاعتقادية (اجْتِهَاد) عِنْد
الْأُصُولِيِّينَ (غير أَن الْمُصِيب) فِيهَا من الْمُخَالفين
(وَاحِد) بِاتِّفَاق المصوبة والمخطئة (والمخطئ آثم،
وَالْأَحْسَن) فِيهَا تعميمه (أَي التَّعْرِيف بِحَيْثُ يعم
العمليات والاعتقاديات ظنية كَانَت أَو قَطْعِيَّة (بِحَذْف)
قيد (ظَنِّي) من التَّعْرِيف. (ثمَّ يَنْقَسِم) الِاجْتِهَاد
(من حَيْثُ الحكم) الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ (إِلَى) اجْتِهَاد
(وَاجِب (عينا على) الْمُجْتَهد (الْمَسْئُول) عَن حكم حَادث
(إِذا خَافَ) أَي الْمُجْتَهد (فَوت الْحَادِثَة) أَي فَوت
آداء مَا وَجب على المستفتى فِي تِلْكَ الْحَادِثَة على غير
الْوَجْه الشَّرْعِيّ، حَال عَن الْحَادِثَة: أَي وُقُوعهَا
على خلاف الشَّرْع فَإِنَّهُ يتَعَيَّن حِينَئِذٍ على
الْمَسْئُول الِاجْتِهَاد فِيهَا فَوْرًا لِأَن حِوَالَة
المستفتى إِلَى مُجْتَهد آخر يُوجب فَوتهَا (وَفِي حق نَفسه
إِذا نزلت الْحَادِثَة بِهِ) مَعْطُوف على قَوْله على
الْمَسْئُول: أَي وَإِلَى وَاجِب وجوبا عينيا لحق نَفسه، فكلمة
فِي تعليلية، وَحِينَئِذٍ إِن خَافَ فَوت الْحَادِثَة يجب
الِاجْتِهَاد عَلَيْهِ فَوْرًا وَإِلَّا على التَّرَاخِي
(وكفاية) مَعْطُوف على عينا: أَي وَإِلَى اجْتِهَاد وَاجِب
كِفَايَة على الْمَسْئُول فِي حق غَيره (لَو لم يخف) فَوت
الْحَادِثَة على غير الْوَجْه (وَثمّ غَيره) من الْمُجْتَهدين
فَيتَوَجَّه الْوُجُوب على جَمِيعهم حَتَّى لَو أَمْسكُوا مَعَ
اقتدارهم على الْجَواب أثموا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله
(فيأثمون بِتَرْكِهِ) أَي الِاجْتِهَاد حَيْثُ لَا عذر لَهُم
(وَيسْقط) الْوُجُوب عَن الْكل
(4/179)
(بفتوى أحدهم، وعَلى هَذَا) أَي على سُقُوط
الْوُجُوب بفتوى أحدهم لَو أَن مُجْتَهدا ظن خطأ الْمُفْتِي
فِيمَا أصَاب بِهِ (لَا يجب على من ظَنّه) أَي الْجَواب (خطأ)
الِاجْتِهَاد فِيهِ لسُقُوط الْوُجُوب بذلك الِاجْتِهَاد
المظنون كَونه خطأ إِذا كَانَ فِي قَضيته شُهُود يحصل الْغَرَض
ببعضهم، ذكرُوا أَنه يجب الْإِجَابَة إِذا طلب الْأَدَاء من
الْبَعْض فَيحْتَاج إِلَى إتْيَان الْفرق، وَقيل الْعلَّة أَن
الْفَتْوَى تحْتَاج إِلَى تَأمل وفكر والمشوشات كَثِيرَة
بِخِلَاف الشَّهَادَة، وَفِيه مَا فِيهِ (وَكَذَلِكَ حكم تردد
بَين قاضيين) أَي إِذا رفعت قَضِيَّة إِلَيْهِمَا وَجب الحكم
وَفصل الْخُصُومَة عَلَيْهِمَا كِفَايَة، إِن تركا أثما وَإِن
حكم أحدهم سقط عَنْهُمَا فالمشبه الحكم المتردد بَين القاضيين،
والمشبه بِهِ الْمشَار إِلَيْهِ بقوله كَذَا الاستفتاء المتردد
بَين الْمُجْتَهدين، وَمن قيد كَون القاضيين فِي هَذَا الْمحل
مجتهدين مشتركين فِي النّظر فِي الحكم الْمَذْكُور وَجعل وَجه
الشّبَه وجوب الِاجْتِهَاد عَلَيْهِمَا كِفَايَة، فقد ارْتكب
تَكْرَارا مَعَ أَنه لَا يبْقى حِينَئِذٍ للْقَضَاء وَالْحكم
مدْخل (أَيهمَا حكم بِشَرْطِهِ) الْمُعْتَبر شرعا (سقط)
الْوُجُوب عَنْهُمَا (ومندوب) مَعْطُوف على وَاجِب وَهُوَ مَا
يَقع (قبلهمَا) أَي قبل وُجُوبه عينا ووجوبه كِفَايَة لما ذكر
أَو قبل السُّؤَال ونزول الْحَادِثَة بِهِ ليَكُون حَاضرا
عِنْده فينفعه عِنْد الْحَادِثَة، ومناسب الْوَجْه الثَّانِي
قَوْله (وَمَعَ سُؤال فَقَط) من غير نزُول الْحَادِثَة (و)
إِلَى (حرَام) وَهُوَ الِاجْتِهَاد (فِي مُقَابلَة) دَلِيل
(قَاطع) من (نَص) كتاب أَو سنة (أَو إِجْمَاع وَشرط مطلقه) أَي
الِاجْتِهَاد فِي حق الْمُجْتَهد (بعد صِحَة إيمَانه) بِمَا
يجب أَن يُؤمن بِهِ إِجْمَالا أَو تَفْصِيلًا (معرفَة محَال
جزئيات مفاهيم الألقاب الاصطلاحية الْمُتَقَدّمَة للمتن من شخص
الْكتاب وَالسّنة) قد سبق أَن للْكتاب مفهوما كليا هُوَ
اللَّفْظ الْعَرَبِيّ الْمنزل للتدبر والتذكر الْمُتَوَاتر
وللسنة كَذَلِك من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفعله
وَتَقْرِيره، وشخص كل وَاحِد مِنْهُمَا مَا صدق عَلَيْهِ،
وَكلمَة من بَيَانِيَّة للمتن الْمُطلق، وَكَأَنَّهُ مَأْخُوذ
من الْمُتُون المصنفة فِي الْعُلُوم المبينة بالشروح والحواشي
الْمَأْخُوذَة من الْمَتْن بِمَعْنى الظّهْر، فَإِن ظهر
الشَّيْء أَصله، إِذْ الألقاب الاصطلاحية بدل الْأَلْفَاظ
المصطلحة للأصوليين، وَإِنَّمَا سميت ألقابا لدلالتها على
مسمياتها على وَجه يشْعر بمعان مَقْصُودَة للأصولي من تِلْكَ
المسميات تشبها لَهَا بِالْأَلْقَابِ الَّتِي هِيَ نوع من
الْأَعْلَام دَالَّة على مدح أَو ذمّ وَلَا شكّ أَن لتِلْك
الألقاب مفهومات كُلية، ولتلك المفهومات أَفْرَاد هِيَ
جزئياتها، ولتلك الجزئيات محَال هِيَ الْآيَات والتراكيب
الْمعينَة الْمُشْتَملَة عَلَيْهَا، فمعرفة الْمحَال
الْمَذْكُورَة من شخص الْكتاب وَالسّنة شَرط فِي مُطلق
الِاجْتِهَاد، وَيحْتَمل أَن تكون من تبعيضية، فَإِن الْمحَال
الْمَذْكُورَة بعض من شخص الْكتاب وَالسّنة، وَيُؤَيّد الأول
قَوْله فِيمَا بعد من التَّوَاتُر (فِي الظُّهُور كَالظَّاهِرِ
وَالْعَام والخفاء كالخفي، والمجمل: وَهِي أَقسَام اللُّغَة
متْنا واستعمالا) فَإِن قلت: قَوْله فِي الظُّهُور
(4/180)
بِمَ يتَعَلَّق؟ وَكَيف جمع بَين الظَّاهِر
وَالْعَام؟ وَكَيف اكْتفى بِمَا ذكر؟ وَقد ذكر فِي المبادئ
اللُّغَوِيَّة للمفرد انقسامات بِاعْتِبَار ذَاته ودلالته
ومقايسته لمفرد آخر، ومدلوله واستعماله، وإطلاقه وتقييده،
وَجعل الظَّاهِر وَالنَّص والمفسر والمؤول والمحكم من تقسيمه
من اعْتِبَار ظُهُور الدّلَالَة. والخفي الْمُشكل، والمجمل
والمتشابه من تقسيمه بِاعْتِبَار الْمَوْضُوع لَهُ قلت: أما
قَوْله فِي الظُّهُور فمتعلق بقوله الاصطلاحية، فَكَأَنَّهُ
قَالَ: الألقاب المصطلحة فِي جَانب الظُّهُور وَفِي جَانب
الخفاء أَو بقوله الْمُتَقَدّمَة، والمآل وَاحِد، وَلم يرد
بالظهور مَا هُوَ مصطلح الْأُصُول حَتَّى يسْتَشْكل بِجمع
الْعَام مَعَ الظَّاهِر، بل الْمَعْنى اللّغَوِيّ. وَلَا شكّ
أَن كل وَاحِد من الْأَقْسَام الْمَذْكُورَة فِي كل وَاحِد من
التقسيمات الْمَذْكُورَة لَا يَخْلُو من أَن يكون ظَاهرا
بِحَسب الْفَهم أَو خفِيا، بل ذكر الْعَام مَعَ الظَّاهِر
إِشْعَار بِأَنَّهُ لم يرد بالظهور مَا هُوَ المصطلح، وَأما
الِاكْتِفَاء فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بصدد تَفْصِيل الْأَقْسَام،
وَإِنَّمَا ذكر مَا ذكره على سَبِيل التَّمْثِيل، وَقَوله
متْنا واستعمالا تمييزان عَن نِسْبَة الْأَقْسَام إِلَى
اللُّغَة، فَإِن اللُّغَة، وَهُوَ اللَّفْظ الْمَوْضُوع تَارَة
يَنْقَسِم بِاعْتِبَار وَضعه، فالخارج من هَذَا التَّقْسِيم
أقسامها متْنا، وَتارَة بِاعْتِبَار اسْتِعْمَالهَا، فالخارج
من أقسامها اسْتِعْمَالا، وكونهما مُتَعَلقين بالظهور والخفاء
خلاف الظَّاهِر، وَالْمرَاد بمعرفتها أَن يتَمَكَّن من
الرُّجُوع إِلَيْهَا عِنْد طلب الحكم كَمَا جزم بِهِ غير
وَاحِد: مِنْهُم الإِمَام الرَّازِيّ، ثمَّ قيل هُوَ من
الْكتاب خَمْسمِائَة آيَة مَشى عَلَيْهَا الْغَزالِيّ وَابْن
الْعَرَبِيّ، وَمن السّنة خَمْسمِائَة حَدِيث، وَقيل: ثَلَاثَة
آلَاف. وَعَن أَحْمد ثلثمِائة ألف على الِاحْتِيَاط والتغليظ
فِي الْفتيا. وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو بكر الرَّازِيّ: لَا
يشْتَرط استحضار جَمِيع مَا ورد فِي ذَلِك الْبَاب، إِذْ لَا
يُمكن الْإِحَاطَة، وَقد اجْتهد عمر وَغَيره من الصَّحَابَة
فِي مسَائِل كَثِيرَة وَلم يستحضروا فِيهَا الْمَنْصُوص حَتَّى
رويت لَهُم فَرَجَعُوا إِلَيْهَا، وَأما فِي الْقُرْآن، فَقيل
يتَوَقَّف على معرفَة الْجَمِيع، لِأَن الْمُجْتَهدين يتفاوتون
فِي استنباط الْأَحْكَام من الْآيَات باخْتلَاف القرائح
والأذهان وَمَا يَفْتَحهُ الله تَعَالَى على عباده. وَقيل
غَالب الْقُرْآن لَا يَخْلُو من أَن يستنبط مِنْهُ حكم شَرْعِي
(لاحفظها) مَعْطُوف على معرفَة الْمحَال: أَي الشَّرْط
مَعْرفَتهَا على الْوَجْه الْمَذْكُور لأحفظها عَن ظهر
الْغَيْب، وَقيل يجب حفظ مَا اخْتصَّ بِالْأَحْكَامِ من
الْقُرْآن. وَنقل عَن كثير من أهل الْعلم لُزُوم حفظ
الْقُرْآن، لِأَن الْحَافِظ أضبط لمعانيه من النَّاظر فِيهِ،
وَنقل فِي الْمُسْتَوْعب عَن الشَّافِعِي (وللسند من
الْمُتَوَاتر والضعيف وَالْعدْل والمستور وَالْجرْح
وَالتَّعْدِيل) قَوْله وللسند مَعْطُوف على قَوْله للمتن،
يَعْنِي وَشرط معرفَة محَال جزئيات مفاهيم الألقاب الاصطلاحية
الْمُتَقَدّمَة فِي مبَاحث السّنيَّة للسند: أَي لَا بُد لَهُ
من معرفَة المصطلحات الْمُتَعَلّقَة بالسند، وَهُوَ
الْإِخْبَار عَن طَرِيق الْمَتْن، فبعضها أَقسَام للسند
كالمتواتر والضعيف، وَبَعضهَا أَقسَام لمتعلق السَّنَد، وَهُوَ
الرَّاوِي كالعدل والمستور
(4/181)
وَالْجرْح وَالتَّعْدِيل إِن فسرا بالجروح
وَالْعدْل. قَالُوا: والبحث فِي زَمَاننَا عَن أَحْوَال
الروَاة مَعَ طول الْمدَّة وَكَثْرَة الوسائط كالمتعذر،
فَالْأولى الِاكْتِفَاء بتعديل الْأَئِمَّة الْمَعْرُوف صِحَة
مَذْهَبهم فِي التَّعْدِيل وَالْجرْح (وَعدم الْقَاطِع)
بِالرَّفْع عطفا على الْمعرفَة، وَهُوَ الدَّلِيل الْقطعِي
المتحقق فِي مَحل الحكم (و) عدم (النّسخ) لما يقْصد استنباط
الحكم مِنْهُ من الْكتاب وَالسّنة، فَلَزِمَ من هَذَا معرفَة
مواقع الْإِجْمَاع، لِأَن الْإِجْمَاع دَلِيل قَطْعِيّ، وَشرط
الِاجْتِهَاد أَن لَا يكون خلاف مَا أدّى إِلَيْهِ
الِاجْتِهَاد مَقْطُوعًا بِهِ (و) شَرط (الْخَاص) بِالْجَرِّ
عطفا على مطلقه (مِنْهُ) أَي من الِاجْتِهَاد معرفَة (مَا
يحْتَاج إِلَيْهِ) الْمُجْتَهد بِالِاجْتِهَادِ الْخَاص: أَي
الْمُقَيد بِبَعْض الْأَحْكَام (من) جملَة (ذَلِك) الْمَذْكُور
من متن الْكتاب وَالسّنة والسند، والظرف حَال من الضَّمِير
الرَّاجِع إِلَى الْمَوْصُول (فِيمَا) يَقع (فِيهِ) ذَلِك
الِاجْتِهَاد، وَالْخَاص ظرف للاحتياج (كَذَا) أَي كَمَا
ذكرنَا من الِاقْتِصَار على معرفَة مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي
الْخَاص مِنْهُ، وَوَقع (لكثير) من الْمَشَايِخ فِي بَيَان
هَذَا الشَّرْط (بِلَا حِكَايَة عدم جَوَاز تجزي الِاجْتِهَاد)
فَعدم حكايتهم ذَلِك يدل على أَنه لم يثبت عِنْدهم خلاف فِي
جَوَاز التجزي (كَأَنَّهُمْ لَا يعرفونها) فِيهِ إِشَارَة
إِلَى أَن حكايته أَمر مُتَحَقق، غير أَنهم مَا يعرفونها،
وَإِلَى أَنه لَيْسَ لَهَا اشتهار تَامّ فَهُوَ دَلِيل على
قُوَّة القَوْل بِجَوَاز التجزي (وَعَلِيهِ) على جَوَازه (فرع)
أَنه يجوز (اجْتِهَاد الفرضي) نِسْبَة إِلَى الْفَرَائِض،
فَإِن النِّسْبَة إِلَى الْجمع فِي علم الْفَرَائِض ترده إِلَى
الأَصْل، وإلحاق الْيَاء (فِي) علم (الْفَرَائِض دون غَيره)
أَي من غير أَن يجْتَهد فِي غير علم الْفَرَائِض من الْعُلُوم
لعدم بُلُوغه رُتْبَة الِاجْتِهَاد فِيهَا (وَقد حكيت) هَذِه
المسئلة ذكر فِيهَا الْجَوَاز، وَهُوَ قَول بعض أَصْحَابنَا
ومختار الْغَزالِيّ، وَنسبه السُّبْكِيّ وَغَيره إِلَى
الْأَكْثَر وَقَالَ أَنه الصَّحِيح. وَقَالَ ابْن دَقِيق
الْعِيد: هُوَ الْمُخْتَار، وَسَيذكر المُصَنّف أَنه الْحق.
(وَاخْتَارَ طَائِفَة نَفْيه) أَي نفي جَوَاز التجزي (مُطلقًا
لِأَنَّهُ) أَي الْمُجْتَهد (وَإِن ظن حُصُول كل مَا
يَحْتَاجهُ) أَي إِلَيْهِ (لَهَا) أَي للمسئلة الْمُجْتَهد
فِيهَا (احْتمل غيبَة بعضه) أَي بعض مَا يحْتَاج إِلَيْهِ
(عَنهُ) أَي الْمُجْتَهد صلَة الْغَيْبَة. كلمة أَن وصلية،
تَقْدِير الْكَلَام احْتمل وَإِن ظن، ثمَّ رد هَذَا
التَّعْلِيل بقوله (وَهَذَا الِاحْتِمَال) أَي احْتِمَال غيبَة
بعض الْمُحْتَاج إِلَيْهِ فِي الِاجْتِهَاد الْخَاص (كَذَلِك)
أَي كاحتمال غيبَة بعض الْمُحْتَاج إِلَيْهِ فِي الِاجْتِهَاد
(الْمُطلق) فَإِن كَانَ مَانِعا من جَوَاز الِاجْتِهَاد
هَهُنَا كَانَ مَانِعا هُنَاكَ، ثمَّ أَشَارَ إِلَى الْفرق
بَينهمَا بقوله (لكنه) أَي الِاحْتِمَال الْمَذْكُور (يضعف فِي
حَقه) أَي الْمُجْتَهد الْمُطلق لِأَن غيبَة الْبَعْض لَا تنفد
فِي حَقه (ل) عدم (سعته) التَّامَّة (ويقوى فِي غَيره، وَقد
يمْنَع التَّفَاوُت) بَينهمَا بِاعْتِبَار الْقُوَّة والضعف
(بعد كَون الآخر) الَّذِي لَيْسَ بمجتهد مُطلقًا (قَرِيبا) من
رُتْبَة الْمُجْتَهد الْمُطلق محصلا فِيمَا يخص بِهِ فِي
جَمِيع مَا حصله الْمُطلق: وَلذَلِك ترى أَن من صرف عمره
(4/182)
فِي فن وَاحِد أوسع إحاطة فِيمَا يتَعَلَّق
بفنه من المتفنن (بل) الْمُجْتَهد الْخَاص (مثله) أَي الْمُطلق
فِيهِ (وسعته) أَي الْمُطلق (بِحُصُول مواد أُخْرَى) لَا دخل
لَهَا فِيمَا يجْتَهد فِيهِ الْمُجْتَهد الْخَاص (لَا توجبه)
أَي التَّفَاوُت فِي الِاحْتِمَال: أَي فِيمَا يحْتَاج
إِلَيْهِ الْمَطْلُوب الْخَاص (فَإِذا وَقع) الِاجْتِهَاد
(فِي) مسئلة (صلوية) أَي مُتَعَلقَة بِالصَّلَاةِ (وَفرض) وجود
جَمِيع (مَا يحْتَاج إِلَيْهَا) الْمُجْتَهد فِيهَا (من
الْأَدِلَّة وَالْقَوَاعِد) الْمُتَعَلّقَة بكيفية استنباطها
(فسعة الآخر) أَي الْمُطلق (بِحُضُور مواد) الْأَحْكَام
(البيعيات والغصبيات شَيْء آخر) لَا دخل لَهُ فِي إِيجَاب
التَّفَاوُت بَين الِاجْتِهَاد الْمُطلق وَالْخَاص فِي
الصلوية. (وَأما مَا قيل) من قبل المثبتين للتجزي (لَو شَرط)
فِي الْخَاص مَا شَرط فِي الْمُطلق (شَرط فِي الِاجْتِهَاد
الْعلم بِكُل المآخذ) بِمَا ذكر من الْكتاب وَالسّنة (وَيلْزم)
الْعلم بِكُل المآخذ (علم كل الْأَحْكَام فَمَمْنُوع
الْمُلَازمَة) مَا بعد الْفَاء جَوَاب أما، وَخبر الْمَوْصُول،
يَعْنِي لَا نسلم أَن الْعلم بِكُل المآخذ يسْتَلْزم الْعلم
بِكُل الْأَحْكَام (للْوَقْف بعده على الِاجْتِهَاد) يَعْنِي
أَن الْعلم بِالْأَحْكَامِ يتَوَقَّف بعد حُصُول الْعلم
بالمآخذ على أَمر آخر، وَهُوَ الِاجْتِهَاد، غَايَة الْأَمر
أَنه يحصل بِالْعلمِ بالمآخذ التَّمَكُّن من الْعلم
بِالْأَحْكَامِ، وَأما حُصُول الْعلم بِالْأَحْكَامِ
بِالْفِعْلِ فَإِنَّمَا يكون بعد الِاجْتِهَاد فِي كل وَاحِد
وَهُوَ ظَاهر. (وَأما الْعَدَالَة) فِي الْمُجْتَهد (فَشرط
قبُول فتواه) لِأَنَّهُ لَا يقبل قَول الْفَاسِق فِي
الديانَات، لَا شَرط صِحَة الِاجْتِهَاد لجَوَاز أَن يكون
لِلْفَاسِقِ قُوَّة الِاجْتِهَاد فَلهُ أَن يجْتَهد لنَفسِهِ،
وَلَا يشْتَرط أَيْضا الْحُرِّيَّة وَلَا الذُّكُورَة وَلَا
علم الْكَلَام وَلَا علم الْفِقْه.
مسئلة
(الْمُخْتَار عِنْد الْحَنَفِيَّة أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مَأْمُور) فِي حَادِثَة لَا وَحي فِيهَا (بانتظار
الْوَحْي أَولا) أَي فِي أول زمَان وُقُوع الْحَادِثَة (مَا
كَانَ راجيه) أَي مَا دَامَ كَونه راجيا نزُول الْوَحْي (إِلَى
خوف فَوت الْحَادِثَة) على غير الْوَجْه الشَّرْعِيّ (ثمَّ
بِالِاجْتِهَادِ) أَي تمّ بعد تحقق الْخَوْف مَأْمُور
بِالِاجْتِهَادِ (وَهُوَ) أَي الِاجْتِهَاد (فِي حَقه) صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم (يخص) أَي الِاجْتِهَاد (الْقيَاس
بِخِلَاف غَيره) من الْمُجْتَهدين فَإِنَّهُ لَا يخص اجتهادهم
الْقيَاس: أما فِي الْقيَاس فَظَاهر، وَأما فِي غَيره (فَفِي
دلالات الْأَلْفَاظ) أَي فقد يكون الِاجْتِهَاد فِي دلَالَة
الْأَلْفَاظ على مَا هُوَ المُرَاد مِنْهَا أَيْضا كَمَا فِي
الْمُجْمل والمشكل، والخفي والمتشابه على قَول من يَقُول: إِن
الراسخين فِي الْعلم يعلمُونَ تَأْوِيله، فَإِن الخفاء يستدعى
كَون المُرَاد نظريا مُحْتَاجا إِلَى نظر واجتهاد، وَأما
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَالْمُرَاد عِنْده ظَاهر
بَين لَا يحْتَاج إِلَى نظر واجتهاد مِنْهُ (و) فِي (الْبَحْث
عَن
(4/183)
مُخَصص الْعَام، وَالْمرَاد من الْمُشْتَرك
وباقيها) أَي وَبَاقِي الْأَقْسَام الَّتِي فِي دلالتها خَفَاء
من الْمُجْمل وأخواته: أما الْبَحْث عَن مُخَصص الْعَام
فَلِأَن احْتِمَال التَّخْصِيص غير التَّخْصِيص بعيد، وَلذَا
قيل: مَا من عَام إِلَّا وَخص مِنْهُ الْبَعْض وَأما الْبَحْث
عَن المُرَاد من الْمُشْتَرك فَلَا بُد مِنْهُ وَهُوَ ظَاهر،
وكل ذَلِك ظَاهر عِنْده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يحْتَاج
إِلَى نظر وفكر (و) فِي (التَّرْجِيح) لأحد الدَّلِيلَيْنِ
(عِنْد التَّعَارُض) بَينهمَا (لعدم علم الْمُتَأَخر)
مِنْهُمَا، يَعْنِي لَا بُد من الْمُتَأَخر فِي نفس الْأَمر
غير أَنه لَيْسَ بِمَعْلُوم عِنْد الْمُجْتَهد، وَلَا
يتَصَوَّر عدم الْعلم بالمتأخر فِي حَقه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، (فَإِن أقرّ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مَا أدّى
إِلَيْهِ اجْتِهَاده عِنْد خوف فَوت الْحَادِثَة (أوجب)
إِقْرَاره عَلَيْهِ (الْقطع بِصِحَّتِهِ) أَي بِصِحَّة مَا
أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده لِأَنَّهُ لَا يقر على الْخَطَأ
(فَلم تجز مُخَالفَته) أَي مَا أقرّ عَلَيْهِ (بِخِلَاف غَيره
من الْمُجْتَهدين) فَإِنَّهُ تجوز مُخَالفَته إِلَى اجْتِهَاد
آخر لاحْتِمَال الْخَطَأ والقرار عَلَيْهِ (وَهُوَ) أَي
اجْتِهَاده الْمقر عَلَيْهِ (وَحي بَاطِن) على مَا عَلَيْهِ
فَخر الْإِسْلَام وَغَيره، وَسَماهُ شمس الْأَئِمَّة
السَّرخسِيّ بِمَا يشبه الْوَحْي (وَالْوَحي عِنْدهم) أَي
الْحَنَفِيَّة أَرْبَعَة: (بَاطِن) وَهُوَ (هَذَا، وَظَاهر)
وَهُوَ (ثَلَاثَة: مَا يسمعهُ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (من
الْملك شفاها) من شافهه: أَي أدنى شفته من شفته، وَالْمرَاد
سَمَاعه من الْملك بِغَيْر وسط مَعَ علمه بِأَنَّهُ ملك،
وَالْمرَاد بِهِ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام لقَوْله تَعَالَى
- {قل نزله روح الْقُدس} - مَعَ قَوْله تَعَالَى - {نزل بِهِ
الرّوح الْأمين} - (أَو) مَا (يُشِير إِلَيْهِ) الْملك،
فَقَوله يُشِير مَعْطُوف على يسمع (إِشَارَة مفهمة) للمراد من
غير بَيَان بالْكلَام (وَهُوَ) أَي هَذَا الْقسم من الْوَحْي
(المُرَاد بقوله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِن روح الْقُدس
نفث فِي ورعى أَن نفسا لن تَمُوت حَتَّى تستوفى رزقها،
الحَدِيث) فِي الْقَامُوس: النفث كالنفخ، وَأَقل من التفل،
وَالْمرَاد إِلْقَاء معنى فِي الْقلب كالنفخ، وَأَقل من التفل،
والروع بِالضَّمِّ: الْقلب، أَو مَوضِع الْفَزع مِنْهُ (أَو)
مَا (يلهمه، وَهُوَ) أَي الإلهام (إِلْقَاء معنى فِي الْقلب
بِلَا وَاسِطَة عبارَة الْملك وإشارته مقرون) بِالرَّفْع على
أَنه صفة لإلقاء، أَو بِالْجَرِّ على أَنه صفة لِمَعْنى (بِخلق
علم ضَرُورِيّ أَنه) أَي ذَلِك الْمَعْنى (مِنْهُ تَعَالَى)
وَأَن مَعَ اسْمه وَخَبره مُتَعَلق الْعلم الضَّرُورِيّ: أَي
إِلْقَاء الْمَعْنى على الْوَجْه الْمَذْكُور (وَجعله حَيا
ظَاهرا) مَعَ خفائه (إِذْ فِي) الْوَحْي الظَّاهِر الَّذِي
يسمعهُ من (الْملك) شفاها (لَا بُد من خلق) الْعلم
(الضَّرُورِيّ أَنه) أَي الَّذِي جَاءَ بِالْوَحْي (هُوَ) أَي
الْملك، فشاركه فِيمَا هُوَ مدَار الْأَمر، وَإِن خَالفه
بِعَدَمِ المشافهة فَهُوَ جدير بِأَن يلْحق بِهِ فِي الظُّهُور
(وَلذَا) أَي وَلكَون إلهامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحيا
ظَاهرا (كَانَ حجَّة قَطْعِيَّة عَلَيْهِ) صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم (وعَلى غَيره) كَمَا أَن الشفاهي والإشاري حجَّة
عَلَيْهِمَا (بِخِلَاف إلهام غَيره) من الْمُسلمين فَإِنَّهُ
لَيْسَ بِوَحْي. وَقَالَ الشَّارِح
(4/184)
فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا حجَّة فِي حق
الْأَحْكَام بِالنِّسْبَةِ إِلَى الملهم وَغَيره، وَهَذَا فِي
الْمِيزَان معزو إِلَى قوم من الصُّوفِيَّة، بل عزى إِلَى صنف
من الرافضة لقبوا بالجعفرية أَنه لَا حجَّة سواهُ ثَانِيهَا
حجَّة عَلَيْهِ لَا على غَيره: أَي يجب على الملهم الْعَمَل
بِهِ، وَلَا يجوز أَن يَدْعُو إِلَيْهِ غَيره، وَعَزاهُ فِي
الْمِيزَان إِلَى عَامَّة الْعلمَاء، وَمَشى عَلَيْهِ الإِمَام
السهروردي، وَاعْتَمدهُ الإِمَام الرَّازِيّ فِي أَدِلَّة
الْقبْلَة وَابْن الصّباغ من الشَّافِعِيَّة، قَالَ: وَمن
علامته أَن ينشرح لَهُ الصَّدْر، وَلَا يُعَارضهُ معترض من
خاطر آخر. (ثَالِثهَا) أَي ثَالِث الْأَقْوَال فِي إلهام غَيره
وَهُوَ (الْمُخْتَار فِيهِ) أَي فِي إلهام غَيره أَنه (لَا
حجَّة عَلَيْهِ) أَي على الملهم (وَلَا) على (غَيره لعدم مَا
يُوجب نسبته) أَي نِسْبَة مَا ألهم بِهِ (إِلَيْهِ تَعَالَى)
فَإِن قيل: الْمُوجب مَوْجُود، وَهُوَ الْعلم الضَّرُورِيّ
بِأَنَّهُ من الله تَعَالَى قُلْنَا: لَيْسَ بمعصوم من أَن
يكون مَا يحسبه من الله تَعَالَى بِالضَّرُورَةِ من
الشَّيْطَان فِي نفس الْأَمر فَلَا يعْتَمد عَلَيْهِ إِلَّا
إِذا قَامَ لَهُ حجَّة من الْكتاب أَو السّنة (وَالْأَكْثَر)
أَي أَكثر أهل الْعلم على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ
مَأْمُورا (بِالِاجْتِهَادِ مُطلقًا) فِي الْأَحْكَام
الشَّرْعِيَّة والحروب والأمور الدِّينِيَّة من غير تَقْيِيد
بِشَيْء مِنْهَا، أَو من غير تَقْيِيد بانتظار الْوَحْي،
وَهُوَ مَذْهَب عَامَّة الْأُصُولِيِّينَ وَمَالك
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَعَامة أهل الحَدِيث، وَنقل عَن أبي
يُوسُف: كَذَا نقل الشَّارِح عَن شرح البديع (وَقيل) الْقَائِل
الأشاعرة وَأكْثر الْمُعْتَزلَة والمتكلمين (لَا) يَصح أَن
يكون صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَأْمُورا بِالِاجْتِهَادِ فِي
الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة. ثمَّ عَن الجبائي وَابْنه أَنه غير
جَائِز عَلَيْهِ عقلا. وَعَن غَيرهمَا جَائِز عقلا وَلكنه لم
يتعبد بِهِ شرعا، وَقيل كَانَ لَهُ الِاجْتِهَاد فِي الْأُمُور
الدِّينِيَّة والحروب دون الْأَحْكَام (وَقيل) كَانَ لَهُ
الِاجْتِهَاد (فِي الحروب فَقَط) وَهُوَ محكي عَن القَاضِي
والجبائي (لقَوْله تَعَالَى - {عَفا الله عَنْك لم أَذِنت
لَهُم} - عوتب على الْإِذْن لما ظهر نفاقهم فِي التَّخَلُّف
عَن غَزْوَة تَبُوك، وَلَا عتب فِيمَا عَن الْوَحْي، فَكَانَ
عَن اجْتِهَاد لِامْتِنَاع كَونه عَن تشه، وَدفعه السُّبْكِيّ
بِأَنَّهُ كَانَ مُخَيّرا فِي الْأذن وَعَدَمه. قَالَ تَعَالَى
- {فَأذن لمن شِئْت مِنْهُم} - فَلَمَّا أذن أعلمهُ بِمَا لم
يطلع عَلَيْهِ من شرهم أَنه لَو لم يَأْذَن لَهُم لقعدوا،
وَأَنه لَا حرج عَلَيْهِ فِيمَا فعل وَلَا خطأ. قَالَ
الْقشيرِي: وَمن قَالَ: الْعَفو لَا يكون إِلَّا عَن ذَنْب
فَهُوَ غير عَار بِكَلَام الْعَرَب، وَإِنَّمَا معنى - {عَفا
الله عَنْك} - لم يلزمك ذَنْب كَمَا عَفا فِي صَدَقَة الْخَيل
وَلم يجب عَلَيْهِم ذَلِك قطّ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَنه
عتاب على ترك الأولى (و) لقَوْله تَعَالَى {لَوْلَا كتاب من
الله سبق لمسكم فِيمَا أَخَذْتُم عَذَاب عَظِيم} - فَإِنَّهَا
نزلت فِي فدَاء أُسَارَى بدر، فَإِنَّهُ قَالَ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لأبي بكر وَعمر مَا ترَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ
الْأُسَارَى؟ فَقَالَ أَبُو بكر: هم بَنو الْعم وَالْعشيرَة
أرى أَن تَأْخُذ مِنْهُم فديَة فَتكون لنا قُوَّة على
الْكفَّار فَعَسَى الله أَن يهْدِيهم لِلْإِسْلَامِ، فَقَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(4/185)
مَا ترى يَا بن الْخطاب؟ قَالَ قلت لَا يَا
رَسُول الله مَا أرى الَّذِي رأى أَبُو بكر وَلَكِن أرى أَن
تمكننا فَنَضْرِب أَعْنَاقهم، فَتمكن عليا من عقيل فَيضْرب
عُنُقه، وتمكنني من فلَان نسيب لعمر فَأَضْرب عُنُقه، فَإِن
هَؤُلَاءِ أَئِمَّة الْكفْر وَصَنَادِيدهَا، فهوى رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا قَالَ أَبُو بكر وَلم يَهو مَا
قلت، فَلَمَّا كَانَ من الْغَد جِئْت فَإِذا رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَبُو بكر قاعدان يَبْكِيَانِ، قلت: يَا
رَسُول الله أَخْبرنِي من أَي شَيْء تبْكي أَنْت وَصَاحِبك؟
فَإِن وجدت بكاء بَكَيْت وَإِلَّا تَبَاكَيْت لِبُكَائِكُمَا؟
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أبْكِي للَّذي
عرض على أَصْحَابك من أَخذهم الْفِدَاء لقد عرض عَليّ
عَذَابهمْ أدنى من هَذِه الشَّجَرَة: شَجَرَة قريبَة من رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأنزل الله عز وَجل - {مَا
كَانَ لنَبِيّ} - إِلَى قَوْله - {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُم
حَلَالا طيبا} -، فأحل الله الْغَنِيمَة لَهُم. وَقَالَ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم " لَو نزل الْعَذَاب مَا نجا إِلَّا عمر
": فَدلَّ على أَن أَخذه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْفِدَاء
كَانَ بِالِاجْتِهَادِ، وَكَانَ ذَلِك الِاجْتِهَاد خطأ،
لِأَنَّهُ لَو كَانَ صَوَابا لما ترَتّب عَلَيْهِ الْعَذَاب
على تَقْدِير عدم سبق الْكتاب فَإِن قلت: كَيفَ يَتَرَتَّب
عَلَيْهِ وَقد تقرر أَن الْمُخطئ فِي الِاجْتِهَاد لَهُ أجر
وَاحِد قلت: الْأجر على تَقْدِير أَن لَا يكون خلاف مَا أدّى
إِلَيْهِ ظَاهرا، فَأَما إِذا كَانَ ظَاهرا فَلَا، بل يسْتَحق
الْمُجْتَهد الْعَذَاب، أَلا ترى أَن المبتدعة قد كَانُوا
مجتهدين، فَحَيْثُ كَانَ خلاف رَأْيهمْ ظَاهرا استحقوا
الْعَذَاب، حَيْثُ قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " كلهم فِي
النَّار إِلَّا وَاحِدَة " بعد قَوْله " سَتَفْتَرِقُ أمتِي
ثَلَاثًا وَسبعين فرقة ". وَمِنْهُم من قَالَ معنى سبق الْكتاب
أَنه كتب فِي اللَّوْح أَن لَا يعذب الْمُخطئ فِي
الِاجْتِهَاد، وَيرد عَلَيْهِ تَعْذِيب المبتدعة. وَقد يُجَاب
بتخصيص عدم الْعَذَاب بِمَا إِذا لم يكن فِي العقيدة فَإِن
قلت: إِذا كَانَت الْحِكْمَة فِي عدم تَعْذِيب الْمُخطئ أَنه
بذل وَسعه فِي طلب الصَّوَاب، فَلَا يفْتَرق الْحَال بِكَوْن
الْمُجْتَهد فِيهِ عمليا أَو اعتقاديا قلت فِي الِاعْتِقَاد لم
يكن الْمحل صَالحا للِاجْتِهَاد لوُجُود النُّصُوص المفيدة
للْقطع. والشارع قد مَنعهم عَن الْخَوْض فِي ذَلِك (وَقد
قُلْنَا بِهِ) أَي بِكَوْنِهِ مَأْمُورا بِالِاجْتِهَادِ فِي
الحروب (وَثَبت) اجْتِهَاده (فِي الْأَحْكَام) الشَّرْعِيَّة
(أَيْضا بقوله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَو اسْتقْبلت من
أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت لما سقت الْهدى) أَي لَو علمت قبل سوق
الْهدى مَا عَلمته بعده من أَمْرِي يُرِيد بِهِ مَا ظهر عِنْده
من الْمَشَقَّة عَلَيْهِ وعَلى من تبعه فِي سوقه الملزم دوَام
الْإِحْرَام إِلَى قَضَاء مَنَاسِك الْحَج لما سقته، بل كنت
أَحرمت بِالْعُمْرَةِ ثمَّ أحللت بعد أَدَائِهَا كَمَا هُوَ
دأب الْمُتَمَتّع، فَعلم أَنه لم يسق بِالْوَحْي وَإِلَّا لم
يقل ذَلِك وَأَيْضًا لَا يَتَرَتَّب الْجَزَاء عَنْهُم، أَعنِي
سوق الْهدى على الشَّرْط، أَعنِي الْعلم بِمَا ذكر قبل السُّوق
لَو لم يكن عَاملا بِالِاجْتِهَادِ، لِأَن الْقَائِل بِمُوجب
الْوَحْي علمه بِالْمَصْلَحَةِ كَعَدم علمه بهَا
(4/186)
(وسوقه) الْهدى (مُتَعَلق حكم الْمَنْدُوب)
لِأَنَّهُ لم يفعل فِي أَدَاء الْمَنَاسِك تَقْرِيبًا إِلَّا
الْوَاجِب أَو الْمَنْدُوب، وَقد علم عدم الْوُجُوب فَتعين
النّدب (وَهُوَ) أَي النّدب (حكم شَرْعِي) فَثَبت اجْتِهَاده
فِي الْأَحْكَام أَيْضا (وَلِأَنَّهُ) أَي الِاجْتِهَاد (منصب
شرِيف) حَتَّى قيل أَنه أفضل دَرَجَات أهل الْعلم، فَإِذا (لَا
يحرمه) أفضل أهل الْعلم (وتناله أمته) فَإِن حرمانه مَعَ عدم
حرمَان الْأمة بعيد عَن دَائِرَة الِاعْتِبَار (ولأكثرية
الثَّوَاب لأكثرية الْمَشَقَّة) . وَلَا شكّ أَن تَحْصِيل
الْعلم بالحكم الشَّرْعِيّ ثمَّ الْعَمَل بِهِ أَكثر مشقة من
الْعَمَل بِدُونِ الِاجْتِهَاد فَيكون أَكثر ثَوابًا فَكَانَ
لائقا بِشَأْنِهِ الشريف: وَهَذَا الَّذِي ذكر من أكثرية
الثَّوَاب لأكثرية الْمَشَقَّة هُوَ مُقْتَضى الأَصْل
وَالْقِيَاس. فَلَا يُنَافِيهِ مَا وَقع فِي بعض الخصوصيات من
كَون ثَوَاب مَا لَيْسَ فِيهِ مشقة أَكثر من ثَوَاب مَا فِيهِ
الْمَشَقَّة كالكلمتين الخفيفتين على اللِّسَان الثقيلتين فِي
الْمِيزَان. (وَأما الْجَواب) عَن هَذَا الدَّلِيل كَمَا
أَشَارَ إِلَيْهِ ابْن الْحَاجِب وَقَررهُ القَاضِي (بِأَن
السُّقُوط) أَي سُقُوط الِاجْتِهَاد فِي حَقه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (لدرجة الْعليا) الْإِضَافَة بَيَانِيَّة،
وَهِي الْوَحْي، فَإِن مُتَعَلّقه أَعلَى من مُتَعَلق
الِاجْتِهَاد لكَونه مَقْطُوعًا بِهِ ابْتِدَاء (لَا يُوجب
نقصا فِي قدره وأجره) أما فِي قدره فَظَاهر لِأَنَّهُ أُرِيد
لَهُ الدرجَة الْعليا، وَأما فِي أجره فَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ
يُعْطي أجرا عَظِيما مناسبا لتِلْك الدرجَة (وَلَا) يُوجب
السُّقُوط الْمَذْكُور (اخْتِصَاص غَيره بفضيلة لَيست لَهُ)
لكَون الِاجْتِهَاد نظرا إِلَى هَذَا الْمَعْنى فَضِيلَة
بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيره، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ تنزل
من الدرجَة الْعليا (فَقيل) جَوَاب أما (ذَلِك) أَي سُقُوط
الْأَدْنَى للأعلى إِنَّمَا يكون (عِنْد الْمُنَافَاة)
بَينهمَا (كَالشَّهَادَةِ مَعَ الْقَضَاء والتقليد مَعَ
الِاجْتِهَاد) فَإِنَّهُ سُقُوط وجوب أَدَاء الشَّهَادَة على
القَاضِي لوُجُوب مَا هُوَ أَعلَى مِنْهُ، وَهُوَ الْقَضَاء
فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ، فَلذَلِك سقط وجوب
التَّقْلِيد وَمن وجههما ظَاهر، وَمَا نَحن فِيهِ لَيْسَ
كَذَلِك لجَوَاز أَن يجْتَهد ثمَّ يقرره الْوَحْي (وَالْحق أَن
مَا سوى هَذَا) أَي مَا سوى الدَّلِيل الْمَعْنَوِيّ
الْمَدْلُول عَلَيْهِ بقوله منصب شرِيف إِلَى قَوْله لأكثرية
الْمَشَقَّة (لَا يُفِيد مَحل النزاع، وَهُوَ) أَي مَحل النزاع
(الْإِيجَاب) أَي إِيجَاب الِاجْتِهَاد عَلَيْهِ فِيمَا لَا
نَص فِيهِ، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن هَذَا يُفِيد، لِأَن
الِاجْتِهَاد الْوَاقِع على وَجه الْفَرْضِيَّة أشرف، وثواب
الْفَرْض أَكثر، وَأما الْأَدِلَّة النقلية فَلَا تفِيد إِلَّا
وُقُوع الِاجْتِهَاد وَلَا يدل وُقُوعه فرضا كَمَا سيشير
إِلَيْهِ، وناقش الشَّارِح فِي كَون مَحل النزاع الْوُجُوب
فَقَط، وَنقل عَن الْمُعْتَمد مَا دلّ على النزاع فِي
الْجَوَاز، وَعَن الْمَاوَرْدِيّ أَن الْأَصَح التَّفْصِيل فِي
حق النَّاس الْوُجُوب لأَنهم لَا يصلونَ إِلَى حُقُوقهم
بِدُونِهِ، وَفِي حُقُوق الله تَعَالَى عدم الْوُجُوب وَهَذَا
يُؤَيّدهُ المُصَنّف. وَعَن أبي هُرَيْرَة أَن فِي وجوب
الِاجْتِهَاد عَلَيْهِ بعد جَوَازه لَهُ وَجْهَيْن، وَأَنه
صحّح الْوُجُوب. وَعَن بَعضهم أَنه غير
(4/187)
جَائِز عقلا، وَلَعَلَّ المُصَنّف حقق من
طَرِيق النَّقْل أَن كل من قَالَ بِالْجَوَازِ مِمَّن يعْتد
بِكَلَامِهِ قَالَ بِالْوُجُوب: فَيرجع الْخلاف إِلَى
الِامْتِنَاع وَالْوُجُوب، فَلَا بُد أَن يكون كل دَلِيل فِي
هَذَا الْمقَام دَالا على أَحدهمَا (وَأما هَذَا) الدَّلِيل
الْمَعْنَوِيّ وَإِن أَفَادَ مَحل النزاع (فقد اقْتَضَت) أَي
فَيُقَال فِيهِ إِن الِاسْتِدْلَال بنيل الْأمة شَيْئا من
الْفَضَائِل وَالثَّوَاب على نيله ذَلِك غير مُسلم لِأَنَّهُ
قد اقْتَضَت (رتبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرّة سُقُوط مَا)
يجب (على غَيره كَحُرْمَةِ الزِّيَادَة) من الزَّوْجَات (على
الْأَرْبَع) فَهَذِهِ الْحُرْمَة حكم ثَابت فِي حق الْأمة
سَاقِط فِي حَقه لجَوَاز الزِّيَادَة لَهُ (وَمرَّة) اقْتَضَت
رتبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لُزُوم مَا لَيْسَ) بِلَازِم
(عَلَيْهِم) كمصابرة الْعَدو، وَإِن كثر عَددهمْ، بِخِلَاف
الْأمة فَإِنَّهَا لَا تلزمهم إِن زَاد عدد الْكفَّار على
الضعْف، وإنكار الْمُنكر، وتغييره مُطلقًا لكَونه مَوْعُودًا
بِالْحِفْظِ والعصمة، وَغَيره إِنَّمَا يلْزمه بِشَرْطِهِ،
وكالسواك والتهجد إِلَى غير ذَلِك، فَلَا يُقَاس حَاله بِحَال
غَيره، فَلَا بُد فِي إِثْبَات حكم فِي حَقه من وجود مُقْتَض
يَخُصُّهُ (فالشأن فِي تَحْقِيق) وجود (خُصُوصِيَّة
الْمُقْتَضى فِي حَقه فِي) خصوصيات (الْموَاد وَعَدَمه) أَي
عدم خُصُوصِيَّة الْمُقْتَضى بِحَذْف الْمُضَاف، إِن وجدنَا
مَا يقتضى إِثْبَات حكم فِي حَقه أَثْبَتْنَاهُ وَإِلَّا فَلَا
(وَغَايَة مَا يُمكن) أَن يُقَال فِيمَا نَحن فِيهِ (أَنَّهَا)
أَي أَدِلَّة المثبتين (لدفع الْمَنْع) أَي تدفع منع
الْجَوَاز، فَيثبت الْجَوَاز لعدم الِامْتِنَاع (فَيثبت
الْوُجُوب، إِذْ لَا قَائِل بِالْجَوَازِ دونه) أَي الْوُجُوب،
يَعْنِي لَو لم يجب الِاجْتِهَاد عَلَيْهِ على تَقْدِير
الْجَوَاز لثبت جَوَاز بِلَا وجوب، وَهُوَ منفي بِإِجْمَاع
الْمُجْتَهدين، لِأَن الْقَائِل بالامتناع نَفَاهُ، وَكَذَلِكَ
الْقَائِل بِالْوُجُوب، وَلَا مُجْتَهد سوى الْفَرِيقَيْنِ.
