جزء من شرح تنقيح الفصول في علم الأصول

الفصل الثالث
دراسة عن كتاب "شرح تنقيح الفصول"

(1/62)


المبحث الأول
التعريف بمتن الكتاب: " تنقيح الفصول "
إن التعريف بكتاب " شرح تنقيح الفصول " يستلزم باديء ذي بدء التعريف بالمتن " تنقيح الفصول "، ووجه هذا اللزوم: أن المتن صار كالقاعدة للبناء، فلولاه لما انتهض هذا الشرح وما قام على سوقه.
ومن التميّز الفريد الذي اتَّسم به هذا الشرح عن سائر الشروح امتزاجه بالمتن حتى غدا الكتاب (متناً وشرحاً) يشكّل وحدةً واحدة، وعروة وثقى لا انفصام لها.
فلو رُمْتَ فصل الشرح عن المتن لَعَيِيْتَ، ورُمْتَ المحال، وإلاّ كانت النتيجةُ الحصولَ على أشلاء ممزَّقة، ومقاطع مفرَّقة لا انسجام بينها.
وتأتي ضرورة إفراد التعريف بمتن الكتاب في مبحثٍ استقلالي أن المصنف ذكر فيه باعثَه على تأليفه، ومواردَه، وطريقتَه، وتسميتَه للكتاب، ونحو ذلك من الأمور التي تسهم بطريقٍ مباشر في التعرّف على شرح الكتاب.
والتعريف بالمتن سيكون وفق الخطوات التالية:
أولاً: عنوان المتن ونسبته إلى مؤلفه:
أطبقت نسخ المتن الخطية - التي وقفت عليها - على تسميته بـ" تنقيح الفصول في علم الأصول " (1) وهي تسمية المصنف له، قال - في صراحةٍ تامّةٍ -: ((وسمّيته: تنقيح الفصول في علم الأصول)) (2) .
وهذه العنونة للكتاب صريحة لا تدع مجالاً للشكِّ فيها، لكن مما يعكّر صفوَها تواردُ جميع نسخ الشرح الخطّية التي وقفت عليها على قول المصنف فيها: ((أما بعد: فإن كتاب " تنقيح الفصول في اختصار المحصول " كان قد يسّره الله عليّ ليكون مقدّمة أول كتاب الذخيرة في الفقه. . .)) (3) .
_________
(1) انظر صور هذه النسخ في الصفحات: 264، 266، 269، 272، 276.
(2) انظر الهامش السابق، وانظر: الذخيرة 1 / 55.
(3) لكن يلاحظ أن النسخ ص، و، ن جاء فيها " تنقيح الأصول " خِلافاً للنسخ الست البواقي. فلعلّه تحرَّف من النسَّاخ.

(1/63)


ففي هذا النص جاء اسم المتن على أنه: " تنقيح الفصول في اختصار المحصول ". فأيُّ التسميتين للكتاب أهدى سبيلاً وأقوم قيلاً؟
والجواب بداهةً: أن كلتا التسميتين حقٌ وصواب؛ لأنهما صادرتان من مشكاة واحدة، وهي ذات المصنف. ولو فرضنا وقوع تعارضٍ بين الاسمين لكان ترجيح الثاني أولى؛ لأن الشرح متأخر عن المتن، والمتأخر ينسخ المتقدم، فلعلَّ المصنف بعد أن سمّاه بـ" تنقيح الفصول في علم الأصول " بدا له أن يغيّر اسمه إلى: تنقيح الفصول في اختصار المحصول.
وإن لم تقع مصادمةٌ بين التسميتين، فلعلّ المصنف أوقعهما لهذا الكتاب قصداً وتنبيهاً للمطالع بأنهما صادقتان عليه (1) . وتعدُّدُ الاسم لمسمّىً واحدٍ ليس بمستغرب على صنيع القرافي، فها هو يسمي كتابه " الفروق " بأسماء متعددةٍ، فيقول: ((وسمّيته لذلك: أنوار البروق في أنواءِ الفروق. ولك أن تسمِّيه كتاب: الأنوار والأنواء. أو كتاب الأنوار والقواعد السنّية في الأسرار الفقهية. كلُّ ذلك لك)) (2) .
ومما يصدِّق تسمية " تنقيح الفصول في اختصار المحصول " مجيء عبارات للمصنف تردَّدتْ بين الحين والآخر بأنه اختصر ما ذكره في المتن من المحصول، مثل قوله في شرح التنقيح (المطبوع) ص 149: ((هذه المسألة نقلتها هاهنا (أي في التنقيح) واختصرتها كما وقعت في المحصول، وليست المسألة على هذه الصورة في أصول الفقه. . .)) .
وقال أيضاً في الشرح ص (121) من القسم التحقيقي: ((فهذه التفاصيل أولى من التعميم الأول (الذي جاء في المتن) ، وهو قول الإمام فخر الدين في المحصول)) (3) .
وكذلك قال في نسخ المتن الخطيّة: ((أما بعد: فإن هذا كتاب جمعتُ فيه مسائل
" المحصول " للإمام فخر الدين، وأضفتُ إليه مسائل كتاب الإفادة للقاضي
_________
(1) قال الشوشاوي في رفع النقاب القسم (1 / 80) شارحاً قول القرافي: ((وسمَّيته بتنقيح الفصول في علم الأصول)) ، قال: ((نبَّه المؤلف هاهنا على اسم كتابه هذا، وسمّاه في الشرح: تنقيح الفصول في اختصار المحصول، فله إذاً اسمان)) .
(2) انظر: الفروق 1 / 4.
(3) وانظر مزيداً من الأمثلة في: شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 67، 76، 238، 261، 281.

