رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (مُقَدّمَة الْوَاجِب)
(مَسْأَلَة:)
مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ، وَكَانَ مَقْدُورًا شرطا،
وَاجِب ... ... ... ... ...
هَامِش لِأَن التَّأْخِير من وَقت إِلَى مثله لَا يعد تفويتا،
إِلَّا أَنه صَار فائتا [بِمَعْنى] من قبل الله - تَعَالَى -
فَلم يجز أَن يُوصف بالعصيان، وَهُوَ كالمضيق إِذا لم تساعده
الْحَيَاة فِي وقته هَذَا حَاصِل كَلَامه، وَهُوَ مَعْرُوف
مِمَّا قُلْنَاهُ قَابل للتشكيك.
(" مَسْأَلَة ")
الشَّرْح: " مَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ " مِمَّا ورد
الْأَمر فِيهِ مُطلقًا كَالصَّلَاةِ " وَكَانَ مَقْدُورًا "
للمكلف " شرطا " لحُصُول الْمَأْمُور بِهِ كالطهارة للصَّلَاة
- " وَاجِب ".
وَقَوْلنَا: " مُطلقًا " - احْتِرَاز من الْوُجُوب الْمُقَيد
بِشَرْط، كَالزَّكَاةِ، وُجُوبهَا مُتَوَقف على النّصاب،
وَالْجُمُعَة، على الْأَرْبَعين، وَلَا يجب تَحْصِيلهَا، "
والمقدور " - احْتِرَاز من قدرَة
(1/528)
وَالْأَكْثَر: وَغير شَرط؛ كَتَرْكِ
الأضداد فِي الْوَاجِب، وَفعل ضد فِي الْمحرم، وَغسل جُزْء
الرَّأْس. وَقيل: لَا، فيهمَا.
هَامِش العَبْد على الْفِعْل وداعيته المخلوقين لله تَعَالَى.
وَلَا تتمّ الْوَاجِبَات الْمُطلقَة إِلَّا بهَا، وَلَا يجب
تحصيلهما، وَلَا يتَوَقَّف الْوُجُوب عَلَيْهِمَا.
(1/529)
صفحة فارغة
هَامِش
وَقيل: إِن كَانَ سَببا لتَحْصِيل الْوَاجِب كَانَ وَاجِبا،
وَإِن كَانَ شرطا فَلَا، وَرُبمَا أوهم إِطْلَاق
(1/530)
صفحة فارغة
هَامِش المُصَنّف أَن السَّبَب لَا يجب تَحْصِيله، بِخِلَاف
الشَّرْط، وَهَذَا لَا يَقُوله أحد، فَإِن السَّبَب أولى
بِالْوُجُوب.
وَإِنَّمَا مُرَاده أَنه يجب الشَّرْط الشَّرْعِيّ دون مَا
عداهُ الشُّرُوط الْعَقْلِيَّة والعادية، وَهُوَ رَأْي إِمَام
الْحَرَمَيْنِ.
وَإِنَّمَا أطلق فِي الْكتاب قَوْله: شرطا، وَلم يُقيد
بالشرعي؛ لِأَنَّهُ لَا يُسمى الْعقلِيّ والعادية شُرُوطًا
كَمَا ظهر من كَلَام إِمَام الْحَرَمَيْنِ.
ومحاولة بعض الشَّارِحين أَن المُصَنّف يخْتَار وجوب الشَّرْط
دون السَّبَب إِيقَاع للْمُصَنف فِي خرق الْإِجْمَاع الَّذِي
سينقله هُوَ من بعد، وإلزام لَهُ بِمَا لَا [ينتهض] بِهِ
تَوْجِيه.
وَالْحق عندنَا - وَهُوَ اخْتِيَار الشَّيْخ الإِمَام
وَعَلِيهِ الْأَكْثَر - وُجُوبه مُطلقًا شرطا، وَغير شَرط،
مِمَّا يلْزم فعله عقلا " كَتَرْكِ الأضداد فِي الْوَاجِب،
وَفعل ضد فِي الْمحرم "، وَعَادَة نَحْو " غسل جُزْء من
الرَّأْس " لتحَقّق غسل الْوَجْه كُله.
(1/531)
7
- لنا: لَو لم يجب الشَّرْط، لم يكن شرطا.
هَامِش
ثمَّ قَالَ أَكْثَرهم: إِن ذَلِك لَيْسَ من صِيغَة اللَّفْظ،
بل من دلَالَته، وَهُوَ الصَّحِيح.
وَاقْتضى كَلَام ابْن السَّمْعَانِيّ أَن مِنْهُم من يَقُول:
بِأَنَّهُ من نفس الصِّيغَة يَقْتَضِي ذَلِك وَهُوَ سَاقِط.
" وَقيل: لَا " وجوب " فيهمَا " أَي: فِي الشَّرْط وَغَيره.
وَزعم ابْن الْأَنْبَارِي أَنه لَا خلاف فِي وجوب الشَّرْط
الشَّرْعِيّ، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَلَو تمّ لاتجه للْمُصَنف أَن
يَقُول بِوُجُوب الشَّرْط الشَّرْعِيّ دون السَّبَب؛ لِأَن لنا
قَائِلا بِأَن السَّبَب لَا يجب. فَإِذا قَامَ الْإِجْمَاع
مَعَ ذَلِك على وجوب الشَّرْط كَانَ السَّبَب أولى، بِأَن
يُقَال بِوُجُوبِهِ، وَلَكِن ذَلِك مَرْدُود نقلا وَمعنى لَا
[تقوم] بِهِ الْحجَّة.
الشَّرْح: " لنا " على وجوب الشَّرْط الشَّرْعِيّ أَنه " لَو
لم يجب الشَّرْط لم يكن شرطا "، والتالي بَاطِل؛ لِأَنَّهُ
خلاف الْفَرْض.
وَبَيَان الْمُلَازمَة: أَن الشَّرْط إِذا لم يجب جَازَ تَركه،
فَإِذا تَركه، فإمَّا أَن يكون الْفِعْل إِذْ ذَاك مَأْمُورا
بِهِ، أَو لَا، والتالي بَاطِل، فَيلْزم أَن يتَقَيَّد
الْوُجُوب بِوَقْت وجود الشَّرْط، وَهُوَ خلاف الْفَرْض؛ لِأَن
صُورَة الْمَسْأَلَة: إِذا ورد الْأَمر مُطلقًا غير مُتَوَقف
بِحَالَة حُصُول المتوقف عَلَيْهِ.
