جزء من شرح تنقيح الفصول في علم الأصول الفصل الأول
عصر المؤلف
وفيه تمهيد وثلاثة مباحث:
(1/15)
التمهيد:
مما لا يسع أحداً إنكارهُ الأثر الكبير للوضع السياسي والفكري
والاجتماعي ونحو ذلك على حياة الأفراد العلمية، فالإنسان
مدنيٌّ بطبعه (1) ، يتفاعل مع محيطه، فيتأثر به، ويؤثر فيه.
وإن ما يطرأ على الساحة السياسية من أحداث لابد أن يظهر أثره
في سير علماء العصر، كما أن التغيرات الفكرية، والحياة
الاجتماعية لا يَقِلُّ تأثيرهما على هذه الشخصيات عن الحياة
السياسية.
إن البحث في شخصية الإمام شهاب الدين القرافي يستدعي دراسة
أحوال عصره وبيئته التي عاش فيها، لذا كان من المناسب إلقاء
بعض الضوء على عصره، ولو بعجالة سريعة، بعيدة عن استطرادات
المؤرِّخين التي ليست موضعها هنا.
_________
(1) انظر: مقدمة ابن خلدون، تحقيق د. على عبد الواحد وافي 1 /
337
(1/16)
المبحث الأول
الحالة السياسية
...
عاش القرافي المولود سنة 626هـ باكورة حياته - بما يزيد عن
العشرين عاماً - في ظل الدولة الأيوبية (1) (564 - 648هـ) ، ثم
عاش بقية حياته في عهد الدولة المملوكية (2) .
وقد اكتنف الدولتين أحداثٌ متلاحقة، وحروبٌ متعاقبة،
واضطراباتٌ متفرقة. لكن يمكن أن يتركَّز الحديث عن أهم ما
سجَّله التاريخ في هذه الحقبة الزمنية وفق المحاور التالية:
1 - الحروب الصليبية الشرسة:
لقد خاض سلاطين الأيوبيين والمماليك جهاداً باسلاً ضد
الإفْرَنْج (3) الذين كانوا يدأبون ليل نهار على غزو بلاد
المسلمين، ومحو آثار الإسلام، ونشر عقيدتهم الصليبية.
ولقد امتدتْ جذور هذه الحروب الصليبية قبل ولادة القرافي بزمن
كبير، فقد بدأت حملتهم الأولى عام 492هـ، حيث توجهوا إلى بيت
المقدس، واستولوا عليه، وقتلوا ما يزيد عن ستين ألف مسلم (4) .
واستمرت الحروب سِجَالاً بينهم وبين المسلمين، وقصدوا الديار
المصرية، فتمكنوا منها عام 564هـ (5) .
_________
(1) الأيوبية: مؤسسها صلاح الدين الأيوبي سنة 564هـ امتد
سلطانها على مصر والشام واليمن وغيرها، تعاقب على ملكها ثمانية
سلاطين آخرهم توران شاه، قامت دولة المماليك على أنقاضها عام
648هـ. انظر: معجم المصطلحات والألقاب التاريخية لمصطفى الخطيب
ص 60
(2) المملوكية: أسسها المعز لدين الله أيبك الصالحي سنة 648هـ.
والمماليك هم صنف من العبيد أصلهم أتراك وجراكسة استقدمهم
الأيوبيين للخدمة العسكرية، ثم برز منهم أقوياء، قامت دولتهم
على أنقاض الأيوبية. وهم نوعان المماليك البحرية حكموا ما بين
(648 - 792هـ) . ومماليك بُرْجِية حكموا ما بين (792-924هـ) .
انظر: التاريخ الإسلامي لمحمود شاكر ص 21 - 74
(3) الإفْرَنج: ويقال: الإفْرَنْجَة، والفَرَنْج، وهي كلمة
فرنسية، هم سكان أوروبا ماعدا الأروام والأتراك. انظر: القاموس
المحيط ص201، المنجد في اللغة مادة"إفرنج"
(4) انظر: البداية والنهاية لابن كثير 12 / 257
(5) انظر: البداية والنهاية 12 / 255
(1/17)
ثم هيأ الله للأمة قائداً مظفَّراً هو "
صلاح الدين الأيوبي " (1) الذي دحرهم، وتتبَّع فُلُولهم، ودكَّ
جحافلهم، وحرَّرَ بيت المقدس من نَيْر احتلالهم سنة 583هـ (2)
. وبعد صراعات داخلية بين أبناء صلاح الدين وإخوته حول الحكم
ونحوه، انتهز الصليبيون هذه الفرصة فانقضُّوا مرة أخرى على
بلاد المسلمين (3) .
