تيسير التحرير فصل فِي بَيَان الاعتراضات الْوَارِدَة على
الْقيَاس
(يرد على) أَفْرَاد (الْقيَاس أسئلة: مرجع مَا سوى الاستفسار
مِنْهَا إِلَى الْمَنْع أَو الْمُعَارضَة) فالمرجع مصدر، لَا
اسْم مَكَان، وَألا يلْزم حذف كلمة إِلَى، وَإِنَّمَا قيد
بِمَا سواهُ ردا على من أطلق وَهُوَ غير وَاحِد، وَإِلَيْهِ
ذهب أَكثر الجدليين، وَوَافَقَهُمْ ابْن الْحَاجِب، وَذهب
السُّبْكِيّ إِلَى أَن مرجع الْكل إِلَى الْمَنْع وَحده كَمَا
ذهب إِلَيْهِ بعض الجدليين لِأَن الْمُعَارضَة منع لِلْعِلَّةِ
عَن الجريان، وَلَا يخفى أَن أدراج النَّقْض الإجمالي فِي
الْمَنْع لَهُ وَجه لِأَنَّهُ مُتَعَلق بِالدَّلِيلِ، وَأما
الْمُعَارضَة فَلَا تعرض فِيهَا للدليل بل هِيَ إِقَامَة
الدَّلِيل على خلاف مَا أَقَامَ عَلَيْهِ الْخصم. (أَولهَا)
أَي الأسئلة (الاستفسار) وَهُوَ طلب بَيَان معنى اللَّفْظ
(وَلَا يخْتَص) الْقيَاس (بِهِ) بل هُوَ جَار فِي كل خَفِي
المُرَاد، وَهُوَ (مُتَّفق) عَلَيْهِ (وَلم يذكرهُ
الْحَنَفِيَّة لثُبُوته بِالضَّرُورَةِ) إِذْ طلب الْمُخَاطب
بَيَان مَا لَا يفهمهُ من معنى اللَّفْظ، وَكَونه مُتَوَجها
بِحَسب الْآدَاب غير خَفِي (وَإِنَّمَا يسمع) الاستفسار وَيقبل
(فِي لفظ يخفي مُرَاده) أَي مَا أُرِيد بِهِ (وَألا) أَي وَلَو
لم يكن خفِيا (فتعنت) أَي فالاستفسار تعنت وعناد فَلَا يسمع
(مَرْدُود) لِأَنَّهُ خلاف مَا شَرط فِي المناظرة من كَونهَا
لإِظْهَار الصَّوَاب (وَله) أَي الْمُسْتَدلّ (أَن لَا يقبله)
أَي استفسار الْمُعْتَرض (حَتَّى يُبينهُ) أَي الْمُعْتَرض
خَفَاء المُرَاد (لِأَنَّهُ) أَي الخفاء (خلاف الأَصْل) لِأَن
وضع الْأَلْفَاظ للْبَيَان، وَالظَّاهِر من حَال الْمُتَكَلّم
أَن يُرَاعِي ذَلِك، وَالْبَيِّنَة على من يَدعِي خلاف الأَصْل
(ويكفيه) أَي الْمُعْتَرض فِي بَيَان الخفاء (صِحَة إِطْلَاقه)
أَي اللَّفْظ (لمتعدد وَلَو) كَانَ إِطْلَاقه على الْمعَانِي
المتعددة أولى، وَلَو كَانَ ذَلِك المتعدد (بِلَا تساو) بِأَن
يكون بعضه أظهر لكَونه حَقِيقَة، بِخِلَاف غَيره أَو مجَازًا
وَاضحا قرينته صارفة ومعينة (لِأَنَّهُ) أَي الْمُعْتَرض (يخبر
بالاستبهام عَلَيْهِ لتِلْك الصِّحَّة) أَي يَدعِي أَن صِحَة
إِطْلَاقه لمتعدد صَارَت سَببا لكَون المُرَاد مِنْهُمَا
عِنْدِي فَلَا يضرّهُ كَون المُرَاد أظهر فِي نفس الْأَمر،
فَإِنَّهُ بِهَذَا ينْدَفع عَنهُ ظن التعنت، وَيصدق بِظَاهِر
عَدَالَته (وَجَوَابه) أَي الاستفسار أَو المستفسر (بَيَان
ظُهُوره) أَي اللَّفْظ (فِي مُرَاده) مِنْهُ (بِالْوَضْعِ) أَي
بِبَيَان وضع اللَّفْظ لذَلِك المُرَاد، دون مَا يُقَابله (أَو
الْقَرِينَة) بِأَن يبين أَن مُرَاده الْمَعْنى الْمجَازِي
ويعين قرينته (أَو ذكر مَا أَرَادَ) من غير تعرض للوضع أَو
الْقَرِينَة (بِلَا مشاحة تكلّف نقل اللُّغَة) لبَيَان الْوَضع
(4/114)
لما فِيهِ من الكلفة المستغنى عَنْهَا
لحُصُول الْمَقْصُود بتفهيم المُرَاد (أَو الْعرف فِيهِ)
لبَيَان الْقَرِينَة الناشئة من الْعرف وَنَحْوه، وَيجوز أَن
يُرَاد بِهِ الْوَضع الْعرفِيّ الَّذِي هجر مَعَه الْوَضع
اللّغَوِيّ، وَعند الْبَعْض كَابْن الْحَاجِب يجب أَن يفسره
بِمَا يجوز اسْتِعْمَاله فِيهِ كتفسير الثور فِي قَوْله يخرج
فِي صَدَقَة الْفطر الثور بالقطعة من الأقط، لَا بِمَا لَا
يجوز فَإِنَّهُ من جنس اللّعب الْخَارِج عَن قانون المناظرة
الْمَوْضُوعَة لإِظْهَار الصَّوَاب فَلَا يسمع، وَقيل يسمع
لِأَن غَايَة الْأَمر أَنه ناظره بلغَة غير مَعْلُومَة، وَفِيه
مَا فِيهِ (وَأما) قَوْله فِي بَيَان ظُهُوره (يلْزم ظُهُوره)
أَي اللَّفْظ (فِي أَحدهمَا) أَي الْمَعْنيين اللَّذين يُطلق
على كل مِنْهُمَا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن ظَاهرا فِي
أَحدهمَا (فالإجمال) أَي فَيلْزم الْإِجْمَال لَهُ (وَهُوَ)
أَي الْإِجْمَال (خلاف الأَصْل أَو) يلْزم ظهروه (فِيمَا قصدت
إِذْ لَيْسَ ظَاهرا فِي الآخر) لموافقتك إيَّايَ على ذَلِك
فَإِن قلت يرد على الأول أَنه على تَقْدِير تَسْلِيم لُزُوم
ظُهُوره فِي أَحدهمَا لَا يُفِيد الْمَقْصُود لجَوَاز أَن يكون
مَا هُوَ ظَاهر فِيهِ غير المُرَاد، وعَلى الثَّانِي أَنه يجوز
عدم ظُهُوره فِي شَيْء مِنْهُمَا قلت لَا بُد من ضم كل
مِنْهُمَا مَعَ الآخر فحاصل الأول لَا بُد من الظُّهُور فِي
أَحدهمَا، وَلَيْسَ بِظَاهِر فِي غير المُرَاد اتِّفَاقًا،
وَالثَّانِي يلْزم ظُهُوره فِيمَا قصدت إِذْ لَيْسَ ظَاهرا فِي
الآخر، وَقد ثَبت لُزُوم ظُهُوره فِي أَحدهمَا، وَلَا يخفى
أَنه يصير مآلهما وَاحِدًا، وَكلمَة أَو للتنويع بِاعْتِبَار
التَّقْرِير (فَالْحق نَفْيه) جَوَاب أما: أَي فَالْحق نفي
هَذَا الدّفع (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن الْحق نَفْيه (فَاتَ
الْغَرَض) من المناظرة وَهُوَ إِظْهَار الصَّوَاب عِنْد الْخصم
(فَإِنَّهُ) أَي الْمُعْتَرض (ذكر عدم فهمه) مُرَاد
الْمُسْتَدلّ (فَلم يبين) لَهُ مُرَاده (وَمثله) أَي مثل سُؤال
الاستفسار فِي عدم الِاخْتِصَاص بِالْقِيَاسِ (سُؤال
التَّقْسِيم) وَهُوَ (منع أحد مَا تردد اللَّفْظ بَينه وَبَين
غَيره) وَحَاصِله منع بعد تَقْسِيم وَلما كَانَ مَا يحْتَملهُ
اللَّفْظ مُتَعَددًا يصدق على كل وَاحِد مِنْهُمَا أَنه مَا
تردد اللَّفْظ بَينه وَبَين غَيره كَانَ مَفْهُوم مَا تردد
إِلَى آخِره كليا ذَا أَفْرَاد، وَصَحَّ إِضَافَة أحد إِلَيْهِ
غير أَن الْمَنْع يتَوَجَّه إِلَى أحد بِعَيْنِه (مَعَ
تَسْلِيم الآخر) سَوَاء كَانَ الْمَانِع (مُقْتَصرا) على ذكر
منع ذَلِك الآخر غير متجاوز إِلَى ذكر تَسْلِيم الآخر صَرِيحًا
غير أَنه يفهم ضمنا (أَو) مُصَرحًا (بِذكرِهِ) أَي بِذكر
التَّسْلِيم أَيْضا (كفى الصَّحِيح الْمُقِيم) أَي كَمَا
فَيُقَال: فِي تَعْلِيل إجَازَة التَّيَمُّم للصحيح الْمُقِيم
(فقد المَاء فَوجدَ سَبَب التَّيَمُّم) وَهُوَ فَقده (فَيجوز)
التَّيَمُّم (فَقَالَ سَبَبِيَّة الْفَقْد) للْمَاء (مُطلقًا
أَو) الْفَقْد (فِي السّفر الأول) أَي كَون السَّبَب الْفَقْد
مُطلقًا (مَمْنُوع) فيسكت عَن ذكر تَسْلِيم الثَّانِي أَو
يَقُول مَعَ ذَلِك وَالثَّانِي مُسلم، وَلَا شكّ أَنه لَا
يُفِيد الْمَقْصُود إِذْ الْكَلَام فِي الصَّحِيح الْمُقِيم
(وَفِي الملتجئ) أَي وكما يُقَال فِي الْقَاتِل عمدا عُدْوانًا
إِذْ الأز بِالْحرم يقْتَصّ مِنْهُ إِذْ (الْقَتْل) الْعمد
(الْعدوان سَببه) أَي سَبَب الاقتصاص
(4/115)
مِنْهُ (فيقتص فَيُقَال) الْقَتْل الْعمد
الْعدوان سَببه (مُطلقًا) التجأ أَو لم يلتجئ (أَو) هُوَ سَببه
(مَا لم يلتجئ، الأول مَمْنُوع) وَالثَّانِي مُسلم لَكِن لَا
يُفِيد، لِأَن الْكَلَام فِي الملتجئ، وَقد اخْتلف فِي هَذَا
السُّؤَال (فَقيل لَا يقبل لعدم تعين الْمَمْنُوع مرَادا)
للمستدل، وَلَا يضرّهُ الْمَنْع إِلَّا إِذا توجه إِلَى
مُرَاده (وَلِأَن حَاصله) أَي السُّؤَال الْمَذْكُور (ادِّعَاء
الْمُعْتَرض مَانِعا) لثُبُوت مطلب الْمُسْتَدلّ، وَهُوَ عدم
صِحَة بعض مقدماته (وَبَيَانه) أَي الْمَانِع يجب (عَلَيْهِ)
أَي الْمُعْتَرض لادعائه مَا هُوَ خلاف الأَصْل (وَالْمُخْتَار
قبُوله) أَي السُّؤَال الْمَذْكُور (لجَوَاز عَجزه) أَي
الْمُسْتَدلّ (عَن إثْبَاته) بعد مَا تعين مُرَاده على وَجه
يتَوَجَّه إِلَيْهِ الْمَنْع، إِذْ رُبمَا لَا يُمكنهُ
إِثْبَات مَا منع (وَاللَّفْظ) أَي لفظ السَّائِل (يُفِيد نفي
السَّبَبِيَّة) يَعْنِي أَن مَا جعلته سَببا لثُبُوت الحكم
لَيْسَ بِسَبَب (لَا وجود الْمَانِع مَعَ السَّبَب) أَي لِأَن
الْمَانِع مَوْجُود مَعَ تحقق السَّبَب حَتَّى يُقَال لَهُ
إِنَّك بعد مَا اعْترفت بِوُجُود الْمُقْتَضى لَا يسمع مِنْك
بِمُجَرَّد دَعْوَى الْمَانِع من غير بَيَان (وَأما كَونه) أَي
الْمُسْتَدلّ (بِهِ) أَي بِسَبَب هَذَا السُّؤَال (يتَبَيَّن
مُرَاده) كَمَا فِي الشَّرْح العضدي (فَلَيْسَ) كَذَلِك (بل
قِيَاسه يفِيدهُ) أَي يبين مُرَاده (إِذْ ترتيبه) أَي
الْمُسْتَدلّ الحكم إِنَّمَا هُوَ (على الْفَقْد) أَي فقد
المَاء (وَالْقَتْل مُطلقًا) مُتَعَلق بهما على سَبِيل
التَّنَازُع (فَهُوَ) أَي مُرَاده (مَعْلُوم) وَقس عَلَيْهِ
سَائِر الْأَمْثِلَة وَلما كَانَ هَهُنَا مُطلق مَظَنَّة
سُؤال، وَهُوَ أَنه لَو كَانَ المُرَاد مَعْلُوما لما كَانَ
لترديد السَّائِل وَجه أجَاب عَنهُ بقوله (وترديد السَّائِل
تجاهل) عَن مُرَاد الْمُسْتَدلّ مَعَ كَونه عَالما بِهِ فِي
نفس الْأَمر (اذ تَجْوِيز التَّرْتِيب) أَي تَرْتِيب الحكم
(على الْفَقْد الْمُقَيد) بِالسَّفرِ وَالْقَتْل الْمُقَيد
بالالتجاء (مُبَالغَة فِي الاستيضاح) أَي طلب لزِيَادَة الوضوح
(ويكفيه) أَي الْمُسْتَدلّ أَن يَقُول إِذا طُولِبَ بِبَيَان
عدم الْمَانِع (الأَصْل عدم الْمَانِع) يَعْنِي إِذا قَالَ
السَّائِل: إِنَّك تستدل بِوُجُود الْمُقْتَضى لم لَا يجوز أَن
يكون هَهُنَا مَانع يَكْفِيهِ أَن يَقُول الأَصْل إِلَى آخِره،
وَهَذَا الْكَلَام هَهُنَا تقريبي (هَذَا، وَيقبل) هَذَا
السُّؤَال (وَإِن اشْتَركَا) أَي الاحتمالان اللَّذَان
يتَرَدَّد اللَّفْظ بَينهمَا (فِي التَّسْلِيم) وَعَدَمه (إِذا
اخْتلفَا فِيمَا يرد عَلَيْهِمَا من) الأسئلة (القوادح)
فيهمَا، وَإِلَّا لَكَانَ التَّقْسِيم عَبَثا، وَلَيْسَ من
شَرطه أَن يكون أَحدهمَا مَمْنُوعًا وَالْآخر مُسلما (ثمَّ)
قَالَ (الْحَنَفِيَّة: الْعِلَل طردية ومؤثرة وَمِنْهَا) أَي
من المؤثرة (الملائمة) وَهُوَ مَا ثَبت مَعَ الحكم فِي الأَصْل
مَعَ ثُبُوت اعْتِبَار عينه فِي جنس الحكم بِنَصّ أَو إِجْمَاع
أَو قلبه أَو جنسه فِي جنسه كَمَا مر، يَعْنِي من جملَة
المؤثرة عِنْد الْحَنَفِيَّة الملائمة الْمُقَابلَة للمؤثرة
(عِنْد الشَّافِعِيَّة وَلَيْسَ للسَّائِل فِيهَا) أَي المؤثرة
(إِلَّا الْمَانِعَة) أَي منع مُقَدّمَة الدَّلِيل فَيعم منع
ثُبُوت الْوَصْف فِي الأَصْل أَو فِي الْفَرْع أَو منع ثُبُوت
الحكم فِي الأَصْل أَو منع صَلَاحِية علية الْوَصْف للْحكم
إِلَى غير
(4/116)
ذَلِك (والمعارضة) هِيَ لُغَة الْمُقَابلَة
على سَبِيل الممانعة، وَاصْطِلَاحا تَسْلِيم لدَلِيل الْمُعَلل
دون مَدْلُوله وَإِلَّا ستدل على نفي مَدْلُوله (لِأَنَّهُمَا)
أَي الممانعة والمعارضة (لَا يقدحان فِي الدَّلِيل بِخِلَاف
فَسَاد الْوَضع) كَون الْعلَّة مُرَتبا عَلَيْهَا نقيض ذَلِك
الحكم (و) فَسَاد (الِاعْتِبَار) كَون الْقيَاس مُعَارضا
بِنَصّ أَو إِجْمَاع كَمَا سَيَجِيءُ فَإِنَّهُمَا يقدحان
فِيهِ فَإِن قلت لَا فرق بَين الْأَوَّلين والآخرين فِي الْقدح
على تَقْدِير الْوُرُود من غير اندفاع وَعدم الْقدح على
تَقْدِير الاندفاع قلت الْأَوَّلَانِ لَا يَخْلُو عَنْهُمَا
دَلِيل من الْأَدِلَّة فيندفعان تَارَة، وَأُخْرَى لَا، وَفِي
عدم الْقدح على تَقْدِير فَلَا يخرج الدَّلِيل بهما عَن
دَائِرَة الِاعْتِبَار بِالْكُلِّيَّةِ وَإِن لم يندفعا،
بِخِلَاف الآخرين لندرتهما وكونهما أقبح عِنْد عدم الاندفاع،
وَقد علم بالتتبع أَنه لَا يتَوَجَّه على الِاسْتِدْلَال
بالعلل المؤثرة مَا يُخرجهُ عَن الِاعْتِبَار بِالْكُلِّيَّةِ،
وَفِيه مَا فِيهِ، وَلما سَيذكرُهُ المُصَنّف (والمناقضة)
مَعْطُوف على فَسَاد الْوَضع، وَإِنَّمَا قَالَ (أَي النَّقْض)
لِأَن الْمُتَبَادر من المناقضة منع الْمُقدمَة الْمعينَة
كَمَا هُوَ اصْطِلَاح الجدليين، وَالْمرَاد نقض الْعلَّة بتخلف
الحكم عَنْهَا فِي صُورَة (إِذْ يُوجب) كل مِنْهُمَا (تنَاقض
الشَّرْع) على تَقْدِير عدم الاندفاع: إِذْ التَّأْثِير
إِنَّمَا يثبت بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاع فالمؤثر الَّذِي
يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الحكم ونقيضه مُسْتَلْزم لتناقض الشَّرْع
كَالَّذي يثبت النَّص أَو الْإِجْمَاع نقيض مُوجبه، وَكَذَا
النَّقْض، وَقد يُقَال هَذَا إِنَّمَا يَقْتَضِي عدم تحقق
فَسَاد الْوَضع وَالِاعْتِبَار بِحَسب نفس الْأَمر، لَا بِحَسب
وهم السَّائِل، وَالوهم كَاف لَهُ فِي جَوَاز السَّائِل:
اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يُقَال معنى قَوْله لَيْسَ للسَّائِل
أَنه لَا يتَحَقَّق لَهُ لعدم مَا يظنّ فِيهِ ذَلِك إِلَّا على
سَبِيل الندرة، والنادر كَالْمَعْدُومِ (وَهَذَا) الَّذِي
قُلْنَا من أَنه لَيْسَ للسَّائِل إِلَى آخِره مَبْنِيّ (على
منع تَخْصِيص الْعلَّة) أما على القَوْل بتخصيصها فَلهُ ذَلِك،
لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون مُرَاد الْمُسْتَدلّ من الْوَصْف
الَّذِي جعله عِلّة تَقْيِيده بِقَيْد، وَقد يكون الْمُطلق
بِاعْتِبَار تَقْيِيده بِقَيْد يَقْتَضِي حكما، وَبِاعْتِبَار
تقيده بآخر يُفِيد ذَلِك الحكم (وَأما وجود الحكم دونهَا) أَي
الْعلَّة (وَهُوَ الْعَكْس) أَي الْمُسَمّى بِالْعَكْسِ
اصْطِلَاحا (فعام الانتفاء) عَن المؤثرة والطردية عِنْد شارطي
انعكاس الْعلَّة، وَقد مر فِي شُرُوطهَا الْخلاف فِيهِ
(وَكَذَا الْمُفَارقَة) أَي منع علية الْوَصْف فِي الأَصْل
وإبداء وصف آخر صَالح للعلية، أَو منع استدلاله بِالْعِلَّةِ
بادعاء أَن الْعلَّة مركب مِنْهَا وَمن غَيرهَا وَلم يُوجد فِي
الْفَرْع عَام الانتفاء (فَإِن وجد صُورَة النَّقْض) فِي
المؤثرة على قَول من يجوزه، وَهُوَ خلاف الْمُخْتَار (دفع
بِأَرْبَع) من الطّرق (نذكرها وعَلى الطَّرْد ترد) الْخَمْسَة
الْمَذْكُورَة (مَعَ القَوْل بِالْمُوجبِ) أَي الْتِزَام
السَّائِل مَا يلْزمه الْعلَّة بتعليله مَعَ بَقَاء النزاع فِي
الحكم الْمَقْصُود (وَلَا وَجه لتخصيصها) أَي الطردية (بِهِ)
أَي بِمَا ذكر من الْخَمْسَة وَالْقَوْل بِالْمُوجبِ كَمَا
يفهم من كَلَام
(4/117)
بَعضهم (وَدفع) هَذَا التَّخْصِيص مُطلقًا
(بِأَن الْإِيرَاد) أَي الِاعْتِرَاض إِنَّمَا هُوَ
(بِاعْتِبَار ظَنّه) أَي الْمُسْتَدلّ (للعلية لإنكار ظَنّه)
يَعْنِي أَن الِاعْتِرَاض بِحَسب الْحَقِيقَة مُتَوَجّه إِلَى
ظَنّه لكَون الْمُعْتَرض مُنْكرا مُطَابقَة مَا فِي نفس
الْأَمر فيورد على ظَنّه (لَا على) الْعِلَل (الشَّرْعِيَّة)
الثَّابِتَة (فِي نفس الْأَمر) الْمُعْتَبرَة عِنْد الشَّارِع
(وَألا) أَي وَإِن لم يكن بِاعْتِبَار ظَنّه وَكَانَ على
الشَّرْعِيَّة (فَيجب نفي الْمُعَارضَة أَيْضا) على المؤثرة
(إِذْ بعد ظُهُور تَأْثِير الْوَصْف) يلْزم (فِي الْمُعَارضَة
المناقضة) للشَّرْع (خُصُوصا) الْمُعَارضَة (بطرِيق الْقلب)
وَهِي على مَا سَيَجِيءُ مُعَارضَة فِيهَا مناقضة (وَإِذ لَا
تَخْصِيص) لنقض الاعتراضات بالمؤثرة دون الطردية وَبِالْعَكْسِ
(نذكرها) أَي الاعتراضات (بِلَا تَفْصِيل و) بِلَا (تعرض
لخصوصياتهم) أَي الْحَنَفِيَّة فِيهَا، فَإِن اخْتلَافهمْ
فِيهَا مَبْنِيّ على التَّخْصِيص. (الأول فَسَاد الِاعْتِبَار)
وَهُوَ (كَون الْقيَاس مُعَارضا بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاع
فَلَا وجود لَهُ) أَي الْقيَاس (حِينَئِذٍ) لِأَن صِحَّته
مَشْرُوطَة بِأَن لَا يكون فِي مُقَابلَة أَحدهمَا (لينْظر فِي
مقدماته) مُتَعَلق بالوجود، يَعْنِي النّظر فِي مقدماته فرع
أَن يكون لَهُ وجود وَحَيْثُ علم أَنه وَقع فِي غير مَحل
إِمْكَانه لَا يلْتَفت بعد ذَلِك إِلَيْهِ وَإِلَى مقدماته،
وَسمي بذلك لِأَن الِاعْتِبَار هُوَ الْقيَاس وَقد مر، ففساد
الْقيَاس فَسَاد الِاعْتِبَار (وتخلصه) أَي الْمُسْتَدلّ من
هَذَا الِاعْتِرَاض (بالطعن فِي السَّنَد) للنَّص (إِن أمكن)
بِأَن لَا يكون كتابا وَلَا سنة متوترة أَو مَشْهُورَة وَكَانَ
فِي سَنَده من لم يكن عَدَالَته مُتَّفقا عَلَيْهِ أَو كذب
فِيهِ الأَصْل الْفَرْع إِلَى غير ذَلِك (أَو) الطعْن (فِي
دلَالَته) أَي فِي دلَالَة النَّص على مَطْلُوب الْمُعْتَرض
(أَو أَنه) أَي النَّص مَعْطُوف على الطعْن (مؤول) غير
مَحْمُول على ظَاهره (بدليله) أَي بِدَلِيل التَّأْوِيل
الْمُفِيد ترجحه على الظَّاهِر (أَو) أَنه (خص مِنْهُ) أَي من
عُمُوم النَّص (حكم الْقيَاس) مَعَ بَيَان دَلِيل التَّخْصِيص،
وَهُوَ أَيْضا من التَّأْوِيل، فَهُوَ من عطف الْخَاص على
الْعَام لمزيد الاهتمام (ومعارضته) أَي الْمُسْتَدلّ نَص
الْمُعْتَرض (بمساو) أَي بِنَصّ مسَاوٍ لَهُ (فِي النَّوْع)
كالكتاب بِالْكتاب وَالسّنة بِالسنةِ (وَالتَّرْجِيح) لأحد
النصين على الآخر (بعد ذَلِك) التَّسَاوِي (بالخصوصية) الممتاز
بهَا أَحدهمَا على الآخر كالمحكم على الْمُفَسّر، وَهُوَ على
النَّص، وَهُوَ على الظَّاهِر، وَإِن انْتَفَت الخصوصية تساقطا
وَسلم قِيَاس الْمُسْتَدلّ (فَلَو عَارض الآخر) أَي
الْمُعْتَرض النَّص الَّذِي عَارض بِهِ الْمُسْتَدلّ (بآخر)
بِنَصّ آخر مَعَ الأول (من غير نَوعه) أَي غير نوع الأول (وَجب
أَن يبْنى) تَرْجِيح الأول بِالثَّانِي (على التَّرْجِيح
بِكَثْرَة الرِّوَايَة) وَتقدم مَا فِيهِ من الْخلاف إِذا لم
يبلغ حد الشُّهْرَة فِي فصل التَّرْجِيح. قَالَ الشَّارِح:
وَالْوَجْه الروَاة يَعْنِي بدل الرِّوَايَة، وَلَا يخفى
أَنَّهُمَا متلازما غير أَن الْمَشْهُور كَثْرَة الروَاة (و)
بِنَاء (على) القَوْل بِأَن (لَا تَرْجِيح بِكَثْرَة)
(4/118)
الروَاة (لَا يُعَارض النَّص) أَي نَص
الْمُعْتَرض المنضم مَعَه نَص آخر (النَّص وَالْقِيَاس) أَي
نَص الْمُسْتَدلّ وَقِيَاسه لِأَن بانضمام النَّص الآخر لم
يحصل للْأولِ زِيَادَة لِأَنَّهُ مثل كَثْرَة الروَاة، وَأما
نَص الْمُسْتَدلّ فَلَا شكّ فِي تقويه بقياسه فَلم يتَحَقَّق
مُعَارضَة بَين النَّص المنضم إِلَيْهِ النَّص وَبَين النَّص
وَالْقِيَاس (ليقف الْقيَاس) عَن علمه وإفادته للْحكم بِسَبَب
الْمُعَارضَة (للْعلم بِسُقُوط هَذَا الِاعْتِبَار فِي نظر
الصَّحَابَة) فَإِنَّهُم كَانُوا يرجعُونَ عِنْد تعَارض النصين
إِلَى الْقيَاس وَلَا يلتفتون إِلَى مَا يَنْضَم إِلَى أحد
النصين من نَص آخر، عرف ذَلِك بتتبع أَحْوَالهم (وَمن نَوعه)
أَي فَلَو عَارض الْمُعْتَرض نَص الْمُسْتَدلّ بِنَصّ آخر من
نوع الأول مَعَ الأول (لَا يرجح) نَصه الأول بِهِ (اتِّفَاقًا)
بل يعارضهما جَمِيعًا نَص الْمُسْتَدلّ بِانْفِرَادِهِ كَمَا
يُعَارض شَهَادَة الِاثْنَيْنِ شَهَادَة الْأَرْبَع فمعارضة
شَهَادَة الِاثْنَيْنِ أصل ألحق بِهِ مُعَارضَة النَّص
الْوَاحِد للنصين اللَّذين من نوع وَاحِد بالإتفاق، وَفِي
إِلْحَاق مُعَارضَة النَّص الْوَاحِد لنصين أَحدهمَا لَيْسَ من
نوع الأول اخْتِلَاف (وَلَو قَالَ الْمُسْتَدلّ) للمعترض
(عَارض نصك قياسي فَسلم نصي فَبعد أَنه) أَي هَذَا الْجَواب
هُوَ (الِانْتِقَال الْمَمْنُوع) لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ مُثبت
بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ بعد مَا كَانَ مثبتا بِهِ فَهُوَ
حِينَئِذٍ (معترف بِفساد الِاعْتِبَار) أَي بوروده (على
قِيَاسه) وَلَا نعني بالإلزام إِلَّا هَذَا، مِثَاله (نَحْو)
قَول الشَّافِعِي فِي حل ذَبِيحَة الْمُسلم المتروكة
التَّسْمِيَة عمدا (ذبح التارك) للتسمية ذبح (من أَهله) أَي
أهل الذّبْح الْمُعْتَبر شرعا، وَهُوَ الْمُسلم فِي حل
ذَبِيحَة الْمُسلم (فِي مَحَله) وَهُوَ الْمَأْكُول اللَّحْم
(فيحلها) أَي الذّبْح الذَّبِيحَة (كالناسي) أَي كذبح ناسي
التَّسْمِيَة فَإِنَّهُ ذبح من أَهله فِي مَحَله فيحلها
(فَيُقَال) فِي جَوَابه هَذَا قِيَاس (فَاسد الِاعْتِبَار
لمعارضة) قَوْله تَعَالَى {وَلَا تَأْكُلُوا} الْآيَة) أَي -
{مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ وَإنَّهُ لفسق} -
وَإِضَافَة الْمُعَارضَة إِلَى وَلَا تَأْكُلُوا إِضَافَة
الْمصدر إِلَى الْفَاعِل: أَي لمعارضة هَذَا النَّص الْقيَاس
الْمَذْكُور على مَا يَقْتَضِيهِ تَعْرِيف فَسَاد الِاعْتِبَار
(فالمستدل مؤول) على صِيغَة الْمَفْعُول، وَالتَّقْدِير
يَقُول: هَذَا مؤول، أَو الْفَاعِل: أَي يؤول الْآيَة (بِذبح
الوثني) بالميتة أَو بِمَا ذكر غير اسْم الله عَلَيْهِ (بقوله)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الْمُؤمن يذبح على اسْم الله سمى أَو
لم يسم) توقف الشَّارِح فِي ثُبُوته غير أَنه أثبت مَا فِي
مَعْنَاهُ مُرْسلا عَن تَابِعِيّ صَغِير. (وَمَا قيل) فِي دفع
قَول الشَّافِعِي (خص) مَذْبُوح (النَّاسِي) من نَص وَلَا
تَأْكُلُوا (بِالْإِجْمَاع فَلَو قيس عَلَيْهِ) أَي النَّاسِي
(الْعَامِد أوجب) الْقيَاس عَلَيْهِ (كَونه) أَي الْقيَاس
(نَاسِخا) للنَّص (لَا مُخَصّصا إِذْ لم يبْق تَحت الْعَام)
يَعْنِي - مَا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ - (شَيْء) لِأَنَّهُ
لم يكن تَحْتَهُ إِلَّا النَّاسِي والعامد وَقد خرجا (إِنَّمَا
ينتهض) دافعا لَهُ (إِذا لم يلْزم) كَون النَّص (مؤولا) قَالَ
الشَّارِح نقلا عَن المُصَنّف مَا حَاصله: أَن للحنفية فِي
إِفْسَاد هَذَا
(4/119)
الْقيَاس طَرِيقين: الأول فَسَاد
الِاعْتِبَار، وَإِذا أثبت الشَّافِعِي أَن النَّص مؤول
انْدفع. الثَّانِي أَن قِيَاسه حِينَئِذٍ نَاسخ للْكتاب وَهُوَ
أَيْضا مندفع بالتأويل: يَعْنِي بِمَا إِذا ذبح للنصب: وَهُوَ
أحد قسمي الْعَامِد، فَإِنَّهُ يَنْقَسِم إِلَى تَارِك فَقَط،
وتارك مَعَ الذّبْح للنصب، وَإِذا أُرِيد بِالْآيَةِ الثَّانِي
يبْقى تَحت الْعَام هَذَا الْعَامِد، وَهَذَا هُوَ الْمَوْعُود
بِهِ فِي فصل الشُّرُوط بقوله: وَفِيه نظر يَأْتِي (فَلَو
قَالَ) الْمُسْتَدلّ بعد إِلْزَام فَسَاد الِاعْتِبَار (قياسي
أرجح من نصك) فَلَا يلْزَمنِي فَسَاد الِاعْتِبَار، لِأَن
الْمَرْجُوح لَا يبطل الرَّاجِح (فَلَيْسَ للمعترض إبداء فرق
بَينهمَا) أَي الْعَامِد وَالنَّاسِي لدفع الأرجحية وَإِثْبَات
فَسَاد الِاعْتِبَار (بِأَنَّهُ) أَي الْعَامِد (صدف) أَي أعرض
(عَن الذّكر مَعَ استحضار مطلوبيته) أَي الذّكر (شرعا) فَكَانَ
مقصرا (بِخِلَاف النَّاسِي) فَإِنَّهُ مَعْذُور، فَعدم
التَّقْصِير مُعْتَبر فِي الْعلَّة، وَإِنَّمَا لم يكن لَهُ
ذَلِك (لِأَنَّهُ) أَي بَيَان الْفَارِق مُسْتَقل بِفساد
الْقيَاس فَالْجَوَاب بِبَيَان الْفرق عَن دفع الْمُسْتَدلّ
فَسَاد الِاعْتِبَار (انْتِقَال عَن فَسَاد الِاعْتِبَار) أَي
بَيَان فَسَاد الْقيَاس بطرِيق آخر، وَهُوَ مَمْنُوع فِي
المناظرة كَمَا ذكر (وللمعترض منع مُعَارضَة خبر الْوَاحِد)
كالحديث الَّذِي ذكره الشَّافِعِي (لعام الْكتاب) كَمَا فِي
الْآيَة (فَلَا يتم) كَونه (مؤولا) للمستدل (وللمجيب إثْبَاته)
أَي إِثْبَات كَون خبر الْوَاحِد مُعَارضا لعام الْكتاب (إِن
قدر) على ذَلِك بِأَن يَقُول دلَالَة الْعَام على الْعُمُوم
ظَنِّي كَمَا أَن خبر الْوَاحِد ظَنِّي وَقَامَ بحجته
(وَلَيْسَ) إثْبَاته (انْقِطَاعًا) عَمَّا كَانَ المناظرة
فِيهِ (وَإِن كَانَ) الْمُجيب وَهُوَ الْمُسْتَدلّ (منتقلا)
عَمَّا كَانَ فِيهِ (إِلَى) دَلِيل (آخر يحْتَاج فِيهِ) أَي
فِي الآخر (إِلَى مثل مقدماته) أَي الدَّلِيل الأول (أَو
(أَكثر) من مقدماته، وَإِنَّمَا لَا يكون انْقِطَاعًا
(لِأَنَّهُ) أَي الْمُجيب (بعد ساع فِي إِثْبَات نفس مدعاه)
وَهُوَ إِثْبَات الحكم بقياسه الْمَذْكُور، فَلَا يرد أَن من
قَالَ عَارض نصك قياسي فَسلم نصي أَيْضا بعد فِي إِثْبَات نَص
نفس مدعاه، وَقد حكمت أَن انْتِقَاله مَمْنُوع، فَإِنَّهُ
أَرَادَ إِثْبَات الحكم بِالنَّصِّ لَا بقياسه الَّذِي وَقعت
المناظرة فِيهِ (كمن احْتج بِالْقِيَاسِ فَمنع جَوَازه) أَي
جَوَاز الِاحْتِجَاج بِالْقِيَاسِ (فاحتج) المحتج بِهِ (بقول
عمر لأبي مُوسَى: اعرف الْأَمْثَال والأشباه وَقس الْأُمُور
عِنْد ذَلِك فَمنع) جَوَازه أَي جَوَاز الِاحْتِجَاج (حجية
قَول الصَّحَابِيّ فأثبته) أَي كَون قَول الصَّحَابِيّ حجَّة
(بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اقتدوا بالذين من بعدِي أبي
بكر وَعمر فَمنع) الْمَانِع الْمَذْكُور (حجية خبر الْوَاحِد
فأثبته) أَي كَون خبر الْوَاحِد حجَّة بِمَا يدل عَلَيْهِ
(وَإِذ يتَرَدَّد) أَي وَإِذ يَقع التَّرَدُّد (فِي
الْأَجْوِبَة) عَن الاعتراضات (من هَذَا) أَي من أجل
الِانْتِقَال من كَلَام إِلَى آخر بِأَن يشك فِي خصوصياتها من
حَيْثُ الِانْقِطَاع وَعَدَمه احْتَاجَ الْمقَام إِلَى
تَفْصِيل (فَهَذِهِ) إِشَارَة إِلَى الْوُجُود فِي الذِّهْن من
المباحث الْآتِيَة (مُقَدّمَة) وَهِي مَا يذكر
(4/120)
أَمَام الْمَشْرُوع فِي الْمَقْصُود مِمَّا
يحْتَاج إِلَيْهِ (فِي) بَيَان (الِانْتِقَال) من كَلَام إِلَى
آخر فِي المناظرة من قبل أَن يسْتَند، وَيتم الْمُسْتَدلّ
إِثْبَات الحكم: الأول هُوَ (إِمَّا من عِلّة إِلَى) عِلّة
(أُخْرَى لإثباتها) أَي الْعلَّة الأولى الَّتِي هِيَ عِلّة
الْقيَاس (أَو) من حكم (إِلَى حكم آخر يحْتَاج إِلَيْهِ)
الْمُعَلل فِي إِثْبَات الْمُتَنَازع فِيهِ كَمَا سَيَجِيءُ
يثبت هَذَا الْمُنْتَقل إِلَيْهِ (بِتِلْكَ الْعلَّة) الَّتِي
هِيَ عِلّة الْقيَاس (أَو بِأُخْرَى) أَي بعلة أُخْرَى
مَعْطُوف على تِلْكَ الْعلَّة فَالْحكم الْمُنْتَقل إِلَيْهِ
تَارَة يثبت بعلة الْقيَاس وَتارَة بغَيْرهَا، وَهَذِه
الثَّلَاثَة صَحِيحَة اتِّفَاقًا، فَالْأولى الِاشْتِغَال
بِمَا تصدى لَهُ من ادِّعَاء علية الْعلَّة للْحكم
الْأَصْلِيّ، وَهَذَا إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الممانعة، فَإِن
السَّائِل قد منع من عليتها، وَأما الأخيران فَإِنَّمَا
يتحققان عِنْد مُوَافقَة الْخصم فِي الحكم الأول وادعائه أَن
النزاع فِي حكم آخر فَينْتَقل لإِثْبَات الحكم الْمُتَنَازع
فِيهِ بِالْعِلَّةِ الأولى أَو بِأُخْرَى (أَو) من عِلّة
(إِلَى) عِلّة (أُخْرَى لإِثْبَات الحكم الأول) . قَالَ
الشَّارِح: وَهَذَا إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي فَسَاد الْوَضع
والمناقضة إِن لم يكن دفعهما بِبَيَان الملائمة والتأثير
والطرد (وَاخْتلف فِي هَذَا) الرَّابِع (فَقيل يقبل لمحاجة
الْخَلِيل عَلَيْهِ السَّلَام) نمروذ الْمشَار إِلَيْهَا بقوله
تَعَالَى - {ألم تَرَ إِلَى الَّذِي حَاج إِبْرَاهِيم فِي ربه
أَن آتَاهُ الله الْملك إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيم رَبِّي الَّذِي
يحيي وَيُمِيت قَالَ أَنا أحيي وأميت قَالَ إِبْرَاهِيم فَإِن
الله يَأْتِي بالشمس من الْمشرق فأت بهَا من الْمغرب فبهت
الَّذِي كفر} - فانتقل عَلَيْهِ السَّلَام من حجَّة إِلَى
أُخْرَى لإِثْبَات الحكم الأول، وَقد حكى الله تَعَالَى ذَلِك
على سَبِيل التمدح فَهُوَ صَحِيح (وَدفع) هَذَا (بِأَن حجَّته)
عَلَيْهِ السَّلَام الأولى (ملزمة) لَهُ: أَي مفحمة (ومعارضة
اللعين) لَهُ الْمشَار إِلَيْهِ بقوله - {أَنا أحيي وأميت} -
ثمَّ بَيَانه بإحضار شَخْصَيْنِ من السجْن وَجب قَتلهمَا أطلق
أَحدهمَا وَقتل الآخر كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (بترك
التَّسَبُّب فِي إِزَالَة حَيَاة شخص وإزالتها قتلا) وَحَاصِله
السَّبَب فِي إِزَالَتهَا (بَاطِلَة) يَعْنِي ظَاهِرَة
الْبطلَان بِحَيْثُ لَا يحْتَاج إِلَى الرَّد (إِذْ المُرَاد)
بِالْإِحْيَاءِ فِي حجَّة الْخَلِيل (إيجادها) فِيهِ إِشَارَة
إِلَى أَن الْحَيَاة مَوْجُودَة فِي الْخَارِج (فِيمَا لَيست)
الْحَيَاة (فِيهِ و) بالاماتة (ازالتها بِلَا مُبَاشرَة
محسوسة) أَي بِنَزْع الرّوح بِغَيْر علاج محسوس (وحاضره) أَي
مجْلِس اللعين (ضلال) قاصرون عَن التَّأَمُّل (يسْرع إِلَيْهِم
إِلْزَام مَا لَا يلْزم) يَحْتَاجُونَ إِلَى قَاطع لإخفاء
فِيهِ بِوَجْه (فانتقل إِلَى دَلِيل آخر) بعد تَمام الأول (لَا
يحْتَمل) ذَلِك الآخر (التلبيس) والمغالطة، فَهُوَ انْتِقَال
إِلَى دَلِيل أوضح (وَالْحق أَن لَا انْتِقَال) أصلا (فَإِن
الأول) أَي قَوْله - {رَبِّي الَّذِي رَبِّي يحيي وَيُمِيت} -
إِنَّمَا هُوَ (الدَّعْوَى) فَإِن المُرَاد بِهِ أَن رب
الْعَالمين إِنَّمَا هُوَ الْقَادِر الْمُطلق الَّذِي لَا يعجز
عَن شَيْء لظُهُور أَنه لم يره اخْتِصَاص ربوبيته بِنَفسِهِ
وَلَا قدرته بِالْإِحْيَاءِ والإماتة فَقَط، وَالْمرَاد
بالرسول الْمَعْهُود الْمَشْهُور بعلته، فَكَأَنَّهُ قَالَ
الرب سُبْحَانَهُ هُوَ الله سُبْحَانَهُ لَا غير،
(4/121)
فَلَمَّا أنكر اللعين ذَلِك مثبتا لنَفسِهِ
تِلْكَ الْقُدْرَة الْمُطلقَة أَرَادَ إِلْزَامه وإفحامه على
وَجه لَا يبْقى لَهُ مجَال مجادلة فَقَالَ - {إِن الله يَأْتِي
بالشمس من الْمشرق} - إِلَى آخِره، وَإِلَيْهِ أَشَارَ
المُصَنّف بقوله (واستدلاله) أَي الْخَلِيل (لم يَقع إِلَّا
بِمَعْنى الْإِلْزَام) أَي بِالْمَعْنَى الَّذِي هُوَ
الْإِلْزَام الْكَائِن (فِي قَوْله: (فَإِن الله يَأْتِي
بالشمس إِلَى آخِره) وَعَن الإِمَام نجم الدّين النَّسَفِيّ
أَن هَذَا لَيْسَ انتقالا من حجَّة أُخْرَى فِي المناظرة،
لِأَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام ادّعى انْفِرَاد الله