(1/532)
وَفِي غَيره، لَو استلزم الْوَاجِب
وُجُوبه، لزم تعقل الْمُوجب لَهُ، وَلم يكن تعلق الْوُجُوب
لنَفسِهِ، ولامتنع التَّصْرِيح بِغَيْرِهِ، ولعصى بِتَرْكِهِ،
ولصح قَول الكعبي فِي نفي الْمُبَاح، ولوجبت نِيَّته.
هَامِش
وَالْأول إِمَّا أَن يكون الْفِعْل مُمكن الْحُصُول عِنْد عدم
الشَّرْط أَو لَا، والتالي بَاطِل، وَإِلَّا يلْزم تَكْلِيف
مَا لَا يُطَاق، فَيتَحَقَّق الأول، وَهُوَ كَونه غير شَرط.
الشَّرْح: " وَفِي " الدّلَالَة على عدم وجوب " غَيره ".
قَالَ المُصَنّف: " لَو استلزم الْوَاجِب وُجُوبه لزم تعقل
الْمُوجب لَهُ "، وَإِلَّا أدّى إِلَى الْأَمر بِمَا لَا
شُعُور لَهُ بِهِ، وَهُوَ قد يغْفل عَنهُ.
وَأَيْضًا: " لم يكن تعلق الْوُجُوب " الَّذِي هُوَ الطّلب
الْجَازِم بِغَيْر الشَّرْط " لنَفسِهِ ". لَكِن الطّلب
الَّذِي هُوَ نِسْبَة بَين الطَّالِب وَالْمَطْلُوب مَا لَا
يعقل مِنْهُ غير الْمَطْلُوب فَلَا يسْتَلْزم إِيجَاب شَيْء
غَيره.
وَأَيْضًا: لَو كَانَ مستلزما وُجُوبه " لامتنع التَّصْرِيح
بِغَيْرِهِ "، وَلَا يمْتَنع أَن يَقُول: لَا يجب غسل شَيْء
زَائِد على الْوَجْه مثلا.
وَأَيْضًا: لَو استلزم " لعصى بِتَرْكِهِ "، وتارك مُقَدّمَة
الْوَاجِب إِنَّمَا يَعْصِي بترك الْوَاجِب لَا بترك
الْمُقدمَة.
" ولصح قَول الكعبي فِي نفي الْمُبَاح "؛ لِأَن فعل الْوَاجِب
- وَهُوَ ترك الْحَرَام - لَا يتم إِلَّا بِهِ فَيجب.
وَفِي بعض النّسخ - وَلَيْسَ فِي أصل المُصَنّف - " ولوجبت
نِيَّته "؛ لِأَنَّهُ عبَادَة، وَلَا تجب إِجْمَاعًا.
وَلقَائِل أَن يَقُول: على الأول، لَا نسلم الْغَفْلَة عَنهُ
على الْجُمْلَة.
(1/533)
قَالُوا: لَو لم يجب، لصَحَّ دونه، وَلما
وَجب التَّوَصُّل إِلَى ... ... ... ... ... ...
هَامِش
سلمنَا، وَلَكِن لم قُلْتُمْ بامتناع الْغَفْلَة عَنهُ:
إِنَّمَا يمْتَنع الْغَفْلَة عَمَّا يجب بِالذَّاتِ؟ أما مَا
يكون مُقَدّمَة للْوَاجِب فقد يغْفل عَنهُ، ثمَّ يجب تبعا.
وعَلى الثَّانِي: أَن مَا ذكره جَار فِي الشَّرْط الشَّرْعِيّ،
فَلم أوجبه.
وَالتَّحْقِيق: أَن إِجَابَة الْمُقدمَة لَيْسَ بِذَاتِهِ، بل
بِالدّلَالَةِ والاستلزام، كَمَا نَقَلْنَاهُ عَن الْأَكْثَر.
وعَلى الثَّالِث: أَنه مُلْتَزم إِن أُرِيد وجوب الْوَسَائِل،
وَغير لَازم إِن أُرِيد وجوب الْمَقَاصِد.
وعَلى الرَّابِع: أَنه مُلْتَزم أَيْضا.
وعَلى الْخَامِس: أَن قَول الكعبي بِهَذَا الطَّرِيق، هُوَ
الْمُخْتَار على مَا حقق فِي مَكَانَهُ.
وعَلى السَّادِس: أَنه غير لَازم، وَإِنَّمَا تجب نِيَّة
الْعِبَادَة الْمَقْصُودَة بِنَفسِهَا.
وَهَذَا هُوَ السِّرّ فِي قيام الْإِجْمَاع على أَن الصَّائِم
يخص النِّيَّة بالإمساك الْوَاقِع فِي النَّهَار، وَلَا يجب
عَلَيْهِ أَن يبسط النِّيَّة على مَا وَرَاءه، وَإِن قيل:
بِوُجُوب الْإِمْسَاك فِيهِ.
الشَّرْح: وأصحابنا " قَالُوا: لَو لم يجب " مَا لَا يتم
الْوَاجِب إِلَّا بِهِ مُطلقًا " لصَحَّ " الْوَاجِب " دونه "،
لِأَنَّهُ آتٍ - وَالْحَالة هَذِه - بِكُل مَا وَجب عَلَيْهِ،
وَالْفَرْض أَن الْوَاجِب مُمْتَنع إِلَّا بِهِ.
وَأَيْضًا: لَو لم يجب " لما وَجب التَّوَصُّل إِلَى
الْوَاجِب، والتوصل " إِلَى الْوَاجِب " وَاجِب بِالْإِجْمَاع
".
" وَأجِيب إِن أُرِيد بِلَا يَصح " دونه، وَبِأَن التَّوَصُّل
إِلَى الْوَاجِب " وَاجِب "، أَنه " لَا بُد مِنْهُ فَمُسلم "،
وَلَيْسَ مَحل النزاع، " وَإِن أُرِيد " أَنه " مَأْمُور بِهِ
" شرعا، " فَأَيْنَ دَلِيله "؟
وَمَا ذكر من الْإِجْمَاع مَمْنُوع قِيَامه، " وَإِن سلم
الْإِجْمَاع فَفِي الْأَسْبَاب " دون الشُّرُوط الْعَقْلِيَّة
والعادية، وَهِي فِي الْأَسْبَاب " بِدَلِيل خارجي "، لَا من
جِهَة كَونه وَسِيلَة، فَلَا يدل على إِيجَاب الْوَسِيلَة
مُطلقًا.
