جماع العلم باب الصوم
قال الشافعي -رحمه الله تعالى-:
481 - ونجد الصوم فرضا بوقت كما أن الصلاة فرضت بوقت.
482 - ثم نجد الصوم مرخصا فيه للمسافر أن يدعه وهو مطيق له في
وقته ثم يقضيه بعد وقته وليس هكذا الصلاة لا يرخص في تأخير
الصلاة عن وقتها إلى يوم غيره ولا يرخص له في أن يقصر من الصوم
شيئا كما يرخص في أن يقصر من الصلاة ولا يكون صومه مختلفا
باختلاف حالاته في المرض والصحة.
483 - ونجده إذا جامع في صيام شهر رمضان وهو واجد أعتق وإن
جامع في الحج نحر بدنة وإن جامع في الصلاة استغفر ولم تكن عليه
كفارة والجماع في هذه الحالات كلها محرم ثم يكون جماع كثير
محرم لا يكون في شيء منه كفارة ثم نجده يجامع في صوم واجب عليه
في قضاء شهر رمضان أو كفارة قتل أو ظهار فلا يكون عليه كفارة
ويكون عليه البدل في هذا كله.
484 - ونجد المغمى عليه والحائض لا صوم عليهما ولا صلاة فإذا
أفاق المغمى عليه وطهرت الحائض فعليهما قضاء ما مضى من الصوم
في أيام إغماء هذا وحيض هذه وليس على الحائض قضاء الصلاة في
قول أحد ولا على المغمى عليه قضاء الصلاة في قولنا.
485 - ووجدت الحج فرضا على خاص وهو من وجد إليه سبيلا.
486 - ثم وجدت الحج يجامع الصلاة في شيء ويخالفها في غيره.
487 - فأما ما يخالفها فيه فإن الصلاة يحل له فيها أن يكون
لابسا
(1/51)
للثياب ويحرم على الحاج.
488 - ويحل للحاج أن يكون متكلما عامدا ولا يحل ذلك للمصلى
ويفسد المرء صلاته فلا يكون له أن يمضي فيها ويكون عليه أن
يستأنف صلاة غيرها بدلا منها ولا يكفر ويفسد حجه فيمضي فيه
فاسدا لا يكون له غير ذلك ثم يبدله ويفتدي.
489 - والحج في وقت والصلاة في وقت فإن أخطأ رجل في وقته لم
يجز عنه الحج ثم وجدتهما مأمورين بأن يدخل المصلي في وقت فإن
دخل المصلي قبل الوقت لم تجز عنه صلاته وإن دخل الحاج قبل
الوقت أجزأ عنه حجه.
490 - ووجدت للصلاة أولا وآخرا فوجدت أولها التكبير
وآخرهاالتسليم ووجدته إذا عمل ما يفسدها فيما بين أولها
وآخرهاوسلم فهذه الطريق التي عبت ووجدت للحج أولا وآخرا ثم
أجزاء بعده فأوله الإحرام ثم آخر أجزائه الرمي والحلاق والنحر
فإذا فعل هذا خرج من جميع إحرامه في قولنا ودلالة السنة إلا من
النساء خاصة وفي قول غيرنا إلا من النساء والطيب والصيد ثم
وجدته في هذه الحال إذا أصاب النساء قبل يحللن له نحر بدنه ولم
يكن مفسدا لحجه وإن لم يصيب النساء حتى يطوف حل له النساء وكل
شيء حرمه عليه الحج معكوفا على نسك من حجه من البيتوتة بمنى
ورمي الجمار والوداع يعمل هذا حلالا خارجا من إحرام الحج وهو
لا يعمل شيئا في الصلاة إلا وإحرام الصلاة قائم عليه.
491 - ووجدته مأمورا في الحج بأشياء إذا تركها كان عليه فيها
البدل بالكفارة من الدماء والصوم والصدقة وحجة ومأمورا في
الصلاة بأشياء لا تعدو واحدا من وجهين إما أن يكون تاركا لشيء
منها فتفسد صلاته
(1/52)
ولا تجزيه كفارة ولا غيرها إلا استئناف
الصلاة أو يكون إذا ترك شيئا مأمورا به غير صلب الصلاة كان
تاركا لفضل والصلاة مجزية عنه ولا كفارة عليه.