احْتج (الْمَانِع) لاجتهاده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله
تَعَالَى {وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ} أَي الَّذِي ينْطق
بِهِ من الشَّرَائِع {إِلَّا وَحي يُوحى} وَمَا يُؤَدِّي
إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد لَيْسَ بِوَحْي (أُجِيب بتخصيصه) أَي
بتخصيص الْمَنْفِيّ فِي الْآيَة (بِسَبَبِهِ) أَي بِمَا يدل
عَلَيْهِ سَبَب نُزُولهَا، وَهُوَ رد مَا كَانُوا يَقُولُونَهُ
فِي الْقُرْآن إِنَّه افتراء، فَيخْتَص بِمَا بلغه، وينتفي
الْعُمُوم الَّذِي هُوَ منَاط الِاسْتِدْلَال، وَإِلَيْهِ
أَشَارَ بقوله (لنفي دَعوَاهُم افتراءه) عطف بَيَان
بِسَبَبِهِ، فَالْمُرَاد فِي قَوْله تَعَالَى إِن هُوَ
الْقُرْآن (سلمنَا عُمُومه) أَي عُمُوم النَّفْي فِي قَوْله
تَعَالَى - {ان هُوَ} - بِحَيْثُ يعم كل مَا ينْطق بِهِ
(فَالْقَوْل) النَّاشِئ (عَن الِاجْتِهَاد لَيْسَ عَن الْهوى،
بل) هُوَ نَاشِئ (عَن الْأَمر بِهِ) أَي بِالِاجْتِهَادِ،
لِأَنَّهُ أمره بِالْعَمَلِ بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده
(وَهَذَا) أَي إِدْخَال مَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد فِي
الْوَحْي الموحى بالتأويل الْمَذْكُور (وَإِن كَانَ خلاف
الظَّاهِر، وَهُوَ) أَي الظَّاهِر (أَن مَا ينْطق بِهِ نفس مَا
يُوحى إِلَيْهِ) لَا أَمر مندرج تَحت عُمُوم وَحي أثبت
بِالدَّلِيلِ، لَكِن (يجب الْمصير إِلَيْهِ للدليل
الْمَذْكُور) وَهُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَو
اسْتقْبلت من أَمْرِي ": الحَدِيث وَنَحْوه مِمَّا يدل على
(4/188)
أَنه نطق بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده
فِي الْأَحْكَام، فَلَا بُد من إدراجه تَحت الْوَحْي لِئَلَّا
يُنَاقض الْآيَة (وَلَا يَحْتَاجهُ الْحَنَفِيَّة) أَي لَا
يَحْتَاجُونَ إِلَى ارْتِكَاب خلاف الظَّاهِر كغيرهم على مَا
عرفت (إِذْ هُوَ) أَي مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (وَحي بَاطِن) عِنْدهم فَإِن قلت حمل الْوَحْي
الْمَذْكُور على مَا يعمه خلاف الظَّاهِر قلت مَعَ مُلَاحظَة
مَا دلّ على كَونه خلاف الظَّاهِر. (قَالُوا) أَي المانعون
ثَانِيًا (لَو جَازَ) اجْتِهَاده (جَازَت مُخَالفَته) لمجتهد
آخر إِذا أدّى اجْتِهَاده إِلَى خلاف رَأْيه لاحْتِمَال
الْخَطَأ فِي الِاجْتِهَاد (وَتقدم مَا يَدْفَعهُ) من أَن
اجْتِهَاده وَحي بَاطِن لَيْسَ كاجتهاد غَيره، أَو أَن
اجْتِهَاده نَاشِئ عَن الْأَمر بِهِ، وَأمره بِالِاجْتِهَادِ
فِي حق النَّاس يسْتَلْزم أَمر النَّاس باتباعه فِيمَا أدّى
إِلَيْهِ اجْتِهَاده. و (قَالُوا) ثَالِثا (لَو أَمر بِهِ) أَي
بِالِاجْتِهَادِ (لم يُؤَخر جَوَابا) احْتَاجَ النَّاس
إِلَيْهِ منتظرا للوحي بل كَانَ يجْتَهد فيجيب من غير
انْتِظَار لَهُ (وَكَثِيرًا مَا أخر) أَي أخر تَأْخِيرا كثيرا،
فَقَوله كثيرا مَنْصُوب على المصدرية، قدم على عَامله، وَكلمَة
مَا مزيدة تفِيد مَا قبلهَا وثاقة وَقُوَّة فِيمَا قصد مِنْهُ
(الْجَواب) أَنه (جَازَ) أَن يكون التَّأْخِير (لاشْتِرَاط
الِانْتِظَار) أَي لكَون الِانْتِظَار للوحي فِي مُدَّة
مَعْلُومَة عِنْده شرطا فِي اجْتِهَاده صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم (كالحنفية) أَي اشتراطا كاشتراط الْحَنَفِيَّة على مَا
سبق (أَو لاستدعائه) أَي الِاجْتِهَاد فِي تِلْكَ الْحَادِثَة
(زَمَانا) لغموضه، فَالْجَوَاب الأول مَبْنِيّ على التَّأْخِير
لانتظار الْوَحْي، وَهَذَا الْجَواب مَبْنِيّ على عدم تَسْلِيم
كَون التَّأْخِير لانتظار الْوَحْي. (قَالُوا) رَابِعا:
الِاجْتِهَاد لَا يُفِيد إِلَّا الظَّن، و (لَا يجوز الظَّن
مَعَ الْقُدْرَة على الْيَقِين) فَإِنَّهُ يقدر أَن يسْأَل ربه
أَن ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي فِي مَحل السُّؤَال، وسؤاله لَا
يرد، فَكَانَ قَادِرًا على الْيَقِين الَّذِي هُوَ الْوَحْي
(أُجِيب بِالْمَنْعِ) يحْتَمل وَجْهَيْن: أَحدهمَا منع كَونه
قَادِرًا على الْيَقِين لجَوَاز أَن لَا يكون مَأْذُونا فِي
سُؤال إِنْزَال الْوَحْي، أَو لإِيجَاب على تَقْدِير السُّؤَال
لحكمة تَقْتَضِيه، وَالثَّانِي منع استلزام الْقُدْرَة على
الْيَقِين عدم جَوَاز الْعَمَل بِالظَّنِّ، كَيفَ والعمليات
يَكْفِي فِيهَا الظَّن، وَالشَّيْخ أَرَادَ أَن يبْحَث عَن كل
وَاحِد مِنْهُمَا فَقَالَ (فَإِن) كَانَ الْمَنْع (بِمَعْنى
أَنه) أَي الْيَقِين بِالْوَحْي (غير مَقْدُور لَهُ) صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِالْفِعْلِ (فَصَحِيح) أَي فَهَذَا الْمَعْنى
صَحِيح (لكنه) أَي عدم المقدورية لَهُ بِالْفِعْلِ (لَا يُوجب
النَّفْي) أَي نفي الْقُدْرَة مُطلقًا لجَوَاز أَن يصير
قَادِرًا بأقداره تَعَالَى، فالمنع حِينَئِذٍ لَا يجوز
الِاجْتِهَاد بِلَا انْتِظَار كَمَا ذهب إِلَيْهِ غير
الْحَنَفِيَّة فَإِنَّهُ كَمَا يمْنَع عَن الِاجْتِهَاد
الْقُدْرَة بِالْفِعْلِ كَذَلِك يمْنَع عَنهُ احْتِمَال
صَيْرُورَته قَادِرًا بأقداره تَعَالَى، فَيَنْبَغِي أَن يكون
هَذَا الْمَنْع من قبل الْحَنَفِيَّة، وَلَيْسَ معنى الْكَلَام
لَا يُوجب النَّفْي لتعبده بِالِاجْتِهَادِ حَتَّى يعْتَرض
عَلَيْهِ بِنَفْي إِيجَابه إِيَّاه بل مُرَاده أَن يُوجب
الْمَنْع جَوَاز التَّعَبُّد وَهُوَ ظَاهر (بل) بِاعْتِبَار
دلَالَته على احْتِمَال حُصُول الْقُدْرَة لما عرفت يُوجب (أَن
لَا يجْتَهد إِلَى الْيَأْس من
(4/189)
الْوَحْي) قطعا (أَو) إِلَى (غَلَبَة
ظَنّه) أَي الْيَأْس (مَعَ خوف الْفَوْت) أَي فَوت الْحَادِثَة
المحوجة إِلَى الِاجْتِهَاد. قَوْله مَعَ قيد للمفهوم المردد
للأخير (وَهُوَ) أَي عدم الِاجْتِهَاد إِلَى أَحدهمَا (قَول
الْحَنَفِيَّة) أَي بِاعْتِبَار الْمَآل (كل من طريقي الظَّن
وَالْيَقِين) يَعْنِي الِاجْتِهَاد وَالْوَحي (مُمكن فَيجب
تَقْدِيم) رِعَايَة احْتِمَال (الثَّانِي) يَعْنِي الْيَقِين
(بالانتظار فَإِذا غلب ظن عَدمه) أَي الْيَقِين (وجد شَرط
الِاجْتِهَاد) وَهُوَ غَلَبَة ظن الْيَأْس من حُصُول الْيَقِين
بِالْوَحْي، فَقَوله كل من طريقي الظَّن وَالْيَقِين إِلَى
آخِره مقول قَول الْحَنَفِيَّة (وَهُوَ) أَي قَول
الْحَنَفِيَّة (الْمُخْتَار) لكَونه أحوط مَعَ قُوَّة دَلِيله
(وَإِن) كَانَ الْمَنْع (بِمَعْنى جَوَاز تَركه) أَي ترك طلب
الْيَقِين (مَعَ الْقُدْرَة) عَلَيْهِ ميلًا (إِلَى مُحْتَمل
الْخَطَأ) وَهُوَ الِاجْتِهَاد (مُخْتَارًا) أَي حَال كَون
التارك مُخْتَارًا فِي تَركه وميله وَحَاصِله منع استلزام
الْقُدْرَة على الْيَقِين عدم جَوَاز الْعَمَل بِالظَّنِّ
(فيمنعه) أَي الْجَوَاز الْمَذْكُور (الْعقل) بِمُقْتَضى
قَوَاعِد الشَّرْع من أَن اتِّبَاع الظَّن خلاف الأَصْل فَلَا
يُصَار إِلَيْهِ إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة وَمن أَن الظَّن بدل
الْعلم كالتيمم بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْوضُوء لَا يجوز إِلَّا
عِنْد عدم الْقُدْرَة على الْوضُوء، وَمن أَن اخْتِيَار
مُحْتَمل الْخَطَأ على مَا لَا يحْتَملهُ تَرْجِيح للمرجوح،
وَهُوَ بَاطِل شرعا وعقلا (وَمَا أَوْهَمهُ) أَي جَوَاز تَركه
مَعَ الْقُدْرَة (سَيَأْتِي) ذكره، و (جَوَابه، وَقد ظهر من
الْمُخْتَار) وَهُوَ قَول الْحَنَفِيَّة الْمَذْكُور (جَوَاز
الْخَطَأ عَلَيْهِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) لِأَنَّهُ لَو لم
يكن احْتِمَال الْخَطَأ فِي اجْتِهَاده صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لَكَانَ مثل الْوَحْي فِي عدم احْتِمَال الْخَطَأ،
وَإِذن لَا وَجه للانتظار (إِلَّا أَنه) صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، كلمة إِلَّا بِمَعْنى لَكِن (لَا يقر عَلَيْهِ) أَي على
الْخَطَأ (بِخِلَاف غَيره) من الْمُجْتَهدين فَإِنَّهُم قد
يقرونَ عَلَيْهِ (وَقيل بامتناعه) أَي امْتنَاع الْخَطَأ فِي
اجْتِهَاده لتعبده بِالِاجْتِهَادِ، إِذْ لَا معنى لَهُ، لِأَن
المُرَاد الْمُجيب بِالْمَنْعِ لَيْسَ إِيجَابه نفي
التَّعَبُّد بِالِاجْتِهَادِ حَتَّى يعْتَرض عَلَيْهِ بِنَفْي
إِيجَابه إِيَّاه، بل مُرَاده أَن يُوجب الْمَنْع فِي نقل فِي
الْكَشْف عَن أَكثر الْعلمَاء. وَقَالَ الإِمَام الرَّازِيّ
والحليمي أَنه الْحق، والسبكي أَنه الصَّوَاب وَالشَّافِعِيّ
نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم (لِأَنَّهُ) أَي اجْتِهَاده (أولى
بالعصمة عَن الْخَطَأ من الْإِجْمَاع لِأَن عصمته) أَي
الْإِجْمَاع (لنسبته) أَي الْإِجْمَاع (إِلَيْهِ) صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِاعْتِبَار صدوره عَن أمته (وللزوم جَوَاز
الْأَمر بِاتِّبَاع الْخَطَأ) وَلَا يجوز الْأَمر بِهِ فضلا
عَن الْوُقُوع، وَجه اللُّزُوم أَن الْأمة مأمورون باتباعه فِي
جَمِيع أَحْكَامه. وَمِنْهَا مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده
وعَلى تَقْدِير جَوَاز الْخَطَأ فِيهِ يلْزم الْأَمر
بِاتِّبَاع جَائِز الْخطاب يسْتَلْزم جَوَاز الْأَمر
بِاتِّبَاع جَائِز الْخَطَأ وَالْأَمر بِاتِّبَاع جَائِز
الْخَطَأ فِيهِ نظر (و) للُزُوم (الشَّك فِي قَوْله) فِي كَونه
صَوَابا أَو خطأ لِأَن الْمَفْرُوض جَوَاز الْخَطَأ فِي
اجْتِهَاده، فَإِذا قَالَ بِمُوجب اجْتِهَاده لزم حُصُول
الشَّك فِيهِ (فيخل بمقصود الْبعْثَة) وَهُوَ الوثوق بِمَا
يَقُول إِنَّه حكم الله تَعَالَى (أُجِيب عَن هَذَا) أَي
الْإِخْلَال بِالْمَقْصُودِ
(4/190)
(بَان المخل) بمقصود الْبعْثَة (مَا) أَي
الشَّك (فِي) نفس (الرسَالَة) وَالشَّكّ فِي قَوْله الَّذِي
صدر عَن الِاجْتِهَاد لَا يسْتَلْزم الشَّك فِيهَا (و) أُجِيب
(عَمَّا قبله) أَي قبل هَذَا الَّذِي أجبنا عَنهُ (بِمَنْع
بُطْلَانه) أَي الثَّانِي، وَهُوَ جَوَاز الْأَمر بِاتِّبَاع
الْخَطَأ بِمَعْنى جَائِز الْخَطَأ، كَيفَ والمجتهد وَمن يقلده
مأمورون بِاتِّبَاع مَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد إِجْمَاعًا
وَهُوَ جَائِز الْخَطَأ عندنَا. ثمَّ ذكر سَنَد الْمَنْع بقوله
(على أَن الْأَمر باتباعه) أَي الِاجْتِهَاد (من حَيْثُ هُوَ)
أَي الحكم الاجتهادي (صَوَاب فِي نظر الْعَالم) الْمُجْتَهد،
لَا من حَيْثُ أَنه خطأ (وَإِن خَالف) ذَلِك الحكم (نفس
الْأَمر) وَهُوَ حكم الله تَعَالَى الْمعِين فِي تِلْكَ
الْحَادِثَة (و) أُجِيب (عَن الأول) وَهُوَ أَنه أولى بالعصمة
من الْإِجْمَاع (بِأَن اخْتِصَاصه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الَّذِي لَا بُد لَهُ مِنْهُ حَاصِل (برتبة النُّبُوَّة) وَلَا
يخل بِكَمَالِهِ أَن يخْتَص أمته بشرف متابعتهم إِيَّاه برتبة
كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وَإِن رُتْبَة الْعِصْمَة
للْأمة) الْحَاصِلَة لَهُم (لاتباعهم) إِيَّاه (لَا يقتضى)
بِاعْتِبَار حُصُولهَا لَهُم (لُزُوم هَذِه الرُّتْبَة) لَهُم
فِي ذكر اللُّزُوم إِشَارَة إِلَى أَن أصل الْعِصْمَة حَاصِل
فِيهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن لم يكن على وَجه
اللُّزُوم. وَلَا شكّ أَن شرف لُزُومهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْأمة بِسَبَب الِاتِّبَاع رَاجع إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فَإِن لم تكن لَازِمَة (لَهُ) لحكمة تَقْتَضِيه لَا
ينقص من كَمَاله شَيْئا (كَالْإِمَامِ) يُرِيد الْإِمَامَة
الْكُبْرَى (لَا يلْزم لَهُ رُتْبَة الْقَضَاء) وَإِن كَانَت
مستفادة مِنْهُ ثمَّ لَا يعود ذَلِك عَلَيْهِ بِنَقص وانحطاط:
وَلَا يخفى أَنه لَو كَانَ رُتْبَة الْقَضَاء لَهُ مَخْصُوصَة
بِغَيْر الإِمَام كَانَ التنظير على الْوَجْه الْأَكْمَل، لكنه
قصد أَنه كَمَا لَا ينقص كَمَال الْمَتْبُوع بمساواة التَّابِع
إِيَّاه فِي حكم حصل لَهُ بتبعيته إِيَّاه كَذَلِك لَا ينقص
اخْتِصَاص التَّابِع بِحكم حصل لَهُ بِسَبَب التّبعِيَّة، ثمَّ
أَشَارَ إِلَى جَوَاب آخر بقوله (وَتقدم مَا يَدْفَعهُ) أَي
الِاسْتِدْلَال الأول من قَوْله فقد اقْتَضَت رتبته صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مرّة سُقُوط مَا على غَيره إِلَى قَوْله والشأن
فِي تحقق خُصُوصِيَّة الْمُقْتَضى فِي حَقه، فَمن قَالَ أَن
المُرَاد بِمَا يَدْفَعهُ مَا ذكر من أَنه لَا مُنَافَاة بَين
مرتبَة النُّبُوَّة ودرجة الِاجْتِهَاد جعل مرجع ضمير
يَدْفَعهُ الْجَواب لَا الِاسْتِدْلَال، وَلَزِمَه كَون ذَلِك
الدّفع مرضيا للْمُصَنف وَهُوَ ضَعِيف، لِأَنَّهُ لَا يدْفع
الْمَنْع الْمَذْكُور فَتدبر، وَلَا يبعد أَن يُقَال فِي
تَحْقِيق خُصُوصِيَّة الْمُقْتَضى أَن فِي جَوَاز الْخَطَأ فِي
اجْتِهَاد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِشَارَة إِلَى
أَن فكر الْبشر وَإِن كَانَ فِي أَعلَى الدَّرَجَات يحْتَمل
الْخَطَأ، بِخِلَاف الْوَحْي وَالله تَعَالَى أعلم (وَأَيْضًا)
إِن كَانَ أَدِلَّة الْفَرِيقَيْنِ مُوجبا للشغب (فالوقوع) أَي
وُقُوع الْخَطَأ فِي اجْتِهَاده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (يقطع
الشغب) بِالسُّكُونِ: أَي النزاع فِي الْجَوَاز كَمَا عَلَيْهِ
الْجُمْهُور مِنْهُم الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب (وَدَلِيله)
أَي الْوُقُوع قَوْله تَعَالَى {عَفا الله عَنْك} الْآيَة،
وَقَوله تَعَالَى {مَا كَانَ لنَبِيّ} أَن تكون لَهُ أسرى
(حَتَّى قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَو نزل من السَّمَاء
عَذَاب مَا نجا مِنْهُ إِلَّا عمر) رَوَاهُ الْوَاقِدِيّ فِي
كتاب الْمَغَازِي
(4/191)
والطبري بِلَفْظ " لما نجا مِنْهُ غير عمر
بن الْخطاب وَسعد بن معَاذ " وَتَأْويل الْآيَتَيْنِ إِلَى
خلاف مَا يدل عَلَيْهِ الظَّاهِر على وَجه يخل بِكَمَال بلاغة
الْقُرْآن من غير ضَرُورَة ملجئة إِلَيْهِ مِمَّا لَا
يَنْبَغِي أَن يقدم عَلَيْهِ أهل الْعلم مُبَالغَة فِي علو
شَأْن الْأَنْبِيَاء لِأَن هَذَا لَا يخل بعلو شَأْنهمْ كَمَا
عرفت. قَالَ صدر الشَّرِيعَة فِي قَوْله تَعَالَى - {لَوْلَا
كتاب} - الْآيَة: أَي لَوْلَا حكم سبق فِي اللَّوْح
الْمَحْفُوظ، وَهُوَ أَنه لَا يُعَاقب أحد بالْخَطَأ فِي
الِاجْتِهَاد وَكَانَ هَذَا خطأ فِي الِاجْتِهَاد لأَنهم
نظرُوا إِلَى أَن استبقاءهم سَبَب لإسلامهم، وفداءهم يتقوى
بِهِ على الْجِهَاد، وخفى عَلَيْهِم أَن قَتلهمْ أعز
لِلْإِسْلَامِ وأهيب لمن وَرَاءَهُمْ وَأَقل لشوكتهم، ورد
هَذَا القَاضِي أَبُو زيد بِأَنَّهُ لَو كَانَ خطأ لما أقرّ
عَلَيْهِ، وَقد أقرّ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: - {فَكُلُوا
مِمَّا غَنِمْتُم حَلَالا طيبا} - وَتَأْويل العتاب مَا كَانَ
لمن قبلك أَن تكون لَهُ أسرى حَتَّى يثخن فَكَانَ لَك كَرَامَة
خصصت بهَا رخصَة لَوْلَا كتاب من الله سبق بِهَذِهِ الخصوصية
لمسكم الْعَذَاب بِحكم الْعَزِيمَة على مَا قَالَ عمر انْتهى،
وَأَنت خَبِير بِأَن التَّقْرِير لم يَقع حَيْثُ نبه
بِكَوْنِهِ خطأ: بل دلّت الْآيَة على أَن حكم الله تَعَالَى
فِي نفس الْأَمر كَانَ خلاف مَا أدّى إِلَيْهِ ذَلِك
الِاجْتِهَاد غير أَنه عَفا عَنْهُم، وَنسخ ذَلِك الحكم، فالحل
بعد النّسخ لَا قبله وَتَأْويل العتاب على الْوَجْه
الْمَذْكُور غير مرضِي لِأَنَّهُ إِذا رخص لَهُ فِي الْفِدَاء
كَرَامَة لَا يبْقى للعتاب سَبَب فَإِن قلت يجوز أَن يكون
سَببه ترك الأولى، وَهُوَ الْعَمَل بالعزيمة دون الرُّخْصَة
قلت مثل هَذَا الْوَعيد لَا يلائم ترك الأولى وَالْعَمَل
بِالرُّخْصَةِ الَّتِي هِيَ كَرَامَة لَهُ فَإِن قلت الْوَعيد
مُرَتّب على الْمَفْرُوض قلت نعم لكنه يدل أَنه على ذَلِك
التَّقْدِير كَانُوا يسْتَحقُّونَ الْعَذَاب الْعَظِيم، وَكَيف
يستحقونه على ذَلِك التَّقْدِير إِن كَانَ لَهُم أَن
يَأْخُذُوا الْفِدَاء رخصَة (وَبِه) أَي بالوقوع (يدْفع دفع
الدَّلِيل الْقَائِل) إِسْنَاد مجازي من قبيل إِسْنَاد القَوْل
إِلَى سَببه، وَلِأَن الدَّلِيل فِي الْحَقِيقَة أَمر معنوي،
وَهُوَ مَا يسْتَلْزم الْعلم بِهِ الْعلم بِشَيْء، وَذَلِكَ
سَبَب لِلْقَوْلِ الْمَذْكُور (لَو جَازَ) امْتنَاع الْخَطَأ
عَلَيْهِ (لَكَانَ) ذَلِك الِامْتِنَاع (لمَانع) عَن الْخَطَأ
لِأَنَّهُ مُمكن ذَلِك لذاته وطبع الْبشر يَقْتَضِيهِ عَادَة
(وَالْأَصْل عَدمه) أَي عدم الْمَانِع (بِأَن الْمَانِع) صلَة
لدفع الدَّلِيل الْمَذْكُور بِتَعْيِين الْمَانِع عَن
الْخَطَأ، وَهُوَ (علو رتبته وَكَمَال عقله وَقُوَّة حدسه)
وَهُوَ حُصُول الْمُقدمَات مرتبَة فِي الذِّهْن دفْعَة (وفهمه)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد ذكر هَذَا الدّفع الْعَلامَة،
وَمَعَ الْوُقُوع لَا يلْتَفت إِلَى أَمْثَال هَذِه التعليلات
(وَأما الِاسْتِدْلَال) لجَوَاز الْخَطَأ عَلَيْهِ (بقوله) صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم
(" وَإِنَّكُمْ تختصمون إِلَيّ) فَلَعَلَّ بَعْضكُم أَن يكون
أَلحن بحجته من بعض فأقضى لَهُ على نَحْو مَا أسمع فَمن قضيت
لَهُ بِشَيْء من حق أَخِيه فَلَا يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا
فَإِنَّمَا أقطع لَهُ قِطْعَة من النَّار " مُتَّفق عَلَيْهِ
(وَقَوله) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَنا أحكم
(4/192)
بِالظَّاهِرِ) قد سبق أَنه لَا وجود لهَذَا
الحَدِيث غير أَنه يُؤْخَذ مَعْنَاهُ من الحَدِيث السَّابِق
(فَلَيْسَ بِشَيْء) جَوَاب أما، وَخبر الْمُبْتَدَأ: أَي
لَيْسَ بِشَيْء يعْتد بِهِ فِي إِثْبَات الْمُدَّعِي لِأَن
الْخلاف فِي الْخَطَأ فِي استنباط الحكم الشَّرْعِيّ على
أمارته بِأَن لَا يكون المستنبط مطابقا لحكم الله تَعَالَى
الْمعِين فِي تِلْكَ الْحَادِثَة، وَلم يقل أحد إِن لله فِي كل
قَضِيَّة جزئية تقع فِيهَا الْخُصُومَة بَين يَدي القَاضِي
حكما معينا إِن وَافقه القَاضِي فَحكمه صَوَاب وَإِلَّا فخطأ،
وَلَو سلم فَلَيْسَ هَذَا خطأ فِي الِاجْتِهَاد لِأَن أَسبَاب
حكم القَاضِي لَيست بأمارات يستنبط مِنْهَا الْخطاب
الْمُتَعَلّق بِفعل العَبْد، وَهُوَ ظَاهر (وَكَذَا) لَيْسَ
بِشَيْء (مَا يُوهِمهُ عبارَة بَعضهم من ثُبُوت الْخلاف) من
بَيَانِيَّة للموصول (فِي الْإِقْرَار على الْخَطَأ فِيهِ) أَي
الِاجْتِهَاد، يَعْنِي يُوهم عبارَة بعض الْأُصُولِيِّينَ أَن
الَّذين قَالُوا بِجَوَاز وُقُوع الْخَطَأ فِي اجْتِهَاد
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اخْتلفُوا فِي أَنه هَل يقر
على الْخَطَأ أم لَا؟ وَهَذَا الْوَهم لَيْسَ بِشَيْء
لِأَنَّهُ لَا خلاف فِيهِ (بل نَفْيه اتِّفَاق) أَي مُتَّفق
عَلَيْهِ كَمَا صرح بِهِ الْعَلامَة وَغَيره. قَالَ الشَّارِح:
ثمَّ قد ظهر سُقُوط التَّوَقُّف فِي جَوَاز الِاجْتِهَاد
للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا ذهب إِلَيْهِ
الرَّازِيّ، وَالله تَعَالَى أعلم.
مسئلة
قَالَت (طَائِفَة لَا يجوز) عقلا (اجْتِهَاد غَيره) صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (فِي عصره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَالْأَكْثَر) على أَنه (يجوز) اجْتِهَاد غَيره فِي زَمَانه
(فَقيل) يجوز (مُطلقًا) أَي بِحَضْرَتِهِ وغيبته، كَذَا نقل
عَن مُحَمَّد بن الْحسن، وَهُوَ الْمُخْتَار عِنْد
الْأَكْثَرين مِنْهُم القَاضِي وَالْغَزالِيّ والآمدي والرازي
(وَقيل) يجوز (بِشَرْط غيبته للقضاة) مُتَعَلق بيجوز، وَكَذَا
الْوُلَاة دون غَيرهم (وَقيل) يجوز (بِإِذن خَاص) فَمنهمْ من
شَرط صَرِيحه، وَمِنْهُم من نزل السُّكُوت عَن الْمَنْع مِنْهُ
مَعَ الْعلم بِوُقُوعِهِ منزلَة الْإِذْن. (وَفِي الْوُقُوع)
اخْتلفُوا. فَمنهمْ من قَالَ (نعم) وَقع (مُطلقًا) حضورا وغيبة
(ظنا) أَي وقوعا ظنيا لَا قَطْعِيا، وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ
وَابْن الْحَاجِب. قَالَ السُّبْكِيّ لم يقل أحد وَقع قطعا،
(و) مِنْهُم من قَالَ (لَا) أَي لم يَقع أصلا (وَالْمَشْهُور
أَنه) أَي عدم الْوُقُوع أصلا (للجبائي وَأبي هَاشم، و)
مِنْهُم من مذْهبه (الْوَقْف) فِي الْوُقُوع مُطلقًا، نسبه
الْآمِدِيّ للجبائي (وَقيل) الْوَقْف (فِي) حق (من
بِحَضْرَتِهِ) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَا) فِي حق (من
غَابَ) عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. (الْوَقْف) منشؤه أَنه
(لَا دَلِيل) على الْوُقُوع وَلَا على عَدمه عِنْد الْوَقْف.
قَالَ (الْمَانِع) للْجُوَاز مُطلقًا: مجتهدو عصره (قادرون على
(4/193)
الْعلم بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ فَامْتنعَ
ارْتِكَاب طَرِيق الظَّن) وَهُوَ الِاجْتِهَاد لِأَن معرفَة
الْأَحْكَام وَاجِبَة، وَالْأَصْل فِيهَا الْعلم وَلَا يعدل
عَن الأَصْل إِلَّا عِنْد عدم الْقُدْرَة عَلَيْهِ (أُجِيب
بِمَنْع الْمُلَازمَة) يَعْنِي لَا نسلم استلزام الْقُدْرَة
الْمَذْكُورَة الِامْتِنَاع الْمَذْكُور منعا مُسْتَندا (بقول
أبي بكر) رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي حَدِيث أبي قَتَادَة
الْأنْصَارِيّ " خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عَام حنين فَذكر قصَّته فِي قَتله الْقَتِيل، وَأَنه صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه.
فَقُمْت فَقلت من يشْهد لي. ثمَّ جَلَست إِلَى أَن قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَالك أَبَا قَتَادَة؟
فقصصت عَلَيْهِ الْقِصَّة. فَقَالَ رجل من الْقَوْم صدق يَا
رَسُول الله سلب ذَلِك الْقَتِيل عِنْدِي فأرضه من حَقه "
(لَاها الله) ذَا (" لَا يعمد إِلَى أَسد من أسود الله
تَعَالَى يُقَاتل عَن الله وَرَسُوله فيعطيك سلبه. فَقَالَ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: صدق) فأعطه إِيَّاه، فأعطانيه ". قَالَ
الْخطابِيّ لَاها الله ذَا بِغَيْر ألف قبل الذَّال،
وَمَعْنَاهُ فِي كَلَامهم وَالله، يجْعَلُونَ الْهَاء مَكَان
الْوَاو، وَمَعْنَاهُ لَا وَالله يكون ذَا: كَذَا فِي شرح
السّنة، وَالْخطاب لمن لَهُ السَّلب وَيطْلب من رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرضاء أبي قَتَادَة من ذَلِك السَّلب،
وفاعل لَا يعمد ويعطيك ضمير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: وَأما الصِّيغَة
فتروى لَاها الله بِإِثْبَات الْألف والتقاء الساكنين على
حَده، ولاها الله بِحَذْف الْألف وَالْأَصْل لَا وَالله فحذفت
الْوَاو وَعوض مِنْهَا حرف التَّنْبِيه، وَيَنْبَغِي أَن يكون
هَذَا مُرَاد من قَالَ يجْعَلُونَ الْهَاء مَكَان الْوَاو،
وَأما التَّقْدِير فَقَوْل الْخَلِيل إِن ذَا مقسم عَلَيْهِ،
وَتَقْدِيره لَا وَالله الْأَمر كَذَا فَحذف الْأَمر لِكَثْرَة
الِاسْتِعْمَال، وَقَول الْأَخْفَش أَنه من جملَة الْقسم
وتوكيده لَهُ كَأَنَّهُ قَالَ ذَا قسمي، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ
أَنهم يَقُولُونَ لَاها الله ذَا لقد كَانَ كَذَا فيجيبون
بالمقسم عَلَيْهِ بعد هَذَا، وَالظَّاهِر أَن هَذَا من أبي بكر
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِالِاجْتِهَادِ وَهُوَ
بِحَضْرَتِهِ وَقد صَوبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، والْحَدِيث
فِي الصَّحِيحَيْنِ (وَتقدم أَن ترك الْيَقِين لطَالب
الصَّوَاب) ميلًا (إِلَى مُحْتَمل الْخَطَأ مُخْتَارًا يأباه
الْعقل) فَلَا يحمل صَنِيع أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
عَلَيْهِ. بل الِاعْتِمَاد على أَنه إِن كَانَ خطأ يردهُ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الصَّوَاب، فَيحصل الْيَقِين كَمَا
سيشير إِلَيْهِ (واجتهاد أبي بكر فِي هَذِه الْحَالة لَا
يسْتَلْزم تخييره) بَين الرُّجُوع إِلَى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَبَين الِاجْتِهَاد (مُطلقًا) فِي الْحُضُور
والغيبة للْفرق الظَّاهِر بَينهمَا، فَإِن التَّخْيِير فِي
الْحُضُور لَا يسْتَلْزم مَا يأباه الْعقل لِأَنَّهُ يَنْتَهِي
إِلَى الْيَقِين بتقريره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِن قلت
إِنَّمَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ إِذا لم يكن تَقْرِيره صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِالِاجْتِهَادِ قلت يَكْفِيهِ اجْتِهَاده صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بِخِلَاف اجْتِهَاده رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ فَإِنَّهُ لَا يَكْفِيهِ بِدُونِ تَقْرِيره، واجتهاده رد
أَبَا بكر واجتهاده إِلَى الصَّوَاب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَإِنَّمَا اجْتهد أَبُو بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
بِحَضْرَتِهِ (لعلمه) أَي أبي بكر (أَنه لكَونه بِحَضْرَتِهِ
إِن خَالف) الصَّوَاب فِي
(4/194)
اجْتِهَاده (رده) أَي أَبَا بكر واجتهاده
إِلَى الصَّوَاب (فَالْوَجْه جَوَازه) أَي الِاجْتِهَاد فِي
عصره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (للْغَائِب ضَرُورَة) لتعذر
الرُّجُوع إِلَيْهِ، أَو تعسره، وَخَوف فَوت الْحَادِثَة على
غير الْوَجْه الشَّرْعِيّ (والحاضر) مَعْطُوف على الْغَائِب:
أَي وَالْوَجْه جَوَازه لمن لم يكن غَائِبا عَنهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم غيبَة مَانِعَة عَن الرُّجُوع إِلَيْهِ
(بِشَرْط أَمن الْخَطَأ) أَي الْأَمْن من الْخَطَأ (وَهُوَ)
أَي أَمنه مِنْهُ يحصل (بِأحد أَمريْن: حَضرته) بِأَن يكون فِي
مَجْلِسه، أَو حَيْثُ يرَاهُ، أَو يطلع عَلَيْهِ (أَو أُذُنه)
لَهُ فِي الِاجْتِهَاد (كتحكيمه سعد بن معَاذ فِي بني
قُرَيْظَة) فَإِنَّهُ لما حكم بقتل الرِّجَال وَقسم
الْأَمْوَال وَسبي الذَّرَارِي وَالنِّسَاء، قَالَ لَهُ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لقد حكمت فيهم بِحكم الله
" كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي رِوَايَة " بِحكم الله
الَّذِي حكم بِهِ من فَوق سبع سموات "، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى
فِي الصَّحِيحَيْنِ " بِحكم الْملك ".
مسئلة
قد سبق أَن الِاجْتِهَاد يكون فِي العقليات، فَأخذ يبين مَا
يتَعَلَّق بذلك فَقَالَ: (العقليات) من الْأَحْكَام
الشَّرْعِيَّة (مَا لَا يتَوَقَّف) ثُبُوته (على سمع) أَي على
دَلِيل سَمْعِي من قبيل إِطْلَاق الْمصدر على الْمَنْسُوب
إِلَيْهِ مجَازًا، وَيجوز أَن يُرَاد بِهِ الْمَفْعُول أَو
الْمَعْنى المصدري: أَي على الِاسْتِمَاع من الشَّارِع،
وَهَذَا لَا يُنَافِي أَن يدل عَلَيْهِ السّمع أَيْضا (كحدوث
الْعَالم) أَي حُدُوثه ومسبوقيته بِالْعدمِ (وَوُجُود موجده)
أَي الْعَالم (تَعَالَى) مَوْصُوفا (بصفاته) الذاتية والإضافية
(وبعثة الرُّسُل، والمصيب من مجتهديها) أَي العقليات (وَاحِد
اتِّفَاقًا) لعدم إِمْكَان اجْتِمَاع النقيضين فَإِنَّهَا
مضمونات جزئية وكل من الْمُخَالفين على طرف من النقيضين
(والمخطئ) مِنْهُم (إِن) أَخطَأ (فِيمَا يَنْفِي مِلَّة
الْإِسْلَام) كلا أَو بَعْضًا (فكافر آثم مُطلقًا عِنْد
الْمُعْتَزلَة: أَي بعد الْبلُوغ وَقَبله) تَفْسِير للإطلاق
(بعد تأهله) أَي صَيْرُورَته أَهلا فَإِن قلت هَذَا الْقَيْد
مُسْتَغْنى عَنهُ فَإِن الْكَلَام فِي الْمُجْتَهد الْمُخطئ
قلت فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن شَرط الِاجْتِهَاد فِي العقليات
أَهْلِيَّة النّظر لِئَلَّا يتَوَهَّم كَونه مَشْرُوطًا بِمَا
هُوَ شَرط الِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام العملية (للنَّظَر
وبشرط الْبلُوغ) مَعْطُوف على مُطلقًا، أَو الْمَعْنى أَثم
مُطلقًا عِنْد الْمُعْتَزلَة وأثم لشرط الْبلُوغ (عِنْد من
أسلفنا) فِي فصل الْحَاكِم (من الْحَنَفِيَّة كفخر الْإِسْلَام
إِذا أدْرك) الْبَالِغ (مُدَّة التَّأَمُّل) وقدرها مفوض إِلَى
الله تَعَالَى فَإِن النَّاس متفاوتون فِي الْفِكر سرعَة
وَأَبْطَأ (إِن لم يبلغهُ سمع) حَقِيقَة أَو حكما بِأَن يكون
فِي دَار الْإِسْلَام (ومطلقا) مَعْطُوف على قَوْله إِذا أدْرك
فَهُوَ فِي معنى قَوْله مُقَيّدا، يَعْنِي الْمُخطئ فِيمَا
يَنْفِي مِلَّة الْإِسْلَام كَافِر عِنْد من أسلفنا بِشَرْط
الْبلُوغ مُطلقًا
(4/195)
أَي أدْرك مُدَّة التَّأَمُّل أَو لَا (إِن
بلغه) السّمع (وبشرط بُلُوغه) أَي السّمع إِيَّاه مَعْطُوف على
قَوْله بِشَرْط الْبلُوغ، يَعْنِي الْمُخطئ الْمَذْكُور كَافِر
بِشَرْط الْبلُوغ وبشرط بُلُوغ السّمع من غير الْتِفَات إِلَى
إِدْرَاك مُدَّة التَّأَمُّل (للأشعرية) أَي عِنْد الأشعرية،
وَفِي الْقَامُوس إِن اللَّام تَأتي بِمَعْنى عِنْد (وقدمناه)
أَي مثل هَذَا القَوْل نَاقِلا (عَن بُخَارى الْحَنَفِيَّة،
وَهُوَ الْمُخْتَار) لِأَن مِلَّة الْإِسْلَام كَانَت فِي حد
ذَاتهَا بِحَيْثُ إِذا تَأمل فِيهَا الْعقل - يكَاد زيتها يضيء
وَلَو لم تمسسه نَار} - فَإِذا تأيدت بالبلوغين صَارَت أظهر من
الشَّمْس، فَلم يبْق مجَال بعد ذَلِك لنفيها بِالِاجْتِهَادِ
إِذْ الِاجْتِهَاد إِنَّمَا يكون فِيمَا فِيهِ بعض غموض،
فالمعاند فِيهَا مكابر (وَإِن) كَانَ مَا أَخطَأ فِيهِ
(غَيرهَا أَي غير مِلَّة الْإِسْلَام (كخلق الْقُرْآن) فَعلم
أَن المُرَاد من مِلَّة الْإِسْلَام مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ
الْإِيمَان من العقائد إِجْمَاعًا، وَالْمرَاد القَوْل بخلقه
فَإِنَّهُ خطأ لكَونه من صِفَات الله عز وَجل وَصِفَاته
قديمَة، وَالْقَدِيم لَيْسَ بمخلوق، إِذْ كل مَخْلُوق حَادث
(وَإِرَادَة الشَّرّ) فَإِنَّهَا مِمَّا أَخطَأ فِيهَا
الْمُعْتَزلَة حَيْثُ نفوها، وَهِي غير الْملَّة بِالْمَعْنَى
الْمَذْكُور (فمبتدع آثم) وَلَا يخفى عَلَيْك أَن ذكر الْإِثْم
هَهُنَا فِي مَحَله لِأَن من الْبِدْعَة مَا لَيْسَ بإثم بل قد
تكون وَاجِبَة كعلم النَّحْو أَو مُسْتَحبَّة كبناء
الْمدَارِس، بِخِلَاف ذكره مَعَ الْكفْر كَمَا سبق فَإِنَّهُ
ذكر هُنَاكَ إِشَارَة إِلَى كَونه مُشْتَركا بَين أَقسَام
الْخَطَأ غير أَنه كَانَ الأولى تَقْدِيمه على الْكفْر لكَونه
بِمَنْزِلَة الْجِنْس: لَكِن قدم الْكفْر للاهتمام بِشَأْنِهِ
من حَيْثُ الِاحْتِرَاز عَنهُ (لَا كَافِر) لعدم كَون مَا ذكر
من ضروريات الدّين كَمَا لَا يخفى (وَسَيَأْتِي فِيهِ) أَي فِي
هَذَا النَّوْع (زِيَادَة) أَي زِيَادَة بَيَان، وَمَا عَن
الشَّافِعِي فِي تَكْفِير الْقَائِل بِخلق الْقُرْآن فجمهور
أَصْحَابه تأولوه على كفران النِّعْمَة صرح بِهِ النَّوَوِيّ
وَغَيره (وَأما) الْأَحْكَام (الْفِقْهِيَّة فمنكر
الضَّرُورِيّ) مِنْهَا، وَهُوَ الَّذِي يعرفهُ كل أحد حَتَّى
النِّسَاء وَالصبيان (كالأركان) أَي فَرضِيَّة الصَّلَاة
وَالزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج (وَحُرْمَة الزِّنَا وَالشرب)
للخمر، وَقتل النَّفس الْمُحرمَة (وَالسَّرِقَة كَذَلِك) أَي
كَافِر آثم لِأَن إِنْكَار مَا هُوَ من ضروريات مِلَّة
الْإِسْلَام يسْتَلْزم إنكارها بِاجْتِهَاد بَاطِل (لانْتِفَاء
شَرط الِاجْتِهَاد) وَهُوَ كَون الْمُجْتَهد فِيهِ نظريا بِأَن
لَا يكون خِلَافه بديهيا (فَهُوَ) أَي إِنْكَار ذَلِك
(إِنْكَار للمعلوم ابْتِدَاء) قبل النّظر. قَوْله ابْتِدَاء
مُتَعَلق بالإنكار وَيحْتَمل أَن يتَعَلَّق بالمعلوم، وَالْأول
أوجه. وَأما قَوْله (عنادا) فَهُوَ يتَعَلَّق بالإنكار قطعا
(و) مُنكر (غَيرهَا) أَي الضرورية (الْأَصْلِيَّة) بدل من
غَيرهَا أَو صفة لَهُ لكَون التَّعْرِيف فِيهَا لفظيا فَلَا
يضرّهُ كَون الْغَيْر نكرَة لعدم اكتسابه التَّعْرِيف لتوغله
فِي الْإِبْهَام، وَالْمرَاد بهَا الْأَحْكَام الَّتِي
يتَفَرَّع عَلَيْهَا مسَائِل فرعية (ككون الْإِجْمَاع حجَّة،
وَالْخَبَر) أَي خبر الْوَاحِد حجَّة فَهُوَ مَعْطُوف على
الْإِجْمَاع (وَالْقِيَاس) حجَّة (آثم) خبر الْمُبْتَدَأ،
أَعنِي مُنكر غَيرهَا. وَقَالَ
(4/196)
الْقَرَافِيّ وَقد خَالف جمع من
الْأَئِمَّة فِي مسَائِل ضَعِيفَة المدارك بِالْإِجْمَاع
السكوتي وَالْإِجْمَاع على الْحُرُوف وَنَحْوهَا فَلَا
يَنْبَغِي تأثيمه لِأَنَّهَا لَيست قَطْعِيَّة: كَمَا أَن لَا
نؤثم من يَقُول: الْعرض يبْقى زمانين أَو يَقُول بِنَفْي
الْخَلَاء وَإِثْبَات الملاء وَغير ذَلِك (بِخِلَاف حجية
لقرآن) وَالسّنة (فَإِنَّهُ) أَي إنكارها (كفر) فَإِنَّهُ من
ضروريات مِلَّة الْإِسْلَام، وإنكاره كإنكارها (و) مُنكر
(غَيرهَا) أَي الضرورية (الفرعية) إعرابه كإعراب الْأَصْلِيَّة
فَارْجِع إِلَيْهِ. أَي الْأَحْكَام (الفرعية) الاجتهادية
(فالقطع) حَاصِل على أَنه (لَا إِثْم) على الْمُخطئ فِيهَا
(وَهُوَ) أَي الْقطع بِنَفْي الْإِثْم (مُقَيّد بِوُجُود شَرط
حلّه) أَي الِاجْتِهَاد (من عدم كَونه فِي مُقَابلَة) دَلِيل
(قَاطع: نَص أَو إِجْمَاع وَلَا يعبأ) أَي لَا يعْتد (بتأثيم
بشر) المريسي (والأصم) أبي بكر وَابْن علية والظاهرية
والإمامية الْمُخطئ فِي الِاجْتِهَاد فِي الْفُرُوع لِأَن
الْحق فِيهَا مُتَعَيّن وَعَلِيهِ دَلِيل قَاطع، فَمن أَخطَأ
فَهُوَ آثم غير كَافِر، وَإِنَّمَا لَا يعبأ بِهِ (لدلَالَة
إِجْمَاع الصَّحَابَة على نَفْيه) أَي تأثيم الْمُخطئ فِيهَا
(إِذْ شاع اخْتلَافهمْ) فِي الْمسَائِل الاجتهادية، وَلَا بُد
من خطأ وَاحِد من المتناقضين (وَلم ينْقل تأثيم) من بَعضهم
لبَعض (وَلَو كَانَ) أَي لَو وجد الْإِثْم للمخطئ (لوقع) ذَلِك
لِأَنَّهُ أَمر خطير وَلَو ذكر لنقل واشتهر، وَلما لم ينْقل
تأثيم علم عدم الذّكر وَعدم الْإِثْم، وَيجوز أَن يكون
الْمَعْنى وَلَو كَانَ التأثيم لوقع ذكره عندنَا بِنَقْل
التأثيم (وَلَو استؤنس لَهما) أَي لبشر والأصم. وَالْمعْنَى
وَلَو طلب زَوَال الوحشة عَن كَلَامهمَا الْبعيد عَن الْأنس
(بقول ابْن عَبَّاس أَلا يتقى الله زيد بن ثَابت، يَجْعَل ابْن
الابْن ابْنا وَلَا يَجْعَل أَب الْأَب أَبَا أمكن) جَوَاب
لَو: أَي أمكن أَن يسْتَأْنس بِهِ قد جَاءَ فِي دَعْوَى
الْإِجْمَاع على عدم التَّأْثِير بِأَن يُقَال كَيفَ يتَحَقَّق
الْإِجْمَاع من الصَّحَابَة على عَدمه مَعَ وُقُوع التأثيم من
ابْن عَبَّاس فِي حق زيد (لكنه) أَي ابْن عَبَّاس (لم يتبع)
أَي لم يتبعهُ أحد (على مثله) أَي على مثل تأثيمه زيدا، وَلَا
يُمكن أَن يُقَال عدم الِاتِّبَاع لعدم وُقُوع مثل مَا وَقع من
زيد أَو اتبع لَكِن لم ينْقل إِلَيْنَا لندرته (إِذْ) عدد
(وقائع الْخلاف) من زمن الصَّحَابَة إِلَى انْقِرَاض
الْمُجْتَهدين (أَكثر من أَن تحصى) أَي من عدد مَا يدْخل تَحت
الْحصْر، وَكلمَة أَن مَصْدَرِيَّة، وَالْمرَاد بِالْمَصْدَرِ
المحصور والمضاف مَحْذُوف (وَلَا تأثيم) وَاقع فِي وَاقعَة
مِنْهَا من أحد لأحد، فَعدم الْإِنْكَار والتأثيم فِي كل عصر
إِجْمَاع من أهل ذَلِك الْعَصْر على خلاف مَا قَالَه ابْن
عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ (الجاحظ لَا
إِثْم على مُجْتَهد) نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي يعم كل
مُجْتَهد (وَلَو) كَانَ الْخَطَأ مِنْهُ وَاقعا (فِي نفي
الْإِسْلَام وَإِن) كَانَ ذَلِك النَّفْي للِاجْتِهَاد صادرا
(مِمَّن لَيْسَ مُسلما) كلمة إِن وصلية، وَمُقْتَضَاهُ ثُبُوت
نفي الْإِثْم عَن الْمُسلم الْمُؤَدى اجْتِهَاده إِلَى نفي
الْإِسْلَام بِالطَّرِيقِ الأولى، وَهُوَ غير ظَاهر، بل
الظَّاهِر أَن وُقُوع مثل هَذَا
(4/197)
الِاجْتِهَاد من الْمُسلم أَشد فِي
الْإِثْم لِأَنَّهُ قد ظهر عِنْده حقية الْإِسْلَام قبل هَذَا
الِاجْتِهَاد، وَيُمكن أَن يُجَاب عَنهُ بِأَن مَقْصُود الجاحظ
من نفي الْإِثْم عدم الخلود فِي النَّار وَعدم الخلود فِي حق
من لم يَتَّصِف بِالْإِسْلَامِ فَقَط أبعد من عَدمه فِي حق من
اتّصف بِهِ ثمَّ صدر مِنْهُ مَا لَيْسَ بإثم فَتَأمل (وتجري
عَلَيْهِ) أَي على النَّافِي الْمَذْكُور فِي الدُّنْيَا
(أَحْكَام الْكفَّار) لِأَنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى إِجْرَاء
أَحْكَام الْمُسلمين عَلَيْهِ لعدم الْإِسْلَام، وَلَا
وَاسِطَة فِي الدُّنْيَا بَين أَحْكَام الْكفَّار وَأَحْكَام
الْمُسلمين. فَإِذا انْتَفَى إِحْدَاهمَا تعين الْأُخْرَى
(وَهُوَ) أَي نفي الْإِثْم (مُرَاد الْعَنْبَري بقوله
الْمُجْتَهد) أَي كل مُجْتَهد (فِي العقليات مُصِيب، وَإِلَّا)
أَي وَإِن لم يكن مُرَاده من الْإِصَابَة نفي الْإِثْم (اجْتمع
النقيضان فِي نفس الْأَمر) لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يلْزم أَن يكون
مُرَاده مُطَابقَة مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده نفس الْأَمر،
إِذْ لَا سَبِيل إِلَى مَا يُرَاد بهَا فِي العمليات، وَهُوَ
كَون مَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد حكم الله تَعَالَى
بِمَعْنى خطابه الْمُتَعَلّق بِفعل العَبْد يجوز أَن يكون
مُتَعَلق خطاب الْمُجْتَهد مُخَالفا لمتعلق خطاب مُجْتَهد آخر
فِي مسئلة وَاحِدَة، وَذَلِكَ لِأَن الْمَطْلُوب فِيهَا
الْعَمَل بِخِلَاف العقليات. فَإِن الْمَطْلُوب فِيهَا
الِاعْتِقَاد كمضمون خبري مُطَابق للْوَاقِع فَلَا يتَصَوَّر
أَن يكون الْمَطْلُوب من زيد اعْتِقَاد حُدُوث الْعَالم وَمن
عَمْرو قدمه لِأَن أَحدهمَا غير مُطَابق قطعا، وَإِنَّمَا
قَالَ فِي نفس الْأَمر احْتِرَازًا عَن اجْتِمَاعهمَا فِي
المطلوبية صُورَة كَمَا فِي العمليات، وَإِنَّمَا قُلْنَا
صُورَة إِذْ لَيْسَ الْمَطْلُوب من الآخر حَقِيقَته لعدم
اتِّحَاد الْمَطْلُوب مِنْهُ، هَذَا وَفِيه رد على السُّبْكِيّ
حَيْثُ نفى أَن يكون مُرَاد الْعَنْبَري نفي الْإِثْم، فَإِن
ذَلِك مَذْهَب الجاحظ، بل كَون مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده
حكم الله وَافق نفس الْأَمر أَولا، وَوَافَقَهُ الْكرْمَانِي،
ورد عَلَيْهِمَا الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ بِأَن الْكَلَام
فِي العقليات الَّتِي لَا دخل فِيهَا لوضع الشَّارِع ككون
الْعَالم قَدِيما وَكَون الصَّانِع مُمكن الرُّؤْيَة. ثمَّ قيل
أَنه عمم فِي العقليات بِحَيْثُ شَمل أصُول الديانَات وَأَن
الْيَهُود وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس على صَوَاب. وَقيل
أُصُولهَا الَّتِي يخْتَلف فِيهَا أهل الْقبْلَة، وَهَذَا
وَإِن كَانَ أنسب بِحَال الْمُسلم غير أَن دليلهم يُفِيد
التَّعْمِيم كَمَا سَيَجِيءُ. (لنا إِجْمَاع الْمُسلمين قبل
الْمُخَالف) أَي الجاحظ والعنبري وَمن تبعهما (من الصَّحَابَة
وَغَيرهم) بَيَان للْمُسلمين (من لَدنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم) مُتَعَلق بِمَحْذُوف هُوَ حَال من الْإِجْمَاع أَي
مبتدئا من زَمَانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى زمَان
الْمُخَالف، ترك ذكر الْغَايَة للظهور (وهلم عصرا تلو عصر)
أَرَادَ بِهِ اسْتِيعَاب الْأَعْصَار فِيمَا بَين الْمُبْتَدَأ
والمنتهى الْمَذْكُورين، وهلم اسْم فعل، وعصرا مَفْعُوله،
يَعْنِي أحضر عصرا بعد عصر فِي نظرك إِلَى أَن تستوعب
الْأَعْصَار، فَهَلُمَّ اسْم فعل لَا يتَصَرَّف، أَصله هالم
بِمَعْنى اقصد حذفت الْألف (على قتال الْكفَّار) مُتَعَلق
بِالْإِجْمَاع (وَأَنَّهُمْ فِي النَّار) مَعْطُوف على
الْقِتَال (بِلَا فرق بَين مُجْتَهد ومعاند) وَهُوَ الَّذِي
اخْتَار الْكفْر
(4/198)
من غير اجْتِهَاد مُكَابَرَة (مَعَ علمهمْ)
أَي الْمُسلمين المجمعين (بِأَن كفرهم لَيْسَ بعد ظُهُور حقية
الْإِسْلَام لَهُم) مُتَعَلق بالظهور، وَالضَّمِير للْكفَّار،
فَلَا يرد أَن إِجْمَاع الْمُسلمين على قِتَالهمْ إِنَّمَا
هُوَ مَبْنِيّ على اجتهادهم بعد ظُهُور حقيته كاجتهاد من
يجْتَهد فِي الْفُرُوع فِي مُقَابلَة الْقطع فِي عدم الصِّحَّة
كَمَا أَن صِحَة الِاجْتِهَاد فِي الْفُرُوع مَوْقُوفَة على
عدم الْقطع فِي مَحل الِاجْتِهَاد فَكَذَلِك صِحَّته فِي
الْأُصُول أَعنِي العقائد مَوْقُوفَة على عدم حقيتها، وَمن
هَذَا لَا يلْزم عدم صِحَة الِاجْتِهَاد فِيهَا إِذا لم تظهر
حقيتها قبل الِاجْتِهَاد، فَلَا يلْزم بطلَان مَذْهَب الجاحظ
لِأَن مُرَاده عدم الْإِثْم على من يجْتَهد اجْتِهَادًا
صَحِيحا (وَالْأول) أَي الْإِجْمَاع على قِتَالهمْ (لَا
يجْرِي) دَلِيلا على تأثيم الْمُجْتَهد مِنْهُم بِنَاء (على)
رَأْي (الْحَنَفِيَّة الْقَائِلين) ب (وُجُوبه) أَي وجوب
قِتَالهمْ (لكَوْنهم حَربًا) أَي عدوا مُحَاربًا، يَسْتَوِي
فِيهِ الْجمع وَالْوَاحد وَالذكر وَالْأُنْثَى (علينا لَا
لكفرهم) يَعْنِي لَو كَانَ سَبَب قتال الْكفَّار الَّذين أدّى
اجتهادهم إِلَى الْكفْر كفرهم كَانَ يلْزم تأثيمهم لِأَن
الْكفْر الَّذِي لَا إِثْم فِيهِ لَا يصلح سَببا لِلْقِتَالِ،
وَأما إِذا كَانَ سَببه دفع غلبتهم الْمُوجبَة لهدم
الْإِسْلَام فَلَا يلْزم كَونهم آثمين فِي كفرهم الَّذِي أدّى
إِلَيْهِ اجتهادهم، فَلَيْسَ للحنفية أَن يحتجوا على الجاحظ
بِالْإِجْمَاع على الْقِتَال (وَإِنَّمَا لَهُم الْقطع) فِي
تأثيمهم على الْإِطْلَاق سَوَاء كفرهم بِالِاجْتِهَادِ أَو لَا
(بالعمومات) الدَّالَّة على ذَلِك (مثل) قَوْله تَعَالَى و (
{ويل للْكَافِرِينَ} ) فَإِنَّهُ يعم الْمُجْتَهد وَغَيره
وَقَوله تَعَالَى ( {وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا فَلَنْ
يقبل مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَة من الخاسرين} ) سَوَاء كَانَ
ابتغاؤه لذَلِك بِالِاجْتِهَادِ أَو لَا، وَهَذَا الْقطع
(إِمَّا من الصِّيغَة) الْمَوْضُوعَة للْعُمُوم كالمحلى بلام
الِاسْتِغْرَاق والموصول كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّة من
أَن مَدْلُول الْعَام قَطْعِيّ (أَو) من (الاجماعات) الكائنة
من الصَّدْر الأول من قبل ظُهُور الْمُخَالف (على عدم
التَّفْصِيل) فِي كفرهم وَعدم الْفرق بَين أَن يكون عَن
اجْتِهَاد وَبَين أَن لَا يكون عَنهُ، وَهَذَا من قبل الْكل
الْحَنَفِيَّة وَغَيرهم. (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بِنَفْي
الْإِثْم عَن الْمُجْتَهد فِي الْإِسْلَام (تكليفهم) أَي
مجتهدي الْكفَّار (بنقيض مجتهدهم) على صِيغَة الْمَفْعُول: أَي
بنقيض مَا أدّى إِلَيْهِ اجتهادهم، وَهُوَ الْإِسْلَام فَفِيهِ
حذف واتصال، أَصله مُجْتَهد فِيهِ تَكْلِيف (بِمَا لَا يُطَاق
لِأَنَّهُ) أَي نقيض مجتهدهم وَهُوَ التَّصْدِيق الإسلامي
(كَيفَ) غير اخْتِيَاري فَإِنَّهُ علم، وَالْعلم من مقولة
الكيف (لَا فعل) وَهُوَ التَّأْثِير لقَوْله الكيف الصَّادِر
اخْتِيَارا، فَإِذا لم يكن مجتهدهم مُكَلّفا بخصوصية
الْإِسْلَام. وَلَا شكّ أَنه مُكَلّف (فالمكلف بِهِ
اجْتِهَاده) فِي تَحْصِيل الْإِسْلَام (وَقد فعل) مَا كلف بِهِ
فَخرج عَن عُهْدَة الِامْتِثَال فَلَا إِثْم عَلَيْهِ.