تَعَالَى بالربوبية وَاحْتج لذَلِك بِكَمَال الْقُدْرَة وَدلّ
عَلَيْهِ بِالْإِحْيَاءِ والإماتة، فَلَمَّا أَرَادَ نمروذ
التلبيس أظهر كَمَال الْقُدْرَة بِحَدِيث الشَّمْس،
وَالدَّلِيل وَاحِد، والصورتان مُخْتَلِفَتَانِ انْتهى. وَكَأن
المُصَنّف أَرَادَ بالاستدلال اللُّزُوم الَّذِي لَا يبْقى
مَعَه مجَال مجادلة فَلذَلِك قصره على القَوْل الثَّانِي فَلَا
يُنَافِي كَون الأول دَلِيلا أَيْضا مَعَ إِفَادَة أصل
الْمُدَّعِي (وَالْكَلَام) الَّذِي نَحن فِيهِ (فِيمَا إِذا
ظهر بطلَان) الدَّلِيل (الأول فانتقل) الْمُسْتَدلّ (إِلَى
دَلِيل آخر فَإِنَّهُ) أَي انْتِقَاله حِينَئِذٍ (انْقِطَاع
فِي عرفهم) أَي النظار (استحسنوه) أَي الحكم بالانقطاع
الْمَمْنُوع عَنهُ فِي الِانْتِقَال الْمَذْكُور (كَيْلا
يَخْلُو الْمجْلس) أَي مجْلِس المناظرة (عَن الْمَقْصُود)
وَهُوَ أَن تَنْتَهِي الْمُخَاصمَة إِلَى أحد الْجَانِبَيْنِ،
وَفَسرهُ الشَّارِح بِإِظْهَار الْحق وَلَا يخفى أَن هَذَا
يَقْتَضِي أَن لَا يمْنَع من الِانْتِقَال ويبالغ فِي
التَّحْقِيق كَمَا يدل عَلَيْهِ قَوْله (وَإِلَّا) أَي وَإِن
لم يكن الْمُدَّعِي الْمَذْكُور (فَفِي) مُقْتَضى (الْعقل
لَهُ) أَي الْمُسْتَدلّ (أَن ينْتَقل) من الدَّلِيل الأول
(إِلَى) دَلِيل (آخر، و) من الدَّلِيل الآخر إِلَى دَلِيل
(آخر) وَهَكَذَا (إِذا لم يثبت مَا عينه) من الحكم بِمَا ذكر
من الدَّلِيل (حَتَّى يعجزه عَن إثْبَاته وَلَو) كَانَ ذَلِك
(فِي مجَالِس) كَمَا أَن للْمُدَّعِي فِي حُقُوق النَّاس
الِانْتِقَال من بَيِّنَة إِلَى أُخْرَى، وَهُوَ مَقْبُول
إِجْمَاعًا (فالانقطاع) للمعلل أَو السَّائِل إِنَّمَا
يتَحَقَّق (بدليله) أَي الْعَجز عَن إِثْبَات الْمَطْلُوب أَو
مَا هُوَ بصدده (سكُوت) بدل الْبَعْض من دَلِيل كَمَا أخبر
الله تَعَالَى عَن اللعين بقوله - {فبهت الَّذِي كفر} - وَهُوَ
أظهر أَنْوَاع الِانْقِطَاع (أَو إِنْكَار ضروى) أَي بديهي
فَإِنَّهُ يدل على كَمَال عَجزه (أَو منع بعد تَسْلِيم) لَا
يُقَال: يحْتَمل أَن يكون تَسْلِيمه لسهو أَو غَفلَة،
فَإِنَّهُ عِنْد ذَلِك يبين سَنَده وَيذكر أَنه سَهَا أَو غفل
(تَسْلِيم) لما ادَّعَاهُ الْخصم خبر الْمُبْتَدَأ: أَعنِي
فالانقطاع (وَفِي) انْتِقَال الْمُعَلل (فِي معرض
الِاسْتِدْلَال إِلَى مَا لَا يُنَاسب الْمَطْلُوب دفعا
لظُهُور إفحامه) وعجزه عَن إِقَامَة الدَّلِيل (انْقِطَاع
فَاحش) واضطراب بِحَيْثُ لَا يدْرِي مَا يَقُول (فَالْأول) أَي
الِانْتِقَال من عِلّة إِلَى أُخْرَى لإِثْبَات الأولى مِثَاله
(للحنفية فِي إِثْبَات أَن إِيدَاع الصَّبِي) غير الْمَأْذُون
مَا لَيْسَ برقيق (تسليط) للصَّبِيّ على استهلاكه (عِنْد
تَعْلِيله) أَي الْحَنَفِيّ (بِهِ) أَي بتسليطه عَلَيْهِ (لنفي
ضَمَانه) أَي الصَّبِي إِذا أتْلفه وَهُوَ قَول أبي حنيفَة
وَمُحَمّد، لِأَن الْإِتْلَاف مَعَ التسليط لَا يُوجب
الضَّمَان كَمَا إِذا أَبَاحَ لَهُ طَعَاما فأتلفه
(4/122)
لَا يضمن اتِّفَاقًا، وَقَالَ أَبُو يُوسُف
وَالشَّافِعِيّ يضمن الصَّبِي ذَلِك، وَكَون إيداعه تسليطا
تسليط عِلّة الْقيَاس فَإِذا مَنعه الْخصم فانتقل الْمُعَلل
إِلَى إثْبَاته بِأَنَّهُ مكنه بالإيداع بِإِثْبَات الْيَد على
مَا ينَال بِالْأَيْدِي وَلَا نعني بالتسليط إِلَّا هَذَا،
فَهَذَا الِانْتِقَال لَا يكون انْقِطَاعًا (وَالثَّانِي) أَي
الِانْتِقَال من حكم إِلَى آخر يحْتَاج إِلَيْهِ يثبت بِتِلْكَ
الْعلَّة، مِثَاله (لَهُم) أَي للحنفية فِي جَوَاز إِعْتَاق
مكَاتب لم يؤد شَيْئا من بدل الْمُكَاتبَة عَن كَفَّارَة
الْيَمين (الْكِتَابَة عقد يحْتَمل الْفَسْخ) بالإقالة وبالعجز
عَن أَدَاء الْبَدَل (فَلَا يمْنَع التَّكْفِير بِمن تعلّقت)
الْكِتَابَة (بِهِ) اسْتِحْسَانًا خلافًا لزفَر وَالشَّافِعِيّ
(كَالْبيع بِالْخِيَارِ للْبَائِع والاجارة) فَإِنَّهُ يجوز
اجماعاً لمن بَاعَ عَبده بِشَرْط الْخِيَار لَهُ وَلمن أجر
عَبده اعتاقه بنية الْكَفَّارَة، فكونها عقد يحْتَمل الْفَسْخ
عِلّة الْقيَاس (فَيُقَال) من قبل الْمُعْتَرض أَنا نقُول
بِمُوجب هَذِه الْعلَّة أَن الْكِتَابَة من حَيْثُ أَنَّهَا
عقد يحْتَمل الْفَسْخ لَا يمْنَع التَّكْفِير (بل الْمَنْع)
عَن التَّكْفِير (لغيره) أَي غير عقد الْكِتَابَة، ثمَّ بَين
ذَلِك الْغَيْر بقوله (من نُقْصَان الرّقّ بِهِ) أَي بِعقد
الْكِتَابَة، لِأَن الْعتْق للْمكَاتب مُسْتَحقّ بِهِ فَصَارَ
(كَأُمّ الْوَلَد) فَإِنَّهَا لما اسْتحقَّت الْعتْق
بِالْولادَةِ منع ذَلِك التَّكْفِير بهَا، بل أولى لِأَن
الْمكَاتب أَحَق بأكسابه وَأَوْلَاده دونهَا (فيجاب بِإِثْبَات
عدم نقصانه) أَي الرّقّ بِعقد الْكِتَابَة وَهُوَ حكم آخر
(بِالْأولَى) أَي الْعلَّة الأولى، فَيُقَال (احْتِمَال
الْفَسْخ) بِعقد الْكِتَابَة (دَلِيل عدم إِيجَابه) أَي عقدهَا
(نقصانه) أَي رقّه (لِأَن مَا يُوجِبهُ) أَي نُقْصَان الرّقّ
إِنَّمَا هُوَ عقد (لَا يحْتَمل الْفَسْخ) بِوَجْه (إِذْ هُوَ)
أَي نُقْصَان الرّقّ (بِثُبُوت الْحُرِّيَّة من وَجه) فَكَمَا
أَن ثُبُوتهَا من كل وَجه لَا يحْتَمل الْفَسْخ كَذَلِك
ثُبُوتهَا من وَجه لَا يحْتَملهُ فَإِن قلت قَوْلهم الْمكَاتب
حر يدا عبد رَقَبَة يُفِيد ثُبُوت الْحُرِّيَّة من وَجه قلت
هَذَا أَمر غير ضَرُورَة ليتَمَكَّن من تَحْصِيل بدل
الْكِتَابَة فَلَا يعْتَبر فِي حق غَيره تَوْضِيحه أَن حكم
الْعتْق فِي الْكِتَابَة مُتَعَلق بِشَرْط الْأَدَاء، وَلَو
علق بِشَرْط آخر لَا يثبت بِهِ اسْتِحْقَاق الْعتْق اتِّفَاقًا
فَكَذَا هَذَا الشَّرْط بل أولى، لِأَن التَّعْلِيق بِسَائِر
الشُّرُوط يمْنَع الْفَسْخ، وَبِهَذَا الشَّرْط لَا يمْنَع،
بِخِلَاف الِاسْتِيلَاد فَإِنَّهُ بِهِ يتَمَكَّن النُّقْصَان
بِالرّقِّ حَتَّى لَا يعود إِلَى الْحَالة الأولى
(وَالثَّالِث) أَي الِانْتِقَال من حكم إِلَى حكم يحْتَاج
إِلَيْهِ وَيثبت بعلة أُخْرَى، مِثَاله (أَن يُجيب)
الْمُسْتَدلّ فِي جَوَاب الِاعْتِرَاض الْمَذْكُور آنِفا
(بقوله: الْكِتَابَة عقد مُعَاوضَة فَلَا يُوجب نُقْصَانا
فِيهِ) أَي الرّقّ (كَالْبيع بِالْخِيَارِ) وَالْإِجَارَة
فَيجوز إِعْتَاقه كَمَا فِي الْمَبِيع بِشَرْطِهِ فَإِنَّهُ
يجوز اعتاقه فِي مدَّته، وَكَذَا فِي مُدَّة الْإِجَارَة
(وَالْكل) أَي جَمِيع الِانْتِقَالَات الثَّلَاثَة (جَائِز)
إِلَّا أَن الْأَخيرينِ لَا يخلوان عَن ضرب غَفلَة حَيْثُ لم
يبين مَوضِع الْخلاف ابْتِدَاء حَتَّى احْتَاجَ إِلَى
الِانْتِقَال، خُذ (هَذَا، وَيُشبه الاستفسار فِي عُمُومه)
للْقِيَاس وَغَيره (و) يشبه (فَسَاد
(4/123)
الِاعْتِبَار فِي عدم الْقيَاس) أَي فِي
اقتضائه انْتِفَاء الْقيَاس فِي الْوَاقِع (القَوْل
بِالْمُوجبِ لِأَن حَاصله) أَي القَوْل بِالْمُوجبِ (دَعْوَى
النصب) أَي نصب الدَّلِيل (فِي غير مَحل النزاع) المساوى: أَي
وَغير لَازم مَحَله كَمَا أَن فِي فَسَاد الِاعْتِبَار دَعْوَى
النصب: أَي نصب الدَّلِيل فِي غير مَحل النزاع (لَازمه)
الْمسَاوِي: أَي وَفِي غير لَازم مَحَله كَمَا أَن فِي فَسَاد
الِاعْتِبَار دَعْوَى نصب الدَّلِيل فِي غير مَحل النزاع،
لِأَن مَا يُخَالف النَّص وَالْإِجْمَاع بَاطِل بِلَا نزاع،
وَإِنَّمَا قَالَ ولازمه لِأَنَّهُ لَو لم ينصب فِي عين مَحل
النزاع أَو ينصب فِي لَازمه بِأَن يثبت فِي أَحدهمَا ذَلِك
اللَّازِم وينفي الآخر استلزم ذَلِك النزاع فِي الْمَلْزُوم
وَهُوَ ظَاهر، ثمَّ بَين كَون مَا ذكر حَاصله بقوله (إِذْ
هُوَ) أَي القَوْل بِالْمُوجبِ فِي اصْطِلَاح النظار (تَسْلِيم
مَدْلُول الدَّلِيل مَعَ بَقَاء النزاع فِي الحكم الْمَقْصُود)
للمستدل (فَإِن الْقيَاس حِينَئِذٍ) أَي حِين كَانَ مَدْلُوله
غير مَحل النزاع (بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ) أَي بِالنِّسْبَةِ
إِلَى الحكم الْمَقْصُود (مُنْتَفٍ فَظهر) من هَذَا (أَن لَا
وَجه لتخصيصه) أَي الْمُخَصّص (القَوْل) الْمُوجب بالطردية)
كَمَا ذكر الْحَنَفِيَّة لِاسْتِوَاء نِسْبَة القَوْل
بِالْمُوجبِ على مَا عَرفته إِلَى الطردية وَغَيرهَا (وَهُوَ)
أَي القَوْل بِالْمُوجبِ (ثَلَاثَة: الأول فِي إِثْبَات الحكم)
يَعْنِي أَن الْمُعْتَرض يثبت الحكم الَّذِي أثْبته الْمُعَلل،
ثمَّ يدعى أَن النزاع لَيْسَ فِيهِ، بل فِي غَيره (واستناده)
أَي اعْتِمَاد الْمُعْتَرض (فِيهِ) أَي فِي هَذَا الْقسم من
القَوْل بِالْمُوجبِ (إِلَى لفظ الْمُعَلل) فَكَأَنَّهُ
يَقُول: هَذَا مفَاد كلامك، سلمناه وَلَكِن لَا يفيدك،
وَيُشِير بِهِ إِلَى أَنه لَيْسَ عنْدك أَمر مُسلم غير هَذَا
(كَقَوْلِه) أَي الْمُعَلل، وَهُوَ الشَّافِعِي (فِي المثقل)
أَي فِي ان الْقَتْل بالمثقل يُوجب الْقصاص هُوَ (قتل بِمَا
يقتل غَالِبا، فَلَا يُنَافِي الْقصاص كالحرق) أَي كَالْقَتْلِ
بالنَّار، فَإِنَّهُ قتل بِمَا يقتل غَالِبا (فَيسلم)
الْمُعْتَرض، وَهُوَ الْحَنَفِيّ (عدم منافاته) أَي الْقَتْل
بِمَا يقتل غَالِبا وجوب الْقصاص (مَعَ بَقَاء النزاع فِي
ثُبُوت وجوب الْقصاص) إِذْ لَا يلْزم من عدم منافاته إِيَّاه
وُجُوبه (وَهُوَ) أَي وجوب (الْمُتَنَازع فِيهِ) وكما أَنه
لَيْسَ بمتنازع لَا يسْتَلْزم الْمُتَنَازع فِيهِ (أَو)
استناده فِيهِ إِلَى (حمله) أَي لفظ الْمُعَلل (على غير
مُرَاده كالمسح) أَي مسح الرَّأْس (ركن فَيسنّ تثليثه) كالغسل
للْوَجْه (فَيَقُول) الْمُعْتَرض (بِمُوجبِه) وَهُوَ استنان
تثليث الْمسْح، ونقول: عَملنَا بِمُوجبِه (إِذْ سننا
الِاسْتِيعَاب) فِي مسح الرَّأْس (وَهُوَ) أَي الِاسْتِيعَاب
فِيهِ: أَي (ضم مثلي الْوَاجِب) فِيهِ: أَي (الرّبع
وَزِيَادَة) مَعْطُوف على مثلي الْوَاجِب (إِلَيْهِ) أَي إِلَى
الْوَاجِب، وَجعل الشَّيْء ثَلَاثَة أَمْثَاله لَا يقتضى
اتِّحَاد الْمحل (ومقصوده) أَي الْمُسْتَدلّ من التَّثْلِيث
لَيْسَ هَذَا، بل (التكرير، فَإِذا أظهره) أَي الْمُسْتَدلّ
مُرَاده (انْتَفَى) القَوْل بِالْمُوجبِ وتعينت الممانعة: أَي
لَا نسلم أَن الرُّكْن يسن تكراره، بل الْمسنون فِيهِ إِلَّا
كَمَال، وَهُوَ يحصل بالإطالة فِي مَحَله كَمَا فِي
(4/124)
الْقِرَاءَة وَالرُّكُوع وَالسُّجُود
(وَكَذَا) قَول الشَّافِعِي لتعيين نِيَّة الصَّوْم فِي
رَمَضَان (صَوْم فرض فَيشْتَرط) فِيهِ (التَّعْيِين) بِأَن
يتَعَلَّق قَصده بخصوصية صَوْم رَمَضَان فرضا (فَيَقُول)
الْمُعْتَرض الْحَنَفِيّ (بِمُوجبِه) أَي مُوجب الدَّلِيل
الْمَذْكُور (لُزُوم التَّعْيِين) عطف بَيَان لموجبه (والنزاع
فِي غَيره) أَي غَيره الْمُوجب الْمَذْكُور، وَهُوَ (كَون
الْإِطْلَاق) للنِّيَّة بِأَن ينوى الصَّوْم الْمُطلق (بعد
تعْيين لُزُوم التَّعْيِين بعد تعْيين الشَّرْع الْوَقْت
الْخَاص لَهُ) أَي للصَّوْم (تعيينا) يَعْنِي هَل يتَعَيَّن
الْمَنوِي على وَجه الْإِطْلَاق بِحَسب نفس الْأَمر فِي حكم
الشَّرْع بِسَبَب تعين الْوَقْت لَهُ شرعا كَمَا يتَعَيَّن
بِتَعْيِين الناوي وقصده الخصوصية أم لَا، بل لَا بُد من
تعْيين الناوي (جملا) للتعيين الْمَذْكُور فِي قَول
الْمُسْتَدلّ فَيشْتَرط التَّعْيِين (على) التَّعْيِين
(الْأَعَمّ) من أَن يكون بِتَعْيِين الْمُكَلف الناوي، أَو
بِتَعْيِين الشَّارِع (وَمرَاده) أَي الْمُسْتَدلّ من
التَّعْيِين (تعْيين الْمُكَلف) فَإِذا أظهره انْتَفَى القَوْل
بِالْمُوجبِ وتعينت الممانعة، (وَالْوَجْه) الَّذِي لَا يعد
مَا يُقَابله وَجها بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ ثَابت (للشارط) فِي
التَّعْيِين كَونه بِقصد الْمُكَلف (لِأَن كَون إِطْلَاق
الناوي) فِي الْمَنوِي (تعْيين بعض محتملاته) أَي الْمُطلق من
غير أَن يتَعَلَّق قَصده بذلك الْبَعْض بِخُصُوصِهِ بِمُجَرَّد
تعْيين الشَّرْع (يصير الْأَعَمّ عين الْأَخَص) يرد عَلَيْهِ
أَنه إِن أَرَادَ بالتصيير الْمَذْكُور أَن يتحدا فِي ذهن
الناوي، فَذَلِك لَا يَقُول بِهِ الْخصم. وَإِن أَرَادَ بِهِ
الِاتِّحَاد بِحَسب نفس الْأَمر بِاعْتِبَار الشَّرْع، فَلَا
مَحْذُور فِيهِ. وَقد يُجَاب بِأَنَّهُ إِشَارَة إِلَى أَنه
يلْزم على الْخصم أَن يَقُول بالشق الأول من الترديد، لِأَن
صِحَة الصَّوْم الْمعِين مَوْقُوفَة على التَّعْيِين فِي
نِيَّة الناوى وَفِي ذهنه، فَيلْزم الْمَحْذُور فَتدبر (وَتقدم
تَمَامه) فِي الْقسم الثَّانِي من الْوَقْت الْمُقَيد بِهِ
الْوَاجِب. (وَالثَّانِي) من أَقسَام القَوْل بِالْمُوجبِ
(إبِْطَال مَا ظن من مَأْخَذ خَصمه) ومبني مذْهبه فِي المسئلة
الخلافية، يَعْنِي إِبْطَاله من حَيْثُ كَونه مأخذا، فَيجوز
أَن يكون فِي حد ذَاته صَحِيحا، غير أَنه لَيْسَ مأخذا للخصم:
وَهَهُنَا مُسَامَحَة، إِذْ الثَّانِي مِنْهُ لَيْسَ نفس
الْإِبْطَال، إِذْ حَقِيقَته تَسْلِيم مَدْلُول الدَّلِيل مَعَ
بَقَاء النزاع على مَا مر، غير أَنه هُنَا مُتَضَمّن
الْإِبْطَال الْمَذْكُور على مَا سَيَجِيءُ (كفى الْقَتْل
بالمثقل) أَي مِثَاله مثل أَن يُقَال فِي مسئلة الْقَتْل
بالمثقل إِذا اسْتدلَّ الْحَنَفِيّ على نفي الْقَتْل بِهِ،
فَقَوله قتل بمثقل فَلَا يقتل بِهِ كالعصا الصَّغِيرَة
(للمعترض) الشَّافِعِي أَن يَقُول هُوَ كَالْقَتْلِ
بِالسَّيْفِ لَا تفَاوت بَينهمَا إِلَّا فِي الْوَسِيلَة
الَّتِي هِيَ الْآلَة، ثمَّ التَّفَاوُت فِي الْوَسِيلَة مَا
ظن مأخذا فِي مسئلة الْقَتْل بالمثقل فِي اسْتِدْلَال
الْحَنَفِيّ على نفي الْقَتْل بِهِ (التَّفَاوُت فِي
الْوَسِيلَة لَا يمْنَع الْقصاص) كالمتوسل إِلَيْهِ، وَهُوَ
أَنْوَاع الْجِرَاحَات القاتلة (فَيَقُول) الْحَنَفِيّ قَائِلا
بِالْمُوجبِ: إِنِّي أَقُول بِأَن التَّفَاوُت فِيهَا لَا
يمْنَع، لَكِن (الْمَانِع) من الْقصاص (غَيره) أَي غير
التَّفَاوُت فِي الْوَسِيلَة (وَنفي مَانع) خَاص (لَيْسَ نفي
الْكل) أَي كل الْمَوَانِع، وَلَا يثبت مقصدك إِلَّا بِنَفْي
(4/125)
الْكل (وَيصدق) إِذا قَالَ هَذَا لَيْسَ
مأخذي: أَي مَأْخَذ إمامي (لعدالته) وَكَونه أعرف بمذهبه أَو
مَذْهَب إِمَامه، وَقيل: لَا يصدق إِلَّا بِبَيَان مَأْخَذ آخر
لاحْتِمَال أَن يكون قَوْله على سَبِيل المعاندة. وَلَا يخفى
أَن مثل هَذَا لَا يتَوَهَّم فِي حق الْعدْل الطَّالِب
للصَّوَاب، فقد أبطل الْقَائِل بِالْمُوجبِ كَون التَّفَاوُت
الْمَذْكُور مأخذا لَهُ فِيمَا ذهب إِلَيْهِ من عدم الْقصاص
لتسليمه عدم مانعيته وإثباته مَانِعا آخر. (وَالثَّالِث) من
أَقسَام القَوْل بِالْمُوجبِ (أَن يسكت) الْمُسْتَدلّ (عَن
مُقَدّمَة) غير مَشْهُورَة (يظنّ الْعلم بهَا) أَي يظنّ أَن
الْخصم يعلم تِلْكَ الْمُقدمَة فَلَا حَاجَة إِلَى ذكرهَا
(فَيسلم) الْمُعْتَرض (الْمَذْكُورَة) من الْمُقدمَات (و) قد
(بَقِي النزاع فِي) الْمُقدمَة (المطوية) للظن الْمَذْكُور
(نَحْو) قَول الْمُسْتَدلّ (مَا ثَبت) شرعا من فعل الْمُكَلف
كَونه (قربَة) وَعبادَة (فشرطه النِّيَّة كَالصَّلَاةِ) فَإِن
صِحَّتهَا مَشْرُوطَة بِالنِّيَّةِ (وطوى) ذكر قَوْله
(وَالْوُضُوء قربَة فَيَقُول) الْمُعْتَرض مَا ذكرته من
اشْتِرَاط النِّيَّة فِيمَا ثَبت قربَة (مُسلم، وَمن أَيْن
يلْزم أَن الْوضُوء شَرطه النِّيَّة) وَلم يطو الصُّغْرَى
لتعين الْمَنْع، وَهُوَ أَنه لَا نسلم أَن الْوضُوء ثَبت قربَة
بِحَيْثُ لَا يَخْلُو عَن وصف الْقرْبَة، فَلَا يكون من
القَوْل بِالْمُوجبِ (قَالُوا) أَي الجدليون (لَا بُد فِيهِ)
أَي فِي القَوْل بِالْمُوجبِ (من انْقِطَاع أَحدهمَا) أَي
المتناظرين (إِذْ) فِي الْقسم الأول (لَو بَينه) أَي الْمُعَلل
مُرَاده بِحَيْثُ لَا يبْقى للخصم مجَال إِثْبَات حكم أثْبته
ذَلِك الْمُعَلل. ثمَّ ادّعى أَن النزاع فِي غير (مَحل النزاع)
بدل من الضَّمِير الْمَنْصُوب، وَيحْتَمل أَن يكون فِي
الْكَلَام حذف وإيصال، وَالتَّقْدِير لَو بَين لَهُ: أَي للخصم
مَحل النزاع (أَو ملزومه) أَي ملزوم مَحل النزاع، فَإِن بَيَان
الْمَلْزُوم بَيَان اللَّازِم (أَو) بَين الْمُعْتَرض الْمُدعى
بطلَان المأخذ فِي الْقسم الثَّانِي (أَنه) أَي مَا ظن أَنه
مَأْخَذ الْمُعَلل (مأخذه) فِي نفس الْأَمر، يبْقى مأخذية مَا
سواهُ بِالدَّلِيلِ (أَو) بَين الْمُعَلل فِي الْقسم الثَّالِث
(كَيْفيَّة) الْمُقدمَة (المحذوفة) على وَجه ينْتج مَطْلُوبه
(انْقَطع الْمُعْتَرض) الْقَائِل بِالْمُوجبِ جَوَاب لَو،
يَعْنِي إِذا لم يكن لَهُ مجَال بحث آخر غير القَوْل
بِالْمُوجبِ (وَإِلَّا) أَي أَي وَإِن لم يتَحَقَّق شَيْء
مِمَّا ذكر من بَيَان مَحل النزاع والمأخذ والكيفية انْقَطع
(الْمُسْتَدلّ) إِذْ قد ظهر عدم إفضاء دَلِيله إِلَى مَطْلُوبه
(واستبعد) انْقِطَاع أَحدهمَا (فِي) الْقسم (الْأَخير)
والمستبعد ابْن الْحَاجِب (إِذْ مُرَاد الْمُسْتَدلّ أَن
الْمَتْرُوك) المطوي ذكره (كالمذكور) لظُهُوره (و) مُرَاد
(الْمُعْتَرض أَن الْمَذْكُور وَحده لَا يُفِيد، فَإِذا ذكر)
الْمُسْتَدلّ (أَنه) أَي الدَّلِيل (الْمَجْمُوع) من
الْمَذْكُور والمسكوت (لَا الْمَذْكُور وَحده وَحذف
الْمَعْلُوم شَائِع) كَانَ (لَهُ) أَي أَي للمعترض (الْمَنْع)
أَي منع استلزام الْمَجْمُوع، أَو كَون ذَلِك المطوي حَقًا
(وَاسْتمرّ الْبَحْث) فَإِن سلم انْقَطع (وَكَذَا لَا يخفى بعد
قَوْلهم) أَي الجدليين بَيَان انْقِطَاع أَحدهمَا فِي الْقسم
الثَّانِي
(4/126)
لَو بَين الْمُسْتَدلّ (أَنه) أَي مَا ظن
كَونه مأخذا للخصم (مأخذه) فِي نفس الْأَمر (بل يَقُول
الْمُعْتَرض مأخذي غَيره) من غير تعْيين فَإِنَّهُ يَكْفِي فِي
اندفاع ذَلِك الْإِبْطَال، وَكَذَا يتَعَيَّن مأخذه فِيمَا ذهب
إِلَيْهِ، ومتعلق الْجَار قَوْله انْقَطع الْمُسْتَدلّ إِن لم
يكن لَهُ مجَال طعن فِيمَا بَين وَإِلَّا: أَي وَإِن لم يبين
أَن مأخذه غَيره (أَو كَذَا انْقَطع) الْمُعْتَرض وَإِن لم
يدْفع إبِْطَال الْمُسْتَدلّ لما ذكر، وَوجه الْبعد أَن
الْمُعْتَرض لما ظن أَن مَأْخَذ الْمُسْتَدلّ فِيمَا ذهب
إِلَيْهِ كَذَا فأبطله تعين أَن يَقُول (الْمُسْتَدلّ) فِي
دَفعه أَن مأخذي غَيره، أَو كَذَا أَن تيَسّر لَهُ، وَإِلَّا
انْقَطع، هَذَا على مَا هُوَ الظَّاهِر، وَأما إِثْبَات
الْمُسْتَدلّ أَنه لَا مَأْخَذ لَك سوى هَذَا وَهُوَ بَاطِل،
فَلَا يخفى بعده لِأَنَّهُ أعرف بمأخذه، فَيَنْبَغِي أَن
يُفَوض إِلَيْهِ بَيَان المأخذ، ثمَّ يظْهر وَجه اخْتِصَاص
انْقِطَاع بعده لِأَنَّهُ أعرف بمأخذه، فَيَنْبَغِي أَن يُفَوض
إِلَيْهِ بَيَان المأخذ، ثمَّ يظْهر وَجه اخْتِصَاص انْقِطَاع
أحد المتناظرين بالْقَوْل بِالْمُوجبِ، بل يجْرِي فِي غَيره
أَيْضا (وَظهر) من تَفْصِيل أَقسَام القَوْل بِالْمُوجبِ (أَن
قَول الْحَنَفِيَّة أَنه) أَي القَوْل بِالْمُوجبِ (يلجئ أهل
الطَّرْد) وَقد مر تَفْسِيره (إِلَى القَوْل بالتأثير)
المستلزم عدم ثُبُوت الْعلية بِمُجَرَّد الطَّرْد (لِأَنَّهُ)
أَي الْمُعْتَرض تَعْلِيل للإلجاء (لما سلم مُوجب علته) أَي
الْمُسْتَدلّ لقَوْله بِمَا اقتضته علته كَعَدم مانعية
الْقَتْل بالمثقل الْقصاص لعدم تَأْثِير التَّفَاوُت فِي
الْوَسِيلَة (مَعَ بَقَاء الْخلاف) بَينهمَا فِي المسئلة
(احْتَاجَ) أهل الطَّرْد (إِلَى معنى مُؤثر) فِي الحكم
الْحَاصِل فِيمَا يدعى عليته (غير وَاقع) خبر أَن، وَمعنى عدم
وُقُوع القَوْل عدم وُقُوع مقوله، وَهُوَ الإلجاء الْمَذْكُور،
أَو القَوْل بِمَعْنى الْمَقُول. ثمَّ علل عدم الْوُقُوع بقوله
(لِأَن غَايَة مَا يلْزمه) أَي الْمُعَلل (الْجَواب) عَن
القَوْل بِالْمُوجبِ (بِمَا ذكرنَا) من بَيَان مَحل النزاع،
أَو ملزومه أَو مأخذه أَو كَيْفيَّة الْمَحْذُوف (وَلَيْسَ
مِنْهُ) أَي مِمَّا ذكرنَا (ذَلِك) أَي القَوْل بالتأثير أَو
الْمَعْنى الْمُؤثر وَالْحَاصِل أَنه لَا يلْزم الْمُعَلل
إِلَّا مَا ذكرنَا، وَمَا قَالَه الْحَنَفِيَّة لَيْسَ مِنْهُ
(وَبعد التَّمَكُّن من الْقيَاس) فَالْجَوَاب عَن الاستفسار
والتقسيم على مَا عرفت (وتحرير مَحل النزاع يشرع) الْمُسْتَدلّ
(فِيهِ) أَي الْقيَاس وَأول مقدماته حكم الأَصْل ثمَّ علته)
أَي عِلّة حكم الأَصْل يرد (ثمَّ ثُبُوتهَا) أَي علته (فِي
الْفَرْع مَعَ الشُّرُوط) الْمُعْتَبرَة فِي الْعلَّة وَالْحكم
(الأول) أَي حكم الأَصْل يرد (عَلَيْهِ منع حكم الأَصْل) أَي
منع ثُبُوتهَا مَا هُوَ حكم الأَصْل فِي ظن القائس فِي الأَصْل
فِي نفس الْأَمر، كَانَ مُقْتَضى الظَّاهِر أَن يَقُول
عَلَيْهِ الْمَنْع من غير ذكر حكم الأَصْل، لِأَن إرجاع ضمير
عَلَيْهِ إِلَيْهِ يُغني عَنهُ، لِأَن هَذَا الْمركب: أَعنِي
منع حكم الأَصْل صَار كَالْعلمِ لهَذَا النَّوْع من الْمَنْع،
وَلذَلِك منع وجود الْعلَّة وَمنع كَونه عِلّة، وَالْمَنْع
أساس المناظرة، فَلَا يتَجَاوَز إِلَى غَيره إِلَّا بِسَبَب
دَاع إِلَيْهِ، وَهل هُوَ قطع للمستدل، قيل نعم إِذْ
الِاشْتِغَال بِإِثْبَات مَا منع انْتِقَال
(4/127)
إِلَى حكم آخر مثل الأول. (وَالصَّحِيح)
أَن مجرده (لَيْسَ قطعا) للمستدل (وَأَنه) أَي هَذَا الْمَنْع
(يسمع إِلَّا أَن اصْطَلحُوا) أَي أهل بلد المناظرة على عده
قطعا، أَو على صَوْم سَمَاعه كَمَا قَالَ الْغَزالِيّ، من أَنه
يتبع عرف الْمَكَان واصطلاح أَهله، وَهَذَا أَمر وضعي لَا
مدْخل لِلْعَقْلِ وَالشَّرْع فِيهِ، وَلَا مشاحة فِي
الِاصْطِلَاح (وَهُوَ) أَي عدم سَمَاعه إِذا اصْطَلحُوا
عَلَيْهِ (محمل) قَول (أبي إِسْحَق) الشِّيرَازِيّ على مَا
ذكره ابْن الْحَاجِب من أَنه لَا يسمع هَذَا الْمَنْع من
الْمُعْتَرض وَلَا يلْزم الْمُسْتَدلّ الدّلَالَة على ثُبُوت
حكم الأَصْل فينتفى استبعاده بِأَن غَرَض الْمُسْتَدلّ
إِقَامَة الْحجَّة على خَصمه وَلَا يقوم عَلَيْهِ مَعَ كَون
أَصله مَمْنُوعًا، وَأَن قيام الدَّلِيل عَلَيْهِ جُزْء
الدَّلِيل وَلَا يثبت الدَّلِيل إِلَّا بِثُبُوت جَمِيع
أَجْزَائِهِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا لَيْسَ قطعا (لِأَنَّهُ) أَي
هَذَا الْمَنْع (منع بعض مُقَدمَات دَلِيله) أَي الْمُسْتَدلّ،
وكما لَا يكون منع غير هَذَا الْبَعْض قطعا فَكَذَا وَهَذَا
(وَإِلَّا) لَو كَانَ قطعا (فَكل منع قطع) إِذْ لَو فرق بَين
المنوع (وَكَونه) أَي الْمُسْتَدلّ (بِهِ) أَي بِهَذَا
الْمَنْع (ينْتَقل إِلَى) حكم شَرْعِي هُوَ حكم الأَصْل (مثل
الأول) وَهُوَ حكم الْفَرْع (لَا يضر إِذا توقف) الأول
(عَلَيْهِ) أَي الْمُنْتَقل إِلَيْهِ سَوَاء (وَسعه) أَي
إِثْبَات مَا منع (مجْلِس) وَاحِد (أَو مجَالِس) مُتعَدِّدَة
كَمَا لَو منع علية الْعلَّة أَو وجودهَا (وَلَو تعارفه) أَي
كَون هَذَا الْمَنْع قطعا (طَائِفَة أُخْرَى) غير طَائِفَة
الْمُسْتَدلّ لَا يضرّهُ إِذْ (لم يلْزم الْمُسْتَدلّ عرفهم)
إِذْ لم يلتزمه (ثمَّ لَا يَنْقَطِع الْمُعْتَرض بِإِقَامَة
دَلِيله) أَي دَلِيل حكم الأَصْل من الْمُسْتَدلّ من غير أَن
تكون مقدماته مسلمة عِنْده (على الْمُخْتَار، إِذْ لَا يلْزم
صِحَّته) أَي الدَّلِيل (من صورته فَلهُ) أَي للمعترض
(الِاعْتِرَاض على مقدماته) أَي الدَّلِيل الْمَذْكُور، وَقيل
يَنْقَطِع لِأَنَّهُ يسْتَلْزم الْخُرُوج عَن الْمَقْصُود
الْأَصْلِيّ، وَقد عرفت مَا فِيهِ. (وَأما معارضته) أَي حكم
الأَصْل بِإِقَامَة الْمُعْتَرض دَلِيلا على خِلَافه بعد مَا
أَقَامَ الْمُسْتَدلّ دَلِيلا عَلَيْهِ فَاخْتلف فِيهِ (فَقيل
لَا) يسمع (لِأَنَّهُ غصب لمنصب الِاسْتِدْلَال) الَّذِي هُوَ
حق الْمُسْتَدلّ، وَالْإِضَافَة بَيَانِيَّة، وَذهب جُمْهُور
الْمُحَقِّقين من الْفُقَهَاء والمتكلمين إِلَى قبُولهَا،
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَلَيْسَ) الْإِيرَاد بالمعارضة
بِغَصب (وَإِلَّا) لَو كَانَ غصبا (منعت) الْمُعَارضَة
(مُطلقًا) لغير مَا ذكر وَلَيْسَت مَمْنُوعَة اتِّفَاقًا.
(وَقَوله) أَي الْمَانِع لقبولها (يصير) الْمُعْتَرض بهَا
(مستدلا فِي نفس صُورَة المناظرة) من غير تَبْدِيل بِصُورَة
أُخْرَى (إِن أَرَادَ فِي عين دَعْوَى الْمُسْتَدلّ فمنتف) أَي
فالاستدلال فِي عين دَعْوَاهُ مُنْتَفٍ، كَيفَ وَهُوَ يسْتَدلّ
على خلَافهَا (أَو) أَرَادَ (فِي تِلْكَ المناظرة فَلَا بَأْس)
بِهِ (كمعارضة الدَّلِيل) وَهِي إِقَامَة الدَّلِيل على خلاف
مدعي دَلِيل الْخصم (وَلَا تتمّ المناظرة) أَي لَا تَنْتَهِي
(إِلَّا بِانْقِطَاع أَحدهمَا) انْقِطَاعًا اعْتَبرهُ
المتناظرون (مِثَاله) أَي مِثَال الأول، أَعنِي منع حكم
الأَصْل (للشَّافِعِيَّة جلد الْخِنْزِير لَا يقبل الدباغة)
أَي لَا يطهر بهَا (لنجاسة
(4/128)
عينه) والدباغة لَا تزيل الْعين بل رطوباته
النَّجِسَة (كَالْكَلْبِ) أَي كَمَا أَن جلد الْكَلْب لَا
يقبلهَا لنجاسة عينه فَحكم الأَصْل الَّذِي هُوَ جلد الْكَلْب
عدم قبُوله إِيَّاهَا (فَيمْنَع كَون جلد الْكَلْب لَا
يقبلهَا، و) مِثَاله حكم الأَصْل (فِي الْعِلَل الطردية)
الْمَنْع الْوَارِد فِي قَوْلهم (الْمسْح ركن فَيسنّ تكريره)
لركنيته (كالغسل) أَي كَمَا أَن الْغسْل يسن تكريره لركنيته
(فَيمْنَع سنية تَكْرِير الْغسْل) الَّذِي هُوَ الأَصْل (بل)
السّنة فِي الْغسْل (إكماله، غير أَنه) أَي الْغسْل (استغرق
مَحَله) الَّذِي هُوَ تَمام الْوَجْه وَالْيَدَيْنِ
وَالرّجلَيْنِ إِلَى الْمرْفقين والكعبين، فَلَا يتَصَوَّر
إكماله باستيعابه مَحَله، فَإِن أصل الْفَرْض لَا يُؤَدِّي
بِدُونِ الِاسْتِيعَاب (فَكَانَ) إكماله أَي الْغسْل (بتكريره،
بِخِلَاف الْمسْح) فَإِنَّهُ لم يسْتَغْرق مَحَله من حَيْثُ
الْفَرْضِيَّة، فَإِن الْمَفْرُوض فِيهِ ربع الرَّأْس
(فتكميله) أَي الْمسْح (باستيعابه) أَي الْمحل بِهِ فَإِن قلت
إِذا كَانَت السّنة إِلَّا كَمَال الْمُطلق وَهُوَ يحصل بِأحد
الْأَمريْنِ فَلم عينتم الِاسْتِيعَاب قلت: ثَبت من الشَّارِع
الِاسْتِيعَاب لَا التَّثْلِيث (وَقَوْلهمْ) أَي
الشَّافِعِيَّة صَوْم رَمَضَان (صَوْم فرض) . وَفِي بعض النّسخ
وَفِي وَجَوَاب مَرْدُود قَوْلهم إِلَى آخِره: أَي ومثاله فِي
جَوَاب من يردد قَوْلهم (فَيجب تَعْيِينه) بِالنِّيَّةِ
(كالقضاء) أَي كَمَا أَن قَضَاء رَمَضَان صَوْم فرض يجب
تَعْيِينه بِالنِّيَّةِ (فَيُقَال: إِن) كَانَ المُرَاد وجود
تَعْيِينه بِالنِّيَّةِ (بعد تعْيين الشَّرْع) الزَّمَان (لَهُ
ف) هُوَ (مُنْتَفٍ فِي الأَصْل) أَي الْقَضَاء فَإِن الشَّارِع
لم يعين لَهُ زَمَانا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن المُرَاد
مَا ذكر بل وجوب تَعْيِينه بِالنِّيَّةِ من غير تعْيين
الشَّرْع الزَّمَان لَهُ (فَفِي الْفَرْع) أَي فَهَذَا
مُنْتَفٍ فِي صَوْم رَمَضَان لتعيين الشَّرْع الزَّمَان لَهُ.
(الثَّانِي) أَي عِلّة حكم الأَصْل يرد (عَلَيْهِ منوع:
أَولهَا منع وجود الْعلَّة فِي الأَصْل، مِثَاله
للشَّافِعِيَّة فِي الْكَلْب) الْكَلْب (حَيَوَان يغسل)
الْإِنَاء (من ولوغه سبعا فَلَا يطهر) جلده (بالدباغة
كالخنزير) فَإِنَّهُ حَيَوَان يغسل الْإِنَاء من ولوغه سبعا
(فَيمْنَع كَون الْخِنْزِير يغسل) الْإِنَاء من ولوغه (سبعا و)
مِثَاله لَهُم أَيْضا (فِي) الْعِلَل (الطردية) فِي استنان
تثليث الْمسْح مسح الرَّأْس (مسح فَيسنّ تثليثه كالاستنجاء)
فَإِنَّهُ مسح فَيسنّ تثليثه (فَيمْنَع كَون الِاسْتِنْجَاء
طَهَارَة مسح، بل) الِاسْتِنْجَاء طَهَارَة (عَن) النَّجَاسَة
(الْحَقِيقِيَّة) قصد بِهِ إِزَالَتهَا، فَلَا يُقَاس عَلَيْهِ
مَا قصد بِهِ إِزَالَة النَّجَاسَة الْحكمِيَّة لعدم وجود
الْعلَّة الَّتِي هِيَ طَهَارَة مسح فِي الأَصْل، وَهُوَ
الِاسْتِنْجَاء: وَمن ثمَّة كَانَ غسلهَا بِالْمَاءِ أفضل
والاستنجاء علته إِذا لم يتلوث شَيْء من ظَاهر بدنه.
(وَجَوَابه) أَي هَذَا الْمَنْع (بِإِثْبَات وجوده) أَي
الْوَصْف الَّذِي هُوَ الْعلَّة فِي الأَصْل (حسا) أَي وجودا
حسيا إِن كَانَ الْوَصْف من الحسيات (أَو عقلا) أَي عقليا
كَانَ من العقليات (أَو شرعا
(4/129)
إِن كَانَ من الْأَوْصَاف الَّتِي اعتبرها
الشَّرْع (ثَانِيهَا) أَي النَّوْع (منع كَونه) أَي الْوَصْف
الْمُدعى عليته فِي الأَصْل (عِلّة، وَهُوَ) أَي هَذَا
الْمَنْع (قَول الْحَنَفِيَّة) أَي المُرَاد بقَوْلهمْ (منع
نسبته) أَي الحكم (إِلَيْهِ) أَي الْوَصْف، هَكَذَا نُسْخَة
الشَّارِح. وَفِي نُسْخَة أُخْرَى منع نِسْبَة الحكم إِلَيْهِ
وَهُوَ الْأَظْهر. وَاخْتلف فِي قبُوله، فَقيل لَا يقبل.
(وَالصَّحِيح قبُوله: لِأَن الْقيَاس المورد عَلَيْهِ) هَذَا
الْمَنْع (مُسَاوَاة فِي) وصف (مُشْتَرك) مَوْجُود فِي الأَصْل
وَالْفرع (تظن الإناطة) أَي إناطة الحكم (بِهِ) أَي بذلك
الْوَصْف الْمُشْتَرك فَهُوَ منَاط الحكم بِحَسب ظن
الْمُجْتَهد، وَهَذَا لَا يسْتَلْزم كَونه مناطا بِحَسب نفس
الْأَمر لِئَلَّا يقبل الْمَنْع (وَأما مُسَاوَاة فرع الأَصْل
فِي عِلّة حكمه) عِنْد الشَّارِع (فَالْقِيَاس) أَي فَهِيَ
الْقيَاس (فِي نفس الْأَمر) وَهُوَ لَيْسَ بالمورد عَلَيْهِ.