وَهَذَا يعرفك أَن المُصَنّف يخْتَار وجوب السَّبَب، بل يسلم
قيام الْإِجْمَاع عَلَيْهِ.
(1/534)
الْوَاجِب، والتوصل وَاجِب بِالْإِجْمَاع.
وَأجِيب إِن أُرِيد ب " لَا يَصح وواجب ": لَا بُد مِنْهُ،
هَامِش
(" فروع ")
إِذا ترك وَاحِدَة من الْخمس، وَجَهل عينهَا، وَجب الْخمس.
وَالأَصَح: إِيجَاب تيَمّم وَاحِد، لَا خمس تيممات؛ لِأَن
الْأَرْبَع - من حَيْثُ إِنَّهَا لم ترد لنَفسهَا - منحطة عَن
مَرَاتِب الْفَرَائِض.
وَإِذا قَالَ: إِحْدَاكُمَا طَالِق، حيل بَينه وَبَينهمَا
إِلَى أَن يعين، خلافًا لأبي عَليّ بن أبي هُرَيْرَة.
وَفِي الزَّائِد على مَا ينْطَلق عَلَيْهِ الِاسْم من الْمسْح،
وَقدر قيمَة الشَّاة من الْبَعِير الْمخْرج عَن الشَّاة
الْوَاجِبَة فِي الزَّكَاة، وَمن الْبَدنَة الَّتِي يذبحها
الْمُتَمَتّع بَدَلا عَن الشَّاة، وَحلق جَمِيع الرَّأْس،
وَتَطْوِيل أَرْكَان الصَّلَاة زِيَادَة على مَا يجوز
الِاقْتِصَار عَلَيْهِ، والبدنة المضحى بهَا بَدَلا عَن
الشَّاة المقدورة، هَل يُوصف بِالْوُجُوب؟
خلاف، رجح الإِمَام الرَّازِيّ أَنه لَا يُوصف.
وَهل يخْتَص الْخلاف فِي مسح الرَّأْس مثلا، بِمَا إِذا وَقع
دفْعَة وَاحِدَة، أم
(1/535)
فَمُسلم، وَإِن أُرِيد: مَأْمُور بِهِ،
فَأَيْنَ دَلِيله، وَإِن سلم الْإِجْمَاع، فَفِي الْأَسْبَاب
بِدَلِيل خارجي.
هَامِش صفحة فارغة
(1/536)
(تَحْرِيم وَاحِد لَا بِعَيْنِه)
(مَسْأَلَة:)
يجوز أَن يحرم وَاحِد لَا بِعَيْنِه، خلافًا للمعتزلة، وَهِي
كالمخير.
هَامِش يُجزئ وَإِن وَقع مُرَتبا؟ فِيهِ وَجْهَان.
وَفَائِدَة الْخلاف تظهر فِي الثَّوَاب، فَإِن ثَوَاب
الْفَرِيضَة أَكثر من ثَوَاب النَّافِلَة، وَفِيمَا إِذا عجل
الْبَعِير عَن شَاة، وَاقْتضى الْحَال الرُّجُوع بِجَمِيعِهِ
أَو بسبعه. فِيهِ وَجْهَان فِي " شرح الْمُهَذّب " وَغير
ذَلِك.
وَمن مُقَدّمَة الْوَاجِب مُؤنَة الْكَيْل الَّذِي يفْتَقر
إِلَيْهِ الْقَبْض، وَهُوَ على البَائِع كمؤنة إِحْضَار
الْمَبِيع الْغَائِب، وَمؤنَة وزن الثّمن على المُشْتَرِي،
وَفِي أُجْرَة نقد الثّمن وَجْهَان.
وَإِذا خَفِي عَلَيْهِ مَوضِع النَّجَاسَة من الثَّوْب أَو
الْبدن غسله كُله.
وَإِذا اكترى دَابَّة للرُّكُوب أطلق الْأَكْثَرُونَ أَن على
الْمُكْتَرِي الإكاف والبردعة والحزام وَمَا ناسب ذَلِك،
لِأَنَّهُ لَا يتَمَكَّن من الرّكُوب دونهَا.
(" مَسْأَلَة ")
الشَّرْح: " يجوز أَن يحرم وَاحِدًا لَا بِعَيْنِه " - أَي:
مُبْهَم من أَشْيَاء - فقد يرد التَّخْيِير بَين
(1/537)
صفحة فارغة
هَامِش ضدين لَا ثَالِث لَهما.
وَالْمعْنَى ملاءمة الْمُكَلف أحد الضدين الَّذِي اخْتَار
وآثره على نقيضيه، مثل: أَنهَاك عَن الْحَرَكَة، أَو السّكُون،
أَحْبَبْت أَيهمَا شِئْت، وَلَا تَأْكُل اللَّبن أَو السّمك،
فقد منعتك عَن أَحدهمَا مُبْهما، لَا عَن كليهمَا جَمِيعًا،
وَلَا عَن أَحدهمَا معينا، " خلافًا للمعتزلة "؛ إِذْ منعُوا
ذَلِك. " وَهِي كالمخير " خلافًا وحجاجا.
وفيهَا زِيَادَة، وَهِي دَعْوَى بعض الْمُخَالفين، كَمَا نقل
الْمَازرِيّ أَن اللُّغَة لم ترد بذلك قَالَ: أَلا ترى أَن
قَوْله سُبْحَانَهُ: {وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفورا}
[سُورَة الْإِنْسَان: الْآيَة 24] مَحْمُول على أَنه نهى عَن
طاعتهما.
قَالَ الْمَازرِيّ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، قَالَ: وَلَوْلَا
الْإِجْمَاع على أَن المُرَاد فِي الشَّرْع النَّهْي عَن
طَاعَة الْجَمِيع لم تحمل الْآيَة على ذَلِك.