(الْجَواب منع فعله) أَي لَا نسلم أَنه فعل مَا كلف بِهِ (إِذْ
لَا شكّ أَن على هَذَا الْمَطْلُوب) الَّذِي هُوَ الْإِسْلَام
(أَدِلَّة قَطْعِيَّة ظَاهِرَة) فِي نفس الْأَمر بِحَيْثُ (لَو
وَقع النّظر فِي موادها)
(4/199)
الْمَوْجُودَة فِي الْأَنْفس والآفاق
المنادية بِلِسَان الْحَال أَن الطَّرِيق هَكَذَا لَا
يتَغَيَّر لظاهره كَالشَّمْسِ فِيمَا يتَعَلَّق بِالْعقلِ،
وَالْخَبَر كالمتواتر فِيمَا يتَعَلَّق بِالسَّمْعِ
(لَزِمَهَا) جَوَاب لَو: أَي لزم الْمَطْلُوب الْمَذْكُور
الْموَاد الْمَذْكُورَة على تَقْدِير النّظر (قطعا) فَكيف يكون
ممتثلا الْأَمر بِالِاجْتِهَادِ وَلم يفتح بَصَره إِلَى تِلْكَ
الْموَاد: إِذْ لَو فتح لرآها لكَمَال ظُهُورهَا (فَإِذا لم
يثبت) الْمَطْلُوب عِنْد الْمَأْمُور بِالِاجْتِهَادِ (علم
أَنه) أَي عدم ثُبُوته عِنْده (لعدم) تحقق (الشُّرُوط)
الْمُعْتَبرَة فِي النّظر، وَلَيْسَ عدم تحققها لكَمَال غموضها
وَعجز الْمُكَلف عَن الْوُصُول إِلَيْهَا، بل (بالتقصير) وَعدم
الِالْتِفَات إِلَى مَا يرشده إِلَى الْمَطْلُوب لانهماكه فِي
مطمورة تَقْلِيد الْآبَاء، وَهُوَ بمعزل عَن دَائِرَة
الِاجْتِهَاد، وَأَنا أضْرب لَك (مثلا) فِي هَذَا فَأَقُول (من
بلغه بأقصى فَارس) الْبَاء بِمَعْنى فِي وَهُوَ ظرف للبلوغ
(ظُهُور مدعي نبوة) فَاعل بلغ (ادّعى نسخ شريعتكم) قَوْله
ادّعى صفة لمُدعِي النُّبُوَّة وخطاب شريعتكم إِنَّمَا هُوَ
فِي كَلَام الْمبلغ ذكر على سَبِيل الْحِكَايَة (لزمَه) أَي
الَّذِي بلغه فِي أقْصَى فَارس (السّفر) أَن يُسَافر (إِلَى
مَحل ظُهُور دَعوته) كبلاد الْعَرَب (لينْظر أتواتر وجوده
ودعواه) فَإِن أَخْبَار الْآحَاد لَا تفِيد الْقطع (ثمَّ
أتواتر من) أَخْبَار (صِفَاته وأحواله مَا يُوجب الْعلم
بنبوته، فَإِذا اجْتهد) اجْتِهَادًا (جَامعا للشروط قَطعنَا
من) مُقْتَضى (الْعَادة أَنه يلْزمه) أَي الْمُجْتَهد
الْجَامِع لَهَا (علمه بِهِ) أَي الْمَطْلُوب (لفرض وضوح
الْأَدِلَّة) وضوحا لَا يخفى على من لَهُ أدنى مرتبَة من
الِاجْتِهَاد (وَلَو اجْتهد) من بلغه مَا ذكر (فِي مَكَانَهُ
فَلم يجْزم بِهِ) أَي بِمَا أخبر عَنهُ (لَا يعْذر لِأَنَّهُ)
أَي اجْتِهَاده (فِي غير مَحَله) أَي ظُهُور دَعوته
(وَالْحَاصِل أَنه كلف بِالنّظرِ الصَّحِيح) المستجمع شُرُوطه
(وَلم يَفْعَله) أَي مَا كلف بِهِ من النّظر الصَّحِيح. (وَأما
الْجَواب) عَن حجتهم (بِمَنْع كَون نقيض اعْتِقَادهم) أَي
معتقدهم الَّذِي أدّى إِلَيْهِ اجتهادهم (غير مَقْدُور إِذْ
ذَاك) تَعْلِيل للْمَنْع: أَي الَّذِي لَا يجوز التَّكْلِيف
بِهِ لكَونه غير مَقْدُور لِأَنَّهُ هُوَ (الْمُمْتَنع عَادَة)
أَي امتناعا عاديا (كالطيران وَحمل الْجَبَل) وَمَا نَحن فِيهِ
لَيْسَ مِنْهُ (وَمَا ذكرُوا من الِامْتِنَاع) فَهُوَ مَعْطُوف
على مَدْخُول الْبَاء: أَي وَأما الْجَواب بِمَا ذكر من
الِامْتِنَاع فِي تكليفهم بنقيض مجتهدهم (بِشَرْط وصف
الْمَوْضُوع) خبر الْمَوْصُول، يَعْنِي أَن الِامْتِنَاع
الَّذِي ادعيتموه إِنَّمَا يَصح إِذا أخذت الْقَضِيَّة
الْمَذْكُورَة فِي الدَّلِيل مَشْرُوطَة بِشَرْط الْوَصْف
العنواني، تَقْرِيره (هَكَذَا مُعْتَقد) بِصِيغَة اسْم
الْفَاعِل (ذَلِك الْكفْر) الَّذِي أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده
(يمْتَنع اعْتِقَاده غَيره) أَي غير معتقده (مَا دَامَ) ذَلِك
المعتقد (معتقده والمكلف بِهِ) أَي الَّذِي كلف بِهِ الْكَافِر
الْمُجْتَهد إِنَّمَا هُوَ (الْإِسْلَام) مُطلقًا، لَا
الْإِسْلَام عِنْد وجود معتقده حَتَّى يمْنَع تَكْلِيفه
وَالْحَاصِل أَن الْمُمْتَنع اعْتِقَاد النقيض مَعَ وجود
اعْتِقَاد
(4/200)
النقيض الآخر، وَأما عِنْد زَوَال
الِاعْتِقَاد عَن أحد النقيضين فَلَا يمْتَنع أَن يعْتَقد
النقيض الآخر (وَهُوَ) أَي الْإِسْلَام مُطلقًا لَا مُقَيّدا
بِمَا ذكر (مَقْدُور) للمكلف بِهِ (لَا يزِيل الشغب) وَهُوَ
تهييج الشَّرّ فِي الأَصْل، وَالْمرَاد أَن الْجَواب بِمَا ذكر
من الْأَمريْنِ لَا يزِيل الْخُصُومَة بَين الْفَرِيقَيْنِ
(إِذْ يُقَال التَّكْلِيف) لمجتهدي الْكفَّار (بِالِاجْتِهَادِ
لاستعلام ذَلِك) أَي طلب الْعلم بِمَا يُؤمن بِهِ بِأَن
يُؤَدِّي اجْتِهَاده إِلَيْهِ (فَإِذا لم يؤد) الِاجْتِهَاد
(إِلَيْهِ) أَي إِلَى مَا هُوَ الْمَطْلُوب (لَو لزم) على
الْمُجْتَهد الَّذِي لم يؤد اجْتِهَاده إِلَيْهِ بل إِلَى
نقيضه (كَانَ) ذَلِك اللَّازِم الْمُكَلف بِهِ تكليفا (بِمَا
لَا يُطَاق) فَلَا وَجه حِينَئِذٍ لِأَن يُقَال حِينَئِذٍ: لَا
نسلم أَن نقيض اعْتِقَادهم غير مَقْدُور، إِذْ ذَاك
الْمُمْتَنع عَادَة، لِأَن من اجْتهد وَآل اجْتِهَاده إِلَى
الْكفْر وَلم يظْهر لَهُ سواهُ فَهُوَ عَاجز عَن الْإِيمَان
كمن هُوَ عَاجز عَن الطيران، أَو يُقَال الِامْتِنَاع بِشَرْط
الْوَصْف، فَإِن الْوَصْف إِذا كَانَ لَازِما للموضوع
يَسْتَحِيل أَن يُفَارق، فَكيف يطْلب من موصوفه الاتصاف
بِخِلَافِهِ؟
مسئلة
قَالَ (الجبائي) رَئِيس الْمُعْتَزلَة (وَنسب إِلَى
الْمُعْتَزلَة) كلهم مقول القَوْل، ونائب الْفَاعِل فِي نسب
على سَبِيل التَّنَازُع قَوْله (لَا حكم فِي المسئلة
الاجتهادية) أَي الَّتِي لَا قَاطع فِيهَا من نَص أَو إِجْمَاع
(قبل الِاجْتِهَاد سوى إِيجَابه) أَي الِاجْتِهَاد فِيهَا
(بِشَرْطِهِ) أَي الْإِيجَاب إِمَّا عينا بِأَن خَافَ فَوت
الْحَادِثَة الَّتِي استفتى فِيهَا على غير الْوَجْه
الشَّرْعِيّ لَو لم يكن ثمَّ غَيره من الْمُجْتَهدين، أَو
الَّتِي نزلت بِهِ، أَو كِفَايَة لَو لم يخف، وَثمّ غَيره على
مَا مر (فَمَا أدّى) الِاجْتِهَاد (إِلَيْهِ) من الظَّن
الْحَاصِل بِهِ (تعلق) الحكم الشَّرْعِيّ بِتِلْكَ المسئلة
ويتحقق حِينَئِذٍ (وَلَا يمْتَنع تبعيته) أَي الحكم
(للِاجْتِهَاد لحدوثه) أَي الحكم (عِنْدهم) أَي الْمُعْتَزلَة.
وَقَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ: وَقد ينْسب ذَلِك إِلَى
الْأَشْعَرِيّ بِمَعْنى أَنه لم يتَعَلَّق الحكم بالمسئلة قبل
الِاجْتِهَاد، وَإِلَّا فَالْحكم قديم عِنْده انْتهى. (و)
قَالَ (الباقلاني وَطَائِفَة) من الْأُصُولِيِّينَ (الثَّابِت
قبله) أَي الِاجْتِهَاد (تعلق مَا يتَعَيَّن بِهِ) أَي أَن حكم
الله تَعَالَى تعلق إِجْمَالا بِمَا سيتعين بِالِاجْتِهَادِ:
كَأَنَّهُ قَالَ لَو أوجبت عَلَيْك الْعَمَل بِمَا يُؤَدِّي
إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد (وَإِذ علمه) تَعَالَى (مُحِيط بِمَا
سيتعين) بعد الِاجْتِهَاد من الحكم (أمكن كَون الثَّابِت) فِي
نفس الْأَمر وَفِي علم الله تَعَالَى (تعلق) حكم (معِين فِي حق
كل) من الْمُجْتَهدين (وَهُوَ) أَي ذَلِك الْمعِين (مَا علم)
الْمُحِيط بِمَا سيتعين (أَنه يَقع) ويستقر (عَلَيْهِ
اجْتِهَاده) غَايَة الْأَمر أَن علم الْمُجْتَهد بالتعين
إِنَّمَا يحصل بعد الِاجْتِهَاد، وَلَا يُقَال هَذَا تَكْلِيف
بِالْمَجْهُولِ، وَهُوَ لَيْسَ فِي وَسعه. لِأَنَّهُ إِنَّمَا
يلْزم التَّكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق إِذا لم يكن لَهُ طَرِيق
إِلَى الْعلم بِهِ
(4/201)
وَطَرِيقَة الِاجْتِهَاد، فَمن لم يثبت
الحكم الْمعِين قبل الِاجْتِهَاد لم يتفطن لهَذِهِ الدفعة
(وَإِذ وَجب الِاجْتِهَاد) فِي المسئلة الاجتهادية على
الْمُجْتَهدين (تعدد الحكم) فِيهَا (بتعددهم) وَاخْتِلَاف
آرائهم الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا اجتهادهم، وَعدم جَوَاز
بتقليد بَعضهم بَعْضًا. (وَالْمُخْتَار) عِنْد الْمُحَقِّقين
من أهل الْحق أَن حكم الْوَاقِعَة الْمُجْتَهد فِيهَا قبل
الِاجْتِهَاد (حكم معِين أوجب) الله تَعَالَى (طلبه) على من
لَهُ أَهْلِيَّة الِاجْتِهَاد (فَمن أَصَابَهُ) أَي ذَلِك
الْمعِين فَهُوَ (الْمُصِيب) لإصابته إِيَّاه (وَمن لَا)
يُصِيبهُ فَهُوَ (الْمُخطئ) لعدم إِصَابَته. (وَنقل عَن)
الْأَئِمَّة (الْأَرْبَعَة) هَذَا الْمُخْتَار (ثمَّ)
الْمَذْهَب (الْمُخْتَار أَن الْمُخطئ مأجور) أجرا وَاحِدًا
لاجتهاده، بِخِلَاف الْمُصِيب فَإِن لَهُ أَجْرَيْنِ:
لاجتهاده، وإصابته (و) نقل (عَن طَائِفَة) أَنه (لَا أجر)
للمخطئ (وَلَا إِثْم) عَلَيْهِ (وَلَعَلَّه) أَي الْخلاف فِي
وجود الْأجر (لَا يتَحَقَّق) فِي نفس الْأَمر (فَإِن القَوْل
بأجره لَيْسَ على خطئه) فَمن قَالَ مأجور لم يقل إِنَّه مأجور
لخطئه (بل لامتثاله أَمر الِاجْتِهَاد، وَثُبُوت ثَوَاب ممتثل
الْأَمر مَعْلُوم من الدّين) ضَرُورَة (لَا يَتَأَتَّى نَفْيه)
فَكيف يَنْفِيه الْقَائِل بنفيه، فَتعين أَن مُرَاده نفى
الْأجر لخطئه (وإثم خطئه مَوْضُوع) أَي مَرْفُوع عَنهُ
(اتِّفَاقًا) فَلَا يرد أَن الْإِثْم فِي اجْتِهَاده فَكيف
يَنْفِيه الْقَائِل بنفيه، فَتعين أَن مُرَاده نفي الْأجر
لخطئه وإثم خطئه مَوْضُوع يُؤجر (فَهُوَ الأول) أَي القَوْل
الثَّانِي عين القَوْل الأول بِحَسب الْمَآل (وَهَذَانِ)
الْقَوْلَانِ مبنيان (على أَن عَلَيْهِ) أَي على الحكم
الْمعِين (دَلِيلا ظنيا) وَعَلِيهِ أَكثر الْفُقَهَاء وَكثير
من الْمُتَكَلِّمين (وَقيل) بل عَلَيْهِ دَلِيل (قَطْعِيّ،
والمخطئ آثم) كَأَنَّهُ زعم فِيهِ بعض تَقْصِير فِي
اجْتِهَاده، وَلَا يخفى مَا فِيهِ، وَهُوَ (قَول بشر والأصم،
وَقيل غير آثم لخفائه) أَي الدَّلِيل الْقطعِي، قيل وَمَال
إِلَيْهِ الماتريدي، وَنسبه إِلَى الْجُمْهُور. (وَنقل
الْحَنَفِيَّة الْخلاف) فِي (أَنه) أَي الْمُخطئ (مُخطئ
ابْتِدَاء وانتهاء، أَو انْتِهَاء) فَقَط (وَهُوَ) أَي كَونه
مُخطئ انْتِهَاء فَقَط (الْمُخْتَار) وَعَزاهُ بَعضهم إِلَى
الشَّافِعِي. وَقَوله نقل الْحَنَفِيَّة مُبْتَدأ خَبره (لَا
يتَحَقَّق) لعدم معقوليته (إِذْ الِابْتِدَاء بِالِاجْتِهَادِ)
وبذل المجهود لنيل الْمَقْصُود (وَهُوَ) أَي الْمُجْتَهد
(بِهِ) أَي بِاجْتِهَادِهِ (مؤتمر) أَي ممتثل لما أَمر بِهِ
بِقدر وَسعه (غير مُخطئ بِهِ) أَي بِهَذَا الائتمار وبذل الوسع
(قطعا) كَيفَ وَهُوَ آتٍ بِمَا كلف بِهِ (وَإِن حمل) كَونه
مخطئا ابْتِدَاء (على خطئه) أَي الْمُجْتَهد (فِيهِ) أَي
الِاجْتِهَاد (لَا خلاله) أَي الْمُجْتَهد (بِبَعْض شُرُوط
الصِّحَّة) أَي صِحَة الدَّلِيل الْموصل إِلَى الحكم الْمعِين
عِنْد الله تَعَالَى من حَيْثُ الْمَادَّة أَو الصُّورَة
(فاتفاق) أَي فالمحمول عَلَيْهِ مُتَّفق عَلَيْهِ، وَهُوَ عين
القَوْل الْمُخْتَار، فَلَا خلاف فِي الْمَعْنى بَين من يَقُول
ابْتِدَاء وانتهاء، وَبَين من يَقُول انْتِهَاء، وَإِنَّمَا
الْخلاف فِي التَّسْمِيَة فَقَط، فَعلم أَن نقل الْخلاف غير
صَحِيح (لنا) على الْمَذْهَب الْمُخْتَار أَن لله تَعَالَى
(4/202)
حكما معينا فِي مَحل الِاجْتِهَاد يُصِيبهُ
تَارَة ويخطئه أُخْرَى، وَلَيْسَ كل مَا أدّى إِلَيْهِ
الِاجْتِهَاد حكم الله تَعَالَى فِي نفس الْأَمر (لَو كَانَ
الحكم) أَي خطاب الله تَعَالَى الْمُتَعَلّق بِفعل العَبْد
هُوَ عين (مَا) أدّى الِاجْتِهَاد (إِلَيْهِ كَانَ)
الْمُجْتَهد (بظنه) الْحَاصِل بِالِاجْتِهَادِ (يقطع
بِأَنَّهُ) أَي المظنون الَّذِي أدّى إِلَيْهِ (حكمه تَعَالَى)
وَالثَّانِي بَاطِل يدل على بُطْلَانه قَوْله (وَالْقطع)
حَاصِل (بِأَن الْقطع) بِأَن مظتونه حكمه تَعَالَى (مَشْرُوط
بِبَقَاء ظَنّه) الْحَاصِل بِالِاجْتِهَادِ، لِأَن الَّذِي علم
قطعا أَن مظنونه عين حكم الله تَعَالَى فِي حَقه كَيفَ
يتَصَوَّر أَن يتَحَوَّل عَنهُ بِأَن يشك فِيهِ أَو يظنّ
خِلَافه فَإِن قلت: لم لَا يجوز أَن يكون قطعه بِكَوْن المظنون
حكم الله تَعَالَى فِي حَقه مُقَيّدا بِعَدَمِ طرُو مَا
يُنَافِي ذَلِك الظَّن من شكّ أَو ظن بِخِلَافِهِ، وَعند طروه
يتَغَيَّر حكم الله تَعَالَى فِي حَقه إِلَى بدل أَن تعلق
ظَنّه بِخِلَاف مُتَعَلق الظَّن الأول أَولا إِلَى بدل أَن لم
يتَعَلَّق قلت: يلْزم حِينَئِذٍ تعدد حكم الله تَعَالَى فِي
حَادِثَة وَاحِدَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى شخص وَاحِد والنسخ،
وَسَيَجِيءُ تَفْصِيله (وَالْإِجْمَاع) مُنْعَقد (على جَوَاز
تغيره) أَي الظَّن الْمَذْكُور بِأحد الْوَجْهَيْنِ (وَوُجُوب
الرُّجُوع) عَن الظَّن الْمَذْكُور مَعْطُوف على مَدْخُول على
الْمُتَعَلّقَة بِالْإِجْمَاع (وَأَنه) أَي الْمُجْتَهد (لم
يزل عِنْد ذَلِك الْقطع) أَي الْقطع بِأَنَّهُ حكمه تَعَالَى.
قَوْله أَنه لم يزل مَعْطُوف على بَقَاء ظَنّه، وَالْمرَاد
بِاشْتِرَاط الْقطع بِكَوْنِهِ لم يزل عِنْده لُزُوم هَذَا
الْكَوْن لَهُ، فَلَا يرد أَنه لَا وَجه لتقديم هَذَا الْكَوْن
على الْقطع (وإنكاره) أَي إِنْكَار بَقَاء الظَّن وَعدم جزم
مزيل لَهُ (بهت) أَي مُكَابَرَة، يجوز أَن يكون الْمَعْنى
وإنكار لُزُوم كَونه لم يزل عِنْد ذَلِك الْقطع للْقطع
بِأَنَّهُ حكم الله تَعَالَى فِي حَقه بهت، لِأَن الْعلم
الْقطعِي لَا يتَغَيَّر: وَهَذَا أظهر من حَيْثُ الْعبارَة،
لَكِن القَاضِي عضد الدّين صدر بِهِ فِي شرح الْمُخْتَصر
بِالْمَعْنَى الأول (فيجتمع الْعلم) الْقطعِي بِأَنَّهُ حكم
الله تَعَالَى (وَالظَّن) بِأَنَّهُ حكمه تَعَالَى (فيجتمع
النقيضان: تَجْوِيز النقيض) اللَّازِم لحقيقة الظَّن
الْمُتَعَلّق بِأَنَّهُ حكم الله تَعَالَى (وَعَدَمه) أَي عدم
تَجْوِيز النقيض اللَّازِم لحقيقة الْعلم وَالْقطع بِأَنَّهُ
حكمه، وَيحْتَمل أَن يُرَاد الْعلم وَالظَّن المتعلقان بِمَا
أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد ومآلهما وَاحِد حَاصِل
الِاسْتِدْلَال أَن كَون مَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد حكم
الله تَعَالَى فِي حَقه يسْتَلْزم الْقطع المستلزم للمحظورات
الثَّلَاث لُزُوم بَقَاء الظَّن وَالْإِجْمَاع على عدم لُزُومه
واستمرار الْقطع المزيل للظن وإنكار بَقَاء الظَّن بهت،
واجتماع الْعلم وَالظَّن المستلزم لِاجْتِمَاع النقيضين
(وإلزام كَونه) أَي كَون اجْتِمَاع النقيضين (مُشْتَرك
الْإِلْزَام) بِأَن الْإِجْمَاع مُنْعَقد على وجوب اتِّبَاع
الظَّن، فَيجب الْفِعْل إِذا ظن الْوُجُوب قطعا، وَيحرم إِذا
ظن الْحُرْمَة قطعا، ثمَّ شَرط الْقطع بَقَاء الظَّن بِمَا
ذكرْتُمْ، فَيلْزم الظَّن وَالْقطع مَعًا، ويجتمع النقيضان
(مُنْتَفٍ) خبر الْمُبْتَدَأ (لاخْتِلَاف مَحل الظَّن) أَي
مُتَعَلّقه على الْمَذْهَب الْحق (وَهُوَ)
(4/203)
أَي مَحل الظَّن (حكمه) تَعَالَى (أَي
خطابه) الْمَطْلُوب بِالِاجْتِهَادِ (وَالْعلم) مَعْطُوف على
الظَّن (وَهُوَ) أَي مَحل الْعلم (حُرْمَة مُخَالفَته) أَي
المظنون (بِشَرْط بَقَاء ظَنّه) أَي الحكم أَو الْمُجْتَهد
(فَهُنَا) أَي فِي المسئلة الاجتهادية (خطابان) : أَحدهمَا
الْخطاب (الثَّابِت فِي نفس الْأَمر) قبل الِاجْتِهَاد
الْمُؤَدِّي إِلَى الظَّن لما عرفت. من أَن لله تَعَالَى فِي
كل حَادِثَة حكما معينا وخطابا مُتَعَلقا بِفعل العَبْد
(وَهُوَ) أَي الثَّابِت فِي نفس الْأَمر (المظنون) أَي الَّذِي
بذل الْمُجْتَهد وَسعه فِي تَحْصِيله فَظن أَنه كَذَا لما أدّى
إِلَيْهِ اجْتِهَاده. لَا يُقَال مَا أدّى إِلَيْهِ تَارَة
يكون على خلاف الثَّابِت فِي نفس الْأَمر، فَكيف يحكم بِأَن
الثَّابِت هُوَ المظنون؟ . لأَنا نقُول: لَيْسَ المُرَاد
بالمظنون الحكم الَّذِي أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده، بل
الثَّابِت الَّذِي ظن مُطَابقَة مَا أدّى إِلَيْهِ إِيَّاه.
(و) ثَانِيهمَا (تَحْرِيم تَركه) أَي المظنون الَّذِي أدّى
إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد (ويلازمه) أَي تَحْرِيم التّرْك
(إِيجَاب الْفَتْوَى بِهِ) أَي بالمظنون (وهما) أَي كل وَاحِد
من تَحْرِيم التّرْك وَإِيجَاب الْفَتْوَى (مُتَعَلقَة)
بِكَسْر اللَّام: أَي مُتَعَلق المظنون الَّذِي أدّى
الِاجْتِهَاد إِلَيْهِ (الْمَعْلُوم) صفة مُتَعَلقَة،
وَفَائِدَته الْإِشْعَار بِأَن كلا مِنْهُمَا حكم مَعْلُوم
بِعَيْنِه قطعا، بِخِلَاف الثَّابِت فَإِنَّهُ لم يتَعَلَّق
بِهِ الْعلم وَأَن تعلق بِهِ الظَّن (بِخِلَاف) قَول (المصوبة)
فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الخطابان على مَا ذكرنَا
(فَإِن الحكم فِي نفس الْأَمر) عِنْدهم (لَيْسَ إِلَّا مَا
تأدى) الِاجْتِهَاد (إِلَيْهِ) لأَنهم لم يثبتوا حكما قبل
الِاجْتِهَاد فَلَا يُمكنهُم أَن يَقُولُوا فِي دفع
التَّنَاقُض مُتَعَلق الظَّن الحكم الثَّابِت فِي نفس الْأَمر،
ومتعلق الْعلم غَيره (فَإِن قَالُوا) أَي المصوبة (نقُول
مُتَعَلق الظَّن) كَونه) أَي كَون مَا أدّى إِلَيْهِ الظَّن من
الأمارة الْمَخْصُوصَة (دَلِيلا) على الحكم المظنون (و)
مُتَعَلق (الْعلم ثُبُوت مَدْلُوله شرعا بذلك الشَّرْط)
يَعْنِي بَقَاء الظَّن (فَإِذا زَالَ) الشَّرْط (رَجَعَ)
الْمُجْتَهد عَنهُ فَانْدفع عَنْهُم التَّنَاقُض وَلُزُوم عدم
إِمْكَان رُجُوع الْمُجْتَهد عَمَّا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده
بِمُوجب الْقطع لِأَن مُتَعَلق الْعلم الثُّبُوت المغيا
بِتِلْكَ الْغَايَة. (أُجِيب بِأَن كَونه) أَي الدَّلِيل
(دَلِيلا) أَيْضا (حكم شَرْعِي) يتَفَرَّع عَلَيْهِ أَحْكَام
شَرْعِيَّة (وَإِن كَانَ غير عَمَلي فَإِذا ظَنّه) أَي إِذا ظن
الْمُجْتَهد كَونه دَلِيلا (علمه) أَي علم أَنه دَلِيل (وَيتم
إِلْزَامه اجْتِمَاع النقيضين) لِاتِّحَاد مُتَعَلق الظَّن
وَالْعلم. وَلما أجَاب عَن الجوابين من أجوبة المصوبة أَرَادَ
أَن يذكر مَا هُوَ الْعدة فِي الْجَواب من قبلهم، فَقَالَ:
(وَالْجَوَاب أَن اللَّازِم) من التصويب (ثُبُوت الْعلم بالحكم
مَا لم يثبت الرُّجُوع) أَي رُجُوع الْمُجْتَهد عَمَّا أدّى
إِلَيْهِ اجْتِهَاده (وَهُوَ) أَي ثُبُوت الرُّجُوع عَنهُ
(انْفِسَاخ هَذَا الحكم) المرجوع عَنهُ (بِظُهُور المرجوع)
إِلَيْهِ فَإِن قلت هَذَا نسخ بعد انْقِطَاع الْوَحْي قلت
ظُهُوره بعد الِانْقِطَاع لَا أَصله، فَإِن أَصله حكم الله
تَعَالَى قبل الِانْقِطَاع على الْمُجْتَهد بِأَنَّهُ إِذا ظهر
لَك خلاف مَا أدّى إِلَيْهِ اجتهادك فَارْجِع عَنهُ إِلَيْهِ
(لَا) ظُهُور (خطئه) أَي الحكم الأول (وبطلانه عِنْدهم) أَي
المصوبة ثمَّ.
(4/204)
لما كَانَ هُنَا مَظَنَّة سُؤال، وَهُوَ
أَنه كَيفَ يثبت الْعلم بالحكم مَعَ تَجْوِيز زَوَال مُوجبه؟
وَهُوَ الظَّن، وَزَوَال الْمُوجب يسْتَلْزم زَوَال الْمُوجب
أجَاب عَنهُ بقوله (وتجويز انْقِضَاء مُدَّة الحكم بعد هَذَا
الْوَقْت) أَي مُدَّة عدم ثُبُوت الرُّجُوع (لَا يقْدَح فِي
الْقطع بِهِ) أَي بالحكم وَكَونه وَاجِب الْعَمَل مَا لم يثبت
الرُّجُوع (حَال هَذَا التجويز) ظرف للْقطع بِهِ، ذكر تَأْكِيد
الْعَدَم التَّنَافِي بَين الْقطع والتجويز، وَذَلِكَ لِأَن
زمَان مُتَعَلق التجويز غير زمَان مُتَعَلق الْعلم (فَبَطل
الدَّلِيل) الْمَذْكُور للمخطئة مندفعا (عَنْهُم) أَي المصوبة
فَإِن قلت الدَّلِيل الْمَذْكُور يتَضَمَّن الْمَحْظُورَات
الثَّلَاث كَمَا عرفت لُزُوم بَقَاء الظَّن، وَقد انْدفع بقييد
زمَان الْقطع فَإِنَّهُ كَانَ مَبْنِيا على إِطْلَاقه بِحَيْثُ
يسْتَغْرق الْأَزْمِنَة، واستمرار الْقطع المزيل للظن واندفاعه
ظَاهر، لَكِن بَقِي دفع التَّنَاقُض قلت كَأَنَّهُ تَركه
لظُهُوره وَهُوَ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ القَاضِي عضد الدّين
بقوله: فَإِنَّهُ يسْتَمر الظَّن ريثما يحصل بِهِ الْقطع،
فَإِذا حصل زَالَ الظَّن ضَرُورَة وَحكم الْقطع هُوَ اتِّبَاعه
وَهُوَ بِهِ أَجْدَر من الظَّن. لَا يُقَال بِمُجَرَّد حُصُول
الظَّن تعلق الْخطاب الْمُوجب للْعلم فاتحدا زَمَانا. لأَنا
نقُول غَايَة الْأَمر مُقَارنَة الظَّن مَعَ تعلق الْخطاب،
وَهُوَ لَا يسْتَلْزم مقارنته مَعَ الْعلم (وَبِهَذَا)
الْجَواب (ينْدَفع) عَن المصوبة الدَّلِيل (الْقَائِل) وصف
الدَّلِيل بالْقَوْل مجَازًا، ومقول القَوْل (لَو كَانَ)
الظَّن مُوجبا للْعلم (امْتنع الرُّجُوع) عَن المظنون
(لاستلزامه) أَي الرُّجُوع (ظن النقيض) أَي نقيض المظنون
الَّذِي تعلق بِهِ الْعلم (وَالْعلم يَنْفِي احْتِمَاله) أَي
احْتِمَال نقيض مُتَعَلّقه، وَإِن كَانَ مرجوحا فضلا عَن
الظَّن، وَلَا يخفى عَلَيْك أَن هَذَا فِيمَا إِذا كَانَ
الرُّجُوع عَن المظنون الأول إِلَى مظنون آخر، أما إِذا كَانَ
عَنهُ إِلَى الشَّك فَيُقَال حِينَئِذٍ لاستلزامه احْتِمَال
النقيض وَالْعلم يَنْفِيه (فَلم يكن الْعلم حِين كَانَ) أَي
تحقق بزعمكم أَيهَا المصوبة (علما) لم يكن وَجه الاندفاع ظَاهر
عِنْد تَقْيِيد ثُبُوت الْعلم بِمَا إِذا لم يثبت الرُّجُوع
(أَو لَو كَانَ) الظَّن مُوجبا للْعلم مَعْطُوف على مقول
القَوْل (جَازَ ظَنّه) أَي الْمُتَعَلّق بِمَا أدّى إِلَيْهِ
اجْتِهَاده ثَانِيًا (مَعَ تذكر مُوجب الْعلم، وَهُوَ) أَي
مُوجب الْعلم (الظَّن الأول لجَوَاز الرُّجُوع) تَعْلِيل
لجَوَاز تعلق ظَنّه ثَانِيًا، بِخِلَاف مظنونه الأول فَيلْزم
تخلف الْمُوجب عَن الْمُوجب مَعَ تذكره من غير ذُهُول، وَفِيه
أَن تذكره عبارَة عَن تصَوره الْمُوجب إِنَّمَا هُوَ الادعاء
وَقد زَالَ (أَو لَو كَانَ) ظن الحكم مُوجبا للْعلم (امْتنع
ظَنّه) بِخِلَاف المظنون الأول (مَعَ تذكر الظَّن) الأول
(لِامْتِنَاع ظن نقيض مَا علم مَعَ تذكر الْمُوجب) للْعلم
(وَإِلَّا) أَي إِن لم يمْتَنع ظن نقيض مَا علم مَعَ تذكر
الْمُوجب (لم يكن) ذَلِك الْمُوجب (مُوجبا) وَهُوَ خلاف
الْمَفْرُوض (لكنه) أَي الظَّن (جَائِز) بِخِلَاف المظنون
الأول إِجْمَاعًا (بِالرُّجُوعِ) أَي بِأَن يرجع عَن الظَّن
الأول إِلَى خِلَافه (وَقد لَا يَكْتَفِي بِدَعْوَى
ضَرُورِيَّة البهت) الْمَأْخُوذَة فِي دَلِيل المخطئة (فتجعل)
الْأَوْجه الثَّلَاثَة المفادة بقوله لَو كَانَ امْتنع
الرُّجُوع
(4/205)
إِلَى قَوْله لكنه جَائِز، فالرجوع (دَلِيل
بَقَاء الظَّن) لِأَن محصول كل وَاحِد مِنْهَا لُزُوم الْفساد
لكَون الظَّن مُوجبا للْعلم، فَإِذا انْتَفَى إِيجَابه للْعلم
بَقِي مستمرا مَا لم يثبت الرُّجُوع عَنهُ (عِنْد الْقطع
بمتعلقه) أَي الظَّن، الظّرْف مُتَعَلق بِبَقَاء الظَّن
الْمَأْخُوذ فِي دَلِيل المخطئة الْمَذْكُور أَولا المفاد
بقوله، وَالْقطع بِأَن الْقطع مَشْرُوط بِبَقَاء ظَنّه إِلَى
قَوْله وإنكاره بهت فحاصله لَو كَانَ الظَّن مُوجبا للْعلم لزم
عِنْد ذَلِك بَقَاء الظَّن للأوجه الثَّلَاثَة وَهُوَ
يسْتَلْزم أَن لَا يكون مَعَه الْعلم لِأَن بَينهمَا تنافيا
فِي اللوازم (لَا) أَن يَجْعَل كل وَاحِد مِنْهَا دَلِيلا
(مُسْتقِلّا) على إبِْطَال مَذْهَب المصوبة (وألزم على)
الْمَذْهَب (الْمُخْتَار) وَهُوَ مَذْهَب المخطئة (انْتِفَاء
كَون الْمُوجب) للْحكم (مُوجبا) لَهُ مَعَ تذكر الْمُوجب (فِي)
حق (الأمارة) على الحكم حَيْثُ قَالُوا: لَا يمْتَنع زَوَال ظن
الحكم إِلَى ظن نقيضه مَعَ تذكر الأمارة الَّتِي عَنْهَا
الظَّن فَهِيَ مُوجبَة لَهُ (وَجَوَابه) أَي الْإِلْزَام
الْمَذْكُور (أَن بُطْلَانه) أَي بطلَان انْتِفَاء كَون
الْمُوجب مُوجبا (فِي غَيرهَا) خبر أَن: أَي فِي غير الأمارة
(أما هِيَ) أَي الأمارة (فَإذْ لَا رابط) بَينهَا وَبَين الحكم
(عَقْلِي) صفة اسْم لَا مَرْفُوع فِي مَحَله، وَالْخَبَر
مَحْذُوف (جَازَ انْتِفَاء مُوجبهَا مَعَ تذكرها) خبر
الْمُبْتَدَأ: أَعنِي هِيَ، وَقَوله: إِذْ لَا رابط عَقْلِي
مُعْتَرضَة تعليلا للْجُوَاز، وَذَلِكَ كَمَا يَزُول ظن نزُول
الْمَطَر من الْغَيْم الرطب الَّذِي هُوَ أَمارَة لَهُ إِلَى
ظن عَدمه مَعَ وجوده. وَلما زيف دَلِيل المخطئة بِمَا ذكر
أَرَادَ أَن يذكر مَا هُوَ الْمُعْتَمد فِيمَا ذَهَبُوا
إِلَيْهِ فَقَالَ (بل الدَّلِيل) الَّذِي مَا عداهُ كَالْعدمِ
بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ (إِطْلَاق) الصَّحَابَة رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم (الْخَطَأ فِي الِاجْتِهَاد) أَي إِطْلَاقهم
لفظ الْخَطَأ فِي بعض الِاجْتِهَاد أَو عدم تقييدهم الْخَطَأ
بِمَا يُفِيد كَونه خطأ بِسَبَب مُخَالفَة نَص أَو قِيَاس جلي
أَو إِجْمَاع، وَهُوَ عِنْد الْإِطْلَاق يُرَاد بِهِ مُخَالفَة
حكم الله تَعَالَى (شَائِعا) أَي إطلاقا شَائِعا بَينهم
(متكررا) فِي حوادث كَثِيرَة من كثير مِنْهُم بِالنِّسْبَةِ
إِلَى كثير مِنْهُم (بِلَا نَكِير) من أحد مِنْهُم على أحد
مِمَّن أطلق الْخَطَأ، فَكَانَ إِجْمَاعًا مِنْهُم على أَن
الْمُجْتَهد قد يُخطئ وَلَا يُصِيب حكم الله تَعَالَى فِي
اجْتِهَاده (كعلي) أَي كإطلاق عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
الْخَطَأ (وَزيد بن ثَابت وَغَيرهمَا من مخطئة ابْن عَبَّاس)
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا (فِي ترك الْعَوْل) وَهُوَ أَن
يُزَاد على الْمخْرج من أَجْزَائِهِ إِذْ ضَاقَ عَن فرض من
فروضه (وَهُوَ خطأهم) أَي ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا خطأ الصَّحَابَة (فَقَالَ من شَاءَ) مِنْكُم أَيهَا
الْقَائِلُونَ بالعول (باهلته) أَي لَاعَنته، فَيَقُول كل منا:
لعنة الله على من كذب (إِن الله تَعَالَى لم يَجْعَل فِي مَال
وَاحِد نصفا وَنصفا وَثلثا، وَقَول أبي بكر) رَضِي الله عَنهُ
(فِي الْكَلَالَة) وَهِي مَا خلا الْوَالِد وَالْولد (أَقُول
فِيهَا برأيي إِلَى قَوْله وَإِن يكن خطأ فمني وَمن
الشَّيْطَان) يَعْنِي إِن يكن صَوَابا فَمن الله تَعَالَى
(وَمثله) أَي وَمثل قَول أبي بكر (قَول ابْن مَسْعُود) رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا (فِي المفوضة) فِي الْقَامُوس
(4/206)
فوض الْمَرْأَة: زَوجهَا بِلَا مهر
(الْمُتَوفَّى عَنْهَا) زَوجهَا (أجتهد) مقول القَوْل (إِلَى
قَوْله فَإِن يكن) مَا أدّى إِلَيْهِ اجتهادي (خطأ فَمن ابْن
أم عبد) أَي عبد الله، يَعْنِي نَفسه، لم يقل فَمن ابْن
مَسْعُود، إِشَارَة إِلَى أَنه ابْن امْرَأَة من جنس ناقصات
الْعقل لَا يبعد الْخَطَأ مِنْهُ (و) روى (عَنهُ) أَي ابْن
مَسْعُود (مثل) قَول (أبي بكر) فَفِي سنَن أبي دَاوُد عَنهُ:
فَإِن بك صَوَابا فَمن الله تَعَالَى وَإِن يَك خطأ فمني وَمن
الشَّيْطَان وَالله وَرَسُوله بريئان (وَقَول عَليّ لعمر فِي
المجهضة) بِضَم الْمِيم وَكسر الْهَاء وَهِي الَّتِي أسقطت
جَنِينا مَيتا خوفًا من عمر حَيْثُ استحضرها وَسَأَلَ من
حَضَره عَن حكم ذَلِك، فَقَالَ عُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن بن
عَوْف إِنَّمَا أَنْت مؤدب لَا نرى عَلَيْك شَيْئا، ثمَّ
سَأَلَ عليا مَاذَا تَقول فَقَالَ (إِن كَانَا قد اجتهدا فقد
أخطآ، يَعْنِي عُثْمَان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف) وَإِن
يجتهدا فقد غشاك، عَلَيْك الدِّيَة، فَقَالَ عمر لعَلي عزمت
عَلَيْك لتقسمانها على قَوْمك أَرَادَ قوم عمر أضَاف إِلَى
عَليّ إِكْرَاما. وَقَالَ الشَّارِح: ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي
خلافًا لأَصْحَابه. وَلَا حجَّة فِي هَذَا على أُصُوله
لِأَنَّهُ مُنْقَطع، فَإِن الْحسن ولد لِسنتَيْنِ بَقِيَتَا من
خلَافَة عمر، ثمَّ الإجهاض إِلْقَاء الْوَلَد قبل تَمَامه
(وَاسْتدلَّ) للمختار بأوجه ضَعِيفَة، أَحدهَا إِن كَانَ أحد
قولي الْمُجْتَهدين أَو كِلَاهُمَا بِلَا دَلِيل فَبَاطِل
وَإِلَّا (إِن تساوى دليلاهما) بِأَن لَا يُوجد فِي أَحدهمَا
مَا يرجحه على الآخر (تساقطا) (وَإِلَّا تعين الرَّاجِح) وَجه
استلزامه للْمُدَّعِي أَن تعدد حكم الله بِتَعَدُّد
الِاجْتِهَاد غير مَعْقُول، لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يسقطا مَعًا
أَو أَحدهمَا، والساقط مَعْدُوم لَا يصلح لِأَن يكون أَمارَة
لحكم الله تَعَالَى، وَكَذَا الْحَال إِذا كَانَ فِي المسئلة
أَقْوَال ينظر بَين كل اثْنَيْنِ حَتَّى يسْقط الْكل أَو
يَنْتَهِي إِلَى وَاحِد (وَأجِيب أَن ذَلِك) التَّقْسِيم
(بِالنِّسْبَةِ إِلَى نفس الْأَمر) فَإِنَّهُمَا فِي نفس
الْأَمر إِمَّا متساويان فِي مصلحَة الْقبُول أَو لَا، بل
أَحدهمَا أرجح، بل الْإِرَادَة بِمَا على طبق مَا فِي نفس
الْأَمر، بل قد يتَرَجَّح فِي رَأْي الْمُجْتَهد مَا هُوَ
مَرْجُوح بِحَسب نفس الْأَمر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لَكِن
الأمارات) الَّتِي تظهر للمجتهد (ترجحها بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْمُجْتَهد فَكل) من الْقَوْلَيْنِ (رَاجِح عِنْد قَائِله)
وَإِن كَانَ الرَّاجِح فِي نفس الْأَمر أَحدهمَا أَو اسْتَويَا
(وصواب) على رَأْي المصوبة، (و) أَيْضا اسْتدلَّ (بِأَن
الْمُجْتَهد طَالب) لتَحْصِيل حكم الله تَعَالَى (ويستحيل)
الطّلب (بِلَا مَطْلُوب فَمن أخطأه) أَي الْمَطْلُوب وَلم يجده
فَهُوَ (الْمُخطئ) وَمن وجده فَهُوَ الْمُصِيب (أُجِيب)
بِأَنَّهُ (نعم) هُوَ طَالب ويستحيل الطّلب بِلَا مَطْلُوب
وَلَكِن (فَهُوَ) أَي الْمَطْلُوب (غَلَبَة ظَنّه) أَي
الْمُجْتَهد بِوَجْه من وُجُوه مَحل الِاجْتِهَاد فَإِذا
اجْتهد أَو غلب ظن كل وَاحِد بِشَيْء وجد كل مِنْهُمَا
مَطْلُوبه (فيتعدد) حِينَئِذٍ (الصَّوَاب) لِأَن الْمَفْرُوض
أَن المظنون هُوَ حكم الله فِي حق كل (و) أَيْضا اسْتدلَّ
(بِالْإِجْمَاع على شرع المناظرة) أَي على مشروعيتها
(وفائدتها) أَي المناظرة (ظُهُور الصَّوَاب) لِأَن الْمَفْرُوض
أَن
(4/207)
المظنون هُوَ حكم الله فِي حق كل وَلذَا
أَخذ فِي تَعْرِيفهَا، وَقيل هِيَ النّظر من الْجَانِبَيْنِ
فِي نِسْبَة خبرية إِظْهَارًا للصَّوَاب، فَلَو كَانَ كل مَا
أدّى إِلَيْهِ النّظر وَالِاجْتِهَاد صَوَابا لما كَانَ لَهَا
فَائِدَة لحُصُول الْعلم بِالصَّوَابِ بِمُجَرَّد النّظر من
غير مناظرة (وَأجِيب بِمَنْع الْحصْر) أَي حصر الْفَائِدَة فِي
ظُهُور الصَّوَاب (لجوازها) أَي لجَوَاز كَون فائدتها
(تَرْجِيحا) أَو لجَوَاز المناظرة للترجيح لأحد الصوابين على
الآخر، وَهَذَا مَبْنِيّ على قَول من يَقُول بِعَدَمِ تَسَاوِي
الْحُقُوق (وتمرينا) للنَّفس على طرق النّظر ليحصل ملكة
الْوُقُوف على المأخذ ورد الشّبَه وتشحيذا للخاطر معاونة على
الِاجْتِهَاد (وَلَا يخفى ضعفه) أَي الِاسْتِدْلَال.
