رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب

 (هَل الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ)

(مَسْأَلَة:)

الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ خلافًا للكرخي والرازي. لنا: أَنه طَاعَة، ... ... ...
هَامِش
وَذكر ابْن الْأَنْبَارِي أَن مَا قَالَه الإِمَام ضَعِيف؛ لِأَن مدَار مَسْأَلَة النزع عَلَيْهِ على أَنه وطئ فيفطر بِهِ أم لَا فَلَا، سَوَاء كَانَ مُتَعَمدا أم نَاسِيا.
قلت: قد يَقُول الإِمَام: هُوَ وَطْء إِن كَانَ مُتَعَمدا غير وطي إِن كَانَ نَاسِيا، وَهَذَا لِأَن النزع صَالح [لِأَن يكون] وطئا؛ لما فِيهِ من نوع الِاسْتِمْتَاع. وَألا يكون لكَونه خُرُوجًا ضَرُورِيًّا فيميزه الْقَصْد فَيتَّجه مَا قَالَه.
وَالْإِمَام قد قَالَ: نَظِير هَذَا فِيمَا إِذا طلع الْفجْر وَهُوَ يُجَامع وَعلم بِهِ فَمَكثَ، حَيْثُ رد على من قَالَ: ينْعَقد صَوْمه، ثمَّ يفْسد بِأَن النزع إِنَّمَا لَا يُنَافِي الصَّوْم إِذا قصد التّرْك.
أما إِذا لم يقْصد فينافيه، فَانْظُر كَيفَ فرق بَين الْقَصْد وَعَدَمه فرقا يتَغَيَّر بِهِ حكمه.
وَمن فروع الْمَسْأَلَة: اخْتِلَاف أَصْحَابنَا فِيمَن أحرم نازعا عَن الْجِمَاع، هَل ينْعَقد صَحِيحا أَو فَاسِدا، أَو لَا ينْعَقد أصلا؟ حَكَاهُ ابْن الرّفْعَة، وَالشَّيْخ الإِمَام أبي فِي " شرح الْمِنْهَاج ".
وَكَذَلِكَ الصَّائِم - هَل انْعَقَد ثمَّ فسد كَمَا قُلْنَاهُ - وَاخْتَارَهُ أبي رَحمَه الله وَأطَال الْبَحْث فِيهِ - أَو لم ينْعَقد كَمَا نَص الإِمَام.
(" مَسْأَلَة ")

الشَّرْح: " الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ " حَقِيقَة، وَهُوَ رَأْي القَاضِي، " خلافًا للكرخي والرازي " من

(1/557)


وَأَنَّهُمْ قسموا الْأَمر إِلَى إِيجَاب وَندب.
هَامِش الْحَنَفِيَّة، وَالشَّيْخ أبي حَامِد، وَالْقَاضِي أبي الطّيب، وَابْن الصّباغ، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَالْإِمَام الرَّازِيّ وَغَيرهم من الشَّافِعِيَّة.
فَإِن قلت: كَيفَ يكون الْمَنْدُوب عِنْد المُصَنّف كَذَلِك، وسيقول فِي بَاب الْأَمر: إِن صِيغَة: " افْعَل " حَقِيقَة فِي الْوُجُوب.
قلت: الْكَلَام هُنَا فِي الْأَمر - أَمر - لَا فِي صِيغَة " افْعَل "، وَالْأَمر مقول على الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب بِالْحَقِيقَةِ.
و" افْعَل " مُخْتَصَّة بِالْوُجُوب، فالندب مَأْمُور بِهِ حَقِيقَة، وَلَا يدْخل فِيهِ صِيغَة " افْعَل "

(1/558)


صفحة فارغة
هَامِش حَقِيقَة، هَذَا مَا تحرر من كَلَام المُصَنّف، وَبِه يظْهر أَن كَلَامه غير مُخْتَلف، وَلَوْلَا ذَلِك لناقض كَلَامه هُنَا مَا قَالَه فِي بَاب الْأَمر، وَهَذِه طَريقَة الْآمِدِيّ.
وَطَرِيقَة الإِمَام الرَّازِيّ: أَنه لَا فرق بَين الْأَمر وَصِيغَة " افْعَل ".
ويعضد طَريقَة الْآمِدِيّ تَصْرِيح بعض أَصْحَابنَا بِأَن الْأَمر حَقِيقَة فِي الْوُجُوب، مَعَ أَن الْمَنْدُوب مَأْمُور بِهِ حَقِيقَة كَمَا نَقله الشَّيْخ أَبُو حَامِد، وَابْن السَّمْعَانِيّ وَغَيرهمَا، إِلَّا أَنَّهُمَا صرحا بِأَن مَأْخَذ هَذَا الْقَائِل أَن الْوَاجِب مَا يُثَاب [على] فعله، ويعاقب على تَركه، وَالْمَنْدُوب مَا يُثَاب على فعله وَلَا يُعَاقب على تَركه، فَإِذا اسْتعْمل الْأَمر فِي النّدب، فقد اسْتعْمل فِي بعض مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ الْوَاجِب فَكَانَ حَقِيقَة كحمل الْعُمُوم على بعض مَا يتَنَاوَلهُ.
وَلذَلِك قَالَ سليم الرَّازِيّ فِي " التَّقْرِيب ": وَنَقله عَن أَكثر أَصْحَابنَا، وَنقل كَونه مجَازًا عَن أهل " الْعرَاق ".
قلت: وَهَذَا فِيهِ نظر من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن اللَّفْظ إِذا أطلق على بعض مَدْلُوله الْحَقِيقِيّ كَانَ مجَازًا، وَكَذَلِكَ نقُول: فِي الْعَام يُطلق على الْخَاص.
وَالثَّانِي: أَن الْمَنْدُوب لَيْسَ بعض الْوَاجِب، بل هُوَ قسيمه، وَإِن اشْتَركَا فِي الثَّوَاب على الْفِعْل، فَافْهَم ذَلِك.
قَالَ: " لنا " وَجْهَان:
أَحدهمَا: " أَنه طَاعَة " إِجْمَاعًا، وَلذَلِك يعْقد الْفُقَهَاء بَاب صَلَاة التَّطَوُّع للنوافل، وَالطَّاعَة امْتِثَال الْأَمر، فَيكون مَأْمُورا بِهِ
وَالثَّانِي: " أَنهم قسموا الْأَمر إِلَى إِيجَاب وَندب "، ومورد التَّقْسِيم مُشْتَرك بَين الْقسمَيْنِ. وَقد يمْنَع كبرى الأول، وَيُقَال: الطَّاعَة فعل الْمَطْلُوب، وَهُوَ أَعم من الْأَمر، وَالْمَنْدُوب طَاعَة؛ لِأَنَّهُ مُقْتَضى مِمَّن لَهُ الِاقْتِضَاء.
قَالَ ابْن الْقشيرِي: وَرُبمَا كَانَ طَاعَة لوُرُود الْوَعْد بالثواب عَلَيْهِ. وَقد يمْنَع صغرى الثَّانِي وَيُقَال: لَا نسلم أَنهم قسموا.