492 - ثم للحج وقت آخر وهو الطواف بالبيت بعد النحر الذي يحل
له به النساء ثم لهذا آخر وهو النفر من مني ثم الوداع وهو مخير
في النفر إن أحب تعجل في يومين وإن أحب تأخر.
أخبرنا الربيع بْن سليمان قال: قال الشافعي:
493 - أخبرنا ابن عيينة بإسناد عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لا يمسكن الناس علي بشيء فإني لا
أحل لهم إلا ما أحل الله ولا أحرم عليهم إلا ما حرم الله".
494 - قال الشافعي: هذا منقطع ونحن نعرف فقه طاوس ولو ثبت عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبين فيه
أنه على ما وصفت إن شاء الله تعالى قال: "لا يمسكن الناس علي
بشيء". ولم يقل لا تمسكوا عني بل قد أمر أن يمسك عنه وأمر الله
عز وجل بذلك.
495 - قَالَ: الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ
أَبِي النَّضْرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ
عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال: "لا أَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الأَمْرُ
مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ نَهَيْتُ عَنْهُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ
عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ مَا نَدْرِي هَذَا مَا وَجَدْنَا
فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ اتَّبَعْنَاهُ".
496 - وقد أمرنا باتباع ما أمرنا به واجتناب ما نهى عنه وفرض
الله ذلك في كتابه على خليقته وما في أيدي الناس من هذا إلا ما
تمسكوا به عن الله - تبارك وتعالى - ثم عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم عن دلالته.
497 - ولكن قوله إن كان قاله "لا يمسكن الناس علي بشيء".
(1/53)
يدل على أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عليه
وسلم إذا كان بموضع القدرة فقد كانت له خواص أبيح له فيها ما
لم يبح للناس وحرم عليه منها ما لم يحرم على الناس فقال: لا
يمسكن الناس علي بشيء من الذي لي أو علي دونهم فإن كان علي ولي
دونهم لا يمسكن به.
498 - وذلك مثل أن الله عز وجل إذا أحل له من عدد النساء ما
شاء وأن يستنكح المرأة إذا وهبت نفسها له قال الله تعالى:
{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: من
الآية50] فلم يكن لأحد أن يقول قد جمع رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين أكثر من أربع ونكح رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امرأة بغير مهر وأخذ رسول
الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفيا من المغانم وكان
لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأن الله عز وجل
قد بين في كتابه وعلى لسان رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أن ذلك له دونهم.
499 - وفرض الله عليه أن يخير أزواجه في المقام معه والفراق
فلم يكن لأحد أن يقول علي أن أخير امرأتي على ما فرض الله عز
وجل على رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
500 - وهذا معنى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إن كان قاله: "لا يمسكن الناس علي بشيء فإني لا أحل لهم إلا ما
أحل الله ولا أحرم عليهم إلا ما حرم الله".
501 - وكذلك صنع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وبذلك أمره وافترض عليه أن يتبع ما أوحى إليه ونشهد أن قد
اتبعه.
502 - فما لم يكن فيه وحي فقد فرض الله عز وجل في الوحي اتباع
سنته فيه فمن قبل عنه فإنما قبل بفرض الله عز وجل.
503 - قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ
فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] .
(1/54)
504 - وقال عز وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ
ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] .
505 - وأخبرنا عن صدقة بْن يسار عن عمر بْن عبد العزيز سأل
بالمدينة فاجتمع له على أنه لا يبين حمل في أقل من ثلاثة أشهر.
506 - قال: الشافعي إن الله عز وجل وضع نبيه صلى الله عليه
وسلم من كتابه ودينه بالموضع الذي أبان في كتابه.
507 - فالفرض على خلقه أن يكونوا عالمين بأنه لا يقول فيما
أنزل الله عليه إلا بما أنزل عليه وأنه لا يخالف كتاب الله
وأنه بين عن الله عز وعلا معنى ما أراد الله.