فِي الشَّرْح العضدي قَالُوا أَولا: الْقيَاس حَده وَحَقِيقَته
إِنَّه إِلْحَاق فرع بِأَصْل بِجَامِع وَقد حصل، وَإِذا ثَبت
مدعاه فَلَا يُكَلف بِإِثْبَات مَا لم يَدعه وَالْجَوَاب لَا
نسلم أَن حد الْقيَاس وَحَقِيقَته ذَلِك، بل إِلْحَاق فرع
بِأَصْلِهِ بِجَامِع يظنّ صِحَّته وَلم يُوجد هَذَا الْقَيْد
(قَالُوا) أَي المانعون قبُول هَذَا الْمَنْع (عدوله) أَي
الْمُعْتَرض من الْإِبْطَال (إِلَى الْمَنْع) الْمُجَرّد عَن
السَّنَد (دَلِيل عَجزه عَن إِبْطَاله) أَي إبِْطَال كَون
الْوَصْف عِلّة للْحكم (أَي نقضه) . وَفِي الشَّرْح
الْمَذْكُور قَالُوا ثَانِيًا: عجز عَن إبِْطَال دَلِيل
صِحَّته، إِذْ طَرِيق عدم الْعلية من كَون الْوَصْف طرديا
وإبداء وصف آخر وَغير ذَلِك مِمَّا لَا يخفى على الْمُجْتَهد
والمناظر، فَلَو وجد لوجده، وَلَو وجده لأظهره فالفرار إِلَى
مُجَرّد الْمَنْع يكفينا دَلِيلا على أَنه صَحِيح، فَلَا يسمع
الْمَنْع وَلَا يشْتَغل بجوابه، لِأَنَّهُ شَاهد على نَفسه
بِالْبُطْلَانِ، وَالْمُصَنّف أَشَارَ إِلَى بعض مُقَدمَات
دليلهم الأول فِي ضمن تعليليه للصحيح، وَإِلَى الْبَعْض الآخر
فِي ضمن دليلهم الثَّانِي مَعَ تَغْيِير فِي التَّقْرِير كَمَا
ترى (لِأَن مرجعه) أَي النَّقْض (إِلَى منع) مقرون
(بِسَنَدِهِ) فَإِنَّهُم ردوا النَّقْض الإجمالي إِلَى منع
مُسْند كَمَا سَيَجِيءُ، وَهَذَا تَعْلِيل لكَون هَذَا
الْمَنْع عُدُولًا عَن النَّقْض الَّذِي لَا بُد فِيهِ من
مُسْتَند فَإِنَّهُ قد ادّعى ضمنا (أَو كَونه) أَي كَون
الْوَصْف الْمَذْكُور (طرديا) لَا تَأْثِير لَهُ فِي الحكم
مَعْطُوف على نقضه، فَإِن الْإِبْطَال كَمَا يحصل بِالنَّقْضِ
يحصل بِبَيَان كَون الْوَصْف طرديا، فَإِن التَّأْثِير لَا بُد
مِنْهُ فِي وصف الْقيَاس (أما) الْمَنْع (بِغَيْرِهِ) أَي غير
مَا ذكر من النَّقْض والطردية (فغصب) من الْمُعْتَرض
(لِأَنَّهُ) أَي الْمُسْتَدلّ (لم يسْتَدلّ عَلَيْهِ) أَي على
حكم الأَصْل بِأَن يَدعِي ثُبُوت الحكم فِي الأَصْل مُعَللا
بِوُجُود مَا هُوَ عِلّة الحكم فِيهِ حَتَّى تكون عليته من
مُقَدمَات الدَّلِيل، فَيتَّجه عَلَيْهَا الْمَنْع، وَإِنَّمَا
ادّعى إِلْحَاق الْفَرْع بِالْأَصْلِ لاشْتِرَاكهمَا فِي
الْعلَّة وَالْعلَّة للْحكم أَمر مفروغ مِنْهُ، فَإِذن علم أَن
منصب الْمُعْتَرض لَيْسَ سوى النَّقْض بِبَيَان تخلف الحكم عَن
الْعلَّة وَبَيَان طردية
(4/130)
الْوَصْف وَمَا سواهُ غصب، وَالْمَنْع
الْمَذْكُور وَلَيْسَ مِنْهُمَا، وارتكاب الْغَصْب دَلِيل
الْعَجز: وَهَذَا عِنْد الْبَعْض، وَعند غَيره لَيْسَ بِغَصب
لِأَنَّهُ وَإِن لم يسْتَدلّ عَلَيْهِ لكنه مِمَّا يتَوَقَّف
عَلَيْهِ صِحَة مَا اسْتدلَّ عَلَيْهِ من حكم الْفَرْع، وَيرد
عَلَيْهِ أَن تَعْلِيله على هَذَا الْوَجْه يُنَافِي اتفاقه
مَعَ غَيره على تَقْدِير الِاسْتِدْلَال: اللَّهُمَّ إِلَّا
أَن يُقَال أَنه لَا يقبل هَذَا الْمَنْع مُطلقًا غير أَنه
يسْتَدلّ لعدم الْقبُول فِي كل صُورَة بطرِيق (وَإِلَّا) لَو
فرض أَنه اسْتدلَّ عَلَيْهِ، فَعِنْدَ ذَلِك (لم يسمع الْمَنْع
اتِّفَاقًا) من الجدليين المانعين لقبُول هَذَا الْمَنْع
وَغَيرهم (لِأَنَّهُ) أَي الْمَنْع (بعد إِقَامَة الدَّلِيل
غير مُنْتَظم) عقلا (لِأَنَّهُ) أَي الْمَنْع (طلبه) أَي
الدَّلِيل (وَقد حصل) الدَّلِيل فَطَلَبه تَحْصِيل الْحَاصِل،
وَيرد عَلَيْهِ أَنه لم يسْتَدلّ على علية الْعلَّة حَتَّى
يلْزمه تَحْصِيل الْحَاصِل، بل على حكم الأَصْل. فَالْوَجْه
أَن لَا يُفَسر الضَّمِير فِي لم يسْتَدلّ عَلَيْهِ بِحكم
الأَصْل كَمَا ذهب إِلَيْهِ الشَّارِح بعلية الْوَصْف (بل)
الْمَنْع إِنَّمَا يكون (فِي مقدماته) أَي الدَّلِيل، وعَلى
تَقْدِير عدم الِاسْتِدْلَال مَا ثمَّ مُقَدمَات لتمنع فَإِن
قلت: قد سبق أَن النَّقْض منع بِسَنَد فَمَا الْفرق بَينه
وَبَين الْمَنْع بِلَا سَنَد الْمُوجب سَماع أَحدهمَا قبل
الِاسْتِدْلَال دون الآخر قلت: الْفرق أَن الْمَنْع بِلَا
سَنَد مورده الْمُقدمَة الْمعينَة، وَحَيْثُ لَا اسْتِدْلَال
لَا تعْيين للمقدمات، وَأما الَّذِي منع السَّنَد فمورده
مُقَدّمَة لَا على التَّعْيِين والمستدل لَا بُد لَهُ من
دَلِيل قبل إبراز الدَّلِيل فَهُوَ بمقدماته مَعْلُوم
إِجْمَالا، وَهَذَا الْقدر يَكْفِي فِي النَّقْض الإجمالي
(قُلْنَا الْمُلَازمَة) الَّتِي ادَّعَاهَا المانعون بَين
الْعُدُول إِلَى الْمَنْع وَالْعجز عَن الْإِبْطَال
(مَمْنُوعَة) لجَوَاز الْعُدُول مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ
لنكتة كالامتحان للمستدل هَل يقدر على إِثْبَات الْعلية أم لَا
(وَلَو سلمت) الْمُلَازمَة (لَا يلْزم) من عَجزه عَن إبِْطَال
كَون الْوَصْف عِلّة (صِحَّته) أَي صِحَة كَونه عِلّة فِي نفس
الْأَمر (لانتفاضه) أَي هَذَا الدَّلِيل (بِكَثِير) من الصُّور
الَّتِي يعجز فِيهَا الْمُعْتَرض عَن إبِْطَال الْمُدعى، وَلم
يقل بِصِحَّتِهِ أحد، وَإِذا كَانَت هَذِه الْمُلَازمَة
الَّتِي جعلت دَلِيل الصِّحَّة منقوضة كَانَت غير مستلزمة
لَهَا، فَبَقيَ صِحَة الْعلية مشكوكة، وَالْعلم بِصِحَّة
الْقيَاس مَوْقُوف على الْعلم بِصِحَّتِهَا، ثمَّ فِي نُسْخَة
(إِذْ يلْزم صِحَة كل مَا عجز الْمُعْتَرض عَن إِبْطَاله
حَتَّى دَلِيل الْحُدُوث) . وَفِي الشَّرْح العضدي وَالْجَوَاب
أَنه يَقْتَضِي أَن كل صُورَة عجز الْمُعْتَرض عَن إِبْطَالهَا
فَهُوَ صَحِيح حَتَّى دَلِيل الْحُدُوث وَالْإِثْبَات، بل
حَتَّى دَلِيل النقيضين إِذا تَعَارضا، وَعجز كل عَن إبِْطَال
دَلِيل الآخر انْتهى. قَالَ الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ:
يَعْنِي حُدُوث الْعَالم أَو إِثْبَات الصَّانِع، فَإِن
الْمَطْلُوب وَإِن كَانَ حَقًا لَكِن لَا يَصح دليلهما
بِمُجَرَّد عجز الْمُعْتَرض عَن إِبْطَاله، بل لَا بُد من وَجه
دلَالَة وَصِحَّة تَرْتِيب (وَإِذا بَينه) أَي الْمُسْتَدلّ
كَون الْوَصْف عِلّة (بِنَصّ لَهُ) أَي للمعترض (الِاعْتِرَاض
بِمَا يُمكن) الِاعْتِرَاض بِهِ (على ذَلِك السمعي) من منع
دلَالَته وَصَرفه عَن الظَّاهِر
(4/131)
بدليله وطعنه فِي السَّنَد إِلَى غير ذَلِك
(ومعارضته) بِنَصّ آخر مقاوم لَهُ مَعْطُوف على الِاعْتِرَاض
فَعلم أَن الْمُعَارضَة لَا تسمى إعْرَاضًا، بل لَا بُد فِيهِ
من التَّعَرُّض لدَلِيل الْمُسْتَدلّ (وَكَذَا الْإِجْمَاع)
أَي إِذا بَين كَون الْوَصْف عِلّة بِالْإِجْمَاع للمعترض
الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ بِمَا يُمكن من منع وجود الْإِجْمَاع
لصريح الْمُخَالفَة، وَمنع دلَالَته على كَون الْوَصْف عِلّة
وطعنه فِي طَرِيق الْإِخْبَار عَنهُ (وَيزِيد) فِي بَيَانه
بِالْإِجْمَاع الِاعْتِرَاض (بِنَفْي كَونه) أَي الْإِجْمَاع
(دَلِيلا بِنَحْوِ كَون السُّكُوت يفِيدهُ) أَي الْوِفَاق
المستلزم للْإِجْمَاع، وَالْبَاء فِي قَوْله بِنَحْوِ
للسَّبَبِيَّة مُتَعَلقَة بِكَوْنِهِ دَلِيلا، فَإِن قسما من
الْإِجْمَاع صَيْرُورَته إِجْمَاعًا دَالا على ثُبُوت الحكم
الشَّرْعِيّ إِنَّمَا هُوَ بقول الْبَعْض وسكوت البَاقِينَ،
وَعدم الْإِنْكَار على الْقَائِل مَعَ عدم الْعلم بقوله قبل
اسْتِقْرَار الْمَذْهَب، وَفِيه اخْتِلَاف على مَا بَين فِي
مَوْضِعه وَإِنَّمَا قَالَ بِنَحْوِ ليشْمل أقساما أخر مِنْهُ
مِمَّا اخْتلف فِيهِ: فَالْمَعْنى أَن الْمُعْتَرض يَنْفِي
كَونه دَلِيلا وإجماعا بِسَبَب مَا ذكرنَا، السَّبَبِيَّة قيد
للمنفي لَا النَّفْي، وَيحْتَمل أَن يتَعَلَّق الْبَاء
بِالنَّفْيِ فَيكون قيدا للنَّفْي (إِن كَانَ) الْإِجْمَاع
الْمُثبت بِهِ الْعلية (مِنْهُ) أَي من نَحْو الْإِجْمَاع
السكوتي (أَو) بَينه (بِغَيْرِهِمَا) أَي النَّص وَالْإِجْمَاع
(من) مَسْلَك (مُخْتَلف) فِيهِ (كالدوران لَهُ) منع صِحَّته
(وَللْآخر) أَي الْمُسْتَدلّ (إِثْبَاتهَا) أَي صِحَّته
(وَقَول بعض الْحَنَفِيَّة) كصاحب الْمنَار هَذَا الْمَنْع
(يلجئ أهل الطَّرْد) الْقَائِل بالدوران (إِلَى القَوْل
بالتأثير) وَاعْتِبَار الشَّرْع علية الْوَصْف على التَّفْصِيل
الْمَذْكُور وَعدم الِاكْتِفَاء بِمُجَرَّد الدوران
(لِأَنَّهُ) أَي الْمُعْتَرض (لَا يقبل غَيره) أَي غير
الْمُؤثر فيضطر إِلَى إثْبَاته ليمكنه إِلْزَام الْخصم
(يفِيدهُ) الضَّمِير الْمَنْصُوب للمبتدأ، وَالْفَاعِل قَوْله
(نفي تَمْكِينه) أَي تَمْكِين الْمُعْتَرض الْمُسْتَدلّ (من
إثْبَاته) أَي إِثْبَات صِحَة غير الْمُؤثر وَهُوَ الْوَصْف
الطردي وَالْحَاصِل أَنه لما قَالَ للْآخر إِثْبَاتهَا اتجه
أَن يَقْتَضِي قَول الْبَعْض أَنه لَيْسَ لَهُ ذَلِك، لِأَن
القَوْل بالتأثير إِذا كَانَ لَازِما عَلَيْهِ لَا يتَمَكَّن
من إِثْبَات صِحَة غير الْمُؤثر، فَقَالَ إِن ذَلِك القَوْل
يُؤَيّدهُ، وَيدل عَلَيْهِ نفي التَّمْكِين، وَفِي بعض النّسخ
يُفِيد نفي عَكسه وَمَعْنَاهُ ظَاهر (وَمُقْتَضى مَا) ذكر (فِي
الِانْتِقَال) الْمَذْكُور فِيمَا سبق، من أَنه لَا يلْزم
الْمُسْتَدلّ عرف طَائِفَة الْمُعْتَرض (يُخَالِفهُ) أَي
القَوْل الْمَذْكُور، لِأَنَّهُ إِذا لم يلْزم عَلَيْهِ
مُرَاعَاة مَذْهَب الْمُعْتَرض فَلهُ أَن يثبت صِحَة الْوَصْف
الطردي بِمَا يَقْتَضِيهِ مذْهبه (إِلَّا أَن حمل) قَول
الْبَعْض (على أَنه) أَي الْوَصْف الطردي (لَا ينتهض) أَي لَا
يقوم حجَّة (لأوجه الْبطلَان) أَي وُجُوه بطلَان علية الْوَصْف
الطردي متضافرة ظَاهِرَة بِحَيْثُ لَا يقدر أهل الطَّرْد على
إِثْبَات عليته (فَيرجع) أهل الطَّرْد بِالضَّرُورَةِ (إِلَى
التَّأْثِير) والإتيان بالمؤثر إِن أمكنه وَألا يَنْقَطِع
(لكنه) أَي الرُّجُوع إِلَى الْمُؤثر (انْتِقَال) من عِلّة
(إِلَى) عِلّة (أُخْرَى لإِثْبَات الحكم الأول، وَهُوَ) أَي
الحكم الأول
(4/132)
(علية الْوَصْف) لإِثْبَات الحكم
الْأَصْلِيّ (هُنَا) أَي فِيمَا نَحن فِيهِ من جَوَاب الْمَنْع
الْمَذْكُور (وَعلمت مَا فِيهِ) أَي مَا فِي هَذَا
الِانْتِقَال من اخْتِلَاف النظار هَل هُوَ انْقِطَاع أم لَا،
وَمن أَن الْمُخْتَار مَا هُوَ (مِثَاله) أَي مِثَال الْمَنْع
الَّذِي كلامنا فِيهِ فِي الْقيَاس الْمَذْكُور
(للشَّافِعِيَّة فِي ذَلِك الْمِثَال) السَّابِق ذكره، يَعْنِي
قَوْله الْكَلْب حَيَوَان يغسل من ولوغه سبعا، فَلَا يطهر
بالدباغة كالخنزير (منع كَون الْغسْل سبعا عِلّة عدم قبُوله)
أَي جلد الْخِنْزِير (الدباغة شرعا، و) مِثَاله (للحنفية فِي
قَول الشَّافِعِيَّة) الْأَخ (لَا يعْتق على أَخِيه) بِملكه
إِيَّاه (إِذْ لَا بعضية بَينهمَا) أَي الْأَخَوَيْنِ (كَابْن
الْعم) فَإِنَّهُ لَا يعْتق على ابْن عَمه، إِذْ لَا بعضية
بَينهمَا (منع أَنَّهَا) أَي البعضية (الْعلَّة فِي الْعتْق
لينتفى الحكم) الَّذِي هُوَ الْعتْق (بِانْتِفَاء الْعلَّة
المتحدة) فِي صُورَتي ملك الْأَخ وَملك ابْن الْعم، وَهِي
البعضية: وَلَا يخفى أَن مَحل الْمَنْع فِي الْمِثَال
الْمَذْكُور إِنَّمَا هُوَ علية عدم البعضية لعدم الْعتْق، غير
أَنه لما كَانَ منع علية الْعَدَم للعدم فرع منع مَا ذكر صرح
بِهِ ليفهم ذَلِك ضمنا على الطَّرِيق البرهاني (بل) الْعلَّة
لِلْعِتْقِ (الْقَرَابَة الْمُحرمَة) وَهِي مَوْجُودَة فِي
الآخرين دون ابْن الْعم (ثَالِثهَا) أَي المنوع (عدم
تَأْثِيره) أَي الْوَصْف فِي ترَتّب الحكم عَلَيْهِ وَفِيه
مُسَامَحَة، لِأَن عدم التَّأْثِير لَازم الْمَنْع لَا عينه
(للشَّافِعِيَّة أَي) إِفْرَاد هَذَا الْمَنْع بِالذكر لَهُم:
أَي عدم (اعْتِبَاره) عِلّة للْحكم شرعا تَفْسِير لعدم
تَأْثِيره (وقسموه) أَي الشَّافِعِيَّة عدم تَأْثِيره
(أَرْبَعَة) من الْأَقْسَام مَنْصُوب بقسموه على تضمين الْجعل،
لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو من (أَن يظْهر عدم تَأْثِيره) أَي
الْوَصْف (مُطلقًا) فِي حكم الأَصْل وَغَيره (أَو) أَن يظْهر
(فِي) حكم (ذَلِك الأَصْل) الَّذِي جعل الْوَصْف عِلّة لَهُ
(أَو) أَن يظْهر عدم تَأْثِيره (قيد مِنْهُ) أَي من الْوَصْف
(مُطلقًا) أَي فِي حكم ذَلِك الأَصْل وَغَيره (أَو لَا) يظْهر
شَيْء من ذَلِك (بل يسْتَدلّ عَلَيْهِ) أَي على عدم تَأْثِيره
(بِعَدَمِ اطراده) أَي الْوَصْف (فِي مَحل النزاع) وَهُوَ
الحكم الْمُتَنَازع فِيهِ بتحققه مَعَه تَارَة فِي بعض
الْموَاد وتخلفه عَنهُ أُخْرَى فِي بعض أخر (وردوا) أَي
الشَّافِعِيَّة الْقسم (الأول) أَي عدم تَأْثِيره مُطلقًا (و)
الْقسم (الثَّالِث) أَي عدم تَأْثِير قيد مِنْهُ فِي ذَلِك
الأَصْل وَغَيره (إِلَى الْمُطَالبَة بعلية الْوَصْف) الْمعبر
عَنْهَا فِيمَا سبق بِمَنْع كَونه عِلّة (وَجَوَابه) أَي
جَوَاب الْمَرْدُود إِلَيْهِ (الْمُتَقَدّم جَوَابه) أَي
الْمَرْدُود (و) ردوا (الثَّانِي) أَي عدم تَأْثِيره فِي
الأَصْل. (وَالرَّابِع) أَن لَا يظْهر شَيْء من ذَلِك (إِلَى
الْمُعَارضَة) فِي الأَصْل بإبداء عِلّة أُخْرَى (على خلاف فِي
الرَّابِع) يَأْتِي قَرِيبا. وَفِي الشَّرْح العضدي أَن حَاصِل
الأول وَالثَّالِث منع الْعلية وَحَاصِل الثَّانِي وَالرَّابِع
الْمُعَارضَة فِي الأَصْل بإبداء عِلّة أُخْرَى، وَقد يُقَال
أَن ذَلِك لعدم التَّمْيِيز بَين مَا يقْصد بِهِ منع الْعلية
ليدل عَلَيْهَا، وَبَين الدَّلِيل على عدمهَا. وَكَذَا بَين
إبداء مَا يُوجب احْتِمَال
(4/133)
علية الْغَيْر وَبَين مَا يُوجب الْجَزْم
بهَا (مِثَال الأول وَيُسمى) أَي الأول (عدم التَّأْثِير فِي
الْوَصْف) أَن يُقَال (فِي) صَلَاة (الصُّبْح) صَلَاة (لَا
يقصر فَلَا يقدم أَذَانه) على وَقتهَا، وتذكير الضَّمِير
بِاعْتِبَار لفظ الصُّبْح (كالمغرب) فَإِنَّهُ صَلَاة لَا تقصر
فَلَا يقدم أَذَانه (فَيرد) عَلَيْهِ أَن يُقَال (عدم الْقصر
لَا أثر لَهُ فِي عدم تَقْدِيم الْأَذَان، إِذْ لَا مُنَاسبَة)
بَينهمَا تَقْتَضِي ذَلِك (وَلَا شبه) وَهُوَ على مَا ذكرنَا
أَن لَا تكون الْمُنَاسبَة بَين الْوَصْف وَالْحكم بِالنّظرِ
إِلَى ذَات الْوَصْف، بل بِاعْتِبَار شُبْهَة الْوَصْف
الْمُنَاسب للْحكم بِذَاتِهِ، وَهُوَ على مَا ذكر أَن لَا تكون
الْمُنَاسبَة بَين الْوَصْف وَالْحكم بِالنّظرِ إِلَى ذَات
الْوَصْف (و) مِثَال (الثَّانِي فِي منع بيع الْغَائِب) عِنْد
الشَّافِعِيَّة (وَيُسمى) أَي الثَّانِي (عدم التَّأْثِير فِي
الأَصْل) الْغَائِب (مَبِيع غير مرئي فَلَا يَصح) بَيْعه
(كالطير فِي الْهَوَاء) أَي كَمَا أَن الطير فِي الْهَوَاء
الْوَصْف وَهُوَ كَونه غير مرئي، وَإِذا ناسب نفي الصِّحَّة
إِذْ لَا تَأْثِير لَهُ فِي الأَصْل كَذَلِك فِي نُسْخَة
الشَّارِح، وَفِي نُسْخَة مَصَحَّة (فَيرد هَذَا وَإِن ناسب)
أَي فَيرد هَذَا الْمَبِيع وَإِن ناسب الْوَصْف مَا ذكر، أَو
الْمَعْنى فَيرد أَن يُقَال وَإِن ناسب الْوَصْف (فَفِي
الأَصْل مَا يسْتَقلّ) بِمَنْع الصِّحَّة فِيهِ تَقْدِيم
وَتَأْخِير: أَي فَفِي الأَصْل مَا يسْتَقلّ وَإِن ناسب، وعَلى
الأول قَوْله فَفِي الأَصْل تَفْصِيل لبَيَان الْعلَّة
الْمُغنيَة عَن الْمُنَاسب الْمَذْكُور الْمَعْلُوم تأثيرها
شرعا (وَهُوَ) أَن مَا يسْتَقلّ بِمَنْع الصِّحَّة (الْعَجز
عَن التَّسْلِيم، وَلذَا) أَي وَلما أَن فِي الأَصْل مَا
يسْتَقلّ بِهِ (رَجَعَ) هَذَا الْقسم (إِلَى الْمُعَارضَة فِي
الْعلَّة) بإبداء عِلّة أُخْرَى (وَبِه) أَي بِهَذَا الْبَيَان
(ينْكَشف أَن اعْتِبَار جنسه) أَي جنس هَذَا الِاعْتِرَاض
(ظُهُور عدم التَّأْثِير غير وَاقع إِذْ لم يظْهر عدم
مُنَاسبَة فِي غير مرئي) أَي كَون الْمَبِيع غير مرئي، وَهُوَ
الْوَصْف الَّذِي أبداه الْمُسْتَدلّ (بِمَا أبداه) أَي
بِسَبَب مَا أبداه الْمُعْتَرض من الْعَجز عَن التَّسْلِيم (بل
جوزه مَعَه) أَي بل جوز الْمُعْتَرض مَا أبداه مَعَه: أَي مَعَ
مَا أبداه الْمُسْتَدلّ وَهُوَ كَونه غير مرئي (و) مِثَال
(الثَّالِث وَيُسمى عدم التَّأْثِير فِي الحكم) يحصل (لَو
قَالَ الْحَنَفِيَّة فِي الْمُرْتَدين) إِذا أتلفوا
أَمْوَالنَا هم (مشركون أتلفوا مَالا فِي دَار الْحَرْب فَلَا
يضمنُون) مَا أتلفوا إِذا أَسْلمُوا كَسَائِر الْمُشْركين
(فَيرد لَا تَأْثِير لدار الْحَرْب) فِي نفي الضَّمَان
عنْدكُمْ (للانتفاء) أَي لانْتِفَاء الضَّمَان (فِي غَيرهَا)
أَي غير دَار الْحَرْب (عنْدكُمْ) فَإِن الْمُرْتَد بعد اللحاق
بدار الْحَرْب لَا يضمن لشَيْء من حُقُوق الْعباد إِذا أسلم
بعد ذَلِك، وَإِن أتلف فِي غير دَار الْحَرْب أَيْضا كَسَائِر
الْمُشْركين من الْحَرْبِيين (فَهُوَ) أَي هَذَا الْقسم
(كَالْأولِ) فِي أَن مرجعهما إِلَى الْمُطَالبَة بتأثير
الْوَصْف فِي الأَصْل (و) مِثَال (الرَّابِع وَيُسمى عدم
التَّأْثِير فِي الْفَرْع) مَا فِي قَوْلهم (زوجت نَفسهَا من
غير كُفْء فَيرد) تَزْوِيجهَا (كتزويج الْوَلِيّ الصَّغِيرَة
من غير كُفْء فَيَقُول) الْمُعْتَرض (لَا أثر لغير كُفْء) فِي
الرَّد (لتحَقّق النزاع فِيهِ) أَي فِيمَا إِذا زوجت نَفسهَا
من كُفْء (أَيْضا فَرجع) هَذَا (إِلَى الْمُعَارضَة بتزويج
نَفسهَا فَقَط) وَحَاصِله
(4/134)
أَن الْمُسْتَدلّ أبدى عِلّة وَهُوَ
التَّزْوِيج للنَّفس بِغَيْر الْكُفْء، والمعترض أبدى غَيرهَا
وَهُوَ تَزْوِيج نَفسهَا من غير تَقْيِيد بالكفء وَغَيره
(وَلَا يخفى رُجُوعه) أَي الرَّابِع (إِلَى الثَّالِث) وَهُوَ
عدم تَأْثِير قيد ذكر مَعَه فَرجع إِلَى الْمُطَالبَة بتأثير
ذَلِك فِيهِ (وَظهر أَنه) أَي ذَلِك الِاعْتِرَاض (لَيْسَ
سؤالا مُسْتقِلّا) بل هُوَ إِمَّا مُطَالبَة بعلية الْوَصْف
أَو مُعَارضَة بعلة أُخْرَى (فَتَركه الْحَنَفِيَّة ل) أجل
(هَذَا وَلما نذْكر. ثمَّ الْمُخْتَار أَن الثَّالِث مَرْدُود
إِذا اعْترف الْمُسْتَدلّ بطرديته) أَي بطردية ذَلِك الْمُقَيد
(وَغير مَرْدُود إِن لم يعْتَرف) بطرديته (لجَوَاز) وجود
(غَرَض صَحِيح) للمستدل فِي إِيرَاد ذَلِك الْقَيْد، فِي
الشَّرْح العضدي لما كَانَ حَاصِل الْقسم الرَّابِع وجود قيد
طردي فِي الْوَصْف الْمُعَلل بِهِ ذكر لذَلِك قَاعِدَة
تتَعَلَّق بِهِ وَهِي كل مَا فرض جعله وَصفا فِي الْعلَّة من
طردي هَل هُوَ مَرْدُود سد المتناظرين فَلَا يجوزونه، أما إِذا
كَانَ الْمُسْتَدلّ معترفا بِأَنَّهُ طردي فالمختار أَنه
مَرْدُود لِأَنَّهُ فِي كَونه جُزْء الْعلَّة كَاذِب باعترافه
وَأَنه كجدل قَبِيح، وَقيل لَيْسَ بمردود لِأَن الْغَرَض
استلزام الحكم، فالجواز استلزم قطعا، وَأما إِذا لم يكن معترفا
بِأَنَّهُ طردي فالمختار أَنه غير مَرْدُود لجَوَاز أَن يكون
فِيهِ غَرَض صَحِيح كدفع النَّقْض الصَّرِيح إِلَى النَّقْض
المكسور وَهُوَ أصعب، بِخِلَاف الأول فَإِنَّهُ معترف
بِأَنَّهُ غير مُؤثر وَأَن الْعلَّة هُوَ الثَّانِي فَيرد
النَّقْض كَمَا لَو لم يذكرهُ، والتفوه بِهِ لَا يجديه نفعا
فِي دفع النَّقْض، وَقيل مَرْدُود لِأَنَّهُ لَغْو، وَإِن لم
يعْتَرف وَقد عرف الْفرق، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (أَن يدْفع
النَّقْض المكسور وَهُوَ أصعب على الْمُعْتَرض) . قَالَ
الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ من الشَّارِحين من فسر الْمقَام
بِمَا شهد أَنه لم يفهمهُ وَآخَرُونَ اعْترض بِعَدَمِ فهمه،
فَلهَذَا تَابع الْمُحَقق فِي تَوْضِيحه بِمَا لَا مزِيد
عَلَيْهِ، فَقَوله وَهُوَ أصعب يُرِيد أَن إِيرَاد النَّقْض
المكسور أصعب على الْمُعْتَرض من إِيرَاد النَّقْض الصَّرِيح
لِأَنَّهُ فِيهِ بَيَان عدم تَأْثِير بعض أَجزَاء الْوَصْف
وَبَيَان نقض الآخر، وَفِي النَّقْض الصَّرِيح لَيْسَ إِلَّا
بَيَان نقض الْوَصْف: أَعنِي ثُبُوته فِي صُورَة مَعَ عدم
الحكم، وَقَوله بِخِلَاف الأول مُتَعَلق بقوله لجَوَاز أَن
يكون: يَعْنِي أَن الْمُسْتَدلّ إِذا لم يكن معترفا بِكَوْن
الْوَصْف طرديا يجوز أَن يكون لَهُ فِي ضم الْوَصْف الطردي
إِلَى الْعلَّة غَرَض صَحِيح بِأَن لَا يُوجد الْمَجْمُوع مَعَ
عدم الحكم، بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ معترفا بِأَن الْوَصْف
المضموم طردي، فَإِن ذَلِك اعْتِرَاف بِأَنَّهُ لَا مدْخل لَهُ
فِي الْعلية وَأَن الْعلَّة فِي ذَلِك الْأَمر الَّذِي فرض
الطردي وَصفا فِيهِ، فَحِينَئِذٍ يسهل النَّقْض بإيراد صُورَة
يُوجد فِيهَا مُجَرّد ذَلِك وَلَا يُوجد الحكم، وتلفظه بِأَن
الْعلَّة هِيَ الْمَجْمُوع مَعَ اعترافه بذلك لَا يفِيدهُ
انْتهى، وَللَّه درهما تَحْقِيقا لمواضع تحيرت فِيهَا
الْعُقُول وَوَقعت فِيهَا الفحول فقد علم بذلك أَن المُرَاد
بقول المُصَنّف الثَّالِث مَحل السُّؤَال الثَّالِث،
وَبِقَوْلِهِ أَن يدْفع النَّقْض المكسور أَن يدْفع النَّقْض
الصَّرِيح إِلَى النَّقْض المكسور، فالنقض مَنْصُوب بِنَزْع
الْخَافِض وَالْمَفْعُول بِهِ
(4/135)
مَحْذُوف، أَو الْمَعْنى الْمُسْتَدلّ
أَرَادَ بِذكر الْقَيْد دَفعه النَّقْض الأصعب إِذْ هُوَ
يتَعَيَّن بعد ذكره، فالفرض فِي الْحَقِيقَة الصعوبة على
الْمُعْتَرض حَيْثُ ألزمهُ الأصعب (وللشافعية بعده) أَي بعد
مَا ذكر (أَرْبَعَة) من الاعتراضات مَخْصُوصَة بالمناسبة
أَولهَا (الْقدح فِي الْمُنَاسبَة بإبداء مفْسدَة راجحة) على
مصلحَة لأَجلهَا قضى على الْوَصْف بالمناسبة (أَو مُسَاوِيَة)
لَهَا لما تقدم فِي تَقْسِيم الْعلَّة بِحَسب الْإِفْضَاء من
انخرام الْمُنَاسبَة لمفسدة راجحة أَو مُسَاوِيَة (وَجَوَابه)
أَي هَذَا الِاعْتِرَاض (تَرْجِيح الْمصلحَة إِجْمَالا) على
الْمفْسدَة بِأَن يُقَال لَو لم يقدر رُجْحَانهَا لزم التقيد
الْبَاطِل (وَتقدم) ذكره فِي التَّقْسِيم الْمَذْكُور (وتفصيلا
بِمَا فِي الخصوصيات) أَي خصوصيات الْمسَائِل من المرجحات
(مثل) أَن يُقَال فِي الْفَسْخ فِي الْمجْلس بِخِيَار الْمجْلس
(وجد سَبَب الْفَسْخ فِي الْمجْلس وَهُوَ) أَي سَبَب الْفَسْخ
(دفع الضَّرَر) عَن الفاسخ (فَيثبت) أَي الْفَسْخ (فيعارض
بِضَرَر) الآخر الَّذِي لم يفْسخ فَيُقَال ضَرَر (الآخر
مفْسدَة مُسَاوِيَة) لتِلْك الْمصلحَة (فيجاب) عَن
الْمُعَارضَة (بِأَن هَذَا) الآخر (يجلب) بِاسْتِيفَاء العقد
(نفعا وَذَاكَ) الفاسخ (يدْفع ضَرَرا) عَن نَفسه (وَهُوَ) أَي
دفع الضَّرَر (أهم) وَلذَلِك يدْفع كل ضَرَر وَلَا يجلب كل نفع
(وَمثله) أَي مثل مَا ذكر (التخلي) أَي تَفْرِيغ النَّفس
(لِلْعِبَادَةِ) النَّافِلَة (أفضل من التَّزَوُّج لما فِيهِ)
أَي فِي التخلي لَهَا (من تَزْكِيَة النَّفس) الْمشَار
إِلَيْهَا بقوله تَعَالَى - {قد أَفْلح من زكاها} - (فيعارض
بِفَوَات أضعافها) أَي أَضْعَاف الْمصلحَة الْمَذْكُورَة
(فِيهِ) أَي فِي التخلي من كسر الشَّهْوَة وغض الْبَصَر وإعفاف
النَّفس وإيجاد الْوَلَد وتربيته وتوسعة الْبَاطِن بالتحمل فِي
معاشرة بني النَّوْع إِلَى غير ذَلِك، فالتزكية أَيْضا
حَاصِلَة فِي التَّزْوِيج (فيرجح) التَّزَوُّج على مَا ذكر
(فيرجحها) أَي مصلحَة الْعِبَادَة المناظر (الآخر بِأَنَّهَا
لحفظ الدّين وَتلك) الْمصَالح الَّتِي فِي التَّزَوُّج
حِينَئِذٍ (لحفظ النَّسْل) وَحفظ الدّين أرجح من حفظ النَّسْل
(غير أَن فرض المسئلة حَالَة الِاعْتِدَال) أَي اعْتِدَال
النَّفس فِي الشَّهْوَة (وَعدم الخشية) أَي خشيَة الْوُقُوع
فِي الزِّنَا وَمَا يقرب مِنْهُ من الْمحرم، وَإِنَّمَا قَالَ
فرض المسئلة كَذَا لوُجُوب التَّزَوُّج عينا عِنْد الخشية
فَلَا يُعَارضهُ التخلي للنوافل (و) ثَانِيهَا (الْقدح فِي
الْإِفْضَاء) أَي فِي كَون الْوَصْف مفضيا (إِلَى الْمصلحَة)
الْمَقْصُودَة (فِي شَرعه) أَي الحكم عِنْده (كتحريم
الْمُصَاهَرَة) للمحارم على التَّأْبِيد، يُقَال: صاهرهم إِذا
صَار فيهم صهرا، والصهر زوج الْبِنْت وَالْأُخْت، وَالْمرَاد
هُنَا أصل الزواج (للْحَاجة إِلَى رفع الْحجاب) فالتحريم
الْمَذْكُور هُوَ الحكم وَالْحَاجة إِلَى رفع الْحجاب عَن
الْمَحَارِم لِكَثْرَة المخالطة هُوَ الْوَصْف الْعلَّة
والمصلحة الَّتِي يُفْضِي إِلَيْهَا الْمَذْكُورَة فِي قَوْله
(إِذْ يُفْضِي) الْوَصْف الْمَذْكُور بِاعْتِبَار مَا شرع
عِنْده من تأبيد التَّحْرِيم (إِلَى دفع الْفُجُور فَيمْنَع)
إفضاؤه إِلَى دفع الْفُجُور (بل سد بَاب العقد) أَي عقد
النِّكَاح للتَّحْرِيم الْمَذْكُور
(4/136)
(أفْضى) إِلَى الْفُجُور (لحرص النَّفس على
الْمَمْنُوع فَيدْفَع) هَذَا الْمَنْع (بِأَن تأبيد
التَّحْرِيم يمْنَع عَادَة) عَن مُقَدمَات الْهم وَالنَّظَر
(إِذْ يصير) الِامْتِنَاع بِهَذَا السَّبَب (كالطبيعي) أَي
كالامتناع والمنافرة الَّتِي اقتضتها الطبيعة فَلَا يبْقى
الْمحل مشتهى (أَصله) أَي أصل هَذَا التَّحْرِيم المؤبد
(الْأُمَّهَات) لِأَنَّهُ شرع من ابْتِدَاء وجود بني آدم فَلم
يكن عِنْد ذَلِك تَحْرِيم الْأَخَوَات لضَرُورَة التناسل، ثمَّ
لما وجد غير الْمَحَارِم ارْتَفَعت الضَّرُورَة فَألْحق
بالأمهات سَائِر الْمَحَارِم (و) ثَالِثهَا (كَون الْوَصْف
خفِيا كالرضا) فِي الْعُقُود فَإِنَّهُ أَمر قلبِي (وَيُجَاب)
عَن هَذَا السُّؤَال (بضبطه) أَي بضبط الْوَصْف (بِظَاهِر) أَي
بضابط ظَاهر (كالصيغة) الدَّالَّة على الرِّضَا فيدور الحكم
عَلَيْهَا كصيغ الْعُقُود (و) رَابِعهَا (كَونه) أَي الْوَصْف
(غير منضبط) جَعلهمَا قسما وَاحِدًا لكَمَال مناسبتهما سؤالا
وجوابا (كَالْحكمِ) جمع حِكْمَة، وَهِي الْأَمر الْبَاعِث من
الْمَقَاصِد (والمصالح) أَي مَا يكون لَذَّة أَو وَسِيلَة
لَهَا (كالحرج) فَإِن فِي نَفْيه لَذَّة (والزجر) فَإِنَّهُ
وَسِيلَة للذة الدُّنْيَوِيَّة والأخروية، ثمَّ علل عدم
انضباطها بقوله (لِأَنَّهَا) أَي الحكم والمصالح (مَرَاتِب)
أَي كائنة (على) مَرَاتِب على (مَا تقدم) فِي الْكَلَام على
الْعلَّة بِحَسب الْمَقَاصِد وَيخْتَلف باخْتلَاف الْأَشْخَاص
وَالْأَحْوَال فَلَا يُمكن تعْيين الْعدَد الْمَقْصُود مِنْهَا
(وَجَوَابه بإبداء الضَّابِط بِنَفسِهِ) أَي بِإِظْهَار
المُرَاد من غير المنضبط بِوَصْف منضبط بِنَفسِهِ غير مُحْتَاج
إِلَى ضَابِط آخر كَمَا يُقَال فِي الْمَشَقَّة والمضرة أَن
المُرَاد بهما مَا يُطلق عَلَيْهِ الْمَشَقَّة والمضرة عرفا،
كَذَا قَالُوا، وَفِيه مَا فِيهِ (أَو) أَن الْوَصْف (نيط
بمنضبط) مَعْطُوف على إبداء (كالسفر) نيط حُصُول الْمَشَقَّة
بِهِ (وَالْحَد) الْمَحْدُود شرعا نيط الْقدر الْمُعْتَبر فِي
حُصُول الزّجر بِهِ (وَلم يذكرهَا) أَي الاعتراضات
الْمَذْكُورَة (الْحَنَفِيَّة لَا لاختصاصها بالمناسبة) وهم
لَا يعتبرونها فَلَا وُرُود لَهَا عِنْدهم (لِأَن هَذَا) أَي
اعْتِبَار الْمُنَاسبَة بِالْوَصْفِ (اتِّفَاق) أَي مَحل
اتِّفَاق أَو مُتَّفق عَلَيْهِ (بل لِأَنَّهَا) أَي الاعتراضات
الْمَذْكُورَة حاصلها (انْتِفَاء لَوَازِم الْعلَّة الباعثة
مُطلقًا) أَي بِأَيّ مَسْلَك كَانَ (كَمَا تقدم) فِي فصل
الْعلَّة (وَمَعْلُوم أَن بِانْتِفَاء لازمها) أَي الْعلَّة
الباعثة (يتَّجه إِيرَاده) أَي إِيرَاد انتفائها (إِذْ يُوجب)
انْتِفَاء لازمها (انتفاءها فَهُوَ) أَي إِيرَاد انتفائها
(مَعْلُوم من الشُّرُوط) لِأَن كل أحد يعرف أَن الشَّرْط إِذا
انْتَفَى فللمعترض الْإِيرَاد الرَّاجِح إِلَى منع الْعلية
(ومنعهم) أَي الْحَنَفِيَّة (بَعْضهَا) أَي بعض هَذِه
الاعتراضات مَعْطُوف على مَدْخُول بل فَهُوَ عِلّة أُخْرَى
لعدم الذّكر فِي الْبَعْض، وَالْمرَاد بِالْمَنْعِ الحكم
بِعَدَمِ وُرُوده من حَيْثُ المناظرة (وَهُوَ) أَي الْبَعْض