وفي عام 646هـ جهَّز الصليبيون حملة عظيمة كان القصد منها
الاستيلاء على القاهرة، فلما علم بها الملك الصالح نجم الدين
أيوب (4) - وهو على فراش الموت - أمر بقتالهم. واستولى
الصليبيون على دِمْياط (5) ، ومات الملك الصالح، فأخفت زوجته
خبر وفاته لئلا يَفُتَّ ذلك في عَضُد الجنود. ثم تولى من بعده
ابنه توران شاه (6) سنة 647هـ، فقاتل الإفرنج حتى هزمهم هزيمة
ساحقة، غير أنه قُتِل سنة 648هـ، وبموته انْقَضَتْ دولة بني
أيوب في مصر (7) .
ولما تسلم المماليك الحكم في مصر والشام كان ما يزال احتلال
الصليبيين قائماً لبعض ديار الإسلام، فأَنْهك قواهم السلطان
الظاهر بِيْبَرْس (8) الذي حكم من سنة
_________
(1) هو يوسف بن أيوب بن شاذي الكردي أبو المظفر، الملقب بالملك
المظفر الناصر صلاح الدين الأيوبي. كان عادلاً وحازماً
مجاهداً، قائد معركة حطين، أسَّس الدولة الأيوبية سنة 564هـ
بمصر والشام. توفي سنة 589هـ. انظر: وفيات الأعيان لابن خلكان
7 / 139، سير أعلام النبلاء للذهبي 21 / 278
(2) انظر: البداية والنهاية 12 / 320
(3) انظر: البداية والنهاية 12 / 277
(4) هو نجم الدين أيوب بن الكامل ناصر الدين محمد بن العادل
سيف الدين أبي بكر الأيوبي، ولد بالقاهرة سنة 603هـ، وملك مصر
سنة 637هـ، وبنى المدارس، واشترى المماليك. توفي سنة 647هـ.
انظر: حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة للسيوطي 2 / 34
(5) دِمْياط: مدينة عريقة بمصر تقع عند ملتقى النيل بالبحر
الأبيض المتوسط. وهي عاصمة محافظة دمياط الآن. انظر: معجم
البلدان لياقوت الحموي 2 / 472، المنجد في الأعلام، ص246.
(6) هو الملك توران شاه بن الملك الصالح نجم الدين، قَرَّب
مماليكه، وأبْعَد مماليك أبيه، فنفرتْ منه قلوبهم، وقتلوه سنة
648هـ. وكانت مملكته شهرين. انظر: حسن المحاضرة 2 / 35
(7) انظر: السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي 1 / 332 - 360
(8) هو الملك الظاهر ركن الدين أبو الفتح بِيْبَرْس الصالحي
المملوكي، أحد مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب. تولى الحكم
بعد قَتْل الملك سيف الدين قُطْز، كان عالي الهمة شديد البأس.
توفي سنة 676هـ. انظر: وفيات الأعيان 4 / 155.
(1/18)
658هـ إلى 676هـ، ثم جاء من بعده السلطان
المنصور قَلاَوُوْن (1) الذي حكم ما بين (678 - 689هـ) ، وجاهد
في أثناء حكمه، وانتزع ما بأيدي الصليبيين من الحصون والمدن
(2) .
2- الزحف المغولي الهمجي:
في مستهل القرن السابع الهجري أغار التتار (3) الهمجيين على
الأقاليم الإسلامية ابتداءً من المشرق الإسلامي حتى الشام،
فأحاطوا بالمدن، الواحدة تلو الأخرى، مثل: بخارى، وخرسان،
وأذربيجان، وبعض مدن فارس سنة 618هـ، فعمَّت المصائب، وعظم
القتل والتخريب والسلب والنهب، وحرَّقوا المساجد والمدارس
والمنازل (4) .
وفي عام 656هـ هاجم هولاكو التتري (5) بجيشه الجرَّار مدينة
بغداد، واستولى عليها، وقَتَل الخليفة العباسي آنذاك المستعصم
بالله (6) وهو آخر خلفاء بني العباس، وبلغ عدد القتلى في هذه
الواقعة المفجعة مليوناً وثمانمائة ألف (7) .