(1/559)


قَالُوا: لَو كَانَ، لَكَانَ تَركه مَعْصِيّة؛ لِأَنَّهَا مُخَالفَة الْأَمر، وَلما صَحَّ " لأمرتهم بِالسِّوَاكِ ". قُلْنَا: الْمَعْنى أَمر الْإِيجَاب فيهمَا.
هَامِش
الشَّرْح: " قَالُوا: لَو كَانَ " مَأْمُورا بِهِ لَكَانَ " تَركه مَعْصِيّة؛ لِأَنَّهَا " - أَي: الْمعْصِيَة - " مُخَالفَة الْأَمر وَلما صَحَّ " قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة " رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم؛ لِأَنَّهُ ندبهم إِلَيْهِ.
وَقَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَو كَانَ وَاجِبا لأمرهم بِهِ، شقّ أم لم يشق عَلَيْهِم.
" قُلْنَا ": " نعني أَمر الْإِيجَاب فيهمَا " - أَي: فِي قَوْلكُم: الْمعْصِيَة مُخَالفَة الْأَمر، وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " لأمرتهم " - لَا مُطلق الْأَمر.
وَهَذَا وَإِن كَانَ خلاف الأَصْل، وَلَكِن يُصَار إِلَيْهِ بِمَا ذَكرْنَاهُ من الدَّلِيل.
وَلقَائِل أَن يَقُول: هَذَا يُقَال لَك أَيْضا فِي بَاب الْأَمر، حَيْثُ قلت: تَارِك الْمَأْمُور عَاص بِدَلِيل: {أفعصيت أَمْرِي} [سُورَة طه: الْآيَة 93] .

(1/560)


(مَسْأَلَة:)

الْمَنْدُوب لَيْسَ بتكليف، خلافًا للأستاذ، وَهِي لفظية.
هَامِش
فَنَقُول: الْمَعْنى بِمَا يَعْصِي بِتَرْكِهِ أَمر الْإِيجَاب بِمَا ذَكرْنَاهُ من الدَّلِيل.
(" مَسْأَلَة ")

الشَّرْح: " الْمَنْدُوب لَيْسَ بتكليف، خلافًا للأستاذ "، وَالْقَاضِي وَهِي مَسْأَلَة " لفظية " رَاجِعَة إِلَى تَفْسِير التَّكْلِيف فيهمَا.
يَقُولَانِ: الدُّعَاء إِلَى مَا فِيهِ كلفة ومشقة، والنوافل من ذَلِك، وَنحن نقُول: بل إِلْزَام مَا فِيهِ كلفة.

(1/561)


(مبَاحث الْمَكْرُوه)

(مَسْأَلَة:)

الْمَكْرُوه مَنْهِيّ عَنهُ غير مُكَلّف بِهِ، كالمندوب، وَيُطلق أَيْضا على الْحَرَام، وعَلى ترك الأولى.
هَامِش
(" مَسْأَلَة ")

الشَّرْح: " الْمَكْرُوه " فِيهِ أبحاث.
أَحدهَا: " مَنْهِيّ عَنهُ ".

(1/562)


صفحة فارغة
هَامِش
وَالثَّانِي: أَنه " غير مُكَلّف بِهِ " على الْمُخْتَار فيهمَا، " كالمندوب " مَأْمُور غير مُكَلّف بِهِ. والمخالف ثمَّ مُخَالف هُنَا.
وَالثَّالِث: أَنه " يُطلق أَيْضا على الْحَرَام ".
وَهُوَ كثير فِي كَلَام الشَّافِعِي وَغَيره من الأقدمين، وَكَانُوا يتورعون عَن اسْتِعْمَال لَفْظَة الْحَرَام والحلال فِي المجتهدات، خشيَة وفرقا من قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقولُوا لما تصف أَلْسِنَتكُم الْكَذِب هَذَا حَلَال وَهَذَا حرَام} [سُورَة النَّحْل: الْآيَة 116] .
" وعَلى ترك الأولى ".

(1/563)


تمّ الْجُزْء الأول من كتاب رفع الْحَاجِب عَن مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب
ويليه الْجُزْء الثَّانِي وأوله مَسْأَلَة إِطْلَاق الْجَائِز على الْمُبَاح

(1/564)