فَاعْلَم أَن الْقَرَافِيّ فرق بَين الْأَمر الْمُخَير،
وَالنَّهْي الْمُخَير؛ بِأَن الْأَمر يتَعَلَّق بِمَفْهُوم
أَحدهَا، والخصوصيات بتعلق التَّخْيِير، وَلَا يلْزم من
إِيجَاب الْمُشْتَرك إِيجَاب الخصوصيات كَمَا مضى.
وَأما النَّهْي فَإِنَّهُ إِذا تعلق بالمشترك لزم مِنْهُ
تَحْرِيم الخصوصيات؛ لِأَنَّهُ لَو دخل مِنْهُ فَرد إِلَى
الْوُجُود لدخل فِي ضمنه الْمُشْتَرك الْمحرم وَوَقع
الْمَحْذُور، كَمَا إِذا حرم الْخِنْزِير، يلْزم تَحْرِيم
السمين مِنْهُ والهزيل والطويل والقصير.
وَتَحْرِيم الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ، وَنَحْوه، إِنَّمَا
لَاقَى الْمَجْمُوع عينا لَا الْمُشْتَرك بَين الْأَفْرَاد،
(1/538)
(مَسْأَلَة:)
يَسْتَحِيل كَون الشَّيْء وَاجِبا حَرَامًا من جِهَة وَاحِدَة
إِلَّا عِنْد بعض من يجوز تَكْلِيف الْمحَال. وَأما الشَّيْء
الْوَاحِد، لَهُ جهتان؛ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّار
الْمَغْصُوبَة،
هَامِش فالمطلوب فِيهِ أَلا يدْخل مَاهِيَّة الْمَجْمُوع فِي
الْوُجُود، والماهية تنعدم بانعدام جُزْء مِنْهَا، فَأَي أُخْت
تَركهَا خرج عَن عُهْدَة الْمَجْمُوع، فَلَيْسَ كالأمر.
(" مَسْأَلَة ")
الشَّرْح: " يَسْتَحِيل كَون الشَّيْء وَاجِبا حَرَامًا من
جِهَة وَاحِدَة "، وَحِينَئِذٍ فَلَا يُكَلف بِهِ " إِلَّا
عِنْد بعض من يجوز تَكْلِيف الْمحَال "، أَي: التَّكْلِيف
بِمَا لَا يُطَاق.
وَعند الآخرين يمْتَنع، لما فِيهِ من التَّنَاقُض.
" وَأما الشَّيْء الْوَاحِد " الَّذِي " لَهُ جهتان " غير
[متلازمتين] ، فَإِنَّهُ يجوز توارد الْأَمر وَالنَّهْي،
بِاعْتِبَار جهتيه " كَالصَّلَاةِ فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة
"، مَأْمُور بهَا من حَيْثُ إِنَّهَا صَلَاة، مَنْهِيّ عَنْهَا
من حَيْثُ إِنَّهَا شغل ملك الْغَيْر عُدْوانًا، فقد اخْتلفُوا
فِيهِ.
" فالجمهور " قَالُوا: " يَصح ".
" وَالْقَاضِي " قَالَ: " لَا يَصح، وَيسْقط الطّلب عِنْدهَا
".
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وَهُوَ هذيان. وَقَالَ " أَحْمد
وَأكْثر الْمُتَكَلِّمين: لَا يَصح، وَلَا يسْقط ".
وَذكر بعض أَصْحَابنَا للمسألة
أصلا، وَهُوَ أَن الْأَمر الْمُطلق لَا [يتَنَاوَل]
الْمَكْرُوه عندنَا، وَإِن لم يكن محرما.
وَقَالَ الْحَنَفِيَّة: يتَنَاوَلهُ.
وَاحْتج أَصْحَابنَا بِأَن الْمَكْرُوه مَطْلُوب التّرْك،
فَكيف ينْدَرج تَحت الْأَمر الَّذِي هُوَ طلب الْفِعْل،
[وَالْجمع بَين طلب الْفِعْل] وَالتّرْك فِي فعل وَاحِد من
وَجه وَاحِد يتناقض، ثمَّ إِذا لم
(1/539)
صفحة فارغة
هَامِش يدْخل الْمُبَاح تَحت قَضِيَّة الْأَمر، فَكيف يدْخل
الْمَمْنُوع، وَإِذا تحقق ذَلِك وَجب أَن يكون الْمَأْمُور
بِفعل إِذا فعله على وَجه كره الشَّرْع إِيقَاعه عَلَيْهِ لَا
يكون ممتثلا، وينعطف من كراهيته الْإِيقَاع على هَذَا
الْوَجْه، فَيدل على الْأَمر الْمُطلق.
قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: وَهَذِه الْمَسْأَلَة مثلهَا
الْأَئِمَّة بالترتيب فِي الْوضُوء، فَمن يرَاهُ يَقُول:
المنكس مَكْرُوه، فَلَا يدْخل تَحت مُقْتَضى الْأَمر.
وَقَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: تظهر فَائِدَة الْخلاف فِي
قَوْله تَعَالَى: {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} [سُورَة
الْحَج: الْآيَة 29] .
فعندنا: هَذَا لَا يتَنَاوَل الطّواف بِغَيْر طَهَارَة، وَلَا
المنكس، وَعِنْدهم يتَنَاوَلهُ فَإِنَّهُم وَإِن اعتقدوا
كَرَاهَته ذَهَبُوا إِلَى أَنه دخل فِي الْأَمر وأجزأ.
قلت: وَفَائِدَة هَذَا أَن من يَدعِي دُخُول الْمَكْرُوه تَحت
الْأَمر يسْتَدلّ بِالْأَمر عَلَيْهِ، وَلَا يحْتَاج إِلَى
دَلِيل من خَارج، بِخِلَاف من يُنكره، فالشافعي مثلا، يُطَالب
الْحَنَفِيّ بِالدَّلِيلِ على إِجْزَاء المنكس فِي الْوضُوء
وَالطّواف.
فَإِن قَالَ: الِاسْم صَادِق عَلَيْهِ، فَدخل تَحت عُمُوم
الْأَمر، مَنعه، وَقَالَ: إِنَّمَا يدْخل تَحت عُمُوم الْأَمر،
مَا يكون مَطْلُوبا، وَهَذَا مَكْرُوه بالِاتِّفَاقِ، وَسَوَاء
كَانَ مجزئا كَمَا يَقُولُونَ، أم لَا.
قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وَهَذَا الْمِثَال - يَعْنِي
الطّواف - إِنَّمَا يتَصَوَّر على أصلهم. وَأما عندنَا
فَلَيْسَ هُوَ بِطواف أصلا.
قلت: هَذَا يَنْبَنِي على أَن الْعِبَادَات الشَّرْعِيَّة، هَل
هِيَ مَوْضُوعَة للصحيح فَقَط، أَو لما هُوَ أَعم من الصَّحِيح
وَالْفَاسِد؟ وسنتكلم على ذَلِك فِي بَاب النواهي، إِن شَاءَ
الله تَعَالَى.
(1/540)
فالجمهور: تصح، وَالْقَاضِي: لَا تصح،
وَيسْقط الطّلب عِنْدهَا. وَأحمد وَأكْثر
هَامِش
قلت: وَتظهر فَائِدَة الْخلاف أَيْضا فِي الصَّلَاة فِي
الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة، إِذا قُلْنَا: إِنَّهَا مَكْرُوهَة
كَرَاهَة تَنْزِيه - وَفِي صِحَّتهَا - تَفْرِيعا على هَذَا -
وَجْهَان.
(1/541)
الْمُتَكَلِّمين: لَا تصح، وَلَا يسْقط.
هَامِش
وَالْقَوْل بِعَدَمِ صِحَّتهَا يتَخَرَّج على أَن الْمَكْرُوه
لَا يدْخل تَحت مُطلق الْأَمر.
(1/542)
صفحة فارغة
هَامِش صفحة فارغة
(1/543)
صفحة فارغة
هَامِش صفحة فارغة
(1/544)
صفحة فارغة
هَامِش
ولإمام الْحَرَمَيْنِ احْتِمَال فِي إِعَادَة صَلَاة
الْجِنَازَة، أَنَّهَا لَا تصح؛ لِأَن إِعَادَتهَا لَا تسْتَحب
وَفِي وَجه: تكره.
وَاعْلَم أَن إِمَام الْحَرَمَيْنِ أنكر كَون الْمَكْرُوه لَا
يَقع مجزئا مَعَ مُوَافَقَته على أَن الْأَمر لَا يتَنَاوَل
الْمَكْرُوه وَقَالَ: إِن من يتتبع قَوَاعِد الشَّرِيعَة ألفى
من الْمَكْرُوه المجزئ أَمْثِلَة تفوت الْحصْر.
وَحَاصِل كَلَامه آيل إِلَى مَا تقرر فِي الصَّلَاة فِي
الدَّار الْمَغْصُوبَة، وَأَن النَّهْي إِذا لم يرجع إِلَى عين
الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ لم يمْتَنع الْإِجْزَاء من هَذِه
الْجِهَة.
كَذَا فهمه الْمَازرِيّ عَنهُ، وَاعْتَرضهُ بِأَن الْأَمْثِلَة
الْمشَار إِلَيْهَا وَإِن تكاثرت إِنَّمَا ترد لَو عممنا
القَوْل، وَقُلْنَا: لَا نعتد بمكروه أصلا، [وَنحن إِنَّمَا
نقُول: الأَصْل أَن الْأَمر لَا يتَنَاوَل الْمَكْرُوه] ،
وَإِذا لم يتَنَاوَلهُ بقيت الْمُطَالبَة بِمُوجب الْأَمر
الأول فَلَا يرد عَلَيْهِ.
وَلم يفهم عَنهُ ابْن الْأَنْبَارِي رد القَوْل فِي ذَلِك
إِلَى نَظِيره من الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة
(1/545)
لنا الْقطع بِطَاعَة العَبْد وعصيانه،
بأَمْره بالخياطة، وَنَهْيه عَن مَكَان ... ... ... ...
هَامِش وَقَالَ: لَيْسَ الْأَمر على مَا قَالَه، بل يَسْتَحِيل
كَون الْمَكْرُوه طَاعَة على حَال، فَكيف يَصح اجْتِمَاع
الْحكمَيْنِ وهما متضادان؟ .
نعم: إِن تعدّدت الْوُجُوه أمكن ذَلِك كَمَا فِي الدَّار
الْمَغْصُوبَة.
قلت: وَهُوَ حق إِلَّا أَن الإِمَام رد الْمَسْأَلَة إِلَى
مآخذ الْكَلَام فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة، فَلذَلِك فهم عَنهُ
الْمَازرِيّ ذَلِك، وَلَو لم يكن كَذَلِك لم يتَّجه كَلَامه
أَلْبَتَّة.
وَأَنا أَقُول فِي رد [هَذَا] القَوْل إِلَى مَأْخَذ الصَّلَاة
فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة نظر، وَإِن ذكر الإِمَام وَابْن
السَّمْعَانِيّ وَغَيرهمَا، وَذَلِكَ لتحَقّق جِهَتَيْنِ
فِيهَا، بِخِلَاف مَا نَحن فِيهِ، فَإِن الْوضُوء المنكس مثلا
- مَكْرُوه، من حَيْثُ إِنَّه تنكيس وضوء، فَهُوَ كَصَوْم
يَوْم النَّحْر سَوَاء، وَلَا كَذَلِك الصَّلَاة، فَإِنَّهَا
لَيست حَرَامًا من حَيْثُ إِنَّهَا صَلَاة، بل من حَيْثُ
إِنَّهَا شغل فَافْهَم ذَلِك.
وَقد أغْلظ الإِمَام القَوْل على أَئِمَّتنَا، وَقَالَ:
الِاسْتِدْلَال على وجوب التَّرْتِيب فِي الْوضُوء، بِأَن
المنكس مَكْرُوه، وَالْمَكْرُوه لَا يتَنَاوَلهُ الْأَمر
فَتبين أَن الْأَمر بِالطَّهَارَةِ لم [يمتثل] فَيُطَالب
الْمُكَلف بِهِ، وَذكر أَن مغزى هَذَا إِثْبَات وجوب الشَّيْء
من حَيْثُ يثبت الْخصم كَرَاهَته، [وَهُوَ من فن الْعَبَث -
أَي لَيْسَ فِي دَعْوَى الْخصم كَرَاهَة] المنكس، مَا ينتهض
حجَّة لنا فِي وجوب التَّرْتِيب.