(1/64)


عبد الوهاب المالكي وهو مجلدان، وكتاب الإشارة للباجي، وكلاماً لابن القصار في الأصول. .)) .
فهذه النصوص تبرهن على صحة التسمية الأخيرة، ولكن هذا يوقعنا في إشكال وسؤال، وهو: هل كتاب التنقيح حقّاً اختصار للمحصول؟
والجواب عنه: لا، ليس هو في واقع الأمر اختصاراً للمحصول بالمعنى المعهود للاختصار الذي لا يغادر أصله في صغيرةٍ ولا كبيرة. والحجة على هذا الادعاء: أن المصنف نفسه أعلن في صراحةٍ تامةٍ بأن اعتماده في هذا المختصر الأصولي كان على أخذ جملة كتاب: " الإفادة " للقاضي عبد الوهاب، وكتاب: " الإشارة " للباجي، و" مقدّمة " ابن القصار في أصول الفقه، وكتاب " المحصول " للرازي. وهذا ظاهر جداً في الكتاب؛ فإنه طافحٌ بآراء المالكية الأصولية، وهذا غير موجود في المحصول. فإذا كان الكتاب في أصله خلاصةً لما ورد في الكتب الأربعة المتقدّمة، بالإضافة إلى ما ضُمَّ إليها من مباحث وفوائد أصولية قد لا توجد في غيره، فإن تسميته بـ" اختصار المحصول " فيها تجوُّز وتسمُّح قد لا يُغْتفر إلاّ بالنظر إلى أنه التزم ترتيب وتبويب المحصول، وإلاّ فالكتاب بمباحثه وفوائده ومادَّته يأخذ صِبْغةً خاصةً، وصفةً استقلاليةً تجعلنا لا نستطيع أن نستغني عنه بكتاب.
وزبدة القول في المسألة: أن كتاب " تنقيح الفصول " كتابٌ قائمٌ بنفسه، مستقلٌّ بذاته، يستحقُّ أن يُسمَّى: تنقيح الفصول في علم الأصول. لكن لمّا كثر اعتماد القرافي في إنشائه للكتاب على تبويب وترتيب المحصول، مع نقل كثير من عباراته - ولو بالمعنى - استحقّ أيضاً أن يوسم بأنه: تنقيح الفصول في اختصار المحصول. والله تعالى أعلم.
أما نسبته إلى القرافي، فهي نسبة لا يرتقي إليها شكٌّ، ومن الدلائل عليها:
1 - مجيء ذكر الكتاب في كتب القرافي الأخرى، ومنها: نفائس الأصول
(1 / 333) ، الأمنية في إدراك النية، ص (58) ، العقد المنظوم في الخصوص والعموم (2 / 161) .

(1/65)