وزحف هولاكو إلى الشام، فأسقط مدنها، وعاث فيها فساداً،
وانحاشَتْ عساكر المسلمين إلى مصر هرباً، ثم استجمعوا قواهم،
وانتظمت أحوالهم، وخرجوا بقيادة الملك المظفر سيف الدين قُطْز
(8) ، وهزم التتار هزيمة نكراء عام 658هـ، وكانت أول هزيمة
مُنِيَ بها التتار منذ خروجهم من بلادهم، وتفرقوا بعد ذلك في
الأرجاء (9) .
_________
(1) هو الملك المنصور قَلاَوُوْن بن عبد الله الصالحي
المملوكي، أحد مماليك الملك الصالح نجم الدين أيوب، كان حسن
الصورة مهيباً شجاعاً. حكم مدة (12) سنة. توفي سنة 689هـ.
انظر: البداية والنهاية 13 / 336
(2) انظر: الخطط المقريزية 2 / 238
(3) التَّتَار: هم قوم يسكنون مَنْغُوليا في أواسط آسيا،
يتكونون من عدة قبائل، اشتهرت بالقوة والعنف. أول ملوكهم جنكيز
خان. انظر: شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي 5 / 65
(4) انظر: المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء 3 / 122،
البداية والنهاية 13 / 82، 94
(5) هو هولاكو خان بن تولي خان بن جنكيز خان، أعظم ملوك التتار
مهابة وخبرة بالحروب، كان ملكاً جباراً فاجراً لا يدين بدين،
توفي سنة 664هـ. انظر: البداية والنهاية 13 / 245
(6) هو عبد الله بن المستنصر بالله العباسي. ولد عام 609هـ،
وتولى الخلافة سنة 640هـ، كان كريماً حسن الديانة، لكن ليس له
تيقُّظ تام ولا حزم، توفي سنة 656هـ. انظر: شذرات الذهب 5 /
270، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 537.
(7) انظر: البداية والنهاية 13 / 201
(8) هو الملك المظفر قُطْز بن عبد الله التركي المملوكي، كان
بطلاً شجاعاً، سحق التتار في موقعة "عين جالوت"، كانت مدة ملكه
نحو سنة، قتل مظلوماً سنة 658هـ. انظر: حسن المحاضرة 2 / 38
(9) انظر: خطط الشام لمحمد كرد علي 2 / 104 - 109
(1/19)
3- الاضطراب السياسي
في المغرب والأندلس:
بعد انهيار صَرْح الخلافة الأموية في الأندلس، قامت دولة
الطوائف المفككة، هذا الأمر مهَّد للعدو المتربص بافتراس قلاع
مدن هذه الدولة، وسقطت قرطبة سنة 636هـ (1) ، وتلتها المدن
الأخرى، ولم يبق سوى غرناطة وأعمالها إلى منتصف القرن السابع
الهجري.
أما بلاد المغرب فقد آل أمر الحكم فيها إلى زعماء دولة
الموحِّدين (2)
وفي أوائل القرن السابع استولى أبوزكريا الحَفْصي (3) على
تونس، وأنشأ دولته الحفصيَّة، وظلت دولة الموحدين في باقي
المغرب والأندلس. ولمَّا اتسع نطاق دولته وافقه ملوك شرق
الأندلس وغربيّها بالبيعة (4) . وبعد وفاته آل الأمر لبنيه من
بعده.
أثر الحالة السياسية على حياة
القرافي:
يمكن تلمُّس تأثر القرافي بأحداث عصره فيما يلى:
(1) عايش القرافي أطماع الصليبيين في بلاد المسلمين، فكان لابد
أن يتصدى المسلمون لهم بالسيف والسنان، وبالقلم والبنان. ولم
تسجل لنا كتب التاريخ مشاركةً ميدانية للقرافي في الحروب
والمعارك، بَيْد أنه أبلى بلاءً حسناً في تزييف عقائد اليهود
والنصارى من خلال كتابه النفيس " الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة
الفاجرة " (5) فلقد فَنَّد في هذا الكتاب شبهات اليهود
والنصارى وأبطل معتقداتهم.