وَهَذَا صَحِيح لَو أَن أَئِمَّتنَا يستندون فِي وجوب
التَّرْتِيب إِلَى هَذَا، وَإِنَّمَا [لم] يذكر أَئِمَّتنَا
هَذَا الطَّرِيق على وَجه الْإِلْزَام والإفحام، كَمَا يَقُول
المناظر.
قلت: كَذَا وَكَذَا، فَيلْزم عَلَيْك كَذَا وَكَذَا، وَهَذَا
اللَّازِم لَا يتَوَجَّه إِلَّا على أُصَلِّي فَدلَّ على
[أَنه] الصَّحِيح.
إِذا عرفت هَذَا فلنعد إِلَى الْكَلَام فِي تعلق الْأَمر
وَالنَّهْي بالشَّيْء الْوَاحِد من جِهَتَيْنِ فَنَقُول:
الشَّرْح: " لنا: الْقطع بِطَاعَة العَبْد وعصيانه بأَمْره
بالخياطة وَنَهْيه عَن مَكَان مَخْصُوص "، كَمَا إِذا قَالَ:
خطّ هَذَا الثَّوْب وَلَا تدخل الدَّار، فَإِنَّهُ إِذا خاط
الثَّوْب فِي الدَّار [كَانَ] ممتثلا من
(1/546)
مَخْصُوص؛ للجهتين، وَأَيْضًا، لَو لم تصح،
لَكَانَ لِاتِّحَاد المتعلقين؛ إِذْ لَا مَانع سواهُ
اتِّفَاقًا، وَلَا اتِّحَاد؛ لِأَن الْأَمر للصَّلَاة،
وَالنَّهْي للغصب. وَاخْتِيَار الْمُكَلف جَمعهمَا لَا يخرجهما
عَن حقيقتهما.
وَاسْتدلَّ: لَو لم تصح، لما ثَبت صَلَاة مَكْرُوهَة، وَلَا
صِيَام مَكْرُوه؛ لتضاد الْأَحْكَام. وَأجِيب بِأَنَّهُ إِن
اتَّحد الْكَوْن، منع، وَإِلَّا لم يفْسد؛ لرجوع النَّهْي
إِلَى وصف منفك.
هَامِش الْخياطَة عَاصِيا من حَيْثُ الدُّخُول، وَإِنَّمَا حصل
التغاير بَينهمَا " للجهتين.
وَأَيْضًا لَو لم يَصح لَكَانَ لِاتِّحَاد المتعلقين "، أَي:
لِأَن مُتَعَلق الْوُجُوب وَالْحُرْمَة وَاحِد؛ " إِذْ لَا
مَانع سواهُ اتِّفَاقًا "، وَاللَّازِم بَاطِل، إِذْ " لَا
اتِّحَاد " للمتعلقين؛ " لِأَن الْأَمر للصَّلَاة وَالنَّهْي
للغصب، وَاخْتِيَار الْمُكَلف جَمعهمَا لَا [يخرجهما] عَن
حقيقتيهما " اللَّتَيْنِ هما مُتَعَلقا الْأَمر وَالنَّهْي،
وَإِذا لم يكن مُتَعَلق الْأَمر وَالنَّهْي وَاحِدًا، صَحَّ
تعلقه بِهِ، وَأَيْضًا قد وَافق المخالفون على صِحَة صَوْم
الشَّيْخ وَالْمَرِيض اللَّذين يستضران بِالصَّوْمِ، مَعَ أَنه
مَنْهِيّ.
الشَّرْح: " وَاسْتدلَّ لَو لم يَصح " اجْتِمَاع الْأَمر
وَالنَّهْي بِاعْتِبَار جِهَتَيْنِ " لما [ثبتَتْ] صَلَاة
مَكْرُوهَة، وَلَا صِيَام مَكْرُوه، لتضاد الْأَحْكَام "
الْخَمْسَة، فالوجوب كَمَا يضاد التَّحْرِيم يضاد الْكَرَاهَة،
فَلَو لم يثبت مَعَ التَّحْرِيم لما ثَبت مَعَ الْكَرَاهَة،
إِذْ لَا مَانع إِلَّا التضاد، وَاللَّازِم بَاطِل؛ بِدَلِيل
كَرَاهِيَة مَا لَا ينْحَصر من صَلَاة وَصَوْم.
" وَأجِيب " عَن هَذَا الِاسْتِدْلَال " بِأَنَّهُ إِن اتَّحد
الْكَوْن " أَي: الْحُصُول فِي الحيز وَاحِد فِي الصَّلَاة،
وَهُوَ مَأْمُور بِهِ، وَفِي الْغَصْب مَنْهِيّ؛ لِأَنَّهُ
هُوَ الْغَصْب فاتحد المتعلقان، فمنعت الصِّحَّة، فَإِن كَانَ
الصَّوْم وَالصَّلَاة المكروهين كَذَلِك " منع " كَونهمَا
صَحِيحَيْنِ، " وَإِلَّا لم يفْسد "؛ إِذْ لَا يلْزم من
الصِّحَّة الْوَاقِعَة فِي الْمنْهِي " لرجوع النَّهْي إِلَى
وصف منفك " لَا يتحد فِيهِ الْمُتَعَلّق الصِّحَّة حَيْثُ يرجع
إِلَى الْكَوْن الَّذِي هُوَ ذاتي مُتحد الْمُتَعَلّق.
وَلقَائِل أَن يَقُول: النَّهْي فِي الصَّلَاة فِي الدَّار
الْمَغْصُوبَة رَاجع أَيْضا إِلَى وصف منفك، وَلَا يظْهر فرق
بَينهمَا وَبَين الصَّلَاة الْمَكْرُوهَة.
(1/547)
وَاسْتدلَّ: لَو لم تصح، لما سقط
التَّكْلِيف. قَالَ القَاضِي: وَقد سقط بِالْإِجْمَاع؛ لأَنهم
لم يأمروهم بِقَضَاء الصَّلَوَات، ورد بِمَنْع الْإِجْمَاع
مَعَ مُخَالفَة أَحْمد، وَهُوَ أقعد بِمَعْرِِفَة الْإِجْمَاع.
قَالَ القَاضِي والمتكلمون: لَو صحت، لاتحد المتعلقان؛ لِأَن
الْكَوْن وَاحِد، وَهُوَ غصب. وَأجِيب بِاعْتِبَار
الْجِهَتَيْنِ كَمَا سبق.