2 - كما جاءت النسبة إليه في: الديباج المذهب ص (129) ، المنهل الصافي
(1 / 216) ، شجرة النور الزكية (1 / 188) ، الوافي بالوفيات (6 / 233) ، حسن المحاضرة، (1 / 316) ، كشف الظنون (1 / 499) ، هديّة العارفين
(1 / 99) .
3 - تعاقب العلماء على شرحه (1) ، أو النقل عنه (2) مع تصريحهم بنسبته إليه.
ثانياً: الباعث على تأليف المتن وزمن تأليفه:
صرّح القرافي بالباعث على تأليف كتاب " تنقيح الفصول " بأنه مقدِّمةٌ لكتابه الجليل وسِفْرِه الكبير " الذخيرة في الفقه ".
فها هو يقول في كتابه الذخيرة (1 / 39) : ((وأقدِّم بين يديه (أي الذخيرة) مقدّمتين، إحداهما: في بيان فضيلة العلم وآدابه. . . والمقدمة الأخرى: في قواعد الفقه وأصوله، وما يُحتاج إليه من نفائس العلم، مما يكون حِليةً للفقيه، وجُنَّةً للمُناظر، وعوناً على التحصيل)) .
وعندما زَبَر المقدمة الثانية في الذخيرة (1 / 55) قال: ((المقدمة الثانية: فيما يتعيّن أن يكون على خاطر الفقيه من أصول الفقه، وقواعد الشرع، واصطلاحات العلماء، حتى تُخرَّج الفروع على القواعد والأصول، فإن كل فقهٍ لم يُخرِّج على القواعد فليس بشيء)) .
وبهذا أبان القرافي بجلاء غرضه من تأليف هذا المختصر الأصولي، وهو أن يكون مقدّمةً للموسوعة الفقهية الضخمة " الذخيرة ".
وهذه طريقة مستحسنة في التآليف، من شأنها أن توقف القاريء على القواعد الأصولية التي انبثقت منها تفاريع الفقه، وفتاوى الإمام، وترشده إلى مدارك أقوال العلماء ومنطلقاتهم ومآخذهم في الأحكام. ومن هنا ندرك مدى العلاقة الوثيقة بين علم الأصول وعلم الفقه، فالفقه بالنسبة للأصول كالثمرة للشجرة، وكاللَّبنات المشيَّدة على الأساس.
_________
(1) انظر أسماء هذه الشروح: ص (70) من القسم الدراسي.
(2) انظر مثلاً: شرح مختصر الروضة للطوفي (3 / 751) ، شرح الكوكب المنير 3 / 17، نشر البنود على مراقي السعود للعلوي الشنقيطي 1 / 12.

(1/66)


ولا غَرْوَ أن سلك القرافي هذا المسلك في التأليف، فلم يكن بِدْعاً من العلماء، بل سَبَق لعلماء أفذاذٍ انتهاجُها (1) .
أما زمن تأليف المتن فلا يُدرى على وجه التحديد، لكن جاء في خاتمة النسخة
(أ) المصوّرة من مكتبة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض قوله: ((كتبه لنفسه الفقير إلى رحمة ربه أبو بكر بن صارم في شهر ربيع الأول سنة ست وستين وستمائة. غفر الله له. . .)) (2) . فهذا التاريخ المرقوم هنا يقطع بأن تصنيف المتن كان سنة 666 هـ أو قبلها. وإذا كان شرح المتن وقع الانتهاء منه سنة 677 هـ، - كما جاء في بعض خواتيم نسخ الشرح - علمنا بأن الفاصل الزمني بين التأليفين إحدى عشرة سنة أو ما يزيد عليها. فالمتن من بواكير إنتاجات القرافي الأصولية، والشرح من أواخر تأليفاته (3) .
ثالثاً: موضوعات المتن ومضامينه:
كتاب " تنقيح الفصول " متن مختصر في أصول الفقه، لخَّص فيه القرافي مسائل هذا الفن، فأتى فيه على أبواب الأصول جميعها، ولم يفتْهُ إلاّ اليسير منها، في مائة فصل وفصلين منظومة تحت عشرين باباً.
_________
(1) من هؤلاء العلماء:

أ - الإمام ابن جرير الطبري (ت 310 هـ) ، بدأ كتابه الفقهي " لطيف القول " بمقدمةٍ أصوليةٍ سمّاها بعد ذلك بـ" الرسالة ". انظر: معجم الأدباء للحموي 18 / 74.
ب - أبو بكر الجصَّاص الحنفي (ت 370 هـ) ، بدأ كتابه " أحكام القرآن " بمقدِّمة أصولية سميت بعد ذلك بـ" الفصول في الأصول ". انظر: أحكام القرآن للجصاص 1/5، الفصول في الأصول له 1/ 23.
جـ - أبو الحسن ابن القصّار المالكي (ت 397 هـ) ، له كتاب " المقدمة في الأصول " وهو بمثابة مقدمة بين يدي كتابه الكبير الموسوم بـ" عيون الأدلة في مسائل الخلاف بين فقهاء الأمصار ". انظر: المقدمة في الأصول لابن القصار ص 18 - 23.
د - المحدِّث أبو بكر البيهقي الشافعي (ت 458 هـ) ، بدأ كتابه " معرفة السنن والآثار " بأبوابٍ في أصول الشافعي رحمه الله. انظر: كتابه معرفة السنن والآثار 1 / 212.
هـ - أبو الوليد ابن رشد (الجد) ت 520 هـ، كتب مقدمة أصولية موجزة لكتابه " المقدمات
الممهدات " (ط) .
وأبو الوليد ابن رشد (الحفيد) ت 595 هـ، وضع مقدمةً في بعض مسائل الأصول لكتابه: " بداية المجتهد ونهاية المقتصد ". انظرها فيه (1 / 325) .
(2) انظر: صورة خاتمة النسخة المخطوطة ص 271 من القسم الدراسي.
(3) بالإمكان مراجعة المخطط الزمني لتآليف القرافي لتعلم موقعه الزمني. انظر: ص (85) .