كما يمكننا أن نلمح من خلال كتابه دعوة المسلمين للجهاد
والقتال، لما تفرضه طبيعة المرحلة التي كان يعيشها، فهو يخصم
النصارى بأنهم تمرَّدوا على دعوة الإنجيل
_________
(1) انظر: تاريخ ابن خلدون 4/336 وما بعدها
(2) الموحِّدون: سلالة مغربية أسَّسها محمد بن تومَرْت على
قواعد شيعية، تمكنت من إقامة دولة عربية إسلامية في المغرب على
أنقاض دولة المرابطين، مؤسسها: عبد المؤمن بن علي بن مخلوف،
حكمت ما بين (524 - 629هـ) . انظر: معجم المصطلحات والألقاب
التاريخية ص 413
(3) هو أبو زكريا يحي بن عبد الواحد بن أبي حفص، ولد عام
598هـ، أول ملوك الدولة الحفصية. توفي سنة 647هـ. انظر: الوافي
بالوفيات 4/ 593.
(4) انظر: تاريخ ابن خلدون 6/ 600 ومابعدها.
(5) انظر التعريف به ص (49) من القسم الدراسي.
(1/20)
الناطق بالمسالمة والمذلَّة، ومحبة
الأعداء، ومباركة اللاَّعِنِين، والصلاة على من يطرد أتباع
المسيح (1) ، ثم هم بعد هذا يستبيحون القتل والتخريب ومحرمات
الإنجيل، فهم أشد الناس كفراً بالله وملائكته وأحكامه. بينما
نحن المسلمين أُمرنا بالقتال والجهاد، وجعله تعالى من أعظم
القربات، وأسباب السعادات (2) ، فما بالنا لا نقاتل أعداء الله
أياً كان جنسهم، وقتالهم عندنا واجب مقدَّس بنص الآيات
المحكمات من كتاب الله تعالى.
(2) إن سقوط الخلافة العباسية في بغداد، وإقامة خلافة عباسية
جديدة (صوريّة) في القاهرة، هذا الأمر جعل مصر محطَّ أنظار
العلماء، وبؤرة استقطابٍ لهم، ولا شك بأن هذا له الأثر الكبير
على حياة القرافي العلمية. زِدْ على ذلك أن الشيخين البارزين
والعلمين الشهيرين: العز بن عبد السلام (3) ، وابن الحاجب (4)
قد تركا الشام إلى مصر عام 639هـ، وذلك بسبب إنكارهما الشديد
على حاكم دمشق تعاونَهُ مع الإفرنج وبذْلَه لهم بعض ديار
المسلمين (5) .
وما خروجهما إلا صَدَىً للحالة السياسية السائدة في ذلك العصر،
وقد استفاد القرافي من علميهما أيما استفادة.
_________
(1) انظر: إنجيل متى، الإصحاح: 5 الفقرات: 43 - 45، 48
(2) انظر: الأجوبة الفاخرة للقرافي ص (118) .
(3) انظر: ترجمته في القسم التحقيقي ص 449.
(4) ستأتي ترجمته ضمن شيوخ القرافي ص 38 من القسم الدراسي.
(5) انظر: البداية والنهاية 13 / 236.
(1/21)
المبحث الثاني
الحالة الاجتماعية
عاش القرافي في بيئةٍ يتألف سكانها من قوميات متبانية، وأجناس
متفاوته، فيهم:
العرب والأكراد والأتراك والرومان والأقباط وغيرهم، كما ضمَّ
المجتمع بين جانبيه طوائف ومللاً شتى، من سنة وشيعة ونصارى
ويهود وصوفية ... إلخ.
وكان لدين الإسلام فضلٌ كبير في إذابة هذه العرقيات، وصهرها في
بوتقة الأمة الإسلامية الواحدة.
وكانت الحياة الاجتماعية تتغير أنماطها تبعاً لنهج الحكم
وسياسة الحاكم، هذا الاختلاف انعكس أثره في حياة الناس.
- الحالة الاجتماعية في حياة الملك
الصالح نجم الدين الأيوبي (637 - 647هـ)
كان العدل فيها مبسوطاً بين الرعية، وقد عين نُوَّاباً بدار
العدل؛ لإزالة المظالم، والنظر في شئون الرعية، وكان يعمل
ليلاً نهاراً على درء الخطر الخارجي؛ لتبقى أوضاع بلاده مستقرة
آمنة (1) .
وكان قد اشترى عدداً كبيراً من الأتراك (المماليك) ، وصاروا
معظم عسكره، ورجحهم على الأكراد، وأمَّر منهم، وجعلهم بطانته
المحيطين به (2) . وكانت توجد في عهده مفاسد ومنكرات أنكرها
العز بن عبد السلام عليه مع كونه مهاباً جباراً لا يستطيع أحد
أن يتكلم بين يديه (3) .