الْمَمْنُوع (مرجع الثَّانِي وَالرَّابِع) من الْأَرْبَعَة
الأول (لمنعهم الْمُعَارضَة لعِلَّة الأَصْل كَمَا سَنذكرُهُ
إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَذكروا) أَي الْحَنَفِيَّة (منع
الشُّرُوط) للتَّعْلِيل، لِأَن شَرط الشَّيْء سَابق عَلَيْهِ
فَلَا بُد من إثْبَاته، ثمَّ القَاضِي
(4/137)
أَبُو زيد وشمس الْأَئِمَّة السَّرخسِيّ لم
يشترطا كَون الشَّرْط مُتَّفقا عَلَيْهِ (وَقيد فَخر
الْإِسْلَام مَحَله) أَي منع الشَّرْط (بمجمع عَلَيْهِ)
فَقَالَ وَإِنَّمَا يجب أَن يمْنَع شرطا مِمَّا هُوَ شَرط
بِالْإِجْمَاع وَقد عدم فِي الْفَرْع أَو الأَصْل (فَيتَّجه)
الْمَنْع (عِنْد عَدمه) أَي الشَّرْط الْمَذْكُور فَيُفِيد
بطلَان التَّعْلِيل، مَا إِذا منع شرطا مُخْتَلفا فِيهِ،
فَيَقُول الْمُعَلل ذَلِك لَيْسَ بِشَرْط عِنْدِي فَلَا يضر
عَدمه، وَقد يُقَال إِذا كَانَ مَقْصُود الْمُعْتَرض دفع
إِلْزَام الْمُعَلل عَن نَفسه، فَفِي هَذَا الْمَنْع ضَرَر
ظَاهر إِذا قصد الْمُعَلل ذَلِك، وَقيل المُرَاد بِالْإِجْمَاع
الِاتِّفَاق بَين السَّائِل والمجيب، لَا الْإِجْمَاع الْمُطلق
(وَرَابِعهَا) أَي المنوع الْوَارِدَة على عِلّة الحكم
(النَّقْض، وَتَسْمِيَة الْحَنَفِيَّة المناقضة وَهِي) فِي
الِاصْطِلَاح (للجدليين) أَي لمصطلحهم (منع مُقَدّمَة مُعينَة)
وَهِي مَا يتَوَقَّف على صِحَة الدَّلِيل شطرا كَانَ أَو شرطا
سَوَاء كَانَ مَعَ السَّنَد أَو بِدُونِهِ، وَهُوَ مَا يذكر
لتقوية الْمَنْع (و) منع (غير الْمعينَة) أَي مَنعه (بِأَن
يلْزم الدَّلِيل مَا يُفْسِدهُ) بِأَن يَقُول لَازم دليلك
كَذَا وَهُوَ بَاطِل فدليلك فَاسد (فَيُفِيد) لُزُوم ذَلِك
لَهُ (بطلَان مُقَدّمَة غير مُعينَة) لِأَنَّهُ لَو لم يكن
شَيْء من مقدماته بَاطِلا كَانَ صَحِيحا بِالضَّرُورَةِ،
والمفروض أَنه فَاسد لبُطْلَان لَازمه، وَقَوله وَغير
الْمعينَة مُبْتَدأ خَبره (النَّقْض الإجمالي وردوا) أَي
الأصوليون (النَّقْض) الَّذِي هُوَ رَابِع المنوع (إِلَى منع
مُسْتَند) أما كَونه منعا فَلِأَنَّهُ منع عَلَيْهِ الْوَصْف،
وَهُوَ مِمَّا يتَوَقَّف عَلَيْهِ صِحَة الْقيَاس، وَأما كَونه
مُسْتَندا فَلِأَن بَيَان التَّخَلُّف سَنَد لَهُ (وَإِلَّا)
أَي وَإِن لم يرد إِلَيْهِ (كَانَ) النَّقْض (مُعَارضَة قبل
الدَّلِيل) لِأَنَّهُ إِذا لم يكن منعا مُسْتَندا كَانَ
إِقَامَة الدَّلِيل على عدم الْعلية، والمستدل لم يقم بعد
دَلِيلا على الْعلية وَلزِمَ كَونه مُعَارضَة قبل الدَّلِيل
(وعَلى هَذَا) أَي الَّذِي ذكر من أَن الصَّارِف عَن كَونه
اسْتِدْلَالا، وَهُوَ الظَّاهِر إِنَّمَا هُوَ لُزُوم
الْمُعَارضَة قبل الدَّلِيل (يجب) أَن يكون (مُعَارضَة لَو)
كَانَ (بعده) أَي بعد إِقَامَة الْمُسْتَدلّ الدَّلِيل على
صِحَة علية الْوَصْف لارْتِفَاع الْمَانِع عَن الْحمل على
الْمُعَارضَة وَوُجُود مَا يقتضيها، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله
(لِأَنَّهُ) أَي الْمُعْتَرض (اسْتدلَّ على بُطْلَانه) أَي
بطلَان كَون الْوَصْف عِلّة (بالتخلف) أَي بِوُجُودِهِ فِي
صُورَة لَيْسَ فِيهَا الحكم (ويجيب الآخر) أَي الْمُسْتَدلّ
عَن الْمَنْع الْمَذْكُور (بِمَنْع وجودهَا) أَي الْعلَّة (فِي
مَحل التَّخَلُّف ويستدل الْمُعْتَرض عَلَيْهِ) أَي على
وجودهَا فِي مَحل التَّخَلُّف (بعده) أَي بعد منع الْمُسْتَدلّ
وجودهَا فِيهِ (أَو) يسْتَدلّ عَلَيْهَا (ابْتِدَاء) أَي قبل
منع الْمُسْتَدلّ إِيَّاه، وَإِذا اسْتدلَّ ابْتِدَاء تبدل
حَالهمَا (فَانْقَلَبَ) الْمُعْتَرض مُعَللا والمعلل
مُعْتَرضًا (وَقيل لَا) يقبل من الْمُعْتَرض إِقَامَة
الدَّلِيل على وجود الْوَصْف إِذا منع الْمُسْتَدلّ وجوده فِي
صُورَة التَّخَلُّف لِأَنَّهُ انْتِقَال من الِاعْتِرَاض إِلَى
الِاسْتِدْلَال وَهَذَا محكي عَن الْأَكْثَر مِنْهُم الإِمَام
الرَّازِيّ (وَقيل) لَا يقبل (إِن كَانَ) ذَلِك الْوَصْف (حكما
شَرْعِيًّا) لِأَن الِاشْتِغَال بِإِثْبَات حكم
(4/138)
شَرْعِي هُوَ بِالْحَقِيقَةِ الِانْتِقَال
الْمَمْنُوع، وَإِلَّا فَيقبل لِأَنَّهُ بِهِ يتم دَلِيل
الْمُعْتَرض وَيبْطل قِيَاس الْمُسْتَدلّ (وَقيل) يقبل (إِن لم
يكن لَهُ) أَي للمعترض (قَادِح) لدَلِيل الْمُسْتَدلّ (أقوى)
من النَّقْض فَإِن كَانَ لَهُ لَا يقبل لِأَنَّهُ غصب وانتقال
من غير أَن تلجئه إِلَيْهِ ضَرُورَة (وَلَيْسَت) هَذِه
الْأَقْوَال (بِشَيْء) وَوَجهه ظَاهر (فَلَو كَانَ
الْمُسْتَدلّ اسْتدلَّ على وجودهَا) أَي الْعلَّة (فِي الأَصْل
بموجود) أَي بِدَلِيل مَوْجُود (فِي مَحل النَّقْض فنقضها) أَي
الْمُعْتَرض الْعلَّة بِأَن دليلك الَّذِي أقمته على وجود
الْعلَّة فِي الأَصْل مَوْجُود فِي مَحل التَّخَلُّف، فَيلْزم
عَنهُ وجودهَا فِيهِ (فَمنع) الْمُسْتَدلّ (وجودهَا) أَي
الْعلَّة فِي مَحل النَّقْض (فَقَالَ الْمُعْتَرض فَيلْزم)
عَلَيْك أحد الْأَمريْنِ (إِمَّا انْتِقَاض الْعلَّة) إِن
كَانَت مَوْجُودَة فِي مَحل النَّقْض فِي نفس الْأَمر (أَو)
انْتِقَاض (دليلها) إِن لم تكن مَوْجُودَة فِيهِ مَعَ جَرَيَان
الدَّلِيل ووجوده فِيهِ (وَكَيف كَانَ) اللَّازِم: أَي
انْتِقَاض الْعلَّة، أَو دليلها (لَا تثبت) الْعلية، أما على
الأول فَلَمَّا مر من أَن النَّقْض يُبْطِلهَا، وَأما على
الثَّانِي فَلِأَنَّهَا لَا تثبت إِلَّا بمسلك صَحِيح (قبل)
بالِاتِّفَاقِ جَوَاب لَو، فَإِن عدم الِانْتِقَال فِيهِ
ظَاهر، إِذْ لم يخرج عَن نقضهَا (وَلَو نقض) الْمُعْتَرض
(دليلها) أَي الْعلية (عينا) من غير ترديد بَين نقض الْعلَّة
ونقضه (فالجدليون) قَالُوا (لَا يسمع) هَذَا من الْمُعْتَرض
(لِسَلَامَةِ الْعلَّة) حِينَئِذٍ من النَّقْض (إِذْ نقضه) أَي
نقض دليلها الْمعِين (لَيْسَ نقضهَا) لجَوَاز إِثْبَاتهَا
بِدَلِيل آخر فَإِذن يلْزم عَلَيْهِ الِانْتِقَال عَن وظيفته:
أَعنِي نقض الْعلَّة (وَنظر فِيهِ) أَي فِي عدم سَمَاعه،
والناظر ابْن الْحَاجِب مُسْتَندا (بِأَن بُطْلَانه) أَي
دَلِيل الْعلية (بُطْلَانهَا) أَي الْعلية (أَي عدم ثُبُوتهَا
إِذْ لَا بُد لَهَا) أَي الْعلية (من مَسْلَك صَحِيح) وَقد ظهر
عدم صِحَة المسلك الَّذِي تمسك بِهِ الْمُسْتَدلّ وَوُجُود
غَيره غير مَعْلُوم، وَالْأَصْل عَدمه (وَهُوَ) أَي بطلَان
الْعلَّة (مَطْلُوبه) أَي الْمُعْتَرض (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم
يكن مُرَاد النَّاظر بِالْبُطْلَانِ عدم الثُّبُوت (فبطلان
الدَّلِيل الْمعِين لَا يُوجِبهُ) أَي بُطْلَانهَا (لكنه) أَي
بطلَان الدَّلِيل الْمعِين (يحوجه) أَي الْمُسْتَدلّ (إِلَى
الِانْتِقَال إِلَى) دَلِيل (آخر لإِثْبَات) مطلب الدَّلِيل
(الأول) يَعْنِي علية الْوَصْف (ويجيب) الْمُسْتَدلّ (أَيْضا)
بدل منع وجودهَا (بِمَنْع انْتِفَاء الحكم فِي ذَلِك) أَي فِي
مَحل النَّقْض اتِّفَاقًا (وللمعترض الدّلَالَة) بِإِقَامَة
الدَّلِيل (عَلَيْهِ) أَي لانْتِفَاء الحكم (فِي) الْمَذْهَب
(الْمُخْتَار) إِذْ بِهِ يحصل مَطْلُوبه وَهُوَ إبِْطَال
دَلِيل الْمُسْتَدلّ، وَقيل لَيْسَ لَهُ ذَلِك لِأَنَّهُ
انْتِقَال من الِاعْتِرَاض إِلَى الِاسْتِدْلَال، وَقيل نعم
إِذا لم يكن طَرِيق أولى من النَّقْض فِي الْقدح
(وَالْمُخْتَار عدم وجوب الاحتراس) على الْمُسْتَدلّ (عَن
النَّقْض فِي الِاسْتِدْلَال) بِذكر قيد يخرج مَحل النَّقْض
(وَقيل يجب) الاحتراس عَنهُ بِمَا ذكر (وَقيل) يجب (إِلَّا فِي
المستثنيات) أَي يجب الاحتراس فِي التَّعْلِيل عَن كل نقض
إِلَّا عَن النَّقْض الَّذِي يرد على مَا ذهب إِلَى عليته
(4/139)
مُجْتَهد من الْأَوْصَاف، فِي الشَّرْح
العضدي هِيَ مَا تردد على كل عِلّة، فَإِذا قَالَ فِي الذّرة
مطعوم فَيجب فِيهِ التَّسَاوِي كالبر فَلَا حَاجَة إِلَى أَن
يَقُول وَلَا حَاجَة تدعوك إِلَى التَّفَاضُل فِيهِ فَيخرج
الْعَرَايَا فَإِنَّهُ وَارِد على كل تَقْدِير سَوَاء عللنا
بالطعم أَو الْقُوت أَو الْكَيْل فَلَا تعلق لَهُ بِإِبْطَال
مَذْهَب وَتَصْحِيح آخر، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (كالعرايا
عِنْد الشَّافِعِيَّة) وَهِي عِنْدهم بيع التَّمْر على رُءُوس
النّخل على قدر كَيْله من التَّمْر خرصا لَو جف فِيمَا دون
خَمْسَة أوسق. وَأما الْحَنَفِيَّة فَلَيْسَتْ الْعَرَايَا
عِنْدهم إِلَّا الْعَطِيَّة وَهِي أَن يعري الرجل نَخْلَة من
نخله فَلَا يسلم ذَلِك حَتَّى يَبْدُو لَهُ، فَرخص لَهُ أَن
يحبس ذَلِك وَيُعْطِيه مَكَانَهُ بخرصه تَمرا، وَلَيْسَ بَين
المعرى لَهُ والمعرى بيع حَقِيقِيّ. فَلَا يتَصَوَّر هَذَا
التَّمْثِيل عِنْدهم (لنا) على الْمُخْتَار (أَنه) أَي
الْمُسْتَدلّ (أتم الدَّلِيل) يَعْنِي سُئِلَ عَن دَلِيل
الْعلية فوفى بِهِ (إِذْ انْتِفَاء الْمعَارض) لَهُ (لَيْسَ
مِنْهُ) أَي الدَّلِيل: يَعْنِي أَن النَّقْض دَلِيل عدم
الْعلية فَهُوَ بِالْحَقِيقَةِ مُعَارضَة وَنفي الْمعَارض
لَيْسَ من الدَّلِيل، فَهُوَ غير مُلْتَزم لَهُ فَلَا يلْزم
(وَلِأَنَّهُ) أَي الاحتراس عَنهُ بِمَا ذكر (لَا يُفِيد) دفع
الِاعْتِرَاض بِالنَّقْضِ (إِذْ يَقُول) الْمُعْتَرض
(الْقَيْد) الَّذِي ذكرته احتراسا (طرد) أَي طردي لَا تَأْثِير
لَهُ فِي الْعلية (وَالْبَاقِي) بعده، وَهُوَ الْمُؤثر فِي
الْعلية (منتقض) لِأَنَّهُ بِدُونِ ذَلِك الْقَيْد الطردي
مَوْجُود فِي مَحل التَّخَلُّف (وَهَذَانِ) أَي منع وجود
الْعلَّة وَمنع انْتِفَاء الحكم (دفعان) لتحَقّق النَّقْض لَا
يحسمان مَادَّة الشُّبْهَة بِالْكُلِّيَّةِ (وَالْجَوَاب
الْحَقِيقِيّ) الحاسم لَهَا (بعد الْوُرُود) أَي وُرُود
النَّقْض، وَتبين وجود الْعلَّة، وَانْتِفَاء الحكم فِي مَحل
النَّقْض إِنَّمَا يتَحَقَّق (بإبداء الْمَانِع) من تَأْثِير
الْعلَّة (فِي مَحل التَّخَلُّف، وَهُوَ) أَي الْمَانِع
(معَارض اقْتضى نقيض الحكم) الَّذِي أثْبته الْمُسْتَدلّ
(فِيهِ) أَي فِي مَحل التَّخَلُّف ظرف للاقتضاء، وَالْمرَاد
بالنقيض مَا يُقَابله سلبا أَو إِيجَابا أَو مَا يُسَاوِيه
(أَو) اقْتضى (خِلَافه) أَي الحكم الَّذِي أثْبته
الْمُسْتَدلّ، وَالْمرَاد بِهِ الضِّدّ الَّذِي هُوَ أخص من
نقيضه، وَهَذَا الْمُقْتَضى إِنَّمَا يثبت (لتَحْصِيل مصلحَة)
أهم من مصلحَة حكم الأَصْل (كالعرايا) وَقد عرفتها (لَو أوردت)
مَادَّة للنقض (على الربويات) أَي على الْعِلَل الْمُعْتَبرَة
شرعا بِحَسب اخْتِلَاف الْمذَاهب للْحكم الثَّابِت فِي أصُول
الْأَمْوَال الربوية، وَتلك الْمصلحَة دفع الْحَاجة الْعَامَّة
إِلَى الرطب وَالتَّمْر، وَعدم وجود تمر آخر غير أحد
الْأَمريْنِ (وَكَذَا الدِّيَة) أَي وَكَذَا ضربهَا (على
الْعَاقِلَة) لَو أوردت نقضا (على الزّجر) الَّذِي هُوَ عِلّة
وجوب الدِّيَة الْمُغَلَّظَة على الْقَاتِل (لمصْلحَة أوليائه)
مُتَعَلق بِضَرْب الدِّيَة فَإِنَّهُ لمَنْفَعَة أَوْلِيَاء
الْمَقْتُول، وَجه الْإِيرَاد أَن الْحَاجة إِلَى الزّجر
مَوْجُودَة فِي الْقَتْل خطأ مَعَ تخلف الحكم، وَهُوَ وجوب
الدِّيَة الْمُغَلَّظَة على الْقَاتِل وَالْجَوَاب
الْحَقِيقِيّ إبداء الْمَانِع الَّذِي هُوَ معَارض يَقْتَضِي
خلاف الحكم من الدِّيَة المخففة على الْعَاقِلَة (مَعَ عدم
تحميله) أَي الْقَاتِل لعدم قَصده
(4/140)
الْقَتْل، الظّرْف مُتَعَلق بِضَرْب
الدِّيَة على الْعَاقِلَة، فَهَذَا الحكم الَّذِي هُوَ ضرب
الدِّيَة المخففة عَلَيْهِم مركب من أَمريْن: ضرب الدِّيَة،
وَكَونهَا على الْعَاقِلَة دون الْقَاتِل، فَالْأول وَهُوَ أصل
ضرب الدِّيَة إِنَّمَا هُوَ لمصْلحَة أَوْلِيَاء الْمَقْتُول.
وَالثَّانِي وَهُوَ كَونهَا على الْعَاقِلَة، لأَنهم يغنمون
بِكَوْنِهِ مقتولا فليغرموا بِكَوْنِهِ قَاتلا: وَلذَا قَالَ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " مَالك غنمه فَعَلَيْك غرمه ". وَأما
أَنَّهَا لَيست على الْقَاتِل، فَلَمَّا ذكر من عدم قَصده
الْقَتْل، وَهُوَ الَّذِي ذكرنَا من عدم التحميل على الْقَاتِل
إِنَّمَا هُوَ (للشَّافِعِيَّة) . وَأما عِنْد الْحَنَفِيَّة
فيودي الْقَاتِل كأحدهم (أَو) يثبت مَا ذكر من نقيض الحكم أَو
خِلَافه (لدفع مفْسدَة) أعظم من مفْسدَة شرع حكم الأَصْل لَهُ
فِيهَا (كالاضطرار لَو ورد على تَعْلِيل حُرْمَة الْميتَة
بالاستقذار فَإِنَّهُ) أَي الِاضْطِرَار (اقْتضى خِلَافه) أَي
مَا يَقْتَضِيهِ الاستقذار من التَّحْرِيم (من الْإِبَاحَة)
بَيَان لخلافه، فَإِن دفع هَلَاك النَّفس أعظم من مفْسدَة أكل
المستقذر: هَذَا كُله إِذا لم تكن الْعلَّة منصوصة بِظَاهِر
عَام (فَلَو كَانَت) الْعلَّة (منصوصة ب) ظَاهر (عَام) لَا يجب
إبداء الْمَانِع بِعَيْنِه، بل (وَجب تَقْدِير الْمَانِع
وتخصيصه) أَي الْعَام (بِغَيْر مَحل النَّقْض) جمعا بَين
الدَّلِيلَيْنِ (وَهَذَا) أَي تَخْصِيصه بِغَيْر مَا ذكر (إِذا
كَانَ النَّص على استلزامها) أَي الْعلَّة للْحكم (فِي
الْمحَال لَا على عليتها) أَي الْعلَّة (فِيهَا) أَي الْمحَال
(إِذْ لَا تَنْتفِي عليتها بالمانع) فَإِن قلت: مَا معنى عدم
انْتِفَاء الْعلية بِهِ دون الِالْتِزَام قلت: معنى عليتها
للْحكم فِي الْمحَال كَونهَا بِحَيْثُ يَتَرَتَّب عَلَيْهَا
الحكم لَو لم يتَحَقَّق مَعهَا مَانع عَن الحكم، وَهَذَا
الْكَوْن مَوْجُود فِي مَحل النَّقْض، فَإِن صدق مَضْمُون
هَذِه الشّرطِيَّة لَا يسْتَلْزم وجود الحكم بِالْفِعْلِ،
بِخِلَاف مَا إِذا نَص على الاستلزام، وَهُوَ كَونهَا بِحَيْثُ
مَتى تحققت تحقق مَعهَا الحكم بِالْفِعْلِ فَافْهَم (أَو)
كَانَت منصوصة (بخاص) قَطْعِيّ الدّلَالَة على عليتها (فِيهِ)
أَي فِي مَحل النَّقْض، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ (وَجب تَقْدِيره)
أَي الْمَانِع (فَقَط) لِأَنَّهُ لَا مجَال لتخصيص الْخَاص
بِغَيْر مَحل النَّقْض، وَإِنَّمَا وَجب تَقْدِير الْمَانِع
لِأَن عليتها للْحكم: أَي فِي مَحل النَّقْض ثَابِتَة،
وَالْحكم مُنْتَفٍ فِيهِ بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاع، فَلَا
بُد من مَانع هُنَاكَ لِاسْتِحَالَة تخلف الْمَعْلُول عِنْد
وجود الْمُقْتَضى وَعدم الْمَانِع (و) وَجب (الحكم بعليتها)
أَي الْعلَّة (فِيهِ) أَي فِي مَحل النَّقْض لدلَالَة النَّص
الْخَاص عَلَيْهِ قطعا، وَهَذَا الْجَواب على قَول من يجوز
تَخْصِيص الْعلَّة. (أما مانعو تَخْصِيص الْعلَّة فبعدم
وجودهَا) أَي فيجيبون بِعَدَمِ وجود الْعلَّة فِي مَحل
النَّقْض (إِذْ هِيَ) أَي الْعلَّة (الباعثة) على الحكم (مَعَ
عَدمه) أَي الْمَانِع فالعلة عِنْدهم لَا تتَحَقَّق إِلَّا
بأمرين: الْمُقْتَضى، وَعدم الْمَانِع (فَهُوَ) أَي عدم
الْمَانِع (شَرط عليتها) وَحَيْثُ انْتَفَى شَرط الْعلية فِي
مَحل النَّقْض انْتَفَت الْعلَّة (وَغَيرهم) أَي غير المانعين
لتخصيصها
(4/141)
وهم الْأَكْثَرُونَ عِنْدهم عدم الْمَانِع
(شَرط ثُبُوت الحكم) لِأَن شَرط علته الْعلَّة (وَتقدم) فِي
المرصد الثَّانِي فِي شُرُوط الْعلَّة (مَا فِيهِ) من
الْكَلَام فَليرْجع إِلَيْهِ (و) قَالَ (بعض الْحَنَفِيَّة
(لَا يُمكن دفع النَّقْض عَن) الْعِلَل (الطردية) لِأَنَّهُ
يُبْطِلهَا حَقِيقَة (إِذْ الاطراد لَا يبْقى بعد النَّقْض)
يَعْنِي لَا دَلِيل على علتها سوى كَونهَا بِحَيْثُ مَتى وجدت
وجد الحكم مَعهَا، وَحَيْثُ وجدت فِي مَحل النَّقْض بِدُونِ
الحكم انْتَفَت الْحَيْثِيَّة، وَهِي الاطراد فانتفت الْعلية
لعدم مَا يدل عَلَيْهَا (وَهُوَ) أَي مَا قَالَه الْبَعْض من
عدم إِمْكَان دفع النَّقْض عَنْهَا (بعد كَونه على) تَقْدِير
تحقق (النَّقْض فِي نفس الْأَمر) لَا بِمُجَرَّد إِيرَاد
الْمُعْتَرض إِيَّاه لجَوَاز أَن يكون إِيرَاده على خلاف مَا
فِي الْوَاقِع، فيدفعه الْمُجيب حِينَئِذٍ بِدفع تهمته (وَعرف
مَا فِيهِ) حَيْثُ قَالَ فِي أول الْفَصْل، وعَلى الطردية ترد
مَعَ القَوْل بِالْمُوجبِ إِلَى آخِره فَارْجِع إِلَيْهِ
(بِنَاء) أَي مَبْنِيّ خبر لقَوْله، وَهُوَ (على قصر) الْعِلَل
(الطردية على مَا) أَي على الطردية الثَّابِتَة (بالدوران)
فَقَط من غير مُنَاسبَة وَلَا ملاءمة (وَلَا وَجه لَهُ) أَي
لقصرها عَلَيْهِ (بل) الطردية هِيَ (غير المؤثرة) فتعم
الْمُنَاسبَة والملائم باصطلاح الْحَنَفِيَّة، وَوجه الْبناء
أَن النَّقْض بِحَسب نفس الْأَمر إِنَّمَا يُنَافِي الدوران
بِحَسبِهِ لَا الْمُنَاسبَة والملائمة، فَلَو لم يقصر الطردية
على مَا بالدوران لَا يَصح قَوْله لَا يبْقى بعد النَّقْض،
لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِي علتها بِمُجَرَّد انْتِفَاء الدوران
لوُجُود الْمُنَاسبَة أَو الملائمة (وعَلى) تَقْدِير
(الْوُرُود) أَي وُرُود النَّقْض على الطردية (يحوج) وُرُوده
(إِلَى التَّأْثِير كطهارة) أَي كَقَوْل الشَّافِعِي الْوضُوء
طَهَارَة (فَيشْتَرط لَهَا) أَي للطَّهَارَة الَّتِي هِيَ
الْوضُوء (النِّيَّة كالتيمم) أَي كَمَا يشْتَرط النِّيَّة
للتيمم لكَونه طَهَارَة، فَجعل وصف الطَّهَارَة عِلّة
لاشْتِرَاط النِّيَّة (فينقض) الْوَصْف الْمَذْكُور عِلّة
(بِغسْل الثَّوْب) من النَّجَاسَة فَإِنَّهَا طَهَارَة، وَلَا
يشْتَرط فِيهِ النِّيَّة (فَيُفَرق) بَينهمَا (بِأَنَّهَا) أَي
الطَّهَارَة الَّتِي هِيَ الْوضُوء طَهَارَة (غير معقولة)
لِأَنَّهُ لَا يعقل فِي محلهَا نَجَاسَة (فَكَانَت)
الطَّهَارَة الْمَذْكُورَة (متعبدا بهَا فافتقرت إِلَى
النِّيَّة) تَحْقِيقا لِمَعْنى التَّعَبُّد الَّذِي لم تشرع
إِلَّا بِهِ، إِذْ الْعِبَادَة لَا تنَال بِدُونِ النِّيَّة
(بِخِلَافِهِ) أَي غسل الثَّوْب من النَّجَاسَة (لعقلية قصد
الْإِزَالَة) وَإِذا علم أَن الْمَقْصُود مِنْهَا إِزَالَة
النَّجَاسَة لَا التَّعَبُّد بهَا (وبالاستعمال) أَي
بِاسْتِعْمَال مَا يزِيل النَّجَاسَة (تحصل) الْإِزَالَة
الَّتِي هِيَ الْمَقْصُود (فَلم يفْتَقر) غسله إِلَى
النِّيَّة، وَقد مر فِي شُرُوط الْفَرْع جَوَاب الْحَنَفِيَّة
عَن هَذَا (وَأما) الْعِلَل (المؤثرة فَتقدم صِحَة وُرُود
النَّقْض عَلَيْهَا، وَحَيْثُ ورد) النَّقْض صُورَة عَلَيْهَا
(دفع بِأَرْبَع) من الْأَجْوِبَة: أَولهَا (إبداء عدم
الْوَصْف) فِي صُورَة النَّقْض (كخارج نجس) أَي كَمَا يُقَال
فِي الْخَارِج النَّجس من بدن الْإِنْسَان من غير
السَّبِيلَيْنِ أَنه نَاقض للْوُضُوء، لِأَنَّهُ خَارج نجس (من
الْبدن فَحدث) أَي فَهُوَ حدث (كَمَا فِي) الْخَارِج النَّجس
(4/142)
من (السَّبِيلَيْنِ) فَإِنَّهُ حدث
لِأَنَّهُ خَارج نجس من الْبدن (فينقض) الْوَصْف الْمَذْكُور
للعلية فِي إِثْبَات الْحَدث (بِمَا) أَي بِخَارِج نجس (لم
يسل) من رَأس الْجرْح إِلَى مَوضِع يلْحقهُ حكم التطهر
فَإِنَّهُ لَيْسَ بِحَدَث مَعَ وجود الْوَصْف الْمَذْكُور
فِيهِ (فَيدْفَع) النَّقْض بِهِ (بِعَدَمِ الْخُرُوج) أَي
بِأَن يُقَال لَا نسلم وجود الْوَصْف فِيمَا لم يسل فَإِنَّهُ
باد، وَلَيْسَ بِخَارِج (لِأَنَّهُ) أَي الْخُرُوج إِنَّمَا
يتَحَقَّق (بالانتقال) من مَكَان إِلَى آخر، وَهُوَ مُسْتَقر
فِي مَكَانَهُ، غير أَنه ظهر بِزَوَال الْجلْدَة الساترة لَهُ،
ثمَّ هُوَ لَيْسَ بِنَجس على مَا روى عَن أبي يُوسُف.
وَالْمُخْتَار عِنْد كثير من الْمَشَايِخ، بِخِلَاف
السَّبِيلَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يتَصَوَّر ظُهُور الْقَلِيل
مِنْهُمَا إِلَّا بالانتقال (وَملك بدل الْمَغْصُوب) أَي وكما
يُقَال فِي مالكية الْمَغْصُوب مِنْهُ بدل الْمَغْصُوب أَنه
(عِلّة ملكه) أَي مالكية الْغَاصِب الْمَغْصُوب لِئَلَّا
يجْتَمع الْبَدَل والمبدل فِي ملك شخص وَاحِد (فينقض) الْوَصْف
الْمَذْكُور فِي هَذَا التَّعْلِيل (بالمدبر) فَإِن غصبه سَبَب
لملك بدله للْمَغْصُوب مِنْهُ، وَمَعَ هَذَا لَا يملك
الْغَاصِب الْمُبدل وَلم يخرج عَن ملك الْمَغْصُوب مِنْهُ
(فَيمْنَع) أَن يكون مَا ملك الْمَغْصُوب مِنْهُ (ملك بدله)
أَي بدل الْمَغْصُوب (بل بدل الْيَد) أَي بل هُوَ ملك بدل
الْيَد، لِأَن ضَمَانه لَيْسَ بَدَلا عَن الْعين، بل عَن
الْيَد الثَّابِتَة، فَلم يتَحَقَّق الْوَصْف، وَهُوَ ملك بدل
الْمَغْصُوب عَلَيْهِ فِي مَادَّة النَّقْض فَلَا نقض (و)
ثَانِيهَا الْجَواب (بِمَنْع وجود الْمَعْنى الَّذِي بِهِ
صَار) الْوَصْف (عِلّة) وَذَلِكَ الْمَعْنى كَالثَّابِتِ
بِدلَالَة النَّص بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَنْصُوص بِمَعْنى
أَن الْوَصْف بِوَاسِطَة مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ يدل على معنى
آخر هُوَ الْمُؤثر فِي الحكم (فينتفى) الْوَصْف معنى (وَإِن
وجد صُورَة كمسح) أَي كَمَا يُقَال فِي مسح الرَّأْس مسح
(فَلَا يسن تكريره كمسح الْخُف) فَإِنَّهُ مسح، فَلَا يسن
تكريره (فينتقض) الْوَصْف، وَهُوَ كَونه مسحا (بالاستنجاء)
بِالْحجرِ: أَي بِأَنَّهُ مَوْجُود فِيهِ مَعَ تخلف الحكم،
وَهُوَ عدم مسنونية التكرير عَنهُ، فَإِن تثليث الْمسْح فِيهِ
مسنون إِجْمَاعًا إِذا احْتِيجَ إِلَيْهِ، فَإِن لم يكن تثليث
الْحجر مسنونا عِنْد أَصْحَابنَا على الْإِطْلَاق، وَإِذا
كَانَ الْحجر ذَا أَطْرَاف ثَلَاثَة وَمسح بِكُل مِنْهَا عمل
بِالسنةِ (فَيمْنَع فِيهِ) أَي فِي الِاسْتِنْجَاء (الْمَعْنى
الَّذِي شرع لَهُ) الْمسْح فِي الْوضُوء (وَهُوَ) أَي
الْمَعْنى الْمَذْكُور (التَّطْهِير الْحكمِي) لِأَن
الِاسْتِنْجَاء تَطْهِير حَقِيقِيّ (وَله) أَي التَّطْهِير
الْحكمِي (لم يسن) التّكْرَار (لِأَنَّهُ) أَي التّكْرَار
(لتأكيد التَّطْهِير الْمَعْقُول) الْمَعْنى، وَهُوَ إِزَالَة
النَّجَاسَة الْحَقِيقِيَّة (لتحَقّق الْإِزَالَة) بالتكرار
(وَهُوَ) أَي التَّطْهِير الْمَعْقُول ثَابت (فِي
الِاسْتِنْجَاء) لِأَنَّهُ إِزَالَة للنَّجَاسَة (دونه) أَي
لَيْسَ بِثَابِت فِي الرَّأْس (كَمَا) أَي كالكائن (فِي
التَّيَمُّم) فَإِنَّهُ تَطْهِير حكمي غير مَعْقُول الْمَعْنى:
وَلِهَذَا لم يشرع فِيهِ التّكْرَار. (و) ثَالِثهَا الْجَواب
(بِمَنْع التَّخَلُّف) أَي تخلف الحكم عَن الْعلَّة فِي صُورَة
النَّقْض وادعاء تحَققه فِيهَا (كَمَا إِذا نقض) الْمِثَال
(الأول)
(4/143)
يَعْنِي الْوَصْف الْمَذْكُور فِيهِ،
وَهُوَ خُرُوج النَّجس من الْبدن (بِالْجرْحِ السَّائِل)
لصَاحب الْعذر بِأَن يُقَال الْجرْح الْمَذْكُور مَوْجُود
فِيهِ مَعَ تخلف الحكم، وَهُوَ الْحَدث عَنهُ (فَيمْنَع كَونه)
أَي الْخَارِج النَّجس فِي الْجرْح سَائِلًا (لَيْسَ حَدثا بل
هُوَ) حدث: أَي مُوجب لَهُ (وَتَأَخر حكمه) الَّذِي هُوَ
الْحَدث (إِلَى مَا بعد خُرُوج الْوَقْت) عِنْد أبي حنيفَة
وَمن وَافقه (أَو) إِلَى (الْفَرَاغ) من الْمَكْتُوبَة وَمَا
يتبعهَا من النَّوَافِل عِنْد الشَّافِعِي وَمن وَافقه، كَذَا
ذكره الشَّارِح، وَفِيه أَن الشَّافِعِي لَا يَقُول
بِالْحَدَثِ فِيمَا خرج من غير السَّبِيلَيْنِ (ضَرُورَة
الْأَدَاء) عِلّة للتأخر فَإِنَّهُ مُخَاطب بأدائها، وَلَا
قدرَة عَلَيْهِ إِلَّا بِسُقُوط حكم الْحَدث فِي هَذِه
الْحَالة (وَلذَا) أَي وَلأَجل كَونه حَدثا تَأَخّر حكمه
ضَرُورَة الْأَدَاء (لم يجز مَسحه) أَي مسح صَاحب الْجرْح
السَّائِل (خفه إِذا لبسه فِي الْوَقْت مَعَ السيلان بعد
خُرُوجه) أَي الْوَقْت، وَإِنَّمَا قَالَ بعد خُرُوجه
لِأَنَّهُ يمسح فِي الْوَقْت كلما تَوَضَّأ لحَدث غير الَّذِي
ابتلى بِهِ، وَقيد أَيْضا بمقارنة التَّلَبُّس للسيلان، لِأَن
اللّبْس إِذا كَانَ على الِانْقِطَاع يمسح بعد الْوَقْت أَيْضا
إِلَى تَمام الْمدَّة، وَإِذا كَانَ الْوضُوء مُقَارنًا
للسيلان دون اللّبْس فَحكمه حكم مُقَارنَة اللّبْس للسيلان،
وَإِنَّمَا لم يجز مَسحه فِيمَا ذكر بعد خُرُوج الْوَقْت،
لِأَنَّهُ بِخُرُوج الْوَقْت يصير مُحدثا بِالْحَدَثِ
السَّابِق، فَفِي حق الْمسْح بعد خُرُوج الْوَقْت يعْتَبر
كَونه لابسا للخف على غير طَهَارَة، لِأَن ضَرُورَة اعْتِبَار
سُقُوط حكم الْحَدث قد انْتَهَت بِخُرُوج الْوَقْت لما عرفت،
وَحكم الْحَدث وَإِن ثَبت بعد خُرُوجه لكنه يسْتَند إِلَى
السَّبَب، فَيعْتَبر من وَقت اللّبْس. (و) رَابِعهَا الْجَواب
(بالغرض) أَي بِبَيَان الْغَرَض الْمَطْلُوب بِالتَّعْلِيلِ
(فَيَقُول) الْمُسْتَدلّ (فِي) جَوَاب نقض (الْمِثَال)
الْمَذْكُور (غرضي بِهَذَا التَّعْلِيل التَّسْوِيَة بَين
الْخَارِج من السَّبِيل و) الْخَارِج من (غَيره فِي كَونهمَا
حَدثا، و) كَونهمَا (إِذا لزما) أَي استمرا (صَارا عفوا) بِأَن
يسْقط حكمهمَا ضَرُورَة توجه الْخطاب بأَدَاء الصَّلَاة (فَإِن
الْبَوْل) الَّذِي هُوَ أصل (كَذَلِك) أَي إِذا اسْتمرّ صَار
عفوا للمعنى الْمَذْكُور (فَوَجَبَ فِي الْفَرْع) أَي الْجرْح
السَّائِل (مثله) أَي إِذا دَامَ صَار عفوا لما ذكر وَإِلَّا
لزم مُخَالفَة الْفَرْع للْأَصْل (وَحَاصِل الثَّانِي) وَهُوَ
الْجَواب بِمَنْع وجود الْمَعْنى إِلَى آخِره (الِاسْتِدْلَال
على انتفائها) أَي الْعلَّة (إِذْ هِيَ) أَي الْعلَّة عِلّة
(بمعناها لَا بِمُجَرَّد صورتهَا) فَلَا عِبْرَة بالصورة عِنْد
انْتِفَاء الْمَعْنى (وَذكر الشَّافِعِيَّة من الاعتراضات) نقض
الْحِكْمَة فَقَط) بِأَن تُوجد الْحِكْمَة فِي مَادَّة وَلم
تُوجد الْعلَّة وَلَا الحكم (ويسمونه) أَي النَّقْض
الْمَذْكُور (كسرا، وَتقدم) فِي المرصد الثَّانِي فِي شُرُوط
الْعلَّة (الْخلاف فِي قبُوله) أَي قبُول هَذَا النَّقْض
(وَأَن الْمُخْتَار) عِنْد الْأَكْثَر: وَمِنْهُم الْآمِدِيّ
وَابْن الْحَاجِب (قبُوله عِنْد الْعلم برجحان) الْحِكْمَة
(المنقوضة) بهَا فِي مَحل النَّقْض على الْمَذْكُورَة فِي
الأَصْل، يَعْنِي إِذا
(4/144)
علم أَنه تحقق فِي مَحل النَّقْض فَرد من
أَفْرَاد الْحِكْمَة رَاجِح على الْفَرد الْمَوْجُود فِي
الأَصْل (أَو مساواتها) أَي مُسَاوَاة المنقوضة بهَا للمذكورة
إِلَّا أَن شرع حكم آخر فِي مَحل النَّقْض أليق بالمنقوضة بهَا
(وحققنا ثمَّة خِلَافه) أَي خلاف الْمُخْتَار، وَهُوَ أَن لَا
يسمع وَإِن علم رُجْحَان المنقوضة بهَا لما ذكر هُنَاكَ
فَارْجِع إِلَيْهِ (ثمَّ منع وجود الْعلَّة) يَعْنِي
الْحِكْمَة (هُنَا) أَي فِي الْكسر (على تَقْدِير سَمَاعه) أَي
الْكسر (أظهر مِنْهُ) أَي من منع وجودهَا فِي النَّقْض لِأَن
قدر الْحِكْمَة يتَفَاوَت، فقد لَا يحصل مَا هُوَ منَاط الحكم
مِنْهُ فِي الأَصْل (فِي) مَادَّة (النَّقْض) بِخِلَاف نفس
الْوَصْف فَإِنَّهُ لَا يتَفَاوَت فيبعد أَن يخفى وجود
الْعلَّة فِي مَادَّة النَّقْض على الناقض فيدعي وجودهَا،
وتخلف الحكم بِخِلَاف الْحِكْمَة لما عرفت (خَامِسهَا) أَي
خَامِس المنوع على عِلّة حكم الأَصْل (فَسَاد الْوَضع) وَلم
يعرفهُ اكْتِفَاء بِمَا يفهم من بَيَان النِّسْبَة، وَهُوَ
(أخص من فَسَاد الِاعْتِبَار من وَجه إِذْ قد يجْتَمع ثُبُوت
اعْتِبَارهَا) أَي الْعلَّة (فِي نقيض الحكم) الَّذِي هُوَ
فَسَاد الْوَضع (مَعَ مُعَارضَة نَص أَو إِجْمَاع) ومعارضة
الْعلَّة لأَحَدهمَا هُوَ فَسَاد الِاعْتِبَار (وَلَا يخفى)
الْأَمْرَانِ (الْآخرَانِ) اللَّذَان لَا بُد مِنْهُمَا فِي
الْعُمُوم وَالْخُصُوص من وَجه بَينهمَا، يَعْنِي انْفِرَاد
ثُبُوت اعْتِبَارهَا فِي نقيض الحكم عَن معارضتها لأَحَدهمَا
وَعَكسه، وَقيل فَسَاد الْوَضع أخص مُطلقًا من فَسَاد
الِاعْتِبَار وَقيل هما وَاحِد، وَنسب إِلَى أبي إِسْحَاق