(1/67)


وإليك عناوين الأبواب وبعض مضامينها:
الباب الأول: في الاصطلاحات، تناول فيه: الحد، وتفسير أصول الفقه، وتعريفات للحقيقة والمجاز والدلالة والمشترك والمتواطيء والمرتجل والمطلق والظاهر والمجمل والمبيّن والأمر والنهي والمفاهيم والحكم. . . إلخ.
الباب الثاني: في معاني حروف يحتاج إليها الفقيه.
الباب الثالث: في تعارض مقتضيات الألفاظ.
الباب الرابع: في الأوامر. تناول فيه مسمّى الأمر وعوارضه ومتعلّقه ووسيلته، والتكليف بما لا يطاق، وخطاب الكفار، والأمر بعد الحظر، والأمر بالمركَّب.
الباب الخامس: في النواهي. تناول فيه مسمّاه، وأقسامه، ولازمه. . . إلخ.
الباب السادس: في العمومات. تناول فيه أدواته ومدلوله ومخصصاته. . . إلخ.
الباب السابع: في أقل الجمع.
الباب الثامن: في الاستثناء. تناول حدّه، وأقسامه، وأحكامه.
الباب التاسع: في الشروط. تناول فيه أدوات الشرط، وحقيقته، وحكمه.
الباب العاشر: في المطلق والمقيد.
الباب الحادي عشر: في دليل الخطاب أو مفهوم المخالفة.
الباب الثاني عشر: في المجمل والمبيّن.
الباب الثالث عشر: في فعله - صلى الله عليه وسلم -. تناول فيه دلالته على الأحكام، واتباعه، وحكم شرع من قبلنا.
الباب الرابع عشر: في النسخ.
الباب الخامس عشر: في الإجماع.
الباب السادس عشر: في الخبر.
الباب السابع عشر: في القياس.
الباب الثامن عشر: في التعارض والترجيح.
الباب التاسع عشر: في الاجتهاد. تناول فيه حكمه، وزمانه، وشرائطه، ونقضه، والتصويب، والاستفتاء، والتقليد.

(1/68)


الباب العشرون: في جميع أدلة المجتهدين وتصرفات المكلفين. تناول فيه: الأدلة المختلف فيها كقول الصحابي، والاستصلاح، والاستحسان، والاستصحاب، والعرف. . . إلخ.
وتناول اصطلاحات فقهية يكثر شيوعها بين المتعاملين المكلفين كالنقل، والقبض، والإقباض، والإسقاط، والالتزام، والشركة، والإنشاء، والاختصاص، والإذن، والإتلاف، والتأديب. . . إلخ.
رابعاً: موارد المتن ومصادره:
كفانا القرافي مؤونة البحث والتنقيب عن المصادر التي استمدَّ منها مادة كتابه. فقد صرَّح في مقدمته قائلاً: ((واعتمدت في هذه المقدمة على أخذ جملة " الإفادة " للقاضي عبد الوهاب، وهو في مجلدين في أصول الفقه، وجملة " الإشارة " للباجي، وكلام ابن القصار في أول " تعليقه " في الخلاف، وكتاب " المحصول " للإمام فخر الدين الرازي. . .)) (1) .
لكن هل اقتصر المؤلف على هذه الكتب الأربعة في تحبير كتابه؟ نجد الجواب عند المؤلف نفسه، فهو يقول: ((مع أني زِدْتُ مباحث وقواعد وتلخيصات ليست في المحصول، ولا في سائر الكتب الثلاثة)) (2) .
خامساً: منهج المؤلف في المتن:
الكتاب يقوم على الاختصار، والاختصار: فيه ردُّ الكثير إلى القليل، وفي القليل معنى الكثير (3) .
وركوب هذا المَهْيع من التأليف يستدعي مهارةً فائقةً، وقدرةً عجيبةً، وذكاءً نادراً ولاسيما عند اختصار كتاب مَكيْنٍ كمحصول الرازي.
لهذا اقتصر القرافي فيه على ما تمسُّ إليه حاجة الفقيه مبتعداً عن الاستطرادات التي تخصُّ فحول الأصوليين.
_________
(1) انظر الذخيرة للقرافي 1 / 55.
(2) المصدر السابق 1 / 55.
(3) انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي (3 / 86) .