وَالْجَوَاب لاشتهار كَون الْغَرَض مِنْهَا إِظْهَار الصَّوَاب
بَين أهل الْعلم من غير نَكِير وَهُوَ الْمُتَبَادر من
الْعبارَة لذكره بعد الْجَواب فَتَأمل، (و) أَيْضا اسْتدلَّ
(بِلُزُوم حل) الْمَرْأَة (المجتهدة) على تَقْدِير إِصَابَة كل
مُجْتَهد (كالحنفية) أَي اجْتِهَادًا كاجتهاد الْحَنَفِيَّة،
أَو حَال كَونهَا كالحنفية فِي الِاجْتِهَاد، وَإِنَّمَا فرض
كَونهَا مجتهدة وَلم يقل حل الْحَنَفِيَّة مَعَ كَونه أخصر،
لِأَن الْمُقَلّد يجوز لَهُ تَقْلِيد غير مقلده على مَا ذهب
إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ، وَحِينَئِذٍ يجوز أَن تقلد مَذْهَب
زَوجهَا فَلَا يلْزم اجْتِمَاع الْحل وَالْحُرْمَة (وحرمتها
لَو قَالَ بَعْلهَا الْمُجْتَهد كالشافعية) فِي الِاجْتِهَاد
(أَنْت بَائِن) مقول القَوْل (ثمَّ قَالَ رَاجَعتك) فَإِن
الرّجْعَة عِنْده صَحِيحَة لِأَن الْكِنَايَات عِنْده لَيست
بوائن، وَعِنْدهَا غير صَحِيحَة لِأَنَّهَا عِنْدهَا بوائن،
وَأَنت بَائِن مِنْهَا، وَلَا رَجْعَة فِي البوائن (و)
بِلُزُوم (حلهَا) أَي المجتهدة الَّتِي هِيَ كالحنفية
(لاثْنَيْنِ لَو تزَوجهَا مُجْتَهد) يرى رَأْي الْحَنَفِيَّة
(بِلَا ولي ثمَّ) تزَوجهَا (مثله) مُجْتَهد آخر يرى رَأْي
الشَّافِعِيَّة (بِهِ) أَي بولِي، وَيجوز تَصْوِير المسئلة على
وَجه لَا يلْزم عَلَيْهَا تعمد الْحَرَام بِفَرْض توكيلها
وَليهَا فِي التَّزْوِيج وشخصا آخر لَا ولَايَة لَهُ عَلَيْهَا
فزوج كل مِنْهُمَا فِي غيبَة الآخر تقدم التَّزْوِيج بِغَيْر
الْوَلِيّ فَيصح تَزْوِيج الثَّانِي لعدم صِحَة الأول عِنْد
الْمُجْتَهد الثَّانِي (وَأجِيب) بِأَن لُزُوم اجْتِمَاع الْحل
وَالْحُرْمَة (مُشْتَرك الْإِلْزَام إِذْ لَا خلاف) بَين
الْفَرِيقَيْنِ (فِي وجوب اتِّبَاع ظَنّه) لِأَن الْإِجْمَاع
مُنْعَقد على أَنه يجب على كل مُجْتَهد أَن يتبع ظَنّه الَّذِي
أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده من حلهَا بِتِلْكَ الرّجْعَة (فيجتمع
النقيضان: وجوب الْعَمَل بحلها لَهُ) يَعْنِي يجب على الزَّوْج
الْمُجْتَهد الرَّاجِع إِلَى المجتهدة أَن يعْمل بِمَا أدّى
إِلَيْهِ اجْتِهَاده من حلهَا بِتِلْكَ الرّجْعَة (ووجوبه) أَي
الْعَمَل (بحرمتها عَلَيْهِ) أَي يجب على الْمَرْأَة أَن تعْمل
بِمَا أدّى إِلَيْهِ اجتهادها من حرمتهَا على الزَّوْج لعدم
صِحَة الرّجْعَة، والوجوبان يدلان على النقيضان بدل النَّقْض،
وَهَذَا تَقْرِير الْإِلْزَام بِالنّظرِ إِلَى المسئلة الأولى،
وَأما بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّانِيَة فَمَا يدل عَلَيْهِ
قَوْله (وَكَذَا وجوب الْعَمَل) على المجتهدة والمجتهد الأول
(بحلها للْأولِ) أَي للزَّوْج الأول لصِحَّة النِّكَاح بِلَا
ولي على رأيهما (ووجوبه) أَي الْعَمَل بحلها (للثَّانِي) أَي
(4/208)
الزَّوْج الثَّانِي لعدم صِحَة النِّكَاح
الأول عِنْد الزَّوْج الثَّانِي فَيجب عَلَيْهِ أَن يعْمل
بِمُوجب اجْتِهَاده (فَإِن لم يكن الوجوبان متناقضين) كتناقض
الْحل وَالْحُرْمَة (لتناقض متعلقيهما) يَعْنِي إِن كَانَا
متناقضين بِسَبَب تنَاقض متعلقيهما، وهما الْحل وَالْحُرْمَة
فِي الصُّورَة الأولى، وَحل الزَّوْج الأول وَحل الزَّوْج
الثَّانِي فِي الثَّانِيَة، فَإِن الْحل لكل وَاحِد مِنْهُمَا
يسْتَلْزم الْحُرْمَة على الآخر، فقد ثَبت الْمُدعى فَإِن لم
يَكُونَا متناقضين لتناقضهما فقد (استلزم) اجْتِمَاع الوجوبين
(اجْتِمَاع متعلقيه) أَي الْوُجُوب المتحقق فِي ضمن الوجوبين
(المتناقضين) صفة متعلقية (فَإِن أجبتم) أَيهَا المخطئة
بِأَنَّهُ (لَا يمْتَنع) مَا ذكر من وجوب الضدين
(بِالنِّسْبَةِ إِلَى مجتهدين) مُخْتَلفين فِي الِاجْتِهَاد
(فَكَذَلِك الْمُتَنَازع فِيهِ) الَّذِي ادعيتم لُزُومه علينا
من لُزُوم الْحل وَالْحُرْمَة إِلَى آخر الصُّورَتَيْنِ
فَنَقُول: لَا يمْتَنع ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى مجتهدين،
فَإِن قَالَ المخطئة يلْزم عَلَيْكُم أَن الله تَعَالَى حكم
بِحل امْرَأَة وَاحِدَة وحرمتها بِالنِّسْبَةِ إِلَى زوج
وَاحِد وبحلها لزوجين وَلَا يلْزم علينا ذَلِك لكَون أحد
الاجتهادين خطأ قطعا. قَالَ المصوبة فَكيف يحكم الله تَعَالَى
على الزَّوْجَة وَالزَّوْج بِاتِّبَاع الْحل وَالْحُرْمَة
وعَلى الزَّوْجَيْنِ بِاتِّبَاع الْعَمَل بِالْحلِّ (نعم
يسْتَلْزم مثله) أَي مثل مَا ذكر من الصُّورَتَيْنِ (مفْسدَة
الْمُنَازعَة) بَين الزَّوْج وَالزَّوْجَة أَو الزَّوْجَيْنِ
مثلا (وَقد يُفْضِي) النزاع (إِلَى التقاتل فَيلْزم فِيهِ) أَي
فِي مثله (رَفعه إِلَى قَاض يحكم بِرَأْيهِ) الْمُوَافق لأحد
المنازعين (فَيلْزم) المنازع (الآخر) مَا حكم بِهِ ليرتفع
النزاع وَالْفساد (واذن) أَي وَإِذا كَانَ الْأَمر كَمَا عرفت
من اشْتِرَاك الْإِلْزَام وَالْوُجُوب (فَالْجَوَاب الْحق) من
قبل المصوبة والمخطئة الَّذِي هُوَ مخلص من لُزُوم تِلْكَ
الْمُنَازعَة الَّتِي تكَاد أَن تنجر إِلَى الْمُقَاتلَة قبل
الرّفْع إِلَى القَاضِي (أَن مثله) أَي مَا ذكر (مَخْصُوص) أَي
خَارج (من) عُمُوم (تعلق الْحكمَيْنِ) الصوابين على رَأْي
المصوبة، أَو اللَّذين أَحدهمَا خطأ على رَأْي المخطئة وهما
وجوب الِاتِّبَاع على الْمُجْتَهدين (بل الثَّابِت) فِي مثله
فِي نفس الْأَمر (حرمتهَا) أَي الْمَرْأَة الْمَذْكُورَة فِي
الصُّورَتَيْنِ مستمرة (إِلَى غَايَة الحكم) أَي حكم القَاضِي
بعد الرّفْع إِلَيْهِ (لِأَن لُزُوم الْمفْسدَة يمْنَع شرع
ذَلِك) أَي مَشْرُوعِيَّة مُتَعَلق الْحكمَيْنِ (وَبِمَا
وضحناه) من التَّخْصِيص وَثُبُوت الْحُرْمَة المغياة بِمَنْع
لُزُوم الْمفْسدَة شَرْعِيَّة ذَلِك (انْدفع مَا أورد) على مَا
ذكر من لُزُوم الرّفْع إِلَى قَاض دفعا للنزاع (من أَن
الْقَضَاء لرفع النزاع إِذا تنَازعا فِي التَّمْكِين) أَي
تَمْكِين الْمَرْأَة (وَالْمَنْع) عَنهُ (لَا لرفع تعلق الْحل
وَالْحُرْمَة بِوَاحِد) من مظنوني الْمُجْتَهدين، فَإِنَّهُ
بعد التَّعَلُّق لَا يرْتَفع، وَمَا لم يرْتَفع فالنزاع بَاقٍ
فَلَا يكون الرّفْع إِلَى القَاضِي مخلصا للمصوبة وَاعْلَم
أَنه قَالَ القَاضِي عضد الدّين فِي شرح
(4/209)
الْمُخْتَصر بعد الْجَواب بِأَنَّهُ
مُشْتَرك الْإِلْزَام أَن الْجَواب الْحق هُوَ الْحل، وَهُوَ
أَنه يرجع إِلَى حَاكم ليحكم بَينهمَا فيتبعان حكمه لوُجُوب
اتِّبَاع الحكم للموافق والمخالف. وَقَالَ الْمُحَقق
التَّفْتَازَانِيّ فِي حَاشِيَة عَلَيْهِ يُشِير إِلَى أَن
الْجَواب جدلي، لَكِن فِي كَون هَذَا جَوَابا عَن الْإِلْزَام
الْمَذْكُور نظر، لِأَن حكم الْحَاكِم إِنَّمَا يصلح لرفع
النزاع إِذا تنَازعا لرفع تعلق الْحل وَالْحُرْمَة بِشَيْء
وَاحِد فَإِنَّهُ بعد الحكم لم يرْتَفع ذَلِك التَّعَلُّق على
تَقْدِير تصويب كل مُجْتَهد: نعم لَو أجَاب بِأَن الْحل
بِالْإِضَافَة إِلَى أَحدهمَا، وَالْحُرْمَة بِالْإِضَافَة
إِلَى الآخر فَلَا امْتنَاع فِي ذَلِك لَكَانَ وَجها، كَذَا
فِي بعض الشُّرُوح انْتهى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله
(وَقَررهُ) أَي مَا أوردهُ (مُحَقّق) يَعْنِي الْمُحَقق
التَّفْتَازَانِيّ حَيْثُ سكت عَلَيْهِ (وَهُوَ) أَي مَا أورد
(بعد اندفاعه بِمَا ذكرنَا) من أَنه مَخْصُوص الخ (غير صَحِيح
فِي نَفسه، إِذْ لَا مَانع من رفع تعلق الْحل وَالْحُرْمَة
بِالْقضَاءِ مَعَ كَون كل مِنْهُمَا صَوَابا لِأَنَّهُ) أَي
رفع التَّعَلُّق الْمَذْكُور (نسخ مِنْهُ تَعَالَى عِنْد حكم
القَاضِي كالرجوع عِنْدهم) أَي كَمَا أَن الْمُجْتَهد إِذا
رَجَعَ عَن ظَنّه الأول إِلَى ظن آخر كَانَ ذَلِك نسخا للْأولِ
عِنْد المصوبة (قَالُوا) أَي المصوبة (لَو كَانَ الْمُصِيب
وَاحِدًا وَجب النقيضان على الْمُخطئ إِن وَجب حكم نفس الْأَمر
عَلَيْهِ) أَيْضا لِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِ اتِّبَاع ظَنّه
إِجْمَاعًا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يجب عَلَيْهِ حكم نفس
الْأَمر (وَجب) عَلَيْهِ (الْعَمَل بالْخَطَأ) لِأَنَّهُ يجب
عَلَيْهِ مُتَابعَة ظَنّه إِجْمَاعًا (وَحرم) عَلَيْهِ
الْعَمَل (بِالصَّوَابِ) لِأَنَّهُ خلاف ظَنّه، وَيحرم على
الْمُجْتَهد الْعَمَل بِخِلَاف مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده
إِجْمَاعًا (وَهُوَ) أَي كَون الْعَمَل بِالصَّوَابِ حَرَامًا
مَعَ وجوب الْعَمَل بالْخَطَأ (محَال) لِأَنَّهُ خلاف
الْمَعْقُول (أُجِيب بِاخْتِيَار) الشق (الثَّانِي) وَهُوَ أَن
لَا يجب عَلَيْهِ حكم نفس الْأَمر (وَمنع انْتِفَاء التَّالِي)
اللَّازِم للاستحالة، يَعْنِي حُرْمَة الْعَمَل بِالصَّوَابِ
مَعَ وجوب الْعَمَل بالْخَطَأ أَمر مُتَحَقق، فَكيف يكون
محالا؟ (للْقطع بِهِ) أَي بالتالي فِيمَا لَو خَفِي على
الْمُجْتَهد (قَاطع) أَي فِي وَقت خَفَاء الدَّلِيل الْقَاطِع
على الْمُجْتَهد فَإِنَّهُ لَو لم يخف لم يكن اجْتِهَاده
صَحِيحا، لِأَن شَرط الِاجْتِهَاد عدم وجود الْقَاطِع فِي مَحل
الِاجْتِهَاد (حَيْثُ تجب) عَلَيْهِ (مُخَالفَته) لوُجُوب
اتِّبَاعه مَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده، وَهُوَ مُخَالف لما
هُوَ مُوجب الْقطعِي (والاتفاق) على (أَنه) أَي خلاف الْقطعِي
الَّذِي أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده (خطأ إِذْ الْخلاف) بَين
المصوبة والمخطئة، وَإِنَّمَا وَاقع (فِيمَا لَا قَاطع) فِيهِ
من الْأَحْكَام الاجتهادية (أما مَا فِيهِ) أَي الَّذِي فِيهِ
قَاطع من الْأَحْكَام الاجتهادية (فالاجتهاد على خِلَافه خطأ
اتِّفَاقًا) أَي مَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد الْوَاقِع على
خلاف الْقطعِي خطأ إِجْمَاعًا وَإِن وَجب الْعَمَل بِهِ لخفاء
الْقَاطِع على الْمُجْتَهد (قَالُوا) أَي المصوبة؟ قَالَ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم (أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ
اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ) وَمن الْمَعْلُوم أَن أَكثر
الخلافات الْوَاقِعَة بَين الْمُجْتَهدين من الْخلف قد وَقع
فِيمَا بَينهم (فَلَا خطأ) فِي
(4/210)
شَيْء مَا أدّى إِلَيْهِ اجتهادهم
(وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْخَطَأ منفيا عَنْهُم بِأَن
كَانَ بَعضهم على الْخَطَأ (ثَبت الْهدى فِي الْخَطَأ) عِنْد
الِاقْتِدَاء بذلك الْبَعْض (وَهُوَ ضلال) أَي وَالْحَال أَن
الْخَطَأ ضلال وَهل يتَصَوَّر أَن يكون الْمُقْتَدِي بالضال
مهديا؟ وَيجوز أَن يكون الْمَعْنى أَن القَوْل بِثُبُوت الْهدى
فِي الْخَطَأ ضلال (أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي الِاقْتِدَاء
بالمخطئ أَو الْخَطَأ (هدى من وَجه) وَلذَا وَجب الْعَمَل بِهِ
على الْمُجْتَهد وعَلى مقلده (فيتناوله) لفظ اهْتَدَيْتُمْ.
وَقيل الحَدِيث لَهُ طرق بِأَلْفَاظ مُخْتَلفَة وَلم يَصح
مِنْهَا شَيْء، وَأَنت خَبِير بِأَن الطّرق الضعيفة إِذا كثرت
يرتقى الحَدِيث بهَا من الضعْف إِلَى الْحسن.
تَتِمَّة
(من) مبَاحث (المخطئة: الْحَنَفِيَّة قسموا) أَي الْحَنَفِيَّة
(الْخَطَأ وَهُوَ الْجَهْل الْمركب إِلَى ثَلَاثَة) من
الْأَقْسَام فِي التَّلْوِيح. الْجَهْل عدم الْعلم عَمَّا من
شَأْنه، فَإِن قَارن اعْتِقَاد النقيض فمركب، وَإِلَّا فبسيط
وَلَا يخفى عَلَيْك أَن الْجَهْل الْمركب على هَذَا أَعم من
الْخَطَأ الْمَذْكُور فِي بَاب الِاجْتِهَاد لجَوَاز أَن يكون
فِي غير الْمُجْتَهد: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُرَاد بالْخَطَأ
فِي هَذَا التَّقْسِيم مَا هُوَ أَعم من خطأ الْمُجْتَهد.
الْقسم (الأول جهل لَا يصلح) لِأَن يكون (عذرا) لصَاحبه فِي
عدم الْمُؤَاخَذَة (وَلَا شُبْهَة) يَتَرَتَّب عَلَيْهَا دَرْء
حد وَنَحْو (وَهُوَ) أَي الَّذِي لَا يصلح عذرا وَلَا شُبْهَة
(أَرْبَعَة) أَحدهَا (جهل الْكَافِر بِالذَّاتِ) أَي ذَات الله
تَعَالَى، وَإِنَّمَا قيد بالكافر لِأَن الْمُؤمن لَا يجهل
بِالذَّاتِ من حَيْثُ الْوُجُود (وَالصِّفَات) أَي وجهله
بِالصِّفَاتِ الْمُؤمن بهَا، وَإِنَّمَا لَا يصلح جَهله بهما
عذرا وَلَا شُبْهَة (لِأَنَّهُ) أَي الْكَافِر (مكابر) أَي
مترفع عَن الانقياد للحق وَالنَّظَر فِي الْآيَات ومعاند لما
يَقْتَضِيهِ الْعقل (لوضوح دَلِيله) أَي دَلِيل مَا جهل بِهِ
من الذَّات وَالصِّفَات (حسا) أَي دلَالَة حسية لكَون مَا
يسْتَدلّ بِهِ حسا أَو وضوحا حسا (من الْحَوَادِث المحيطة
بِهِ) أَي بالكافر أنفسا وآفاقا، بَيَان لدليله، فَالْمُرَاد
بِالدَّلِيلِ مَا يُمكن بِأَن يُوصل بِالنّظرِ إِلَى
الْمَطْلُوب (وعقلا) أَي دلَالَة عقلية لكَون مَا يسْتَدلّ
بِهِ أمرا عقليا أَو وضوحا عقليا لتبادر مقدماته واستلزامه
إِلَى الْعقل (إِذْ لَا يخلوا الْجِسْم عَنْهَا) أَي تِلْكَ
الْحَوَادِث تَعْلِيل للوضوح على وَجه يثبت الْإِحَاطَة أَيْضا
(وَمَا لَا يَخْلُو عَنْهَا) أَي الْحَوَادِث (حَادث
بِالضَّرُورَةِ) فَإِن قلت: الْفلك قديم على رَأْي الْحَكِيم
وَلَا يَخْلُو عَن الْحَرَكَة الْحَادِثَة، فالاستدلال
بِدَعْوَى الضَّرُورَة غير مُسلم، كَيفَ وَلَو كَانَ
ضَرُورِيًّا لما أجمع على خِلَافه الْحُكَمَاء قاطبة قلت: معنى
كَلَامه مَا لَا يَخْلُو عَن الْحَوَادِث الَّتِي هِيَ
حَادِثَة شخصا ونوعا، وحركات الأفلاك عِنْدهم قديمَة نوعا
كَيفَ؟ وَلَو كَانَت حَادِثَة نوعا والمفروض لُزُوم
(4/211)
فَرد مَا مِنْهَا للفلك للَزِمَ وجود
الْمَلْزُوم بِدُونِ اللَّازِم: نعم يبْقى الْكَلَام حِينَئِذٍ
فِي الصُّغْرَى، وَهِي أَن الْجِسْم لَا يَخْلُو عَن
الْحَوَادِث شخصا ونوعا إِن تمّ تمّ وَإِلَّا فَلَا، وَقدم
الْحَوَادِث المحيطة بالأجسام بأسرها نوعا يكَاد أَن لَا
يتَصَوَّر، وحركة الْفلك غير مسلمة فضلا عَن قدمهَا (لَا بُد
لَهُ) أَي لَا يَخْلُو عَن الْحَوَادِث، فَقَوله لَا بُد خبر
بعد خبر (من موجد) لَهُ (إِذْ لم يكن الْوُجُود مُقْتَضى
ذَاته) أَي الْحَادِث الْمَذْكُور، وبديهة الْعقل حاكمة بِأَن
وجود الْحَادِث لَا بُد لَهُ من الْمُقْتَضى (ويستلزم) الحكم
بِوُجُود الْوَاجِب تَعَالَى (الحكم بصفاته) من الْحَيَاة
وَالْعلم والإرادة إِلَى آخر مَا ذكر فِي علم الْكَلَام
بأدلتها الْوَاضِحَة الَّتِي لَا ينكرها إِلَّا معاند،
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (كَمَا عرف) أَي على الْوَجْه
الَّذِي عرف فِي مَحَله (وَكَذَا مُنكر الرسَالَة) أَي وَكَذَا
جهل مُنكر الرسَالَة لَا يصلح عذرا وَلَا شُبْهَة لِأَنَّهُ
مكابر (بعد ثُبُوت المعجزة) الَّتِي هِيَ شَهَادَة وَاضِحَة من
الله تَعَالَى بِصدق دَعْوَى الرَّسُول، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ
إِلَى من شهد زمَان الرسَالَة (وتواتر مَا يُوجب النُّبُوَّة)
من الْأَخْبَار الدَّالَّة على صُدُور المعجزة من مدعيها
بِالنِّسْبَةِ إِلَى من لم يشْهد زمانها، فَإِن خصوصيات
الْأَخْبَار لَو لم تبلغ حدا التَّوَاتُر فالقدر الْمُشْتَرك
متواتر قطعا، وَلَا سِيمَا الْقُرْآن المعجز لنبينا صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الْبَاقِي على صفحة الدَّهْر إِلَى آخر
الدُّنْيَا، فانه متواتر إِجْمَاعًا ظَاهر إعجازه لكل بليغ
كَامِل فِي بلاغته، وَفِي ذكر النُّبُوَّة مَوضِع الرسَالَة
إِشْعَار بِأَن المُرَاد بالرسالة النُّبُوَّة الْمَشْهُورَة
فِي الْمَعْنى الْأَعَمّ، فَإِن خُصُوصِيَّة كَونه صَاحب
شَرِيعَة مَخْصُوصَة مَا لَا دخل لَهُ فِي هَذَا الْمقَام
(فَلِذَا) أَي فلكون إِنْكَار الرسَالَة بعد ثُبُوتهَا
مُكَابَرَة (لَا تلْزم) على الْمُسلمين (مناظرته) أَي مُنكر
الرسَالَة، لِأَنَّهُ لم يبْق لَهُ حجَّة على الله تَعَالَى
بعد الرُّسُل، وَثُبُوت معجزتهم، وبلوغ الْخَبَر إِلَيْهِ (بل
إِن لم يتب) بعض أَفْرَاد منكري الرسَالَة، وَهُوَ
(الْمُرْتَد) عَن الرَّسُول (قَتَلْنَاهُ) كَمَا نقْتل
الْمُرْتَد عَن الله سُبْحَانَهُ خُصُوصا إِن عرض الْإِسْلَام
عَلَيْهِ وَلم يرجع إِلَيْهِ، بِخِلَاف غَيره من الْكفَّار
فَإِنَّهُ لَا يتَعَيَّن فِي حَقهم الْقَتْل، بل أحد
الْأُمُور: إِمَّا الْقَتْل أَو الْجِزْيَة أَو الاسترقاق،
وَإِنَّمَا شدد على الْمُرْتَد، لِأَن مكابرته بُد ذوق لَذَّة
الْإِسْلَام أَشد (وَكَذَا) أَي وَكَذَا الْجَهْل (فِي حكم لَا
يقبل التبدل) عقلا وَلَا شرعا باخْتلَاف الْأَدْيَان لَا يصلح
عذرا وَلَا شُبْهَة لكَون صَاحبه مكابرا لوضوح دَلِيله (كعبادة
غَيره تَعَالَى. وَأما تدينه) أَي الْكَافِر (فِي) الْقَامُوس:
تدين اتخذ دينا وَالْمرَاد عمله بِمَا اتَّخذهُ دينا فِي حكم
(غَيره) أَي غير مَا لَا يقبل التبدل كتحريم الْخمر (ذِمِّيا)
حَال من الضَّمِير فِي تدينه فَإِنَّهُ فَاعل معِين (فالاتفاق
على اعْتِبَاره) أَي اعْتِبَار تدينه الْمَذْكُور (دافعا
للتعرض) لَهُ حَتَّى لَو بَاشر مَا دَان بِهِ لَا يتَعَرَّض
لَهُ فَقَوله دافعا مفعول ثَان للاعتبار لتَضَمّنه معنى الْجعل
(فَلَا يحد) الذِّمِّيّ (لشرب الْخمر إِجْمَاعًا، ثمَّ لم يضمن
الشَّافِعِي متلفها) أَي خمر
(4/212)
الذِّمِّيّ مثلهَا إِن كَانَ ذِمِّيا وَلَا
قيمتهَا إِن كَانَ مُسلما، وَبِه قَالَ أَحْمد لما فِي
الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حُرْمَة بيعهَا كالميتة،
وَمَا يحرم بَيْعه لم يجب قِيمَته، وَلِأَنَّهَا لَيست بِمَال
مُتَقَوّم: فَلَا تكون سَببا للضَّمَان، وَعقد الذِّمَّة خلف
عَن الْإِسْلَام فَيثبت فِيهِ أَحْكَامه، وَعُمُوم خطاب
التَّحْرِيم يتَنَاوَل الذِّمِّيّ، وَقد بلغه فِي دَار
الْإِسْلَام (وضمنوه) أَي الْحَنَفِيَّة متلفها مثلهَا إِن
كَانَ ذِمِّيا وَقيمتهَا إِن كَانَ مُسلما، وَبِه قَالَ مَالك
(لَا للتعدي) يَعْنِي أَن فِي إِتْلَافه غير الْخمر وَنَحْوهَا
عُدْوانًا وإعداما لمَال الْغَيْر، فالتضمين فِيهِ لمجموع
الْأَمريْنِ، وَأما الْخمر وَنَحْوهَا فَلَيْسَ للتعدي
لِأَنَّهُ إهانة لما أهانه الله تَعَالَى، فَلَا يُسمى
عُدْوانًا وَلَا ظلما، وَإِنَّمَا هُوَ لإعدام مُتَقَوّم
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الذِّمِّيّ لما روى أَن عمر رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ بلغه أَن عماله يَأْخُذُونَ الْجِزْيَة من
الْخمر فَمَنعهُمْ عَن أَخذهَا وَقَالَ: ولوا أَرْبَابهَا
بيعهَا ثمَّ خُذُوا الثّمن مِنْهُم، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله
(بل لبَقَاء التقوم فِي حَقهم) أهل الذِّمَّة، يَعْنِي أَن
تقويمها فِي حق الْمُسلمين بعد تَحْرِيمهَا وَبَقِي فِي حَقهم
(وَلِأَن الدّفع) أَي دفع التَّعَرُّض الْمَقْصُود من عقد
الذِّمَّة (عَن النَّفس وَالْمَال) أَي نفس الذِّمِّيّ وَمَاله
لَا يتَحَقَّق إِلَّا (بذلك) أَي التَّضْمِين (فَهُوَ) أَي
التَّضْمِين (من ضَرُورَته) أَي الدّفع. (ثمَّ قَالَ أَبُو
حنيفَة) فِي رد الشَّافِعِي حَيْثُ قَالَ: تتَنَاوَل
الْأَحْكَام أهل الذِّمَّة، فَإِن الْكفْر لَا يصلح
للتَّخْفِيف عَنْهُم (وَمنع تنَاول الْخطاب إيَّاهُم) أَي منع
الله أَن يدخلهم تَحت خطابه (مكرا بهم واستدراجا لَهُم) مفعول
لَهُ للْمَنْع، وَهُوَ الْأَخْذ على غرَّة لَا تَخْفِيفًا
عَنْهُم، وَقد يتْرك الْخطاب لشخص عِنْد الْعلم بِأَنَّهُ لَا
يَنْفَعهُ كالطبيب يتْرك مدواة الْمَرِيض، وَلَا يمنعهُ من
التَّخْلِيط عِنْد يأسه من الْبُرْء، وَقَوله منع يحْتَمل أَن
يكون على صِيغَة الْفِعْل الْمَجْهُول أَو الْمصدر، وَالْخَبَر
مَحْذُوف (فِيمَا يحْتَمل التبدل) ظرف لمنع التَّنَاوُل، فَإِن
الْخطاب فِيمَا لَا يحْتَملهُ تناولهم (خطاب لم يشْتَهر)
بِالنِّسْبَةِ إِلَيْنَا، فَإِنَّهُ ترك خطاب وَلم ينتشر بعد
فِي دِيَارنَا كَمَا فِي قصَّة أهل قبَاء حَيْثُ تحولوا نَحْو
الْكَعْبَة فِي الصَّلَاة عِنْد بُلُوغ خبر تَحْويل الْقبْلَة
إيَّاهُم، فَإِنَّهُ لَا يتناولهم، وَإِلَّا لما بنوا مَا
بَقِي من صلَاتهم على مَا صلوه إِلَى بَيت الْمُقَدّس بعد
نزُول الْوَحْي قبل أَن يبلغهم الْخَبَر، فَكَمَا أَنه لَا
يتناولنا فِي الصُّورَة الْمَذْكُورَة فِي الدَّلِيل الَّذِي
يَقْتَضِيهِ لَا يتناولهم مَا يَقْتَضِيهِ (فَلَو نكح
مَجُوسِيّ بنته أَو أُخْته صَحَّ) النِّكَاح (فِي أَحْكَام
الدُّنْيَا) يَعْنِي أَنه لَا يتَعَرَّض لَهُم فَإِنَّهُ
مِمَّا يحْتَمل التبدل كَيفَ وَقد كَانَ فِي شرع آدم عَلَيْهِ
السَّلَام نِكَاح الْأُخْت وَلَا يتناولهم هَذَا الْخطاب،
وَأما فِيمَا بَينهم وَبَين الله تَعَالَى فَلَا يَصح، وَكَذَا
إِذا ترافعا أَي الزَّوْجَانِ المجوسيان (فَلَا نفرق بَينهمَا
إِلَّا إِن ترافعا إِلَيْنَا) لانقيادهما لحكم الْإِسْلَام
حِينَئِذٍ فيتناولهم الْخطاب. قَالَ تَعَالَى - {فَإِن جاءوك
فاحكم بَينهم} - (لَا) يفرق بَينهمَا إِن رفع (أَحدهمَا)
صَاحبه إِلَيْنَا (خلافًا لَهما) أَي لأبي يُوسُف وَمُحَمّد
(فِي) نِكَاح (الْمَحَارِم) فَإِنَّهُ
(4/213)
لَا يَصح عِنْدهمَا فِي أَحْكَام
الدُّنْيَا أَيْضا (لِأَنَّهُ) أَي جَوَاز نِكَاحهنَّ (لم يكن
حكما ثَابتا) قبل الْإِسْلَام لنسخه فِي زمن نوح عَلَيْهِ
السَّلَام (ليبقى) على حَاله: أَي بعده (لقصر الدَّلِيل)
عَنْهُم وَعدم تنَاول عُمُوم الْخطاب إيَّاهُم لتدينهم ذَلِك،
وَقَوله لقصر الدَّلِيل مُتَعَلق بيبقى، وَقد يُجَاب بِأَن ترك
التَّعَرُّض بِمُوجب الذِّمَّة يَقْتَضِي عدم تنَاول الْخطاب
إيَّاهُم فِي جَمِيع مَا يحْتَمل التبدل سَوَاء كَانَ حكما
ثَابتا من الله تَعَالَى فِي حَقهم، أَو من عِنْد أنفسهم
مِمَّا أحدثوه فِي دينهم وَزَعَمُوا أَنه من الله تَعَالَى
تحريفا، لِأَنَّهُ لَا فرق بَين الْقسمَيْنِ فِي الْبطلَان بعد
الْإِسْلَام: نعم يجب أَن لَا يكون من قبيل - {وَأَخذهم
الرِّبَا وَقد نهوا عَنهُ} - كَمَا سَيَأْتِي (و) أَيْضا
خلافًا لَهما (فِي مرافعة أَحدهمَا) أَي أحد الزَّوْجَيْنِ
المحرمين مَعَ صَاحبه إِلَيْنَا، فَإِنَّهُمَا يفرقان بَينهمَا
حِينَئِذٍ، قيل لزوَال الْمَانِع من التَّفْرِيق لانقياد
أَحدهمَا لحكم الْإِسْلَام قِيَاسا على إِسْلَامه، وَمن ثمَّة
لَا يتوارثون بِهَذِهِ الْأَنْكِحَة إِجْمَاعًا انْتهى قلت: بل
لتناول عُمُوم خطاب التَّحْرِيم آبَاءَهُم فِيمَا لم يكن حكما
ثَابتا على مَا سبق، فعلى هَذَا بَيَان هَذَا الْخلاف من
التَّصْرِيح بِمَا علم ضمنا، وَالْقِيَاس على الْإِسْلَام مَعَ
الْفَارِق فَتدبر (وَلَو دخل) الْمَجُوسِيّ (بهَا) أَي
بمنكوحته الْمَذْكُورَة (ثمَّ أسلم) الْمَجُوسِيّ الْمَذْكُور
(حد قاذفها) قيل وَالْوَجْه قَاذفه، وَالْأَحْسَن، ثمَّ أسلما
حد قاذفهما انْتهى قلت صَحَّ قَوْله حد قاذفها على سَبِيل
الْإِطْلَاق بِأَن يُرَاد قاذفهما جَمِيعًا، غَايَة الْأَمر
أَن الْحَد لأَجله إِن أسلم فَقَط ولأجلهما إِن أسلما، وَيفهم
ضمنا حكم قذف كل وَاحِد مِنْهُمَا انفرادا، فَإِن إِسْلَام
الْمَقْذُوف هُوَ الْمُقْتَضى للحد، وَالْمَقْصُود أَن
الدُّخُول بهَا حَال الْكفْر لَا يصلح درءا للحد فِي الْقَذْف
حَال إِسْلَامه (بِخِلَاف الرِّبَا) أَي صِحَة نِكَاح
الْمَحَارِم فِي أَحْكَام الدُّنْيَا ثَابت، بِخِلَاف صِحَة
الرِّبَا فِيهَا (لأَنهم) أَي أهل الذِّمَّة (فسقوا بِهِ) أَي
بالربا (لتحريمه عَلَيْهِم. قَالَ تَعَالَى {وَأَخذهم الرِّبَا
وَقد نهوا عَنهُ} . وروى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه
كتب فِي صلح أهل نَجْرَان أَن لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا فَمن
أكل مِنْهُم فذمتي مِنْهُ بريئة، وَيرد أَن هَذَا فِي حق من
نهى عَن الرِّبَا من أهل الْكتاب فَقَط: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن
يُقَال لما نَص صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صلح قوم من أهل
الذِّمَّة يعْتَبر ذَلِك شرطا فِي سَائِر الصُّلْح، فيتناولهم
حِينَئِذٍ عُمُوم خطاب تَحْرِيم الرِّبَا، وَالله تَعَالَى
أعلم (وَأورد) على مَا ذكر من تَحْرِيم الرِّبَا عَلَيْهِم
بِالنَّهْي عَنهُ من حد الْقَاذِف (أَن نِكَاح الْمَحَارِم
كَذَلِك) مَنْهِيّ عَنهُ (لِأَنَّهُ) أَي نِكَاح الْمَحَارِم
(نسخ بعد آدم) عَلَيْهِ السَّلَام (فِي زمن نوح) فَصَارَ
مَنْهِيّا عَنهُ (فَيجب أَن لَا يَصح) نِكَاح الْمَحَارِم فِي
قَوْله (كقولهما) أَي كَمَا لَا يَصح فِي قَوْلهمَا (فَلَا حد)
على الْقَاذِف (وَلَا نَفَقَة) للمنكوحة الْمَذْكُورَة بِنَاء
على عدم صِحَة النِّكَاح (إِلَّا أَن يُقَال) فِي بَيَان
الْفرق بَين النِّكَاح والربا (بعد) تَسْلِيم (ثُبُوته) أَي
(4/214)
النّسخ لجَوَاز نِكَاح الْمَحَارِم
(المُرَاد من تدينهم) الَّذِي لَا يتَعَرَّض لَهُ وَفَاء لعهد
الذِّمَّة (مَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ) فِيمَا بَينهم واتخذوه
دينا سَوَاء كَانَ مُوَافقا لما شرع الله تَعَالَى لَهُم أَو
لَا، وَالنِّكَاح الْمَذْكُور من هَذَا الْقَبِيل، بِخِلَاف
الرِّبَا وَلَا يخفى عَلَيْك أَن هَذَا مَبْنِيّ على معرفَة
ملتهم تَفْصِيلًا، وَحكم مَحل الِاتِّفَاق (بِخِلَاف انْفِرَاد
الْقَلِيل) مِنْهُم (بِعَدَمِ حد الزِّنَا وَنَحْوه) مِمَّا لم
يتفقوا عَلَيْهِ (وَلِأَن أقل مَا يُوجب الدَّلِيل) مَعْطُوف
على مَا يدل عَلَيْهِ الْكَلَام السَّابِق، كَأَنَّهُ قَالَ:
اعْترض على مَا ذكر لِأَن نِكَاح الْمَحَارِم الخ (كحرمت
عَلَيْكُم أُمَّهَاتكُم الشُّبْهَة، فيدرأ الْحَد) خبر أَن،
يَعْنِي الشُّبْهَة فِي إِحْصَان الْمُسلم الَّذِي دخل بمحرمه
فِي زمَان كفره لاحْتِمَال تنَاوله الذِّمِّيّ فَإِنَّهُ على
ذَلِك يصير زَانيا فَكيف يحد قَاذفه مَعَ هَذِه الشُّبْهَة؟
وَالْحُدُود تندرئ بِالشُّبُهَاتِ (وَفرق) أَبُو حنيفَة (بَين
الْمِيرَاث وَالنَّفقَة) بِاعْتِبَار التدين فِي حق النَّفَقَة
دون الْمِيرَاث (فَلَو ترك بنتين إِحْدَاهمَا زَوجته،
فَالْمَال بَينهمَا نِصْفَيْنِ: أَي بِاعْتِبَار الرَّد) مَعَ
فرضيهما (لِأَنَّهُ) أَي الْمِيرَاث (صلَة) لرحم أَو مَا يقوم
مقَامه (مُبتَدأَة) من غير أَن تكون عوضا لشَيْء (لَا جَزَاء)
للاحتباس (لدفع الْهَلَاك) كَمَا فِي الزَّوْجَة فَإِنَّهَا
محبوسة دَائِما لحق الزَّوْج عاجزة عَن الْكسْب لنَفسهَا،
فَلَو لم ينْفق عَلَيْهَا لهلكت، فَقَوله لدفع الْهَلَاك
تَعْلِيل للُزُوم الْجَزَاء (بِخِلَاف النَّفَقَة) فَإِنَّهَا
لَيست بصلَة مُبتَدأَة، بل جَزَاء لدفع الْهَلَاك، والتدين
سَبَب ضَعِيف يصلح لِأَن يعْتَبر فِي حق ضَرُورِيّ وَلَا يصلح
لِأَن يثبت حق ابْتِدَاء من غير ضَرُورَة ملجئة إِلَى
اعْتِبَاره (فَلَو وَجب إِرْث الزَّوْجَة) الْمَنْكُوحَة
بِالنِّكَاحِ الْمَذْكُور (بديانتها) أَي بِسَبَب أَنَّهَا
تعتقد صِحَة نِكَاحهَا بِمُقْتَضى دينهَا (كَانَت) الدّيانَة
(ملزمة على) الْبِنْت (الْأُخْرَى) نقصا فِي حَقّهَا لأخذ
الْبِنْت الزَّوْجَة سَهْما زَائِدا على مَا تستحقه من النّسَب
(والديانة دافعة) لُزُوم الضَّرَر عَن صَاحبهَا (لَا متعدية)
ملزمة للضَّرَر على غَيره، وَكم من شَيْء يصلح للدَّفْع لَا
للإثبات كالاستصحاب وَغَيره (وَأورد) على الْفرق الْمَذْكُور
(أَن) الْبِنْت (الْأُخْرَى دَانَتْ بِهِ) أَي بِجَوَاز نِكَاح
أُخْتهَا لاتِّفَاقهمَا فِي العقيدة، فلزمها الِاعْتِرَاف
بِزِيَادَة اسْتِحْقَاق أُخْتهَا فَلَا ضَرَر فِي وجوب
الْإِرْث من حَيْثُ الزَّوْجِيَّة نظرا إِلَى دينهم.
وَأَنت خَبِير بِأَن عدم وجوب الْإِرْث إِذا كَانَ بِسَبَب أَن
الدّيانَة دافعة فِي نفس الْأَمر لَا متعدية لَا يخْتَلف الحكم
بديانة الْأُخْرَى صِحَة النِّكَاح للُزُوم كَون الدّيانَة
متعدية فِي نفس الْأَمر: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال أَن
بطلَان كَون الدّيانَة متعدية على هَذَا الْوَجْه مَمْنُوع
(فَذهب بَعضهم) أَي الْحَنَفِيَّة، قيل هَذَا معزو إِلَى كثير
من الْمَشَايِخ (إِلَى أَن قِيَاس قَوْله) أَي أبي حنيفَة
رَحمَه الله تَعَالَى (أَن ترثا) أَي الزَّوْجَة وَالْبِنْت،
وَكَانَ الْأَظْهر أَن يَقُول أَن تَرث من الْجِهَتَيْنِ،
لَكِن لما كَانَت
(4/215)
بِمَنْزِلَة وارثين بِاعْتِبَار
الْجِهَتَيْنِ نزلت منزلتهما، فَعبر عَنْهَا بضمير
التَّثْنِيَة إشعارا بِأَنَّهُ لَو كَانَت الجهتان فِي ذاتين
لَكَانَ يَأْخُذ كل وَاحِد مُقْتَضى جِهَته، فَكَذَا إِذا
اجتمعتا فِي ذَات وَاحِدَة (وَأَن النَّفْي) لإرثها
بِالزَّوْجِيَّةِ (قَوْلهمَا) أَي أبي يُوسُف وَمُحَمّد (لعدم
الصِّحَّة) للنِّكَاح (عِنْدهمَا، وَقيل بل) لَا تَرث
عِنْدهمَا (لِأَنَّهُ إِنَّمَا تثبت صِحَّته فِيمَا سلف) أَي
فِي شَرِيعَة آدم عَلَيْهِ السَّلَام (وَلم يثبت كَونه سَببا
للإرث) فِي تِلْكَ الشَّرِيعَة، فَلَا يثبت سَببا للإرث
بديانتهم، إِذْ لَا عِبْرَة بهَا إِذْ لم تعتمد على شرع، كَذَا
فِي الْمُحِيط. (وَالْقَاضِي) أَبُو زيد (الدبوسي) قَالَ لَا
تَرث (لفساده) أَي النِّكَاح (فِي حق) الْبِنْت (الْأُخْرَى
لِأَنَّهَا إِذا نازعتها) أَي الْبِنْت الزَّوْجَة (عِنْد
القَاضِي) فِي اسْتِحْقَاقهَا الْإِرْث بِالزَّوْجِيَّةِ (دلّ)
النزاع على (أَنَّهَا لم تعتقده) أَي جَوَاز النِّكَاح
وَالْإِرْث مَبْنِيّ عَلَيْهِ، وَلم يُوجد فِي حَقّهَا
(وَمُقْتَضَاهُ) أَي الْمَذْكُور للْقَاضِي الدبوسي (أَنَّهَا)
أَي الْبِنْت الْأُخْرَى (لَو سكتت) عَن مُنَازعَة أُخْتهَا
(ورثت) الْبِنْت الزَّوْجَة بِالزَّوْجِيَّةِ أَيْضا (وَلَا
يعرف عَنهُ) أَي أبي حنيفَة (تَفْصِيل) فِي هَذَا. ثمَّ لما
ظهر من كَلَام الْقَوْم اضْطِرَاب فِي دفع الْإِيرَاد
الْمَذْكُور، وَهُوَ أَن الْأُخْرَى دَانَتْ بِهِ أَرَادَ أَن
يذكر مَا هُوَ الْحق عِنْده فَقَالَ (وَالْحق فِي) لُزُوم
(النَّفَقَة) الزَّوْجِيَّة على الْمَجُوسِيّ سَوَاء كَانَت
محتاجة أَو لَا (أَن الزَّوْج) الْمَجُوسِيّ (أَخذ) وألزم
بِالنَّفَقَةِ (بديانته) واعتقاده (الصِّحَّة) أَي صِحَة
النِّكَاح، فالتزم بالإقدام على النِّكَاح الْإِنْفَاق
عَلَيْهَا وديانته حجَّة عَلَيْهِ (فَلَا يسْقط حق غَيره)
وَهُوَ نَفَقَة الزَّوْجِيَّة (لمنازعته) أَي الزَّوْج
الزَّوْجَة فِي تَسْلِيم النَّفَقَة (بعده) أَي بعد تحقق
النِّكَاح الْمُوجب الْتِزَام النَّفَقَة، وَإِنَّمَا يسْقط
عَنهُ بِإِسْقَاط صَاحب الْحق وَلم يُوجد (بِخِلَاف من لَيْسَ
فِي نِكَاحهمَا) كَذَا وَقع فِي عبارَة فَخر الْإِسْلَام وَصدر
الشَّرِيعَة. وَالْمعْنَى مُنَازعَة الزَّوْج فِي حق
السُّقُوط، بِخِلَاف مُنَازعَة من لَيْسَ لَهُ دخل فِي
النِّكَاح الْوَاقِع بَينهمَا، وَلَيْسَ بملتزم مَا يَتَرَتَّب
عَلَيْهِ فَتسقط النَّفَقَة بعد موت الْمَجُوسِيّ، فقد تعيّنت
النَّفَقَة إِذا نازعتها الْأُخْرَى، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله
(وَهُوَ) أَي من لَيْسَ فِي نِكَاحهمَا. (الْبِنْت الْأُخْرَى)
، وَمُقْتَضَاهُ عدم الْإِرْث من حَيْثُ الزَّوْجِيَّة أَيْضا.
وَفِي الْمُحِيط: كل نِكَاح حرم لحُرْمَة الْمحل لَا يجوز
عِنْدهمَا، وَاخْتلفُوا على قَول أبي حنيفَة: فَعِنْدَ
مَشَايِخ الْعرَاق لَا يَصح إِذا لم يعْتَمد شرعا كَنِكَاح
الْمَحَارِم، لِأَنَّهُ لم يكن مَشْرُوعا فِي شَرِيعَة آدم
عَلَيْهِ السَّلَام إِلَّا لضَرُورَة النَّسْل عِنْد عدم
الْأَجَانِب، وَعند مَشَايِخنَا يَصح لِأَنَّهُ كَانَ فِي شرع
آدم، وَلم يثبت النّسخ حَال كَثْرَة الْأَجَانِب عِنْد
الْمَجُوس (و) الثَّانِي من الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة (جهل
المبتدع كالمعتزلة مانعي ثُبُوت الصِّفَات) الثبوتية من
الْحَيَاة، وَالْقُدْرَة، وَالْعلم، والإرادة، وَالْكَلَام
وَغَيرهَا لله تَعَالَى. قَوْله مانعي ثُبُوت الصِّفَات صفة
أَو عطف بَيَان للمعتزلة لشهرتهم بِهِ، وَغَيرهم من
الْمُتَكَلِّمين الموافقين لَهُم فِي منع
(4/216)
ثُبُوتهَا تبع لَهُم (زَائِدَة) تَمْيِيز
عَن نِسْبَة الثُّبُوت إِلَى الصِّفَات، فَإِنَّهُم يَقُولُونَ
أَنَّهَا عين الذَّات وَلَا يمْنَعُونَ أصل وجودهَا، بل
كَونهَا موجودات زَائِدَة على الذَّات، فمرجع النَّفْي إِلَى
الزِّيَادَة (و) ثُبُوت (عَذَاب الْقَبْر) وَمن متأخريهم من
حكى ذَلِك عَن ضرار بن عَمْرو، وَقَالَ إِنَّمَا نسب إِلَى
الْمُعْتَزلَة وهم بُرَآء عَنهُ لمخالطة ضرار إيَّاهُم،
وَتَبعهُ قوم من السُّفَهَاء المعاندين للحق (و) ثُبُوت
(الشَّفَاعَة) للرسل والأخيار فِي أهل الْكَبَائِر يَوْم
الْقِيَامَة وَبعد دُخُول النَّار (و) ثُبُوت (خُرُوج مرتكب
الْكَبِيرَة) من النَّار إِذا مَاتَ بِلَا تَوْبَة (و) ثُبُوت
(الرُّؤْيَة) البصرية لله تَعَالَى للْمُؤْمِنين فِي الدَّار
الْآخِرَة (و) مثل (الشُّبْهَة لمثبتيها) أَي الصِّفَات
الْمَذْكُورَة لله تَعَالَى زَائِدَة على الذَّات لَكِن (على
مَا) أَي على الْوَجْه الَّذِي (يُفْضِي إِلَى التَّشْبِيه)
بالمخلوق، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يصفونَ - {لَيْسَ
كمثله شَيْء وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} -. وَقَوله لمثبتيها
مُضَاف إِلَى الضَّمِير من قبيل الضار بك (لَا يصلح عذرا) خبر
الْمُبْتَدَأ، يَعْنِي جهل المبتدع لَا يصلح عذرا وَلَا
شُبْهَة فَإِن قلت: كَونه لَا يكفر يدل على أَنه يصلح شُبْهَة
قلت: المُرَاد أَنه لَا يصلح شُبْهَة فِي حق التفسيق (لوضوح
الْأَدِلَّة) الدَّالَّة على خلاف مَا زَعَمُوا (من الْكتاب
وَالسّنة الصَّحِيحَة، لَكِن لَا يكفر) المبتدع بِهِ (إِذْ
تمسكه) فِي ذَلِك الْجَهْل وَمَا ذهب إِلَيْهِ (بِالْقُرْآنِ
أَو الحَدِيث أَو الْعقل) كَمَا ذكر فِي مَحَله (وللنهي عَن
تَكْفِير أهل الْقبْلَة) . روى الْبَيْهَقِيّ بِسَنَد صَحِيح
أَن جَابر بن عبد الله سُئِلَ هَل تسمون الذُّنُوب كفرا أَو
شركا أَو نفَاقًا. قَالَ معَاذ الله وَلَكنَّا نقُول مُؤمنين
مذنبين، وروى أَبُو دَاوُد وَسكت عَلَيْهِ عَن أنس قَالَ:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث من أصل
الْإِيمَان: الْكَفّ عَمَّن قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله لَا
نكفره بذنب وَلَا نخرجهُ عَن الْإِسْلَام بِعَمَل فَإِنَّمَا
هُوَ هُوَ (وَعنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من صلى صَلَاتنَا
واستقبل قبلتنا وَأكل ذبيحتنا فَاشْهَدُوا لَهُ بِالْإِيمَان)
رَوَاهُ النَّسَائِيّ، وَهُوَ طرف من حَدِيث طَوِيل أخرجه
البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ إِلَّا أَنهم
قَالُوا بدل فَاشْهَدُوا إِلَى آخِره، فَذَلِك الْمُسلم
الَّذِي لَهُ ذمَّة الله وَذمَّة رَسُوله وَفِي هَذَا
أَحَادِيث كَثِيرَة وَقد نَص عَلَيْهِ أَبُو حنيفَة رَحمَه
الله تَعَالَى فِي الْفِقْه الْأَكْبَر حَيْثُ قَالَ: وَلَا
نكفر أحدا بذنب من الذُّنُوب وَإِن كَانَ كَبِيرَة مَا لم
يستحلها (وَجمع بَينه) أَي هَذَا الحَدِيث (وَبَين) حَدِيث
افْتَرَقت الْيَهُود على إِحْدَى وَسبعين، وافترقت النَّصَارَى
على ثِنْتَيْنِ وَسبعين فرقة، و (ستفرق أمتِي على ثَلَاث
وَسبعين) فرقة، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن
مَاجَه، وللترمذي كلهم فِي النَّار إِلَّا مِلَّة وَاحِدَة
قَالُوا: من هِيَ يَا رَسُول الله.؟ قَالَ مَا أَنا عَلَيْهِ
وأصحابي، وَلِلْحَدِيثِ طرق كَثِيرَة من رِوَايَة كثير من
الصَّحَابَة بِأَلْفَاظ مُتَقَارِبَة (أَن الَّتِي فِي
الْجنَّة المتبعون) لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ولأصحابه رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم (فِي العقائد والخصال)
الْخصْلَة الْخلَّة والفضيلة، وَالْمرَاد هَهُنَا الْأَخْلَاق
الحميدة كالجود
(4/217)
والحلم وَالرَّحْمَة والتواضع إِلَى غير
ذَلِك (وَغَيرهم) أَي غير المتبعين (يُعَذبُونَ) فِي النَّار
بِمَا شَاءَ الله (وَالْعَاقبَة الْجنَّة وعدوهم) أَي عَدو أهل
السّنة وَالْجَمَاعَة غير المتبعين فِيمَا ذكر (من أهل
الْكَبَائِر) لكَون بدعتهم فِي العقيدة كَبِيرَة لمخالفتهم
ظواهر النُّصُوص وجوابهم عَلَيْهَا بتأويلها اعْتِمَادًا على
مَا تستحسنه عُقُولهمْ الزائغة وتعمقهم فِي أُمُور منع
الشَّارِع عَن الْخَوْض فِيهَا على خلاف مَا نَص عَلَيْهِ
الصَّحَابَة وتابعوهم رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم (وللإجماع
على قبُول شَهَادَتهم على غَيرهم) وَمَا قيل من أَن مَالِكًا
لَا يقبلهَا، وَتَابعه أَبُو حَامِد من الشَّافِعِيَّة،
اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُرَاد إِجْمَاع من قبله لَيْسَ بِشَيْء
لِأَنَّهُ يسْتَلْزم مُخَالفَته الْإِجْمَاع وَهُوَ بَاطِل بل
يحمل على الْإِجْمَاع الظني وَهُوَ مَا إِذا كَانَ الْمُخَالف
نَادرا كإجماع من عدا ابْن عَبَّاس على الْعَوْل، وَمن عدا
أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيّ على أَن النّوم نَاقض وَمن عدا
أَبَا طَلْحَة على أَن الْبرد مفطر. وَقَالَ القَاضِي عضد
الدّين: الظَّاهِر أَنه حجَّة لِأَنَّهُ يدل ظَاهرا على وجود
رَاجِح أَو قَاطع (وَلَا شَهَادَة لكَافِر على مُسلم) لقَوْله
تَعَالَى - {وَلنْ يَجْعَل الله للْكَافِرِينَ على
الْمُؤمنِينَ سَبِيلا} - (وَعَدَمه) أَي عدم قبُول الشَّهَادَة
(فِي الخطابية) من الرافضة (لَيْسَ لَهُ) أَي لكفرهم بل
لتدينهم الْكَذِب فِيهَا لمن كَانَ على رَأْيهمْ أَو حلف أَنه
محق (وَإِذ كَانُوا) أَي المبتدعة (كَذَلِك) أَي غير كفار
(وَجب علينا مناظرتهم) لإِزَالَة الشُّبْهَة الَّتِي أوقعتهم
فِي تِلْكَ الْبِدْعَة وإظهارا للصَّوَاب. (وَأورد) على نفي
تكفيرهم بطرِيق الْمُعَارضَة: يَعْنِي إِن كَانَ لكم دَلِيل
يدل على عدم تكفيرهم فعندنا دَلِيل يدل على كفرهم، وَهُوَ
قَوْلنَا (اسْتِبَاحَة الْمعْصِيَة كفر) فنائب الْفَاعِل فِي
أورد هَذِه الْجُمْلَة بِتَأْوِيل هَذَا القَوْل. (وَأجِيب)
عَن الْإِيرَاد بِأَن اسْتِبَاحَة الْمعْصِيَة كفر (إِذا كَانَ
ذَلِك عَن مُكَابَرَة وَعدم دَلِيل، بِخِلَاف مَا) إِذا كَانَ
(عَن دَلِيل شَرْعِي) أَي مَأْخُوذ من الشَّرْع احْتِرَازًا
عَمَّا إِذا لم يكن شَرْعِيًّا كالأدلة الشَّرْعِيَّة
الْحكمِيَّة فَإِنَّهُ إِذا كَانَ لَهُم دَلِيل شَرْعِي يدل
بزعمهم على أَن مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ حق يجب اتِّبَاعه لَا
يُقَال حِينَئِذٍ أَنهم استباحوا مَعْصِيّة فَإِن قلت
فَيَنْبَغِي حِينَئِذٍ أَن يفسقوا بذلك أَيْضا لأَنهم اجتهدوا
فآل اجتهادهم إِلَى ذَلِك قلت شبهتهم تصلح لدرء الْكفْر، لَا
لدرء الْفسق، لِأَن الشَّارِع أمرنَا بِعَدَمِ تَكْفِير أهل
الْقبْلَة، لَا بِعَدَمِ تفسيقهم إِذا كَانَ مَا يدل على
خلافهم من الْكتاب وَالسّنة وَاضح الدّلَالَة (والمبتدع مُخطئ
فِي تمسكه) بِمَا كَانَ يزْعم أَنه دَلِيل لَهُ من الْكتاب
وَالسّنة لعدم إِصَابَته حكم الله تَعَالَى فِي اجْتِهَاده،
فَإِن حكم الله فِيمَا يتَعَلَّق بالاعتقاد وَاحِد بِاتِّفَاق
المخطئة والمصوبة (لَا مكابر) ومعاند، لِأَن المكابرة إِنَّمَا
تكون عِنْد الْعلم بِخِلَاف مَا يَدعِيهِ (وَالله تَعَالَى
أعلم بسرائر عباده) فيجازيهم بموجبها. قَالَ المُصَنّف فِي
المسايرة: لَا خلاف فِي تَكْفِير الْمُخَالف فِي ضروريات
الْإِسْلَام من حُدُوث الْعَالم وَحشر الأجساد وَنفي الْعلم
بالجزئيات وَإِن كَانَ من أهل الْقبْلَة المواظب
(4/218)
طول الْعُمر على الطَّاعَات انْتهى.