الشِّيرَازِيّ وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَمَا ذهب إِلَيْهِ
المُصَنّف هُوَ الْوَجْه لما علله بِهِ (وَيُفَارق) فَسَاد
الْوَضع (النَّقْض بتأثيره) أَي الْوَصْف فِي فَسَاد الْوَضع
(فِي النقيض) أَي نقيض الحكم الَّذِي جعل عِلّة لَهُ، بِخِلَاف
النَّقْض لِأَنَّهُ لَا تعرض فِيهِ لتأثير الْوَصْف فِيهِ،
وَإِنَّمَا يثبت النقيض مَعَه سَوَاء كَانَ التَّأْثِير لَهُ
أَو لغيره (و) يُفَارق (الْقلب بِكَوْنِهِ) أَي الْوَصْف فِي
فَسَاد الْوَضع يثبت نقيض الحكم (بِأَصْل آخر) وَفِي الْقلب
يثبت نقيض الحكم بِأَصْل الْمُسْتَدلّ (و) يُفَارق (الْقدح فِي
الْمُنَاسبَة بمناسبته) أَي الْوَصْف والقدح فِي الْمُنَاسبَة
(نقيضه) أَي الحكم (من حَيْثُ هُوَ كَذَلِك) يَعْنِي أَن يكون
مناسبته الْوَصْف لنقيض الحكم من جِهَة ثُبُوته بِتِلْكَ
الْجِهَة كَانَ مناسبا للْحكم، فَقَوله من حَيْثُ مُتَعَلق
بمناسبته من جِهَته: أَي إِذا كَانَ، وَضمير هُوَ رَاجع إِلَى
الْوَصْف مُبْتَدأ خَبره كَذَلِك، وَالْإِشَارَة إِلَى حَال
الْوَصْف مَعَ الحكم بِاعْتِبَار الْمُنَاسبَة، وَذَلِكَ
إِنَّمَا يتَحَقَّق (إِذا كَانَ من جِهَته) أَي إِذا كَانَت
الْمُنَاسبَة للنقيض من جِهَة مُنَاسبَة الْوَصْف للْحكم، لَا
من جِهَة أُخْرَى كمصلحة مترتبة عَلَيْهِ، وتذكير الضَّمِير
فِي كَانَ بِتَأْوِيل التناسب (بِخِلَافِهِ) أَي بِخِلَاف مَا
إِذا كَانَ التناسب للنقيض (من غَيره) أَي من غير جِهَة تناسب
للْحكم كَمَا (إِذا كَانَ لَهُ) أَي للوصف (جهتان) تناسب
بأحداهما الحكم وبالأخرى
(4/145)
نقيضه (كَكَوْنِهِ) أَي الْمحل (مشتهى)
للنفوس (يُنَاسب الْإِبَاحَة) كإباحة النِّكَاح (لدفع
الْحَاجة) من قَضَاء الشَّهْوَة (و) يُنَاسب (التَّحْرِيم) على
التَّأْبِيد (لقطع الطمع) إِذْ بِهِ يرفع الطمع المفضي إِلَى
مُقَدمَات الْهم وَالنَّظَر المفضية إِلَى الْفُجُور، وَفِي
الشَّرْح العضدي وَقد تخلص مِمَّا ذَكرْنَاهُ أَن ثُبُوت
النقيض مَعَ الْوَصْف نقض، فَإِن زيد ثُبُوته بِهِ ففساد
الْوَضع، وَأَن زيد كَونه بِهِ فِي أصل الْمُسْتَدلّ فَقلب،
وَبِدُون ثُبُوته مَعَه فالمناسبة من جِهَة وَاحِدَة قدح
فِيهَا وَمن جِهَتَيْنِ لَا، فَعلم أَن الْمُعْتَبر فِي فَسَاد
الْوَضع ثُبُوت نقيض الحكم بِالْوَصْفِ بل مَعَ اعْتِبَار
الشَّارِع ذَلِك، وَذَلِكَ يسْتَلْزم ثُبُوته مَعَه، وَفِي
الْقدح عدم لُزُوم ثُبُوته مَعَه غير أَن الْوَصْف مُنَاسِب
للنقيض من الْجِهَة الَّتِي زعم الْمُسْتَدلّ مُنَاسبَة للْحكم
اعْتِبَارهَا (مِثَاله) أَي مِثَال فَسَاد الْوَضع أَن يُقَال
فِي التَّيَمُّم (مسح فَيسنّ تكراره كالاستنجاء فَيرد) أَن
يُقَال إِثْبَات التّكْرَار بِالْمَسْحِ فَاسد الْوَضع إِذْ
الْمسْح (مُعْتَبر فِي كَرَاهَته) أَي التّكْرَار (كالخف)
فَإِن تكْرَار الْمسْح عَلَيْهِ يكره إِجْمَاعًا (وَجَوَابه)
أَي هَذَا الْمَنْع (بالمانع) أَي بِبَيَان وجود الْمَانِع
(فِيهِ) أَي فِي الْخُف الَّذِي هُوَ أصل الْمُعْتَرض
(فَسَاده) أَي فَسَاد الْخُف وتلافه بتكرار الْمسْح عَلَيْهِ،
فَقَوله فَسَاده إِمَّا مجرور عطف بَيَان للمانع أَو مَرْفُوع
خبر مَحْذُوف، وَهُوَ ضمير رَاجع إِلَى الْمَانِع (و) مِثَاله
(للحنفية إِضَافَة الشَّافِعِي الْفرْقَة) بَين الزَّوْجَيْنِ
إِذا أسلمت وأبى (إِلَى إِسْلَام الزَّوْجَة) فَإِن هَذِه
الْإِضَافَة من فَسَاد الْوَضع (فَإِنَّهُ) أَي الْإِسْلَام
(اعْتبر) شرعا (عَاصِمًا للحقوق) كَمَا يَقْتَضِيهِ الحَدِيث
الصَّحِيح، وَقد ذكر فِي بحث التَّأْثِير (فَالْوَجْه) إضافتها
(إِلَى آبَائِهِ) أَي امْتِنَاعه من الْإِسْلَام لِأَنَّهَا
عُقُوبَة والامتناع مِنْهُ رَأس كل عُقُوبَة (وَكَقَوْلِه) أَي
الشَّافِعِي فِي عِلّة تَحْرِيم الرِّبَا فِي الْحِنْطَة
وَالشعِير وَالتَّمْر وَالْملح إِنَّهَا الطّعْم إِذْ (المطعوم
ذُو خطر) أَي عزة وَشرف لكَونه قوام النُّفُوس وبقاءها (فيزاد
فِيهِ) أَي فِي تملكه (شَرط التَّقَابُض) إِظْهَارًا للخطر
كَالنِّكَاحِ الْمُوجب للاستيلاء على مَحل ذِي خطر فَإِنَّهُ
شَرط فِيهِ زَائِد، وَهُوَ حُضُور الشُّهُود (فَيرد) أَن
يُقَال (اعْتِبَار مساس الْحَاجة) إِلَى الشَّيْء إِنَّمَا
يُنَاسب أَن يكون مؤثرا (فِي التَّوسعَة) وَالْإِطْلَاق فِي
ذَلِك الشَّيْء، لَا فِي التَّضْيِيق وَالتَّقْيِيد بِالشّرطِ
الزَّائِد، وَلذَا أحل الْميتَة عِنْد الِاضْطِرَار، وَلذَا
جرت السّنة الإلهية بالتوسعة فِي المَاء والهواء وَنَحْوهمَا
(سادسها) أَي المنوع على الْعلَّة (الْمُعَارضَة فِي الأَصْل)
وَهِي (أَن يُبْدِي) الْمُعْتَرض (فِيهِ) أَي فِي الأَصْل
(وَصفا آخر) غير مَا أبداه الْمُسْتَدلّ (صَالحا) للعلية
(يحْتَمل أَنه الْعلَّة) وَعبارَة المُصَنّف هَذِه كَانَت
وافية بأَدَاء الْمَقْصُود لِأَن الْمَجْمُوع الْمركب من وصف
الْمُسْتَدلّ وَوصف الْمُعْتَرض يصدق عَلَيْهِ أَنه اثر وصف
آخر غير أَنه قصد التَّوْضِيح فَقَالَ (أَو) أَنه (مَعَ وصف
الْمُسْتَدلّ) الْعلَّة (فَالْأول) يَعْنِي مِثَال الأول،
وَهُوَ إبداء وصف آخر وَحده (مُعَارضَة الطّعْم)
(4/146)
الْمُعَلل بِهِ فِي تَعْلِيل الْمُسْتَدلّ
لحُرْمَة الرِّبَا فِي المنصوصات (بالقوت أَو الْكَيْل) جعله
مِثَالا للْأولِ وَإِن احْتمل أَن يَجْعَل للثَّانِي أَيْضا
بِأَن يَجْعَل الْمُعْتَرض الْعلَّة مَجْمُوع الطّعْم والقوت
أَو الْكَيْل (وَالثَّانِي) وَهُوَ إبداء وصف مَعَ وصف
الْمُسْتَدلّ للعلية (الْجَارِح للْقَتْل الْعدوان) أَي
مُعَارضَة الْجَارِح للْقَتْل الْعدوان الْمُعَلل بِهِ فِي
تَعْلِيل الْمُسْتَدلّ الْقصاص فِي المحدد (لنفي المثقل)
كالحجر الْكَبِير مُتَعَلق بالمعارضة المفهومة، فَإِن
الْمعَارض قصد بإبداء الْمَجْمُوع الْمركب من الْجَارِح
وَالْقَتْل الْعدوان للعلية نفي وجوب الْقصاص فِي الْقَتْل
بالمثقل لِانْعِدَامِ جُزْء الْعلَّة: وَهُوَ الْجَارِح فِيهِ
(وَاخْتلف فِيهِ) أَي (فِي) هَذَا الْمَنْع فِي كل من
(المذهبين) للحنفية وَالشَّافِعِيَّة من حَيْثُ الْقبُول
وَعَدَمه (وَالْمُخْتَار للشَّافِعِيَّة قبُوله) أَي الْمَنْع
الْمَذْكُور (لتَحكم الْمُسْتَدلّ) بِهِ (باستقلال وَصفه مَعَ
صَلَاحِية) الْوَصْف (المبدي لَهُ) أَي للاستقلال: يَعْنِي
يقبل من الْمُعْتَرض أَن يمْنَع علية وصف الْمُسْتَدلّ بإبداء
وصف آخر لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يلْزم أَن يكون حكمه باستقلال
وَصفه مَعَ كَون الْوَصْف الآخر مثله فِي صَلَاحِية الْعلَّة
تحكما مَحْضا وَهُوَ بَاطِل، وَلَا شكّ فِي قبُول مَا تبين
بطلَان التَّعْلِيل (وللجزئية) مَعْطُوف على قَوْله يَعْنِي
وَكَذَا يلْزم تحكمه فِي دَعْوَى الِاسْتِقْلَال مَعَ
صَلَاحِية المبدي للجزئية، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يجوز أَن يكون
الْمُعْتَبر عِنْد الشَّارِع فِي الْعلية الْمَجْمُوع الْمركب
من الوصفين كَمَا يجوز أَن يكون وصف الْمُسْتَدلّ من غير
رُجْحَان لأَحَدهمَا على الآخر فَالْحكم بالاستقلال من
الْمُسْتَدلّ تحكم (وَلَا يرجح) وصف الْمُسْتَدلّ من غير
رُجْحَان لأَحَدهمَا على الآخر فَالْحكم بالاستقلال من
الْمُسْتَدلّ على وصف الْمُعْتَرض وَهُوَ الْمَجْمُوع الْمركب
(بالتوسعة) أَي بِسَبَب كَونه أوسع دَائِرَة لِأَن الْجُزْء
الْأَعَمّ أَكثر وجودا من الْكل فَيتَحَقَّق الحكم مَعَه أَكثر
مِمَّا يتَحَقَّق مَعَ الْكل، أَو الْمَعْنى لَا يرجح وصف
الْمُسْتَدلّ سَوَاء كَانَ وصف الْمُعْتَرض مركبا من وصف
الْمُسْتَدلّ أَو لَا بِسَبَب كَونه أَعم من الْوَصْف الآخر
(لِأَنَّهُ) أَي حُصُول التَّوسعَة (مُرَجّح لما ثبتَتْ عليته)
أَي إِذا ثبتَتْ علية وصف بِاعْتِبَار الشَّارِع مَعَ ثُبُوت
علية وصف آخر وَكَانَ أَحدهمَا أوسع دَائِرَة من الآخر يرجح
الأوسع لكَونه أَكثر إِثْبَاتًا للْحكم وَفِي نُسْخَة لما ثَبت
اعْتِبَاره (وَالْكَلَام فِيهِ) فِي أصل ثُبُوت علية وصف
الْمُسْتَدلّ، وَقيل ثُبُوتهَا لَا يرجح بِمَا هُوَ أَكثر
إِثْبَاتًا لَهُ، لِأَن الأَصْل عَدمه. فَالْحَاصِل أَن
الْأَحْوَط بعد ثُبُوت الْعلية اعْتِبَار الأوسع لِئَلَّا يفوت
حكم اعْتَبرهُ الشَّارِع بِخِلَاف مَا قبله، فَإِن الأولى
فِيهِ رِعَايَة الأَصْل فَتَأمل (وَلَو سلم) التَّرْجِيح
بالتوسعة قبل ثُبُوت الْعلية (فمعارض) أَي فَهَذَا الْمُرَجح
معَارض على صِيغَة الْمَجْهُول (بِمَا يرجح وصف الْمُعَارضَة)
أَي الْوَصْف الْمَذْكُور فِي مقَام الْمُعَارضَة (وَهُوَ) أَي
مَا يرجح وصفهَا (مُوَافقَة الأَصْل) وَهُوَ عدم الحكم
(بالانتفاء) أَي بِانْتِفَاء الحكم (فِي الْفَرْع) اللَّازِم
لوصف الْمُعَارضَة (و) الْمُخْتَار (للحنفية نَفْيه) أَي نفي
قبُوله
(4/147)
(ويسمونها) أَي الْمُعَارضَة فِي الأَصْل
(الْمُفَارقَة) إِشَارَة إِلَى مَا سَيَأْتِي من أَن سُؤال
الْفرق إبداء خُصُوصِيَّة فِي الأَصْل هِيَ شَرط للوصف مَعَ
بَيَان انتفائها فِي الْفَرْع أَو بَيَان مَانع من الحكم فِيهِ
مَعَ انْتِفَاء ذَلِك الْمَانِع فِي الأَصْل فهما معارضان فِي
الأَصْل وَالْفرع لِأَن ابداء شَرط فِي الأَصْل مُعَارضَة
فِيهِ وَبَيَان وجوده فِي الْفَرْع مُعَارضَة فِيهِ، وَمن أَن
الْمُعْتَرض إِن لم يتَعَرَّض لانْتِفَاء الشَّرْط فِي
الْفَرْع لم يكن من الْفرق بل هُوَ مُعَارضَة فِي الأَصْل
الْمُسَمّى مُفَارقَة عِنْد الْحَنَفِيَّة، وَلم يذكروه
اكْتِفَاء بِذكر الْمُعَارضَة فِي الأَصْل، وَلَعَلَّ وَجه
التَّسْمِيَة أَن بَيَان الخصوصية فِي الأَصْل ينْسب للمفارقة
بَين الأَصْل وَالْفرع (فَإِن كَانَ صَحِيحا) اسْم كَانَ رَاجع
إِلَى الْفرق الْمَفْهُوم فِي ضمن الْمُفَارقَة لِأَن إبداء
الْوَصْف الآخر إِنَّمَا يقْصد بِهِ الْفرق بَين الأَصْل
وَالْفرع، وَصِحَّته بِوُجُود دَلِيل على وجود الْفَارِق
بَينهمَا فِي الْعلَّة الْمُعْتَبرَة فِي ذَلِك الحكم (فليجعل)
الْفرق الْمَوْجُود فِي ضمن تِلْكَ الْمُفَارقَة (ممانعة) أَي
فليورد فِي صُورَة الممانعة (ليقبل) من الْمُعْتَرض لِأَن
الْمُفَارقَة من الأسئلة الْفَاسِدَة عِنْد الْجُمْهُور،
وللممانعة أساس المناظرة، وَبهَا يعرف فقه الرجل (فَفِي
إِعْتَاق عبد الرَّهْن) أَي إِعْتَاق الرَّاهِن العَبْد
الْمَرْهُون إِذا قَالَ الشَّافِعِي بِبُطْلَانِهِ لِأَنَّهُ
(تصرف لَاقَى حق الْمُرْتَهن) بالإبطال بِدُونِ رِضَاهُ
(فَيبْطل) إِعْتَاقه (كَبَيْعِهِ) أَي لَا يبطل بيع الرَّاهِن
الْمَرْهُون بِغَيْر إِذن الْمُرْتَهن (لَو قَالَ) الْحَنَفِيّ
(هِيَ) أَي الْعلَّة (فِي الأَصْل) أَي البيع (كَونه) أَي
البيع (يحْتَمل الرّفْع) بعد وُقُوعه فَلَا وَجه لِلْقَوْلِ
بانعقاده وَهُوَ على شرف الِانْفِسَاخ من قبل الْمُرْتَهن،
بِخِلَاف الْعتْق لكَونه لَا يحْتَمل الرّفْع (لم يقبل) جَوَاب
لَو، لما ذكر من أَن الْمُخْتَار عِنْد الْحَنَفِيَّة عدم
قبُول الْمُفَارقَة، وَذَلِكَ لِأَن السَّائِل لَيْسَ لَهُ
ولَايَة الْفرق كَمَا سيشير إِلَيْهِ، غير أَن الْفرق هَهُنَا
صَحِيح فليجعل ممانعة (فَلْيقل إِن ادعيت حكم الأَصْل) أَي إِن
جعلت حكم الأَصْل، وَهُوَ البيع (الْبطلَان منعناه) أَي منعنَا
كَونه حكم الأَصْل (أَو) ادعيت حكمه (التَّوَقُّف) على إجَازَة
الْمُرْتَهن أَو قَضَاء دينه (فَغير حكمك) الَّذِي تُرِيدُ
إثْبَاته (فِي الْفَرْع) وَهُوَ الْبطلَان (وَهَذَا) أَي كَون
الْمُخْتَار عِنْد الْحَنَفِيَّة نفي قبُوله (لِأَنَّهُ غصب)
لمنصب التَّعْلِيل، إِذْ السَّائِل مسترشد فِي موقف
الْإِنْكَار فَإِن ادّعى شَيْئا آخر وقف موقف الدَّعْوَى
بِخِلَاف الْمُعَارضَة فَإِنَّهَا تكون بعد تَمام الدَّلِيل
والمعارض لَيْسَ فِي موقف الْإِنْكَار بل فِي موقف
الِاسْتِدْلَال على خلاف مَا أَقَامَ عَلَيْهِ الْخصم
(وَلَيْسَ) الْأَمر كَمَا قَالُوا من أَن إبداء وصف آخر غصبه
(لِأَنَّهُ) أَي المبدي (لَا يسْتَدلّ عَلَيْهِ) أَي كَون
الْوَصْف الآخر عِلّة (بل يجوز كَونه) أَي المبدي وَحده
(الْعلَّة أَو) كَونه (مَعَ مَا ذكر) الْمُسْتَدلّ الْعلَّة.
(وَحَاصِله) أَي حَاصِل سُؤَاله هَذَا (منع استقلاله) أَي
اسْتِقْلَال وصف الْمُسْتَدلّ بالعلية (وتسميته مُعَارضَة تجوز
لقَولهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ (إِذا أطلقت) الْمُعَارضَة فِي
بَاب الْقيَاس
(4/148)
(فَمَا فِي الْفَرْع) أَي فَالْمُرَاد
الْمُعَارضَة فِي الْفَرْع (وَهَذِه) أَي الْمُعَارضَة فِي
الأَصْل تذكر (بِقَيْد) هُوَ فِي الأَصْل، فَعلم أَن
الْحَقِيقَة فِي إِطْلَاق لفظ الْمُعَارضَة مَا فِي الْفَرْع،
فَإِذا اسْتعْمل فِي غَيره كَانَ تجوزا على طَرِيق
الِاسْتِعَارَة (وَإِذا رد النَّقْض) الَّذِي هُوَ
كَالصَّرِيحِ فِي الِاسْتِدْلَال (إِلَى الْمَنْع) كَمَا مر
(فَهَذَا) أَي رد الْمُعَارضَة فِي الأَصْل إِلَى الْمَنْع
(أولى) مِنْهُ فِي ذَلِك [وَفِي التَّلْوِيح] وَلَا يخفى أَنه
نزاع جدلي يقصدون بِهِ عدم وُقُوع الْخبط فِي الْبَحْث
وَإِلَّا فَهُوَ ساع فِي إِظْهَار الصَّوَاب. (قَالُوا) أَي
الْحَنَفِيَّة (ولجواز علتين فِي الأَصْل تعدى) الحكم (بِكُل)
مِنْهُمَا (إِلَى محلهَا) أَي إِلَى مَحل تِلْكَ الْعلَّة من
موارد تحققها (فَعدم إِحْدَاهمَا) بِعَينهَا (فِي مَحل) تُوجد
فِيهِ الْأُخْرَى (لَا يَنْفِي) كَون (الْأُخْرَى) عِلّة
للْحكم فتعدى بهَا إِلَى مَحل آخر (وَهَذَا) الْوَجْه
(يقْتَصر) فِي إفادته نفي الْقبُول (على مَا يجب فِيهِ) أَي
على مَحل يجب فِيهِ (اسْتِقْلَال كل) من العلتين بِدَلِيل
يُوجب ذَلِك (دون تَجْوِيز جزئيته) أَي جزئية كل مِنْهُمَا،
لما كَانَ الِاسْتِقْلَال الْمُقَابل لتجويز الْجُزْئِيَّة
يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ: أَحدهمَا أَن يكون كل من المستقلين
مجتمعا مَعَ الآخر، وَالثَّانِي بِخِلَافِهِ فَلَا تجمع علية
أَحدهمَا مَعَ علية الآخر، وَعدم قبُول السُّؤَال فِي الأول
دون الثَّانِي أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله (فَالْحق) أَن يُقَال
(أَن أجمع) أَي انْعَقَد الْإِجْمَاع (على أَنَّهَا) أَي
الْعلَّة (فِي مَحل النزاع إِحْدَاهمَا) فَقَط: أَي عِلّة
الْمُسْتَدلّ والمعترض اسْتِقْلَالا (كعلة الرِّبَا) فَإِنَّهُ
أجمع على أَنَّهَا إِمَّا الْكَيْل وَالْوَزْن، أَو الطّعْم
فِي المطعومات وَالثمن فِي الْأَثْمَان، أَو الاقتيات والادخار
(قبل) هَذَا السُّؤَال (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يجمع على مَا
ذكر (لَا) يقبل لجَوَاز أَن يكون كل مِنْهُمَا عِلّة
اسْتِقْلَالا كَمَا ذكر. (وَقَوْلهمْ) أَي الشَّافِعِيَّة
(بالاستقراء مبَاحث الصَّحَابَة جمع وَفرق) قَوْله مبَاحث
الصَّحَابَة مُبْتَدأ خَبره جمع وَفرق: يَعْنِي جمع الْفَرْع
مَعَ الأَصْل فِي الحكم بِمُوجب وصف مُشْتَرك بَينهمَا، وتمييز
صُورَة عَن صُورَة أُخْرَى عِنْد توهم مشاركتهما فِي الحكم
بِوَصْف مُشْتَرك بَينهمَا بِبَيَان فَارق يُفِيد عدم
مشاركتهما فِي عِلّة الحكم، وَذَلِكَ بإبداء وصف مُغَاير لما
توهم كَونه عِلّة فِي الصُّورَة الَّتِي ظن كَونهَا أصلا
لصورته الْأُخْرَى، وَذَلِكَ إِجْمَاع على جَوَاز وصف فَارق
غير مَوْجُود فِي الْفَرْع، وَقَوله بالاستقراء مُتَعَلق بِمَا
يفهم من السِّيَاق تَقْدِيره علم بالاستقراء أَنه (لَا يمسهُ)
خبر قَوْلهم وَالضَّمِير الْمَنْصُوب رَاجع إِلَى مطلبهم،
وَهُوَ قبُول السُّؤَال الْمَذْكُور على الْعُمُوم (إِلَّا إِن
نقلت) مباحثهم جمعا وفرقا (على) وَجه (الْعُمُوم) بِحَيْثُ
ينْدَرج تحتهَا مبَاحث الْفرق فِي الْمُتَنَازع (وَلَا يُمكن)
نقلهَا كَذَلِك لِأَن مَا نقل عَنْهُم مضبوط عِنْد أَئِمَّة
النَّقْل وَلَيْسَ فِيهِ الْعُمُوم الْمَذْكُور (وعَلى)
تَقْدِير (قبُولهَا) أَي الْمُعَارضَة فِي الأَصْل هَل يلْزم
بَيَان انْتِفَاء المبدي فِي الْفَرْع؟ فِيهِ أَقْوَال: فأحدها
نعم، إِذْ لَو لم ينتف فِيهِ لثبت مَطْلُوب الْمُسْتَدلّ،
فثانيها لَا، لِأَن غَرَضه عدم اسْتِقْلَال وصف الْمُسْتَدلّ
(4/149)
وَهُوَ يحصل بِمُجَرَّد الإبداء (فثالثها)
الَّذِي هُوَ (الْمُخْتَار لَا يلْزم بَيَان انتفائه) أَي
الْوَصْف المبدي فِي الأَصْل (عَن الْفَرْع إِلَّا إِن ذكره)
أَي الْمُعْتَرض انتفاءه فِي الْفَرْع فكلمة أَن شَرْطِيَّة
أَو مَصْدَرِيَّة وَالْوَقْف مُقَدّر: أَي لَا يلْزم ذَلِك
إِلَّا وَقت ذكره إِيَّاه، فَإِنَّهُ عِنْد ذَلِك يعلم أَن
غَرَضه إِثْبَات انْتِفَاء الحكم فِي الْفَرْع، وَلَا شكّ أَنه
حِينَئِذٍ لَا بُد من بَيَان انْتِفَاء الْوَصْف عَن الْفَرْع
(لِأَن مَقْصُوده) أَي الْمُعْتَرض (لم ينْحَصر فِي صده) أَي
صرف الْمُسْتَدلّ (عَن التَّعْلِيل) بِمَا ذكره من الْوَصْف
(لينتفى لُزُومه) أَي لُزُوم بَيَان انْتِفَاء المبدي فِي
الْفَرْع (مُطلقًا) أَي انْتِفَاء مُطلقًا يعم جَمِيع صور
الْمعَارض فِي الأَصْل، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذا لم يكن
مَقْصُود الْمُعْتَرض سوى صرف الْمُسْتَدلّ عَن وَصفه وَقد حصل
ذَلِك بإبداء وصف آخر يحْتَمل الْعلية كَفاهُ ذَلِك فِي
الصّرْف، فَذكر أَن هَذَا المبدي مُنْتَفٍ فِي الْفَرْع أَمر
زَائِد على الْمَقْصُود غير مُحْتَاج إِلَيْهِ فِي صُورَة من
الصُّور، إِذْ الْمَفْرُوض انحصار قَصده فِي الْجَمِيع فِي
ذَلِك (وَلَا نفى حكمه) أَي وَلم ينْحَصر أَيْضا مَقْصُوده فِي
نفي حكم الأَصْل (فِي الْفَرْع ليلزم) بَيَان انتفائه
(مُطلقًا) أَي لُزُوما مُطلقًا يعم الصُّور كلهَا لِأَن
الْمَقْصُود على هَذَا التَّقْدِير لَا يحصل إِلَّا بِبَيَان
انتفائه فِيهِ (بل قد) يكون مَقْصُود الْمُعْتَرض الصد (وَقد)
يكون نفي الحكم (فَإِذا ادَّعَاهُ) أَي الْمُعْتَرض نفي الحكم
(لزمَه إثْبَاته) أَي إِثْبَات مَا ادَّعَاهُ لالتزامه ذَلِك
وَإِن لم يجب عَلَيْهِ ابْتِدَاء (و) كَذَا الْمُخْتَار أَنه
(لَا) يلْزم الْمُعْتَرض (ذكره) أَي أَن يذكر (أصلا) مُعْتَبرا
من الشَّارِع (لوصفه) الَّذِي أبداه فِي الأَصْل تبين ذَلِك
الأَصْل تَأْثِير فِي الحكم (كمعارضة الاقتيات بالطعم) أَي
كَأَن يَقُول الْمُعْتَرض عَلَيْهِ حُرْمَة الرِّبَا فِي
المنصوصات الطّعْم لَا الْقُوت (كَمَا فِي الْملح) الَّذِي
هُوَ مِنْهَا وَهُوَ طعم وَلَيْسَ بقوت، ثمَّ علل عدم لُزُوم
ذَلِك الأَصْل لوصف الْمُعْتَرض بقوله (لِأَنَّهُ لم يَدعه)
أَي الْمُعْتَرض كَون وَصفه عِلّة حَتَّى يحْتَاج إِلَى
شَهَادَة الأَصْل (إِنَّمَا جوز مَا ذكر) من كَون وَصفه عِلّة
أَو جزءها (ليلزم) الْمُسْتَدلّ (التحكم) فِي جعله الْعلَّة
وَصفه لَا وصف الْمُعْتَرض مَعَ تساويهما فِي صلوح الْعلية
(وَأَيْضًا يَكْفِيهِ) أَي الْمُعْتَرض فِي وَصفه المبدي (أصل
الْمُسْتَدلّ) إِذْ لَا بُد من وجود وَصفه فِيهِ (فَيَقُول)
الْمُعْتَرض (جَازَ الطّعْم أَو الْكَيْل أَو هما) عِلّة
(كَمَا فِي الْبر بِعَيْنِه وجوابها) أَي الْمُعَارضَة
الْمَذْكُورَة من الْمُسْتَدلّ (على) تَقْدِير (الْقبُول)
كَمَا هُوَ الْمُخْتَار للشَّافِعِيَّة (بِمَنْع وجوده) أَي
الْوَصْف الْمعَارض بِهِ فِي الأَصْل كَأَن يَقُول لَا نسلم
أَنه مَكِيل فِي زَمَانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ
الْمُعْتَبر (أَو) منع (تَأْثِيره) أَي الْوَصْف الْمعَارض
بِهِ فِي الأَصْل (إِن كَانَ لم يُثبتهُ الْمُسْتَدلّ أَو
أثْبته) بِمَا كَانَ يَقُول إِذْ أثْبته (بِمَا كَانَ) أَي
بِأَيّ طَرِيق كَانَ، يَعْنِي بِمَنْع التَّأْثِير على
الْإِطْلَاق سَوَاء كَانَ الْمُسْتَدلّ لم يثبت علية وَصفه أَو
أثبت وعَلى تَقْدِير الْإِثْبَات سَوَاء أثبتها بالمناسبة أَو
الشّبَه أَو غَيرهمَا، وَهَذَا رد لما فِي الشَّرْح العضدي
(4/150)
من أَن الْمُطَالبَة بِكَوْن الْوَصْف
الْمعَارض مؤثرا بِأَن يُقَال للمعترض لم قلت أَن الْكَيْل
يُؤثر إِنَّمَا يسمع من الْمُسْتَدلّ إِذا كَانَ مثبتا للعلية
بالمناسبة أَو الشّبَه حَتَّى يحْتَاج الْمعَارض إِلَى بَيَان
مُنَاسبَة أَو شبه، بِخِلَاف مَا إِذا أثْبته بالسبر فَإِن
الْوَصْف يدْخل فِي السبر بِدُونِ ثُبُوت الْمُنَاسبَة
بِمُجَرَّد الِاحْتِمَال، ثمَّ بَين ذَلِك بقوله (وَتَقْيِيد
سَمَاعه) أَي سَماع منع التَّأْثِير وقبوله (من الْمُسْتَدلّ
بِمَا إِذا كَانَ الْمُسْتَدلّ أثبت وَصفه) أَي عليته
(بالمناسبة وَنَحْوهَا) أَي الشّبَه، وَقد مر الْفرق بَينهمَا
وَحَاصِله أَن الأولى بِالنّظرِ إِلَى ذَات الْوَصْف،
وَالْأُخْرَى بِالنّظرِ إِلَى الْخَارِج (لَا بالسبر وَنَحْوه
تحكم) خبر الْمُبْتَدَأ (لِأَن ذَاك) إِشَارَة إِلَى مَا جعله
الْمُسْتَدلّ عِلّة (وَصفه) أَي الْمُسْتَدلّ، (وَهَذَا)
المبدي الْمعَارض بِهِ وصف (آخر مجوز) أَي جوزه الْمُعْتَرض
(دَفعه) الْمُسْتَدلّ صفة مجوز (بِعَدَمِ التَّأْثِير، وَهُوَ)
أَي عدم التَّأْثِير (عدم الْمُنَاسبَة عِنْدهم) أَي
الشَّافِعِيَّة (فَيجب إثْبَاته) أَي التَّأْثِير على
الْمُسْتَدلّ لِئَلَّا يُقَال لَهُ - {أتأمرون النَّاس
بِالْبرِّ وتنسون أَنفسكُم} - (فبالمناسبة ظَاهر) أَي فَإِن
أثبت التَّأْثِير بِبَيَان الْمُنَاسبَة فَالْأَمْر ظَاهر،
إِذْ مُرَاد من يقبل عِنْده هَذَا السُّؤَال من التَّأْثِير
الْمُنَاسبَة (وَكَذَا) إِن أثْبته (بالسبر، لِأَن مَا أَفَادَ
الْعلية أَفَادَ الْمُنَاسبَة، إِذْ هِيَ) أَي الْمُنَاسبَة
(لَازم الْعلَّة بِمَعْنى الْبَاعِث) فَمَا أَفَادَ
الْمَلْزُوم أَفَادَ اللَّازِم (لَكِن لَا يلْزم إبداؤها) أَي
الْمُنَاسبَة (فِي السبر وَنَحْوه، وَلذَا) أَي لما ذكر من
لُزُوم الْمُنَاسبَة لمُطلق الْعلَّة عِلّة السبر (عورض
المستبقى فِيهِ) أَي فِي السبر (لعدمها) أَي لعدم مُنَاسبَة
المستبقى، وَقد عرفت أَن السبر عبارَة عَن حصر الْأَوْصَاف
الَّتِي يحْتَمل كَونهَا عِلّة فِي عدد وإلغاء مَا عدا وَاحِد
مِنْهَا وَهُوَ المستبقى، وَرُبمَا يُعَارض المستبقى بِوَصْف
آخر يدعى الْمعَارض عليته وَأَنه الْمُنَاسب للْحكم دون
المستبقى لعدم مناسبته، فلولا أَن الْمُنَاسبَة أَمر لَازم
لِلْعِلَّةِ لما نفى الْعلية عَن المستبقى لعدمها، فقد علم أَن
الْمشَار إِلَيْهِ بقوله كَذَا لُزُوم الْمُنَاسبَة، لَا عدم
لُزُوم إبدائها كَمَا زعم الشَّارِح فَإِن قلت: لَعَلَّه
أَرَادَ أَنه لَو كَانَ إبداؤها لَازِما لما عورض عَن المستبقى
لعدمها، لِأَنَّهُ على تَقْدِير لُزُوم الإبداء لم يتْركهُ
الْمُسْتَدلّ، وعَلى تَقْدِير إبدائها لَا وَجه للمعارضة
لعدمها فِي المستبقى قلت على تَقْدِير الإبداء بِزَعْمِهِ: لَا
يلْزم وجود الْمُنَاسبَة عِنْد الْمُعْتَرض فَافْهَم (وَقيل
الْمَعْنى) للمستدل مُطَالبَة الْمُعْتَرض بِكَوْن وَصفه مؤثرا
(إِذا كَانَ الْمُعْتَرض أثْبته) أَي أثبت كَون وَصفه عِلّة
(بالمناسبة) لَا بالسبر كَمَا ذكره بعض شارحي الْمُخْتَصر
(وَهُوَ خبط، إِذْ بِفَرْض إثْبَاته بهَا) أَي الْمُنَاسبَة
(كَيفَ يمْنَع) الْمُسْتَدلّ (التَّأْثِير، وَهُوَ) أَي
التَّأْثِير (هِيَ) أَي الْمُنَاسبَة. لَا يُقَال لم لَا يجوز
أَن يحمل التَّأْثِير على مَا هُوَ مصطلح الشَّافِعِيَّة (إِذْ
لَا يُمكن حمله على اصطلاحهم فِيهِ) أَي فِي التَّأْثِير
(وَهُوَ كَون الْعين فِي الْعين) أَي كَون عين الْوَصْف
مُعْتَبرا فِي عين الحكم شرعا (بِالنَّصِّ أَو الْإِجْمَاع،
إِذْ لَا يتَعَيَّن) إِثْبَات
(4/151)
الْمُعْتَرض كَون الْوَصْف عِلّة بِهَذَا
الْوَجْه (عَلَيْهِ) أَي الْمُعْتَرض (بعد إثْبَاته) أَي
إِثْبَات كَون الْوَصْف عِلّة (بطرِيق صَحِيح هِيَ
الْمُنَاسبَة بِالْفَرْضِ) أَي على مَا هُوَ الْمَفْرُوض
فِيمَا نَحن فِيهِ (نعم) يتَعَيَّن إِثْبَات التَّأْثِير
الْحَنَفِيّ (لَو كَانَ الْمُعْتَرض حنفيا فَإِن الْمُنَاسبَة
لَا تَسْتَلْزِم الِاعْتِبَار عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة
كَمَا تقدم (فالتأثير عِنْدهم شَرط مَعَ الْمُنَاسبَة، وَهُوَ)
أَي التَّأْثِير عِنْدهم (إِن ثَبت اعْتِبَار جنس الْمُنَاسبَة
إِلَى آخر الْأَقْسَام) الْمَذْكُورَة فِي بحث التَّأْثِير
(وَلَا يَصح) مِمَّن أثبت وَصفه بالسبر مستدلا كَانَ أَو
مُعْتَرضًا التَّرْجِيح، هَذِه عبارَة الشَّارِح فِي حل هَذَا
الْمحل، جعله كلَاما مُبْتَدأ فِي بَيَان تَرْجِيح وصف على
آخر، وَلم يَجعله من تَتِمَّة مُعَارضَة المستبقى فِي السبر
الْمَذْكُورَة آنِفا وَلم يدر أَنه لَا يساعده آخر الْكَلَام،
إِذْ حَاصله أَن هَذَا التَّرْجِيح لَا يُفِيد مَعَ عدم شَرط
الْعلَّة وَهُوَ الْمُنَاسبَة فَيجب أَن يكون عدم الْمُنَاسبَة
لَازِما لعِلَّة الْخصم فَتعين كَونه تَتِمَّة مَا ذكرُوا،
وَالتَّقْدِير وَلَا يَصح من الْمُسْتَدلّ الفاقد وَصفه
الْمُنَاسبَة تَعديَة وَصفه (بترجيح السبر) أَي بترجيح
الْوَصْف الثَّابِت عليته بالسبر على الثَّابِت عليته
بِغَيْرِهِ (لتعرضه) أَي السبر (لنفي غَيره) من الْأَوْصَاف
المحتملة للعلية (و) لَا (بِكَثْرَة الْفَائِدَة) المترتبة على
علته بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يَتَرَتَّب على علية الآخر
(لِأَن ذَلِك) أَي الْمُرَجح الْمَذْكُور إِنَّمَا يعْتَبر
بِهِ (بعد ظُهُور شَرطه) أَي شَرط وصف السبر، وَهُوَ مُنَاسبَة
المستبقى (أَو عدم ظُهُور عَدمه) أَي عدم الشَّرْط لجَوَاز
خَفَاء الْمُنَاسبَة لما عرفت: من أَنه لَا يلْزم إبداء
الْمُنَاسبَة فِي السبر (أما مَعَ ظُهُوره) أَي ظُهُور عدم
الشَّرْط (فَلَا) يتَرَجَّح السبر (إِذْ لَا يُفِيد) السبر
(مَعَ عدم الشَّرْط) الْمُعْتَبر فِي مُطلق الْعلَّة (وَهُوَ)
أَي عدم الشَّرْط (الْمُعْتَرض بِهِ) لما عرفت من أَن مدَار
مُعَارضَة المستبقى إِنَّمَا كَانَ على عدم الْمُنَاسبَة (أَو
بَيَان خفائه) أَي خَفَاء الْوَصْف الْمعَارض بِهِ مَعْطُوف
على منع وجوده، وَكَذَا (أَو عدم انضباطه) أَي الْوَصْف
الْمَذْكُور (أَو منع ظُهُوره أَو) منع (انضباطه) فَإِن كل
وَاحِد من الْمَذْكُورَات منَاف لعلية الْوَصْف الْمعَارض بِهِ
لما علم فِي شُرُوط الْعلَّة فَلَا يُعَارض بِهِ عِنْد تحقق
شَيْء مِنْهَا (أَو أَنه) أَي الْوَصْف الْمعَارض بِهِ لَيْسَ
وجوديا، بل هُوَ (عدم معَارض فِي الْفَرْع) والعدم لَا يكون
عِلّة وَلَا جُزْءا مِنْهَا فِي الحكم الثبوتي على مَا هُوَ
الْمُخْتَار (كالمكره) أَي كقياس الْقَاتِل الْمُضْطَر إِلَى
الْقَتْل (على الْمُخْتَار) أَي الْقَاتِل بِاخْتِيَارِهِ
(فِي) وجوب (الْقصاص بِجَامِع الْقَتْل فيعارض بِأَنَّهَا) أَي
الْعلَّة فِي حكم الْقصاص (هُوَ) أَي الْقَتْل (مَعَ الطواعية)
لِأَنَّهَا مُنَاسبَة لَا يُجَاب الْقصاص لَا الْقَتْل
الْمُطلق الَّذِي يعم الْإِكْرَاه (فيجيب) الْمُسْتَدلّ
(بِأَنَّهَا) أَي الطواعية (عدم الْإِكْرَاه لَا الْإِكْرَاه
الْمُنَاسب لنقيض الحكم) أَي عدم الْقصاص، فحاصله عدم معَارض،
وَعدم الْمعَارض طرد لَا يصلح للتَّعْلِيل، لِأَنَّهُ لَيْسَ
من الْبَاعِث فِي شَيْء، كَذَا فِي الشَّرْح العضدي: وَذَلِكَ
أَن
(4/152)
عدم الْمعَارض من قبيل عدم الْمَانِع، لَا
من جَانب الْمُقْتَضى الَّذِي هُوَ الْعلَّة، وَهَذَا لَا
غُبَار عَلَيْهِ، لَكِن قَوْله أَنَّهَا عدم الْإِكْرَاه لَا
الْإِكْرَاه يُفِيد بِظَاهِرِهِ أَنَّهَا لَو كَانَت عين
الْإِكْرَاه لناسبت الحكم وَلَا معنى لَهُ كَمَا لَا يخفى.