(1/69)


قال القرافي في مقدمة الذخيرة (1 / 55) : ((ولم أتعرّض فيها لبيان مدارك الأصول، فإن ذلك من وظيفة الأصولي، لا من وظائف الفقيه، فإن مقدّمات كل علم توجد فيه مسلّمة، فمن أراد ذلك فعليه بكتبه)) .
ثم قال بعد ذلك بقليل: ((بحيث إني لم أترك من هذه الكتب الأربعة (المشار إليها في مصادره وموارده) إلاّ المآخذَ والتقسيمَ، والشيءَ اليسير من مسائل الأصول، مما لا يكاد الفقيه يحتاجه)) .
ولعلَّ أبرزَ ركيزةٍ اتكأ عليها القرافي عند تأليفه لهذا المختصر الأصولي، هي: بيانه لمذهب الإمام مالك عليه رحمة الله في مسائل الأصول.
قال في الذخيرة (1 / 39) : ((وبيَّنْتُ مذهب مالك - رحمه الله - في أصول الفقه؛ ليظهر علو شرفه في اختياره في الأصول، كما ظهر في الفروع، ويطّلع الفقيه على موافقته لأصله، أو مخالفته له لمعارضٍ أرجح منه ... )) .
وقال في نسخ المتن الخطيَّة: ((وبيَّنْتُ مذهب مالكٍ في الأصول؛ لينتفع بذلك المالكيّة خصوصاً، وغيرُهم عموماً. . .)) .
هذا ما يمكن قوله هنا - باقتضابٍ - من لمحات سريعة عن منهج المؤلف في " تنقيح الفصول " تاركاً تفاصيل المنهج وجزئياته - تحاشياً للتكرار - في المبحث السادس من هذا الفصل (1) عند دراسة الكتاب باعتباره وحدةً واحدة متناً وشرحاً.
سادساً: شروحات المتن " تنقيح الفصول "
تداول العلماء كتاب " تنقيح الفصول " للقرافي منذ عصر مؤلفه إلى عصور متطاولةٍ تاليةٍ له، تداولوا هذا المتن شرحاً وتقييداً وتحشيةً واختصاراً. وما كثرة المشتغلين به إلاّ دليلٌ على علو مكانته، وسموِّ منزلته، وجودته وأهميّته.
أول هؤلاء المعنييِّن به شرحاً وبسطاً المؤلف نفسه، ويجيء الكلام عنه - إن شاء الله تعالى - في المباحث التالية لهذا المبحث.
وأما الشروحات والحواشي التي عرفتُها، فهاكها مرتبةً وفق التسلسل الزمني لتأليفها:
_________
(1) انظر: ص 102 القسم الدراسي.

(1/70)


1 - شرح تنقيح الفصول: لأحمد بن محمد بن عثمان الأزدي المراكشي، المعروف بأبي العباس ابن البنا العدوي (1) . والشارح معاصر للشهاب القرافي؛ لأن ولادته كانت 649 هـ.
2 - تقييدات على تنقيح الفصول: لأحمد بن عبد الرحمن التادلي الفاسي (2) . ذكر صاحب الديباج المذهب بأن له على تنقيح القرافي تقييداً مفيداً. وتوجد منه نسخة خطيّة في دار الكتب المصرية بالقاهرة في مجلد كبير تحت رقم (805) أصول فقه.
3 - شرح تنقيح الفصول: لأبي زكريا يحيى بن أبي زكريا المِسْطَاسي، الفاسي الدار. عاش في آخر القرن السابع، وتوفي في أول القرن الثامن.
وهو من الشروح القديمة؛ لأن إحدى النسخ كتبت سنة 743 هـ. وجاء التعريف بهذا الشرح من ناسخ نسخة مكتبة الجامع الكبير بمكناس برقم (352) ، قال: في آخرها: ((لخّص فيه أبو زكريا شرح القرافي على تنقيحه تلخيصاً جامعاً، وزاد عليه فوائد جليلة، وتنبيهات حسنة، أكثرها من كلام القرافي في شرح المحصول، وزاد على ذلك من كتاب سيف الدين الآمدي، وكتاب الباجي المترجم بالفصول، وهذا التقييد يغني عن شرح القرافي، ولا يغني هو عنه)) .
وشرح المسطاسي هذا من أهم مصادر شرح الشوشاوي حيث إنه اعتمد عليه كثيراً (3) .
_________
(1) هو أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي المراكشي، عُرف بابن البناء، مالكي المذهب، اشتهر باتباع السنة والصلاح والدين، له دراية بعلوم الفلك وبسائر العلوم. من تآليفه: منتهى السول في علم الأصول، تنبيه الفهوم على إدراك العلوم، شرح تنقيح القرافي، منهاج الطالب في تعديل الكواكب، ومقالات عديدة في أحكام النجوم وعلم الإسطرلاب. ت 721 هـ. انظر: نيل الابتهاج بتطريز الديباج ص 65، شجرة النور الزكية 1 / 216.
(2) هو أحمد بن عبد الرحمن التادلي الفاسي، مالكي المذهب. كان فقيهاً إماماً في أصول الفقه، مشاركاً في الأدب والعربية، ذا عفة ودين. له شرح عمدة الأحكام في الحديث، وشرح على رسالة ابن أبي زيد، توفي في المدينة عام 741 هـ. انظر: الديباج المذهب ص 138.
(3) انظر: القسم الدراسي لكتاب رفع النقاب عن تنقيح الشهاب للشوشاوي. دراسة وتحقيق الدكتور / أحمد السَّراح ص (176 - 178) . ولم أعثر على ترجمةٍ للمِسْطَاسي.