وَقَالَ الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام رَجَعَ
الْأَشْعَرِيّ عِنْد مَوته عَن تَكْفِير أهل الْقبْلَة، لِأَن
الْجَهْل بِالصِّفَاتِ لَيْسَ جهلا بالموصوفات انْتهى. وَذهب
الإِمَام الرَّازِيّ وَالشَّيْخ الْمَذْكُور أَن من يلْزمه
الْكفْر وَلم يقل بِهِ فَلَيْسَ بِكَافِر، فعلى هَذَا لَا تكفر
المجسمة، وَإِن لزم عَلَيْهِم إِثْبَات النَّقْص، تَعَالَى
شَأْنه عَمَّا يَقُولُونَ لأَنهم لم يَقُولُوا بِهِ، لَكِن
المُصَنّف ذكر فِي المسايرة أَن الْأَظْهر كفرهم، فَإِن
إِطْلَاق الْجِسْم مُخْتَارًا مَعَ الْعلم بِمَا فِيهِ من
النَّقْص استخفاف (و) الثَّالِث من الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة
(جهل الْبَاغِي وَهُوَ) الْمُسلم (الْخَارِج على الإِمَام
الْحق) مثل الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَمن سلك طريقهم، يظنّ
أَنه على الْحق وَالْإِمَام على الْبَاطِل (بِتَأْوِيل فَاسد)
فَإِن لم يكن لَهُ تَأْوِيل فَهُوَ فِي حكم اللُّصُوص، وَهُوَ
لَا يصلح عذرا لمُخَالفَته التَّأْوِيل الْوَاضِح، وَهَذَا
الْجَهْل (دون جهل المبتدعة) لِأَنَّهُ لَا يخل بِأَصْل
العقيدة، الظّرْف خبر الْمُبْتَدَأ الْمَحْذُوف، وَقَوله (لم
يكفره) أَي الْبَاغِي مُسْتَأْنف لبَيَان مَضْمُون الْخَبَر
(أحد) من أهل الْعلم، فالجهل الَّذِي لَا يُوجب الْكفْر
إِجْمَاعًا دون الْجَهْل الَّذِي اخْتلف فِي إِيجَابه إِيَّاه
(إِلَّا أَن يضم) الْبَاغِي إِلَيْهِ (أمرا آخر) كإنكار شَيْء
من ضروريات الدّين فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يكفر بِسَبَب ذَلِك
الْأَمر، لَا للبغي، وَالِاسْتِثْنَاء من عُمُوم الْأَوْقَات
بِتَقْدِير الْوَقْت بعد إِلَّا (وَقَالَ عَليّ رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ) فِي أهل الْبَغي (إِخْوَاننَا (بغوا علينا)
وَلَا يُقَال للْكَافِرِ إِخْوَاننَا، فَإِن المُرَاد مِنْهُ
أخوة الْإِسْلَام، وَقَالَ تَعَالَى - {إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة فأصلحوا بَين أخويكم} - فِي بَيَان حكم
أهل الْبَغي (فنناظره) أَي الْبَاغِي (لكشف شبهته) ليرْجع
إِلَى طَاعَة الإِمَام بِغَيْر قتال (بعث عَليّ) بن أبي طَالب
(ابْن عَبَّاس) رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا (لذَلِك) أَي
لمناظرة أهل الْبَغي من الْخَوَارِج كَمَا أخرجه النَّسَائِيّ
وَغَيره (فَإِن رَجَعَ) إِلَى طَاعَة الإِمَام (بِالَّتِي) أَي
بالخصلة الَّتِي (هِيَ أحسن) وَهِي إِزَالَة الشُّبْهَة
وَإِظْهَار الْحق من غير قتال فبها (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم
يرجع إِلَى طَاعَته (وَجب جهاده) لقَوْله تَعَالَى - {فَإِن
بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى (فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي}
حَتَّى تفيء إِلَى أَمر الله} - أَي ترجع إِلَى كتاب الله
تَعَالَى وَسنة رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلِأَن
النَّهْي عَن الْمُنكر فرض، وَذَلِكَ بِالْقِتَالِ حِينَئِذٍ،
ظَاهر سِيَاق الْآيَة يدل على أَن هَذِه الدعْوَة لَهُم قبل
الْقِتَال وَاجِبَة، وَإِنَّمَا الْقِتَال يجب بعْدهَا، وَفِي
الْمَبْسُوط أَن الْقِتَال وَاجِب قبلهَا، وَإِنَّمَا
تَقْدِيمهَا أحسن، وَقيل مُسْتَحبّ (وَمَا لم يصر لَهُ) أَي
وَمَا دَامَ لم يصر للباغي (مَنْعَة) بِالتَّحْرِيكِ، وَقد
يسكن: أَي قُوَّة يمْنَع بهَا من قَصده (فيجرى عَلَيْهِ) أَي
على الْبَاغِي (الحكم الْمَعْرُوف) فِي الْقصاص وغرامات
الْأَمْوَال وَغَيرهَا من الْمُسلمين لبَقَاء ولَايَة
الْإِلْزَام فِي حَقه كَمَا فِي حَقهم (فَيقْتل) الْبَاغِي
(بِالْقَتْلِ) الْعمد الْعدوان (وَيحرم) الْبَاغِي (بِهِ) أَي
بِالْقَتْلِ لمورثه الْإِرْث مِنْهُ (وَمَعَهَا) أَي المنعة
(لَا) يجْرِي عَلَيْهِ الحكم الْمَعْرُوف (لقُصُور الدَّلِيل
(4/219)
عَنهُ) أَي الْبَاغِي (لسُقُوط الْتِزَامه)
الَّذِي كَانَ لَهُ قبل الْبَغي بِسَبَب تَأْوِيله الَّذِي
اسْتندَ إِلَيْهِ لدفع الْخَطَأ عَنهُ (وَالْعجز عَن
إِلْزَامه) بِسَبَب المنعة (فَوَجَبَ الْعَمَل بتأويله)
الْفَاسِد، تَحْقِيق الْمقَام على مَا ذكر المُصَنّف فِي شرح
الْهِدَايَة أَنه أجمع أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم على أَن لَا يقيموا على أحد حدا فِي فرج اسْتَحَلُّوهُ
بِتَأْوِيل الْقُرْآن، وَلَا قصاصا فِي دم اسْتَحَلُّوهُ
بِتَأْوِيل الْقُرْآن، وَلَا برد مَال اسْتَحَلُّوهُ
بِتَأْوِيل الْقُرْآن إِلَّا أَن وجد شَيْء بِعَيْنِه فَيرد
على صَاحبه، وَأَيْضًا الْفَاسِد من الِاجْتِهَاد يلْحق
بِالصَّحِيحِ عِنْد انضمام المنعة إِلَيْهِ لانْقِطَاع ولَايَة
الْإِلْزَام وَلَا يخفى أَن إِلْحَاق الِاجْتِهَاد الْفَاسِد
من الِاجْتِهَاد الَّذِي ضلل مرتكبه بعلة انْقِطَاع ولَايَة
الْإِلْزَام إِنَّمَا يُصَار إِلَيْهِ بِسَبَب الْإِجْمَاع،
وَإِلَّا فَلَا يلْزم من الْعَجز عَن الْإِلْزَام سُقُوطه، بل
إِنَّمَا يلْزم سُقُوط الْخطاب بالإلزام مَا دَامَ الْعَجز عَن
إِلْزَامه ثَابتا فَإِذا ثبتَتْ الْقُدْرَة تعلق خطاب
الْإِلْزَام كَمَا يَقُوله الشَّافِعِي (وَلَا نضمن مَا أتلفنا
من نفس وَمَال) . قيل هَذَا ظَاهر لَا خلاف فِيهِ، وَقد كَانَ
الأولى لَا يضمن الْبَاغِي مَا أتلف من نفس وَمَال فِي هَذِه
الْحَالة بعد أَخذه أَو تَوْبَته كَمَا فِي الْحَرْبِيّ بعد
الْإِسْلَام تَفْرِيعا على وجوب الْعَمَل بتأويله انْتهى وَلَا
يخفى عَلَيْك أَنه صرح بقوله لَا لقُصُور الدَّلِيل عَنهُ
إِلَى آخِره أَن الْبَاغِي إِذا كَانَ مَعَ المنعة لَا
يتَنَاوَلهُ الْخطاب، وَلَا شكّ أَن من لَا يتَنَاوَلهُ
الْخطاب لَا يضمن، فالمحتاج إِلَى الذّكر حكم من لم يقصر عَنهُ
الدَّلِيل وَقد أتلف نفس الْبَاغِي وَمَاله وَهُوَ مُسلم
فَقَالَ: لَا نضمن، فَذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ مَضْمُونا
مَأْمُورا من قبل الشَّارِع بِالْقِتَالِ وَمن ضَرُورَته
إتلافهما فقد عرفت أَنه لَا يتَفَرَّع عدم الضَّمَان على وجوب
الْعَمَل بتأويله بل على قَوْله وَجب جهاده. قَالَ المُصَنّف
فِي شرح الْهِدَايَة: الْحَاصِل أَن نفي الضَّمَان مَنُوط
بالمنعة مَعَ التَّأْوِيل فَلَو تجرد المنعة عَن التَّأْوِيل
كقوم غلبوا على أهل بَلْدَة فَقتلُوا واستهلكوا الْأَمْوَال
بِلَا تَأْوِيل، ثمَّ ظهر عَلَيْهِم أخذُوا بِجَمِيعِ ذَلِك،
وَلَو انْفَرد التَّأْوِيل عَن المنعة بِأَن انْفَرد وَاحِد
أَو اثْنَان فَقتلُوا وَأخذُوا عَن تَأْوِيل ضمنُوا إِذا
تَابُوا أَو قدر عَلَيْهِم (ويذفف على جرحاهم) فِي الْمغرب.
ذفف على الجريح بِالذَّالِ وَالدَّال، أسْرع قَتله، وَفِي
كَلَام مُحَمَّد عبارَة عَن إتْمَام الْقَتْل، وَظَاهر هَذِه
الْعبارَة وجوب التدفيف كَمَا صرح بِهِ فَخر الْإِسْلَام،
وَذَلِكَ لقطع مَادَّة الْفساد الْمَذْكُور. فِي الْمَبْسُوط
أَنه لَا بَأْس بِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِي وَأحمد لَا يجوز لما
روى عَن عَليّ أَنه قَالَ: يَوْم الْجمل لَا تتبعوا مُدبرا
وَلَا تجهزوا جريحا، وَقَالُوا أَن التدفيف مَشْرُوط بِمَا
إِذا كَانَت لَهُم فِئَة، وَيفهم اعْتِبَار هَذَا الْقَيْد من
اشْتِرَاط المنعة فِي نفي الضَّمَان (وَيَرِث) الْعَادِل
(مُوَرِثه) الْبَاغِي (إِذا قَتله) أَي قتل الْعَادِل
الْبَاغِي اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ مَأْمُور بقتْله فَلَا يحرم
الْمِيرَاث بِهِ (وَكَذَا عَكسه) أَي يَرث الْبَاغِي مُوَرِثه
الْعَادِل إِذا قَتله وَقَالَ كنت على الْحق وَأَنا الْآن
عَلَيْهِ لما عرفت من أَنه بِسَبَب التَّأْوِيل والمنعة لَا
يتَنَاوَل الْخطاب وَهُوَ مُسلم فَلَا مَانع من الْإِرْث (لأبي
حنيفَة وَمُحَمّد) مُتَعَلق بقوله وَكَذَا
(4/220)
وَكَذَا عَكسه: أَي عكس مَذْهَب لَهما،
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ لَا يَرِثهُ فِي
الْوَجْهَيْنِ: أَي سَوَاء قَالَ كنت على الْحق أَو قَالَ: كنت
على الْبَاطِل، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يتَنَاوَلهُ خطاب تَحْرِيم
قتل الْمُسلم وحرمان الْقَاتِل من الْإِرْث عِنْدهمَا (وَلَا
يملك مَاله) أَي مَال الْبَاغِي (بوحدة الدَّار) أَي بِسَبَب
وحدة الدَّار لِأَنَّهُمَا فِي دَار الْإِسْلَام، فَإِن تملك
المَال بطرِيق الِاسْتِيلَاء يتَوَقَّف على اخْتِلَاف
الدَّاريْنِ وَهُوَ مُنْتَفٍ (على هَذَا اتّفق عَليّ
وَالصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم) أخرج ابْن أبي
شيبَة أَن عليا لما هزم طَلْحَة وَأَصْحَابه أَمر مناديه
فَنَادَى أَن لَا يقتل مقبل وَلَا مُدبر وَلَا يفتح بَاب وَلَا
يسْتَحل فرج وَلَا مَال، وَلم ينْقل عَن غَيره من الصَّحَابَة
مُخَالفَته فَكَانَ إِجْمَاعًا مِنْهُم (و) الرَّابِع من
الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة (جهل من عَارض مجتهده) على الْبناء
للْمَفْعُول، فِيهِ حذف وإيصال كالمشترك أَصله مُشْتَرك فِيهِ
(الْكتاب كحل مَتْرُوك التَّسْمِيَة عمدا) مِثَال لمجتهده
الْعَارِض للْكتاب وَيُمكن أَن يكون الْمَعْنى كجهل مُجْتَهد
قَالَ بحله (و) جَوَاز (الْقَضَاء بِشَاهِد) وَاحِد (وَيَمِين)
من الْمُدَّعِي معارضين (مَعَ) قَوْله تَعَالَى {وَلَا
تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ} أَو رد
عَلَيْهِ أَن مَا فِي الْآيَة كِنَايَة عَمَّا لم يذبحه موحد،
وَفِي الْكِنَايَة أَنه لَا يلْزم تحقق الْمَعْنى الْأَصْلِيّ،
وَلَو سلم إِرَادَة الْحَقِيقَة، لم لَا يجوز أَن يكون الذّكر
القلبي كَافِيا؟ وَالْجَوَاب أَن صرف الْعبارَة عَن
الْحَقِيقَة بِغَيْر صَارف لَا يجوز فَإِن قلت الصَّارِف مَا
احْتج بِهِ الشَّافِعِي من قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم "
الْمُسلم يذبح على اسْم الله تَعَالَى سمى أَو لم يسم "
قُلْنَا هَذَا ورد فِي النسْيَان، فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم سُئِلَ عَمَّن نسي التَّسْمِيَة على الذَّبِيحَة
فَقَالَ: اسْم الله على لِسَان كل مُسلم، وَقَالَ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ذَبِيحَة الْمُسلم حَلَال سمى أَو لم يسم مَا
لم يتَعَمَّد تَركه. وَحجَّتنَا الْكتاب وَالسّنة
وَالْإِجْمَاع، أما الْكتاب فَهَذِهِ الْآيَة، وَأما السّنة
فَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعدي بن حَاتِم: إِذا أرْسلت
كلبك الْمعلم وَذكرت اسْم الله تَعَالَى فَكل فَإِن شَاركهُ
كلب آخر فَلَا تَأْكُل فَإنَّك إِنَّمَا سميت على كلبك فعلل
الْحُرْمَة بترك التَّسْمِيَة، وَأما الْإِجْمَاع فَلَا خلاف
بَين الصَّحَابَة فِي حُرْمَة مَتْرُوك التَّسْمِيَة عَامِدًا
وَإِنَّمَا الْخلاف بَينهم فِي متروكها نَاسِيا، فمذهب ابْن
عمر أَنه يحرم، وَمذهب عَليّ وَابْن عَبَّاس أَنه يحل، وَقَالَ
أَبُو يُوسُف مَتْرُوك التَّسْمِيَة عَامِدًا لَا يسوغ فِيهِ
الِاجْتِهَاد حَتَّى لَو قضى قَاض بِجَوَاز بَيْعه لَا ينفذ
لكَونه مُخَالفا للْإِجْمَاع، كَذَا فِي شرح الْقَدُورِيّ
للْإِمَام الحدادي، وَصُورَة مَتْرُوك التَّسْمِيَة عمدا أَن
يعلم أَن التَّسْمِيَة شَرط وَيَتْرُكهَا مَعَ ذكرهَا، أما لَو
تَركهَا من لَا يعلم اشْتِرَاطهَا فَهُوَ فِي حكم النَّاسِي:
كَذَا فِي الْحَقَائِق، وَأما الْجَواب عَن الذّكر القلبي
فَمَا قَالُوا من أَنه يُقَال ذكر عَلَيْهِ وسمى عَلَيْهِ
بِلِسَانِهِ وَلَا يُقَال بِقَلْبِه (فَإِن لم يَكُونَا
رجلَيْنِ فَرجل وَامْرَأَتَانِ) مَعْطُوف على مَدْخُول مَعَ
والعاطف مَحْذُوف كَقَوْلِه تَعَالَى - (وَلَا على الَّذين
إِذا مَا أتوك لتحملهم قلت
(4/221)
أَي وَقلت وَيجوز أَن يَجْعَل الْمَحْذُوف
مُضَافا إِلَيْهِ مَعَ على سَبِيل اللف والنشر الْمُرَتّب،
قَالُوا إِن الله تَعَالَى بَين الْمُعْتَاد بَين النَّاس،
وَهُوَ شَهَادَة رجلَيْنِ، ثمَّ انْتقل إِلَى غَيره، فَإِن
حضورهن مجَالِس الحكم غير مُعْتَاد مُبَالغَة فِي الْبَيَان،
فَلَو كَانَ يَمِين الْمُدَّعِي مَعَ شَاهد كَافِيا لانتقل
إِلَيْهِ لكَونه أيسر وجودا فَدلَّ النَّص التزاما على عدم
حجية يَمِين الْمُدَّعِي مَعَ شَاهد (وَالسّنة الْمَشْهُورَة)
مَعْطُوف على الْكتاب: أَي وَجعل من يُعَارض مجتهده للسّنة
الْمَشْهُورَة (كالقضاء الْمَذْكُور مَعَ) قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم:
" الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي (وَالْيَمِين على من أنكر) لفظ
الصَّحِيحَيْنِ وَالْبَيْهَقِيّ: وَالْيَمِين على الْمُدَّعِي
عَلَيْهِ، جعل جنس الْأَيْمَان على الْمُنكر، وَلَيْسَ وَرَاء
الْجِنْس شَيْء، وَمَا عَن ابْن عَبَّاس من أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قضى بِشَاهِد وَيَمِين، فقد روى عَن
البُخَارِيّ وَغَيره انْقِطَاعه، وَمِنْهُم من ذكره فِي
الضُّعَفَاء، وَله طرق لَا تَخْلُو كلهَا من نظر، وَعَن
الزُّهْرِيّ بِأَنَّهُ بِدعَة، وَأول من قضى بِهِ مُعَاوِيَة.
وَأورد أَنه لم يبْق لتضعيف الحَدِيث مجَال بعد مَا أخرجه
مُسلم وَأجِيب بِأَنَّهُ لَيْسَ بمعصوم عَن الْخَطَأ فِي
الْمُحدثين، فَمن الْمُحدثين من قَالَ فِي كِتَابه أَرْبَعَة
عشر حَدِيثا مَقْطُوعًا، وَمِنْهُم من أَخذ عَلَيْهِ فِي سبعين
موضعا رَوَاهُ مُتَّصِلا وَهُوَ مُنْقَطع، على أَن مَا رَوَاهُ
حِكَايَة وَاقعَة لَا عُمُوم لَهَا، وَيجوز أَن تكون فِي مَحل
الِاتِّفَاق: كَشَهَادَة الطّيب أَو امْرَأَة فِي عيب لَا يطلع
عَلَيْهِ غير ذَلِك الشَّاهِد واستحلاف المُشْتَرِي على أَنه
لم يرض بِالْعَيْبِ، ثمَّ أَن الْقَضَاء بِيَمِين الْمُدَّعِي
وَشَاهد وَاحِد لَا يَصح فِي غير الْأَمْوَال عِنْد جُمْهُور
الْعلمَاء (والتحليل) أَي وكالقول بِحل الْمُطلقَة ثَلَاثًا
لزَوجهَا الأول إِذا تزَوجهَا الثَّانِي ثمَّ طَلقهَا (بِلَا
وَطْء) كَمَا هُوَ قَول سعيد بن الْمسيب (مَعَ حَدِيث
الْعسيلَة) وَهُوَ مَا روى الْجَمَاعَة عَن عَائِشَة رَضِي
الله عَنْهَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن رجل طلق
امْرَأَته ثَلَاثًا فَتزوّجت زوجا غَيره فَدخل بهَا ثمَّ
طَلقهَا قبل أَن يواقعها أتحل لزَوجهَا الأول؟ قَالَ لَا
حَتَّى يَذُوق الآخر من عسيلتها مَا ذاق الأول. قَالَ الصَّدْر
الشَّهِيد: وَمن أفتى بِهَذَا القَوْل فَعَلَيهِ لعنة الله
وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ. وَفِي الْمَبْسُوط:
لَو أفتى فَقِيه بذلك يعزز (وَالْإِجْمَاع) أَي وَجَهل من
عَارض مجتهده الْإِجْمَاع (كَبيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد) أَي
جَوَازه كَمَا ذهب إِلَيْهِ دَاوُد الظَّاهِرِيّ (مَعَ
إِجْمَاع الْمُتَأَخر من الصَّحَابَة) قيل وَالْوَجْه من
التَّابِعين لما تقدم من اخْتِلَاف الصَّحَابَة فِي جَوَازه
وَإِجْمَاع التَّابِعين على مَنعه.
أَقُول فِي هَذَا الْكَلَام بعد مَا ذكر فِي بحث الْإِجْمَاع
اخْتِلَاف الصَّحَابَة وَإِجْمَاع التَّابِعين إِشَارَة إِلَى
مَا عرف من أَن الصَّحَابَة كلهم على عدم جَوَاز بيعهنَّ
إِلَّا عليا رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فَبعد موت عَليّ
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ حصل الْإِجْمَاع من الصَّحَابَة.
وَقد علم إِجْمَاع التَّابِعين مِمَّا سبق، فعلى قَول من لم
يعْتَبر فِي الْإِجْمَاع إِلَّا إِجْمَاع الصَّحَابَة أَيْضا
يتم الِاسْتِدْلَال (فَلَا ينفذ الْقَضَاء
(4/222)
بِشَيْء مِنْهَا) أَي المجتهدات
الْمَذْكُورَة الْمُخَالفَة للْكتاب أَو السّنة الْمَشْهُورَة
أَو الْإِجْمَاع لكَونهَا فِي مُقَابلَة الْقطعِي وَلَا يخفى
عَلَيْك أَن للبحث فِي كل مِنْهَا مجالا لعدم قَطْعِيَّة
دلَالَة الْكتاب على الْخلاف وَكَون الْمَشْهُور آحادا فِي
الأَصْل، وَكَون الْإِجْمَاع الْمَسْبُوق بِالْخِلَافِ
مُخْتَلفا فِيهِ بَين الْعلمَاء، غير أَنه لما كَانَ أمرا
مقررا فِي الْمَذْهَب لم يتَعَرَّض المُصَنّف لَهُ، وَعدم
نَفاذ الْقَضَاء بهَا قَول الْجُمْهُور من الْحَنَفِيَّة،
وتفصيلة فِي الْكتب المفصلة من الْفُرُوع (وكترك الْعَوْل)
كَمَا ذهب إِلَيْهِ ابْن عَبَّاس (وَربا الْفضل) أَي القَوْل
بحله كَمَا صَحَّ عَن ابْن عَبَّاس، وَقد روى رُجُوعه عَنهُ.
أخرج الطَّحَاوِيّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قلت: لِابْنِ
عَبَّاس: أَرَأَيْت الَّذِي يَبِيع الدينارين بالدينار
وَالدِّرْهَم بِالدِّرْهَمَيْنِ أشهد لسمعت رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول الدِّينَار بالدينار وَالدِّرْهَم
بالدرهم لَا فضل بَينهمَا، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: أَنْت سَمِعت
هَذَا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقلت نعم،
فَقَالَ إِنِّي لم أسمع هَذَا إِنَّمَا أخبرنيه أُسَامَة بن
زيد، وَقَالَ أَبُو سعيد وَنزع عَنْهَا ابْن عَبَّاس
(الثَّانِي) من الْأَقْسَام الثَّلَاثَة (جهل يصلح شُبْهَة)
دارئة للحد وَالْكَفَّارَة، وعذرا فِي غَيرهمَا (كالجهل فِي
مَوضِع اجْتِهَاد صَحِيح بِأَن لم يُخَالف) الْمُجْتَهد (مَا
ذكر) من الْكتاب وَالسّنة الْمَشْهُورَة وَالْإِجْمَاع (كمن
صلى الظّهْر بِلَا وضوء ثمَّ صلى الْعَصْر بِهِ) أَي بِوضُوء
(ثمَّ ذكر) أَنه صلى الظّهْر بِلَا وضوء (فَقضى الظّهْر فَقَط
ثمَّ صلى الْمغرب يظنّ جَوَاز الْعَصْر) لجهله بِوُجُوب
التَّرْتِيب (جَازَ) أَدَاؤُهُ صَلَاة الْمغرب (لِأَنَّهُ) أَي
ظَنّه جَوَاز الْعَصْر (فِي مَوضِع الِاجْتِهَاد) الصَّحِيح
(فِي تَرْتِيب الْفَوَائِت) فَإِنَّهُ وَقع بَين الْعلمَاء
خلاف فِي وجوب التَّرْتِيب، وَلَيْسَ فِي الْمحل دَلِيل
قَطْعِيّ، وَكَانَ هَذَا الْجَهْل عذرا فِي جَوَاز الْمغرب لَا
الْعَصْر، وَالْفرق أَن فَسَاد الظّهْر بترك الْوضُوء قوي،
وَفَسَاد الْعَصْر بترك التَّرْتِيب ضَعِيف لِأَنَّهُ مُخْتَلف
فِيهِ، فيؤثر الأول فِيمَا بعده دون الثَّانِي، وَكَانَ الْحسن
بن زِيَاد يَقُول إِنَّمَا يجب مُرَاعَاة التَّرْتِيب على من
يعلم، لَا على من لَا يعلم، وَكَانَ زفر يَقُول إِذا كَانَ
عِنْده أَن ذَلِك يجْزِيه فَهُوَ فِي معنى النَّاسِي للفائتة،
وَفِيه مَا فِيهِ (وكقتل أحد الوليين) قَاتل موليه عمدا
عُدْوانًا (بعد عَفْو) الْوَلِيّ (الآخر) جَاهِلا بِسُقُوط
الْقود بعفوه (لَا يقْتَصّ مِنْهُ) أَي من الْقَاتِل لِأَن
هَذَا جهل فِي مَوضِع الِاجْتِهَاد (لقَوْل بعض الْعلمَاء) من
أهل الْمَدِينَة على مَا فِي التذهيب (بِعَدَمِ سُقُوطه) أَي
الْقصاص (بِعَفْو أحدهم) أَي الْأَوْلِيَاء، حَتَّى لَو عَفا
أحدهم كَانَ للباقين الْقَتْل (فَصَارَ) الْقَتْل الْمَذْكُور
(شُبْهَة يدْرَأ) بِهِ (الْقصاص) وَهُوَ قد يسْقط بِالظَّنِّ
كَمَا لَو رمى إِلَى شخص ظَنّه كَافِرًا فَإِذا هُوَ مُؤمن،
وَإِذا قسط الْقصاص بِالشُّبْهَةِ لزمَه الدِّيَة فِي مَاله
لِأَن فعله عمد وَيجب لَهُ مِنْهَا نصف الدِّيَة، إِذْ بِعَفْو
شَرِيكه وَجب لَهُ نصف الدِّيَة على الْمَقْتُول فَيصير نصف
الدِّيَة قصاصا بِالنِّصْفِ وَيُؤَدِّي مَا بَقِي، وَلَو علم
سُقُوطه بِالْعَفو ثمَّ قَتله عمدا يجب الْقود عَلَيْهِ.
وَقَالَ زفر عَلَيْهِ
(4/223)
الْقصاص علم بِهِ أَولا: كَمَا لَو قتل
رجلا يظنّ أَنه قتل وليه ثمَّ جَاءَ وليه حَيا (و) مثل
(المحتجم) فِي نَهَار رَمَضَان (إِذا ظَنّهَا) أَي الْحجامَة
(فطرته) فَأفْطر بعْدهَا (لَا كَفَّارَة) عَلَيْهِ: وَإِنَّمَا
عَلَيْهِ الْقَضَاء (لِأَن) قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(أفطر الحاجم والمحجوم) رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن وَصَححهُ
ابْن حبَان وَالْحَاكِم (أورث شُبْهَة فِيهِ) أَي فِي وجوب
الْكَفَّارَة بِالْفطرِ بعد الْحجامَة (وَهَذِه الْكَفَّارَة
يغلب فِيهَا معنى الْعقُوبَة) على الْعِبَادَة عندنَا (فتنتفى
بِالشُّبْهَةِ) وَهَذَا يدل على أَن الْعَاميّ إِذا اعْتمد على
الحَدِيث غير عَالم بتأويله ونسخه فَفعل مَا يُوجب
الْكَفَّارَة كَانَ ذَلِك مورثا للشُّبْهَة فِي حَقه. كَمَا
أَن قَول الْمُعْتَمد فِي الْفَتْوَى فِي الْبَلَد يُورثهَا
بِحَيْثُ لَو أفطر الْعَاميّ بقوله لَا تلْزمهُ الْكَفَّارَة،
بل الحَدِيث أولى بذلك، وَقَالَ أَبُو يُوسُف عَلَيْهِ
الْكَفَّارَة إِذْ لَيْسَ للعامي الْأَخْذ بِظَاهِر الحَدِيث
لجَوَاز كَونه مصروفا عَن ظَاهره أَو مَنْسُوخا، بل عَلَيْهِ
الرُّجُوع إِلَى الْفُقَهَاء، وَإِذا لم يسْتَند ظَنّه إِلَى
دَلِيل شَرْعِي وَأفْطر يجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة اتِّفَاقًا
لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ جهل مُجَرّد، وَهُوَ لَيْسَ بِعُذْر فِي
دَار الْإِسْلَام (وَمن زنى بِجَارِيَة وَالِده) أَو والدته
(أَو زَوجته) حَال كَونه (يظنّ حلهَا لَا يحد) عِنْد
الثَّلَاثَة، وَقَالَ زفر يحد وَلَا عِبْرَة بظنه الْفَاسِد:
كَمَا لَو وطئ جَارِيَة أَخِيه وَعَمه يظنّ الْحل (للاشتباه)
لِأَن بَين الْإِنْسَان وَأَبِيهِ وَأمه وَزَوجته انبساطا فِي
الِانْتِفَاع بِالْمَالِ، بِخِلَاف الْأَخ وَالْعم (وَلَا يثبت
نسب) بِهَذَا الْوَطْء وَإِن ادَّعَاهُ الْوَاطِئ (وَلَا
عدَّة) أَيْضا على الْمَوْطُوءَة بِهَذَا الْوَطْء (لما) عرف
(فِي مَوْضِعه) إِذْ لَا حق لَهُ فِي الْمحل، وللعاهر الْحجر،
وَلَا عدَّة عَن الزِّنَا، وَتسَمى هَذِه شُبْهَة فِي الْفِعْل
يسْقط بهَا الْحَد على من اشْتبهَ عَلَيْهِ، لَا على من لَا
يشْتَبه عَلَيْهِ، بِخِلَاف الشُّبْهَة فِي الْمحل كَوَطْء
الْأَب جَارِيَة ابْنه، فَإِنَّهُ لَا يحد، وَإِن قَالَ علمت
أَنَّهَا حرَام، لِأَن الْمُؤثر فِيهِ الدَّلِيل الشَّرْعِيّ
كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنْت وَمَالك لأَبِيك،
وَيثبت النّسَب إِذا ادَّعَاهُ، وَتصير أم ولد لَهُ. وَعند أبي
حنيفَة شُبْهَة أُخْرَى دارئة للحد، وَهِي شُبْهَة العقد
سَوَاء علم الْحُرْمَة أم لَا كَوَطْء الَّتِي تزَوجهَا
بِغَيْر شُهُود (وَكَذَا حَرْبِيّ دخل دَارنَا فَأسلم فَشرب
الْخمر جَاهِلا بِالْحُرْمَةِ لَا يحد) لِأَنَّهُ فِي مَوضِع
الشُّبْهَة لحلها فِي وَقت: كَذَا ذكره الشَّارِح، وَالْوَجْه
لحلها فِي بعض الْأَدْيَان لما سَيَأْتِي (بِخِلَاف مَا إِذا
زنى) بعد دُخُوله دَارنَا وإسلامه (لِأَن جَهله بِحرْمَة
الزِّنَا لَا يكون شُبْهَة لِأَن الزِّنَا حرَام فِي جَمِيع
الْأَدْيَان فَلَا يكون جَهله عذرا، بِخِلَاف الْخمر) لعدم
حُرْمَة شربهَا فِي سَائِر الْأَدْيَان (فَمَا فِي الْمُحِيط
وَغَيره: شَرط الْحَد أَن لَا يظنّ الزِّنَا حَلَالا مُشكل)
فَإِنَّهُ يدل على أَن جَهله بحرمته وظنه الْحل عذر يسْقط بِهِ
الْحَد عَنهُ، وَقد قَالَ المُصَنّف فِي شرح الْهِدَايَة وَنقل
فِي اشْتِرَاط الْعلم بِحرْمَة الزِّنَا إِجْمَاع الْفُقَهَاء
(بِخِلَاف الذِّمِّيّ أسلم فَشرب الْخمر) وَقَالَ لم أعلم
بحرمتها، وَقَوله: أسلم صفة للذِّمِّيّ لكَونه فِي معنى
النكرَة كَقَوْلِه: وَلَقَد أَمر على اللَّئِيم يسبني (يحد
لظُهُور
(4/224)
الحكم) أَي حُرْمَة الْخمر لشيوعها (فِي
دَار الْإِسْلَام) وَهُوَ مُقيم بهَا (فجهله) بحرمتها مَعَ
شيوعها فِيهِ (لتَقْصِيره) فِي طلب مَعْرفَتهَا فَلَا يكون
عذرا فِي دَرْء الْحَد وَلَا يخفى عَلَيْك أَن هَذَا إِنَّمَا
يَصح إِذا وجد فرْصَة أمكنه تَحْصِيل الْعلم فِيهَا، فَأَما
فِي بَدْء إِسْلَامه فَلَا يحكم بتقصيره، وَترك طلب معرفَة
الْأَحْكَام فِي زمَان الْكفْر لَا يُوجب التَّقْصِير، على أَن
الْإِسْلَام يمحو مَا قبله الْقسم (الثَّالِث: جهل يصلح عذرا
كمن أسلم فِي دَار الْحَرْب) أَي كجهل من أسلم فِيهَا (فَترك
بهَا صلوَات جَاهِلا لُزُومهَا فِي الْإِسْلَام لَا قَضَاء)
عَلَيْهِ إِذا علمه بعد ذَلِك لعدم تَقْصِيره لعدم اشتهار
الْأَحْكَام فِي دَار الْحَرْب. وَقَالَ زفر: عَلَيْهِ
الْقَضَاء لالتزامه الْأَحْكَام بِالْإِسْلَامِ وَإِن قصر
عَنهُ خطاب الْأَدَاء وَهُوَ لَا يسْقط الْقَضَاء بعد تقرر
السَّبَب: كالنائم إِذا انتبه بعد مُضِيّ الْوَقْت (وكل خطاب
ترك وَلم ينتشر فجهله عذر) لانْتِفَاء التَّقْصِير، يدل
عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {لَيْسَ على الَّذين آمنُوا
وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا} مَا لم يتَعَلَّق
علمهمْ بحرمته، سَوَاء لم يحرم أصلا أَو حرم وَلم ينتشر خَبره
(للَّذين شربوا) الْخمر (بعد تَحْرِيمهَا غير عَالمين)
بحرمتها، فَقَوله للَّذين مُتَعَلق بِمَحْذُوف تَقْدِيره
لقَوْله تَعَالَى - {لَيْسَ على الَّذين} - منزلا للَّذين
شربوا، ولبيان حكم شربهم، روى أَن بعض الصَّحَابَة كَانُوا فِي
سفر فَشَرِبُوا بعد التَّحْرِيم غير عَالمين بحرمتها فَنزلت.
وَعَن ابْن كيسَان لما نزل تَحْرِيم الْخمر وَالْميسر، قَالَ
أَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ: كَيفَ بإخواننا الَّذين مَاتُوا
وَقد شربوا الْخمر وأكلوا الميسر؟ وَكَيف بالغائبين عَنَّا فِي
الْبلدَانِ لَا يَشْعُرُونَ بتحريمها وهم يطعمونها؟ فَإِذا نزل
الله تَعَالَى (بِخِلَافِهِ) أَي الْخطاب (بعد الانتشار) فَإِن
جَهله لَيْسَ بِعُذْر. وَيَنْبَغِي أَن يُرَاد بِهِ الانتشار
فِي بلد الْمُكَلف، فَإِنَّهُ إِذا كَانَ بَلَده بَعيدا عَن
مهبط الْوَحْي وَعَن الْبلدَانِ الَّتِي انْتَشَر فِيهَا فعذره
وَاضح: وَظَاهر هَذِه الْعبارَة أَن الْجَهْل بعد تحقق
الانتشار لَيْسَ بِعُذْر سَوَاء كَانَ الانتشار فِي بَلَده
أَولا، وَيُؤَيِّدهُ إِطْلَاق قَوْلهم: الْجَهْل فِي دَار
الْإِسْلَام لَيْسَ بِعُذْر لاستفاضة الْأَحْكَام وشيوعها
فِيهَا والاستفاضة فِيهَا أُقِيمَت مقَام الْعلم: فعلى هَذَا
كَون الْجَهْل عذرا يخص بابتداء الْإِسْلَام، لَكِن مُقْتَضى
الدَّلِيل مَا ذَكرْنَاهُ، إِذْ لَا وَجه لإِقَامَة الاستفاضة
فِي غير بَلَده مقَام الْعلم وَإِن كَانَ بَعيدا: اللَّهُمَّ
إِلَّا أَن يُؤَاخذ بترك المهاجرة لطلب الْعلم مَعَ قدرته
عَلَيْهَا (لِأَنَّهُ) أَي جَهله بعد الانتشار (لتَقْصِيره)
فِي طلب مَا يجب عَلَيْهِ (كمن لم يطْلب المَاء فِي الْعمرَان
فَتَيَمم وَصلى لَا يَصح) تيَمّمه فَلَا تصح صلَاته (لقِيَام
دَلِيل الْوُجُود) وَهُوَ الْعمرَان لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَن
المَاء غَالِبا (وَتَركه الْعَمَل) بِالدَّلِيلِ وَهُوَ طلبه
فِيهِ. هَذَا إِذا لم يستكشفه، أما لَو استكشفه فَلم يجده
فِيهِ فقد صرح بِجَوَازِهِ الْبَعْض وَهُوَ الْوَجْه،
وَالتَّقْيِيد بالعمران أَن يدل على أَنه لَو ترك الطّلب فِي
المفارة
(4/225)
وَتيَمّم وَصلى جَازَت صلَاته لِأَنَّهَا
مَظَنَّة الْعَدَم (وَكَذَا الْجَهْل بِأَنَّهُ وَكيل أَو
مَأْذُون) أَي وَكَذَا جهل الْإِنْسَان بِكَوْنِهِ وَكيلا لشخص
بِأَنَّهُ وَكله وَلم يبلغهُ الْخَبَر، وبكونه مَأْذُونا إِن
كَانَ عبدا أذن لَهُ سَيّده وَلم يبلغهُ الْإِذْن (عذر) خبر
الْجَهْل. ثمَّ أَخذ يبين ثَمَرَة كَونه عذرا، فَقَالَ (حَتَّى
لَا ينفذ تصرفهما) أَي تصرف الْوَكِيل والمأذون قبل الْعلم
بالوكيل وَالْإِذْن فِي حق الْمُوكل وَالْمولى مُطلقًا وَفِي
حق نفسهما أَيْضا إِذا كَانَ مَحل التَّصَرُّف ملك الْمُوكل
وَالْمولى أَو ملك غَيرهمَا، وَلكَون التَّصَرُّف لَهما
(ويتوقف) نَفاذ تصرفهما على إِذن الْمُوكل وَالْمولى إِذا
كَانَ فِي ملكهمَا أوفى غَيره، لَكِن لَهما (كالفضولي) أَي
كتوقف تصرف الْفُضُولِيّ على إِذن من لَهُ الْولَايَة (إِلَّا
فِي شِرَاء الْوَكِيل) اسْتثِْنَاء من عُمُوم نفي نَفاذ
تصرفهما، وَالْمرَاد شِرَاؤُهُ مثلا فَيعم كل تصرف مِنْهُ لَا
يكون فِي ملك الْمُوكل وَلَا يُضَاف إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا
يتَوَقَّف. بل (ينفذ على نَفسه) فَبَقيَ عُمُوم نفي نَفاذ تصرف
الْمَأْذُون على إِطْلَاقه لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّة
للتَّصَرُّف بِغَيْر الْإِذْن فلولا أَن الْجَهْل عذر
للْوَكِيل لما نفذ تصرفه فِي حق الشِّرَاء لنَفسِهِ إِذا كَانَ
التَّوْكِيل بشرَاء ذَلِك المُشْتَرِي بِعَيْنِه (كَمَا عرف)
من أَن العقد إِذا وجد نفاذا على الْعَاقِد نفذ عَلَيْهِ. فِي
النِّهَايَة: اتّفقت الرِّوَايَات على أَن الْوكَالَة إِذا
ثبتَتْ قصدا لَا تثبت بِدُونِ الْعلم، أما إِذا ثبتَتْ فِي ضمن
أَمر الْحَاضِر بِالتَّصَرُّفِ بِأَن قَالَ لغيره: اشْتَرِ
عَبدِي من فلَان لنَفسك، أَو لعَبْدِهِ انْطلق إِلَى فلَان
ليعتقك فَاشْترى من فلَان أَو أعتق بِدُونِ الْعلم جَازَ،
وَعَن أبي يُوسُف أَن الْوكَالَة بِمَنْزِلَة الْوِصَايَة لَا
يشْتَرط فِيهَا الْعلم لِأَن كلا مِنْهُمَا إِثْبَات
الْولَايَة، فحكاية الِاتِّفَاق على مَا فِي النِّهَايَة أَنه
مَبْنِيّ على عدم الِاعْتِدَاد بِهَذِهِ الرُّؤْيَة وَيحمل
كَلَام المُصَنّف على الْوكَالَة الثَّابِتَة قصدا جمعا بَين
الرِّوَايَات بِحَسب الْإِمْكَان، يردهُ مَا فِي الْمُحِيط من
أَنه أَي الْوَكِيل لَا يصير وَكيلا قبل الْعلم بِالْوكَالَةِ
فِي رِوَايَة الزِّيَادَات وَيصير وَكيلا فِي رِوَايَة وكَالَة
الأَصْل، فَالْوَجْه أَن يُقَال فِيهِ رِوَايَتَانِ، ومختار
المُصَنّف مَا فِي الزِّيَادَات وَالله تَعَالَى أعلم (و)
كَذَا الْجَهْل (بِالْعَزْلِ) للْوَكِيل (وَالْحجر) على
الْمَأْذُون عذر، فَالْأول مَعْطُوف على قَوْله بِأَنَّهُ،
وَالثَّانِي على الْعَزْل وَذَلِكَ للُزُوم الضَّرَر
عَلَيْهِمَا على تَقْدِير ثبوتهما بِدُونِ الْعلم لِأَنَّهُمَا
يتصرفان اعْتِمَادًا على أَنه يلْزم الْمُوكل وَالْمولى
وبالعزل يلْزم الْوَكِيل، وبالفك يلْزم فِي ذمَّة العَبْد
فَيتَأَخَّر الدّين إِلَى الْعتْق (فَيصح تصرفهما) أَي
الْوَكِيل والمأذون على الْمُوكل وَالْمولى قبل علمهما
بِالْعَزْلِ، ثمَّ إِن الْأذن إِذا كَانَ مَشْهُورا لَا ينحجر
إِلَّا بشهرة حجره عِنْد أهل السُّوق دفعا للضَّرَر عَنْهُم
للُزُوم تَأَخّر حَقهم إِلَى الْعتْق (و) كَذَا (جهل الْمولى
بِجِنَايَة العَبْد) خطأ عذر للْمولى فِي عدم تعين لُزُوم
الْفِدَاء مُطلقًا إِذا أخرجه عَن ملكه قبل علمه (فَلَا يكون)
الْمولى (بِبيعِهِ) أَي العَبْد قبل الْعلم بِالْجِنَايَةِ
(مُخْتَارًا للْفِدَاء) وَهُوَ الْأَرْش الَّذِي كَانَ مخبرا
بَينه وَبَين الدّفع بل يجب عَلَيْهِ الْأَقَل من الْقيمَة
وَالْأَرْش (و) كَذَا
(4/226)
جهل (الشَّفِيع بِالْبيعِ) لما يشفع فِيهِ
عذر لَهُ فِي عدم سُقُوط شفعته (فَلَو بَاعَ) الشَّفِيع
(الدَّار الْمَشْفُوع بهَا بعد بيع دَار بجوارها) أَي بجوار
الدَّار الْمَشْفُوع بهَا (غير عَالم) بِبيع الْمَشْفُوع
فِيهَا حَال عَن فَاعل بَاعَ (لَا يكون) بَيْعه الْمَشْفُوع
بهَا (تَسْلِيمًا للشفعة) بل لَهُ الشُّفْعَة فِيهَا إِذا علم
بِالْبيعِ لِأَن دَلِيل الْعلم خَفِي لانفراد صَاحب الْملك
بِبيعِهِ (و) كَذَا جهل (الْأمة الْمَنْكُوحَة) عذر لَهَا فِي
عدم سُقُوط خِيَار الْعتْق لَهَا (إِذا جهلت عتق الْمولى)
إِيَّاهَا (فَلم تفسخ) النِّكَاح فَوْرًا (أَو عَلمته) أَي عتق
الْمولى (وجهلت ثُبُوت الْخِيَار لَهَا شرعا لَا يبطل
خِيَارهَا) قَوْله لَا يبطل جَزَاء الشَّرْط وَقَوله (وعذرت)
مَعْطُوف عَلَيْهِ، أما الأولى فَلِأَن الْمولى مُسْتَقل
بِالْعِتْقِ وَلَا يُمكنهَا الْوُقُوف عَلَيْهِ قبل
الْإِخْبَار. وَأما الثَّانِي فلاشتغالها بِخِدْمَة الْمولى
وَلعدم فراغها لمعْرِفَة أَحْكَام الشَّرْع فَلَا يقوم اشتهار
الدَّلِيل فِي دَار الْإِسْلَام مقَام علمهَا (بِخِلَاف
الْحرَّة زَوجهَا غير الْأَب وَالْجد) حَال كَونهَا (صَغِيرَة
فبلغت جاهلة بِثُبُوت حق الْفَسْخ) أَي فسخ النِّكَاح (لَهَا)
إِذا بلغت فَلم تفسخ (لَا تعذر) لجهلها بِهَذَا الحكم فَلَيْسَ
لَهَا حق الْفَسْخ بِهِ (لِأَن الدَّار دَار الْعلم، وَلَيْسَ
للْحرَّة مَا يشغلها عَن التَّعَلُّم فَكَانَ جهلها لتقصيرها)
فِي التَّعَلُّم (بِخِلَاف الْأمة) لما ذكر، وَالْمرَاد بالجد
الْجد الصَّحِيح، بِخِلَاف من سوى الْأَب وَالْجد لعدم كَمَال
الرَّأْي فِي الْأُم وَعدم وفور الشَّفَقَة فِي غَيرهَا.