ثمَّ وَصفه الْإِكْرَاه بمناسبة نقيض الحكم مدافعة،
فَكَأَنَّهُ أَرَادَ وَالله تَعَالَى أعلم أَن الطواعية
إِنَّمَا هُوَ لعدم الْمُضَاف إِلَى الْإِكْرَاه، وَلَا
مُنَاسبَة بَين هَذَا الْعَدَم وَالْحكم أصلا وَلَيْسَت هِيَ
الْإِكْرَاه الَّذِي فِيهِ مُنَاسبَة فِي الْجُمْلَة، على أَنه
لَو كَانَت عين الْإِكْرَاه أَيْضا لما أَفَادَهُ، بل آخِره،
لِأَن مُنَاسبَة الْإِكْرَاه إِنَّمَا هِيَ بِالنّظرِ إِلَى
نقيض الحكم، وَفِيه مَا فِيهِ (أَو بإلغائه) أَي الْوَصْف
إِلَى آخِره، إِمَّا مُطلقًا فِي جنس الْأَحْكَام كالطول
وَالْقصر، أَو فِي حكم الْمُعَلل بِهِ كالذكورة فِي الْعتْق
(باستقلال وَصفه) أَي بِسَبَب اسْتِقْلَال وصف الْمُسْتَدلّ
بالعلية (بِنَصّ أَو إِجْمَاع كلا تَبِيعُوا الطَّعَام)
بِالطَّعَامِ إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء (فِي مُعَارضَة الطّعْم)
أَي كجواب الْمُسْتَدلّ على أَن عِلّة الرِّبَا الطّعْم
المعترضة بمعارضته (بِالْكَيْلِ) لِأَن النَّص دلّ على
اعْتِبَار الطّعْم فِي صُورَة مَا، وَهُوَ هَذَا الحَدِيث،
فَإِن اعْتِبَار الحكم مُرَتبا على وصف مشْعر بالعلية (وَمن
بدل دينه فَاقْتُلُوهُ عِنْد مُعَارضَة مطلقه) يَعْنِي إِذا
علل الْمُسْتَدلّ الْقَتْل بِمُطلق تَبْدِيل الدّين ففرع
عَلَيْهِ قتل الْيَهُودِيّ إِذا تنصر وَعَكسه إِلَّا أَن يسلم
لتحَقّق مَا طلق التبديل فعورض (بتبديل الْإِيمَان بالْكفْر)
يَعْنِي فَيَقُول الْمُعْتَرض لَيْسَ الْعلَّة بِمُطلق
التبديل، بل تَبْدِيل الْإِيمَان بالْكفْر: وعَلى هَذَا
فَالْمُرَاد بِهِ دين الْإِسْلَام، غير أَن الْعلَّة مُطلق
التبديل فَألْحق الْيَهُودِيّ إِذا تنصر بِالْمُسلمِ الْمُبدل
دينه لاشْتِرَاكهمَا فِي التبديل الْمُطلق (وَلَو قَالَ)
الْمُسْتَدلّ (عَم) التبديل الْمَذْكُور فِي الحَدِيث (فِي كل
تَبْدِيل) سَوَاء كَانَ تَبْدِيل دين الْحق بباطل أَو بَاطِل
بباطل (كَانَ) هَذَا القَوْل (شَيْئا آخر) وَدَعوى حكم كلي
شَرْعِي غير مستنبط من الحَدِيث الْمَذْكُور، فَإِن
الْمُعَارضَة الْمَذْكُورَة دافعة لهَذَا الاستنباط، فَيكون
حِينَئِذٍ إثْبَاته بِالنَّصِّ لَا بِالْقِيَاسِ فَلَا يسمع
مِنْهُ هَذَا (وَلَيْسَ مِنْهُ) أَي من الإلغاء المقبول
(انْفِرَاد الحكم عَنهُ) أَي عَن الْوَصْف المبدي للمعترض
(لعدم) اشْتِرَاط (الْعَكْس) فِي الْعلَّة على مَا هُوَ
الْمُخْتَار، وَقد مر تَفْصِيله فِي الشُّرُوط فِي الشَّرْح
العضدي رُبمَا يظنّ أَن إِثْبَات الحكم فِي صُورَة دون وصف
الْمعَارض كَاف فِي إلغائه، وَالْحق أَنه لَيْسَ بكاف لجَوَاز
وجود عِلّة أُخْرَى لما تقدم من جَوَاز تعدد الْعلَّة وَعدم
وجوب الْعَكْس (لَكِن يتم) بِبَيَان انْفِرَاد الحكم عَن
الْوَصْف الْمعَارض بِهِ (اسْتِقْلَال وصف الْمُسْتَدلّ) إِذْ
لَو لم يسْتَقلّ لم يتَحَقَّق الحكم مَعَه فِي صُورَة
الِانْفِرَاد الْمَذْكُور (ولكونه) أَي انْفِرَاد الحكم عَنهُ
(لَيْسَ إِلْغَاء) لَهُ (لَا يُفِيد إبداء الْخلف) أَي إبداء
وصف آخر يخلف الْوَصْف الْمعَارض بِهِ فِي صُورَة انْفِرَاد
الحكم عَنهُ (من الْمُعْتَرض) لَا يُفِيد دفع الإلغاء
لِأَنَّهُ فرع ثُبُوته، وَإِنَّمَا فَائِدَته نفي اسْتِقْلَال
وصف
(4/153)
الْمُسْتَدلّ (وَهُوَ) أَي إبداء الْخلف من
الْمُعْتَرض بعد بَيَان الْمُسْتَدلّ انْفِرَاد الحكم عَن
الْوَصْف الْمعَارض بِهِ لِئَلَّا يكون وصف الْمُسْتَدلّ
مُسْتقِلّا (تعدد الْوَضع) أَي يُسمى بِهِ لتَعَدد أصل الوضعين
أَحدهمَا الْمعَارض بِهِ أَولا. وَالثَّانِي الْخلف المبدي
وَالتَّعْلِيل فِي أَحدهمَا بِالْبَاقِي بعد المبدي على وضع:
أَي مَعَ قيد، وَفِي الآخر على وضع مَعَ قيد آخر كَمَا سَيظْهر
فِي الْمِثَال (نَحْو) أَن يُقَال فِي صِحَة أَمَان العَبْد
الْمُسلم الْعَاقِل الْحَرْبِيّ (أَمَان) صادر (من مُسلم
عَاقل، فَيقبل كَالْحرِّ) أَي كأمان الْحر الْمُسلم الْعَاقِل
(لِأَنَّهُمَا) أَي الْإِسْلَام وَالْعقل (مظنتان للِاحْتِيَاط
للأمان) أَي للِاحْتِيَاط فِي مصلحَة الْأمان: أَي بذل الْأمان
وَجعله آمنا (فيعترض بِاعْتِبَار) وصف (الْحُرِّيَّة
مَعَهُمَا) أَي الْإِسْلَام وَالْعقل فِي الْعلية (لِأَنَّهَا)
أَي الْحُرِّيَّة (مَظَنَّة التفرغ) للنَّظَر فِي مصلحَة
الْإِيمَان لعدم الِاشْتِغَال بِخِدْمَة الْمولى (فنظره) أَي
الْحر (أكمل) من نظر العَبْد (فيلغيها) أَي الْمُسْتَدلّ
الْحُرِّيَّة (بالمأذون لَهُ فِي الْقِتَال) أَي باستقلال
الْإِسْلَام وَالْعقل بالأمان فِي العَبْد الْمَأْذُون لَهُ
فِي قتال الْكفَّار فَإِن لَهُ الْأمان اتِّفَاقًا (فَيَقُول)
الْمُعْتَرض (الْإِذْن) أَي إِذن السَّيِّد لَهُ فِيهِ
(خلفهَا) أَي الْحُرِّيَّة (لدلالته) أَي الْإِذْن (على علم
السَّيِّد بصلاحه) لإِظْهَار مصَالح الْأمان (فالباقي) أَي
الْإِسْلَام وَالْعقل (عِلّة) لصِحَّة الْأمان حَال كَونه (على
وضع: أَي قيد الْحُرِّيَّة) فالعلة الْمَجْمُوع (و) أَيْضا
عِلّة لَهُ على وضع (آخر) أَي قيد (الْإِذْن وَجَوَابه) أَي
جَوَاب تعدد الْوَضع (أَن يلغي) أَي الْمُسْتَدلّ ذَلِك
(الْخلف) بِصُورَة فِيهَا وصف الْمُسْتَدلّ مَعَ الحكم، و
(لَيْسَ) ذَلِك الْخلف (فِيهَا، فَإِن أبدى) الْمُعْتَرض
(فِيهَا) أَي فِي الصُّورَة المبتدأة (خلفا) آخر (فَكَذَلِك)
أَي فَالْجَوَاب بالإلغاء بِصُورَة أُخْرَى، والاعتراض بإبداء
الْخلف يسْتَمر على المنوال الْمَذْكُور (إِلَى أَن يقف
أَحدهمَا) أما الْمُسْتَدلّ لعَجزه عَن الإلغاء، أَو
الْمُعْتَرض لعَجزه عَن الْخلف (وَلَا يلغي) أَي وَلَا
يتَحَقَّق الإلغاء من الْمُسْتَدلّ للوصف الْمعَارض بِهِ
(بِضعْف الْحِكْمَة إِن سلم) الْمُسْتَدلّ (المظنة) أَي وجود
المظنة المتضمنة لتِلْك الْحِكْمَة (كالردة عِلّة الْقَتْل)
وَقِيَاس الْمُرْتَدَّة على الْمُرْتَد بِوُجُوب الْقَتْل
(فَيُقَال) على سَبِيل الِاعْتِرَاض، بل (مَعَ الرجولية،
لِأَنَّهُ) أَي الارتداد مَعهَا (المظنة لقِتَال الْمُسلمين)
إِذْ يعْتَاد ذَلِك من الرِّجَال دون النِّسَاء (فيلغيه) أَي
الْمُسْتَدلّ كَون المظنة لذَلِك (بمقطوع الْيَدَيْنِ) بِضعْف
الْحِكْمَة فِيهِ مَعَ أَنه يقتل اتِّفَاقًا إِذا ارْتَدَّ:
فَهَذَا (لَا يقبل) من الْمُسْتَدلّ (بعد تَسْلِيم كَون
الرجولية مَظَنَّة) اعتبرها الشَّرْع فيدار الحكم عَلَيْهَا
وَلَا يلْتَفت إِلَى ضعف حكمتها فِي بعض الصُّور كسفر الْملك
المرفه لَا يمْنَع التَّرَخُّص (وَلَا يُفِيد تَرْجِيح
الْمُسْتَدلّ وَصفه) على وصف الْمُعْتَرض (بِشَيْء) من وُجُوه
التَّرْجِيح فِي جَوَاب الْمُعَارضَة خلافًا للآمدي (لِأَن
الْمُفِيد) فِي ذَلِك (تَرْجِيح أَوْلَوِيَّة
(4/154)
اسْتِقْلَال وَصفه، وَهُوَ) أَي ترجيحها
(مُنْتَفٍ مَعَ احْتِمَال الْجُزْئِيَّة) أَي جزئية وصف
الْمُعَارضَة من الْعلَّة مَعَ وصف الْمُسْتَدلّ (أَو يدعى)
أَي إِلَّا أَن يدعى (الْمُعْتَرض اسْتِقْلَال وَصفه)
فَإِنَّهُ يُفِيد تَرْجِيح الْمُسْتَدلّ وصف نَفسه (وَأما أَن)
الْعلَّة (المتعدية لَا ترجح) على القاصرة (لمعارضة (مُوَافقَة
الأَصْل) أَي لكَون القاصرة مُعَارضَة للمتعدية بِأَنَّهَا
مُوَافقَة للْأَصْل الَّذِي هُوَ عدم الْأَحْكَام كَمَا أُشير
إِلَيْهِ فِي الشَّرْح العضدي (فَلَا) يَصح، بل المستقل
الْمُتَعَدِّي رَاجِح على المستقل الْقَاصِر. (وَاخْتلف فِي)
جَوَاز (تعدد الْأُصُول) أَي الْأُصُول الْمَقِيس عَلَيْهَا
(فَقيل لَا) يجوز (لِأَن) الأَصْل (الزَّائِد لَا يحْتَاج
إِلَيْهِ) لِأَن الْمَقْصُود قد حصل بِالْوَاحِدِ (وَيدْفَع)
هَذَا (بِثُبُوت الْحَاجة) إِلَى الزَّائِد (لزِيَادَة
الْقُوَّة) إِلَيْهِ نَفسه، وبالنظر إِلَى الْخصم فِي مقَام
المناظرة فِي الظَّن بالعلية. (وَالْوَجْه الآخر، وَهُوَ
تأديه) أَي جَوَاز تعدد الْأُصُول (إِلَى الانتشار وَزِيَادَة
الْخبط يَدْفَعهُ) أَي يدْفع الدّفع الْمَذْكُور (لِأَن مَعَه)
أَي مَعَ تأديه إِلَى مَا ذكر (يبعد الظَّن فضلا عَن
زِيَادَته) أَي زِيَادَة الظَّن (فاختيار جَوَازه) أَي
التَّعَدُّد (مُطلقًا) بِالنّظرِ إِلَى نَفسه وبالنظر إِلَى
الْخصم فِي مقَام المناظرة كَمَا ذهب إِلَيْهِ ابْن الْحَاجِب
(لَيْسَ بِذَاكَ) الْقوي (بل) الْوَجْه جَوَاز (فِي نظره
لنَفسِهِ) لانْتِفَاء الانتشار (لَا) فِي (المناظرة) لتأديه
إِلَى الانتشار (وعَلى الْجَوَاز) أَي جَوَاز تعددها (اخْتلف
فِي اقْتِصَار الْمعَارض على أَحدهَا) أَي الْأُصُول (فالمجيز)
لاقتصاره على أَحدهَا قَالَ (إبِْطَال جُزْء من كَلَامه) أَي
الْمُسْتَدلّ (إِبْطَاله) أَي كَلَامه من حَيْثُ هُوَ مَجْمُوع
(وملزم إبِْطَال الْكل) وَهُوَ من يَقُول لابد من إبِْطَال كل
وَاحِد من أصُول الْمُسْتَدلّ قَالَ (إِذا سلم لَهُ) أَي
الْمُسْتَدلّ (أصل) وَاحِد (كَفاهُ) فِي مَطْلُوبه (وَمحله)
أَي مَحل هَذَا القَوْل (اتِّحَاد الْوَصْف دون تعدده) أَي وصف
الْمُسْتَدلّ، بَيَانه: أَي الأَصْل إِذا تعدد يحْتَمل أَن
يكون الْوَصْف أَيْضا مُتَعَددًا، وَيحْتَمل أَن يكون متحدا،
فعلى الأول لَا وَجه للْخلاف فِي عدم لُزُوم إبِْطَال الْكل،
لِأَن تعدد وصف الْقيَاس يسْتَلْزم تعدده لِأَنَّهُ المناط
فِيهِ، وَإِبْطَال أحد الوصفين إبِْطَال لأحد القياسين،
وَإِبْطَال أحد القياسين بِدُونِ إبِْطَال الآخر إِلْزَام
تَامّ، وعَلى الثَّانِي أَيْضا لَا وَجه للْخلاف فِي لُزُوم
إبِْطَال الْكل، لِأَن اتِّحَاد الْوَصْف يسْتَلْزم اتِّحَاد
الْقيَاس، وَالْقِيَاس الْوَاحِد إِذا سلم لَهُ أصل وَاحِد
يَكْفِي فِي إِثْبَات الْمطلب، فَلَا بُد من إبِْطَال الْكل
لتحَقّق الْإِلْزَام، فَيلْزم إبِْطَال الْكل قَوْله مَبْنِيّ
على اتِّحَاد الْوَصْف والمجيز للاقتصار على تعدده، فمورد نفي
لُزُوم إبِْطَال الْكل غير مورد إثْبَاته فَلَا خلاف بَين
الْفَرِيقَيْنِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (وَلَا يتلاقيان)
أَي النَّفْي وَالْإِثْبَات فِي مَحل وَاحِد. وَالشَّارِح فسر
اتِّحَاد الْوَصْف الْمعَارض بِهِ وَلَو لم يذكر لَهُ وَجها
وَلَا وَجه لَهُ، غير أَنه ذكر الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ
أَن اللازمين إبِْطَال الْكل اخْتلفُوا فِي وجوب
(4/155)
اتِّحَاد الْوَصْف الْمعَارض بِهِ فِي
الْجَمِيع (فَنظر) الْقَائِل (الأول) وَهُوَ مجيز الِاقْتِصَار
على أَحدهَا (إِلَى أَنه) أَي الْمُسْتَدلّ (الْتزم صِحَة
الْإِلْحَاق) أَي إِلْحَاق الْفَرْع (بِكُل) من الْأُصُول
(وَعجز عَنهُ) أَي عَن الْإِلْحَاق بِكُل (فَبَطل) بالتزامه
(و) الْقَائِل (الآخر) يَقُول (الْمَقْصُود إثْبَاته) أَي
الحكم (فِي الْفَرْع، ويكفيه) أَي الْمُسْتَدلّ (مَا سلم)
لَهُ: أَي من الْأُصُول بِشَيْء من الْأَجْوِبَة الْمَذْكُورَة
من الْأُصُول فَلَا بُد من مُعَارضَة الْكل لِئَلَّا يسلم لَهُ
شَيْء من الْأُصُول (وَفِي مُعَارضَة الْكل) أَي جَمِيع
الْأُصُول (لَو أجَاب) الْمُسْتَدلّ (عَن) مُعَارضَة (أَحدهَا)
أَي الْأُصُول بِشَيْء من الْأَجْوِبَة الْمَذْكُورَة
(فالقولان) أَي فالثابت على ذَلِك التَّقْدِير الْقَوْلَانِ
الْمَذْكُورَان: أَي ينظر أَحدهمَا أَنه (لَا بُد أَن يدْفع)
الْمُسْتَدلّ (عَمَّا الْتَزمهُ) وَهُوَ الْكل فَلَا يَكْفِيهِ
الْجَواب عَن أَحدهمَا، فَقَط وَهُوَ نَظِير القَوْل الأول.
وَالثَّانِي أَنه (يَكْفِيهِ) أَي الْمُسْتَدلّ أصل (وَاحِد)
من تِلْكَ الْأُصُول، وَقد سلم لَهُ بعد الْجَواب عَن معارضته،
وَهَذَا نَظِير القَوْل الثَّانِي كَمَا لَا يخفى (وَأما سُؤال
التَّرْكِيب فَتقدم فِي الشُّرُوط) لحكم الأَصْل. وَحَاصِله
الْمَنْع إِمَّا لعلية عِلّة حكم الأَصْل أَو لوجودها أَو لحكم
الأَصْل فَهُوَ مندرج فِي المنوع الْمَذْكُورَة (و) أما (سُؤال
التَّرْجِيح بالتعدية) فمثاله قَول الْمُسْتَدلّ بكر فَيجْبر
كالصغيرة (فيعارض الْبكارَة المتعدية إِلَى الْبَالِغَة
بالصغر) مُتَعَلق بيعارض (الْمُتَعَدِّي إِلَى الثّيّب)
الصَّغِيرَة الْمُنَاسب للإجبار (ليتساويا) فِي التَّعْدِيَة:
تَقْدِير الْكَلَام، وَأما سُؤال التَّرْجِيح بالتعدية فمثاله
فِي مسئلة إِجْبَار الْبكر الْبَالِغَة قِيَاسا على الْبكر
الصَّغِيرَة بتعليل حكم الأَصْل بالبكارة المتعدية إِلَى
الْبَالِغَة دون الصَّغِيرَة، ويعارض الْبكارَة (ومرجعه) أَي
هَذَا السُّؤَال (إِلَى الْمُعَارضَة فِي الأَصْل بِمَا
يُسَاوِي الْأُخْرَى فِي التَّعْدِيَة) لِئَلَّا يتَرَجَّح وصف
الْمُسْتَدلّ بتعديته (وَلَا تَرْجِيح بِزِيَادَة
التَّعْدِيَة) الثَّابِت ثَابت (للحنفية، بِخِلَاف أَصْلهَا)
أَي أصل التَّعْدِيَة فَإِن التَّرْجِيح بِهِ ثَابت عِنْدهم
أَيْضا فَلَيْسَ هَذَا السُّؤَال مُسْتقِلّا بل هُوَ مندرج
فِيمَا ذكر (وَإِذ لم يقبلُوا) أَي الْحَنَفِيَّة
(الْمُعَارضَة فِي الأَصْل لم يذكرُوا سُؤال اخْتِلَاف جنس
الْمصلحَة) فِي الأَصْل وَالْفرع بعد اتِّحَاد الضَّابِط
فيهمَا (كإيلاج محرم) أَي كَأَن يَقُول الْمُسْتَدلّ للحد
باللواط هُوَ إيلاج فِي فرج محرم مشتهي طبعا (فَيحد بِهِ
كَالزِّنَا فَيَقُول) الْمُعْتَرض (الْمصلحَة مُخْتَلفَة فِي
تحريمهما) أَي اللواط وَالزِّنَا (فَفِي الزِّنَا اخْتِلَاط
النّسَب المفضي إِلَى عدم تعهد الْوَلَد، وَهُوَ) أَي عدم تعهد
الْوَلَد (قتل معنى، وَفِي اللواط دفع رذيلته) وهما متفاوتان
فِي نظر الشَّرْع، فَقِيَاس أَحدهمَا على الآخر قِيَاس مَعَ
الْفَارِق (لِأَنَّهُ) أَي السُّؤَال الْمَذْكُور (هِيَ) أَي
الْمُعَارضَة فِي الأَصْل فَلم يفردوه بِالذكر، وَإِنَّمَا
قُلْنَا أَنه هِيَ (إِذْ حَاصله) أَي قَول الْمُعْتَرض
(الْعلَّة) فِي الأَصْل (شَيْء آخر) وَهُوَ كَونه مُوجبا
لاختلاط النّسَب (مَعَ مَا ذكرت)
(4/156)
من قَوْلك إيلاج محرم (وَلذَا) أَي وَلكَون
معارضته فِي الأَصْل (كَانَ جَوَابه) أَي السُّؤَال
الْمَذْكُور (جوابها) أَي الْمُعَارضَة الْمَذْكُورَة (بإلغاء
الخصوصية) المبتدأة فِي الأَصْل لبَيَان الِاخْتِلَاف (بطريقه)
أَي الإلغاء (مَعَ أَنه) أَي السُّؤَال الْمَذْكُور
بِاعْتِبَار منشئه (ينْدَرج فِي) عُمُوم (معنى الشُّرُوط)
للفرع، إِذْ مِنْهَا مساواته الأَصْل فِيمَا علل، وَهِي منتفية
هَهُنَا. (الثَّالِث) من مُقَدمَات الْقيَاس الْمَذْكُورَة،
وَهُوَ ثُبُوت الْعلَّة فِي الْفَرْع (عَلَيْهِ سؤالان: الأول
منع وجودهَا) أَي الْعلَّة (فِي الْفَرْع كَقَوْل
الْحَنَفِيَّة فِي قَوْلهم) أَي الشَّافِعِيَّة (بيع التفاحة)
أَي الْوَاحِدَة (بثنتين بيع مطعوم بمطعوم مجازفة فَلَا يَصح
كصبرة) أَي كَبيع صبرَة (بصبرتين) ومقول قَول الْحَنَفِيَّة
(يمْنَع وجوده) أَي وَصفه (فِي الْفَرْع لِأَن المجازفة
بِاعْتِبَار الْكَيْل) إِذْ لَا يُقَال بَاعه مجازفة إِلَّا
فِي شَيْء يعْتَاد بَيْعه بِالْكَيْلِ (وَهُوَ) أَي الْكَيْل
(مُنْتَفٍ فِيهِ) أَي فِي التفاح (وَيرد) على هَذَا الْمَنْع
(أَنَّهَا بِاعْتِبَار الْمُقدر) يَعْنِي أَن المجازفة
إِنَّمَا تطلق عرفا بِاعْتِبَار الْقدر المجازف فِيهِ (كَيْلا
ووزنا) لَا كَيْلا فَقَط: وَذَلِكَ بِحَسب اعْتِبَار الشَّرْع
(فالإلحاق) للفرع بالأصلين الْمَذْكُورين (بِاعْتِبَار) الْقدر
(الْأَعَمّ) من الْكَيْل وَالْوَزْن فَالْحَاصِل أَن الْعلَّة
فِي الأَصْل المجازفة الْمُطلقَة الَّتِي تتَحَقَّق فِي ضمن كل
مِنْهُمَا، فَلَا يَصح منع وجود الْوَصْف المناط للْحكم
(فَإِنَّمَا يدْفع هَذَا) الْإِيرَاد (بانتفائها) أَي الْكَيْل
وَالْوَزْن مَعًا فِي التفاح (لِأَنَّهُ) أَي التفاح (عددي،
وَهُوَ) أَي كَونه عدديا (مَوْقُوف على أَنه) أَي التفاح
(كَذَلِك) أَي عدديا (فِي زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن فِي زَمَنه عدديا (فالعادة) أَي
فَالْعِبْرَة بِمَا هُوَ الْعرف فِي بَيْعه من وزن وَغَيره
(وَهِي) أَي الْعَادة (مُخْتَلفَة فِيهِ) أَي فِي التفاح
بِاعْتِبَار الْبلدَانِ (و) كَمَا (لمُحَمد فِي إِيدَاع
الصَّبِي) غير الْمَأْذُون مَالا غير الرَّقِيق، من أَنه لَا
يضمن إِذا أتْلفه، لِأَن مَالِكه (سلطه على استهلاكه)
والاستهلاك إِذا كَانَ من قبل الْمَالِك لَا يُوجب الضَّمَان
كَمَا إِذا أتْلفه بِنَفسِهِ، وَقد سبق بَيَانه (فيمنعان) أَي
أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف (أَنه) أَي إيداعه (تسليط) على
اتلافه، وَقيل أَبُو حنيفَة مَعَ مُحَمَّد (و) كَمَا
(للشَّافِعِيَّة فِي) صِحَة أَمَان العَبْد) من أَنه (أَمَان)
صادر (من أَهله) وَهُوَ الْمُسلم الْعَاقِل (فَيعْتَبر
كالمأذون لَهُ فِي الْقِتَال فَيمْنَع أَهْلِيَّته) أَي
العَبْد (لَهُ) أَي للأمان (وَجَوَابه) أَي هَذَا السُّؤَال
(بِبَيَان وجوده) أَي الْوَصْف (بعقل أَو حس أَو شرع) على مَا
هُوَ طَرِيق الْإِثْبَات فِي مثله (وَيزِيد الْمُسْتَدلّ
هُنَا) أَي فِي الْفَرْع الْمَذْكُور (بَيَان مُرَاده
بالأهلية، وَهُوَ) أَي مُرَاده (كَونه) أَي الْمُؤمن (مَظَنَّة
لرعاية مصْلحَته) أَي الْأمان بِالنّظرِ إِلَى الْمُسلمين
(وَهُوَ) كَونه مَظَنَّة لذَلِك ثَابت (بِإِسْلَامِهِ وبلوغه،
وَلَو زَاد الْمُعْتَرض بَيَان الْأَهْلِيَّة) بِاعْتِبَار قيد
زَائِد على مَا هُوَ مُرَاد الْمُسْتَدلّ (ليظْهر
(4/157)
انتفاؤها) أَي الْعلَّة فِي الْفَرْع.
(فالمختار لَا يُمكن) أَي فَفِيهِ خلاف، وَالْمُخْتَار أَنه
لَا يُمكن من ذَلِك (إِذْ هُوَ) أَي بَيَان المُرَاد (وَظِيفَة
الْمُتَكَلّم بِهِ) أَي بِاللَّفْظِ الْمُحْتَاج إِلَى
الْبَيَان، لِأَنَّهُ الْعَالم بمراده فيتولى تعْيين مَا
ادَّعَاهُ (دفعا لنشر الْجِدَال) بالانتقال والاشتغال بالسؤال.
(الثَّانِي) من السؤالين (الْمُعَارضَة فِي الْفَرْع بِمَا
يقتضى نقيض الحكم) أَي حكم الْمُسْتَدلّ (فِيهِ) أَي فِي
الْفَرْع (وَهِي) أَي الْمُعَارضَة فِي الْفَرْع بِأَن يَقُول
مَا ذكرته من الْوَصْف، وَإِن اقْتضى ثُبُوت الحكم فِي
الْفَرْع فعندي وصف آخر يَقْتَضِي نقيضه، فَيتَوَقَّف دليلك،
وَهِي (الْمُعَارضَة إِذا أطلقت) أَي إِذْ أطلق لفظ
الْمُعَارضَة فِي بَاب الْقيَاس، وَلم يُقيد بِقَيْد ككونها
فِي الأَصْل وَغَيره لَا يتَبَادَر مِنْهُ إِلَّا هَذِه
الْمَذْكُورَة: وَهَذَا عَلامَة كَونه حَقِيقَة فِيهِ كَمَا
سيشير إِلَيْهِ (وَلَا بُد لَهُ) أَي لما يَقْتَضِي نقيض الحكم
فِيهِ (من أصل) ثَابت عَلَيْهِ الحكم الَّذِي هُوَ نقيض الحكم
الأول: أَي هَذِه الْمُعَارضَة (فَهِيَ مُعَارضَة قياسين،
وَلذَا) أَي ولكونها مُعَارضَة قياسين (كَانَت) (الْحَقِيقَة)
أَي حَقِيقَة لفظ الْمُعَارضَة الْمُطلقَة، والحقيقة كَمَا
تطلق على اللَّفْظ تطلق على الْمثنى (وَله) أَي للمعترض
(إِثْبَات) علية (وَصفه بمسلكه، وَللْآخر) أَي الْمُسْتَدلّ
(اعتراضه) أَي الِاعْتِرَاض على الْمُعْتَرض (بِمَا يعْتَرض
بِهِ على الْمُسْتَدلّ فينقلبان) أَي فَيصير الْمُعْتَرض
مستدلا والمستدل مُعْتَرضًا (وَهُوَ) أَي انقلابهما لانقلاب
التناظر (وَجه منع مانعها) أَي وَجه نفي قبُول الْقَائِل
بِنَفْي سَماع هَذِه الْمُعَارضَة لِأَنَّهُ خُرُوج مِمَّا
قصداه من معرفَة صِحَة نظر الْمُسْتَدلّ إِلَى آخِره، وَهُوَ
معرفَة صِحَة نظر الْمُعْتَرض (وَدفع بِأَن) الانقلاب
(الْمُمْتَنع أَن يثبت) الْمُعْتَرض (مُقْتَضى دَلِيله) بِأَن
يكون مقْصده إِثْبَات مُقْتَضَاهُ (وَهَذَا) السُّؤَال لَيْسَ
كَذَلِك بل هُوَ (لهدمه) أَي دَلِيل الْمُسْتَدلّ (بنقيضه) أَي
بِمَا يُنَافِي دَلِيل الْمُسْتَدلّ لكَونه مُفِيدا خلاف
مُقْتَضَاهُ (بعد تَمَامه) أَي بعد تَمام دَلِيل الْمُسْتَدلّ
بِمَعْنى عدم التَّعَرُّض لمقدماته، لَا بِمَعْنى تَسْلِيم
مُوجبه (فَالْمَعْنى تَمام دليلك) فِي نفس الْأَمر أَيهَا
الْمُسْتَدلّ (مَوْقُوف على هدم هَذَا) الَّذِي عارضت بِهِ من
دليلي، وَاخْتلف فِي الْجَواب عَن الْمُعَارضَة بالوجوه
الْمَذْكُورَة فِي تَرْجِيح الْقيَاس عِنْد الْعَجز عَن الْقدح
فِيهَا (وَالْمُخْتَار قبُول التَّرْجِيح بِمَا تقدم) فِي
تَرْجِيح الْقيَاس (وَلَا خلاف فِيهِ) أَي فِي قبُول
التَّرْجِيح فِيهِ (عِنْد الْحَنَفِيَّة لِأَن وجوب الْعَمَل
بعد الْمُعَارضَة) بِمُوجب أحد الدَّلِيلَيْنِ (مَوْقُوف
عَلَيْهِ) أَي التَّرْجِيح (وَقيل لَا) يقبل التَّرْجِيح
(لتعذر الْعلم بتساوي الظنين) إِذْ لَا ميزَان توزن بِهِ
الظنون وَلَا معيار تعرف بِهِ مراتبها (وَالتَّرْجِيح فَرعه)
أَي تساويهما (وَهَذَا) الْكَلَام على تَقْدِير صِحَّته (يبطل
التَّرْجِيح مُطلقًا وَدلَالَة الْإِجْمَاع عَلَيْهِ) أَي
التَّرْجِيح للْإِجْمَاع على وجوب الْعَمَل بالراجح (يُبطلهُ)
أَي يبطل إبِْطَال التَّرْجِيح مُطلقًا (وعَلى الْمُخْتَار) من
قبُول التَّرْجِيح اخْتلف فِي وجوب
(4/158)
الْإِيمَاء إِلَى التَّرْجِيح فِي أثْنَاء
الدَّلِيل وَالْمُخْتَار أَنه (لَا تجب الْإِشَارَة إِلَيْهِ)
أَي التَّرْجِيح (على الْمُسْتَدلّ لِأَنَّهُ) أَي التَّرْجِيح
على الْمُسْتَدلّ (لَيْسَ) جُزْءا (مِنْهُ) أَي الدَّلِيل
لدلالته على الْمَطْلُوب مَعَ قطع النّظر عَنهُ (وَتوقف
الْعَمَل عَلَيْهِ) أَي التَّرْجِيح (عِنْد ظُهُور
الْمُعَارضَة شَرط) أَي مَشْرُوط (مُعَلّق على شَرط) وَهُوَ
ظُهُور الْمُعَارضَة (وَالْوَجْه لُزُومه) أَي لُزُوم ذكر
التَّرْجِيح (فِي الْعَمَل) أَي عمل الْمُسْتَدلّ (لنَفسِهِ)
مُتَعَلق باللزوم أَو بِالْعَمَلِ تَأْكِيدًا لما يفهم ضمنا من
الْعَمَل (لَا) فِي (المناظرة) لعدم الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ
فِيهَا، إِذْ الْمَقْصُود مِنْهَا الْهدم من جَانب الْمعَارض،
وَهُوَ حَاصِل بِدُونِ التَّرْجِيح لِأَنَّهُمَا إِذا تَعَارضا
تساقطا، وَأما الْمُسْتَدلّ فَقبل الْمُعَارضَة خَالِي البال
عَن دَلِيل الْمعَارض وَبعد الْمُعَارضَة إِن أَرَادَ إِلْزَام
الْمُعَارضَة كَانَ ذَلِك مناظرة أُخْرَى فَتَأمل (وَأما مَا
ذكر الشَّافِعِيَّة من سُؤال اخْتِلَاف الضَّابِط) أَي
الْوَصْف الْمُشْتَمل على الْحِكْمَة الْمَقْصُودَة فِي
الأَصْل وَالْفرع (أَن يجمع بمشترك بَين علتين) فَقَوله أَن
يجمع إِلَى آخِره بَيَان لمحل السُّؤَال الْمَذْكُور وَبَين
ظرف للسؤال بِتَقْدِير الْوَقْت فَهُوَ الْجمع بَين علتين
بِوَصْف مُشْتَرك بَينهمَا وَقَوله (كشهود الزُّور تسببوا فِي
الْقَتْل فيقتص) مِنْهُم (كالمكره) لغيره على الْقَتْل
تَمْثِيل للْجمع الْمَذْكُور، فَإِن الْإِكْرَاه وَالْإِشْهَاد
عِلَّتَانِ للْقصَاص وَالْوَصْف الْمُشْتَرك بَينهمَا
التَّسَبُّب فِي الْقَتْل، وتصوير السُّؤَال مَا أَفَادَهُ
بقوله (فَيُقَال الضَّابِط فِي الأَصْل) وَهُوَ الْمُكْره على
الْقَتْل (الْإِكْرَاه، وَفِي الْفَرْع) وَهُوَ شُهُود الزُّور
(الشَّهَادَة وَلم يثبت اعْتِبَار تساويهما) أَي الضابطين
(مصلحَة) تَمْيِيز عَن النِّسْبَة الإضافية فِي تساويهما: أَي
لم يثبت اعْتِبَار تَسَاوِي مصلحتي الضابطين (شرعا) أَي ثبوتا
شَرْعِيًّا فَلَيْسَتْ المسئلة الْحَاصِلَة بقتل شَاهِدي
الزُّور مُسَاوِيَة للْمصْلحَة الْحَاصِلَة بقتل الْمُكْره
(ليقْتل) شَاهد الزُّور (بِالشَّهَادَةِ) قِيَاسا على
الْمُكْره، وَإِذ قد عرفت أَن السُّؤَال الْمَذْكُور مُتَضَمّن
إِجْمَالا لجَمِيع مَا ذكر من قَوْله أَن يجمع إِلَى هُنَا،
فَلَو جعلت هَذَا القَوْل عطف بَيَان لَهُ لَكَانَ حسنا فَإِن
قلت الْعلَّة فِي قِيَاس شُهُود الزُّور على الْمُكْره لَيْسَ
إِلَّا التَّسَبُّب فِي الْقَتْل فَمَا معنى كَون الْإِكْرَاه
وَالشَّهَادَة علتين؟ . قلت التَّسَبُّب مَفْهُوم كلي وهما
فرداه المتحققان فِي الأَصْل وَالْفرع، وفرد الشَّيْء متجد
مَعَه فِي الْوُجُود وَعليَّة الْمَفْهُوم الْكُلِّي إِنَّمَا
يكون باعتبارها ويتحقق فِي ضمنه، بل نقُول من قبيل إِطْلَاق
الْعلَّة على الضَّابِط لكَونه منَاط الْعلية (وَجَوَابه) أَي
الْمُسْتَدلّ من هَذَا السُّؤَال (إِمَّا بِأَن الضَّابِط) فِي
الأَصْل وَالْفرع إِنَّمَا هُوَ (التَّسَبُّب) الْمُطلق،
وَهُوَ (منضبط عرفا) وَإِن لم يكن منضبطا بِحَسب الْمَفْهُوم
اللّغَوِيّ، فَإِن المُرَاد بِهِ فِي الْعرف مَا يَصح أَن
يُضَاف إِلَيْهِ الْقَتْل لكَمَال نسبته لَهُ (على قِيَاس مَا
تقدم) فِي مسئلة حكم الْقيَاس الثُّبُوت فِي الْفَرْع (من
الْقيَاس لِلْعِلَّةِ) بَيَان لما تقدم فِي مَبْحَث الْقيَاس
لَهَا (لمن مَنعه) أَي منع الْقيَاس لإِثْبَات علية الْعلَّة
المجوز إثْبَاته بِالْعِلَّةِ
(4/159)
الثَّابِتَة عليتها بِالْقِيَاسِ،
وَالْمَانِع يَقُول للمجوز: لَا بُد لَك من منَاط مُشْتَرك
بَين العلتين حَتَّى تقيس إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى،
فَإِنِّي أجعَل ذَلِك المناط عِلّة لحكم الأَصْل بدل الْعلَّة
الَّتِي جَعلتهَا مقيسا عَلَيْهَا، فَكَذَا يَقُول الْمُجيب
فِيمَا نَحن فِيهِ أجعَل الْعلَّة فِي قِيَاس الْمَشْهُود على
الْمُكْره التَّسَبُّب (وَجعل الْمُشْتَرك) الْمَعْلُوم عرفا
فِي الأَصْل وَالْفرع (علته أَو بِأَن إفضاءه) أَو إفضاء مَا
فِي الْفَرْع من الضَّابِط إِلَى الحكم (مثله) أَي مثل إفضاء
مَا فِي الأَصْل من الضَّابِط إِلَيْهِ (أَو أرجح) مَعْطُوف
على مثله أَي إفضاء مَا فِي الْفَرْع أرجح وَأقوى مِمَّا فِي
الأَصْل، فثبوت الحكم فِي الْفَرْع إِمَّا بطرِيق المناولة أَو
بطرِيق أولى (فِيمَا لَو جعل أَصله) أَي أصل هَذَا الْفَرْع
(إغراء الْحَيَوَان) وحثه على قتل نفس، فَقيل يجب الْقصاص على
الشَّاهِد زورا بإغرائه أَوْلِيَاء الْمَقْتُول على الْقَتْل
قِيَاسا على إغراء الْحَيَوَان عَلَيْهِ (فَإِن الشَّهَادَة
أفْضى إِلَى الْقَتْل مِنْهُ) أَي من إغراء الْحَيَوَان فَإِن
انبعاث أَوْلِيَاء الْمَقْتُول على قتل من شهدُوا عَلَيْهِ
طلبا للتشفي وثلج الصَّدْر بالانتقام أغلب من انبعاث
الْحَيَوَان على قتل من يغرى عَلَيْهِ لنفرته عَن الْآدَمِيّ
وَعدم علمه بالإغراء. وَفِي الشَّرْح العضدي وَإِذا كَانَ
كَذَلِك لم يضر اخْتِلَاف أُصَلِّي التَّسَبُّب، وَهُوَ كَونه
شَهَادَة وإغراء. فَإِن حَاصله قِيَاس التَّسَبُّب
بِالشَّهَادَةِ على التَّسَبُّب بالإغراء، وَإِلَيْهِ أَشَارَ
بقوله (وكونهما) أَي الأَصْل وَالْفرع فِي الْقيَاس
الْمَذْكُور (التَّسَبُّب بِالشَّهَادَةِ) قِيَاسا (على
التَّسَبُّب بالإغراء بِلَا جَامع) فَهُوَ غير موجه (بل)
الموجه فِيهَا أَن يُقَال (الشَّهَادَة) قِيَاسا (على
الْإِكْرَاه أَو الإغراء أَو الشَّاهِد على الْمُكْره بالتسبب)
أَي بِجَامِع التَّسَبُّب فِي كل من القياسين (أَو) يُجَاب
(بإلغاء التَّفَاوُت) بَين ضابطي الأَصْل وَالْفرع فِي
الْمصلحَة (إِذا أثْبته) أَي الْمُعْتَرض التَّفَاوُت بَينهمَا
(فِي خصوصه) مُتَعَلق بإلغاء التَّفَاوُت: أَي تبين فِي خُصُوص
ذَلِك الْمحل الَّذِي أورد فِيهِ السُّؤَال الْمَذْكُور أَن
التَّفَاوُت الْمُثبت بَينهمَا ملغى كَأَن يَقُول لَا تفَاوت
فِي الْقصاص بِالْقَتْلِ بِقطع الْأُنْمُلَة المفضية إِلَى
الْمَوْت وَالْقَتْل بِضَرْب الرَّقَبَة وَإِن كَانَ ضرب لرقبة
أَشد إفضاء إِلَى الْمَوْت (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يبين
الْمُعْتَرض التَّفَاوُت فِي خصوصه (لم يفد) الإلغاء لجَوَاز
تحَققه فِي غير الْمُتَنَازع (فَلم تذكره الْحَنَفِيَّة لرجوعه
إِلَى الْمُعَارضَة فِي الأَصْل) جَوَاز أما فِي قَوْله وَأما
مَا ذكره الشَّافِعِيَّة (وسؤال الْقلب مندرج فِي
الْمُعَارضَة) لِأَنَّهَا إِقَامَة الدَّلِيل على خلاف مَا
أَقَامَ عَلَيْهِ الْمُسْتَدلّ، وَكَذَا الْقلب إِلَّا أَن
فِيهِ خُصُوصِيَّة كَون الأَصْل وَالْجَامِع مُشْتَركا بَين
قياسي الْمُسْتَدلّ والمعارض (وَكَلَام الْحَنَفِيَّة)
مُبْتَدأ خَبره (الْمُعَارضَة) إِلَى آخِره، يَعْنِي كَلَامهم
فِي تَحْقِيق هَذَا الْمقَام هُوَ قَوْلهم الْمُعَارضَة إِلَى
آخر الْبَحْث (نَوْعَانِ) الأول (مُعَارضَة فِيهَا مناقضة،
وَهِي) أَي الَّتِي فِيهَا مناقضة (الْقلب) وتستغرق تَفْسِيره
عِنْدهم، ثمَّ أَخذ يبين مَا يُطلق عَلَيْهِ لفظ الْقلب لُغَة
من الْمَعْنيين ليجعل كل وَاحِد مِنْهُمَا منشأ لتسمية نوع من
مَعْنَاهُ
(4/160)
الاصطلاحي بقوله (وَيُقَال) الْقلب (لجعل
الْأَعْلَى أَسْفَل) والأسفل أَعلَى (وَمِنْه) أَي من جعل
الْأَعْلَى أَسْفَل (جعل الْمَعْلُول عِلّة، وَقَلبه) أَي جعل
الْعلَّة معلولا (فَإِن الْعلَّة) بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْمَعْلُول (أَعلَى للأصلية) أَي لكَونهَا أصلا فِي
الْإِثْبَات والمعلول فرعا لَهَا فِيهِ، فتبديلها كجعل
الْإِنَاء منكوسا (وَإِنَّمَا يُمكن) هَذَا النَّوْع من الْقلب
(فِي التَّعْلِيل بِحكم) أَي فِيمَا إِذا علل حكم الأَصْل
بِحكم آخر شَرْعِي، ثمَّ يعدي إِلَى الْفَرْع: وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر إِلَّا فِي شَيْء لَهُ حيثيتان:
الْعلية والمعلولية، وَالْحكم الشَّرْعِيّ إِذا كَانَ عِلّة
لمثله فَهُوَ عِلّة بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، ومعلول من حَيْثُ
إِنَّه لَا بُد فِي كل حكم شَرْعِي من عِلّة، وَمثل هَذَا لَا
يتَصَوَّر فِي التَّعْلِيل بِالْوَصْفِ الْمَحْض، لِأَنَّهُ
لَا يصير حكما بِوَجْه، والمعلولية مَوْقُوفَة على كَونه حكما،
كَذَا قَالُوا (كالكفار يجلد بكرهم) . قَالَ الشَّافِعِي:
الْإِسْلَام لَيْسَ بِشَرْط الْإِحْصَان حَتَّى لَو زنى
الذِّمِّيّ الْحر الْبَالِغ الَّذِي وطئ امْرَأَة فِي الْقبل
بِنِكَاح صَحِيح يرْجم، لِأَن الْكفَّار جنس يجلد بكرهم مائَة
إِذا كَانَ حرا (فيرجم ثيبهم كالمسلمين) أَي كَمَا أَن
الْمُسلمين الْأَحْرَار الْبَالِغين الْعُقَلَاء الواطئين
لامْرَأَة فِي الْقبل بِنِكَاح صَحِيح يرجمون، لِأَنَّهُ يجلد
بكرهم مائَة، فَجعل جلد الْبكر مائَة عِلّة لوُجُوب رجم
الثّيّب فِي الْمُسلمين، وقاس الْكفَّار عَلَيْهِم بِهَذَا
الْجَامِع، وَهُوَ حكم شَرْعِي، وَالْبكْر وَالثَّيِّب يطلقان
على الذّكر وَالْأُنْثَى (فَيَقُول) الْمُعْتَرض الْحَنَفِيّ
لَا نسلم أَن الْمُسلمين إِنَّمَا يرْجم ثيبهم، لِأَنَّهُ يجلد
بكرهم بل (إِنَّمَا يجلد بكر الْمُسلمين) ، لِأَنَّهُ يرْجم
ثيبهم) فَلَا يلْزم رجم الذِّمِّيّ الْمَذْكُور إِذا زنا
ثَيِّبًا (فَحَيْثُ جعل) الْمُعْتَرض (الْعلَّة) أَي الَّذِي
جعله الشَّافِعِي عِلّة فِي الأَصْل، وَهُوَ جلد الْمِائَة
(حكما) فِيهِ، وَمَا جعله حكما فِيهِ رجم الثّيّب عِلّة فِيهِ
(لَزِمَهَا) أَي لزم الْعلَّة المجعولة حكما (النَّقْض) لتخلف
الحكم عَنْهَا حِينَئِذٍ لِأَنَّهَا صَارَت بِنَفسِهَا حكما
وصارما كَانَ حكما مترتبا عَلَيْهَا عِلّة مُتَقَدّمَة
عَلَيْهَا، والمتقدم على الشَّيْء لَا يكون حكما لَهُ فَلَزِمَ
تخلف الحكم عَنهُ، وَفِيه أَنه لَا يرد على الشَّافِعِي إِلَّا
بحث وَاحِد، وَهُوَ إِنَّمَا جعلته عِلّة لَيْسَ بعلة، وَبعد
هَذَا لَا يرد عَلَيْهِ النَّقْض، لِأَن النَّقْض فرع الْعلية،
وَقد تقدّمت (وَهُوَ) أَي هَذَا الَّذِي ذكرنَا (قَوْلهم) أَي
معنى قَول الْحَنَفِيَّة مُعَارضَة (فِيهَا مناقضة) وَقد سبق
أَن الْحَنَفِيَّة يسمون النَّقْض مناقضة، وَإِطْلَاق
الْمُعَارضَة عَلَيْهِ من حَيْثُ أَن الْقلب قَابل تَعْلِيل
الْمُعَلل بتعليل يلْزم مِنْهُ بُطْلَانه، ثمَّ يلْزم مِنْهُ
بطلَان حكمه، لَا بِمَعْنى إِقَامَة الدَّلِيل على خلاف مَا
أَقَامَ بِهِ علية الْخصم، فَهُوَ من قبيل إِطْلَاق اسْم
الْمَلْزُوم على اللَّازِم، فَلَا يرد شَيْء مِمَّا أطنبوا
فِيهِ (والاحتراس عَنهُ) أَي عَن هَذَا الْقلب حَتَّى لَا
يُنَافِي إِيرَاده (جعله) أَي الْكَلَام (اسْتِدْلَالا) بِأَن
لَا يُعلل أحد الْحكمَيْنِ بِالْآخرِ، بل يسْتَدلّ بِثُبُوت
أَحدهمَا على ثُبُوت الآخر، إِذْ لَا امْتنَاع فِي
الِاسْتِدْلَال
(4/161)
بِوُجُود الْمَعْلُول على وجود الْعلَّة
كَمَا يُقَال هَذَا متعفن الإخلاط لِأَنَّهُ مَحْمُوم (وَهُوَ)
أَي الاحتراس عَنهُ بِهَذَا الطَّرِيق إِنَّمَا يتم (إِذا ثَبت
التلازم) بَين الْحكمَيْنِ: أَي اللُّزُوم من الْجَانِبَيْنِ
(شرعا) أَي ثبوتا شَرْعِيًّا (كالتوءمين) أَي المولودين فِي
بطن وَاحِد (فِي الْحُرِّيَّة وَالرّق وَالنّسب) فَإِنَّهُ
يثبت حُرْمَة الأَصْل لأَحَدهمَا بثبوتها للْآخر، وَهَكَذَا:
أَي الرّقّ وَالنّسب (و) يُقَال (لجعل الظّهْر بَطنا) والبطن
ظهرا كقلب الجراب (وَمِنْه) أَي من هَذَا النَّوْع من الْقلب
(جعل وَصفه) أَي الْمُسْتَدلّ (شَاهدا) أَي حجَّة (لَك) أَيهَا
الْمُعْتَرض لإِثْبَات خلاف حكم الْمُسْتَدلّ بعد أَن كَانَ
شَاهدا لَهُ عَلَيْك، فَكَأَنَّهُ كَانَ وَجه الْوَصْف مُقبلا
على الْمُسْتَدلّ وظهره إِلَى الْمُعْتَرض فَانْقَلَبَ (وَلَا
بُد فِيهِ) أَي فِي هَذَا النَّوْع (من زِيَادَة) فِي الْوَصْف
الَّذِي ذكره الْمُعْتَرض على الْوَصْف الَّذِي ذكره
الْمُسْتَدلّ (تورد تَفْسِيرا لما أبهمه الْمُسْتَدلّ) من
الْوَصْف وتقريرا، لَهُ لَا تغييرا فَيلْزم أَن لَا يكون قلبا،
بل مُعَارضَة مَحْضَة غير متضمنة لإبطال دَلِيل الْمُسْتَدلّ
(كَصَوْم فرض) على مَا قَالَه الشَّافِعِي فِي نِيَّة صَوْم
رَمَضَان (فَلَا يتَأَدَّى بِلَا تعْيين) للنِّيَّة (كالقضاء)
فَإِنَّهُ لَا يتَأَدَّى بِلَا تعْيين لوصف الْفَرْضِيَّة
(فَيَقُول) الْحَنَفِيّ (صَوْم فرض مُتَعَيّن) يتَعَيَّن
بِتَعْيِين الشَّارِع لنَهْيه عَن سَائِر الصيامات فِي
الْوَقْت (فَلَا يحْتَاج إِلَيْهِ) إِلَى تعْيين النِّيَّة بعد
تَعْيِينه (كالقضاء بعد الشُّرُوع فِيهِ) فَإِن الْقَضَاء إِذا
شرع فِيهِ مَقْرُونا مَعَ النِّيَّة يصدق عَلَيْهِ أَنه صَوْم
فرض مُتَعَيّن، وَقبل الشُّرُوع لم يتَعَيَّن، لجَوَاز أَن
يَنْوِي الصَّوْم فِي يَوْم بِعَيْنِه، ثمَّ قبل الشُّرُوع
فِيهِ يَنْقَلِب رَأْيه فَلَا يَصُوم فِيهِ، فقد أبهم
الْمُسْتَدلّ الْوَصْف حَيْثُ قَالَ صَوْم فرض وَلم يذكر
تَعْيِينه بِتَعْيِين الشَّارِع، وَلَو ذكره لما تحققت
الْمُشَاركَة فِي الْوَصْف بَين صَوْم رَمَضَان وَصَوْم
الْقَضَاء إِلَّا بعد اعْتِبَار الْفَرْضِيَّة وَالتَّعْيِين
فِيهِ، وَهَذَا الِاعْتِبَار لَا يتَحَقَّق فِيهِ إِلَّا بعد
الشُّرُوع وَبعد الشُّرُوع لَا يحْتَاج إِلَى النِّيَّة ليقاس
عَلَيْهِ فَذكر الْمُعْتَرض إِيَّاه تَفْسِير وَبَيَان لمحل
النزاع، فَإِن الصَّوْم الْفَرْض الْمُتَعَيّن فِي وقته،
فَالْأَصْل فِيهِ الْقَضَاء الْمَشْرُوع فِيهِ، غَايَته أَن
التَّعْيِين فِي رَمَضَان قبل الشُّرُوع، وَفِي الْقَضَاء
بعده، وَلَا يكون تعْيين الشَّارِع لَهُ أدنى من تعْيين
العَبْد، وَفِيه بحث ذكره المُصَنّف فِيمَا سبق، وَفِي شرح
الْهِدَايَة أَيْضا (وَمِنْه) أَي من هَذَا النَّوْع قَول
الشَّافِعِي فِي مسح الرَّأْس فِي الْوضُوء: الْمسْح (ركن فِي
الْوضُوء، فَيسنّ تكريره كالغسل: فَيَقُول) الْحَنَفِيّ
الْمسْح (ركن فِيهِ) أَي الْوضُوء (أكمل بِزِيَادَة) فِي
مَحَله (على) قدر (الْفَرْض) وَهُوَ اسْتِيعَاب بَاقِيه (فَلَا
يسن تكراره كالغسل، فَهِيَ) أَي الزِّيَادَة الَّتِي أكمل بهَا
(تَفْسِير) لما أبهم من الْوَصْف وَتَحْقِيق لمحل الْخلاف
(لِأَن الْخلاف فِي تثليث الْمسْح بعد إكماله كَذَلِك) أَي
بِزِيَادَة على الْفَرْض (وَهُوَ) أَي إِلَّا كَمَال على هَذَا
الْوَجْه فِي جَانب الْمسْح إِنَّمَا هُوَ (الِاسْتِيعَاب) أَي
استيعابه جَمِيع الراس فَإِنَّهُ زِيَادَة على
(4/162)
الْفَرْض الَّذِي هُوَ الرّبع مكملة لَهُ
كَمَا أَنَّهَا فِي جَانب الْغسْل التَّثْلِيث وَالْحَاصِل أَن
الْمُسْتَدلّ نظر فِي الأَصْل وَهُوَ الْغسْل إِلَى وصف
الركنية الْمُشْتَركَة بَينه وَبَين الْفَرْع الَّذِي هُوَ
الْمسْح وظنه مؤثرا فِي ترَتّب حكم التَّثْلِيث عَلَيْهِ فَحكم
بسنية التَّثْلِيث فِي الْفَرْع كَمَا فِي الأَصْل، والمعترض
دقق النّظر فَوجدَ أَن الركنية لَا تَقْتَضِي خُصُوصِيَّة
التَّثْلِيث، بل إِلَّا كَمَال الْمُطلق سَوَاء تحقق فِي ضمن
التَّثْلِيث أَو الِاسْتِيعَاب، وَقد تحقق مُقْتَضَاهُ فِي
الْمسْح فِي ضمن الِاسْتِيعَاب فقد استوعب حَقه، فَلَا يُزَاد
الْفَرْع على الأَصْل بِالْجمعِ لَهُ بَين واستيعاب والتثليث
(وَلم يَصح إِيرَاد فَخر الْإِسْلَام لهَذَا) الْمِثَال (فِي
الْمُعَارضَة الْخَالِصَة) لوُجُود الزِّيَادَة الْمَذْكُورَة
الدَّالَّة على أَن دَلِيل الْمعَارض لَيْسَ دَلِيل
الْمُسْتَدلّ بِعَيْنِه على مَا هُوَ الْمُعْتَبر فِي
الْخَالِصَة كَمَا سَيَجِيءُ، وَتحقّق مَا هُوَ الْمُعْتَبر
فِي النَّوْع الأول فِيهِ (وَإِذ علمت) فِي أَوَائِل هَذَا
الْفَصْل (أَن الْإِيرَاد) أَي إِيرَاد الْمُعْتَرض للاعتراض
إِنَّمَا هُوَ (على ظَنّه) أَي الْمُسْتَدلّ (التَّأْثِير،
لَا) على (حَقِيقَته) أَي حَقِيقَة التَّأْثِير فِي نفس
الْأَمر (صَحَّ إِيرَاد الْقلب على) الْعِلَل (المؤثرة) لِأَن
مرجع المناقضة إِنَّمَا هُوَ ظن الْمُعَلل، لَا اعْتِبَار
الشَّارِع فِي نفس الْأَمر (كفساد الْوَضع) أَي كَمَا أَن
فَسَاد الْوَضع، وَقد مر تَفْسِيره مورده ظن الْمُعَلل للتأثير
لَا حَقِيقَة التَّأْثِير (وَيُخَالِفهُ) أَي يُخَالف هَذَا
النَّوْع من الْقلب فَسَاد الْوَضع (بِالزِّيَادَةِ)
الْمَذْكُورَة (وبكونه) أَي بِكَوْن هَذَا النَّوْع مِنْهُ
يُورد فِي مطلب يكون (أَعم من مدعاه) أَي مدعي فَسَاد الْوَضع
وَهُوَ نقيض حكم الْمُسْتَدلّ، فَإِن شَهَادَة وصف
الْمُسْتَدلّ للمعترض كَمَا تحقق فِيمَا يثبت نقيض حكمه
تتَحَقَّق فِيمَا يسْتَلْزم نقيضه، وَلَو اطَّلَعت على مَا
ذكره الشَّارِح فِي حل هَذَا الْمحل على مَا هُوَ عَادَته فِي
أَمْثَاله من المشكلات لقضيت مِنْهُ الْعجب. هَذَا فِي بَيَان
الْفرق بَين النَّوْع الثَّانِي من الْقلب وَفَسَاد الْوَضع،
وَقد سبق قَرِيبا أَن فَسَاد الْوَضع يُفَارق الْقلب الْمُطلق
بِكَوْن الْوَصْف فِي فَسَاد الْوَضع يثبت نقيض الحكم بِأَصْل
آخر، وَفِي الْقلب يُثبتهُ بِأَصْل الْمُسْتَدلّ المُرَاد
بِإِثْبَات الْقلب نقيضه مَا يعم إثْبَاته بِوَاسِطَة فَلَا
يُنَافِي مَا سبق. (قَالُوا) أَي الْحَنَفِيَّة (ويقلب
الْعلَّة من وَجه فَاسد كعبادة لَا يجب الْمُضِيّ فِي فاسدها،
فَلَا تلْزم بِالشُّرُوعِ) فِيهَا (كَالْوضُوءِ) أَي كَقَوْل
الشَّافِعِي: إِن الشُّرُوع فِي نفل من صَلَاة أَو صَوْم غير
مُلْزم إِتْمَامه وقضاؤه إِذا فسد أَنه عبَادَة لَا يجب
الْمُضِيّ فِيهَا إِذا فَسدتْ، فَلَا تلْزم بِالشُّرُوعِ
فِيهَا كَالْوضُوءِ بِجَامِع أَن كلا مِنْهُمَا عبَادَة لَا
يمْضِي فِي فاسدها، وَاحْترز بِهِ عَن الْحَج، فَإِنَّهُ يجب
الْمُضِيّ فِي فاسده، وَكَذَا يلْزم بِالشُّرُوعِ فِيهِ، فَجعل
عدم لُزُوم المضيف فِي الْفَاسِد عِلّة لعدم اللُّزُوم
بِالشُّرُوعِ (فَيَقُول) الْحَنَفِيّ إِذا كَانَت الْعِبَادَة
الْمَذْكُورَة حَالهَا كَحال الْوضُوء (فيستوي عمل النّذر
والشروع فِيهَا كَالْوضُوءِ) أَي كَمَا يَسْتَوِي عملهما فِي
الْوضُوء فَإِنَّهُ لما لم يلْزم بِالشُّرُوعِ لم يلْزم
بِالنذرِ فمساواة عملهما فِي الْوضُوء كَونهمَا متساويين فِي
عدم الْإِلْزَام
(4/163)
على الْمُكَلف النَّاذِر والشارع فِي
الْعِبَادَة الْمَذْكُورَة كَونهمَا متساويين فِي الْإِلْزَام،
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (فتلزم) النَّافِلَة (بِالشُّرُوعِ
لِأَنَّهَا تلْزم بِالنذرِ) إِجْمَاعًا فَالْحَاصِل أَن العباة
الْمَذْكُورَة لَزِمَهَا الْمُسَاوَاة بَين نذرها وشروعها،
وَلَا يتَصَوَّر مساواتهما فِيهَا بالإلزام لتعين الْإِلْزَام
فِي نذرها بِالْإِجْمَاع، وَيُسمى هَذَا الْقلب قلب
التَّسْوِيَة، وَأما قلب الْعلَّة الَّتِي هِيَ عدم لُزُوم
الْمُضِيّ فِي الْفَاسِد وَكَونه من وَجه فَاسد فَلَمَّا سيشير
إِلَيْهِ (وَسَماهُ) أَي هَذَا الْقلب بدليله (فَخر
الْإِسْلَام عكسا، لِأَن حَاصله عكس خُصُوص حكم الأَصْل)
الَّذِي هُوَ الْوضُوء (وَهُوَ) أَي حكمه فِي الْمِثَال (عدم
اللُّزُوم بِالنذرِ والشروع فِي الْفَرْع) أَي النَّافِلَة،
وَلَا يخفى أَن عكس حكم الأَصْل عدم اللُّزُوم بِالشُّرُوعِ
فَقَط لَا عدم اللُّزُوم بهما جَمِيعًا فَفِيهِ مُسَامَحَة،
أَو المُرَاد بِحكمِهِ مَا يلْزم الحكم الَّذِي ذكره
الْمُسْتَدلّ وَيَتَرَتَّب عَلَيْهِ وَهُوَ عدم اللُّزُوم
الْمُتَرَتب على مُسَاوَاة عملهما فِي الْوضُوء الَّذِي لزم
تَعْلِيل الْمُسْتَدلّ وَإِنَّمَا قَالَ خُصُوص حكم الأَصْل
لعدم كَون حَاصله عكس مُطلق حكم الشَّامِل مُسَاوَاة عملهما
فِيهِ فَتدبر (وَهَذَا) النَّوْع من الْقلب هُوَ (الْمَنْسُوب
إِلَى الْحَنَفِيَّة أول الْقيَاس) أَي فِي أول مباحثه
(مُسَمّى بِقِيَاس الْعَكْس) وَلَيْسَ بِقِيَاس (وَإِنَّمَا
هُوَ اسْم الِاعْتِرَاض) هُوَ رد الحكم بِالطَّرِيقِ
الْمَذْكُور. (وَاخْتلف فِي قبُوله، فَقيل نعم) يقبل وَهُوَ
معزو إِلَى الْأَكْثَر: مِنْهُم أَبُو إِسْحَق الشِّيرَازِيّ
وَالْإِمَام الرَّازِيّ (إِذْ جعل) الْمُعْتَرض (وَصفه) أَي
الْمُسْتَدلّ (شَاهدا لما يسْتَلْزم نقيض مَطْلُوبه) أَي
الْمُسْتَدلّ (وَهُوَ) أَي مَا يسْتَلْزم نقيض مَطْلُوب
الْمُسْتَدلّ (الاسْتوَاء) لِأَنَّهُ يلْزم من اسْتِوَاء
الشُّرُوع وَالنّذر فِي الْعَمَل كَون الشُّرُوع ملزما كالنذر
وَهُوَ نقيض مَطْلُوبه، أَعنِي عدم اللُّزُوم بِالشُّرُوعِ.