(1/71)


4 - شرح تنقيح الفصول: لأبي الحسن علي بن يونس بن عبد الله الهواري التونسي (1) .
5 - شرح التنقيح: لأبي الحسن علي بن ثابت الأموي التلمساني (2) .
6 - التوضيح على التنقيح: لأبي القاسم محمد بن محمد بن علي النويري (3) .
7 - التوضيح شرح التنقيح: لأبي العباس أحمد بن عبد الرحمن اليزليطني القروي الشهير بـ" حلولو " (4) .
وشرحه هذا مطبوع بهامش شرح تنقيح الفصول للقرافي بالمطبعة التونسية عام
(1328 هـ - 1910 هـ) . وسيأتي الكلام عنه عند مقارنته بشرح القرافي (5) .
8 - رفع النقاب عن تنقيح الشهاب: لحسين بن علي الشوشاوي (6) .
_________
(1) هو علي بن يونس بن عبد الله الهواري التونسي، نور العين أبو الحسن، مالكي المذهب، من العلماء المتبحِّرين له شرح على ابن الحاجب الأصولي، وشرح تنقيح القرافي. ولد سنة 668 هـ. انظر: نيل الابتهاج ص 204 ولم أقف على تاريخ وفاته.
(2) هو أبو الحسن علي بن ثابت بن سعيد القرشي الأموي التلمساني، فقيه مالكي ورع فاضل، أخذ عن ابن مرزوق الجد، وعنه ابن مرزوق الحفيد وغيره، له نحو ثمانية وعشرين تأليفاً، في أصول الدين والحديث والتاريخ والطب، منها ثلاثة شروح على البردة، وشرح لتنقيح القرافي، ت 829 هـ. انظر: نيل الابتهاج ص 207 هـ، معجم المؤلفين 2 / 414.
(3) هو محمد بن محمد بن علي بن محمد، أبو القاسم النويري، نسبة إلى قرية بصعيد مصر الأدنى، برع في الفقه وكثير من العلوم، وله فيها تآليف، منها: بغية الراغب على ابن الحاجب (فقه) ، وشرح التنقيح للقرافي في مجلد سمّاه: التوضيح على التنقيح، وشرح لطيبة النشر في القراءات العشر. ت 857 هـ. انظر: نيل الابتهاج ص 311، توشيح الديباج وحلية الابتهاج لبدر الدين القرافي ص 221.
(4) هو أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن موسى بن عبد الحق اليزليطني أو اليزليتني القروي، المعروف بحلولو الإمام العمدة المحقق الفقيه الأصولي، تولَّى قضاء طرابلس، له شرحان على جمع الجوامع شرح صغير وهو الضياء اللامع (طبع منه جزآن) ، وشرح كبير، له شرح على الإشارات للباجي، وشرح على تنقيح القرافي (ط) ، واختصر نوازل البرزلي. كان بالحياة سنة 875 هـ وعمره قريب من الثمانين. انظر: الضوء اللامع 1 / 260، نيل الابتهاج ص 83.
(5) انظر: المبحث التاسع، ص 202
(6) هو أبو علي الحسين بن علي بن طلحة الرجْراجي الشوشاوي، من أعلام سوس بالمغرب. شهرته ظهرت من كتبه، منها رفع النقاب عن تنقيح الشهاب (رسالة جامعية) ، الفوائد الجميلة على الآيات الجليلة
(ط) ، الأنوار السواطع شرح الدرر اللوامع في القراءات ت 899 هـ. انظر: نيل الابتهاج ص 110، درة الحجال 1 / 244.