- الحالة الاجتماعية في حياة
السلطان الظاهر بيبرس المملوكي (658 - 676هـ)
كان الرجل في غاية الاهتمام بأمر المسلمين، له مقصد صالح في
نصرة الإسلام ومحبة العلماء. فتح فتوحات كثيرة كانت تحت أيدي
الإفرنج، وبنى المساجد والمدارس ودور
_________
(1) انظر: وفيات الأعيان 5 / 85، والسلوك للمقريزي 2 / 306،
340
(2) انظر: سير أعلام النبلاء 23 / 191
(3) انظر: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 8 / 211، النجوم
الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي 6 / 333
(1/22)
الأوقاف، وحاسب بشدة من ينتهك حرمات الله
كشرب الخمر واقتراف الزنا. وشدَّد على النصارى والرافضة، ولم
تكن لهم صولة ولا جولة، والبلاد في عهده كانت محميَّة من الخطر
الخارجي، مما جعل الأوضاع تستقر والناس ينعمون بالأمن (1) .
? ومن حسنات الدولتين الأيوبية والمملوكية: محاربة المذهب
الشيعي الذي عشَّش وفرَّخ في مصر مدة طويلة أيام الحكم الفاطمي
(العبيدي) (2) . وسعت الدولتان إلى سحق آثار المذهب الشيعي،
ومنعهم من الخطابة والتدريس، بل ردَّ الظاهر بيبرس شهادتهم،
ولما ثاروا عليه واجههم بحزم وصَلَبهم (3) .
ولكن من المآخذ على الدولتين: انتشار التصوف في عهديهما،
وتعظيم مشايخ الصوفية، وبناء الرُّبط والزوايا لهم (4) .
وأما العلماء في هذا العصر فقد كانوا على فريقين:
- فريق آثر ما عند الله، فأخذ يصدع بالحق، وينصح الحكام،
ويحذرهم من البعد عن شرع الله كالعز بن عبد السلام، وابن
الحاجب وغيرهما.
- والفريق الآخر غلب عليهم الطمع، والمكانة عند السلطان،
فوافقوهم، وأجروا لهم الفتاوى حسب الأهواء، وهؤلاء لم يكن لهم
وزن عند الناس.
أثر الحالة الاجتماعية على حياة
القرافي:
هذه الأجواء الاجتماعية كان لها أثر على شخصية القرافي، ويمكن
تلمُّس هذه الآثار فيما يلي:
(1) نظراً لتعايش المجتمع الإسلامي مع أهل الذمة، وحمايةً
لأبناء المسلمين من الانزلاق وراء شبهات اليهود والنصارى انبرى
القرافي لتأليف كتابه " الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة "،
وقد سبق الكلام عن هذا في الأثر السياسي على القرافي (5) .
_________
(1) انظر: البداية والنهاية 13 / 260، النجوم الزاهرة 7/94،
عصر سلاطين المماليك لمحمود رزق سليم 1/27
(2) الفاطمية: دولة شيعية كان أوّل ظهورها في تونس سنة 297هـ
على يد عبيد الله المهدي، ولهذا تعتبر امتداداً للدولة
العبيدية. كانت تنازع الدولة العباسية، امتدَّ نفوذها حتى شملت
مصر والحجاز والشام واليمن. تعاقب عليها (14) خليفة. انتهت
دولتهم سنة 567هـ. انظر: معجم المصطلحات والألقاب التاريخية
ص317، 335.
(3) انظر: الخطط المقريزية 4 / 161
(4) انظر: الخطط المقريزية (2 / 414 - 436) لترى أعدادها
والاهتمام بها.
(5) انظر: ص 20 من القسم الدراسي.
(1/23)
(2) ملازمة القرافي لشيخه العز بن عبد
السلام ربما أكسبته نُفرةً من السلاطين، مع أن القرافي كانت
لديه قدرة عجيبة على صنع التماثيل والمراصد الفلكية (1) التي
كان السلاطين مولعين بها، ومع ذلك لم يكن له ذِكْرٌ على
بلاطهم، ولم يتولَّ لهم شيئاً من مناصبهم.
(3) كان القرافي يلهج بأشعار، ويتمثل بها كثيراً مما يدل على
تأثره بالحالة السائدة في عصره. فهويقول:
وإذا جَلَسْتَ إلى الرِّجِالِ وأشْرَقَتْ في جَوِّ باطِنِكَ
العُلومُ الشُّرَّدُ
فاحْذَرْ مُناظرةَ الحَسْودِ فإنَّما تَغْتاظُ أنتَ ويستفيد
ويَحْرَدُ (2)
يمكننا أن نستخلص من هذين البيتين بأن عادة سيئة كانت منتشرة
بين العلماء مما حدا بالقرافي أن يقول ما قال.