508 - وبيان ذلك في كتاب الله عز وجل.
509 - قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ
آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا
ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ
لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ
إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: من الآية15] .
510 - وقال الله عز وجل لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}
[الأنعام: من الآية106] .
511 – وقال مثل هذا في غير آية.
512 - وقال عز وجل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ
اللَّهَ} [النساء: من الآية80] .
513 - وقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} الآية.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:
514 - أَخْبَرَنَا الدراوادي عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو
عَنِ الْمُطَّلِبِ
(1/55)
بْنِ حَنْطَبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَا تَرَكْتُ
شَيْئًا مِمَّا أَمَرَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ إِلا وَقَدْ
أَمَرْتُكُمْ بِهِ وَلا تَرَكْتُ شَيْئًا مِمَّا نَهَاكُمْ
عَنْهُ إِلا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ".
أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ
قَالَ:
515 - أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ سَالِمٍ
أَبِي النَّضْرِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ
عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: "لا أَلْفَيَنَّ أَحَدَكُمْ مُتَّكِئًا عَلَى
أَرِيكَتِهِ يَأْتِيهِ الأَمْرُ مِمَّا أَمَرْتُ بِهِ أَوْ
نَهَيْتُ عَنْهُ فَيَقُولُ لا أَدْرِي مَا وَجَدْنَا فِي
كِتَابِ اللَّهِ اتَّبَعْنَاهُ".
516 - ومثل هذا أن الله عز وجل فرض الصلاة والزكاة والحج في
كتابه وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معنى
ما أراد الله تعالى من عدد الصلاة ومواقيتها وعدد ركوعها
وسجودها وسنن الحج وما يعمل المرء منه ويجتنب وأي المال تؤخذ
منه الزكاة وكم ووقت ما تؤخذ منه.
517 - وقال الله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: من الآية38]
518 - وقال عز ذكره: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: من الآية2]
.
519 - فلو صرنا إلى ظاهر القرآن قطعنا من لزمه اسم سرقة وضربنا
كل من لزمه اسم "زنى" مائة جلدة.
520 ولما قطع النبي في ربع دينار ولم يقطع في أقل منه ورجم
الحرين الثيبين ولم يجلدهما استدللنا على أن الله عز وجل إنما
أراد بالقطع والجلد بعض السراق دون بعض وبعض الزناة دون بعض.
521 - ومثل هذا لا يخالفه المسح على الخفين:
522 - قال الله عز وجل: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
(1/56)
إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا
بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:
من الآية6]
523 - فلما مسح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على
الخفين استدللنا على أن فرض الله عز وجل غسل القدمين إنما هو
على بعض المتوضئين دون بعض وأن المسح لمن أدخل رجليه في الخفين
بكمال الطهارة استدلالا بسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه لا يمسح والفرض عليه غسل القدم كما لا
يدرأ القطع عن بعض السراق وجلد المائة عن بعض الزناة والفرض
عليه أن يجلد ويقطع.
524 - فإذا ذهب ذاهب إلى أنه قد يروى عن بعض أصحاب النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه
قال: سبق الكتاب المسح على الخفين؟.
525 - فالمائدة نزلت قبل المسح المثبت بالحجاز في غزاة تبوك
والمائدة قبله.
526 - وإن زعم أنه كان فرض وضوء قبل الوضوء الذي مسح رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفرض وضوء بعده فنسخ المسح.
527 - فليأتنا بفرض وضوءين في القرآن فإنا لا نعلم فرض الوضوء
إلا واحدا.
528 - وإن زعم أنه مسح قبل يفرض عليه الوضوء فقد زعم أن الصلاة
بلا وضوء ولا نعلمها كانت قط إلا بوضوء.
529 - فأي كتاب سبق المسح على الخفين؟!.
530 - المسح كما وصفنا من الاستدلال لسنة رسول الله صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما كان جميع ما سن رسول الله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من فرائض الله - تبارك
وتعالى - مثل ما وصفنا من السارق والزاني وغيرهما.
531 - قال الشافعي: ولا تكون سنة أبدا تخالف القرآن والله
تعالى الموفق.
(1/57)
|