(1/72)


وشرحه هذا كان رسالةً علمية للماجستير بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض سنة 1407 هـ. حقق الدكتور / أحمد السَّراح القسم الأول من الكتاب، بينما حقق القسم الثاني منه الدكتور / عبد الرحمن الجبرين.
ولقد استفدت كثيراً من هذا الشرح في هذه الرسالة، فجزاهم الله خيراً. وسيأتي الحديث عنه عند مقارنته بشرح القرافي (1) .
9 - شرح تنقيح الفصول: لداود بن علي بن محمد القلتاوي الأزهري (2) .
10 - شرح فصول التنقيح: لأبي فارس عبد العزيز الأَدُوْزي السوسي (3) .
11 - منهج التحقيق والتوضيح لحلِّ غوامض التنقيح: لمحمد بن حمودة بن أحمد جعيط، مفتي الديار التونسية (4) .
وحاشيته هذه مطبوعة بمطبعة النهضة سنة 1345 هـ - 1926 هـ بتونس، وسيأتي الكلام عنها عند مقارنتها بشرح القرافي (5) .
12 - شرح تنقيح الفصول: للشيخ الطايع بن الحاج الفاسي (شيخ القرويين ورئيس مجلسها) ت: 1377 هـ، كان شرحاً متداولاً بين أيدي طلابه، منهم:
عبد الرحمن الفاسي، وقد أثنى عليه كثيراً (6) .
_________
(1) انظر: المبحث التاسع، ص 207
(2) هو داود بن علي بن محمد القلتاوي الأزهري نسبة إلى جامع الأزهر بمصر، فقيه نحوي، أحد شيوخ المالكية، من تآليفه: شرح مختصر خليل، شرح الألفية في النحو، وشرح الآجرومية، وشرح التنقيح في الأصول للقرافي، ت 902 هـ. انظر: توشيح الديباج ص 99، نيل الابتهاج ص116.
(3) هو عبد العزيز بن محمد بن محمد بن أحمد المرابط السملالي السوسي، أبو فارس الأدوزي. أديب من فضلاء المالكية، من أهل أدوز بسوس المغرب، احترف التعليم، وتنقَّل في عدة مدارس. له كتب منها: شرح معلقة امريء القيس، شرح الشمَقْمَقية، شرح التنقيح بخطِّه غير تام. ت 1336 هـ. انظر: الأعلام للزركلي 4 / 27.
(4) هو أبو عبد الله محمد بن الشيخ حمودة بن أحمد بن عثمان جعيط، جمال العلماء وأستاذ الأدباء، كانت أوقاته معمورة بالتدريس والإفادة والعبادة، كان يقول الشعر، تولى الإفتاء سنة 1331 هـ. له رسائل وتآليف، منها: تراجم علماء تونس، تقارير على صحيح مسلم، شرح البردة، حاشية على التنقيح مفيدة طبعت في مجلدين، ت 1337 هـ. انظر: شجرة النور الزكية 1 / 423، الأعلام للزركلي 6 / 110.
(5) انظر: المبحث التاسع، ص 212
(6) انظر: كتاب: الشهاب القرافي حلقة وصل بين المشرق والمغرب 1 / 283. ولم أقف على ترجمته.

(1/73)