وكان يُردَّد:
عَتَبْتُ على الدنيا لِتَقْديمِ جَاهِلٍ ... وتأخيرِ ذِيْ
عِلْمٍ فقالتْ: خُذِ العُذْرا
بَنُو الجَهْل أبنائي وكلُّ فضيلةٍ فأبناؤها أبناءُ ضَرَّتي
الأُخْرى (3)
فهذان البيتان يدلاَّن على مدى سخط القرافي على تولَّي بعض
الحكام سلطة البلاد والحكم بين العباد، وتقديم العلماء غير
المؤهَّلين أو الجديرين إلى مناصب الإفتاء والقضاء. والله
أعلم.
(4) ينبغي ألاَّ ننسى أن كثرة التآليف من الإمام القرافي التي
نالت إعجاب العلماء، لعله إفرازٌ لما نَعِمتْ به البلاد من
أَمْن واستقرار، وتشجيع للعلم وأهله في بعض الحِقَب الزمنية.
ولهذا شَهِد بعض علماء عصره بأن القرافي حرَّر أحد عشر عِلْماً
في ثمانية أشهر، أو قال: ثمانية علومٍ في أحد عشر شهراً (4) .
_________
(1) سيأتي الحديث عن هذا ص (45) من القسم الدراسي.
(2) لم أهتد إلى قائله، لكنه موجود في: الديباج المذهب في
معرفة أعيان علماء المذهب لابن فرحون المالكي
ص 130, ويَحْرَد: يَغْضب ويغتاظ فيتحرَّش بالذي غَاظَه
ويَهِمُّ به. المعجم الوسيط مادة " حرد ".
(3) انظره منسوباً إلى محيي الدين، المعروف بحافي رأسه في:
الديباج المذهب ص 130
(4) انظر: الديباج المذهب ص 129
(1/24)
المبحث الثالث
الحالة العلمية
تَزْدان الحياة العلمية في أيِّ عصرٍ وتزدهر بمقدار كثرة
المدارس المنتشرة، والخِزَانات العامرة بالكتب الوفيرة،
وبزيادة الحوافز المبذولة لطالبي العلم والراغبين فيه.
... والحالة العلمية لم تُحَاكِ الحالةَ السياسية المضطربة، بل
ظلَّتْ ناميةً مزدهرةً، فبعد أن كانت بغداد ـ عاصمة الخلافة
العباسية ـ مَحَطَّ العلماء من كل حَدَبٍ وصَوْبٍ إلا أن
إمامتها للعلماء انحسرت بعد سقوطها على أيدي التتار.
... وأخذت دمشق والقاهرة تتنازعان الرئاسة العلمية، وصارتا
موئل العلماء، غير أن كفَّة مصر رجحت حين تكاثر وفود العلماء
إليها نتيجةً لتعرض الشام إلى الغزو الصليبي والتتري.
وكان من أسباب النهضة العلمية في مصر أيضاً أن الدولة الفاطمية
(العبيدية) سعتْ حثيثاً إلى بناء المدارس، وتعليم المذهب
الرافضي وفَرْضِه على الناس، ثم جاء صلاح الدين الأيوبي من
بعدهم، فأنشأ المدارس السُّنِّية، وسعى إلى اجتثاث جذور المذهب
الباطني الذي زرعته الدولة الفاطمية (العبيدية) ، وهكذا تتابع
الملوك من بعده، ولاقى العلماء كل تشجيعٍ وإكرامٍ، وهكذا كان
الأمر في عهد الدولة المملوكية.
ويلاحظ هنا أن بعض الكاتبين في تاريخ التشريع الإسلامي يصفون
هذه الفترة الزمنية، والطور التاريخي بأنها فترة الجمود
والتقليد، والهرم والشيخوخة (1) .
وفي تقديري إن هذا الحكم فيه مجافاة للواقع، وبُعْد عن
الإنصاف، فلم يَخْلُ زمان من مجدِّدين يُحْيُون ما اندرس من
علوم الشريعة، ويستنهضون همم الناس نحوها، وإن صَحَّتْ هذه
المقولة في علم الفقه فلا تصحُّ في علم أصول الفقه، قال الشيخ
محمد أبو زهرة (2) : ((هذا العلم الذي غرس غرسه الإمام الشافعي
رحمه الله لم يَضْعف من بعده،
_________
(1) انظر: على سبيل المثال: تاريخ التشريع الإسلامي للشيخ /
محمد الخضري ص 248، الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي
للحجوي 2/ 189.