مسئلة
(الْمُجْتَهد بعد اجْتِهَاده فِي) تَحْصِيل (حكم) لحادثة
اجْتِهَادًا انْتهى إِلَى تعينه على وَجه (مَمْنُوع من
التَّقْلِيد) لغيره من الْمُجْتَهدين (فِيهِ) أَي فِي ذَلِك
الحكم، فَالْحكم الْمُجْتَهد فِيهِ الَّذِي قَصده الْمُجْتَهد
أَمر إجمالي فِي بداية الِاجْتِهَاد يتَعَيَّن آخر
بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ على وَجه، وبالنسبة إِلَى مُجْتَهد آخر
على وَجه فَيجب على الْمُجْتَهد اتِّبَاع مَا أدّى إِلَيْهِ
اجْتِهَاده، وَلَا يجوز لَهُ اتِّبَاع مَا أدّى إِلَيْهِ
اجْتِهَاد الآخر (اتِّفَاقًا) لوُجُوب اتِّبَاع اجْتِهَاده
إِجْمَاعًا (وَالْخلاف) إِنَّمَا هُوَ فِي تَقْلِيده لغيره
قبله) أَي قبل اجْتِهَاده فِي الحكم. (وَالْأَكْثَر) من
الْعلمَاء على أَنه (مَمْنُوع) من تَقْلِيد غَيره مطبقا:
مِنْهُم أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد على مَا ذكره أَبُو بكر
الرَّازِيّ وَأَبُو مَنْصُور الْبَغْدَادِيّ وَمَالك على مَا
فِي أصُول ابْن مُفْلِح، وَذكر الْبَاجِيّ أَنه قَول أَكثر
الْمَالِكِيَّة، وَذكر الرَّوْيَانِيّ أَنه مَذْهَب عَامَّة
الشَّافِعِيَّة: وَظَاهر نَص الشَّافِعِي وَأحمد وَأكْثر
أَصْحَابه، وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ والآمدي وَابْن الْحَاجِب،
وَمَا روى عَن أبي يُوسُف أَنه صلى بِالنَّاسِ الْجُمُعَة
وَتَفَرَّقُوا ثمَّ أخبر بِوُجُود فَأْرَة ميتَة فِي بِئْر
حمام اغْتسل مِنْهُ، فَقَالَ: نَأْخُذ بقول أَصْحَابنَا من أهل
الْمَدِينَة: إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ لَا يحمل
(4/227)
خبثا لَا يُنَافِي مَا ذكرنَا لجَوَاز أَن
مُرَاده من قَوْله نَأْخُذ الَّذين اقتدوا بِهِ، يَعْنِي
نَأْخُذ فِي حَقهم بعد التَّفَرُّق: وَمن هَذَا لَا يلْزم عدم
إِعَادَته تقليدا لمَذْهَب الْغَيْر فَتدبر (وَمَا) روى (عَن
ابْن سُرَيج) من أَن الْمُجْتَهد مَمْنُوع من التَّقْلِيد
(إِلَّا أَن تعذر عَلَيْهِ) الِاجْتِهَاد فِي الْحَادِثَة لَا
يُخَالف الْأَكْثَر، وَيحْتَمل أَن يكون تَقْدِير الْكَلَام:
وَمَا عَن ابْن سُرَيج أَنه مَمْنُوع إِلَّا وَقت التَّعَذُّر،
وَخبر الْمَوْصُول انه مَمْنُوع، فَيكون الْمَرْوِيّ عَنهُ
الْمَنْع فِي غير صُورَة التَّعَذُّر، والتعذر إِمَّا
بِالْعَجزِ عَن وَجه الِاجْتِهَاد، وَإِمَّا بالخوف عَن
الْفَوْت على مَا سَيَأْتِي (وَلَا يَنْبَغِي أَن يخْتَلف
فِيهِ) لِأَن الِامْتِثَال بِمُوجب الْخطاب وَجب عَلَيْهِ
لكَونه مُكَلّفا، وَقد تعذر الِاجْتِهَاد فَتعين التَّقْلِيد
تحصيلا لما هُوَ الْوَاجِب (وَقيل لَا) يمْنَع من التَّقْلِيد
قبل الِاجْتِهَاد مُطلقًا فِيمَا يَخُصُّهُ وَفِيمَا يُفْتِي
بِهِ سَوَاء تعذر عَلَيْهِ الِاجْتِهَاد أَو لَا، وَعَلِيهِ
الثَّوْريّ وَإِسْحَاق وَأَبُو حنيفَة على مَا ذكر الْكَرْخِي
والرازي. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَهُوَ الَّذِي ظهر من تمسكات
مَالك فِي الْمُوَطَّأ، وَعَزاهُ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ
إِلَى أَحْمد. قَالَ بعض الْحَنَابِلَة: لَا يعرف (وَقيل)
يمْنَع من التَّقْلِيد (فِيمَا يُفْتى بِهِ) غَيره (لَا فِيمَا
يَخُصُّهُ) أَي لَا يمْنَع من تَقْلِيد غَيره فِي حكم يُرِيد
الْعَمَل بِهِ من غير أَن يُفْتى بِهِ. وَحكى هَذَا عَن أهل
الْعرَاق (وَقيل) يمْنَع عَن التَّقْلِيد (فِيهِ) أَي فِيمَا
يَخُصُّهُ (أَيْضا إِلَّا أَن خشِي الْفَوْت) أَي فَوت أَدَاء
مَا يجب عَلَيْهِ (كَأَن ضَاقَ وَقت صَلَاة) أَي كخشية
الْفَوْت عِنْد ضيق وَقت صَلَاة (وَالِاجْتِهَاد فِيهَا
يفوتها) أَي وَالْحَال أَن الِاشْتِغَال بِالِاجْتِهَادِ فِي
حق تِلْكَ الصَّلَاة لتَحْصِيل مَا هُوَ مَجْهُول فِيهَا من
الحكم يفوتها لمضي الْوَقْت، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن ابْن سُرَيج.
(وَعَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ) : إِحْدَاهمَا الْجَوَاز على
مَا تقدم، وَالْأُخْرَى الْمَنْع (و) روى (عَن مُحَمَّد) أَنه
(يُقَلّد) مُجْتَهدا (أعلم مِنْهُ) لَا أدون مِنْهُ وَلَا
مُسَاوِيا لَهُ، وَقيل إِنَّه ضرب من الِاجْتِهَاد (و) قَالَ
(الشَّافِعِي) فِي الْقَدِيم (والجبائي) وَابْنه (يجوز) أَن
يُقَلّد غَيره (إِن) كَانَ (صحابيا راجحا) فِي نظره على غَيره
مِمَّن خَالف من الصَّحَابَة (فَإِن اسْتَووا) أَي الصَّحَابَة
فِي نظره بِحَسب الْعلم وَاخْتلفت فتواهم (تخير) فيقلد أَيهمْ
شَاءَ، وَلَا يجوز تَقْلِيد من عداهم (وَهَذَا) النَّقْل
(رِوَايَة عَنهُ) أَي الشَّافِعِي (فِي تَقْلِيد الصَّحَابِيّ)
للمجتهد مَذْكُور فِي رسَالَته الْقَدِيمَة. قَالَ
الْأَبْهَرِيّ: وَالْمَشْهُور من مذْهبه عدم جَوَاز تَقْلِيده
للْغَيْر مُطلقًا (وَقيل) يجوز تَقْلِيده أَبَا بكر وَعمر
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لَا غَيرهمَا. وَعَن أَحْمد
وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ: جَوَاز تَقْلِيد الصَّحَابَة دون
غَيرهم إِلَّا عمر ابْن عبد الْعَزِيز، وَاسْتَغْرَبَهُ بعض
الْحَنَابِلَة، وَقيل يجوز أَن يُقَلّد صحابيا (وتابعيا) دون
غَيرهمَا وعزى إِلَى الْحَنَفِيَّة، لَكِن بِلَفْظ أَو خِيَار
التَّابِعين، وَقيل: يجوز للْقَاضِي لَا غير. الْحجَّة
(للْأَكْثَر) الْقَائِلين بِالْمَنْعِ مُطلقًا (الْجَوَاز) أَي
جَوَاز التَّقْلِيد (حكم شَرْعِي فيفتقر إِلَى دَلِيل) شَرْعِي
(4/228)
(وَلم يثبت) الدَّلِيل وَالْأَصْل عَدمه
(فَلَا يثبت) الْجَوَاز (وَدفع) هَذَا من قبل المجوزين
(بِأَنَّهُ) أَي الْجَوَاز مرجعه (الْإِبَاحَة الْأَصْلِيَّة)
بِمَعْنى عدم ترَتّب الْعقَاب على التَّقْلِيد وَهِي لَيست
بِحكم شَرْعِي، فَلَا يحْتَاج إِلَى دَلِيل شَرْعِي (بِخِلَاف
تحريمكم) أَيهَا المانعون (فَهُوَ) أَي تحريمكم (المفتقر)
إِلَى الدَّلِيل وَلم يثبت فَلَا يثبت (وَأما) الدّفع عَن
الْأَكْثَر (بِأَن الِاجْتِهَاد أصل) فِي الْأَحْكَام
الاجتهادية كَالْوضُوءِ فِي بَاب الطَّهَارَة (والتقليد بدل)
مِنْهُ كالتيمم فِيهِ، وَلَا يُصَار إِلَى الْبَدَل مَعَ
إِمْكَان الْمُبدل (فَيتَوَقَّف) التَّقْلِيد (على عَدمه) أَي
عدم إِمْكَان الِاجْتِهَاد، كَمَا أَنه لَا يجوز التَّيَمُّم
مَعَ الْقُدْرَة على المَاء (فَمنع) جَوَاب أما: أَي منع كَونه
بَدَلا من الِاجْتِهَاد (بل كل) من الِاجْتِهَاد والتقليد
(أصل) بِمَعْنى أَن الْمُكَلف مُخَيّر بَينهمَا كَمَا فِي مسح
الْخُف وَغسل الرجلَيْن، فَلَا يتَوَقَّف التَّقْلِيد على عدم
الِاجْتِهَاد (فَإِن تمّ إِثْبَات الْبَدَلِيَّة بِعُمُوم)
قَوْله تَعَالَى {فاعتبروا يَا أولي الْأَبْصَار} - فَإِنَّهُ
يعم الْمُجْتَهد والعامي، وَترك الْعَمَل بِهِ فِي حق
الْعَاميّ لعَجزه فَبَقيَ مَعْمُولا بِهِ فِي حق الْمُجْتَهد،
وَالِاعْتِبَار رد الشَّيْء إِلَى نَظِيره، وَهُوَ يرجع إِلَى
الِاجْتِهَاد (تمّ) الدّفع الْمَذْكُور، وَفِي كلمة إِن
إِشَارَة إِلَى الْمَنْع للتمام: وَذَلِكَ بِاعْتِبَار أَنه
يجوز أَن يُرَاد بِالِاعْتِبَارِ معنى آخر لألفاظ، وَيجوز أَن
يخص بِمَا إِذا لم يتَعَذَّر عَلَيْهِ وَجه الرَّد كَمَا هُوَ
قَول ابْن سُرَيج إِلَى غير ذَلِك (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتم
بِهَذَا (لَا) يتم الدّفع الْمَذْكُور لعدم دَلِيل آخر على
الْبَدَلِيَّة، وَالْأَصْل الْعَدَم. (وَاسْتدلَّ) للْأَكْثَر
بِأَنَّهُ (لَا يجوز) التَّقْلِيد (بعده) أَي الِاجْتِهَاد
اتِّفَاقًا (فَكَذَا) لَا يجوز (قبله لوُجُود الْجَامِع) بَين
الْمَنْع بعد الِاجْتِهَاد وَالْمَنْع قبله (وَهُوَ) أَي
الْجَامِع (كَونه) أَي الْمُقَلّد (مُجْتَهدا أُجِيب
بِأَنَّهُ) أَي الْوَصْف المشير للْحكم (فِي الأَصْل) أَي
التَّقْلِيد بعد الِاجْتِهَاد (إِعْمَال الْأَرْجَح) أَي وجوب
اتِّبَاع مَا هُوَ الْأَرْجَح من حَيْثُ كَونه حكم الله
تَعَالَى فِي نظره (وَهُوَ) أَي الْأَرْجَح (ظن نَفسه) الَّذِي
أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده فَإِنَّهُ أرجح عِنْد من ظن غَيره من
الْمُجْتَهدين، وَهَذِه الْعلَّة، مفقودة فِي الْفَرْع وَهُوَ
ظَاهر. احْتج (الشَّافِعِي) بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ) بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ
اهْتَدَيْتُمْ " فَإِنَّهُ خطاب عَام يعم الْمُجْتَهد والعامي،
وَلَا يمْنَع الشَّخْص من الاهتداء (وَيبعد) الِاحْتِجَاج بِهِ
(مِنْهُ) أَي الشَّافِعِي (لِأَنَّهُ لم يثبت) حَيْثُ تقدم
جَوَابه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (وَلَو ثَبت
تقدم جَوَابه) حَيْثُ قَالَ أُجِيب بِأَنَّهُ هدي من وَجه
انْتهى، وَلَيْسَ بِهَدي من كل وَجه حَتَّى لَا يمْنَع مِنْهُ
فَإِن كَونه هدى من وَجه لَا يُنَافِي كَونه خطأ. فَإِن قلت:
احْتِمَال الْخَطَأ مُشْتَرك بَين ظن الصَّحَابِيّ وظنه، لَكِن
ظن الصَّحَابِيّ أبعد عَن الْخَطَأ قلت هَذَا بِحَسب نفس
الْأَمر، وَأما بِحَسب مَا عِنْده فَالْأَمْر بِالْعَكْسِ،
وَالْإِنْسَان مَأْمُور بِاتِّبَاع مَا هُوَ الْأَظْهر عِنْده
وَاعْترض على المُصَنّف من لم يفهم كَلَامه بِأَنَّهُ لَا
يُفِيد منع
(4/229)
تَقْلِيد الصَّحَابِيّ، بل تقرر جَوَاز
تَقْلِيده وَلم يعرف أَن وَظِيفَة الْمُجيب هُنَا منع بطلَان
منع التَّقْلِيد لَا إِثْبَات منع التَّقْلِيد، وَبَينهمَا بون
بعيد. احْتج (المجوز) للتقليد مُطلقًا بقوله تَعَالَى {
(فاسئلوا أهل الذّكر} : أَي الْعلم بِدَلِيل) قَوْله تَعَالَى
{إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ} وَلَيْسَ المُرَاد أَن لَا يعلم
السَّائِل شَيْئا أصلا، بل مَا أحوجه إِلَى السُّؤَال من
الْوَاقِعَة الَّتِي ابتلى بهَا، وَإِذا كَانَ منشأ السُّؤَال
عدم علمه بذلك يجب أَن يُرَاد بِأَهْل الْعلم من هُوَ عَالم
بِمَا هُوَ مُحْتَاج إِلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ من أهل
الذّكر وَلَا يعلم ذَلِك لَا وَجه لسؤاله إِيَّاه (وَقيل:
الِاجْتِهَاد لَا يعلم) مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ فِي الْعَمَل،
فيتناوله خطاب الْأَمر بالسؤال لتحَقّق شَرطه الْمَذْكُور،
غَايَة الْأَمر أَنه لم يتَعَيَّن فِي حَقه السُّؤَال، لِأَن
الْمَقْصُود مِنْهُ حُصُول الْعلم بِمَا وَجب الْعَمَل بِهِ،
فَإِذا حصل الِاجْتِهَاد حصل الْمَقْصُود (أُجِيب) عَن
الِاحْتِجَاج الْمَذْكُور (بِأَن الْخطاب) فِي قَوْله تَعَالَى
- {فاسئلوا} - (للمقلدين، إِذْ الْمَعْنى ليسأل أهل الْعلم من
لَيْسَ أَهله بِقَرِينَة مُقَابلَة من لَا يعلم بِمن هُوَ أهل)
للْعلم (وَأهل الْعلم من لَهُ الملكة) أَي ملكة استنباط
الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة من أدلتها (لَا) يُفِيد مَعْنَاهُ
(بِقَيْد حروج الْمُمكن) استنباطه بِتِلْكَ الملكة (عَنهُ) أَي
عَن الْإِمْكَان وَالْقُوَّة (إِلَى الْفِعْل) والوجود فِي
الْخَارِج، لِأَن أهل الشَّيْء من هُوَ متأهل لَهُ ومستعد لَهُ
اسْتِعْدَادًا قَرِيبا، وَإِذا كَانَ أهل الْعلم صَاحب الملكة
كَانَ مُقَابِله من لَيْسَ لَهُ الملكة، وَهُوَ الْمُقَلّد
(قَالُوا) ثَانِيًا (الْمُعْتَبر) فِي الْأَحْكَام العملية
(الظَّن) بِكَوْنِهَا حكم الله تَعَالَى، فَإِن الْمُجْتَهد
بِاجْتِهَادِهِ لَا يقدر على غَيره (وَهُوَ) أَي الظَّن
(حَاصِل بفتوى غَيره) كَمَا يحصل بفتوى نَفسه لتساويهما فِي
أَن الِاجْتِهَاد قد أدّى إِلَيْهِمَا (أُجِيب بِأَن ظَنّه
اجْتِهَاده) بِنصب الدَّال، إِمَّا بِنَزْع الْخَافِض، أَو على
أَنه بدل من ظَنّه (أقوى) من ظَنّه بفتوى الْغَيْر لقِيَام
الأمارة الدَّالَّة عَلَيْهِ عِنْده (فَيجب الرَّاجِح)
تَقْرِيبًا للصَّوَاب بِحَسب الوسع (فَإِن قيل: ثَبت عَن أبي
حنيفَة) فِي الْفُرُوع (فِي القَاضِي الْمُجْتَهد يقْضِي
بِغَيْر رَأْيه ذَاكِرًا لَهُ) أَي لرأيه (نفذ) قَضَاؤُهُ
(خلافًا لصاحبيه، فَيبْطل) بِهَذَا الثَّابِت عِنْد (نقل
الِاتِّفَاق على الْمَنْع بعده) أَي على منع الْمُجْتَهد من
التَّقْلِيد بعد الِاجْتِهَاد (إِذْ لَيْسَ التَّقْلِيد إِلَّا
الْعَمَل أَو الْفَتْوَى بقول غَيره) وَالْقَضَاء بِرَأْي
الْغَيْر يتَضَمَّن الْعَمَل وَالْفَتْوَى مَعَ زِيَادَة
إِلْزَام على الْمقْضِي عَلَيْهِ (وَإِن ذكر) أَيْضا فِي
الْفُرُوع (فِيهَا) أَي فِي هَذِه المسئلة (اخْتِلَاف
الرِّوَايَة) عَن أبي حنيفَة فَعَنْهُ ينفذ، وَجعلهَا فِي
الْخَانِية أظهر الرِّوَايَات، لِأَن رَأْيه يحْتَمل الْخَطَأ
وَإِن كَانَ الظَّاهِر عِنْده أَنه الصَّوَاب، ورأي غَيره
يحْتَمل الصَّوَاب، وَإِن كَانَ الظَّاهِر عِنْده خطأ فَهُوَ
قَضَاء فِي مَحل مُجْتَهد فِيهِ فَينفذ، وَبِه أَخذ الصَّدْر
الشَّهِيد وَغَيره. وَعنهُ لَا ينفذ، لِأَن قَضَاءَهُ بِهِ
مَعَ اعْتِقَاده أَنه غير حق عَبث: كالمصلي إِلَى غير جِهَة
تحريه تَقْلِيد التَّحَرِّي غَيره، وَبِه أَخذ شمس الْأَئِمَّة
الأوزجندي
(4/230)
(فقد صحّح أَنه) أَي نَفاذ الْقَضَاء
(مذْهبه) أَي أبي حنيفَة فِي الْفُصُول الْعمادِيَّة، فَهُوَ
الصَّحِيح من مذْهبه (قُلْنَا) فِي الْجَواب لتصحيح النَّقْل
للاتفاق (النَّفاذ) أَي نَفاذ الْقَضَاء (بِتَقْدِير الْفِعْل)
أَي على تَقْدِير وُقُوع الْقَضَاء (لَا يُوجب حلّه) أَي
الْفِعْل، وَإِذا كَانَ الْقَضَاء بِرَأْي الْغَيْر حَرَامًا
عِنْده فقد اتّفق مَعَ الْقَوْم فِي الْمَنْع عَن التَّقْلِيد
(نعم ذكر بَعضهم) كصاحب الْمُحِيط (أَنه ذكر الْخلاف فِي بعض
الْمَوَاضِع فِي النَّفاذ، وَفِي بَعْضهَا فِي الْحل) أَي حل
الْقَضَاء بِخِلَاف مذْهبه (لَكِن لَا يلْزم أَن الْمعول
الْحل، بل يجب تَرْجِيح رِوَايَة النَّفْي) للْحلّ، لِأَن
الْمُجْتَهد مَأْمُور بِاتِّبَاع ظَنّه إِجْمَاعًا (وَصرح
بِأَن ظَاهر الْمَذْهَب عدم تَقْلِيد التَّابِعِيّ وَإِن روى
خِلَافه) كَمَا سبق بَيَانه قبيل فصل التَّعَارُض.
مسئلة
(إِذا تَكَرَّرت الْوَاقِعَة) بالاحتياج إِلَيْهَا مرّة بعد
أُخْرَى للْعَمَل أَو الافتاء هَل يجب عَلَيْهِ تَكْرِير
النّظر وتجديد الِاجْتِهَاد فِيهَا أم يَكْفِي الِاجْتِهَاد
الأول؟ (قيل) وَالْقَائِل ابْن الْحَاجِب وَغَيره (الْمُخْتَار
لَا يلْزمه تَكْرِير النّظر لِأَنَّهُ) أَي إِلْزَام التكرير
(إِيجَاب بِلَا مُوجب، وَقيل: يلْزمه) تَكْرِير النّظر، وَبِه
جزم القَاضِي وَابْن عقيل (لِأَن الِاجْتِهَاد كثيرا مَا
يتَغَيَّر) فَيرجع صَاحبه عَنهُ إِلَى غَيره (وَلَيْسَ) ذَلِك
التَّغَيُّر (إِلَّا بتكريره) أَي النّظر (فالاحتياط ذَلِك)
أَي تكريره، لِأَنَّهُ مَأْمُور بِالْعَمَلِ بِمَا يَنْتَهِي
إِلَيْهِ بذل وَسعه عِنْد الْعَمَل، وَهُوَ متفاوت بِاعْتِبَار
الْأَوْقَات (أُجِيب) بِأَنَّهُ إِذا كَانَ الْأَمر كَمَا ذكرت
لَا يَنْتَهِي إِلَى حد (فَيجب تكراره) أَي النّظر (أبدا
لِأَنَّهُ) أَي الِاجْتِهَاد (يحْتَمل ذَلِك) التَّغَيُّر (فِي
كل وَقت يمْضِي بعد الِاجْتِهَاد الأول) وَالْوُجُوب الأبدي
لَهُ بَاطِل اتِّفَاقًا (وَهَذَا) أَي وجوب التّكْرَار أبدا
(لَيْسَ بِلَازِم) للُزُوم تَكْرِير النّظر عِنْد تكَرر
الْوَاقِعَة (لِأَن وجوب الِاجْتِهَاد لَا يثبت إِلَّا عِنْد
وُقُوع (الْحَادِثَة بِشَرْطِهِ) أَي بِشَرْط وُجُوبه، وَإِذا
تحقق شَرطه فاجتهد فَأدى إِلَى الحكم (فقد أَخذ السَّبَب) أَي
شَرط وجوب الِاجْتِهَاد أَو الِاجْتِهَاد (حكمه) أَي
الِاجْتِهَاد على الأول. أَو مَا أدّى إِلَيْهِ الِاجْتِهَاد
على الثَّانِي، وَحِينَئِذٍ يَنْتَهِي وجوب الِاجْتِهَاد
بِاعْتِبَار ذَلِك السَّبَب (وَاحْتِمَال الْخَطَأ فِيهِ) أَي
فِي ذَلِك الِاجْتِهَاد الْمَذْكُور (لم يقْدَح) فِي أَدَاء
مَا وَجب على الْمُجْتَهد (فَلَا يجب) الِاجْتِهَاد (الآخر
إِلَّا بِمثلِهِ) أَي بِمثل شَرط وجوب الأول، فَإِذا تحقق شَرط
وجوب الآخر وَجب وَإِلَّا فَلَا فَإِن قلت: لم لَا يجوز أَن
يكون مُرَاد الْقَائِل بِلُزُوم التكرير من وجوب التّكْرَار
إبداء وُجُوبه عِنْد كل مرّة من مَرَّات وُقُوع الْحَادِثَة
المستجمعة شُرُوط وجوب الِاجْتِهَاد قلت إِذن لَا نسلم
(4/231)
بطلَان الثَّانِي. كَيفَ وَقد وَقع الْخلاف
فِيهِ بَين الْعلمَاء. وَقَالَ الْآمِدِيّ: الْمُخْتَار أَنه
إِذا لم يكن ذَاكِرًا لاجتهاده الأول يجب التكرير وَإِلَّا
فَلَا. وَقَالَ السُّبْكِيّ: الْأَصَح فِي مَذْهَبنَا عدم
لُزُوم التَّجْدِيد فِيمَا إِذا لم يذكر الدَّلِيل الأول، وَلم
يَتَجَدَّد مَا يُوجب الرُّجُوع عَن الأول، فَإِن كَانَ
ذَاكِرًا لم يلْزمه قطعا، وَإِن تجدّد مَا يُوجب الرُّجُوع يجب
عَلَيْهِ قطعا انْتهى. وَفِي رَوْضَة الْحُكَّام اجْتهد لنازلة
فَحكم أَو لم يحكم، ثمَّ حدثت ثَانِيًا فِيهِ وَجْهَان،
الصَّحِيح إِذا كَانَ الزَّمَان قَرِيبا لَا يخْتَلف فِي مثله
الِاجْتِهَاد لَا يستأنفه، وَإِلَّا اسْتَأْنف. وَذكر
الشَّافِعِيَّة فِي الْعَاميّ استفتى ثمَّ وَقع لَهُ الْحَاجة
إِلَى ذَلِك ثَانِيًا إِن أفتاه عَن نَص: كتاب أَو سنة أَو
إِجْمَاع، أَو كَانَ متبحرا فِي مذْهبه وَإِن لم يبلغ رُتْبَة
الِاجْتِهَاد فأفتاه عَن نَص صَاحب الْمَذْهَب فَلهُ أَن يعْمل
بالفتوى الأولى، وَإِلَّا فَوَجْهَانِ أصَحهمَا لُزُوم
السُّؤَال ثَانِيًا إِلَى غير ذَلِك يطْلب تفاصيله فِي مَحَله.
مسئلة
(لَا يَصح فِي مسئلة لمجتهد) وَاحِد فِي وَقت وَاحِد
(قَولَانِ) من غير أَن يكون أَحدهمَا مرجوعا عَنهُ (للتناقض)
أَي للُزُوم اعْتِقَاد النقيضين، لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا
إِمَّا عين نقيض الآخر أَو مُسْتَلْزم لَهُ (فَإِن) نسب إِلَى
مُجْتَهد وَاحِد قَولَانِ، و (عرف الْمُتَأَخر) مِنْهُمَا
صدورا عَنهُ (تعين) الْمُتَأَخر (رُجُوعا) أَي مرجوعا إِلَيْهِ
عَن الأول، أَو الْمَعْنى تعين الْمصير إِلَى الْمُتَأَخر
رُجُوعا عَن الأول (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يعرف الْمُتَأَخر
(وَجب تَرْجِيح الْمُجْتَهد) أَي الَّذِي اجْتهد (بعده) أَي
بعد الْمُجْتَهد الَّذِي نسب إِلَيْهِ الْقَوْلَانِ
(بِشَهَادَة قلبه) مُتَعَلق بالترجيح: أَي وَجب فِي الْعَمَل
بِأحد الْقَوْلَيْنِ أَن يرجح الْمُجْتَهد الثَّانِي أَحدهمَا
بِسَبَب أَن يمِيل قلبه إِلَيْهِ بِاعْتِبَار مَا ظهر عِنْده
من الأمارة الدَّالَّة على كَونه أقرب إِلَى الصَّوَاب (وَعند
بعض الشَّافِعِيَّة يخبر متبعه) أَي صَاحب الْقَوْلَيْنِ
(الْمُقَلّد) صفة كاشفة للمتبع لِأَن الْمُجْتَهد لَا يجوز
لَهُ الِاتِّبَاع (فِي الْعَمَل) مُتَعَلق بيخير
(بِأَيِّهِمَا) أَي الْقَوْلَيْنِ، وَالْجَار مُتَعَلق
بِالْعَمَلِ (شَاءَ: كَذَا فِي بعض كتب الْحَنَفِيَّة
الْمَشْهُورَة) صفة للكتب، (وَكَانَ المُرَاد بالمجتهد) فِي
قَوْلهم وَجب تَرْجِيح الْمُجْتَهد: الْمُجْتَهد (فِي
الْمَذْهَب وَإِلَّا فترجيح) الْمُجْتَهد (الْمُطلق
بِشَهَادَتِهِ) أَي بِشَهَادَة قلبه إِنَّمَا يكون (فِيمَا
عَن) أَي ظهر (لَهُ) فِي اجْتِهَاده عِنْد تعَارض الأمارات
الْمُخْتَلفَة فِي مَحل الِاجْتِهَاد، لَا فِي قَول مُجْتَهد
آخر، وَهُوَ ظَاهر (وَالتَّرْجِيح) الْمَطْلُوب (هُنَا) لأحد
الْقَوْلَيْنِ إِنَّمَا هُوَ التَّنْصِيص (على أَنه) أَي
أَحدهمَا بِعَيْنِه هُوَ (الْمعول) أَي الْمُعْتَمد عَلَيْهِ
(لصاحبهما) أَي الْقَوْلَيْنِ. (وَقَول الْبَعْض) من
الشَّافِعِيَّة (يُخَيّر المتبع فِي الْعَمَل لَيْسَ خلافًا)
لما قبله (بل) هُوَ (مَحل آخر) أَي مَا قبله، وَهُوَ وجوب
التَّرْجِيح بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُجْتَهد فِي الْمَذْهَب
(4/232)
وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيره من
المقلدين فَكل وَاحِد من الْحكمَيْنِ: أَعنِي الْوُجُوب
والتخيير مَحل آخر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (ذكره ذَلِك
الْبَعْض بِالنِّسْبَةِ إِلَى غير الْمُجْتَهد فِي حق الْعَمَل
لَا التَّرْجِيح) لأَحَدهمَا (وَفِي بَعْضهَا) أَي كتب
الْحَنَفِيَّة (إِن لم يعرف تَارِيخ) للقولين (فَإِن نقل فِي
أحد الْقَوْلَيْنِ عَنهُ) أَي صَاحب الْقَوْلَيْنِ (مَا يقويه)
كَقَوْلِه هَذَا أشبه أَو تَفْرِيع عَلَيْهِ (فَهُوَ أَي ذَلِك
القَوْل الْمُؤَيد بالمقوى (الصَّحِيح عِنْده) أَي عِنْد
صَاحبهمَا، وَفِيه أَن مُجَرّد التقوية لَا تَسْتَلْزِم عدم
صِحَة الآخر كَمَا يفهم من قَوْله: هُوَ الصَّحِيح (وَإِلَّا)
أَي وَإِن لم ينْقل عَنهُ مَا يقوى أَحدهمَا (إِن كَانَ) أَي
وجد (مُتبع بلغ الِاجْتِهَاد) فِي الْمَذْهَب (رجح) أَحدهمَا
(بِمَا مر من المرجحات إِن وجد) شَيْء مِنْهَا (وَإِلَّا يعْمل
بِأَيِّهِمَا شَاءَ بِشَهَادَة قلبه، وَإِن كَانَ عاميا اتبع
فَتْوَى الْمُفْتِي فِيهِ) أَي الْعَمَل أَو الْمَذْهَب
(الأتقى الأعلم) الثَّابِت كَونه كَذَا (بِالتَّسَامُعِ)
وَهَذَا بِنَاء على أَن الَّذِي يستفتى مِنْهُ غير صَاحب
الْقَوْلَيْنِ (وَإِن) كَانَ (متفقها) تعلم الْفِقْه وتتبع كتب
الْمَذْهَب من غير أَن يصير مُجْتَهدا فِي الْمَذْهَب كَمَا
يدل عَلَيْهِ صِيغَة التفعل (تبع الْمُتَأَخِّرين) من أهل
الْفَتْوَى فِي الْمَذْهَب (وَعمل بِمَا هُوَ أصوب وأحوط
عِنْده، وَإِذ نقل قَول الشَّافِعِي فِي سبع عشرَة مسئلة
فِيهَا قَولَانِ) كَمَا ذكره الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق
الشِّيرَازِيّ وَغَيره. قَوْله فِيهَا قَولَانِ مقول قَول
الشَّافِعِي (حمل) قَول الشَّافِعِي فِيهَا قَولَانِ (على أَن
للْعُلَمَاء) السَّابِقين عَلَيْهِ (قَوْلَيْنِ) فِيهَا،
وَفَائِدَته التَّنْبِيه على أَنَّهَا مَحل الِاجْتِهَاد لم
يَقع عَلَيْهَا الْإِجْمَاع، وَقيل التَّنْبِيه على أَن مَا
سواهُمَا منفي بِالْإِجْمَاع على مَا بَين فِي مَحَله (أَو
يحتملهما) أَي الْمحل يحْتَمل الْقَوْلَيْنِ لوُجُود تعادل
الدَّلِيلَيْنِ عِنْده، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ لم ينْسب
إِلَيْهِ شَيْء مِنْهُمَا، ذكره الإِمَام الرَّازِيّ وَمن تبعه
(أولى فِيهَا) قَولَانِ مَعْطُوف على قَوْله للْعُلَمَاء (على
القَوْل بالتخيير عِنْد التعادل) أَي يتَخَيَّر الْمُجْتَهد
عِنْد تعادل الدَّلِيلَيْنِ وَعدم رُجْحَان أَحدهمَا عِنْده
فَيعْمل بِأَيِّهِمَا شَاءَ: قَالَه القَاضِي فِي التَّقْرِيب،
وَتعقبه إِمَام الْحَرَمَيْنِ بِأَنَّهُ بِنَاء على اعْتِقَاده
أَن مَذْهَب الشَّافِعِي تصويب الْمُجْتَهدين، لَكِن الصَّحِيح
من مذْهبه أَن الْمُصِيب وَاحِد فَلَا يُمكن القَوْل عَنهُ
بالتخيير، وَقد يكون الْقَوْلَانِ: التَّحْرِيم وَالْإِبَاحَة،
ويستحيل التَّخْيِير بَينهمَا (أَو تقدما) أَي الْقَوْلَانِ
(لي) فَيكون حِكَايَة لقوليه المرتبين فِي الزَّمَان
الْمُتَقَدّم فَقَوله: أَو يحتملهما، وَقَوله أَو تقدما
معطوفان على قَوْله ان للْعُلَمَاء بارادة الْمَعْنى المصدري:
أَي حمل على احتمالهما أَو تقدمهما بتقرراته، وَقَالَ إِمَام
الْحَرَمَيْنِ وَعِنْدِي أَنه حَيْثُ نَص على الْقَوْلَيْنِ
فِي مَوضِع وَاحِد فَلَيْسَ لَهُ فِيهِ مَذْهَب، وَقَالَ هَذَا
يدل على علو رتبته وَعلمه بطرق الِاشْتِبَاه، وَأما اخْتِلَاف
الرِّوَايَة عَن أبي حنيفَة فَلَيْسَ من بَاب الْقَوْلَيْنِ،
وَقَالَ الإِمَام أَبُو بكر البليغي: أَن الِاخْتِلَاف فِي
الرِّوَايَة عَنهُ من وُجُوه: مِنْهَا الْغَلَط فِي السماع،
وَمِنْهَا رِوَايَة قَول رَجَعَ عَنهُ وَلم يعلم
(4/233)
الرَّاوِي رُجُوعه، وَمِنْهَا أَنه قَالَ
الْقيَاس كَذَا وَالِاسْتِحْسَان كَذَا وَلَا يعرف الرَّاوِي
ذَلِك ويروى مُطلقًا إِلَى غير ذَلِك.
مسئلة
(لَا ينْقض حكم اجتهادي) أَي حكم أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاد
مُجْتَهد مستجمع شَرَائِط الِاجْتِهَاد (صَحِيح) صفة أُخْرَى
للْحكم بِأَن كَانَ القَاضِي الْحَاكِم قد رأى شَرَائِط صِحَة
الحكم عِنْد المرافعة من صِحَة الدَّعْوَى وَصِحَّة
الْبَيِّنَة إِلَى غير ذَلِك، فَلَا يرد مَا قيل من أَن
الْوَجْه إِسْقَاط قَوْله (إِذا لم يُخَالف مَا ذكر) من
الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ إِذا خَالف مَا ذكر
لَا يكون صَحِيحا، وَإِذا رفع إِلَى قَاض آخر حكم كَذَا لَا
يجوز لَهُ أَن ينْقضه بل يمضيه، ثمَّ لَا فرق بَين أَن يكون
الْحَاكِم بذلك الحكم نَفسه بِأَن حكم بِشَيْء ثمَّ تغير
اجْتِهَاده أَو غَيره (وَإِلَّا) أَي وَإِن جوز النَّقْض
للْحكم الْمَذْكُور (نقض) ذَلِك (النَّقْض) أَيْضا (وتسلسل)
إِذْ لَا يَنْتَهِي النَّقْض بعد فتح بَابه إِلَى حد (فَيفوت)
فَائِدَة (نصب الْحَاكِم من قطع المنازعات) بَيَان للفائدة،
وَحكى الِاتِّفَاق على هَذِه المسئلة الْآمِدِيّ وَابْن
الْحَاجِب وَغَيرهمَا، فَلَا وَجه لتجويز الْبَعْض نقض مَا
بَان فِيهِ أَن غَيره أصوب (وَفِي أصُول الشَّافِعِيَّة لَو
حكم) حَاكم مُجْتَهد (بِخِلَاف اجْتِهَاده وَإِن) كَانَ
(مُقَلدًا فِيهِ) أَي فِي ذَلِك الحكم مُجْتَهدا آخر (كَانَ)
ذَلِك الحكم (بَاطِلا اتِّفَاقًا) أَفَادَ بِأَن الوصلية أَنه
لَو حكم بِخِلَاف اجْتِهَاده من غير اتِّبَاع مُجْتَهد آخر
كَانَ ذَلِك أولى بِالْبُطْلَانِ (وَعلل) الْبطلَان كَمَا فِي
الشَّرْح العضدي (بِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِ الْعَمَل بظنه وَعدم
جَوَاز تَقْلِيده) مَعْطُوف على مَدْخُول الْبَاء فِي قَوْله
أَنه: أَي وَعلل بِعَدَمِ جَوَاز تَقْلِيده (إِجْمَاعًا) أَي
أجمع على الْوُجُوب وَعدم الْجَوَاز الْمَذْكُورين إِجْمَاعًا
(إِنَّمَا الْخلاف) فِي جَوَاز (التَّقْلِيد (قلبه) اي
الِاجْتِهَاد (على مَا مر، وَأَنت علمت قَول أبي حنيفَة بنفاذ
قَضَائِهِ) أَي الْمُجْتَهد (على خلاف اجْتِهَاده فَبَطل عدم
نفاذه) أَي بَطل دَعْوَى اتِّفَاق عدم نفاذه (وَأَن فِي)
جَوَاز (التَّقْلِيد بعد الِاجْتِهَاد رِوَايَتَيْنِ) عَن أبي
حنيفَة أَيْضا، يرد عَلَيْهِ أَنه ذكر فِي مسئلة الْمُجْتَهد
بعد اجْتِهَاده فِي حكم أَنه مَمْنُوع من التَّقْلِيد
اتِّفَاقًا، وَقد يُجَاب عَنهُ بِأَنَّهُ ذكر هُنَاكَ على طبق
مَا قَالُوا، وَهَهُنَا ذكر اقْتِضَاء تَحْقِيقه (ثمَّ عدل حل
التَّقْلِيد لَا يسْتَلْزم عدم النَّفاذ لَو ارْتكب)
الْمُجْتَهد التَّقْلِيد الْمحرم على القَوْل بحرمته (فكم) من
(تصرف لَا يحل) وَلَكِن (يَنْبَنِي عَلَيْهِ صِحَة ونفاذ لآخر)
أَي تصرف آخر كعتق المُشْتَرِي شِرَاء فَاسِدا، فَإِن
الشِّرَاء تصرف فَاسد وَقد انبنى عَلَيْهِ الْعتْق الصَّحِيح
الَّذِي هُوَ تصرف آخر (وللشافعية: فرع) وَهُوَ أَنه (لَو تزوج
مُجْتَهد بِلَا ولي) بِنَاء على جَوَازه فِي اجْتِهَاده
(فَتغير) اجْتِهَاده بِأَن رَآهُ غير جَائِز (فالمختار
التَّحْرِيم مُطلقًا) أَي حكم
(4/234)
الْحَاكِم بِالْجَوَازِ أَولا (لِأَنَّهُ)
حِينَئِذٍ (مستديم لما يَعْتَقِدهُ حَرَامًا، وَقيل)
التَّحْرِيم تقيد (بِقَيْد أَن لَا يحكم بِهِ) أَي
بِالْجَوَازِ قبل تغير اجْتِهَاده (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم
يتَحَقَّق الْقَيْد الْمَذْكُور بِأَن حرم النِّكَاح بِلَا ولي
بَعْدَمَا رفع إِلَى حَاكم يرى جَوَازه فَحكم بِصِحَّة
النِّكَاح (نقض الحكم) أَي وَألا يلْزم نقض حكم الْحَاكِم فِي
مَحل مُجْتَهد فِيهِ (بِالِاجْتِهَادِ) وَالْحكم لَا ينْقض
بِالِاجْتِهَادِ. وَفِيه أَن عدم نقض الحكم مُسلم لَكِن لَا
يلْزم مِنْهُ الْحل فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى فَتَأمل
(وَلَوْلَا) (مَا) روى (عَن أبي يُوسُف) على مَا سَيَأْتِي
(لحكم بِأَن الْخلاف) الْوَاقِع من الْمُطلق جملَة على
الْإِطْلَاق (خطأ وَأَن الْقَيْد) الْمَذْكُور (مُرَاد
الْمُطلق إِذْ لم ينْقل خلاف فِي) الْمَسْأَلَتَيْنِ
(السابقتين) فِي مسئلة (المجتهدة) الْحَنَفِيَّة (زَوْجَة
الْمُجْتَهد) الشَّافِعِي، يَعْنِي فِي حلهَا لَهُ وحرمته
عَلَيْهَا إِذا قَالَ لَهَا أَنْت بَائِن ثمَّ رَاجعهَا (و)
فِي مسئلة (حلهَا) أَي الَّتِي تزَوجهَا مُجْتَهد بِلَا ولي
ثمَّ مُجْتَهد بولِي (للاثنين) أَي الْمُجْتَهدين
الْمَذْكُورين، حَيْثُ قَالَ فَيلْزم فِيهِ رَفعه إِلَى قَاض
يحكم بِرَأْيهِ فَيلْزم الآخر، فَالْحكم بِلُزُوم حكم القَاضِي
على الآخر من غير ذكر خلاف دَلِيل على أَن مَا حكم بِهِ
القَاضِي فِي مَحل الْخلاف لَا ينْقض بالِاتِّفَاقِ سَوَاء
تغير اجْتِهَاد الْمَحْكُوم عَلَيْهِ أَو لم يتَغَيَّر، فَإِذن
لزم حمل قَول الشَّافِعِيَّة فِي الْفَرْع الْمَذْكُور
بِإِطْلَاق التَّحْرِيم عِنْد تغير الِاجْتِهَاد على مَا إِذا
لم يحكم بِهِ حَاكم، لَكِن كَلَام أبي يُوسُف على مَا
سَيَأْتِي يدل على أَن مَا ذكر فِي السابقتين لَيْسَ مُتَّفقا
عَلَيْهِ (وَلِأَن الْقَضَاء) فِي الْمحل الْمُخْتَلف فِيهِ
(يرفع حكم الْخلاف) من جَوَاز الْأَخْذ بِكُل وَاحِد من
الْقَوْلَيْنِ وَترك الْعَمَل بِالْآخرِ فَيصير المقضى بِهِ
وَاجِب الْعَمَل بِعَيْنِه إِلَّا إِذا كَانَ نفس الْقَضَاء
مُخْتَلفا فِيهِ (لَكِن عِنْده) أَي أبي يُوسُف (فِي مُجْتَهد
طلق) امْرَأَته (أَلْبَتَّة) أَي طَلَاق الْبَتَّةَ بِأَن
قَالَ أَنْت طَالِق الْبَتَّةَ يَقع بِهِ بَائِن عندنَا،
رَجْعِيّ عِنْد الشَّافِعِي (وَنوى) بِهِ (وَاحِدَة فَقضى)
عَلَيْهِ (بِثَلَاث) بِأَن كَانَ القَاضِي يرى وُقُوع
الثَّلَاث بِهِ لِأَن الْبَتّ الَّذِي هُوَ الْقطع إِنَّمَا
يحصل بهَا (إِن كَانَ) الْمُجْتَهد الْمُطلق (مقضيا عَلَيْهِ)
بِأَن كَانَ مدعي الثَّلَاث زَوجته (لزم) أَي وَقع عَلَيْهِ
الثَّلَاث إلزاما من القَاضِي لحق الْخصم (أَو) كَانَ مقضيا
(لَهُ) بِأَن كَانَ هُوَ الْمُدَّعِي للثلاث (أَخذ) الْمقْضِي
لَهُ (بأشد الْأَمريْنِ) وأصعبهما على نَفسه، وَالْمرَاد
بالأمرين: الْمقْضِي بِهِ، وَهُوَ الثَّلَاث هُنَا، وَحكم
رَأْيه، وَإِنَّمَا لم يتَعَيَّن فِي الْمقْضِي بِهِ لِأَنَّهُ
حق الْمقْضِي لَهُ، فَلهُ أَن يتْركهُ وَيَأْخُذ بِمَا هُوَ
الأولى مِنْهُ (فَلَو قضى) للزَّوْج الْمُجْتَهد (بالرجعة) أَي
بِصِحَّتِهَا فِي طَلَاق اخْتلف فِي كَونه متعقبا للرجعة
(ومعتقده) أَي الزَّوْج أَنه يَتَرَتَّب على طَلَاقه
(الْبَيْنُونَة يُؤْخَذ بهَا) أَي بالبينونة لكَونهَا أَشد
الْأَمريْنِ (فَلم يرفع حكم رَأْيه) أَي الْمُجْتَهد
(بِالْقضَاءِ مُطلقًا كَقَوْل مُحَمَّد) فَإِنَّهُ قَالَ يرفع
مُطلقًا. قَوْله كَقَوْل مُحَمَّد صفة الْمَفْعُول الْمُطلق:
أَي رفعا مثل مقول مُحَمَّد فِي الْإِطْلَاق
(4/235)
(وَلَو) فرض (أَن المتزوج مقلد) وَقد كَانَ
صِحَة نِكَاحه مَبْنِيا على قَول مقلده (ثمَّ علم تغير
اجْتِهَاد إِمَامه فالمختار كَذَلِك) أَي يحرم عَلَيْهِ كإمامه
لِأَنَّهُ تبع لَهُ، وَقيل: لَا يحرم عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قد
بنى عمله على قَول الْمُجْتَهد كَمَا هُوَ وَظِيفَة الْعَاميّ،
وَيجْعَل إِمَامه بعد التَّغَيُّر بِمَنْزِلَة مُجْتَهد آخر
(وَلَو تغير اجْتِهَاده) أَي الْمُجْتَهد (فِي أثْنَاء صلَاته
عمل فِي الْبَاقِي) من صلَاته (بِهِ) أَي بِاجْتِهَادِهِ
الثَّانِي (وَالْأَصْل) فِي مَسْأَلَة تغير اجْتِهَاد
الْمُجْتَهد (أَن تغيره كحدوث النَّاسِخ يعْمل بِهِ فِي
الْمُسْتَقْبل والماضي) من عمله الْمَبْنِيّ على الِاجْتِهَاد
الأول ثَابت مُسْتَمر (على الصِّحَّة) .
مسئلة
تعرف بمسئلة التَّعْرِيض (فِي أصُول الشَّافِعِيَّة،
الْمُخْتَار جَوَاز أَن يُقَال للمجتهد: احكم بِمَا شِئْت
بِلَا اجْتِهَاد فَإِنَّهُ) أَي مَا حكمت بِهِ (صَوَاب) .