هَامِش
الشَّرْح: " وَاسْتدلَّ لَو لم يَصح لما سقط التَّكْلِيف "
بهَا.
" قَالَ القَاضِي: وَقد سقط بِالْإِجْمَاع؛ لأَنهم " أَي:
الماضين " لم يأمروهم "، أَي: الْمُصَلِّين فِي الدَّار
الْمَغْصُوبَة " بِقَضَاء الصَّلَوَات ".
وَالْقَاضِي هُوَ المحتج بِهَذَا الدَّلِيل، وَلَكِن على
السُّقُوط لَا على الصِّحَّة، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن
الْمَسْأَلَة من القطعيات، لحُصُول الْإِجْمَاع، وَذَلِكَ أَن
تقلبهم فِي الْبِلَاد، وتحركهم فِي الْأَسْفَار لَا يسلم مَعَه
فِي مُسْتَقر الْعَادَات من الصَّلَاة فِي مَكَان مَغْصُوب،
وَلَو كَانَت تُعَاد لنقل عَن الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم،
وَلَو نقل عَنْهُم لما خَفِي.
وَقد زَاد النَّوَوِيّ فِي " بَاب الْآنِية " من " شرح
الْمُهَذّب " فَذكر: أَن أَصْحَابنَا يدعونَ الْإِجْمَاع على
الصِّحَّة قبل مُخَالفَة أَحْمد.
وَهَذَا لَو تمّ دفع مَذْهَب القَاضِي؛ إِذْ هُوَ مُوَافق على
عدم الصِّحَّة.
" ورد " هَذَا الْوَجْه " بِمَنْع الْإِجْمَاع "؛ إِذْ كَيفَ
يَصح ادعاؤه " مَعَ مُخَالفَة أَحْمد وَهُوَ أقعد بِمَعْرِِفَة
الْإِجْمَاع "، فَلَو سبقه إِجْمَاع لَكَانَ أَجْدَر من
القَاضِي بمعرفته ثمَّ لم يخرقه.
وَمِمَّنْ منع الْإِجْمَاع إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَابْن
السَّمْعَانِيّ، وَغَيرهمَا من الْأَئِمَّة وَهُوَ الْحق.
وَمَا ذكره القَاضِي من عدم انفكاك عصر الْمَاضِي عَن
الصَّلَاة فِي مَكَان مَغْصُوب مَرْدُود عندنَا؛ فَإِن
الظَّاهِر من حَال الصَّحَابَة أَن هَذَا لم يتَّفق فِي عصرهم،
وَلَو فرض وُقُوعه من وَاحِد من الأتباع لأمكن أَن يخفى
عَنْهُم، وعَلى تَقْدِير اطلاعهم فغايته إِجْمَاع سكوتي،
وَالْقَاضِي لَا يرَاهُ حجَّة.
الشَّرْح: " قَالَ القَاضِي ": " لَو صحت لاتحد المتعلقان "
مُتَعَلقا الْأَمر وَالنَّهْي؛ " لِأَن الْكَوْن "
(1/548)
قَالُوا: لَو صحت، لصَحَّ صَوْم يَوْم
النَّحْر بالجهتين. وَأجِيب بِأَن صَوْم يَوْم النَّحْر غير
منفك عَن الصَّوْم بِوَجْه، فَلَا تتَحَقَّق جهتان، أَو بِأَن
نهي التَّحْرِيم لَا يعْتَبر فِيهِ تعدد إِلَّا بِدَلِيل خَاص
فِيهِ.
وَأما من توَسط أَرضًا مَغْصُوبَة، فحظ الأصولي فِيهِ بَيَان
اسْتِحَالَة تعلق الْأَمر وَالنَّهْي
هَامِش جُزْء الْحَرَكَة والسكون، وهما جُزْءا الصَّلَاة،
فَيكون الْكَوْن جُزْءا للصَّلَاة، وَهُوَ " وَاحِد " فَيكون
مَأْمُورا بِهِ، ثمَّ هُوَ بِعَيْنِه مَنْهِيّ [عَنهُ] ؛
لِأَنَّهُ كَون فِي الْمَغْصُوب " وَهُوَ غصب.
وَأجِيب " بِالْمَنْعِ من اتِّحَاد الْكَوْن اتحادا شخصيا،
للْقطع " بِاعْتِبَار الْجِهَتَيْنِ " فيكونان متغايرين "
بِمَا سبق " تَقْدِيره.
الشَّرْح: " قَالُوا: لَو صحت لصَحَّ يَوْم النَّحْر بالجهتين
"، كَونه صوما وواقعا يَوْم النَّحْر.
" وَأجِيب ": بِمَنْع اخْتِلَاف الْجِهَة، " بِأَن صَوْم يَوْم
النَّحْر غير منفك عَن الصَّوْم بِوَجْه "، لاستلزام الْمُقَيد
الْمُطلق " وَلَا يتَحَقَّق " فِيهِ " جهتان " تنفك
إِحْدَاهمَا عَن الْأُخْرَى، بِخِلَاف الصَّلَاة فِي الدَّار
الْمَغْصُوبَة.
" أَو بِأَن نهي التَّحْرِيم لَا يعْتَبر فِيهِ تعدد إِلَّا
بِدَلِيل خَاص فِيهِ "؛ لِأَنَّهُ ظَاهر فِي الْبطلَان منصرف
إِلَى الذَّات غَالِبا، بِخِلَاف نهي الْكَرَاهَة فَإِنَّهُ
ينْصَرف فِي الْوَصْف غَالِبا، وَهَذَا ضَعِيف وَالْأول هُوَ
الْمُعْتَمد.
الشَّرْح: " وَأما " مَا لَا يُمكن الانفكاك فِيهِ مثل: " من
توَسط أَرضًا مَغْصُوبَة، فحظ الأصولي [فِيهِ] بَيَان
اسْتِحَالَة الْأَمر وَالنَّهْي مَعًا بِالْخرُوجِ " مِنْهَا،
فَإِنَّهُ تَكْلِيف بالمحال فَيتَعَلَّق التَّكْلِيف بِوَاحِد
مِنْهَا يُعينهُ الْفَقِيه.