(2) هو محمد بن أبو زهرة، من علماء الشريعة، وعضو المجلس
الأعلى للبحوث العلمية، ووكيل كلية الحقوق بجامعة القاهرة. له
أربعون مؤلَّفاً، منها: أصول الفقه (ط) ، تاريخ الجدل في
الإسلام (ط) ، وكتب أخرى عن الأئمة الأعلام. ت 1394 هـ. انظر
الأعلام للزركلي 6 / 25، أصول الفقه تاريخه ورجاله لشيخنا
الدكتور / شعبان محمد إسماعيل ص 647.
(1/25)
حتى في عصور التقليد التي أَغْلقتْ فيها
باب الاجتهاد، بل نما وترعرع. . . وكأن الفقهاء إذْ قيَّدوا
أنفسهم في الفروع، قد اطلقوا لها الحرية في الأصول ... )) (1)
.
وقد نبغ في هذا العصر - السابع الهجري - أساطين من العلماء،
الذين
طَبَّقتْ شهرتهم الآفاق، وأَثرَوا بتصانيفهم الفريدة المكتبات،
حتى غَدَتْ مَفْزعاً
لنَاهِليِ علوم الشريعة وغيرها، فمنهم: الإمام فخر الدين
الرازي (2) ، وموفق الدين
ابن قُدَامة المقدسي (3) ، وسيف الدين الآمدي (4) ، وتقي الدين
أبو عمرو
ابن الصَّلاح (5) ، وأبو عمرو ابن الحاجب المالكي، والحافظ
المنذري (6) ، والعز بن عبد السلام، وابن مالك النحوي الأندلسي
(7) ، والإمام النووي (8) والقاضي البيضاوي (9) ،
_________
(1) انظر: كتابه: " الشافعي " عهده آراؤه وفقهه ص 309.
(2) انظر ترجمته في: القسم التحقيقي ص 4.
(3) هو عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، موفق الدين الدمشقي
الحنبلي، كان إماماً في علوم كثيرة خاصةً الفقه والأصول
والخلاف، وله كتاب: المغني في الفقه (ط) وروضة الناظر في أصول
الفقه (ط) وغيرهما. توفي سنة 620هـ، انظر: ذيل طبقات الحنابلة
لابن رجب 2/ 133
(4) انظر ترجمته في: القسم التحقيقي ص 21.
(5) هو عثمان بن عبد الرحمن الشَّهْرَزُوري الشافعي، المفتي
والمفسر والأصولي واللغوي، وله آراء أصولية مبثوثة في مؤلفاته،
منها: فتاوى ومسائل ابن الصلاح (ط) ، والمفتي والمستفتي (ط) ،
مقدمته الشهيرة في مصطلح علوم الحديث (ط) . توفي سنة 643هـ.
انظر: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 8 / 326
(6) ستأتي ترجمته ضمن شيوخ المصنف ص 39 من القسم الدراسي.
(7) هو جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك
الجياني، إمام زمانه في العربية، كان عالماً بالقراءات. له
مؤلفات شهيرة منها: التسهيل وشرحه (ط) ، الخلاصة وهي المشهورة
بألفية ابن مالك في النحو (ط) . توفي سنة 672هـ. انظر: بغية
الوعاة للسيوطي 1 / 130
(8) هو الحافظ محي الدين أبو زكريا يحيي بن شرف النووي، الفقيه
الشافعي والمحدث، صاحب التصانيف النافعة، مثل: شرح صحيح مسلم
(ط) ، المجموع شرح المهذب (ط) رياض الصالحين (ط) . انظر: طبقات
الشافعية الكبرى لابن السبكي 5 / 165
(9) هو عبد الله بن عمر بن محمد، المعروف بالقاضي البيضاوي،
كان إماماً عابداً فقيهاً أصولياً مفسراً متكلماً، له قدم
راسخة في التأليف، منها: منهاج الوصول (ط) ، أنوار التنزيل (ط)
. توفي سنة 685هـ. انظر: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 8
/ 157
(1/26)
ابن دقيق العيد (1) ، وغيرهم كثير.