13 - حاشية التوضيح والتصحيح لمشكلات كتاب التنقيح: لمحمد الطاهر بن عاشور (1) وحاشيته هذه مطبوعة بمطبعة النهضة سنة 1341 هـ بتونس. وسيأتي الكلام عنها عند مقارنتها بشرح القرافي (2) .
وأما مختصرات تنقيح الفصول فما عرفته منها هو ما يلي:
1 - إقليد الأصول. وهو مختصر تنقيح الفصول، للقاضي ابن فرحون اليعمري المدني (3) ، وهذا المختصر لم يكمِّله صاحبه، بل وصل فيه إلى باب النسخ.
2 - مختصر تنقيح الفصول. لمؤلفٍ مجهول.
والمختصر مطبوع بكامله ضمن مجموعة متون أخرى في كتاب واحد اسمه:
" متون أصولية مهمَّة في المذاهب الأربعة ". الناشر: مكتبة ابن تيمية بالقاهرة، سنة 1413 هـ.
المتن الأول: مختصر المنار لزين الدين الحلبي الحنفي (4) .
المتن الثاني: الورقات لإمام الحرمين الجويني الشافعي.
المتن الثالث: مختصر تنقيح الفصول لشهاب الدين القرافي المالكي.
_________
(1) هو محمد الطاهر بن عاشور، رئيس المفتين المالكيين بتونس، وهو من أعضاء مجمعي اللغة العربية في دمشق والقاهرة، له مصنفات مطبوعة، منها: تفسيره العظيم: التحرير والتنوير (ط) ، مقاصد الشريعة الإسلامية (ط) ، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام (ط) . ت 1393 هـ. انظر: الأعلام للزركلي 6 / 174. وله ترجمة حافلة في مجلة جوهر الإسلام العد 3 - 4 سنة 10 / 1979 م بقلم الحبيب بن الخوجة بعنوان: شيخ الإسلام وشيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر بن عاشور.
(2) انظر المبحث التاسع، ص 217
(3) هو القاضي إبراهيم بن علي بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن فرحون اليعمري الجياني الأصل المدني المولد، من أهل بيت علم، كان عالماً بالفقه والنحو والأصول والفرائض والوثائق والقضاء وبالرجال وطبقاتهم، تولى قضاء المدينة، أظهر مذهب مالك بعد خموله، من تآليفه: تسهيل المهمات في شرح جامع الأمهات لابن الحاجب، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام (ط) ، الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب (ط) ، ت 799 هـ. انظر: نيل الابتهاج ص 30.
(4) هو زين الدين أبو العز طاهر بن الحسن بن عمر الحلبي الحنفي، المعروف بابن حبيب. برع في الأدب والنظم، وله مشاركة في التأريخ، من آثاره: شنف السامع في وصف الجامع (جامع بني أمية) ، حضرة النديم من تاريخ ابن العديم (في تاريخ حلب) ، أرجوزة الروض المروض في العروض، مختصر منار الأنوار للنسفي (ط) ت 808 هـ. انظر: الضوء اللامع 4 / 3.

(1/74)


المتن الرابع: قواعد الأصول لصفي الدين البغدادي الحنبلي (1) .
ويلاحظ بأن تسمية مؤلف مختصر تنقيح الفصول بالشهاب القرافي تسمية خاطئة؛ لأنه لم يؤثر عن مصنفات القرافي مثل هذا المختصر؛ ولأنه كُتِب في آخر هذا المختصر ص (104) ((والحمد لله وحده، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. قال مختصِرُهُ: حُرِّر في مدينة دمشق)) . والقرافي لم يؤثر عنه خروجه من مصر ألبتة.
وقد جاء في أول هذا المختصر قوله: الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى. أما بعد: فهذا مختصر يتضمَّن فوائد جمَّة من قواعد الأصول التي شملها تنقيح الفصول. ورتّبته على عشرين باباً. والله وليُّ التوفيق.
وهذه المتون عليها تعليقات للشيخ القاسمي (2) ، قال في نهاية تعليقه على مختصر تنقيح الفصول: ((والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وقد تمَّ تحرير هذه التعليقات في أوائل شوال عام 1324 هـ بدمشق الشام بقلم الحقير جمال الدين القاسمي. ومجموعها مستمد من شرح الإمام القرافي رحمه الله لأصله المطبوع سنة 1307 هـ، فجزاه الله خير الجزاء، آمين)) .
هذه بعض الشروحات والحواشي والمختصرات التي أمكنني الوصول إلى معرفتها، وليس يبعد وجود غيرها مما لم أعلمه؛ وذلك لشهرة كتاب " تنقيح الفصول " واهتمام ذوي العلم به.
_________
(1) هو صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق بن عبد الله، أبو الفضائل البغدادي الحنبلي، الإمام الفرضي، أقبل على العلم مطالعة ومدارسة وتصنيفاً وافتاءً، له: شرح المحرر في الفقه، تسهيل الوصول في علم الأصول، تحقيق الأمل في علمي الأصول والجدل، ومختصره: قواعد الأصول (ط) وغيرها. ت 739 هـ. انظر: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2 / 428.
(2) هو جمال الدين بن محمد سعيد بن قاسم القاسمي الدمشقي، رحل إلى مصر والمدينة، ثم استقر بدمشق وعكف على التصنيف والدروس في التفسير وعلوم الشريعة والأدب، وله تصانيف كثيرة، منها: محاسن التأويل في تفسير القرآن الكريم (ط) ، إصلاح المساجد من البدع والعوائد (ط) ، قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث (ط) ، دلائل التوحيد (ط) ، وغيرها. ت 1332 هـ. انظر: الأعلام للزركلي 2 / 131.

(1/75)