قَالَ ابْن الصّباغ، وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم غير
الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب بالمجتهد والبيضاوي والسبكي
بالعالم وَالنَّبِيّ، فالعامي خَارج. وَقَالَ الْآمِدِيّ
بِجَوَازِهِ فِي حق الْعَاميّ أَيْضا، وَمنعه غَيره: وَهَذَا
القَوْل فِي حق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْوَحْي،
وَفِي غَيره بإعلام النَّبِي أَو بالإلهام، وَقيل: يجوز
للنَّبِي دون غَيره. وَذكر ابْن السَّمْعَانِيّ أَن كَلَام
الشَّافِعِي فِي الرسَالَة يدل على هَذَا. وَقَالَ أَكثر
الْمُعْتَزلَة لَا يجوز. وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ أَنه
الصَّحِيح (وَتردد الشَّافِعِي) فِي الْجَوَاز (ثمَّ) اخْتلف
فِي الْوُقُوع على تَقْدِير الْجَوَاز (الْمُخْتَار عدم
الْوُقُوع، وَاسْتَدَلُّوا للتردد بتأديته) أَي الْجَوَاز
(إِلَى اخْتِيَار مَا لَا مصلحَة فِيهِ) لعدم التَّأَمُّل
وَالِاجْتِهَاد الْموصل إِلَى معرفَة وُجُوه الْمصَالح (فَيكون
بَاطِلا) لِأَن الشَّارِع لَا يرتضيه (وَهَذَا) الدَّلِيل
(يصلح للنَّفْي) أَي نفي الْجَوَاز (لَا للتردد الْمَفْهُوم
مِنْهُ الْوَقْف ثمَّ الْعجب مِنْهُ) أَي الشَّافِعِي كَيفَ
تردد فِي الْجَوَاز (وَالْفَرْض) أَي الْمَفْرُوض فِي تَصْوِير
المسئلة (قَول الله تَعَالَى) للمجتهد الْمَذْكُور (مَا تحكم
بِهِ صَوَاب) وَالله يحكم مَا يَشَاء وَيفْعل مَا يُرِيد على
أَنه يجوز أَن يصونه بعد هَذَا التَّفْوِيض عَن اخْتِيَار مَا
لَا مصلحَة فِيهِ (وَلَا مَانع من) قبل (الْعقل، والأليق أَن
تردده فِي الْوُقُوع) لَا فِي الْجَوَاز (كَمَا نقل عَنهُ
الْوُقُوع) وَدَلِيله قَوْله تَعَالَى - {كل الطَّعَام كَانَ
حلا لبني إِسْرَائِيل إِلَّا مَا حرم إِسْرَائِيل على نَفسه} )
فَإِنَّهُ لَا يحرم يَعْقُوب على نَفسه إِلَّا بتفويض
التَّحْرِيم إِلَيْهِ وَإِلَّا يلْزم أَن يفعل مَا لَيْسَ
لَهُ، وشأن النَّبِي يَأْبَى ذَلِك (أُجِيب) بِأَنَّهُ (لَا
يلْزم كَونه) أَي تَحْرِيم إِسْرَائِيل (عَن تَفْوِيض لجوازه)
أَي لجَوَاز كَونه صادرا (عَن اجْتِهَاد فِي) حكم (ظَنِّي)
وَإسْنَاد التَّحْرِيم إِلَيْهِ كَمَا يُقَال: حرم أَبُو
حنيفَة، وَالْحَاكِم هُوَ الله. (وَقد يُقَال لَو) كَانَ
تَحْرِيمه (عَنهُ) أَي عَن اجْتِهَاد (لم يكن كُله) أَي كل
الطَّعَام مقولا فِيهِ كَانَ (حلا)
(4/236)
لبني إِسْرَائِيل (قبله) أَي قبل
اجْتِهَاده الْمُؤَدى إِلَى التَّحْرِيم (لِأَن الدَّلِيل)
الَّذِي يرتبه الْمُجْتَهد إِنَّمَا (يظْهر فِي الحكم)
الثَّابِت قبله (لَا ينشئه) أَي الدَّلِيل لَا يحدث الحكم
(لقدمه) أَي الحكم، لِأَنَّهُ خطاب الله تَعَالَى المنزه عَن
أَن يكون صِفَاته حَادِثَة وَالْحَاصِل ان الْقُرْآن دلّ على
أَن كل الطَّعَام مِمَّا حرم إِسْرَائِيل وَغَيره قد كَانَ حلا
قبل تَحْرِيمه، فَلَو كَانَ تَحْرِيمه بطرِيق الِاجْتِهَاد لزم
أَن لَا يكون مَا حرم حلا قبل تَحْرِيمه، بل يكون حَرَامًا لم
تظهر حرمته إِلَّا بعد اجْتِهَاده، لِأَن الدَّلِيل مظهر لما
كَانَ ثَابتا. (قَالَ) الْقَائِل بالوقوع أَيْضا (قَالَ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم) " إِن الله حرم مَكَّة فَلم تحل لأحد
قبلي وَلَا تحل لأحد بعدِي، وَإِنَّمَا أحلّت لي سَاعَة من
نَهَار (لَا يخْتَلى خَلاهَا) وَلَا يعضد شَجَرهَا وَلَا
تلْتَقط لقطتهَا إِلَّا الْمُعَرّف ". الخلا مَقْصُور
النَّبَات الرَّقِيق مَا دَامَ رطبا. وَفِي الْقَامُوس اختلاه:
خره أَو نَزعه (فَقَالَ الْعَبَّاس) يَا رَسُول الله (إِلَّا
الأذخر، فَقَالَ إِلَّا الأذخر) والأذخر بِالذَّالِ وَالْخَاء
المعجمتين وَكسر الْهمزَة وَالْخَاء: نبت طيب الرَّائِحَة
مَعْرُوف و (مثله) أَي مثل هَذَا الالتماس والإجابة على
الْفَوْر (لَا يكون) ناشئا (عَن وَحي لزِيَادَة السرعة) فِي
الْجَواب على الْقدر الْمُعْتَاد فِي نزُول الْوَحْي مَعَ عدم
ظُهُور علاماته (وَلَا) يكون عَن (اجْتِهَاد) لذَلِك أَيْضا
(أُجِيب) عَن هَذَا الِاسْتِدْلَال (بِأحد أُمُور: كَون الأذخر
لَيْسَ مِنْهُ) أَي من الخلا (واستثناء الْعَبَّاس مُنْقَطع)
علم الْعَبَّاس إِبَاحَته باستصحابه حَال الْحل (وَفَائِدَته)
أَي الِاسْتِثْنَاء (دفع توهم شُمُوله) أَي شُمُول الخلا:
الأذخر من إِضَافَة الْمصدر إِلَى الْمَفْعُول (بالحكم) أَي
بِاعْتِبَار حكم الَّذِي هُوَ الْمَنْع (وتأكيد حَاله) الَّذِي
هُوَ الْحل مَعْطُوف على دفع توهم (أَو) كَون الأذخر (مِنْهُ)
أَي من الخلا (وَلم يردهُ) النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
من عُمُوم لفظ خَلاهَا كَمَا قيل: مَا من عَام إِلَّا وَخص
مِنْهُ الْبَعْض (وَفهم) الْعَبَّاس (عدمهَا) أَي عدم
إِرَادَته (فَصرحَ) بالمراد (ليقرر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِلَّا الأذخر، وَقَررهُ على ذَلِك
(وَأورد) على التَّوْجِيه الْأَخير بِأَنَّهُ (إِذا لم يرد)
النَّبِي أَو الْعَبَّاس الأذخر بِلَفْظ الخلا (فَكيف
يسْتَثْنى) الأذخر مِنْهُ، وَهل يتَصَوَّر الِاسْتِثْنَاء
بِدُونِ تنَاول الْمُسْتَثْنى مِنْهُ للمستثنى (أُجِيب) عَن
هَذَا الْإِيرَاد (بِأَنَّهُ) أَي الأذخر (لَيْسَ) مُسْتَثْنى
(من) الخلا (الْمَذْكُور) فِي كَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(بل من مثله مُقَدرا) فِي كَلَام الْعَبَّاس، فَكَأَنَّهُ
قَالَ: لَا يخْتَلى خَلاهَا إِلَّا الأذخر، فالعباس أخرج
الأذخر بعد شُمُول صدر كَلَامه إِيَّاه، وَأما كَلَامه صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا اسْتثِْنَاء فِيهِ، غير أَن الأذخر
غير مندرج فِيهِ (وَهَذَا السُّؤَال) يَعْنِي الْإِيرَاد
الْمَذْكُور (بِنَاء) أَي مَبْنِيّ (على مَا تقدم) فِي بحث
الِاسْتِثْنَاء (من اخْتِيَار أَن الْمخْرج) من الصَّدْر
(مُرَاد بالصدر بعد دُخُوله) أَي الْمخْرج (فِي دلَالَته)
(4/237)
أَي الصَّدْر عَلَيْهِ، فالمخرج مَدْلُول
الصَّدْر بِاعْتِبَار الْوَضع مُرَاد للمتكلم عِنْد
الِاسْتِعْمَال خلافًا لمن قَالَ مَدْلُول لَهُ غير مُرَاد
مِنْهُ (ثمَّ أخرج) الْمخْرج بعد الدّلَالَة والإرادة (ثمَّ
أسْند) الحكم إِلَى الصَّدْر، فالمحكوم عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ
الْبَاقِي بعد الثنيا (وَنحن وجهنا قَول الْجُمْهُور) هُنَا
(أَنه) أَي بِأَن الْمخْرج (لم يرد) بالصدر، وَإِن كَانَ
مدلولا بِحَسب الْوَضع (و) كلمة (إِلَّا قرينَة عدم
الْإِرَادَة) مِنْهُ (كَمَا هُوَ) أَي عدم إِرَادَة بعد
إِفْرَاد الْعَام يتَحَقَّق (بِسَائِر التخصيصات) للعمومات
(فَلَا حَاجَة للسؤال) أَي إِلَى السُّؤَال (وتكلف هَذَا
الْجَواب) لِأَن مدَار السُّؤَال على كَون الْمُسْتَثْنى
مرَادا بصدر الْكَلَام وَإِذا لم يكن مرَادا بِهِ لأتيح
السُّؤَال (وَإِمَّا مِنْهُ) أَي من الْخَلَاء، وَهِي عديلة
قَوْله أَو مِنْهُ، وَكِلَاهُمَا للْعَطْف على قَوْله لَيْسَ
مِنْهُ (وَأُرِيد) أَي الأذخر (بالحكم) وَهُوَ منع الْقطع
(ثمَّ نسخ) الحكم الْمَذْكُور (بِوَحْي) سريع النُّزُول (كلمح
الْبَصَر) أَي كرجع الطّرف من أَعلَى الحدقة إِلَى أَسْفَلهَا
(خُصُوصا على قَول الْحَنَفِيَّة إلهامه) صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم (وَحي، وَهُوَ إِلْقَاء معنى فِي الْقلب دفْعَة وَأورد)
على هَذَا التَّوْجِيه المستدعى لنفي الِاسْتِثْنَاء تَحْقِيقا
لِمَعْنى النّسخ أَن يُقَال (الِاسْتِثْنَاء يأباه) أَي النّسخ
(أُجِيب بِأَن) النّسخ (الِاسْتِثْنَاء من مُقَدّر للْعَبَّاس)
على مَا ذكر (لَا مِمَّا ذكره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والنسخ
بعده) أَي بعد ذكره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَقْرُونا (مَعَ
ذكر الْعَبَّاس) يَعْنِي قَوْله: إِلَّا الأذخر، وَإِنَّمَا
قَالَ مَعَ ذكر الْعَبَّاس، لِأَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِلَّا الأذخر مُتَّصِل بِذكرِهِ، وَلَا بُد من سبق
النّسخ على قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَيلْزم مقارنته
مَعَ قَول الْعَبَّاس، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فَذكره صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم) يَعْنِي قَوْله إِلَّا الأذخر (بعده) أَي
بعد النّسخ (ثمَّ لَا يخفى أَن اسْتثِْنَاء الْعَبَّاس من
مُقَدّر) فِي كَلَامه (على كل تَقْدِير) من التقادير
الْمَذْكُورَة سَوَاء قُلْنَا بِانْقِطَاع الِاسْتِثْنَاء أَو
باتصاله وَسَوَاء قُلْنَا بالنسخ أَو لَا (لِأَنَّهُ) أَي
قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا يخْتَلى خَلاهَا "
(تركيب مُتَكَلم آخر ووحدة الْمُتَكَلّم مُعْتَبرَة فِي) وحدة
(الْكَلَام) فَلَا يجوز أَن يتركب كَلَام وَاحِد من لفظ
متكلمين، وَاللَّفْظ الْمُشْتَمل على الِاسْتِثْنَاء كَلَام
وَاحِد (على مَا هُوَ الْحق) من الْقَوْلَيْنِ بِاعْتِبَار
وحدة الْمُتَكَلّم وَعدم اعْتِبَارهَا وَذَلِكَ (لاشْتِمَاله)
أَي الْكَلَام (على النِّسْبَة الإسنادية وَلَا يتَصَوَّر
قِيَامهَا بِنَفسِهَا بمحلين) وَإِنَّمَا قَالَ بِنَفسِهَا
لِأَن مَا بِنَفسِهَا يتَوَهَّم فِيهِ كَونه مركبا من لفظ
اثْنَيْنِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَة كلامان، وَنسبَة كلاميهما
بِاعْتِبَار نفسيهما فَقَط قَائِمَة بِمحل وَاحِد وَلَكِن
بِاعْتِبَار نفسيهما ونظيرها قَائِمَة بمحلين (و) كَذَا
الِاسْتِثْنَاء (مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) من مُقَدّر
بِنَاء على التَّقْدِير الثَّانِي وَهُوَ تَوْجِيه النّسخ جعل
مَا قبله من الْوُجُوه الأول لمشاركتها فِي عدم النّسخ،
وَإِنَّمَا قَالَ (على الثَّانِي) لِأَن فِي الأول سَوَاء جعل
الِاسْتِثْنَاء مُنْقَطِعًا أَو مُتَّصِلا لَا حَاجَة إِلَى
التَّقْدِير لِاتِّحَاد الْمُتَكَلّم
(4/238)
وَعدم النّسخ المستلزم شُمُول الْخَلَاء
للأذخر قبله. (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بالوقوع أَيْضا
(قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَوْلَا أَن أشق على أمتِي)
أَي لَوْلَا مُخَالفَة إيقاعي إيَّاهُم فِي الْمَشَقَّة
(لأمرتهم) بِالسِّوَاكِ مَعَ كل وضوء. أخرجه النَّسَائِيّ
وَابْن خُزَيْمَة وعلقه البُخَارِيّ وَهُوَ صَرِيح فِي أَن
الْأَمر وَعَدَمه مفوض إِلَيْهِ، لِأَن مثل هَذَا مَا يَقُوله
إِلَّا من كَانَ الْأَمر بِيَدِهِ (وَقَالَ) أَيْضا (لقَائِل
أحجنا هَذَا لِعَامِنَا) أَي لسنتنا (أم لِلْأَبَد) أَي هَذَا
الْحَج الَّذِي أَتَيْنَا بِهِ حق هَذِه السّنة، أم يكفينا
إِلَى آخر الْعُمر: يَعْنِي هُوَ وَظِيفَة كل سنة أم وَظِيفَة
الْعُمر، وَالْقَائِل الْأَقْرَع بن حَابِس (فَقَالَ) صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (لِلْأَبَد وَلَو قلت نعم) لِعَامِنَا هَذَا
(لوَجَبَ) الْحَج عَلَيْكُم فِي كل سنة "، والْحَدِيث صَحِيح
اتِّفَاقًا: يَعْنِي لَا تسألوا مثل هَذَا السُّؤَال لِأَنَّهُ
يتسبب لقولي نعم فتعجزون وَلَوْلَا أَن الْأَمر مفوض إِلَيْهِ
لما أنْجز سُؤَالهمْ إِلَى الْجَواب بنعم، بل مُتَوَقف على
الْوَحْي (" وَلما قتل) النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(النَّضر بن الْحَارِث) أَمر عليا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
بذلك بالصفراء فِي مرجعه من بدر فَقتله صبرا (ثمَّ سمع) صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم (مَا أنشدته أُخْته قتيلة) على مَا ذكر
ابْن إِسْحَاق وَابْن هِشَام واليعمري. وَقَالَ السُّهيْلي:
الصَّحِيح أَنَّهَا بنت النَّضر وَمَشى عَلَيْهِ الذَّهَبِيّ
وَغَيره.
(مَا كَانَ ضرك لَو مننت وَرُبمَا ... من الْفَتى وَهُوَ
المغيظ المحنق)
(فِي أَبْيَات) سَابِقَة على هَذَا مَذْكُورَة فِي الشَّرْح،
وَالْمعْنَى أَي شَيْء كَانَ يَضرك لَو عَفَوْت؟ والفتى وَإِن
كَانَ مضجرا مطويا على حنق وحقد قد يمن وَيَعْفُو (قَالَ) صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم (لَو بَلغنِي هَذَا) الشّعْر (قبل قَتله
لمننت عَلَيْهِ) وَذكر الزبير بن بكار: فرق لَهَا رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى دَمَعَتْ عَيناهُ، وَقَالَ
لأبي بكر لَو سَمِعت شعرهَا مَا قتلت أَبَاهَا " فَلَو لم يكن
الْقَتْل وَعَدَمه إِلَيْهِ لَكَانَ بُلُوغ الشّعْر وَعَدَمه
على السوية (أُجِيب بِجَوَاز كَونه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(خير فِيهَا) فِي هَذِه الصُّور الثَّلَاث (معينا) أَي تخييرا
مَخْصُوصًا بهَا لِأَنَّهُ قيل لَهُ أَنْت مُخَيّر فِي إِيجَاب
السُّؤَال وَعَدَمه وتكرار الْحَج وَعَدَمه وَقتل النَّضر
وَعَدَمه.
وَأَنت خَبِير بِأَن هَذَا الِاحْتِمَال مَعَ بعده يأباه
السِّيَاق خُصُوصا فِي الْأَخيرينِ (أَو) كَون مَا ذكره صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم (بِوَحْي سريع) لَا من تِلْقَاء نَفسه
(وَلَا يخفى أَن) الْجَواب (الأول رُجُوع عَن الدَّعْوَى،
وَهُوَ) أَي الدَّعْوَى (أَنه) أَي التَّفْوِيض (لم يَقع
اعترافا بالْخَطَأ) فِي نفي الْوُقُوع مُطلقًا، وَلَك أَن
نقُول بِجَوَاز أَن يكون مُرَاد الْمُدعى نفي التَّفْوِيض
الْمُطلق فَلَا يُنَافِيهِ الْوُقُوع فِي الْجُمْلَة فَتَأمل
(فَالْحق أَنه) أَي التَّفْوِيض فِي الْجُمْلَة (وَقع وَلَا
يُنَافِي) وُقُوعه (مَا تقدم من أَنه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(متعبد بِالِاجْتِهَادِ) أَي مَأْمُور بِهِ عِنْد حُضُور
الْوَاقِعَة وَعدم النَّص (لِأَن وُقُوع التَّفْوِيض فِي
أُمُور مَخْصُوصَة لَا يُنَافِيهِ) أَي كَونه متعبدا
بِالِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا يُنَافِيهِ وُقُوعه فِي
(4/239)
الْكل وَلَا يخفى أَن المُصَنّف لَا يَدعِي
مثل دَعوَاهُم حَتَّى يلْزم عَلَيْهِ الرُّجُوع عَن الدَّعْوَى
بِهَذَا التَّحْقِيق (وَإِذن) أَي وَإِذا كَانَ التَّفْوِيض
وَاقعا فِي الْجُمْلَة (فكونه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(كَذَلِك) أَي فوض إِلَيْهِ (فِي الأذخر أسهل مِمَّا تكلّف)
فِي أجوبته (وَأقرب إِلَى الْوُجُود) بِحَسب نفس الْأَمر.
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: هَذِه المسئلة وَإِن أوردهَا
متكلمو الْأُصُولِيِّينَ فَلَيْسَتْ بمعروفة بَين الْفُقَهَاء،
وَلَيْسَ فِيهَا كثير فَائِدَة لِأَنَّهَا فِي غير
الْأَنْبِيَاء لم تُوجد وَلَا يتَوَهَّم وجوده فِي
الْمُسْتَقْبل.
مسئلة
(يجوز خلو الزَّمَان عَن مُجْتَهد) كَمَا هُوَ الْمُخْتَار
عِنْد الْأَكْثَر مِنْهُم الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب (خلافًا
للحنابلة) والأستاذ أبي إِسْحَاق والزبيري من الشَّافِعِيَّة
فِي منع الْخُلُو مُطلقًا وَلابْن دَقِيق الْعِيد فِي مَنعه
قبل اشْتِرَاط السَّاعَة الْكُبْرَى، وَالظَّاهِر عدم الْخلاف
فِيمَا بعْدهَا وَأَن إِطْلَاق الْمُخَالف مَحْمُول على مَا
دون هَذَا. (لنا لَا مُوجب) لمَنعه (وَالْأَصْل عَدمه) أَي عدم
الْمُوجب (بل دلّ على الْخُلُو قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
" أَن الله لَا يقبض الْعلم انتزاعا) ينتزعه من الْعباد
وَلَكِن ينتزعه بِقَبض الْعلمَاء، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله
(إِلَى قَوْله حَتَّى إِذا لم يبْق عَالم اتخذ النَّاس
رُؤَسَاء جُهَّالًا فأفتوا بِغَيْر علم فضلوا وأظلوا ")
رَوَاهُ أَحْمد والستة، وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " إِن
من أَشْرَاط السَّاعَة أَن يرفع الْعلم وَيثبت الْجَهْل "
رَوَاهُ البُخَارِيّ وَلَا يخفى أَن هَذَا لَا يقوم حجَّة على
ابْن دَقِيق الْعِيد وعَلى الْحَنَابِلَة أَيْضا أَن حمل
إِطْلَاقهم على مَا قبل الأشراط (قَالُوا) أَي الْحَنَابِلَة.
(قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي
ظَاهِرين على الْحق) من الظُّهُور: يَعْنِي الْغَلَبَة (حَتَّى
يَأْتِي أَمر الله) وهم ظاهرون ". أخرجه البُخَارِيّ بِدُونِ
لفظ على الْحق لكنه مَوْجُود فِي بعض الرِّوَايَات فَيحمل
عَلَيْهِ، وَفِي بعض الرِّوَايَات حَتَّى تقوم السَّاعَة
فَهُوَ المُرَاد بِأَمْر الله (أَو حَتَّى يظْهر الدَّجَّال)
وَكلمَة أَو للشَّكّ فِي لفظ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي نفس الْأَمر بِسَبَب اخْتِلَاف الرِّوَايَات، ثمَّ
الظُّهُور على الْحق لَا يُمكن إِلَّا بِالْعلمِ، وَلَا علم
بِدُونِ الِاجْتِهَاد كَمَا بَين فِي مَحَله (أُجِيب)
بِأَنَّهُ (لَا يدل) الحَدِيث (على نفي الْجَوَاز) بل على نفي
الْوُقُوع، وَالْمُدَّعى نفي الْجَوَاز (وَلَا يخفى أَن
مُرَادهم) أَي الْحَنَابِلَة من قَوْلهم لَا يجوز (لَا يَقع)
خلو الزَّمَان عَنهُ لحمل الْجَوَاز على الْوُقُوع بِدَلِيل
قَوْلهم (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يتَحَقَّق عدم الْوُقُوع
بِأَن يَقع الْخُلُو (لزم كذبه) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ
بَين اللُّزُوم بقوله (والْحَدِيث يفِيدهُ) أَي عدم الْوُقُوع
لدلالته على اسْتِمْرَار وجود الْعَالم إِلَى قيام السَّاعَة.
وَخبر أَن مَجْمُوع قَوْله لَا يَقع إِلَى قَوْله لزم كذبه،
ثمَّ علل كَون ذَلِك مرَادا بقوله: أَي تَرْجِيح الحَدِيث
الدَّال على الْجَوَاز على الحَدِيث الدَّال على عَدمه (إِذْ
لَا يَتَأَتَّى لعاقل إحالته) أَي الْخُلُو (عقلا) فهم
يُرِيدُونَ نفي
(4/240)
الْوُقُوع من طَرِيق السّمع لَا الْعقل
(فَالْوَجْه) فِي الْجَواب (التَّرْجِيح) أَي تَرْجِيح
الحَدِيث الدَّال على عَدمه (بأظهرية الدّلَالَة) أَي دلَالَة
الحَدِيث الدَّال على الْجَوَاز بل على الْوُقُوع (على نفي
الْعَالم الْأَعَمّ من الْمُجْتَهد) وَنفي الْعَام مُسْتَلْزم
نفي الْخَاص (بِخِلَاف الظُّهُور على الْحق) فَإِنَّهُ لَا
يسْتَلْزم وجود الْمُجْتَهد (لِأَنَّهُ) أَي الظُّهُور على
الْحق (يتَحَقَّق بِدُونِ اجْتِهَاد كَمَا يتَحَقَّق
بِإِرَادَة الِاتِّبَاع) شبه تحقق الظُّهُور على الْحق عِنْد
فقد الْمُجْتَهد بتحقق وجود الْمُجْتَهد بِقصد اتِّبَاعه قصدا
مَقْرُونا بِالْفِعْلِ (وَلَو تَعَارضا) أَي الحديثان أَشَارَ
بِكَلِمَة لَو إِلَى أَنه لَا مجَال للتعارض لما ذكر لكنه لَو
فرض (بَقِي) لنا للْجُوَاز أَن نقُول عدم الْجَوَاز لَا يكون
بِلَا مُوجب، وَالْأَصْل (عدم الْمُوجب. قَالُوا) ثَانِيًا
الِاجْتِهَاد (فرض كِفَايَة فَلَو خلا) الزَّمَان عَن
الْمُجْتَهد (اجْتَمعُوا) أَي الْأمة (على الْبَاطِل) وَهُوَ
الْعِصْيَان بترك الْفَرْض الْمَذْكُور، وَالْبَاطِل ضَلَالَة،
وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " لَا تَجْتَمِع أمتِي على
الضَّلَالَة " (أُجِيب) بِأَنَّهُ (إِذا فرض موت الْعلمَاء)
رَأْسا (لم يبْق) الِاجْتِهَاد فرضا، لِأَن شَرط التَّكْلِيف
الْإِمْكَان، لَا يُقَال الْإِمْكَان مَوْجُود لوُجُود أَسبَاب
الْعلم من الْكتب وَغَيره، لأَنا نقُول لزم الْخُلُو فِي
مُدَّة التَّحْصِيل قبل الْحُصُول (على أَنه) أَي هَذَا
الدَّلِيل (فِي غير مَحل النزاع لِأَن فرض الْكِفَايَة
الِاجْتِهَاد بِالْفِعْلِ) أَي السَّعْي فِي تَحْصِيله وَهُوَ
مُمكن للعوام، وَمحل النزاع إِنَّمَا هُوَ حُصُوله
بِالْفِعْلِ، وَالْأول مَوْجُود عِنْد موت الْعلمَاء دون
الثَّانِي، عَن السُّبْكِيّ لم يثبت خلو الزَّمَان من
الْمُجْتَهد، فَإِن أَرَادَ الْمُطلق مُخَالفَة قَول الْقفال
وَالْغَزالِيّ: الْعَصْر خلا عَن الْمُجْتَهد المستقل، وَقَالَ
الرَّافِعِيّ بالخلو كالمتفقين على أَنه لَا مُجْتَهد
الْيَوْم، وَفِي الْخُلَاصَة القَاضِي إِذا قَاس مسئلة على
مسئلة فَظهر رَأْيه أَن الحكم بِخِلَافِهِ، فالخصومة
للْمُدَّعى عَلَيْهِ يَوْم الْقِيَامَة على القَاضِي وعَلى
الْمُدعى لِأَنَّهُ لَيْسَ أحد من أهل الِاجْتِهَاد فِي
زَمَاننَا. وَلما فرغ من الِاجْتِهَاد شرع فِي مُقَابِله
وَهُوَ الاستفتاء والبحث فِيهِ عَن الْمُقَلّد والمفتي
والاستفتاء وَمَا فِيهِ الاستفتاء فَقَالَ.
مسئلة
(التَّقْلِيد الْعَمَل بقول من لَيْسَ قَوْله إِحْدَى الْحجَج
بِلَا حجَّة مِنْهَا) وَإِنَّمَا عرفه ابْن الْحَاجِب
بِالْعَمَلِ بقول الْغَيْر من غير حجَّة. وَخرج بقوله من غير
حجَّة الْعَمَل بقول الرَّسُول وَالْعَمَل بِالْإِجْمَاع
وَرُجُوع الْعَاميّ إِلَى الْمُفْتِي وَالْقَاضِي إِلَى
الْعُدُول فِي شَهَادَتهم لوُجُود الْحجَّة فِي الْكل، فَفِي
الرَّسُول المعجزة الدَّالَّة على صدقه فِي الْأَخْبَار عَن
الله تَعَالَى وَفِي الْإِجْمَاع مَا مر فِي حجيته، وَفِي قَول
الشَّاهِد والمفتي الْإِجْمَاع على وجوب اتباعهما، وَإِنَّمَا
عدل المُصَنّف عَنهُ وَقيد الْغَيْر بِمن لَيْسَ قَوْله
إِحْدَى الْحجَج من الْكتاب
(4/241)
وَالسّنة وَالْإِجْمَاع، لِأَن
الْمُتَبَادر من قَوْله بِلَا حجَّة نفي الْحجَّة
الْمَخْصُوصَة بِمَا عمل بِهِ من القَوْل الْخَاص فَحِينَئِذٍ
يدْخل الْعَمَل بقول الرَّسُول فِي التَّقْلِيد، لِأَن النَّاس
كَانُوا يعْملُونَ بِهِ من غير أَن يعرفوا دَلِيله الْخَاص:
وَلذَلِك يعْملُونَ بقول أهل الْإِجْمَاع، من غير أَن يعرفوا
ذَلِك فالتقييد لإخراجهما، ثمَّ لما حمل الْحجَّة المنفية على
الْخُصُومَة لما مر لزم دُخُول عمل الْعَاميّ بقول الْمُفْتِي
فِي التَّقْيِيد على خلاف مَا مَشى عَلَيْهِ ابْن الْحَاجِب،
وَهُوَ يلْتَزم ذَلِك كَمَا قَالَ بعض الْمُحَقِّقين فِي شرح
الْمُخْتَصر. وَلَو سمي بعض ذَلِك تقليدا كَمَا سمي فِي الْعرف
الْمُقَلّد الْعَاميّ وَقَول الْمُفْتِي تقليدا، فَلَا مشاححة
فِي التَّسْمِيَة والاصطلاح، وسيشير إِلَيْهِ المُصَنّف
وَبَقِي قَضِيَّة القَاضِي، فَنَقُول إِنَّه غير عَامل بقول
الشَّاهِد، بل بقول الله: احكم أَيهَا القَاضِي عِنْد قَوْله
وَالله الْمُوفق (فَلَيْسَ الرُّجُوع إِلَى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم و) أهل (الْإِجْمَاع مِنْهُ) أَي من
التَّقْلِيد (بل الْمُجْتَهد والعامي إِلَى مثله) أَي رُجُوع
كل مِنْهُمَا إِلَى مثله من التَّقْلِيد (و) الْعَاميّ (إِلَى
الْمُفْتِي) أَي رُجُوع الْعَاميّ إِلَى الْمُفْتِي أَيْضا من
التَّقْلِيد (هَذَا) الَّذِي ذكره من معنى التَّقْلِيد
بِحَيْثُ عَم رُجُوع الْعَاميّ إِلَى الْمُفْتِي (هُوَ
الْمَعْرُوف من قلد عَامَّة مصر الشَّافِعِي وَنَحْوه) أَي
هَذَا الَّذِي يعرف، وَيُسْتَفَاد من قَوْلهم: قلد عَامَّة مصر
الشَّافِعِي وَنَحْوه كَقَوْلِهِم: قلد عَامَّة الرّوم أَبَا
حنيفَة، وَالْمَشْهُور الْمَعْرُوف أولى بِالِاعْتِبَارِ،
لِأَنَّهُ يتلَقَّى بِالْقبُولِ، بل يظْهر أَنه من عرف السّلف
وَأَيْضًا على تَقْدِير اخْتِصَاصه بِرُجُوع الْمُجْتَهد أَو
الْعَاميّ إِلَى مثله يلْزم أَن لَا يكون لَهُ فَرد مَشْرُوع
أصلا وَهُوَ خلاف الظَّاهِر، لَكِن بَقِي شَيْء: وَهُوَ أَن
الْمُقَلّد الَّذِي عِنْده طرف من الْعلم بِحَيْثُ يعرف تفاصيل
الْأَدِلَّة كَيفَ يصدق عَلَيْهِ أَنه أَخذ بقول إِمَامه بِلَا
حجَّة فَالْجَوَاب أَن معرفَة الدَّلِيل إِنَّمَا تكون للمجتهد
لَا لغيره لتوقفها على سَلَامَته من الْمعَارض، وَهِي متوقفة
على استقراء الْأَدِلَّة فَلَا يَتَيَسَّر إِلَّا للمجتهد،
وَالْمرَاد تقربا لقَوْل مَا يعم الْفِعْل والتقرير تَغْلِيبًا
(وَكَانَ الْوَجْه جعل الْمُعَرّف بِمَا ذكر) من التَّعْرِيف
(التقلد لِأَنَّهُ) أَي الْمُقَلّد بِصِيغَة الْمَفْعُول (جعل
قَوْله قلادة) فِي عتق من عمل بقوله، فالتابع متقلد وتبعيته
تقلد (فتصحيحه) أَي تَصْحِيح وَجه التَّسْمِيَة (جعل عمله
قلادة إِمَامه) لكَون الإِمَام ضَامِنا صِحَّته عِنْد الله
تَعَالَى (والمفتى الْمُجْتَهد وَهُوَ) أَي الْمُجْتَهد
(الْفَقِيه) اصْطِلَاحا أصوليا، وَقد سبق تَعْرِيف الْفِقْه،
وَيشْتَرط فِي قبُول فتواه الْعَدَالَة حَتَّى يوثق بِهِ لَا
فِي صِحَة اجْتِهَاده، وللمفتي رد الْفَتْوَى إِذا كَانَ فِي
الْبَلَد غَيره أَهلا لَهَا خلافًا للحليمي، وَلَا يلْزمه
جَوَاب مَا لم يَقع وَمَا لَا يحْتَملهُ السَّائِل وَلَا
يَنْفَعهُ. قَالَ ابْن أبي ليلى: أدْركْت مائَة وَعشْرين من
الْأَنْصَار من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يسْأَل أحدهم عَن الْمَسْأَلَة فيردها هَذَا إِلَى هَذَا
وَهَذَا إِلَى هَذَا حَتَّى ترجع إِلَى الأول، وَقد نهى صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الغلوطات بِفَتْح
(4/242)
الْغَيْن الْمُعْجَمَة أَصْلهَا أغلوطات.
قَالَ الْأَوْزَاعِيّ: هِيَ شَدَّاد الْمسَائِل. وَعنهُ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم " سَيكون أَقوام من أمتِي يغلطون فقهاءهم
أُولَئِكَ شرار أمتِي " (والمستفتى من لَيْسَ إِيَّاه) أَي
مفتيا (وَدخل) فِي المستفتى (الْمُجْتَهد فِي الْبَعْض) من
الْمسَائِل الاجتهادية لاستكمال مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي
ذَلِك الْبَعْض من الْكتاب وَالسّنة وَسَائِر الشُّرُوط فَهُوَ
مستفتى (بِالنِّسْبَةِ إِلَى) الْمُجْتَهد (الْمُطلق) حَيْثُ
قُلْنَا بتجزؤ الِاجْتِهَاد فَهُوَ مفت فِي بعض الْأَحْكَام
مستفتي فِي الآخر (والمستفتى فِيهِ) الْأَحْكَام (الفرعية
الظنية) . قَالَ المُصَنّف (والعقلية) مِمَّا يتَعَلَّق
بالاعتقاد (وَلذَا) أَي وَلكَون المستفتى فِيهِ قد يكون عقليا
(صححنا إِيمَان الْمُقَلّد وَإِن أثمناه) فَلَو كَانَ إيمَانه
غير صَحِيح مَعَ كَونه آثِما لما كَانَ يَتَرَتَّب على
استفتائه ثَمَرَة أصلا، فصحة إيمَانه تدل على أَن الْإِيمَان
وَسَائِر مَا يتَعَلَّق بالاعتقاد مِمَّا يتَجَزَّأ فِيهِ
الاستفتاء، غَايَة الْأَمر أَن المستفتى آثم إِذا اكْتفى
بِمُجَرَّد التَّقْلِيد فِيهِ، وَلم يجْتَهد فِي تَحْصِيل
الْعلم بِالدَّلِيلِ، وَهُوَ مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة
وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَكثير من الْمُتَكَلِّمين وَقيل
لَا يسْتَحق اسْم الْمُؤمن إِلَّا بعد عرفان الْأَدِلَّة،
وَهُوَ مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ (فَمَا يحل الاستفتاء فِيهِ)
الْأَحْكَام (الظنية لَا الْعَقْلِيَّة) الْمُتَعَلّقَة
بالاعتقاد فَإِن الْمَطْلُوب فِيهَا الْعلم (على) الْمَذْهَب
(الصَّحِيح) فَلَا يجوز التَّقْلِيد فِيهَا، بل يجب
تَحْصِيلهَا بِالنّظرِ الصَّحِيح، وَهُوَ قَول الْأَكْثَرين:
وَاخْتَارَهُ الرَّازِيّ والآمدي وَابْن الْحَاجِب، بل حَكَاهُ
الْأُسْتَاذ الاسفراينى عَن إِجْمَاع أهل الْعلم من الْحق
وَغَيرهم من الطوائف، فقد عرفت أَن الْحق عدم الاستفتاء فِي
الْعَقْلِيَّة (لَا قصر صِحَّته) أَي صِحَة المستفتى فِيهِ
(على الظنية) بِأَن لَا يَصح المستفتى فِيهِ إِلَّا إِذا كَانَ
من الْأَحْكَام الظنية، بل يَصح إِذا كَانَ من الْعَقْلِيَّة
أَيْضا صِحَة مقرونة مَعَ اسْم المستفتى الْعَامِل بِتِلْكَ
الْفَتْوَى تقليدا (كوجوده تَعَالَى) مِثَال للعقلية: أَي
كَالْحكمِ بِوُجُودِهِ تَعَالَى تقليدا لمن أفتى بِهِ،
فَإِنَّهُ صَحِيح يَتَرَتَّب عَلَيْهِ أَحْكَام الْإِيمَان،
غير أَن المستفتى آثم بتقاعده عَن الِاسْتِدْلَال (وَقيل يجب)
التَّقْلِيد فِي الْعَقْلِيَّة الْمُتَعَلّقَة بالاعتقاد
(وَيحرم النّظر) والبحث فِيهَا، وَالْقَائِل قوم من أهل
الحَدِيث، وَنسبه الزَّرْكَشِيّ إِلَى الْأَئِمَّة
الْأَرْبَعَة وَلم يحفظ عَنْهُم، وَإِنَّمَا توهم من نهيهم عَن
تعلم علم الْكَلَام، وَهُوَ مَحْمُول على من خيف أَن يزل فِيهِ
لعدم استقامة طبعه (و) قَالَ (الْعَنْبَري) وَبَعض
الشَّافِعِيَّة (يجوز) التَّقْلِيد فِيهَا وَلَا يجب النّظر
(لنا الْإِجْمَاع) معقد (على وجوب الْعلم بِاللَّه تَعَالَى)
وَصِفَاته على الْمُكَلف (وَلَا يحصل) الْعلم بِهِ (بالتقليد
لَا مَكَان كذبه) أَي الْمُفْتِي الْمُقَلّد (إِذْ نَفْيه) أَي
الْكَذِب عَنهُ (بِالضَّرُورَةِ مُنْتَفٍ) يَعْنِي عدم كذبه
لَيْسَ ببديهي، إِذْ لَيْسَ بمعصوم عِنْد المستفتى فَلَا يحصل
الْعلم بِخَبَرِهِ فَإِن قلت: فعلى هَذَا لَا يَصح إِيمَان
الْمُقَلّد، لِأَن الْمُعْتَبر فِي الْإِيمَان إِنَّمَا هُوَ
الْعلم وَلم يحصل قلت:
(4/243)
الْأَمر كَذَلِك إِذا لم يحصل الْعلم،
وَأما إِذا حصل من غير مُوجب يَقْتَضِيهِ حتما حكمنَا
بِصِحَّتِهِ لحُصُول الْمَقْصُود وأثمناه لتَقْصِيره فِي
تَحْصِيله على وَجه لَا يَزُول بتشكيك المشكك (وبالنظر) أَي
نظر الْمُقَلّد فِيمَا يُوجب الْعلم بِاللَّه تَعَالَى
وَصِفَاته (لَو تحقق يرفع التَّقْلِيد) لِأَن التَّقْلِيد
إِنَّمَا هُوَ الْعَمَل بقول الْغَيْر من غير حجَّة، وَقد تحقق
الْحجَّة بِالنّظرِ الْمَذْكُور: فعلى هَذَا أَكثر الْعَوام
لَيْسُوا بمقلدين فِي الْإِيمَان لأَنهم علمُوا بِالنّظرِ،
وَإِن عجزوا عَن تَرْتِيب الْمُقدمَات على طَريقَة أهل الْعلم
كَمَا عرف (وَلِأَنَّهُ) مَعْطُوف على قَوْله لَا مَكَان كذبه
(لَو حصل) الْعلم بالتقليد (لزم النقيضان بتقليد اثْنَتَيْنِ)
اثْنَيْنِ (فِي حُدُوث الْعَالم وَقدمه) بِأَن يحصل لزيد
الْعلم بحدوثه تقليدا للقائل بِهِ ولعمرو الْعلم بقدمه
تَقْلِيد الْقَائِل بِهِ، إِذْ الْعلم يستدعى الْمُطَابقَة
فَيلْزم حقية الْحُدُوث والقدم. قَالَ (المجوز) للتقليد فِي
الْعَقْلِيَّة (لَو وَجب النّظر) فِيهَا (لفعله) أَي النّظر
(الصَّحَابَة وَأمرُوا بِهِ) مَعْطُوف على فعله، فَإِنَّهُم
لَا يتركون الْوَاجِب (وَهُوَ) أَي كل وَاحِد من الْفِعْل
وَالْأَمر (مُنْتَفٍ) عَنْهُم خُصُوصا عَن عوامهم (وَإِلَّا)
أَي وَإِن لم يكن ذَلِك منتفيا بِأَن وجد مِنْهُم (لنقل)
إِلَيْنَا (كَمَا) نقل عَنْهُم النّظر (فِي الْفُرُوع)
فَلَمَّا لم ينْقل عَنْهُم علم أَنه لم يَقع (الْجَواب منع
انْتِفَاء التَّالِي) أَي عدم فعلهم وَأمرهمْ وَإِلَّا لزم
جهلهم بِاللَّه تَعَالَى، لِأَن الْعلم بِهِ لَيْسَ بضروري (بل
علمهمْ و) علم (عَامَّة الْعَوام) فِي زمانهم كَانَ ناشئا (عَن
النّظر إِلَّا أَنه) أَي النّظر والبحث (لم يدر بَينهم) دورانا
ظَاهرا كَمَا بَينا (لظُهُوره) أَي النّظر ومادته عِنْدهم
لصفاء قُلُوبهم بمشاهدة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ونزول الْوَحْي، وبركة الصُّحْبَة وَالتَّقوى (ونيله بِأَدْنَى
الْتِفَات إِلَى الْحَوَادِث) الدَّالَّة على وجود الْمُحدث
الْقَدِيم، وحياته، وَعلمه، وَقدرته إِلَى غير ذَلِك كوحدته
بِاعْتِبَار نظامها المستمر بِلَا خلل (وَلَيْسَ المُرَاد) من
النّظر الْوَاجِب (تحريره) أَي تَقْرِيره وتقويمه (على) طبق
(قَوَاعِد الْمنطق) كالقياس الاقتراني المنقسم إِلَى الأشكال
الْأَرْبَعَة والاستثنائي بأقسامه (وَمن أصغى) أَي أمال سامعته
(إِلَى عوام الْأَسْوَاق امْتَلَأَ سَمعه من استدلالهم
بالحوادث) على مَا ذكر (والمقلد الْمَفْرُوض) أَي الْقَائِل
بقول الْغَيْر من غير حجَّة فِي الْإِيمَان بِأَن يصدق
بِاللَّه وَصِفَاته بِمُجَرَّد السماع من غير أَن يخْطر
بِبَالِهِ مَا يدل عَلَيْهِ من الْآيَات (لَا يكَاد يُوجد،
فَإِنَّهُ قل أَن يسمع من لم ينْقل ذهنه قطّ من الْحَوَادِث
إِلَى موجدها وَلم يخْطر لَهُ الموجد) أَي لم يخْطر بِبَالِهِ
الموجد عِنْد مُشَاهدَة الْحَوَادِث، فَقَوله وَلم يخْطر عطف
تفسيري لقَوْله من لم ينْتَقل (أَو خطر) لَهُ الموجد (فَشك
فِيهِ) أَي فِي وجوده مَعْطُوف على لم يخْطر فَهُوَ فِي
الْحَقِيقَة مُقَابل بقوله من لم ينْتَقل (من يَقُول لهَذِهِ
الموجودات: رب أوجدها متصف بِالْعلمِ بِكُل شَيْء وَالْقُدْرَة
الخ) أَي آخر مَا يُؤمن بِهِ من الصِّفَات الْمَوْصُول الأول
فَاعل يسمع، وَالثَّانِي مَفْعُوله (فيعتقد)
(4/244)
بِالنّصب عطفا على مَدْخُول أَن،
وَالْعلَّة بِاعْتِبَارِهِ (ذَلِك) إِشَارَة إِلَى مَضْمُون
مقول القَوْل (بِمُجَرَّد تَصْدِيقه) أَي الْقَائِل تقليدا
لَهُ (من غير انْتِقَال) أَي من غير أَن ينْتَقل ذهنه بِسَبَب
هَذَا القَوْل المنبه إِلَى معنى كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَن
ينْتَقل إِلَيْهِ بِغَيْر مُنَبّه لما هُوَ مركوز فِي جبلته
بِمُقْتَضى الْمِيثَاق الْمشَار إِلَيْهِ بقوله تَعَالَى -
{وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم} - الْآيَة انتقالا (يُفِيد
اللُّزُوم) بِاعْتِبَار مُتَعَلّقه، أَعنِي الْمُنْتَقل (بَين
الْمُحدث) على صِيغَة اسْم الْمَفْعُول (والموجد) على صِيغَة
اسْم الْفَاعِل، وَإِنَّمَا خص السماع فِي هَذَا الْبَيَان
بِمن لم ينْتَقل ذهنه إِلَى الموجد، لِأَن من انْتقل ذهنه
إِلَيْهِ قبل هَذَا السماع يَسْتَحِيل أَن يصير مُقَلدًا
للقائل الْمَذْكُور، لأَنا لَا نعني لنظر وَالِاسْتِدْلَال
إِلَّا هَذَا الِانْتِقَال فَإِن قلت: يجوز أَن يكون
انْتِقَاله بطرِيق البداهة قلت: مرْحَبًا بالوفاق فَإِنَّهُ
أبعد عَن التَّقْلِيد (قَالُوا) ثَالِثا (وجوب النّظر) أَي
الْعلم بِوُجُوبِهِ (دور) أَي مُسْتَلْزم لَهُ (لتوقفه) أَي
الْعلم بِالْوُجُوب (على معرفَة الله) تَعَالَى، لِأَن
الْوُجُوب عبارَة عَن كَون الْفِعْل مُتَعَلق خطاب الله
تَعَالَى اقْتِضَاء، فَمَا لم يعرف الله لم يعرف كَون النّظر
مَطْلُوبا لله تَعَالَى لَازِما عَلَيْهِ يَتَرَتَّب على تَركه
الْعقَاب، فمعرفة وجوب النّظر مَوْقُوف على معرفَة الله
تَعَالَى، وَقد تقرر أَن معرفَة الله تَعَالَى مَوْقُوفَة على
النّظر، وَلَا يخفى مَا فِيهِ، فَإِن مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ
معرفَة الله تَعَالَى إِنَّمَا هُوَ ذَات النّظر لَا الْعلم
بِوُجُوبِهِ فَلَا دور: اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال مُرَادهم
أَن الْعلم بِوُجُوب النّظر، إِذْ جعل عِلّة لصدور النّظر
يلْزم الدّور، لِأَنَّهُ يلْزم تقدم الْعلم بِالْوُجُوب على
معرفَة الله تَعَالَى لِأَن عِلّة الْعلَّة للشَّيْء عِلّة
لذَلِك الشَّيْء، فَثَبت توقف معرفَة الله تَعَالَى على الْعلم
بِوُجُوب النّظر أَيْضا فَتَأمل (أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي الْعلم
بِوُجُوب النّظر مَوْقُوف (على مَعْرفَته) تَعَالَى (بِوَجْه)
مَا (وَالْمَوْقُوف على النّظر) الْمَوْقُوف على الْعلم
بِوُجُوبِهِ (مَا) أَي معرفَة (بأتم) أَي بِوَجْه أتم (أَي
الاتصاف) تَفْسِير للْوَجْه الأتم (بِمَا) أَي بِصِفَات صلَة
للاتصاف (يجب لَهُ كالصفات الثَّمَانِية) : الْحَيَاة،
وَالْقُدْرَة، وَالْعلم، والإرادة، والسمع، وَالْبَصَر،
وَالْكَلَام، والتكوين (وَمَا يمْتَنع عَلَيْهِ) من النقيصة
والزوال، لَا يخفى بعده فَالْوَجْه أَن يُقَال: لَيْسَ مُرَاد
الْمُجيب بالمعرفة بِوَجْه التَّصَوُّر بِوَجْه، بل مَعْرفَته
تَعَالَى من حَيْثُ أَنه مَوْجُود طَالب من عباده النّظر،
ليحصل الْعلم بِهِ وبصفاته علما تفصيليا على الْوَجْه
الْمَعْرُوف فِي علم الْكَلَام. قَالَ (المانعون) من النّظر،
النّظر (مَظَنَّة الْوُقُوع فِي الشّبَه) أَي مَحل ظن
الْوُقُوع فِي احتمالات مُوجبَة لشكوك وأوهام مخلة بالتصديق
الإيماني: وَلِهَذَا عطف عَلَيْهِ قَوْله (والضلال) فَإِن
الشّبَه طَرِيق للضلال الَّذِي هُوَ ضد الْهِدَايَة والعقيدة
الصَّحِيحَة، بِخِلَاف التَّقْلِيد فَإِنَّهُ طَرِيق آمن
فَوَجَبَ احْتِيَاطًا، ولوجوب الِاحْتِرَاز عَن مَظَنَّة
الضلال إِجْمَاعًا (قُلْنَا) إِنَّمَا يكون النّظر
(4/245)
مَمْنُوعًا (إِذا فعل غير الصَّحِيح
الْمُكَلف بِهِ) من النّظر، يَعْنِي أَنه كلف بِالنّظرِ
الصَّحِيح، وَهُوَ لَيْسَ بمظنة الْوُقُوع فِيهَا (وَأَيْضًا)
إِذا أطلق حُرْمَة النّظر تحرم على كل وَاحِد (فَيحرم على
الْمُقَلّد) بِفَتْح اللَّام (النَّاظر إِذْ لَا بُد من
الِانْتِهَاء إِلَيْهِ) فَإِنَّهُ يلْزم عَلَيْكُم
الِاعْتِرَاف بِأَن التَّقْلِيد يَنْتَهِي إِلَى مقلد علمه
حَاصِل بطرِيق النّظر (وَإِلَّا لتسلسل) التَّقْلِيد إِلَى غير
نِهَايَة ضَرُورَة أَن الْمُقَلّد لَا بُد لَهُ من مقلد
(والانتهاء إِلَى الْمُؤَيد بِالْوَحْي وَالْأَخْذ عَنهُ
لَيْسَ تقليدا) أَي الِانْتِهَاء إِلَيْهِ وَالْأَخْذ عَنهُ
لَيْسَ على وَجه التَّقْلِيد (بل) على وَجه الِاسْتِدْلَال
وَالنَّظَر لِأَن الْأَخْذ عَن الرَّسُول بقول مخبر صَادِق
بِدلَالَة المعجزة الصادقة، وكل مَا أخبر بِهِ الرَّسُول
الْمخبر الصَّادِق عَن الْمُرْسل صَادِق حق: وَهَذَا عين
النّظر وَالِاسْتِدْلَال، وَلَيْسَ الْعلم الْحَاصِل للأخذ عَن
الْمُؤَيد بِالْوَحْي علما تقليديا، بل هُوَ (علم نَظَرِي) .
مسئلة
(غير الْمُجْتَهد الْمُطلق يلْزمه) عِنْد الْجُمْهُور
(التَّقْلِيد وَإِن كَانَ مُجْتَهدا فِي بعض مسَائِل الْفِقْه
أَو بعض الْعُلُوم) فِيهِ إِشَارَة إِلَى مَا سبق، من أَن
الِاجْتِهَاد يجْرِي فِي غير الْفِقْه أَيْضا من العقليات
وَغَيرهَا (كالفرائض) أَفَادَ أَن الْفَرَائِض لَيست من
الْفِقْه لإدراجها فِيمَا جعل قسيما لَهُ. وَكَيف والمبحوث
عَنهُ فِيهَا سِهَام الْمُسْتَحقّين وَمَا يتَعَلَّق بهَا.
وَفِي الْفِقْه: أَفعَال الْمُكَلّفين، لَا يُقَال يُمكن
إدراجها فِيهِ بِاعْتِبَار كَون الْعباد مكلفين بإيصال تِلْكَ
السِّهَام إِلَى الْمُسْتَحقّين، لِأَنَّهُ تكلّف مُسْتَغْنى
عَنهُ (على القَوْل بالتجزي) للِاجْتِهَاد: أَي يلْزمه
التَّقْلِيد بِنَاء على القَوْل بِأَن الِاجْتِهَاد يتَجَزَّأ
فَيجوز أَن يكون شخص مُجْتَهد فِي بعض الْمسَائِل دون بعض
(وَهُوَ الْحق) أَي القَوْل بالتجزؤ هُوَ الْحق كَمَا سبق
وَجهه، وَأَنه عَلَيْهِ الْأَكْثَر (فِيمَا لَا يقدر عَلَيْهِ)
من الْأَحْكَام مُتَعَلق بالتقليد (ومطلقا) أَي وَيلْزمهُ
التَّقْلِيد مُطلقًا فِيمَا يقدر عَلَيْهِ وَمَا لَا يقدر
عَلَيْهِ من الْأَحْكَام بِنَاء (على نَفْيه) أَي نفي القَوْل
بالتجزي (وَقيل) وَالْقَائِل بعض الْمُعْتَزلَة لُزُوم
التَّقْلِيد (فِي) حق (الْعَالم) مَشْرُوط (بِشَرْط تَبْيِين
صِحَة مُسْتَنده) فِيمَا أدّى إِلَيْهِ اجْتِهَاده (وَإِلَّا)
أَي وَإِن لم يتَبَيَّن لَهُ (لم يجز) لَهُ تَقْلِيده (لنا
عُمُوم) قَوْله (فاسألوا) أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ
(فِيمَن لَا يعلم) سَوَاء كَانَ عاميا صرفا أَو عَالما
بِالْبَعْضِ دون الْبَعْض (وَفِيمَا لَا يعلم) من الْأَحْكَام
سَوَاء كَانَ مَجْهُولا بالكيلة أَو من وَجه، وَلما لم تكن
صِيغَة الْعُمُوم فِيهَا صرفا أَشَارَ إِلَى دَلِيل الْعُمُوم
بقوله (لتَعَلُّقه) أَي الْأَمر بالسؤال (بعلة عدم الْعلم)
إِضَافَة الْعلم إِلَى الْعَدَم بَيَانِيَّة، فَكلما تحقق عدم
الْعلم تحقق وجوب السُّؤَال: وَهَذَا كَمَا يسْتَلْزم
الْعُمُوم بِاعْتِبَار الْأَشْخَاص يستلزمه بِاعْتِبَار
الْأَحْكَام كَمَا لَا يخفى، دَلِيل العلمية
(4/246)
كَمَال مناسبته للعلية مَعَ عدم مَا يصلح
لَهَا سواهُ، وَأَن الْغَالِب فِي الشَّرْط النَّحْوِيّ
السَّبَبِيَّة (وَأَيْضًا لم يزل المستفتون يتبعُون)
الْمُفْتِينَ (بِلَا إبداء مُسْتَند) فِيمَا يفتون بِهِ (وَلَا
نَكِير) عَلَيْهِم من أحد، فَكَانَ إِجْمَاعًا سكوتيا على
جَوَاز اتِّبَاع الْعَالم من غير إبداء الْمُسْتَند (وَهَذَا)
الْوَجْه (يتَوَقَّف) استلزامه عُمُوم الْجَوَاز (على ثُبُوته)
أَي الاستفتاء (فِي الْعلمَاء المتأهلين) للِاجْتِهَاد
(كَذَلِك) أَي بِلَا إبداء مُسْتَند لَهُم (قَالُوا) أَي
الشارطون تَبْيِين صِحَة الْمُسْتَند (يُؤَدِّي) لُزُوم
اتِّبَاع الْعَالم بِغَيْر تبينها (إِلَى وجوب اتِّبَاع
الْخَطَأ) لِأَن المستفتى يجب عَلَيْهِ الْعَمَل بِمَا أفتى
بِهِ الْمُفْتِي، وَعند عدم تَبْيِين صِحَة الْمُسْتَند قد
يكون خطأ (قُلْنَا وَكَذَا) يُؤَدِّي إِلَى وجوب اتِّبَاع
الْخَطَأ (لَو أبدى) صِحَة الْمُسْتَند، لِأَن مَا أبدا
صِحَّته قد يكون خطأ أَيْضا لِأَن ظُهُور الصِّحَّة فِي نظرهما
لَا يسْتَلْزم الصِّحَّة بِحَسب نفس الْأَمر (وَكَذَا) لُزُوم
اتِّبَاع (الْمُفْتى نَفسه) أَي اجْتِهَاد نَفسه يُؤَدِّي
إِلَى وجوب اتِّبَاع الْخَطَأ بِغَيْر مَا ذكر، وَكَذَا على
نَفسه: وَهَذَا على تَقْدِير نصب نَفسه، وَأما على رَفعه
كالمفتي وكالعالم المستفتى الْمُفْتى نَفسه فنفسه تَأْكِيد
للمفتى (فَمَا هُوَ جوابكم) فِي الْخَلَاص عَن وجوب اتِّبَاع
الْخَطَأ أَيهَا الشارطون فَهُوَ (جَوَابنَا) إِذا لم يبد
صِحَة الْمُسْتَند (والحل) أَي حل الشُّبْهَة بِحَيْثُ ينْكَشف
حَقِيقَة الْحَال أَن يُقَال: (الْوُجُوب لاتباع) (الظَّن) فِي
حق الْمُجْتَهد ومقلده (أَو الحكم من حَيْثُ هُوَ مظنون) أَتَى
بِكَلِمَة أَو للتسوية بَين التعبيرين، وَقد وَقع كلا
التعبيرين فِي كَلَام الْقَوْم تَنْبِيها على أَن مآلهما
وَاحِد وَيجوز أَن يكون بِمَعْنى بل، كَقَوْلِه تَعَالَى -
{مائَة ألف أَو يزِيدُونَ} -: تَنْبِيها على أَن الَّذِي يجب
اتِّبَاعه مَا هُوَ حكم الله تَعَالَى بِاعْتِبَار ظننا، وعَلى
هَذَا يقدر قيد الْحَيْثِيَّة فِي جَانب الْمَعْطُوف عَلَيْهِ:
أَي من حَيْثُ أَن مُتَعَلّقه حكم الله تَعَالَى وَالْحَاصِل
أَن وجوب اتِّبَاع مَا هُوَ خطأ من كل وَجه مَحْذُور، بِخِلَاف
مَا ظن كَونه حكم الله وَإِن كَانَ خطأ فِي نفس الْأَمر،
فَإِنَّهُ لم يجب اتِّبَاعه من حَيْثُ أَنه خطأ، وَإِلَيْهِ
أَشَارَ بقوله (لَا من حَيْثُ هُوَ خطأ) فَإِنَّهُ الْمُمْتَنع
(نعم لَو سَأَلَهُ) أَي المستفتى الْمُفْتى (عَن دَلِيله) أَي
الحكم استرشادا للإذعان وَالْقَبُول لَا تعنتا (وَجب) على
الْمُفْتِي (إبداؤه) أَي الدَّلِيل (فِي) القَوْل (الْمُخْتَار
إِلَّا إِن) كَانَ دَلِيله (غامضا) أَي خفِيا (مَعَ قصوره) عَن
فهمه، فَإِنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ إبداؤه حِينَئِذٍ، عَن
الزَّرْكَشِيّ أَن مَا علم من الدّين بِالضَّرُورَةِ كالمتواتر
لَا يجوز فِيهِ التَّقْلِيد لأحد، بل يجب عَلَيْهِ مَعْرفَته
بدليله، فَإِنَّهُ لَا يشق مَعْرفَته على الْعَاميّ كالإيمان
ثمَّ جُمْهُور الْعلمَاء على أَنه لَا يلْزم على الْمُقَلّد
التمذهب بِمذهب وَالْأَخْذ بِرُخصِهِ وعزائمه وَقيل فِي
الْتِزَام ذَلِك طَاعَة لغير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي كل أمره وَنَهْيه، وَهُوَ خلاف الْإِجْمَاع.