ومن مؤيدات نهضة الحالة العلمية في هذا العصر: أن حركة التأليف
والتدريس كانت نشطة، ووقع التنافس في بناء دور المدارس
العلمية، ولعل من المفيد أن نعرِّج على أهم المدارس التي كان
للقرافي اتصالٌ بها، فمنها:
1- المدرسة الصَّاحِبية:
سميت بذلك نسبة لمنشئها الصاحب بن شُكْر (2) سنة 618هـ، جعلها
وقْفاً على المالكية، وأجرى عليهم الأرزاق، وضم إليها مئات
الكتب (3) . وقد نهل منها القرافي وغيره. قال عنها في كتابه "
نفائس الفصول " (1/499) ((وهذه الفصول وجدتها في كتاب في
الخزانة الصاحبية ... أسبع الله ظلالها)) .
2- المدرسة القَمْحِية:
شيدها صلاح الدين الأيوبي سنة 566هـ، وسميت بهذا لما كان يقسم
على مدرسيها وطلابها من القمح الموقوف عليها.
وهي بجوار الجامع العتيق (جامع عمرو بن العاص) بمصر، وقد تولى
القرافي التدريس بها حقبةً من الزمن (4) .
3- المدرسة الصالحية:
تنسب إلى مؤسسها الملك الصالح نجم الدين أيوب سنة 641هـ. وقد
تبوأت هذه المدرسة مكانة عالية في مصر، فقد كانت تُدرَّس فيها
المذاهب الأربعة، واختير لها أفضل المشايخ، من بينهم الشهاب
القرافي الذي تولَّى التدريس بها سنة 663هـ، ثم عزل، ثم أعيد،
ثم ظلَّ يدرس فيها حتى مات رحمه الله (5) .
_________
(1) هو تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب المنفلوطي
المالكي الشافعي، الشهير بابن دقيق العيد، حقق المذهبين، ولي
قضاء الديار المصرية والتدريس، وله كتب نافعة مثل: إحكام
الأحكام شرح عمدة الأحكام
(ط) . توفي عام 702هـ. انظر: الديباج المذهب ص 411، طبقات
الشافعية الكبرى لابن السبكي 6 / 2
(2) هو صفي الدين أبو محمد عبد الله بن علي بن الحسين الدميري،
الشهر بالصاحب بن شكر، ولد سنة 540هـ وتفقه على مذهب مالك،
استوزره الملك العادل الأيوبي. توفي سنة 622هـ. انظر: فوات
الوفيات 2/193
(3) انظر: الخطط المقريزية 2 / 371، المنهل الصافي 1 / 277
(4) انظر: الخطط المقريزية 2 / 364، النجوم الزاهرة 5 / 385
(5) انظر الخطط المقريزية 2 / 374، المنهل الصافي 1 / 216،
الدارس في تاريخ المدارس لعبد القادر النعيمي 1/316
(1/27)
4- المدرسة الطَّيْبَرْسِيَّة:
تقع بالقرب من الجامع الأزهر، تُنْسب إلى مؤسسها علاء الدين
طَيْبَرس الخَازنْداري (1) وهيأها للدارسين سنة 680هـ، وتضم
المدرسة قسماً للشافعية، وآخر للمالكية. وكان القرافي أول من
درس فيها من المالكية (2) .
... وهناك مدارس أخرى كثيرة في حياة القرافي، لكن لم يذكر
التاريخ لنا أنه باشر الدرس أو التدريس فيها. من هذه المدارس:
المدرسة الظاهرية، والفارقانية، والسيوفية، والفائزية،
والمنصورية، ومدرسة العادل، ومدرسة ابن رشيق. . إلخ (3)
... وبجانب هذه المدارس توجد الجوامع، كجامع عمرو بن العاص،
وقد درَّس فيه القرافي، وأخذ عنه خلقٌ كثير (4) .
_________
(1) هو علاء الدين طَيْبَرس بن عبد الله الوزير، صهر الملك
الظاهر، كان من أكابر الأمراء ومن أهل الحل والعقد، وكان
دَيِّناً كثير الصدقات. توفي سنة 689هـ. انظر: البداية
والنهاية 13/ 338
(2) انظر: الخطط المقريزية 2 / 383، الانتصار لواسطة عقد
الأمصار 1 / 97، الوافي بالوفيات 6 / 233
(3) انظرها في: الخطط المقريزية 2 / 363 - 384، مساجد القاهرة
ومدارسها لأحمد فكري 2 / 49 - 76
(4) انظر: الخطط المقريزية 2 / 383، الوافي بالوفيات 6 / 233
(1/28)
|