(وَالْمُخْتَار) كَمَا ذهب إِلَيْهِ آخَرُونَ: مِنْهُم
القَاضِي وَابْن السَّمْعَانِيّ وَصَاحب البديع أَنه (لَا)
يقبل (لِأَن كَون الْوَصْف يُوجب شبها فِي شَيْء لَا يسْتَلْزم
عُمُوم الشّبَه) من المتشابهين فِي كل شَيْء (ليلزم الاسْتوَاء
مُطلقًا) وَالْحَاصِل أَن القالب لما ادّعى أَن علية عدم وجوب
الْمُضِيّ فِي الْفَاسِد لعدم اللُّزُوم بِالشُّرُوعِ فِي
الْوضُوء والنافلة أوجب شبها بَين الْوضُوء والنافلة فِي عدم
اللُّزُوم بِالشُّرُوعِ والمتشابهان متساويان فِي الْأَحْكَام،
وَمن جملَة أَحْكَام الْوضُوء اسْتِوَاء عمل النّذر والشروع
فِيهِ فَلَزِمَ اسْتِوَاء عملهما فِي النَّافِلَة، وعَلى
تَقْدِير اسْتِوَاء عملهما فِي النَّافِلَة يلْزم اللُّزُوم
بِالشُّرُوعِ لما ذكر رد عَلَيْهِ الْمُخْتَار بِأَن إِيجَاب
الشّبَه فِي شَيْء، وَهُوَ هَهُنَا عدم اللُّزُوم بِالشُّرُوعِ
لَا يسْتَلْزم عُمُوم الشّبَه حَتَّى يلْزم الشّبَه بَين
الْوضُوء والنافلة فِي اسْتِوَاء عملهما، وَإِلَيْهِ أَشَارَ
بقوله ليلزم الخ: أَي ليلزم اسْتِوَاء عملهما مُطلقًا فِي
الْوضُوء والنافلة، وَلَا يخفى أَنه لَا يلْزم حِينَئِذٍ
التَّنَاقُض لِأَن اسْتِوَاء عملهما فِي الْوضُوء يسْتَلْزم
عدم اللُّزُوم بِشَيْء مِنْهُمَا، وَفِي النَّافِلَة يسْتَلْزم
اللُّزُوم بِكُل مِنْهُمَا للزومها بِالنذرِ إِجْمَاعًا، فعموم
الشّبَه يسْتَلْزم مُشَاركَة الْوضُوء والنافلة فِي كل من
اللازمين
(4/164)
فَافْهَم (وَمَا أوردهُ الشَّافِعِيَّة)
فِي كتبهمْ من هَذَا السُّؤَال فَهُوَ (من) النَّوْع
(الثَّانِي) من الْقلب أَو الْمَعْنى: وَمَا أوردهُ من هَذَا
الْجِنْس من الِاعْتِرَاض على أَدِلَّة الْحَنَفِيَّة فَهُوَ
كَذَا. ثمَّ بَين مَا أوردهُ بقوله (وَهُوَ دَعْوَى تَجْوِيز
ثُبُوت نقيض حكم الْمُسْتَدلّ فِي الْفَرْع) مُتَعَلق بالثبوت
كَقَوْلِه (بوصفه) أَي بِوَصْف الْمُسْتَدلّ أَو حكمه.
وَحَاصِله أَن الْمُعْتَرض يَدعِي مُنَاسبَة وَصفه لحكمين
مناقضين بِاعْتِبَار تحَققه فِي المحلين: الأَصْل وَالْفرع،
فقد أَشَارَ بِلَفْظ التجويز إِلَى هَذِه الْمُنَاسبَة
(وَهُوَ) أَي مَا أوردهُ قِسْمَانِ: أَحدهمَا (قلب لتصحيح
مذْهبه) أَي الْمُعْتَرض (ليبطل الْمُسْتَدلّ) أَي ليلزم
مِنْهُ بطلَان مذْهبه لتنافيهما (كلبث) أَي كَقَوْل
الْحَنَفِيّ: الِاعْتِكَاف يشْتَرط فِيهِ الصَّوْم لِأَنَّهُ
لبث فِي مَكَان مَخْصُوص (ومجرده) أَي مُجَرّد اللّّبْث (غير
قربَة كالوقوف) بِعَرَفَة فَإِن مجرده غير قربَة، وَإِنَّمَا
صَار قربَة بانضمام عبَادَة إِلَيْهِ، وَهُوَ الْإِحْرَام
فَلَا بُد من انضمام عبَادَة مَعَ اللّّبْث ليصير عبَادَة
(فَيشْتَرط فِيهِ) أَي فِي الِاعْتِكَاف (الصَّوْم) لعدم
ظُهُور مُنَاسبَة اعْتِبَار عبَادَة غَيره فِيهِ (فَيَقُول)
الشَّافِعِي (فَلَا يشْتَرط) فِيهِ الصَّوْم (كالوقوف) أَي
إِذا كَانَ الِاعْتِكَاف شَبيه الْوُقُوف بِعَرَفَة لزم أَن
لَا يشْتَرط فِيهِ الصَّوْم كَمَا لَا يشْتَرط فِي الْوُقُوف.
(و) الْقسم الآخر قلب (لإبطال) مَذْهَب (الْمُسْتَدلّ صَرِيحًا
لتصحيح مذْهبه) أَي ليلزم مِنْهُ صِحَة مَذْهَب الْمُعْتَرض
ضمنا (كالحنفي فِي الرَّأْس) أَي كَقَوْلِه فِي مسح الرَّأْس
أَنه مُقَدّر بِالربعِ لِأَنَّهُ عُضْو (من أَعْضَاء الْوضُوء
فَلَا يَكْفِي أَقَله) أَي مَا ينْطَلق عَلَيْهِ اسْم الرَّأْس
(كَبَقِيَّة الْأَعْضَاء) فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي فِيهَا غسل
أدنى مَا ينْطَلق عَلَيْهِ الِاسْم (فَيَقُول) الشَّافِعِي
أَنه مسح عُضْو من أَعْضَاء الْوضُوء (فَلَا يقدر بِالربعِ
كبقيتها) فقد أبطل الْمُعْتَرض مَذْهَب الْمُسْتَدلّ صَرِيحًا
ليلزم تَصْحِيح مذْهبه ضمنا. وَلما كَانَ هَهُنَا مَظَنَّة
سُؤال، وَهُوَ أَن عدم التَّقْدِير بِالربعِ لَا يسْتَلْزم
الِاكْتِفَاء بِالْأَقَلِّ، فَكيف يلْزم من إبِْطَال مَذْهَب
الْمُسْتَدلّ تَصْحِيح مَذْهَب الْمُعْتَرض؟ أَشَارَ إِلَى
دَفعه بقوله (ووروده) أَي الْقلب الْمَذْكُور فِي هَذَا
الْمِثَال بِنَاء (على أَن المُرَاد) أَي مُرَاد القالب
(اتفقنا) نَحن وَأَنْتُم أَيهَا الْحَنَفِيَّة على (أَن
الثَّابِت أَحدهمَا) أَي أقل الرَّأْس أَو الرّبع، وَإِذا
انْتَفَى أَحدهمَا ثَبت الآخر، وَإِلَّا فَلَا يلْزم من نفي
الرّبع الأول لجَوَاز الِاسْتِيعَاب كَمَا ذهب إِلَيْهِ مَالك،
وَفِيه نظر، وَهُوَ أَن كلا من المتخاصمين تعين عِنْده مذْهبه،
وَإِذا أبطل أَحدهمَا مَذْهَب الآخر لم يثبت علية مَذْهَب
الْمُبْطل، بل يجوز حِينَئِذٍ الثَّالِث: نعم لَو لم يكن فِي
الْوُجُود إِلَّا المذهبان كَانَ يلْزم الْإِجْمَاع على نفي
الثَّالِث فَتَأمل (أَو) لإبطال مَذْهَب الْمُسْتَدلّ (التزاما
كَقَوْلِه) أَي الْحَنَفِيّ (فِي بيع غير المرئي: عقد
مُعَاوضَة فَيصح مَعَ الْجَهْل بِالْعِوَضِ كَالنِّكَاحِ،
فَيَقُول) الشَّافِعِي عقد مُعَاوضَة (فَلَا يثبت فِيهِ خِيَار
الرُّؤْيَة) كَمَا لَا يثبت فِي النِّكَاح، فالمعترض لم
يتَعَرَّض لإبطال مَذْهَب الْخصم، وَهُوَ القَوْل بِالصِّحَّةِ
صَرِيحًا
(4/165)
بل التزاما: وَذَلِكَ لِأَن من قَالَ
بِصِحَّة بيع المرئي مَعَ الْجَهْل بالمعوض قَالَ بِخِيَار
الرُّؤْيَة فهما متلازمان فَيلْزم من انْتِفَاء خِيَار
الرُّؤْيَة انْتِفَاء الصِّحَّة، وَلذَا قَالَ (فَلَا يَصح)
البيع الْمَذْكُور (الثَّانِي) من نَوْعي (الْمُعَارضَة
الْخَالِصَة) عَن معنى المناقضة (فِي) حكم (الْفَرْع) بِأَن
يذكر عِلّة أُخْرَى توجب خلاف مَا توجبه عِلّة الْمُسْتَدلّ
(بِلَا تَغْيِير) وَلَا زِيَادَة فِي الحكم الأول فَيَقَع بهَا
الْمُقَابلَة من غير تعرض لإبطال عِلّة الْمُسْتَدلّ فَيمْتَنع
الْعَمَل بِشَيْء مِنْهُمَا لمدافعة كل مِنْهُمَا الْأُخْرَى
مَا لم تترجح إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى (ويستدعى) هَذَا
النَّوْع (أصلا آخر وَعلة) أُخْرَى (كالمسح) أَي كَقَوْل
الشَّافِعِي الْمسْح (ركن فِي الْوضُوء فَيسنّ تكريره كالغسل،
فَيَقُول) الْحَنَفِيّ: مسح الرَّأْس (مسح فَلَا يُكَرر كمسح
الْخُف) فَأصل الأول الْغسْل، وعلته الركنية، وأصل الثَّانِي
مسح الْخُف، وعلته كَونه مسحا، والتكرر وَعَدَمه حكمان
متخالفان فِي الْفَرْع الَّذِي هُوَ مسح الرَّأْس وَلم يَقع
تَغْيِير فِي الحكم الأول، فمورد الْإِيجَاب وَالسَّلب وَاحِد
(وَالْأَحْسَن أَن يَجْعَل أَصله) أَي الْمُعْتَرض
(التَّيَمُّم) فَيُقَال كالتيمم (فيندفع) على هَذَا الْفَارِق
(المتوهم من مَانع فَسَاد الْخُف) بَيَان للمتوهم: أَي الركنية
إِنَّمَا يَقْتَضِي التكرير، غير أَنه لم يتَحَقَّق
الْمُقْتَضِي فِي مسح الْخُف لوُجُود الْمَانِع، وَهُوَ
الْإِفْضَاء إِلَى إِتْلَاف الْخُف بتكرير الْمسْح (أَو بتغيير
مَا) فِي الحكم الْمُتَنَازع فِيهِ، مَعْطُوف على قَوْله بِلَا
تَغْيِير، فَفِيهِ إِشَارَة إِلَى تَقْسِيم هَذَا النَّوْع
إِلَى قسمَيْنِ كَقَوْل الْحَنَفِيّ لإِثْبَات ولَايَة
التَّزْوِيج بِغَيْر الْأَب وَالْجد من الْأَوْلِيَاء كالأخ
(فِي صَغِيرَة بِلَا أَب وجد صَغِيرَة فيولى عَلَيْهَا فِي
الانكاح كذات الْأَب) أَي كالصغيرة الَّتِي لَهَا أَب بِجَامِع
الصغر الْمُوجب للعجز عَن مُرَاعَاة مصالحها (فَيَقُول)
الشَّافِعِي (الْأَخ قَاصِر الشَّفَقَة، فَلَا يولي عَلَيْهَا
كَالْمَالِ) فَإِنَّهُ لَا ولَايَة للْأَخ على المَال
إِجْمَاعًا: فَهَذِهِ مُعَارضَة خَالِصَة صَحِيحَة مثبتة حكما
مُخَالفا للْأولِ بعلة أُخْرَى فِي ذَلِك الْمحل بِعَيْنِه،
لَكِن مَعَ تَغْيِير مَا فِي الحكم الأول من الْإِطْلَاق
الشَّامِل للْأَخ وَغَيره إِلَى التَّقْيِيد بالأخ (وَأما
نظمه) أَي الْمعَارض الْمُعَارضَة هَكَذَا (صَغِيرَة فَلَا
يولي عَلَيْهَا قرَابَة الْأُخوة كَالْمَالِ) كَمَا فِي أصُول
فَخر الْإِسْلَام والتنقيح وَغَيرهمَا. قَالَ الشَّارِح: لَكِن
الْمَذْكُور فِيهَا بِولَايَة الْأُخوة انْتهى، وعَلى مَا ذكره
المُصَنّف نِسْبَة التوالية إِلَى الْقَرَابَة مجَاز لكَونهَا
سَببا للتولية (فَلَيْسَ مِنْهُ) أَي من هَذَا الْقسم
الْمُعَارضَة الْخَالِصَة من الْقلب، فالمعترض (عَارض مُطلق
الْولَايَة) الَّتِي أثبتها الْمُسْتَدلّ (بنفيها) أَي
الْولَايَة (عَن خُصُوص) مندرج تَحت عُمُوم إِطْلَاقهَا وَهُوَ
الْأَخ (يلْزمه) أَي يلْزم نَفيهَا عَن (نفي) الحكم (الْمُعَلل
لِأَن قرَابَته) أَي الْأَخ (أقرب) من سَائِر الْقرَابَات (بعد
الولاد، فنفيها) أَي ولَايَة الْأَخ (نفى مَا بعْدهَا) أَي مَا
سواهَا من ولَايَة الْعم وَغَيره (مُطلقًا) . وَأَشَارَ إِلَى
قسم ثَالِث مِنْهَا بقوله (أَو إِثْبَات) بِالْجَرِّ
(4/166)
عطفا على بِلَا تَغْيِير: أَي إِثْبَات
الْمُعْتَرض حكما (آخر) غير مَا ذكره الْمُعَلل (يستلزمه) أَي
يسْتَلْزم إثْبَاته نفي حكم الْمُعَلل (كَقَوْل أبي حنيفَة فِي
أحقية المنعي) أَي الَّذِي نعى إِلَى زَوجته: أَي أخْبرت
بِمَوْتِهِ فتربصت مِنْهُ ثمَّ تزوجت (بِوَلَدِهَا) مُتَعَلق
بالأحقية: أَي الَّذِي وَلدته (فِي) زمَان (نِكَاح من تزوجته
بعده) أَي بعد المنعي من الَّذِي تزَوجهَا بعده، فالمنعي إِذا
جَاءَ بعد الْولادَة وَادّعى نسبه (صَاحب فرَاش صَحِيح) مقول
قَوْله: أَي المنعي صَاحب فرَاش صَحِيح لقِيَام مَكَانَهُ
(فَهُوَ أَحَق) بِالْوَلَدِ الْمَذْكُور (من) صَاحب الْفراش
(الْفَاسِد) وَهُوَ المتزوج بهَا مَعَ قيام نِكَاح المنعي
(كَمَا لَا يُحْصى) من تَقْدِيم الصَّحِيح على الْفَاسِد عِنْد
التَّعَارُض (فَيَقُول) المعترص كالصاحبين: الزَّوْج
(الثَّانِي صَاحب فرَاش فَاسد فيلحقه) الْوَلَد (كالمتزوج
بِلَا شُهُود) إِذا ولدت المتزوج بهَا يثبت النّسَب مِنْهُ
مَعَ فَسَاد الْفراش: كَيفَ وَظَاهر الْحَال يَقْتَضِي كَون
الْعلُوق مِنْهُ (فإثباته) أَي إِثْبَات نسب الْوَلَد (من
الثَّانِي يلْزمه) أَي الْإِثْبَات الْمَذْكُور (نَفْيه) أَي
الْوَلَد (عَن الأول للْإِجْمَاع) على (أَن لَا يثبت) نسبه
(مِنْهُمَا) جَمِيعًا، وَقد وجد مَا يصلح سَببا لاسْتِحْقَاق
النّسَب فِي حق الثَّانِي (فرجح) أَبُو حنيفَة (الْملك
وَالصِّحَّة) الكائنين للْأولِ (على الْحُضُور وَالْمَاء) أَي
كَون الثَّانِي حَاضرا وَالْمَاء لَهُ (كَالزِّنَا) فَإِنَّهُ
وَقع فِيهِ هَذَا التَّرْجِيح (وَالْوَجْه) أَن يُقَال (ترجح)
المنعي على الزَّوْج الثَّانِي (بِالصِّحَّةِ على الْحُضُور)
أَي بِسَبَب تَرْجِيح وصف صِحَة الْفراش على وصف الْحُضُور
مَعَ انْتِفَاء الصِّحَّة (أما المَاء فمقدر فيهمَا) أَي
الزَّوْجَيْنِ لعدم الْقطع بِهِ من الثَّانِي. (وَذكر
الشَّافِعِيَّة من الأسئلة: مُخَالفَة حكم الْفَرْع لحكم
الأَصْل) إِذْ من شَرط الْقيَاس اتِّحَاد الحكم كَمَا عرف
(كقياس البيع على النِّكَاح وَعَكسه) أَي قِيَاس النِّكَاح على
البيع (فِي عدم الصِّحَّة) بِجَامِع فِي صُورَة (فَيَقُول)
الْمُعْتَرض الحكم فيهمَا مُخْتَلف حَقِيقَة (عدمهَا) أَي
الصِّحَّة (فِي البيع حُرْمَة الِانْتِفَاع) بِالْمَبِيعِ (و)
عدمهَا (فِي النِّكَاح حُرْمَة الْمُبَاشرَة. وَالْجَوَاب) عَن
الْإِيرَاد الْمَذْكُور أَن يُقَال (الْبطلَان) الَّذِي هُوَ
عدم الصِّحَّة فيهمَا (وَاحِد) وَهُوَ (عدم) ترَتّب
(الْمَقْصُود من العقد) عَلَيْهِ (وَإِن اخْتلف صوره) أَي صور
الْبطلَان ومحاله الَّتِي يُضَاف إِلَيْهَا كَالْبيع
وَالنِّكَاح، فَإِن اخْتِلَاف الْمحل لَا يُوجب اخْتِلَاف
الْحَال، بل لَا بُد فِي كل قِيَاس من اخْتِلَاف مَحل الحكم،
وَإِلَّا لم يتَحَقَّق الأَصْل وَالْفرع. ثمَّ الْمُمْتَنع فِي
الْقيَاس اخْتِلَاف الحكم جِنْسا كالوجوب وَالْحُرْمَة
وَالنَّفْي وَالْإِثْبَات (وَهَذَا) السُّؤَال (وَغَيره) من
الأسئلة (ككون الأَصْل معدولا) عَن سنَن الْقيَاس (دَاخل
فِيمَا ذكر الْحَنَفِيَّة من منع وجود الشَّرْط) فَلَا حَاجَة
إِلَى إِفْرَاده بِالذكر. (وَأما سُؤال الْفرق) بَين الأَصْل
وَالْفرع (إبداء خُصُوصِيَّة فِي الأَصْل) عطف بَيَان لسؤال
الْفرق، ثمَّ نعت الخصوصية بقوله (هِيَ) أَي تِلْكَ الخصوصية
(4/167)
(شَرط) للعلية (مَعَ بَيَان انتفائها) أَي
تِلْكَ الخصوصية (فِي الْفَرْع أَو بَيَان مَانع) بِالرَّفْع
عطفا على إبداء (فِيهِ) أَي فِي الْفَرْع عَن الحكم (و) بَيَان
(انتفائه) أَي الْمَانِع (فِي الأَصْل فمجموع معارضتين فِي
الأَصْل وَالْفرع) جَوَاب لأما، بِمَعْنى أَن حَقِيقَة الْفرق
الْمَذْكُور مركبة من معارضتين: مُعَارضَة فِي الأَصْل:
وحاصلها أَنَّك زعمت أَن الْوَصْف الَّذِي ذكرته فِي الأَصْل
عِلّة من غير شَرط أَو بِدُونِ اعْتِبَار عدم الْمَانِع،
وَلَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ مَشْرُوط بالخصوصية الْمَذْكُورَة
أَو مُعْتَبر فِيهِ عدم مَانع كَذَا. ومعارضة فِي الْفَرْع:
وحاصلها أَنَّك ادعيت وجود الْعلَّة فِي الْفَرْع وَلَيْسَ
كَذَلِك لانْتِفَاء شَرطهَا فِيهِ، أَو وجود الْمَانِع من
تأثيرها فِيهِ (وَهُوَ) أَي كَونه مَجْمُوع المعارضتين (فِي)
الشق (الثَّانِي) من الترديد، أَعنِي بَيَان مَانع فِي
الْفَرْع وانتفائه فِي الأَصْل مَبْنِيّ (على أَن الْعلَّة
الْوَصْف مَعَ عدم هَذَا الْمَانِع) لِأَنَّهُ لَو لم يعْتَبر
فِي الْعلَّة عدم الْمَانِع لما صَحَّ نفي وجود الْعلَّة فِي
الْفَرْع، وَلِأَن الْمَانِع عَن الشَّيْء فِي قُوَّة
الْمُقْتَضى لنقيضه فَيكون فِي الْفَرْع نقيض الحكم الَّذِي
أثْبته الْمُسْتَدلّ (وَعَلِيهِ) أَي على الْمُعْتَرض (بَيَان
كَونه) أَي كَون مَا أبداه من الخصوصية فِي الأَصْل شرطا فِي
الشق الأول (أَو) مَا أبداه من الْمَانِع فِي الْفَرْع
(مَانِعا) فِي الشق الثَّانِي (على طَرِيق إِثْبَات
الْمُسْتَدلّ علية الْوَصْف) أَي كَمَا أثبت الْمُسْتَدلّ علية
الْوَصْف على الْوَجْه الَّذِي ادَّعَاهُ يثبت الْمعَارض عليته
على الْوَجْه الَّذِي يَدعِيهِ (وَالْوَجْه أَنه) أَي الْفرق
(معارضتان) فِي الأَصْل وَالْفرع (على) الشق الأول من الترديد
(ادِّعَاء الشَّرْط و) معارضته (فِي الْفَرْع فَقَط على) الشق
الثَّانِي مِنْهُ: أَي بَيَان (الْمَانِع لما تقدم) فِي شُرُوط
الْعلَّة (من الْحق) من (أَن عدم الْمَانِع لَيْسَ جُزْءا من
الْعلَّة الباعثة، بِخِلَاف الشَّرْط لِأَنَّهُ) أَي الشَّرْط
(خُصُوصِيَّة زَائِدَة على الْوَصْف) الَّذِي علل بِهِ
الْمُعَلل فَهِيَ جُزْء مِنْهُ (وَلَو لم يتَعَرَّض)
الْمُعْتَرض (لانتفائه) أَي الشَّرْط (من الْفَرْع لم يكن)
إبداء الخصوصية الَّتِي هِيَ شَرط فِي الأَصْل (الْفرق)
الَّذِي هُوَ مَجْمُوع المعارضتين (بل) هُوَ (مُعَارضَة فِي
الأَصْل الْمُسَمّى مُفَارقَة) عِنْد الْحَنَفِيَّة وَتقدم
الْكَلَام فِيهَا (والاتفاق على) جَوَاز (جمعهَا) أَي
الاعتراضات إِذا كَانَت (من جنس) وَاحِد، إِذْ لَا يلْزم
مِنْهُ مَحْذُور من التَّنَاقُض والانتقال وَغير ذَلِك (و) ذكر
(بعض الْأُصُولِيِّينَ النَّوْع للْجِنْس) يَعْنِي أطلق
النَّوْع وَأَرَادَ بِهِ الْجِنْس (وَالْجِنْس للنوع) عكس على
مَا فِيهِ اصْطِلَاح الْأُصُولِيِّينَ، فَالْمُرَاد
بِالْجِنْسِ الْمَذْكُور فِي الِاتِّفَاق النَّوْع (وأصول
الْحَنَفِيَّة) وفروعهم أَيْضا يذكر فِيهَا (الْجِنْس للنوع)
كالحنطة (وَالنَّوْع للصنف كَرجل) وَلَا مناقشة فِي
الِاصْطِلَاح (وَذَلِكَ) أَي جمعهَا من جنس (كالاستفسارات
والمنوع والمعارضات) فَإِن كل وَاحِدَة مِنْهَا يجمعها جنس
هُوَ الاستفسار وَالْمَنْع والمعارضة (وَفِي) جمع
(الْأَجْنَاس) من الاعتراضات اخْتِلَاف (مَنعه) أَي جمعهَا
(السمرقنديون للخبط) اللَّازِم من ذَلِك (للانتشار) بِخِلَاف
مَا إِذا كَانَت من جنس
(4/168)
وَاحِد، فَإِن النشر فِي الْمُخْتَلفَة
أَكثر، وَالْجُمْهُور جوزوا الْجمع بَينهمَا أَيْضا (ثمَّ)
إِذا جَازَ الْجمع (منع أَكثر النظار) الاعتراضات (الْمرتبَة
طبعا) أَي جمعهَا، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ أَعم من أَن تكون من
جنس وَاحِد أَولا، وَالدَّلِيل يُفِيد الْأَعَمّ، غير أَن
الشَّارِح خصصه بِمَا إِذا كَانَ من نوع وَاحِد (كمنع حكم
الأَصْل وَمنع أَنه مُعَلل بذلك) الْوَصْف فَإِن تَعْلِيله بعد
ثُبُوته طبعا (إِذْ يُفِيد) الْأَخير (تَسْلِيم الأول)
فَيتَعَيَّن الْأَخير سؤالا فيجاب عَنهُ دون الأول
(وَالْمُخْتَار جَوَازه) أَي جمع الْمرتبَة كَمَا ذهب إِلَيْهِ
أَبُو إِسْحَاق الاسفرايني (لِأَن التَّسْلِيم) للمتقدم
(فَرضِي: أَي لَو سلم) الأول (ورد الثَّانِي) فَلَا يلْزم
تَسْلِيمه فِي نفس الْأَمر (وَحِينَئِذٍ) أَي حِين اختير
جَوَازه (الْوَاجِب) على الْمُعْتَرض (ترتيبها) أَي الْمرتبَة
طبعا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يرتبها وَعكس التَّرْتِيب
(فَمنع) فحاصله منع (بعد التَّسْلِيم إِذْ) قَول الْمُعْتَرض
(لَا نسلم أَن الحكم مُعَلل بِكَذَا يتَضَمَّن تَسْلِيمه) أَي
الحكم (فَقَوله) بعد ذَلِك (بِمَنْع ثُبُوت الحكم رُجُوع) عَن
تَسْلِيمه (لَا يسمع) لِأَنَّهُ إِنْكَار بعد الْإِقْرَار
فَالْمُرَاد من التَّرْتِيب الْوَاجِب على الْمُعْتَرض أَن يرد
الْمرتبَة على وَجه لَا يلْزم عَلَيْهِ الْمَنْع بعد
التَّسْلِيم فَيمْنَع ثُبُوت الحكم أَولا، ثمَّ يمْنَع كَونه
مُعَللا بِكَذَا، فَيكون تَسْلِيمًا بعد الْمَنْع على طَرِيق
التنزل، وَلما بَين وجوب التَّرْتِيب على هَذَا الْوَجْه فِي
جَمِيع الْمرتبَة على الْمَذْهَب الْمُخْتَار ظهر أَن منع
أَكثر النظار جمعهَا على التَّرْتِيب الطبيعي الْمُفِيد
تَسْلِيم مَا منع على عكس مَا هُوَ الْوَاجِب، فَأَشَارَ
إِلَيْهِ بقوله (فَيبْطل مَا يلْزم قَول الْأَكْثَرين من
وُجُوبهَا) بَيَان لما: أَي من لُزُوم جَمِيع الاعتراضات
الْمرتبَة طبعا حَال كَونهَا (غير مرتبَة) وَإِنَّمَا حكم
بِلُزُوم ذَلِك لقَولهم لأَنهم قد منعُوا جمعهَا على
التَّرْتِيب الطبيعي فَتعين ذكرهَا غير مرتبَة، لَا يُقَال لَا
يسْتَلْزم منع ذكرهَا مترتبة ذكرهَا غير مترتبة لجَوَاز أَن
لَا يذكرهَا أصلا، لِأَن جَوَاز ذكرهَا اتِّفَاق، وَإِلَيْهِ
أَشَارَ بقوله (وَإِلَّا فالاتفاق على) جَوَاز (التَّعَدُّد)
إِذا كَانَ المتعدد (من نوع) وَاحِد، وَإِنَّمَا حكم
بِبُطْلَان اللَّازِم الْمَذْكُور، لِأَن الْمَنْع قبل
التَّسْلِيم إِذا كَانَ قبيحا فَهُوَ بعد التَّسْلِيم أقبح
(وَلَا مخلص لَهُم) أَي للأكثرين عَن هَذَا الْإِبْطَال
(إِلَّا بادعاء أَن منع الْعلية بِفَرْض وجود الحكم) يَعْنِي
أَن تَسْلِيم حكم الأَصْل بِحَسب نفس الْأَمر لَا يلْزم من منع
علية الْوَصْف لجَوَاز أَن يكون بِحَسب الْفَرْض، فَإِذا منع
ثُبُوت الحكم بعد منع عليته الْوَصْف علم أَن مُرَاده من
التَّسْلِيم الَّذِي يتضمنه منع الْعلية إِنَّمَا هُوَ بِحَسب
الْفَرْض وَحِينَئِذٍ يلْزمهُم مثله فِي مَنعهم المترتبة.
(وَمَا قيل) على مَا ذكره الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ إِذْ
(كل من الْخَمْسَة وَالْعِشْرين) اعتراضا الْوَارِدَة على
الْقيَاس الَّذِي سبق ذكرهَا (جنس ينْدَرج تَحت نوع) على مَا
مر من اصْطِلَاح بعض الْأُصُولِيِّينَ بعكس مَا هُوَ
الْمَشْهُور من اندراج النَّوْع تَحت الْجِنْس (غلط) لِأَنَّهُ
(يبطل حِكَايَة الِاتِّفَاق على) جَوَاز جمع (المتعدد من جنس
إِذْ لَا يتَصَوَّر
(4/169)
التَّعَدُّد مثلا من منع وجود الْعلَّة)
أَي مِنْهُ (وَهُوَ أَحدهَا) أَي أحد الْخَمْسَة وَالْعِشْرين،
فَإِنَّهُ إِذا كَانَ الْمَنْع الْمَذْكُور جِنْسا فَبعد منع
وجودهَا فِي قِيَاس وَاحِد مرّة لَا يُمكن منع وجودهَا
ثَانِيًا فَلَا يتَصَوَّر التَّعَدُّد من هَذَا الْجِنْس،
وَهَذَا إِنَّمَا يرد على الْقَائِل الْمَذْكُور إِذا حمل لفظ
الْجِنْس فِي الْمحل على الْمَعْنى الَّذِي اخْتَارَهُ فَجعله
خَمْسَة وَعشْرين، وَأما إِذا حمله على الْمَعْنى الَّذِي عبر
عَنهُ بالنوع فَلَا يرد، غير أَن اخْتِيَاره على وَجه لَا
يلائم كَلَام الْقَوْم خُرُوج عَن الجادة (و) أَيْضا
(كَلَامهم) أَي الْأُصُولِيِّينَ (فِي) ذكر (الْمثل) أَي
أَمْثِلَة الْمَذْكُورَات (وَذكر الْأَجْنَاس) للاعتراضات
(خِلَافه) أَي خلاف مَا ذكره هَذَا الْقَائِل، بل الْمَنْع نوع
مندرج تَحْتَهُ منع حكم الأَصْل وَمنع وجود الْوَصْف وَمنع
عليته وَمنع وجودهَا فِي الْفَرْع وَغَيرهَا، والمعارضة نوع
ينْدَرج فِيهَا الْمُعَارضَة فِي الأَصْل وَفِي الْفَرْع
وَغَيرهمَا وكل وَاحِد من أَقسَام الْمَنْع والمعارضة جنس
وَاحِد إِذْ الْفَرْض أَن الْجِنْس هُوَ النَّوْع المنطقي
بِهَذَا الِاصْطِلَاح فالنقد جنس انحصر فِيهِ نَوعه كَمَا نقل
الشَّارِح عَن المُصَنّف وَلَا يخفى عَلَيْك أَنه يرد
عَلَيْهِم حِينَئِذٍ مَا أوردهُ على الْقَائِل الْمَذْكُور
فَالصَّوَاب أَن يكون ذكرا للْجِنْس على وَجه لَا يكون كل
وَاحِد من الْخَمْسَة وَالْعِشْرين جِنْسا حَتَّى يتَحَقَّق
الْخلاف، ثمَّ أَخذ يبين التَّرْتِيب الطبيعي بقوله (فَتقدم
الْمُتَعَلّق بِالْأَصْلِ) من الِاعْتِرَاض فَيقدم منع حكم
الأَصْل لِأَنَّهُ نظر فِيهِ تَفْصِيلًا، كَذَا ذكره
الشَّارِح، وَالْوَجْه أَن يُقَال الْمَنْع طلب الدَّلِيل من
الْمُسْتَدلّ وَهُوَ الَّذِي يتَبَادَر إِلَيْهِ الذِّهْن،
بِخِلَاف إِقَامَة الدَّلِيل على خِلَافه (ثمَّ) الْمُتَعَلّق
(بِالْعِلَّةِ) لِأَنَّهُ نظر فِيمَا هُوَ متفرع عَن حكم
الأَصْل فَتقدم منع وجود الْعلَّة فِي الأَصْل ثمَّ
الْمُطَالبَة بتأهيرها إِلَى غير ذَلِك (ثمَّ) الْمُتَعَلّق
(بالفرع) لابتنائه على الْعلَّة (وَتقدم النَّقْض على
مُعَارضَة الأَصْل عِنْد معتبرها) أَي مُعَارضَة الأَصْل، وَقد
مر بَيَانه (إِذْ هِيَ) أَي مُعَارضَة الأَصْل (لإبطال
استقلالها) أَي الْعلَّة بالتأثير والنقض لإبطال أَصْلهَا
(وَمنع وجود الْعلَّة فِي الأَصْل قبل منعهَا) أَي قبل منع
عليتها (وَالْقلب قبل الْمُعَارضَة الْخَالِصَة) وَقد مر
تَفْسِيرهَا (لِأَنَّهُ) أَي الْقلب (مُعَارضَة بِدَلِيل
الْمُسْتَدلّ) بِخِلَاف الْخَالِصَة فَتذكر الْقلب أَولا (ثمَّ
يُقَال وَلَو سلم أَنه) أَي دَلِيل الْمُسْتَدلّ (يُفِيد
مَطْلُوبه عندنَا دَلِيل آخر يَنْفِيه) أَي مَطْلُوبه ثمَّ
الجدل بِالْحَقِّ مَأْمُور بِهِ. قَالَ تَعَالَى - {وجادلهم
بِالَّتِي هِيَ أحسن} - وَفعله الصَّحَابَة وَالسَّلَف لما
يلْزم من إِنْكَار الْبَاطِل واستنقاذ الْهَالِك عَن ضلاله
فَيشْتَرط أَن يكون الْمَقْصُود مِنْهُ إِظْهَار الصَّوَاب.
قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي قَوْله تَعَالَى - {وَإِن جادلوك
فَقل الله أعلم بِمَا تَعْمَلُونَ} - هَذَا أدب حسن علمه الله
تَعَالَى ليردوا بِهِ من جادل تعنتا وَلَا يُجِيبُوهُ، عَن أبي
أُمَامَة مَرْفُوعا " مَا ضل قوم بعد هدي كَانُوا عَلَيْهِ
إِلَّا أُوتُوا الجدل، ثمَّ تَلا - {مَا ضربوه لَك إِلَّا
جدلا} - " صَححهُ التِّرْمِذِيّ، وَعنهُ مَرْفُوعا " من ترك
المُرَاد وَهُوَ مُبْطل بني لَهُ بَيت
(4/170)
فِي ربض الْجنَّة، وَمن تَركه وَهُوَ محق
بني لَهُ فِي وَسطهَا " حسنه التِّرْمِذِيّ، والمراء
اسْتِخْرَاج غضب المجادل، من مريت الشَّاة: استخرجت لَبنهَا.
خَاتِمَة
للمقالة الثَّانِيَة (الِاتِّفَاق على) كَون (الْأَرْبَعَة) :
الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس أَدِلَّة
شَرْعِيَّة للْأَحْكَام (عِنْد مثبتي الْقيَاس) وهم
الْجُمْهُور مِنْهُم الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة (وَاخْتلف فِي)
كَون (أُمُور) أُخْرَى أَدِلَّة شَرْعِيَّة: مِنْهَا
(الِاسْتِدْلَال بِالْعدمِ، نَفَاهُ الْحَنَفِيَّة) وَقد سبق
الْكَلَام فِيهِ فِي المرصد الثَّانِي من شُرُوط الْعلَّة
نفياله مُطلقًا عَنْهُم إِلَّا عدم عِلّة متحدة على تَحْقِيق
من المُصَنّف هُنَاكَ، وإثباتا لَهُ عَن غَيرهم على تَفْصِيل
بَين أَن يكون عدما مُطلقًا أَو مُضَافا، وَبَين أَن يكون
الْمُعَلل بِهِ عدميا أَو وجوديا فَارْجِع إِلَيْهِ، فِي
التَّلْوِيح: لَا قَائِل بِأَن التَّعْلِيل بِالنَّفْيِ
إِحْدَى علل الْحجَج الشَّرْعِيَّة انْتهى، وَإِنَّمَا هُوَ
نفي الحكم الشَّرْعِيّ بِنَفْي الْمدْرك الشَّرْعِيّ، وَفِيه
مَا فِيهِ (والمصالح الْمُرْسلَة) وَهِي الَّتِي لَا يشْهد
لَهَا أصل بِالِاعْتِبَارِ فِي الشَّرْع وَلَا بالإلغاء وَإِن
كَانَت على سنَن الْمصَالح وتلقتها الْعُقُول بِالْقبُولِ
(أثبتها مَالك) وَالشَّافِعِيّ فِي قَول قديم (ومنعها
الْحَنَفِيَّة وَغَيرهم) مِنْهُم أَكثر الشَّافِعِيَّة ومتأخرو
الْحَنَابِلَة (لعدم مَا يشْهد) لَهَا (بِالِاعْتِبَارِ،
وَلعدم أصل الْقيَاس فِيهَا كَمَا يعرف مِمَّا تقدم) فِي
المرصد الأول، من فصل الْعلَّة، وَالصَّحَابَة رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم عمِلُوا أمورا لمُطلق الْمصلحَة بِلَا
تَقْدِيم شَاهد بِالِاعْتِبَارِ نَحْو كِتَابَة الْمُصحف
وَولَايَة الْعَهْد من أبي بكر لعمر رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا وَتَدْوِين الدَّوَاوِين وَعمل السِّكَّة للْمُسلمين
واتخاذ السجْن، فَعمل ذَلِك عمر رَضِي الله عَنهُ تَعَالَى
عَنهُ والأوقاف بِإِزَاءِ مَسْجِد رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم والتوسعة فِي الْمَسْجِد عِنْد ضيقه فعله
عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَذَا تَجْدِيد أَذَان
فِي الْجُمُعَة بِالسوقِ وَهُوَ الْأَذَان الأول، فعله
عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ نَقله هِشَام إِلَى
الْمَسْجِد (وتعارض الْأَشْبَاه) أَي بَقَاء الحكم الْأَصْلِيّ
فِي الْمُتَنَازع فِيهِ لتعارض أصلين فِيهِ يُمكن إِلْحَاقه
بِكُل مِنْهُمَا (كَقَوْل زفر فِي الْمرَافِق) لَا يجب غسلهَا
فِي الْوضُوء لِأَنَّهَا (غَايَة) لغسل الْيَد، والغاية
قِسْمَانِ (دخل) قسم (مِنْهَا) فِي المغيا كَقَوْلِه تَعَالَى
- {من الْمَسْجِد الْحَرَام إِلَى الْمَسْجِد الْأَقْصَى}
(وَخرج) قسم مِنْهَا كَقَوْلِه تَعَالَى - {وَأَتمُّوا الصّيام
إِلَى اللَّيْل} {فَلَا يدْخل} الْمرْفق (بِالشَّكِّ) فِي وجوب
الْغسْل (وَدفع) كَونه دَلِيلا (بِأَنَّهُ إِثْبَات حكم
شَرْعِي بِالْجَهْلِ وَأجِيب بِأَن المُرَاد) لزفَر (الأَصْل
عَدمه) أَي عدم دُخُول الْمرَافِق فِي الْغسْل (فَيبقى) عَدمه
مستمرا (إِلَى ثُبُوت مُوجبه) أَي الدُّخُول (وَالثَّابِت)
بِالِاجْتِهَادِ فِي حق الْمرَافِق إِنَّمَا هُوَ
(التَّعَارُض) وَقد عرفت الْجَواب من هَذَا فِيمَا سبق فِي
مسئلة: إِلَى من حُرُوف الْجَرّ
(4/171)
(وَمِنْهَا) أَي من الْأُمُور
الْمَذْكُورَة (الِاسْتِدْلَال) وَهُوَ فِي اللُّغَة طلب
الدَّلِيل، وَفِي الْعرف إِقَامَته، وَالْمرَاد مِنْهُ هَهُنَا
(قيل مَا لَيْسَ بِأحد) الْأَدِلَّة (الْأَرْبَعَة فَيخرج) من
هَذَا التَّعْرِيف (قِيَاس الدّلَالَة) وَهُوَ على مَا سبق مَا
لَا يذكر فِيهِ الْعلَّة بل وصف ملازم لَهَا نَحْو النَّبِيذ
حرَام كَالْخمرِ بِجَامِع الرَّائِحَة المشتدة (وَمَا فِي معنى
الأَصْل تَنْقِيح المناط) عطف بَيَان للموصول، وَهُوَ الْجمع
بَين الأَصْل وَالْفرع بإلغاء الْفَارِق كقياس الْبَوْل فِي
إِنَاء وصبه فِي المَاء الدَّائِم على الْبَوْل فِيهِ
الْمنْهِي عَنهُ فِي الْخَبَر الصَّحِيح لعدم الْفرق بَينهمَا
فِيمَا يقْصد بِالْمَنْعِ كَمَا يخرج قِيَاس الْعلَّة
الْمُصَرّح فِيهِ بِالْعِلَّةِ نَحْو: محرم النَّبِيذ
كَالْخمرِ للإسكار لاندراجه فِي الْأَرْبَعَة، فَإِن الْقيَاس
الْمُطلق يعم الْكل (وَقد يُقيد الْقيَاس) الْمَنْفِيّ
(بِقِيَاس الْعلَّة) فَإِنَّهُ الْمُتَبَادر من الْقيَاس
الْمَعْدُود من الْأَرْبَعَة (فيدخلانه) أَي فعلى هَذَا يدْخل
قِيَاس الدّلَالَة وَمَا فِي معنى الأَصْل فِي الِاسْتِدْلَال
(واختير أَن أَنْوَاعه) أَي الِاسْتِدْلَال ثَلَاثَة على مَا
صرح ابْن الْحَاجِب (شرع من قبلنَا، والاستصحاب، والتلازم،
وَهُوَ) التلازم (المفاد بالاستثنائي والاقتراني بضروبهما)
الْجَار وَالْمَجْرُور بدل من الْجَار وَالْمَجْرُور، أَو
الْمَعْنى ملحوظين بِاعْتِبَار جَمِيع ضروبهما، وَذَلِكَ لِأَن
حَاصِل الأول الحكم بِلُزُوم شَيْء لشَيْء، ثمَّ الحكم
بِوُجُود الْمَلْزُوم فينتج وجود اللَّازِم، أَو الحكم
بِانْتِفَاء اللَّازِم فَيُفِيد انْتِفَاء الْمَلْزُوم، ومرجع
ضروب الاقتراني إِلَى الشكل الأول، وَحَاصِله لُزُوم مَحْمُول
النتيجة للأوسط اللَّازِم لموضوعها فَيثبت محمولها لموضوعها
بِالضَّرُورَةِ، فَظهر أَن مفَاد الْكل اللُّزُوم الْمُفِيد
للمطلوب (وَقدمنَا زِيَادَة ضرب) للاستثنائي هِيَ على مَا
أثْبته الْقَوْم حَاصله (فِي) صُورَة (تَسَاوِي الْمُقدم
والتالي) كَأَن كَانَ هَذَا وَاجِبا فتاركه يسْتَحق الْعقَاب
لكنه لَا يسْتَحق الْعقَاب، فَإِن الْمَفْرُوض مُسَاوَاة
الِاسْتِحْقَاق وَالْوُجُوب، فانتفاء أحد المتساويين يسْتَلْزم
انْتِفَاء الآخر، وَإِن كَانَ هَذَا وَاجِبا فتاركه يسْتَحق
الْعقَاب لَكِن تَاركه يسْتَحق الْعقَاب فَهُوَ لَيْسَ
بِوَاجِب، وَإِنَّمَا اعتبرها ضربا وَاحِدًا، لِأَن منَاط
الْكل أَمر وَاحِد وَهُوَ التَّسَاوِي (وَكَذَا) زِيَادَة ضرب
(فِي الاقتراني) وَهُوَ الْمركب من كَلِمَتَيْنِ صغرى سالبة
وكبرى مُوجبَة مُتَسَاوِيَة الطَّرفَيْنِ كلا شَيْء من
الْإِنْسَان بصهال وكل صهال فرس فَلَا شَيْء من الْإِنْسَان
بفرس (إِلَّا أَنه) أَي التلازم الْمَذْكُور (هُنَا) أَي فِي
هَذَا الْمقَام مَحْمُول (على خُصُوص) من مُطلق التلازم (هُوَ
إِثْبَات أحد موجبي الْعلَّة بِالْآخرِ فتلازمهما) أَي
موجبهما، وهما الحكمان إِنَّمَا يكون (بِلَا تعْيين عِلّة)
مُوجبَة لَهما (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن كَذَا بل يتَعَيَّن
عِلّة جَامِعَة (فَقِيَاس) أَي فإثباته بهَا قِيَاس (وَيكون)
التلازم (بَين ثبوتين) بَينهمَا اطراد وانعكاس كَمَا إِذا
تساوى الْمُقدم والتالي أَو اطراد من طرف وَاحِد من غير انعكاس
كَمَا إِذا كَانَ التَّالِي أَعم من الْمُقدم (كمن صَحَّ
طَلَاقه صَحَّ ظِهَاره
(4/172)
وَهُوَ) أَي ثُبُوت التلازم بَينهمَا يكون
(بالاطراد) الشَّرْعِيّ بِأَن تتبع فَوجدَ كل من صَحَّ طَلَاقه
صَحَّ ظِهَاره، فَعلم أَن المُرَاد بالتلازم مُطلق اللُّزُوم
سَوَاء كَانَ من الْجَانِبَيْنِ أَو من جَانب وَاحِد، وَزَاد
الشَّارِح هُنَا فِي تَصْوِير الاطراد: وكل من صَحَّ ظِهَاره
صَحَّ طَلَاقه، وعَلى هَذَا لَا يبْقى لقَوْله (ويقوى) ثُبُوته
بَينهمَا (بالانعكاس) معنى لِأَن الموجبتين الكليتين حاصلهما
الْمُسَاوَاة ونقيضا المتساويين متساويان، وَهُوَ محصول قَوْله
كل شخص لَا يَصح طَلَاقه لَا يَصح ظِهَاره، وكل شخص لَا يَصح
ظِهَاره لَا يَصح طَلَاقه فِي تَفْسِير الانعكاس، وَقَوله:
وَحَاصِله التَّمَسُّك بالدوران: يَعْنِي حَاصِل التلازم بَين
الطَّلَاق وَصِحَّة الظِّهَار وَعدم الانفكاك بَينهمَا وجودا
وعدما، والبحث أَنه فسر الاطراد والانعكاس أَولا باللزوم من
الْجَانِبَيْنِ حَيْثُ قَالَ وَلَا بُد فِيهِ أما من الاطراد
أَو الانعكاس من الطَّرفَيْنِ كَمَا فِيمَا يكون التَّالِي
فِيهِ مُسَاوِيا للعدم، أَو طردا لَا عكسا من طرف وَاحِد
فِيمَا يكون التَّالِي أَعم من الْمُقدم انْتهى، وَالضَّمِير
فِي قَوْله فِيهِ رَاجع إِلَى التلازم بَين ثبوتين فالاطراد
والانعكاس كِلَاهُمَا بِالْبُطْلَانِ، وَحَاصِله كل من صَحَّ
ظِهَاره صَحَّ طَلَاقه، وَهَذَا يسْتَلْزم مَا فسر بِهِ
الانعكاس ثَانِيًا من اعْتِبَار التلازم بَين نقيضي الثبوتين
(ويقرر ثُبُوت) التلازم بَينهمَا إِذا كَانَا أثرين لمؤثر
بالاستدلال بِثُبُوت (أحد الأثرين فَيلْزم) أَن يثبت (الآخر
للُزُوم) وجود (الْمُؤثر) ثُبُوت أحد الأثرين، وَعند وجود
الْمُؤثر يلْزم وجود الْأَثر الآخر بِالضَّرُورَةِ (و) تقرر
أَيْضا (بِمَعْنَاهُ) أَي بِمَعْنى مَا ذكر، وَهُوَ
الِاسْتِدْلَال بِثُبُوت أحد الأثرين عِنْد وجود الْمُؤثر
يلْزم وجود الْأَثر الآخر على ثُبُوت الْمُؤثر ثمَّ ثُبُوته
على ثُبُوت الآخر (كفرض الصحتين) للطَّلَاق وَالظِّهَار (أثر
الْوَاحِد) كالأهلية لَهما، فَإِذا ثَبت صِحَة الطَّلَاق ثَبت
الْأَهْلِيَّة لَهَا، وَيلْزم من ثُبُوت الْأَهْلِيَّة ثُبُوت
صِحَة الظِّهَار (وَمَتى عين الْمُؤثر خرج) عَن الِاسْتِدْلَال
(إِلَى قِيَاس الْعلَّة، و) يكون التلازم (بَين نفيين) . وَفِي
الشَّرْح العضدي: التلازم أَرْبَعَة لِأَنَّهُ إِنَّمَا يكون
بن حكمين، وَالْحكم إِمَّا إِثْبَات أَو نفي، فالأقسام
أَرْبَعَة: إِمَّا بَين ثبوتين أَو نفييت أَو ثُبُوت وَنفي،
أَو نفي وَثُبُوت، وَمحل الحكم ان لم يكن متلازمين وَلَا
متنافيين كالأسود وَالْمُسَافر لم يجز فِيهِ شَيْء من
الْأَرْبَعَة، والتلازم إِمَّا أَن يكون طردا أَو عكسا: أَي من
الطَّرفَيْنِ، أَو طردا لَا عكسا: أَي من طرف وَاحِد، والتنافي
لَا بُد أَن يكون من الطَّرفَيْنِ، لكنه إِمَّا أَن يكون طردا
أَو عكسا: أَي إِثْبَاتًا ونفيا، وَإِمَّا طردا فَقَط: أَي
إِثْبَاتًا، وَإِمَّا عكسا فَقَط: أَي نفيا، فَهَذِهِ خَمْسَة
أَقسَام انْتهى. وَفسّر الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ هَذِه
الْأَقْسَام الثَّلَاثَة للتنافي بالانفصال الْحَقِيقِيّ،
وَمنع الْجمع، وَمنع الْخُلُو، وَقد حمل الشَّارِح قَول
المُصَنّف (وَلَا بُد من كَونه الطَّرفَيْنِ طردا وعكسا أَو
أَحدهمَا) على هَذِه الثَّلَاثَة، وَجعل تَقْدِير الْكَلَام
وَلَا بُد من كَون التَّنَافِي بَين الطَّرفَيْنِ طردا وعكسا:
أَي إِثْبَاتًا ونفيا كَمَا هُوَ الْمُنْفَصِلَة
(4/173)
الْحَقِيقِيَّة أَو طردا فَقَط كَمَا هُوَ
مَانِعَة الْجمع، أَو عكسا فَقَط كَمَا هُوَ مَانِعَة
الْخُلُو: وَلَا يخفى مَا فِيهِ لعدم ذكر التَّنَافِي فِي
هَذَا السِّيَاق، وَتَقْرِيره بَين فَالْوَجْه أَن يُقَال:
الْمَعْنى أَنه لَا بُد من كَون طرفِي التلازم الْوَاقِع بَين
النفيين، طردا وعكسا، أَو ذَا طرد فَقَط، أَو ذَا عكس فَقَط
فَإِن قلت: على هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَن يُقَال وَلَا بُد من
كَونهمَا: أَي النفيين طردا الخ، لِأَن طرفِي التلازم عبارَة
عَنْهُمَا قلت: قصد التَّعْمِيم على وَجه يَشْمَل النفيين
والمنفيين، فَإِن المُرَاد بالطرد وَالْعَكْس هَهُنَا كليتان
فِي جَانِبي النَّفْي وَالْإِثْبَات (لَا يَصح التَّيَمُّم
بِلَا نِيَّة فَلَا يَصح الْوضُوء) بِلَا نِيَّة خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف: أَي مِثَاله لَا يَصح الخ (وَهُوَ) أَي ثُبُوت
التلازم بَين النفيين (أَيْضا بالاطراد) كَمَا أَنه بَين
الثبوتين كَذَلِك (ويقوى) اللُّزُوم الْحَاصِل بالاطراد
(بالانعكاس) على طبق مَا سبق: أَي كل تيَمّم يَصح
بِالنِّيَّةِ، وكل وضوء يَصح بِالنِّيَّةِ: وَهَذَا عِنْد
الشَّافِعِيَّة. وَأما عِنْد الْحَنَفِيَّة فالتلازم طردا
وعكسا فِي أحد الطَّرفَيْنِ فَقَط، وَهُوَ التَّيَمُّم،
بِخِلَاف الْوضُوء فَإِنَّهُ لَا يَصح عِنْدهم كل وضوء
بِالنِّيَّةِ كَمَا لَا يخفى انْتهى. وَيفهم مِنْهُ أَنه
يعْتَبر الاطراد والانعكاس فِي كل من طرفِي التلازم: وَهَذَا
خبط آخر، بل الانعكاس فِيهِ لُزُوم عدم صِحَة التَّيَمُّم
بِغَيْر نِيَّة لعدم صِحَة الْوضُوء بِغَيْر نِيَّة كَعَكْسِهِ
(ويقرر) ثُبُوت التلازم بَين النفيين إِذا كَانَا أثرين لمؤثر
(بِانْتِفَاء أحد الأثرين، فالآخر) أَي فَيلْزم انْتِفَاء
الآخر لانْتِفَاء الْمُؤثر لفرض ثبوتهما أثرا لوَاحِد وَلَيْسَ
فرض كَون الثَّوَاب وَاشْتِرَاط النِّيَّة أثرين لِلْعِبَادَةِ
(يُوجِبهُ) أَي يُوجب التلازم بَين النفيين، أَعنِي عدم صِحَة
التَّيَمُّم بِلَا نِيَّة، وَعدم صِحَة الْوضُوء بِلَا نِيَّة
(على) مَذْهَب (الْحَنَفِيّ) لعدم اشْتِرَاط صِحَة الْوضُوء
بِالنِّيَّةِ عِنْدهم وَعدم لُزُوم الثَّوَاب لصِحَّته،
بِخِلَاف صِحَة التَّيَمُّم فَإِنَّهُ يشْتَرط صِحَّته
بِالنِّيَّةِ وَيلْزمهُ الثَّوَاب وَالْعِبَادَة (و) يكون
التلازم (بَين نفي مُلْزم للثبوت) وَبَين الثُّبُوت اللَّازِم
لَهُ حذفه لانسياق الذِّهْن لَهُ (وَعَكسه) أَي وَبَين ثُبُوت
ملزوم للنَّفْي، وَنفي لَازم لَهُ، مِثَال الأول (مُبَاح
فَلَيْسَ بِحرَام) فَإِن كَون الشَّيْء مُبَاحا ثُبُوت لَازمه
نفي الْحُرْمَة فبينهما تلازم بِمَعْنى أَن نفي الْحُرْمَة
ملازم للْإِبَاحَة من غير أَن تذكر الْإِبَاحَة لَازِمَة لنفي
الْحُرْمَة لتحَقّق هَذَا النَّفْي فِي ضمن الْوُجُوب وَمِثَال
الثَّانِي (لَيْسَ جَائِزا فَحَرَام) فَإِن كَون الشَّيْء منفي
الْجَوَاز يلْزمه الْحُرْمَة وَكَذَلِكَ عَكسه، فالتلازم
هَهُنَا من الطَّرفَيْنِ (ويقرران) أَي هَذَانِ التلازمان
(بِإِثْبَات التَّنَافِي بَينهمَا) أَي بَين الثُّبُوت
والمنفي، لَا بَين الثُّبُوت وَالنَّفْي كَمَا يُوهِمهُ ظَاهر
الْعبارَة لعدم التَّنَافِي بَين الْإِبَاحَة وَنفي الْحُرْمَة
مثلا، بل نَفيهَا لَازم للْإِبَاحَة (أَو) بِإِثْبَات
التَّنَافِي بَين (لوازمهما) أَي لَوَازِم الثُّبُوت والمنفي
كالتأثيم اللَّازِم لِلْحَرَامِ وَعَدَمه اللَّازِم للمباح
والجائز، فَإِن تنَافِي اللوازم يسْتَلْزم تنَافِي الملزومات
(وَيرد عَلَيْهَا) أَي على الْأَقْسَام الْأَرْبَعَة من
الاعتراضات (منع اللُّزُوم كالحنفي) أَي كمنعه
(4/174)
(فِي الْأَوَّلين) التلازم بَين الظِّهَار
وَالطَّلَاق وَبَين نفي صِحَة التَّيَمُّم بِغَيْر نِيَّة
وَصِحَّة الْوضُوء بغَيْرهَا وَقد مر بَيَانه (و) منع (ثُبُوت
الْمَلْزُوم، و) كَذَا مَا يرد عَلَيْهِ (مَا لَا يخْتَص
بِالْعِلَّةِ) من الأسئلة الْوَارِدَة على الْقيَاس، لِأَنَّهُ
لم يتَعَيَّن الْعلَّة فِي التلازم، وَمَا لم يتَعَيَّن لم يرد
عَلَيْهِ شَيْء (وَيخْتَص) التلازم بسؤال لَا يرد على الْقيَاس
وَهُوَ منع تحقق الْمُلَازمَة (فِي مثل تقطع الْأَيْدِي بيد)
أَي بِقطع يَد وَاحِدَة (كَقَتل الْجَمَاعَة بِوَاحِد) أَي
بقتل وَاحِد (لملازمته) أَي الْقصاص الْمَذْكُور (لثُبُوت
الدِّيَة على الْكل) مُتَعَلق بالثبوت لتَضَمّنه معنى
الْوُجُوب (فِي الأَصْل) ظرف للملازمة (أَي النَّفس) تَفْسِير
للْأَصْل (لِأَنَّهُمَا) أَي الْقصاص وَالدية (أثران فِيهَا)
أَي فِي النَّفس يترتبان على الْجِنَايَة (وَوجد أَحدهمَا) أَي
أحد الأثرين، وَهُوَ الدِّيَة (فِي الْفَرْع) أَي الْيَد
(فالآخر) أَي فَيثبت الْأَثر الآخر، وَهُوَ (الْقصاص) فِيهِ
أَيْضا (لِأَن علتهما) أَي عِلّة الأثرين الْمَذْكُورين (فِي
الأَصْل إِن) كَانَت (وَاحِدَة فَظَاهر) ثُبُوت الْقصاص على
الْكل فِي الْفَرْع لِأَن وجود الْأَثر وَهُوَ الدِّيَة فِيهِ
يسْتَلْزم وجود الْعلَّة المؤثرة، وَعند وجودهَا يثبت أَثَرهَا
الآخر (أَو) كَانَت (مُتعَدِّدَة، فتلازمهما) أَي الأثرين:
وجوب الدِّيَة وَالْقصاص فِي الْجَمِيع (فِي الأَصْل) أَي
النَّفس (لتلازمهما) أَي العلتين فوجود أحد الأثرين، وَهُوَ
الدِّيَة فِي الْفَرْع يسْتَلْزم وجود علته، وَوُجُود علته
يسْتَلْزم عِلّة الْأَثر الآخر للتلازم بَينهمَا (فَيثبت)
الْأَثر (الآخر) وَهُوَ الْقصاص فِي الْفَرْع أَيْضا لثُبُوت
علته (فَيرد) السُّؤَال الْمُخْتَص بِمثل هَذَا، وَهُوَ
(تَجْوِيز كَونه) أَي ذَلِك الْأَثر، وَهُوَ وجوب الدِّيَة على
الْكل (بعلة) فِي الْفَرْع: أَي الْيَد يَقْتَضِي وجوب
الدِّيَة على الْكل، و (لَا تَقْتَضِي قطع الْأَيْدِي)
بِالْيَدِ (وَلَا) هِيَ (مُلَازمَة مقتضية) أَي مُقْتَضى قطع
الْأَيْدِي بِالْيَدِ (و) الْأَثر الْمَذْكُور (فِي الأَصْل)
أَي النَّفس (بِأُخْرَى) أَي بعلة أُخْرَى غير علته فِي
الْفَرْع (تقتضيهما) أَي الْقصاص وَوُجُوب الدِّيَة صفة عِلّة
أُخْرَى: وَهَذَا يحْتَمل وَجْهَيْن أَن تكون عِلّة الْقصاص
بِعَينهَا عِلّة الدِّيَة، وَالثَّانِي أَن تكون عِلّة الْقصاص
غير عِلّة الدِّيَة لَكِن بَينهمَا تلازم وَأفَاد بقوله (أَو)
بعلة أُخْرَى (لَا تلازم مُقْتَض قبل الْكل) وَجها ثَالِثا لَا
اتِّحَاد فِيهِ وَلَا تلازم (ويرجح) الْمُعْتَرض ثُبُوته فِي
الْفَرْع بعلة أُخْرَى (باتساع مدارك الْأَحْكَام) يَعْنِي على
هَذَا التَّقْدِير لَا يلْزم الاتساع فِي الْأَدِلَّة الَّتِي
يدْرك بهَا الْأَحْكَام، فَإِن تعدد الْعلَّة تعدد الدَّلِيل
(وَهُوَ) أَي اتساع مدارك الْأَحْكَام (أَكثر فَائِدَة،
وَجَوَابه) أَي جَوَاب هَذَا السُّؤَال أَن يُقَال (الأَصْل
عدم) عِلّة (أُخْرَى، ويرجح الِاتِّحَاد) أَي اتِّحَاد
الْعلَّة فِي الحكم الْوَاحِد بالنوع على تعددها (بِأَنَّهَا)
أَي الْعلَّة المتحدة (منعكسة) متحققة فِي جَمِيع صور الحكم
والمنعكس عِلّة بالِاتِّفَاقِ، بِخِلَاف غَيرهَا، إِذْ
الْمُتَّفق عَلَيْهَا أرجح (فَإِن دَفعه) أَي الْمُعْتَرض
الْجَواب الْمَذْكُور بِأَنَّهُ
(4/175)
معَارض (بِأَن الأَصْل أَيْضا عدم عِلّة
الأَصْل فِي الْفَرْع قَالَ) الْمُسْتَدلّ تعَارض الأصلان
فتساقطا غير أَنِّي أَقُول (المتعدية أولى) من القاصرة، وعَلى
تَقْدِير اتِّحَاد الْعلَّة فِي الأَصْل وَالْفرع تكون متعدية،
وعَلى تَقْدِير التَّعَدُّد قَاصِرَة، وَفِيه بِأَنَّهُ على
تَقْدِير التَّعَدُّد لَا يلْزم كَونهَا قَاصِرَة لجَوَاز
تعديها إِلَى غير مَحل النزاع فَتَأمل. قَالَ (الْآمِدِيّ
وَمِنْه) أَي من الِاسْتِدْلَال (وجد السَّبَب) فَيثبت الحكم
فَالْمُرَاد مَا يَتَرَتَّب على وجوده الحكم (و) وجد
(الْمَانِع وفقد الشَّرْط) فيعدم الحكم (وَنفي الحكم
لانْتِفَاء مدركه) وَهُوَ المُرَاد بِالتَّعْلِيلِ بِالْعدمِ
(و) اتّفق (الْحَنَفِيَّة وَكثير) من الْأُصُولِيِّينَ (على
نَفْيه) أَي نفي الِاسْتِدْلَال بِأحد هَذِه الْأُمُور
الْأَرْبَعَة (إِذْ هُوَ دَعْوَى الدَّلِيل) فَهُوَ بِمَثَابَة
وجد دَلِيل الحكم فَيُؤْخَذ فَإِنَّهُ لَا يسمع مَا لم يعين
ذَلِك الدَّلِيل (فالدليل وجود الْمعِين مِنْهَا) أَي من
الْأُمُور الْمَذْكُورَة من الْمُقْتَضى وَالْمَانِع وفقد
الشَّرْط (وَأجِيب بِأَنَّهُ) أَي الْمَذْكُور من قَوْله وجد
الحكم إِلَى آخِره (دَلِيل) لِأَنَّهُ عبارَة عَمَّا إِذا سلم
لزم مِنْهُ الْمَطْلُوب (بعض مقدماته نظرية) وَهِي الصُّغْرَى
(وَالْمُخْتَار أَن لم يثبت ذَلِك) أَي وجود السَّبَب أَو
الْمَانِع أَو فقد الشَّرْط (بأحدها) قَالَ الشَّارِح: وَهُوَ
سَهْو وَالصَّوَاب بغَيْرهَا يَعْنِي بدل أَحدهَا، وَهَذَا خطأ
ظَاهر مِنْهُ لَعَلَّه وَقع فِيهَا لما رأى فِي الشَّرْح
العضدي وحاشية الْمُحَقق التَّفْتَازَانِيّ عَلَيْهِ من
لَفْظَة بغَيْرهَا مُتَعَلقا بالثبوت حَيْثُ قَالَ، وَقيل
وَالِاسْتِدْلَال أَن يثبت وجود السَّبَب إِلَى آخِره بِغَيْر
الثَّلَاثَة وَلم يفرق بَين كَون الْمُتَعَلّق الثُّبُوت أَو
نفي الثُّبُوت، فَإِن نفي الثُّبُوت إِذا قيد بغَيْرهَا يكون
حَاصله الثُّبُوت بهَا وَهُوَ خلاف الْمَقْصُود، فسبحان من جزأ
الأرنب على الْأسد (فاستدلال وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن
كَذَلِك (فبأحدها) أَي فَهُوَ ثَابت بأحدها من النَّص
وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس، لَا بالاستدلال (وعَلى هَذَا)
التَّفْصِيل (يرد الِاسْتِدْلَال مُطلقًا إِلَى أَحدهَا) ليعتد
بِهِ شرعا (إِذْ ثُبُوت ذَلِك التلازم) الْمُفَسّر بِهِ أحد
أَنْوَاع الِاسْتِدْلَال (لَا بُد فِيهِ) أَي فِي ذَلِك
الثُّبُوت (شرعا) قيد للثبوت: أَي ثبوتا شَرْعِيًّا (مِنْهُ)
أَي من أَحدهَا (وَإِلَّا) أَي وَإِن لم يكن ثُبُوته شرعا
بأحدها (فَلَيْسَ) ذَلِك الحكم الثَّابِت بِهِ (حكما
شَرْعِيًّا، فَالْحق أَنه) أَي الِاسْتِدْلَال الْمَذْكُور
(كَيْفيَّة اسْتِدْلَال) بِأحد الْأَرْبَعَة: الْكتاب وَالسّنة
وَالْإِجْمَاع وَالْقِيَاس (لَا) دَلِيل (آخر غير الْأَرْبَعَة
وَتقدم شرع من قبلنَا) قبل فصل التَّعَارُض بمسئلتين (وَيرد
إِلَى الْكتاب) لِأَنَّهُ يقص علينا من غير إِنْكَار
(وَالسّنة) لمثل مَا ذكرنَا (وَقَول الصَّحَابِيّ) على مَا عرف
فِيهِ من التَّفْصِيل (ورد) أَي قَول الصَّحَابِيّ (إِلَى
السّنة) كَمَا مر فِي المسئلة الَّتِي يَليهَا فصل التَّعَارُض
(ورد الِاسْتِصْحَاب إِلَى مَا بِهِ ثَبت الأَصْل الْمَحْكُوم
باستمراره) بِهِ (فَهُوَ) أَي الِاسْتِصْحَاب (الحكم) الظني
(بِبَقَاء أَمر تحقق) سَابِقًا (وَلم يظنّ عَدمه) بعد تحَققه
(وَهُوَ حجَّة عِنْد الشَّافِعِيَّة وَطَائِفَة من
الْحَنَفِيَّة) السمرقنديين: مِنْهُم
(4/176)
أَبُو مَنْصُور الماتريدي، وَاخْتَارَهُ
صَاحب الْمِيزَان والحنابلة (مُطلقًا) أَي للإثبات وَالدَّفْع
(ونفاه) أَي كَونه حجَّة (كثير) من الْحَنَفِيَّة وَبَعض
الشَّافِعِيَّة والمتكلمون (مُطلقًا) فِي الْإِثْبَات
وَالدَّفْع (وَأَبُو زيد وشمس الْأَئِمَّة وفخر الْإِسْلَام)
وَصدر الْإِسْلَام قَالُوا: هُوَ حجَّة (للدَّفْع) لَا
للإثبات. (وَالْوَجْه) أَن يُقَال (لَيْسَ) الِاسْتِصْحَاب
(حجَّة) أصلا كَمَا قَالَ الْكثير (وَالدَّفْع اسْتِمْرَار
عَدمه) أَي عدم ذَلِك الْأَمر الَّذِي يتَوَهَّم طرده على مَا
تحقق وجوده (الْأَصْلِيّ) صفة للعدم (لِأَن مُوجب الْوُجُود
لَيْسَ مُوجب بَقَائِهِ) فَإِن الْبَقَاء اسْتِمْرَار
الْوُجُود وَصفته، وَعلة الْمَوْصُوف لَا يجب أَن يكون عِلّة
لصفته، وَالْمرَاد نفي لُزُوم الِاتِّحَاد بَينهمَا، لَا
للُزُوم الْمُغَايرَة، فَلَا يرد أَنه لم لَا يجوز أَن يكون
عِلّة الْوُجُود عِلّة الْبَقَاء، وهذاالقدر كَاف فِي
التَّعْلِيل، لِأَن حجية الِاسْتِصْحَاب مَوْقُوفَة على كَون
مُوجب الْوُجُود مُوجب الْبَقَاء، لِأَن حَاصله إبْقَاء مَا قد
تحقق لموجب على مَا كَانَ، وَلَيْسَ عندنَا إِلَّا الْعلم
بِوُجُود الْمُوجب للوجود فِيمَا سبق، فَلَو كَانَ يلْزم كَون
مُوجب الْوُجُود مُوجب الْبَقَاء كَانَ ذَلِك دَلِيلا على
الْبَقَاء وَحَيْثُ لم يلْزم لم يكن للبقاء دَلِيل، وَلذَا
قَالَ (فَالْحكم بِبَقَائِهِ) أَي الْوُجُود (بِلَا دَلِيل)
فَذكر اسْتِمْرَار الْعَدَم فِي مقَام الدّفع لثُبُوت أَمر
طَارِئ على مَا تحقق وجوده إِنَّمَا هُوَ أَمر مَبْنِيّ على
ظَاهر الْحَال، وَهُوَ إبْقَاء مَا كَانَ على مَا كَانَ، فَإِن
الْعقل إِذا تردد بَين بَقَاء الشَّيْء وزواله وَلم يكن عِنْده
مَا يدل على الزَّوَال كَانَ الرَّاجِح من الِاحْتِمَالَيْنِ
عِنْده الْبَقَاء. (قَالُوا) أَي الْقَائِلُونَ بحجيته
مُطلقًا: الحكم بِالْبَقَاءِ أَمر (ضَرُورِيّ لتصرفات
الْعُقَلَاء) أَي لصدور تصرفاتهم (بِاعْتِبَارِهِ) لولاه لما
صدرت عَنْهُم، ثمَّ بَينهَا بقوله (من إرْسَال الرُّسُل والكتب
والهدايا) من بلد إِلَى بلد إِلَى غير ذَلِك، وَلَوْلَا الحكم
الظني بِبَقَاء الْمُرْسل إِلَيْهِ مثلا لَكَانَ ذَلِك منعهَا
(وَمِنْهُم) أَي من الْقَائِلين بحجيته مُطلقًا (من استبعده)
أَي كَونه حجَّة بِالضَّرُورَةِ (فِي مَحل النزاع) فَإِنَّهُ
لَو كَانَ ضَرُورِيًّا لما نَازع فِيهِ جم غفير من الْعلمَاء
(فعدلوا إِلَى أَنه لَو لم يكن حجَّة لم يجْزم بِبَقَاء
الشَّرَائِع مَعَ احْتِمَال الرّفْع) أَي طريان النَّاسِخ،
وَاللَّازِم بَاطِل (و) إِلَى (الْإِجْمَاع) أَيْضا (عَلَيْهِ)
أَي على الِاسْتِصْحَاب على مَا يظْهر اعْتِبَاره فِي فروع
الْمذَاهب كَمَا (فِي نَحْو بَقَاء الْوضُوء وَالْحَدَث
والزوجية وَالْملك مَعَ طرُو الشَّك) فِي طريان الضِّدّ
(وَأجِيب) عَن الأول (بِمَنْع الْمُلَازمَة لجوازه) أَي
الْجَزْم ببقائها وَالْقطع بِعَدَمِ نسخهَا (بِغَيْرِهِ) أَي
بِدَلِيل آخر غير الِاسْتِصْحَاب (كتواتر إِيجَاب الْعَمَل فِي
كل شَرِيعَة بهَا) أَي بِتِلْكَ الشَّرِيعَة لأَهْلهَا (إِلَى
ظُهُور النَّاسِخ وَتلك الْفُرُوع) لَيست مَبْنِيَّة على
الِاسْتِصْحَاب بل (لِأَن الْأَسْبَاب توجب أحكاما) من
الْوضُوء وَالْحَدَث والزوجية وَالْملك وَغير ذَلِك (ممتدة
إِلَى ظُهُور الناقض) فَكَأَن الشَّارِع قَالَ أوجبت الْعَمَل
(4/177)
بِمُوجب هَذِه الشَّرَائِع مستمرا إِلَى أَن يظْهر النَّاسِخ
وَأثبت هَذِه الْأَسْبَاب أحكاما ثَابِتَة مستمرة إِلَى ظُهُور
نواقضها (شرعا) فعلى هَذَا بَقَاؤُهَا أَيْضا مَنْصُوص
عَلَيْهِ كأصل ثُبُوتهَا، فَلَا حَاجَة إِلَى التَّمَسُّك
بالاستصحاب (وَاعْلَم أَن مدَار الْخلاف) فِي كَون
الِاسْتِصْحَاب حجَّة أَولا (على أَن سبق الْوُجُود مَعَ عدم
ظن الانتفاء هَل هُوَ دَلِيل الْبَقَاء) أَولا (فَقَالُوا) أَي
الشَّافِعِيَّة وَمن وافقهم (نعم فَلَيْسَ الحكم بِهِ) أَي
بالاستصحاب حكما (بِلَا دَلِيل. و) قَالَ (الْحَنَفِيَّة لَا،
إِذْ لَا بُد فِي الدَّلِيل من جِهَة يسْتَلْزم بهَا)
الْمَطْلُوب (وَهِي) أَي الْجِهَة المستلزمة لَهُ (منتفية
فتفرعت الخلافيات) بَين الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة (فيرث
الْمَفْقُود) من مَاتَ مِمَّن يَرِثهُ فِي غيبته (عِنْده) أَي
الشَّافِعِي باستصحاب حَيَاته الْمُوجبَة لاسْتِحْقَاق
الْإِرْث (لَا عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة، لِأَن الْإِرْث من
بَاب الْإِثْبَات، وحياته بالاستصحاب لَا توجب اسْتِحْقَاقه
(وَلَا يُورث لِأَنَّهُ) أَي عدم الْإِرْث (دفع) لاسْتِحْقَاق
الْإِرْث فَيثبت الِاسْتِصْحَاب (وعَلى مَا حققنا) من أَنه
لَيْسَ حجَّة أصلا، فَإِن الدّفع اسْتِمْرَار عَدمه
الْأَصْلِيّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله (عَدمه) أَي الْإِرْث
(أُصَلِّي لعدم) ثُبُوت (سَببه) أَي الْإِرْث (إِذْ لم يثبت
مَوته) أَي الْمَفْقُود (وَلَا صلح على إِنْكَار) إِذْ لَا
صِحَة لَهُ مَعَ إِنْكَار الْمُدَّعِي عَلَيْهِ عِنْد
الشَّافِعِي (لإِثْبَات اسْتِصْحَاب بَرَاءَة الذِّمَّة)
يَعْنِي أَن فَائِدَة الصُّلْح حُصُول بَرَاءَة ذمَّة
الْمُدَّعِي عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ وَهُوَ حَاصِل بِدُونِ
الصُّلْح، وَلَا شكّ أَن بَرَاءَة الذِّمَّة هُوَ الأَصْل
فالاستصحاب الَّذِي هُوَ إبْقَاء مَا كَانَ على مَا كَانَ
يثبتها فَلَا يَتَرَتَّب على هَذَا الصُّلْح فَائِدَة وَلَا
صِحَة للمعقود بِدُونِ الْفَائِدَة فَلَا صلح على الْإِنْكَار،
وَهَذَا الِاسْتِصْحَاب حجَّة للْمُدَّعِي عَلَيْهِ على
الْمُدَّعِي لإِثْبَات بَرَاءَة ذمَّة الْمُدَّعِي عَلَيْهِ
عِنْد من يحْتَج بِهِ فِي الْإِثْبَات (كاليمين) أَي كَمَا أَن
الْيَمين لإِثْبَات بَرَاءَة الذِّمَّة (وَصَحَّ) الصُّلْح على
الْإِنْكَار (عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة، لِأَن
الِاسْتِصْحَاب لَا يصلح حجَّة للإثبات فَلَا يثبت بَرَاءَة
ذمَّة الْمُدَّعِي عَلَيْهِ بالاستصحاب (وَلم تجب الْبَيِّنَة
على الشَّفِيع) على إِثْبَات ملك الْمَشْفُوع بِهِ لإنكار
المُشْتَرِي الْملك الْمَشْفُوع بِهِ للشَّفِيع عِنْد
الشَّافِعِي لِأَنَّهُ متمسك بِالْأَصْلِ، فَإِن الْيَد دَلِيل
الْملك فِي الظَّاهِر والتمسك بِالْأَصْلِ يحصل للدَّفْع
والإلزام جَمِيعًا عِنْده (وَوَجَبَت) الْبَيِّنَة
الْمَذْكُورَة (عِنْدهم) أَي الْحَنَفِيَّة، لِأَن التَّمَسُّك
بِالْأَصْلِ لَا يصلح للالزام إِلَى غير ذَلِك من الخلافيات قد
فرغ من المبادئ والأدلة السمعية وَشرع فِي مبَاحث الِاجْتِهَاد
فَقَالَ: |