(4/247)
انْعَقَد (الِاتِّفَاق على حل استفتاء من
عرف) على صِيغَة الْمَجْهُول وَإِضَافَة الاستفتاء إِلَى
الْمَوْصُول إِضَافَة إِلَى الْمَفْعُول (من أهل الْعلم)
بَيَان للموصول وَأهل الْعلم أَعم من الْمُجْتَهد لشُمُوله من
حصل بعض الْعُلُوم وَلم يبلغ رُتْبَة الِاجْتِهَاد
(بِالِاجْتِهَادِ) مُتَعَلق بقوله عرف (وَالْعَدَالَة)
مَعْطُوف على الِاجْتِهَاد ومعروفيته بهما إِمَّا بالشهرة أَو
بالخبرة (أَو رَآهُ منتصبا) من نَصبه فانتصب: أَي رَفعه
فارتفع، وَمِنْه المنصب لِأَنَّهُ سَبَب الِارْتفَاع،
وَالْمعْنَى مرتفعا بَين النَّاس بِسَبَب كَونه ممتازا بَينهم
فِي الْعلم (وَالنَّاس يستفتونه) حَال كَونهم (معظمين) لَهُ
(وعَلى امْتِنَاعه) أَي الاستفتاء مَعْطُوف على حل الاستفتاء
(إِن ظن) المستفتى (عدم أَحدهمَا) أَي الِاجْتِهَاد
وَالْعَدَالَة فضلا عَن ظن عدمهما فالصورتان كِلَاهُمَا مَحل
الِاتِّفَاق (فَإِن جهل اجْتِهَاده دون عَدَالَته فالمختار منع
استفتائه) وَنقل فِي الْمَحْصُول الِاتِّفَاق عَلَيْهِ وَغير
الْمُخْتَار جَوَاز استفتائه (لنا) فِي الْمُخْتَار
(الِاجْتِهَاد شَرط) فِي الْإِفْتَاء وَقبُول فتواه (فَلَا بُد
من ثُبُوته عِنْد السَّائِل وَلَو) كَانَ الثُّبُوت (ظنا) أَي
ظنيا (لم يثبت) والمشروط ينتفى بِانْتِفَاء الشَّرْط
(وَأَيْضًا ثَبت عَدمه) أَي عدم الِاجْتِهَاد (إِلْحَاقًا)
لعدمه فِي الْحَال (بِالْأَصْلِ) أَي بِعَدَمِهِ الْأَصْلِيّ
فَإِن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الْعَدَم والوجود طَارِئ
(كالراوي) الْمَجْهُول الْعَدَالَة لَا تقبل رِوَايَته
إِلْحَاقًا لَهُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ عدم الْعَدَالَة (أَو
بالغالب) فِي أهل الْعلم مَعْطُوف على قَوْله بِالْأَصْلِ
(إِذْ أَكثر الْعلمَاء بِبَعْض الْعُلُوم) الْجَار مُتَعَلق
بالعلماء (الَّتِي لَهَا دخل فِي الِاجْتِهَاد غير مجتهدين)
خبر أَكثر الْعلمَاء (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ
الِامْتِنَاع (لَو امْتنع) الاستفتاء فِيمَن جهل اجْتِهَاده
دون عَدَالَته (امْتنع فِيمَن علم اجْتِهَاده دون عَدَالَته)
بِمثل مَا ذكرْتُمْ من اشْتِرَاط الْعَدَالَة وَإِن الأَصْل
عدمهَا وَالْأَكْثَر فِي الْمُجْتَهدين عدمهَا (أُجِيب
بالتزامه) أَي الِامْتِنَاع فِي هَذَا أَيْضا (لاحْتِمَال
الْكَذِب) تَعْلِيل لالتزام امْتنَاع الاستفتاء فِي
الْمَجْهُول عَدَالَته، فَإِن الْكَذِب فِي الْمُجْتَهد غير
نَادِر وَإِن كَانَ غَيره من الفسوق فِيهِ نَادرا (وَلَو سلم
عدم امْتِنَاعه وَهُوَ) أَي الاستفتاء فِي مَجْهُول
الْعَدَالَة (الْحق، فَالْفرق) بَين مَجْهُول الِاجْتِهَاد
ومجهول الْعَدَالَة (أَن الْغَالِب فِي الْمُجْتَهدين
الْعَدَالَة، فالإلحاق) أَي إِلْحَاق مَجْهُول الْعَدَالَة
(بِهِ) أَي بالغالب فِي الْمُجْتَهدين (أرجح مِنْهُ) أَي من
الْإِلْحَاق (بِالْأَصْلِ) فالجار مُتَعَلق بالضمير
بِاعْتِبَار رُجُوعه إِلَى الْمصدر توسعة فِي الظروف: يَعْنِي
أَن إِلْحَاق مَجْهُول الْعَدَالَة لغالب الْمُجْتَهدين أرجح
عقلا وَشرعا من الْإِلْحَاق بِمَا هُوَ الأَصْل فِي
الْأَشْيَاء وَهُوَ الْعَدَم، لِأَن الِاسْتِصْحَاب دَلِيل
ضَعِيف (بِخِلَاف الِاجْتِهَاد) إِذْ (لَيْسَ) الِاجْتِهَاد
(غَالِبا فِي أهل الْعلم فِي الْجُمْلَة) أَي أهل الْعلم
بِبَعْض الْعُلُوم، وَشرط الاسفراينى تَوَاتر الْخَبَر
بِكَوْنِهِ مُجْتَهدا ورده الْغَزالِيّ بِأَن التَّوَاتُر
(4/248)
يُفِيد فِي المحسوسات وَهَذَا لَيْسَ
مِنْهَا، ويكفى الاستفاضة بَين النَّاس، وَقَالَ القَاضِي
يَكْفِيهِ أَن يُخبرهُ عَدْلَانِ بِأَنَّهُ مفت، وَجزم أَبُو
إِسْحَاق الاسفراينى بِأَنَّهُ يَكْفِيهِ خبر الْوَاحِد
الْعدْل عَن فقهه وأمانته لِأَن طَرِيقه طَرِيق الْإِخْبَار،
وَالْمُخْتَار فِي الْفتيا الِاعْتِمَاد على قَوْله إِنِّي مفت
بِشَرْط ظُهُور ورعه، قيل وَهَذَا أصح الْمذَاهب، وَقيل غير
ذَلِك.
مسئلة
(إِفْتَاء غير الْمُجْتَهد بِمذهب مُجْتَهد) أَي بِمَا ذهب
إِلَيْهِ مُجْتَهد (تخريجا) نصب على الْمصدر أَي إِفْتَاء
تَخْرِيج بِأَن لَا يكون الْمُفْتى بِهِ مَنْصُوصا لصَاحب
الْمَذْهَب، لَكِن الْمُفْتى أخرجه من أُصُوله كَمَا أَشَارَ
إِلَيْهِ بقوله (لَا نقل عينه) مَعْطُوف على تخريجا: أَي لَا
يكون الْإِفْتَاء بِنَقْل عين مَا ذهب إِلَيْهِ (فَإِنَّهُ)
أَي نقل الْعين (يقبل بشرائط) قبُول رِوَايَة (الرَّاوِي) من
الْعَدَالَة وَغَيرهَا اتِّفَاقًا وَهَذَا اعْتِرَاض بَين
مَوْضُوع المسئلة وجوابها وَهُوَ (إِن كَانَ) غير الْمُجْتَهد
(مطلعا على مبانيه) أَي مَأْخَذ مَذْهَب الْمُجْتَهد (أَهلا)
للتخريج ولمعرفة مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ (جَازَ) الْإِفْتَاء
جَزَاء الشَّرْط وَالْمَجْمُوع خبر الْمُبْتَدَأ وَهَذَا هُوَ
الْمُسَمّى بالمجتهد فِي الْمَذْهَب (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم
يكن غير الْمُجْتَهد كَذَلِك (لَا) يجوز إفتاؤه تخريجا، وَفِي
شرح البديع للهندي وَهُوَ الْمُخْتَار عِنْد كثير من
الْمُحَقِّقين من أَصْحَابنَا وَغَيرهم، فَإِنَّهُ نقل عَن أبي
يُوسُف وَزفر وَغَيرهمَا من أَئِمَّتنَا أَنه لَا يحل لأحد أَن
يُفْتِي بقولنَا مَا لم يعلم من أَيْن قُلْنَا، وَعبارَة
بَعضهم من حفظ الْأَقَاوِيل وَلم يعرف الْحجَج فَلَا يحل لَهُ
أَن يُفْتِي فِيمَا اخْتلف فِيهِ وَلَا يخفى أَن هَذَا مُخَالف
لما سبق من قَوْله لَا نقل عينه فَإِنَّهُ يقبل بشرائط
الرَّاوِي، فَإِن مُقْتَضَاهُ جَوَاز الْإِفْتَاء بِغَيْر
معرفَة الْحجَج، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال إِن ذَلِك لَا
يُسمى فِي عرفهم إِفْتَاء (وَقيل) جَازَ إِفْتَاء غير
الْمُجْتَهد بِمذهب مُجْتَهد (بِشَرْط عدم مُجْتَهد) فِي
تِلْكَ النَّاحِيَة وَلَا يخفى أَن مُقْتَضى السِّيَاق جَوَاز
إفتائه تخريجا وَجَوَاز هَذَا مَعَ فرض عدم الِاطِّلَاع على
المباني فِي غَايَة الْبعد، وَلَعَلَّ قَوْله (واستغرب) يكون
إِشَارَة إِلَيْهِ، وَقيل المستغرب الْوُلَاة، وَأَيْضًا إِن
كَانَ الِاطِّلَاع على المباني مَوْجُودا فَلَا يضر وجود
الْمُجْتَهد وَإِلَّا فَلَا يَقع عَدمه فَتَأمل (وَقيل يجوز)
إِفْتَاء غير الْمُجْتَهد بِمذهب الْمُجْتَهد (مُطلقًا) سَوَاء
كَانَ مطلعا على المأخذ أم لَا، عدم الْمُجْتَهد أَولا، (و)
قيل، اخْتَارَهُ كثير (هُوَ) أَي هَذَا القَوْل (خليق) أَي
جدير (بِالنَّفْيِ) أَي بِنَفْي الصِّحَّة إِن حمل على ظَاهره،
وَنفي كَونه قولا رَابِعا إِن حمل على خلاف الظَّاهِر كَمَا
يدل عَلَيْهِ مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (وسيظهر) كَونه خليقا
بِالنَّفْيِ. وَقَالَ (أَبُو الْحُسَيْن لَا) يجوز إِفْتَاء
غير الْمُجْتَهد (مُطلقًا) بِالْمَعْنَى الْمَذْكُور فِيهِ،
قيل وَبِه قَالَ القَاضِي من الْحَنَابِلَة وَالرُّويَانِيّ من
الشَّافِعِيَّة، وروى عَن أَحْمد (لنا وُقُوعه) أَي إِفْتَاء
غير الْمُجْتَهد بِمذهب الْمُجْتَهد (بِلَا نَكِير) فَكَانَ
إِجْمَاعًا على جَوَاز إِفْتَاء غير
(4/249)
الْمُجْتَهد الْمُطلق إِذا كَانَ مُجْتَهدا
فِي الْمَذْهَب (وينكر) أَي الْإِفْتَاء تخريجا (من غَيره) أَي
غير الْأَهْل المطلع على المباني (فَإِن قيل إِذا فرض عدم
الْمُجْتَهدين) فِي حَال عدم الْإِنْكَار (فعدمه) أَي
الْإِنْكَار وَوُجُود الِاتِّفَاق (من غير أهل الْإِجْمَاع
لَيْسَ حجَّة، فَالْوَجْه كَونه) أَي جَوَاز الْإِفْتَاء
(للضَّرُورَة) لحَاجَة النَّاس وَعدم الْمُجْتَهد (إِذن) أَي
إِن لم يُوجد الْمُجْتَهد (قُلْنَا إِنَّمَا يلْزم) وجود
الِاتِّفَاق من غير أهل الْإِجْمَاع (لَو منع الِاجْتِهَاد فِي
مسئلة) أَي لَو منع تجزى الِاجْتِهَاد والمفروض أَن الْمُفْتِي
لَا بُد أَن يكون مُجْتَهدا فِي الْمَذْهَب وَمثله قَادر على
الِاجْتِهَاد فِي مسئلة (وَهُوَ) أَي منع تجزى الِاجْتِهَاد
(مَمْنُوع) فالمتفقون على جَوَاز الْإِفْتَاء مجتهدون فِي
هَذِه الْمَسْأَلَة (فكلاهما) أَي الِاسْتِدْلَال
بِالْإِجْمَاع، وَالِاسْتِدْلَال بِالضَّرُورَةِ (حق،
وَبِهَذَا) الْجَواب الَّذِي حَاصله اخْتِيَار تجزى
الِاجْتِهَاد الْمُصَحح لكَون الْمُجْتَهدين فِي الْمَذْهَب
أَهلا للْإِجْمَاع المستلزم كَون اتِّفَاقهم إِجْمَاعًا (يدْفع
دَفعه) مَرْفُوع بيدفع، وَالضَّمِير الْمَجْرُور رَاجع
للاعتراض المجاب عَنهُ بِالْجَوَابِ الْمَذْكُور (لدَلِيل
تَقْلِيد الْمَيِّت) اللَّام مُتَعَلق بقوله دَفعه، يعْنى أَن
الِاعْتِرَاض الْمَذْكُور قد كَانَ دافعا لدَلِيل قَول
مُخْتَار فَالْجَوَاب الْمَذْكُور كَمَا يدْفع نفس
الِاعْتِرَاض الْمَذْكُور كَذَلِك يدْفع دَفعه، ثمَّ بَين
ذَلِك بقوله (وَهُوَ) أَي جَوَاز تَقْلِيد الْمَيِّت
(الْمُخْتَار) من الْقَوْلَيْنِ (وَهُوَ) أَي دَلِيل تَقْلِيد
الْمَيِّت (أَنه) أَي جَوَاز تَقْلِيده (إِجْمَاع) أَي جمع
عَلَيْهِ لوُقُوعه فِي ممر الْأَعْصَار من غير نَكِير (فَلَا
يُعَارضهُ) أَي هَذَا الدَّلِيل (قَوْلهم) أَي مانعي تَقْلِيده
كَالْإِمَامِ الرَّازِيّ (لَا قَول لَهُ) أَي للْمَيت
(وَإِلَّا) لَو كَانَ لَهُ قَول بَاقٍ بعده (لم ينْعَقد
الْإِجْمَاع على خِلَافه) أَي خلاف قَول الْمَيِّت (كالحي) أَي
كَمَا لَا ينْعَقد الْإِجْمَاع على خلاف قَول الْحَيّ. والتالي
بَاطِل، وَلذَا قُلْتُمْ إِن الْإِجْمَاع الْمُتَأَخر يرفع
الْخلاف الْمُتَقَدّم وَإِنَّمَا قُلْنَا فَلَا يُعَارضهُ الخ،
لِأَن الْإِجْمَاع حجَّة قَطْعِيَّة، وَقَوْلهمْ لَا قَول
الْمَيِّت الخ اسْتِدْلَال ضَعِيف لِأَن عدم مانعية قَول لمَيت
انْعِقَاد الْإِجْمَاع لَا يسْتَلْزم أَن لَا يكون مثل قَول
الْحَيّ فِي جَوَاز الْإِفْتَاء بِهِ عِنْد عدم الْإِجْمَاع
على خِلَافه لِأَن مانعية الْحَيّ انْعِقَاد الْإِجْمَاع
لَيْسَ لذاته بل لوُجُود قَائِله، فَإِن اجْتِمَاع الْأمة
عبارَة عَن اتِّفَاق الْعلمَاء الْأَحْيَاء كلهم فَلَا ينْعَقد
مَعَ خُرُوج عَالم حَيّ عَنهُ، وَوجه دفع الِاعْتِرَاض
الْمَذْكُور دَلِيل الْمَيِّت منع أَهْلِيَّة المتفقين
للْإِجْمَاع لعدم كَونهم مجتهدين وَحَيْثُ انْدفع الِاعْتِرَاض
انْدفع دَفعه أَيْضا قَالَ (المجوز) للإفتاء مُطلقًا من غير
تَقْيِيد باطلاع المباني: الْمُفْتِي (ناقل) كَلَام
الْمُجْتَهد فَلَا فرق بَين الْعَالم وَغَيره كَمَا لَا
يشْتَرط الْعلم فِي رِوَايَة الحَدِيث (أُجِيب) عَنهُ
بِأَنَّهُ (لَيْسَ الْخلاف فِي النَّقْل) أَي فِي الْإِفْتَاء
بطرِيق النَّقْل (بل فِي) الْإِفْتَاء بطرِيق (التَّخْرِيج)
والاستنباط من الْأُصُول على مَا ذكر (وَإِذن) أَي وَإِذا عرفت
أَن إِطْلَاق المجوز مَبْنِيّ على الْغَلَط (سقط هَذَا
القَوْل) عَن دَرَجَة الِاعْتِبَار (لظُهُور أَن مُرَاده)
وَهُوَ عُمُوم جَوَاز النَّقْل للْعَالم وَغَيره (اتِّفَاق)
أَي مُتَّفق عَلَيْهِ (فَهِيَ) أَي هَذِه الْأَقْوَال فِي
هَذِه الْمَسْأَلَة (ثَلَاثَة) لَا أَرْبَعَة: جَوَاز
(4/250)
الْإِفْتَاء، وتخريجا بِشَرْط الإطلاع، أَو
بِشَرْط عدم الْمُجْتَهد، وَعدم الْجَوَاز مُطلقًا لَو جَازَ
الْإِفْتَاء تخريجا بِشَرْط الِاطِّلَاع. قَالَ (أَبُو
الْحُسَيْن) فِي عدم الْجَوَاز مُطلقًا (لَو جَازَ)
الْإِفْتَاء للْعَالم (لجَاز للعاميّ) بِجَامِع عدم الْبلُوغ
رُتْبَة الِاجْتِهَاد (وَمَا أبعده) مُبَالغَة فِي التَّعَجُّب
من بعده عَن الصَّوَاب، حَيْثُ سوى بَين الَّذين يعلمُونَ
وَالَّذين لَا يعلمُونَ وَعَن الْمَعْقُول حَيْثُ لم يفرق
بَينهمَا. (وَالْفرق) بَينهمَا فِي الوضوح (كَالشَّمْسِ) وَفِي
شرح الْهِدَايَة للْمُصَنف قد اسْتَقر رَأْي الْأُصُولِيِّينَ
على أَن الْمُفْتِي هُوَ الْمُجْتَهد، فَأَما غير الْمُجْتَهد
مِمَّن يحفظ أَقْوَال الْمُجْتَهد فَلَيْسَ بمفت، وَالْوَاجِب
عَلَيْهِ إِذا سُئِلَ أَن يذكر قَول الْمُجْتَهد على جِهَة
الْحِكَايَة فَعرف أَن مَا يكون من فَتْوَى الْمَوْجُودين
لَيْسَ بفتوى بل هُوَ نقل كَلَام الْمُفْتِي ليَأْخُذ بِهِ
المستفتي وَلَا بُد لَهُ من أحد الْأَمريْنِ: إِمَّا أَن يكون
لَهُ سَنَد فِيهِ إِلَيْهِ أَو يَأْخُذهُ من كتاب مَعْرُوف
متداول ككتب مُحَمَّد بن الْحسن وَنَحْوهَا من الْكتب
الْمَشْهُورَة للمجتهدين لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَة الْخَبَر
الْمُتَوَاتر وَالْمَشْهُور وَكَذَا ذكر الرَّازِيّ، فعلى
هَذَا الْوَجْه فِي بعض الْكتب النَّوَادِر فِي زَمَاننَا لَا
يَصح عزو مَا فِيهَا إِلَى مُحَمَّد وَلَا إِلَى أبي يُوسُف
لعدم الشُّهْرَة والتداول، نعم إِذْ وجد النَّقْل عَن
النَّوَادِر فِي كتاب مَشْهُور كالهداية والمبسوط كَانَ ذَلِك
تعويلا على ذَلِك الْكتاب انْتهى. وَالْمُخْتَار أَن الرَّاوِي
عَن الْأَئِمَّة إِذا كَانَ عدلا فهم كَلَام الإِمَام، ثمَّ
حكى للمقلد قَوْله فَإِنَّهُ يَكْتَفِي بِهِ، وَقيل الصَّوَاب
أَنه إِذا وجد عَالم لَا يحل الاستفتاء من غَيره وَإِن لم يكن
فِي بَلَده أَو ناحيته. إِلَّا من لم يبلغ دَرَجَة أهل الْعلم،
فَلَا ريب أَن رُجُوعه إِلَيْهِ أولى من الْإِقْدَام على
الْعَمَل بِلَا علم والبقاء فِي الْحيرَة والعمى والجهالة.
مسئلة
(يجوز تَقْلِيد الْمَفْضُول مَعَ وجود الْأَفْضَل) عِنْد أَكثر
الْحَنَابِلَة كَالْقَاضِي وَأبي الْخطاب وَصَاحب الرَّوْضَة،
وَقَالَ الْحَنَفِيَّة والمالكية وَأكْثر الشَّافِعِيَّة
(وَأحمد، وَطَائِفَة كَثِيرَة من الْفُقَهَاء) متفقون (على
الْمَنْع) كَابْن سُرَيج والقفال والمروزي وَابْن
السَّمْعَانِيّ وَالْخلاف فِي الْقطر الْوَاحِد إِذْ لَا خلاف
فِي أَنه لَا يجب عَلَيْهِ تَقْلِيد أفضل أهل الدُّنْيَا،
كَذَا ذكره الزَّرْكَشِيّ فِي شَرحه، وَفِي رِوَايَة أَحْمد
مَعَ الْجُمْهُور (للْأولِ) أَي مجيزي تَقْلِيد الْمَفْضُول
مَعَ وجود الْأَفْضَل (الْقطع باستفتاء كل صَحَابِيّ مفضول)
مَعَ وجود الْأَفْضَل (بِلَا نَكِير على المستفتى) فَكَانَ
إِجْمَاعًا من الصَّحَابَة على جَوَاز تَقْلِيد الْمَفْضُول
مَعَ وجود الْأَفْضَل (وَهُوَ) أَي الدَّلِيل الْمَذْكُور فِي
استلزامه للْمُدَّعِي (مُتَوَقف على كَونه) أَي التَّقْلِيد
الْمَذْكُور الْوَاقِع فِي زمن الصَّحَابَة (كَانَ عِنْد
مُخَالفَته) أَي الْمَفْضُول (للْكُلّ) أَي لكل من لَا يُوجد
أفضل مِنْهُ، فَإِنَّهُ لَو فرض مُوَافَقَته مَعَ بعض من يُوجد
أفضل عَنهُ فِي ذَلِك الْقطر لجَاز أَن يكون عدم الْإِنْكَار
عَلَيْهِ بِاعْتِبَار تِلْكَ الْمُوَافقَة (فَإِنَّهُ) أَي
كَون
(4/251)
تَقْلِيد الْمَفْضُول فِي ذَلِك الزَّمَان:
أَي عِنْد مُخَالفَته للْكُلّ (من صورها) أَي من صور مسئلة
جَوَاز تَقْلِيد الْمَفْضُول، فَإِذا انْعَقَد الْإِجْمَاع على
هَذِه الصُّورَة يلْزم انْعِقَاده على جَمِيع الصُّور بِخِلَاف
مَا إِذا لم يكن تَقْلِيد الْمَفْضُول فِي زمانهم عِنْد
مُخَالفَته للْكُلّ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يثبت جَمِيع صور
هَذِه المسئلة وَثُبُوت هَذَا صَعب. (وَاسْتدلَّ) للْأولِ
(بتعذر التَّرْجِيح للعامي) اللَّام مُتَعَلق بالتعذر يَعْنِي
لَو منع عَن تَقْلِيد الْمَفْضُول لزم على المستفتى معرفَة من
هُوَ فِي الْعلم أرجح، وَهَذَا معنى التَّرْجِيح وَالتَّرْجِيح
مُتَعَذر فِي حق الْعَاميّ فَيلْزم فِي حَقه الْحَرج، وَلَا
حرج فِي الدّين فَإِن قلت هَذَا يُفِيد الْجَوَاز فِي حق
الْعَاميّ لَا فِي حق غَيره، وَجَوَاز تَقْلِيد الْمَفْضُول
يعم الْكل قلت يجوز أَن يكون مُرَادهم من اطلاق تَجْوِيز
تَقْلِيد الْمَفْضُول تَقْلِيد الْعَاميّ. وَأما غير الْعَاميّ
فَلَا يجوز لَهُ ذَلِك، وَيُؤَيّد تَقْيِيد تعذر التَّرْجِيح
بالعامي لَكِن الْأَوْجه أَن يكون غير الْعَاميّ مثله فِي
هَذَا التجويز لِأَن مَعْرفَته أقل مَرَاتِب على من هُوَ
أَعلَى مِنْهُ فِي الْعلم فيتعذر، وَالتَّرْجِيح فرع ذَلِك،
كَيفَ والأعلم أحَاط بِمَا لم يحط بِهِ غَيره، وَمن الْجَائِز
أَنه إِذا بلغ مبلغه انْقَلب رَأْيه فَلَا عِبْرَة بترجيحه،
وَيُؤَيّد مَا قُلْنَا مَا نقل من أَن الْمُخْتَار عِنْد ابْن
الْحَاجِب أَنه كالعامي الصّرْف لعَجزه عَن الِاجْتِهَاد على
مَا ذكر فِي مسئلة لُزُوم التَّقْلِيد لغير الْمُجْتَهد
(أُجِيب بِأَنَّهُ) أَي التَّرْجِيح غير مُتَعَذر من الْعَاميّ
بل يظْهر لَهُ (بِالتَّسَامُعِ) من النَّاس وبرجوع الْعلمَاء
إِلَيْهِ وَعدم رُجُوعه إِلَيْهِم وَكَثْرَة المستفتين. قَالَ
(المانعون) من تَقْلِيد الْمَفْضُول (أَقْوَالهم) أَي
الْمُجْتَهدين بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُقَلّد (كالأدلة
للمجتهد) أَي كالأدلة المتعارضة بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْمُجْتَهد، فَاللَّام فِي قَوْله للمجتهد لاخْتِصَاص
الْأَدِلَّة بِهِ، فَلَا يجوز للمقلد الْعَمَل بِأحد
الْأَقْوَال بِدُونِ التَّرْجِيح كَمَا لَا يجوز للمجتهد
الْعَمَل بِأحد الْأَدِلَّة دون التَّرْجِيح (فَيجب) على
الْمُقَلّد (التَّرْجِيح) أَي تَرْجِيح من يُرِيد تَقْلِيده
على غَيره من الْمُجْتَهدين. (أُجِيب) بِأَن هَذَا قِيَاس (لَا
يُقَاوم مَا ذكرنَا) من الْإِجْمَاع لتقدم الْإِجْمَاع على
الْقيَاس إِجْمَاعًا (وَعلمت مَا فِيهِ) أَي فِيمَا ذكرنَا من
أَنه يتَوَقَّف على كَونه إِلَى آخِره (وبعسره) مَعْطُوف على
جَار ومجرور مُقَدّر صلَة لأجيب وَالتَّقْدِير وَأجِيب بعسر
التَّرْجِيح (على الْعَاميّ) بِخِلَاف الْمُجْتَهد فَإِنَّهُ
لَا يعسر عَلَيْهِ التَّرْجِيح بَين الْأَدِلَّة (وَلَا يخفى
أَنه) أَي التَّرْجِيح (إِذا كَانَ بِالتَّسَامُعِ لَا عسر
عَلَيْهِ) أَي على الْعَاميّ (وَكَون الِاجْتِهَاد) مُطلقًا
هُوَ (المناط) لجَوَاز التَّقْلِيد لَا بِشَرْط شَيْء،
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (لَا يُقيد) أَي لَا يُقيد بِقَيْد،
وَالْجُمْلَة حَال عَن الِاجْتِهَاد فَلَا يتَوَقَّف الْجَوَاز
إِلَّا على الِاجْتِهَاد فمهما تحقق الِاجْتِهَاد جَازَ
التَّقْلِيد (لنا مَنعه) خبر الْمُبْتَدَأ، أَعنِي الْكَوْن
الْمُضَاف، والعائد الضَّمِير الْمَجْرُور، يَعْنِي لَا نسم
ترَتّب جَوَاز التَّقْلِيد على مُجَرّد الِاجْتِهَاد فِي
جَمِيع الصُّور، لأَنا نمْنَع ترتبه عَلَيْهِ (عِنْد
مُخَالفَة) الْمُجْتَهد (الْمَفْضُول الْكل) أَي كل من أفضل
مِنْهُ، فَعلم أَن
(4/252)
مناطا مَشْرُوط بِشَرْط ومقيد بِقَيْد،
وَهُوَ أَن لَا يُوجد أفضل مِنْهُ فِي ظَنّه ظنا مَبْنِيا على
دَلِيل مُعْتَبر شرعا: نقل الرَّافِعِيّ عَن الْغَزالِيّ لَو
اعْتقد أَن أحدهم أفضل لَا يجوز تَقْلِيده لغيره، وَإِن لم يجب
عَلَيْهِ الْبَحْث عَن الأعلم إِذا لم يعْتَقد فِي أحدهم
زِيَادَة علم، كَذَا نقل عَن ابْن الصّلاح وَإِن، ترجح
أَحدهمَا فِي الْعلم وَالْآخر فِي الْوَرع، فالأرجح على مَا
ذكره الرَّازِيّ والسبكي الْأَخْذ بقول الأعلم، وَقيل بقول
الأورع. وَفِي بَحر الزَّرْكَشِيّ يقدم الأسن.
مسئلة
(لَا يرجع الْمُقَلّد فِيمَا قلد فِيهِ) من الْأَحْكَام أحدا
من الْمُجْتَهدين (أَي عمل بِهِ) تَفْسِير لقلد، وَالضَّمِير
الْمَجْرُور رَاجع إِلَى الْمَوْصُول (اتِّفَاقًا) نقل
الْآمِدِيّ وَابْن الْحَاجِب الْإِجْمَاع على عدم جَوَاز
رُجُوع الْمُقَلّد فِيمَا قلد بِهِ. وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ:
لَيْسَ كَمَا قَالَا، فَفِي كَلَام غَيرهمَا مَا يَقْتَضِي
جَرَيَان الْخلاف بعد الْعَمَل أَيْضا (وَهل يُقَلّد غَيره)
أَي غير من قَلّدهُ أَو لَا (فِي) حكم (غَيره) أَي غير الحكم
الَّذِي عمل بِهِ أَو لَا (الْمُخْتَار) فِي الْجَواب (نعم)
يُقَلّد غَيره فِي غَيره، تَقْدِير الْكَلَام الْمُخْتَار
جَوَاز التَّقْلِيد لغيره فِي غَيره (للْقطع) بالاستقراء
(بِأَنَّهُم) أَي المستفتين فِي كل عصر من زمن الصَّحَابَة
(كَانُوا يستفتون مرّة وَاحِدًا) من الْمُجْتَهدين (وَمرَّة
غَيره) أَي غير الْمُجْتَهد الأول حَال كَونهم (غير ملتزمين
مفتيا وَاحِدًا) وشاع ذَلِك من غير نَكِير: وَهَذَا إِذا لم
يلْتَزم مذهبا معينا (فَلَو الْتزم مذهبا معينا كَأبي حنيفَة
أَو الشَّافِعِي) فَهَل يلْزم الِاسْتِمْرَار عَلَيْهِ فَلَا
يُقَلّد غَيره فِي مسئلة من الْمسَائِل أم لَا؟ (فَقيل يلْزم)
كَمَا يلْزمه الِاسْتِمْرَار فِي حكم حَادِثَة مُعينَة قلد
فِيهِ، وَلِأَنَّهُ اعْتقد أَن مذْهبه حق فَيجب عَلَيْهِ
الْعَمَل بِمُوجب اعْتِقَاده (وَقيل لَا) يلْزم وَهُوَ
الْأَصَح، لِأَن الْتِزَامه غير مُلْزم إِذْ لَا وَاجِب إِلَّا
مَا أوجبه الله وَرَسُوله، وَلم يُوجب على أحد أَن يتمذهب
بِمذهب رجل من الْأمة فيقلده فِي كل مَا يَأْتِي ويذر دون
غَيره، والتزامه لَيْسَ بِنذر حَتَّى يجب الْوَفَاء بِهِ.
وَقَالَ ابْن خرم: أَنه لَا يحل لحَاكم وَلَا مفت تَقْلِيد رجل
فَلَا يحكم وَلَا يُفْتِي إِلَّا بقوله، بل قيل لَا يَصح
للعامي مَذْهَب، لِأَن الْمَذْهَب إِنَّمَا يكون لمن لَهُ نوع
نظر وبصيرة بالمذاهب، أَو لمن قَرَأَ كتابا فِي فروع مَذْهَب
وَعرف فَتَاوَى إِمَامه وأقواله، وَإِلَّا فَمن لم يتأهل
لذَلِك، بل قَالَ: أَنا حَنَفِيّ أَو شَافِعِيّ لم يصر من أهل
ذَلِك الْمَذْهَب بِمُجَرَّد هَذَا، بل لَو قَالَ: أَنا فَقِيه
أَو نحوي لم يصر فَقِيها أَو نحويا. وَقَالَ الإِمَام صَلَاح
الدّين العلائي: وَالَّذِي صرح بِهِ الْفُقَهَاء مَشْهُور فِي
كتبهمْ جَوَاز الِانْتِقَال فِي آحَاد الْمسَائِل وَالْعَمَل
فِيهَا، بِخِلَاف مذْهبه إِذا لم يكن على وَجه التتبع للرخص
(وَقيل) الْمُلْتَزم (كمن لم يلْتَزم) بِمَعْنى (إِن عمل بِحكم
تقليدا) لمجتهد (لَا يرجع عَنهُ) أَي عَن ذَلِك الحكم (وَفِي
غَيره) أَي غير ذَلِك الحكم (لَهُ تَقْلِيد غَيره)
(4/253)
من الْمُجْتَهدين. قَالَ المُصَنّف:
وَهَذَا القَوْل فِي الْحَقِيقَة تَفْصِيل لقَوْله، وَقيل لَا.
قَالَ المُصَنّف (وَهُوَ) يَعْنِي هَذَا القَوْل (الْغَالِب
على الظَّن) كِنَايَة عَن كَمَال قوته بِحَيْثُ جعل الظَّن
مُتَعَلقا بِنَفسِهِ فَلَا يتَعَلَّق بِمَا يُخَالِفهُ، ثمَّ
بَين وَجه غلبته بقوله (لعدم مَا يُوجِبهُ) أَي لُزُوم
اتِّبَاع من الْتزم تَقْلِيده (شرعا) أَي إِيجَابا شَرْعِيًّا،
إِذْ لَا يجب على الْمُقَلّد إِلَّا اتِّبَاع أهل الْعلم
لقَوْله تَعَالَى - {فاسئلوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا
تعلمُونَ} -: فَلَيْسَ الْتِزَامه من الموجبات شرعا
(وَيتَخَرَّج) أَي يستنبط (مِنْهُ) أَي من جَوَاز اتِّبَاع غير
مقلده الأول وَعدم التَّضْيِيق عَلَيْهِ (جَوَاز اتِّبَاعه رخص
الْمذَاهب) أَي أَخذه من الْمذَاهب مَا هُوَ الأهون عَلَيْهِ
فِيمَا يَقع من الْمسَائِل (وَلَا يمْنَع مِنْهُ مَانع
شَرْعِي، إِذْ للْإنْسَان أَن يسْلك) المسلك (الأخف عَلَيْهِ
إِذا كَانَ لَهُ) أَي للْإنْسَان (إِلَيْهِ) أَي ذَلِك المسلك
الأخف (سَبِيل) . ثمَّ بَين السَّبِيل بقوله (بِأَن لم يكن عمل
بآخر) أَي بقول آخر مُخَالف لذَلِك الأخف (فِيهِ) أَي فِي
ذَلِك الْمحل الْمُخْتَلف فِيهِ (وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يحب مَا خفف عَلَيْهِم) . فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن
عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا بِلَفْظ عَنْهُم، وَفِي
رِوَايَة بِلَفْظ مَا يُخَفف عَنْهُم: أَي أمته، وَذكروا عدَّة
أَحَادِيث صَحِيحَة دَالَّة على هَذَا الْمَعْنى. وَمَا نقل
عَن ابْن عبد الْبر: من أَنه لَا يجوز للعامي تتبع الرُّخص
إِجْمَاعًا، فَلَا نسلم صِحَة النَّقْل عَنهُ، وَلَو سلم فَلَا
نسلم صِحَة دَعْوَى الْإِجْمَاع، كَيفَ وَفِي تفسيق المتتبع
للرخص رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد، وَحمل القَاضِي أَبُو يعلى
الرِّوَايَة المفسقة على غير متأول وَلَا مقلد (وَقَيده) أَي
جَوَاز تَقْلِيد غير مقلده (مُتَأَخّر) وَهُوَ الْعَلامَة
الْقَرَافِيّ (بِأَن لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ) أَي على
تَقْلِيد الْغَيْر (مَا يمنعانه) بإيقاع الْفِعْل على وَجه
يحكم بِبُطْلَانِهِ المجتهدان مَعًا لمُخَالفَته الأول فِيمَا
قلد فِيهِ غَيره، وَالثَّانِي فِي شَيْء فِيمَا يتَوَقَّف
عَلَيْهِ صِحَة ذَلِك الْعَمَل عِنْده، فالموصول عبارَة عَن
إِيقَاع الْفِعْل على الْوَجْه الْمَذْكُور، وَالضَّمِير
الْمَفْعُول للموصول. ثمَّ أَشَارَ إِلَى تَصْوِير هَذَا
التفسيق بقوله (فَمن قلد الشَّافِعِي فِي عدم) فَرضِيَّة
(الدَّلْك) للأعضاء المغسولة فِي الْوضُوء وَالْغسْل (و) قلد
(مَالِكًا فِي عدم نقض اللَّمْس بِلَا شَهْوَة) للْوُضُوء
(وَصلى إِن كَانَ الْوضُوء بذلك صحت) صلَاته عِنْد مَالك
(وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن بدلك (بطلت عِنْدهمَا) أَي مَالك
وَالشَّافِعِيّ وَلَا يخفى أَنه كَانَ مُقْتَضى السِّيَاق أَن
تدلك بطلت عِنْدهمَا من غير الشَّرْط وَالْجَزَاء، لِأَنَّهُ
قد علم من التقليدين أَن الْمُقَلّد الْمَذْكُور ترك الدَّلْك
ولمس بِلَا شَهْوَة وَلم يعد الْوضُوء، لكنه أَرَادَ أَن
يُقَلّد الشَّافِعِي فِي عدم فَرِيضَة الدَّلْك لَو وَقع
مِنْهُ الدَّلْك مَعَ عدم اعْتِقَاد فريضته تصح صلَاته عِنْد
مَالك فَإِن قلت على هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر
شَرْطِيَّة أُخْرَى فِي تَقْلِيد مَالك قلت: اكْتفى بذلك
لِأَنَّهُ يعلم بالمقايسة وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَن بطلَان
الصُّورَة الْمَذْكُورَة عِنْدهمَا غير مُسلم فَإِن مَالِكًا
مثلا لم يقل
(4/254)
أَن من قلد الشَّافِعِي فِي عدم الصَدَاق
أَن نِكَاحه بَاطِل، وَلم يقل الشَّافِعِي أَن من قلد مَالِكًا
فِي عدم الشُّهُود أَن نِكَاحه بَاطِل انْتهى وَأورد عَلَيْهِ
أَن عدم قَوْلهمَا بِالْبُطْلَانِ فِي حق من قلد أَحدهمَا
وراعى مذْهبه فِي جَمِيع مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ صِحَة
الْعَمَل، وَمَا نَحن فِيهِ من قلدهما وَخَالف كلا مِنْهُمَا
فِي شَيْء، وَعدم القَوْل بِالْبُطْلَانِ فِي ذَلِك لَا
يسْتَلْزم عدم القَوْل بِهِ فِي هَذَا، وَقد يُجَاب عَنهُ
بِأَن الْفَارِق بَينهمَا لَيْسَ إِلَّا أَن كل وَاحِد من
الْمُجْتَهدين لَا يجد فِي صُورَة التلفيق جَمِيع مَا شَرط فِي
صِحَّتهَا، بل يجد فِي بَعْضهَا دون بعض، وَهَذَا الْفَارِق
لَا نسلم أَن يكون مُوجبا للْحكم بِالْبُطْلَانِ وَكَيف نسلم
والمخالفة فِي بعض الشُّرُوط أَهْون من الْمُخَالفَة فِي
الْجَمِيع فَيلْزم الحكم بِالصِّحَّةِ فِي الأهون بِالطَّرِيقِ
الأولى، وَمن يدعى وجود فَارق أَو وجود دَلِيل آخر على بطلَان
صُورَة التلفيق على خلاف الصُّورَة الأولى فَعَلَيهِ بالبرهان
فَإِن قلت لَا نسلم كَون الْمُخَالفَة فِي الْبَعْض أَهْون من
الْمُخَالفَة فِي الْكل، لِأَن الْمُخَالفَة فِي الْكل تتبع
مُجْتَهدا وَاحِدًا فِي جَمِيع مَا يتَوَقَّف عَلَيْهِ صِحَة
الْعَمَل، وَهَهُنَا لم يتبع وَاحِدًا قلت هَذَا إِنَّمَا يتم
لَك إِذا كَانَ مَعَك دَلِيل من نَص أَو إِجْمَاع أَو قِيَاس
قوي يدل على أَن الْعَمَل إِذا كَانَ لَهُ شُرُوط يجب على
الْمُقَلّد اتِّبَاع مُجْتَهد وَاحِد فِي جَمِيع مَا يتَوَقَّف
عَلَيْهِ ذَلِك فَائت بِهِ إِن كنت من الصَّادِقين وَالله
تَعَالَى أعلم. وَرجح الإِمَام العلائي القَوْل بالانتقال فِي
صُورَتَيْنِ: إِحْدَاهمَا إِذا كَانَ مَذْهَب غير إِمَامه أحوط
كَمَا إِذا حلف بِالطَّلَاق الثَّلَاث على فعل شَيْء ثمَّ فعله
نَاسِيا أَو جَاهِلا وَكَانَ مَذْهَب إِمَامه عدم الْحِنْث
فَأَقَامَ مَعَ زَوجته عَاملا بِهِ ثمَّ تخرج مِنْهُ بقول من
يرى فِيهِ وُقُوع الْحِنْث فَإِنَّهُ يسْتَحبّ لَهُ الْأَخْذ
بالأحوط والتزام الْحِنْث، وَالثَّانيَِة إِذا رأى لِلْقَوْلِ
الْمُخَالف لمَذْهَب إِمَامه دَلِيلا قَوِيا راجحا إِذا
الْمُكَلف مَأْمُور بِاتِّبَاع نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَهَذَا مُوَافق لما روى عَن الإِمَام أَحْمد والقدوري،
وَعَلِيهِ مَشى طَائِفَة من الْعلمَاء مِنْهُم ابْن الصّلاح
وَابْن حمدَان.
تَكْمِلَة
(نقل الإِمَام) فِي الْبُرْهَان (إِجْمَاع الْمُحَقِّقين على
منع الْعَوام من تَقْلِيد أَعْيَان الصَّحَابَة، بل من بعدهمْ)
كلمة بل لعطف من بعدهمْ على أَعْيَان الصَّحَابَة اضرابا عَن
حكم النَّفْي الْمُسْتَفَاد من الْمَنْع وإثباتا لضده، وَهُوَ
إلزامهم بتقليد من بعد الصَّحَابَة من الْأَئِمَّة (الَّذين
سبروا) استئنافا وبيانا كَأَنَّهُ لما ذكر من بعدهمْ قيل من
هم؟ فَأجَاب بِهِ، والسبر عِنْد الْأُصُولِيِّينَ: حصر
الْأَوْصَاف الصَّالِحَة للعلية فِي عدد ثمَّ إبِْطَال
بَعْضهَا وَهُوَ مَا سوى الْعلَّة فِي ظَنّه فَإِن أَرَادَ
هَذَا كَانَ إِشَارَة إِلَى كمالهم فِي بَاب الْقيَاس
وَالْأَظْهَر أَن يُرَاد مَا هُوَ أَعم من ذَلِك من التعمق
وَالتَّحْقِيق، فَإِن أَصله
(4/255)
امتحان غور الْحَرج (وَوَضَعُوا) أَبْوَاب
الْفِقْه وأصوله وفصولها ومسائلها تَفْصِيلًا (ودونوا) كتبهَا
فَإِنَّهُم أوضحُوا وهذبوا، بِخِلَاف مجتهدي الصَّحَابَة
فَإِنَّهُم لم يعتنوا بذلك لما أَرَادَ الله من ظُهُور ذَلِك
فِي خَلفهم زِيَادَة فِي كمالهم، فَإِن كَون الْخلف إِمَامًا
لِلْمُتقين شرف للسلف، وَأَيْضًا مسَائِل الْعُلُوم تتزايد
يَوْمًا فيوما بتلاحق الأفكار (و) بنى (على هَذَا) الَّذِي ذكر
من إِجْمَاع الْمُحَقِّقين (مَا ذكر بعض الْمُتَأَخِّرين)
وَهُوَ ابْن الصّلاح (منع تَقْلِيد غير) الْأَئِمَّة
(الْأَرْبَعَة) أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد
رَحِمهم الله تَعَالَى (لانضباط مذاهبهم وَتَقْيِيد) مُطلق
(مسائلهم وَتَخْصِيص عمومها) أَي مسائلهم (وَلم يدر مثله) أَي
مثل هَذَا الصَّنِيع (فِي غَيرهم) من الْمُجْتَهدين (الْآن
لانقراض أتباعهم) أَي أَتبَاع غَيرهم من الْمُجْتَهدين،
وبانقراض الأتباع تعذر ثُبُوت نقل حَقِيقَة مذاهبهم، وَمن
ثمَّة قَالَ الشَّيْخ عز الدّين بن عبد السَّلَام: لَا خلاف
بَين الْفَرِيقَيْنِ فِي الْحَقِيقَة، بل إِن تحقق ثُبُوت
مَذْهَب عَن وَاحِد مِنْهُم جَازَ تَقْلِيده وفَاقا وَإِلَّا
فَلَا. قَالَ ابْن الْمُنِير يتَطَرَّق إِلَى مَذَاهِب
الصَّحَابَة احتمالات لَا يتَمَكَّن الْعَاميّ مَعهَا من
التَّقْلِيد، ثمَّ قد يكون الْإِسْنَاد إِلَى الصَّحَابِيّ
لاعلى شُرُوط الصِّحَّة، وَقد يكون الْإِجْمَاع انْعَقَد بعد
ذَلِك القَوْل على قَول آخر (وَهُوَ) أَي الْمَذْكُور (صَحِيح)
قَالَ الْقَرَافِيّ انْعَقَد الْإِجْمَاع على أَن من أسلم
فَلهُ أَن يُقَلّد من شَاءَ من الْعلمَاء من غير حجر وَأجْمع
الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أَن من استفتى أَبَا
بكر وَعمر وقلدهما فَلهُ أَن يستفتى أَبَا هُرَيْرَة وَغَيره
وَيعْمل بقوله من غير نَكِير فَمن ادّعى خلاف هذَيْن الاجماعين
فَعَلَيهِ الدَّلِيل. وَالله أعلم.
صحّح هَذَا الْكتاب الْجَلِيل. على: نُسْخَة خطية من مكتبة: -
مُحَرر الْمَذْهَب النعماني وَأبي حنيفَة الثَّانِي فَضِيلَة
الْأُسْتَاذ الْكَبِير وَعلم الْفضل الشهير الشَّيْخ: -
مُحَمَّد بخيت المطيعي
مفتي الديار المصرية سَابِقًا. أَطَالَ الله بَقَاءَهُ وأعز
بِهِ الدّين ونفع بِعُلُومِهِ الْإِسْلَام وَالْمُسْلِمين آمين
وَهِي الَّتِي تمت كتَابَتهَا بقلم الشَّيْخ مُحَمَّد بن
مُحَمَّد الباجوري فِي 7 محرم سنة 1313 هجرية لفضيلة عَلامَة
زَمَانه وفخر أدباء أَوَانه الشَّيْخ " حسن الطَّوِيل " رَحمَه
الله آمين مُقَابلَة على نسخ أُخْرَى من الكتبخانة الخديوية
المصرية بدرب الجماميز - " دَار الْكتب الملكية " الْآن بميدان
بَاب الْخلق
الْقَائِل
تمّ الْكتاب وانقضى وَفعلنَا الَّذِي وَجب
فغفر الله لمن قَرَأَ ودعا للَّذي كتب
(4/256)
يَقُول الْفَقِير إِلَى ربه تَعَالَى
[أَحْمد سعد عَليّ] أحد عُلَمَاء الْأَزْهَر، وَرَئِيس لجنة
التَّصْحِيح، بمطبعة: - شركَة مكتبة ومطبعة (مصطفى البابي
الْحلَبِي وَأَوْلَاده) بِمصْر. . .
(4/257)
|