والفقيه يَقُول: يُؤمر بِالْخرُوجِ، كَمَا يُؤمر المولج فِي
الْفرج الْحَرَام بالنزع، وَإِن كَانَ بِهِ مماسا لِلْفَرجِ
الْحَرَام، وَلَكِن يُقَال: انْزعْ على قصد التَّوْبَة، لَا
على قصد الالتذاذ، فَكَذَلِك الْخُرُوج من الْغَصْب فَإِن
أَهْون الضررين يصير وَاجِبا بِالْإِضَافَة إِلَى أعظمهما.
(1/549)
مَعًا بِالْخرُوجِ وَخطأ أبي هَاشم، وَإِذا
تعين الْخُرُوج لِلْأَمْرِ، قطع بِنَفْي الْمعْصِيَة بِهِ
هَامِش
وَمن حَظّ الْأُصُولِيِّينَ أَيْضا بَيَان " خطأ أبي هَاشم "،
حَيْثُ يَقُول: بِأَنَّهُ مَنْهِيّ عَن خُرُوجه؛ لِأَنَّهُ
متصرف فِي ملك الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه، وَذَلِكَ قَبِيح
لعَينه، ومأمور بِهِ؛ لِأَنَّهُ انْفِصَال عَن الْمكْث.
وَهَذَا الشَّيْخ بنى كَلَامه على أَصله الْفَاسِد فِي الْحسن
والقبح فأخل بِأَصْلِهِ الْفَاسِد من منع التَّكْلِيف بالمحال،
إِذْ حرم عَلَيْهِ الشَّيْء وضده.
" وَإِذا تعين الْخُرُوج لِلْأَمْرِ قطع بِنَفْي الْمعْصِيَة
بِهِ " إِذا وَقع الْخُرُوج " بِشَرْطِهِ " من السرعة على مبلغ
الْجهد، وَاجْتنَاب التَّقْصِير، وَالتَّصَرُّف فِي ملك
الْغَيْر لَيْسَ حَرَامًا لعَينه، بل بنهي الشَّارِع، وَهَذَا
مَأْمُور بِهِ فَلَا يكون مَعْصِيّة.
" وَقَول الإِمَام باستصحاب حكم الْمعْصِيَة مَعَ الْخُرُوج
وَلَا نهي بعيد ".
وَضَعفه تِلْمِيذه الْغَزالِيّ؛ لِأَنَّهُ معترف بِانْتِفَاء
النَّهْي، فالمعصية إِلَى مَاذَا تستند؟ .
وَقَوله فِي " الْبُرْهَان ": إِن هَذَا يلْتَفت على مَسْأَلَة
الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة فَإِنَّهَا تقع امتثالا
من وَجه، وغصبا واعتداء من وَجه، فَكَذَلِك الذَّاهِب إِلَى
صوب الْخُرُوج، ممتثل من وَجه، عَاص بِبَقَائِهِ من وَجه،
فِيهِ نظر؛ إِذْ الْخُرُوج شَيْء وَاحِد، " وَلَا جِهَتَيْنِ،
لتعذر الامثتال "، بِخِلَاف الصَّلَاة فِي الدَّار
الْمَغْصُوبَة، فَإِن الِامْتِثَال يُمكن، وَإِنَّمَا جَاءَ
الِاتِّحَاد من جِهَة الْمُكَلف.
وَاعْلَم أَنه اعْترف فِي " الْبُرْهَان " بِأَن الْإِمْكَان
لَا بُد مِنْهُ فِي المنهيات والمأمورات. وَقَالَ: إِن
الْمعْصِيَة إِنَّمَا هِيَ من أجل نسبته إِلَى مَا تورط فِيهِ
آخرا قَالَ: وَلَيْسَ هُوَ عندنَا مَنْهِيّا عَن الْكَوْن فِي
هَذِه الأَرْض، وَلكنه مرتبك فِي الْمعْصِيَة مَعَ انْقِطَاع
تَكْلِيف النَّهْي عَنهُ، وَهَذَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ
المُصَنّف بقوله: وَلَا نهي.
وَالْحَاصِل أَن الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة كَانَ
يُمكن الِامْتِثَال، وَلَكِن الِاتِّحَاد جَاءَ من اخْتِيَار
الْمُكَلف، فكلف، والتكليف بالمحال لَا خيرة للْعَبد فِيهِ،
فَلَا يُكَلف.
وَهَذَا فِي الْمحَال الَّذِي لم يكن العَبْد متسببا إِلَى
وُقُوعه، وَأما مَا كَانَ متسببا فِيهِ - كَمَا فِي هَذِه
الْمَسْأَلَة - فَإِنَّهُ كَانَ فِي وسع هَذَا الْإِنْسَان
أَلا يَقع فِي هَذَا الْمُمْتَنع الْمحَال بألا يدْخل الدَّار
فَهَل يمْتَنع التَّكْلِيف؟ .
(1/550)
بِشَرْطِهِ. وَقَول الإِمَام: باستصحاب حكم
الْمعْصِيَة مَعَ الْخُرُوج، وَلَا نهي، بعيد، وَلَا
هَامِش
قَالَ أَبُو هَاشم: يتَوَجَّه عَلَيْهِ التَّكْلِيف بهما،
وَهُوَ خطأ لَا سِيمَا على أَصله، كَمَا قُلْنَا.
وَقَالَت الْجَمَاعَة: إِذا كَانَ التعري من الْأَمريْنِ
محالا، فَلَا مبالاة بمبدئهما وسببهما، فليقع الْفِعْل
مَأْمُورا.
وحاول الإِمَام طَريقَة التَّوَسُّط فَقَالَ: إِنَّه غير
مَنْهِيّ؛ وَإِن انسحب عَلَيْهِ حكم الْعِصْيَان، وَهَذَا
مَوضِع الأناة والاتئاد، فَإِنَّهُ فِي غَايَة من الْإِشْكَال
فَنَقُول: الْمَرْء مَنْهِيّ عَن الْغَصْب، وَهُوَ: مَا لم يعر
عَن الِاسْتِيلَاء على حق الْغَيْر غَاصِب، إِذْ الْغَصْب
الِاسْتِيلَاء على حق الْغَيْر. إِلَّا أَنه لما كَانَ آخِذا
فِي الْخُرُوج من الْمعْصِيَة، وَالْأَمر مُتَوَجّه نَحوه إِذْ
ذَاك بهَا، لم يكن مَنْهِيّا الْآن، وَهَذَا وَاضح؛
لِامْتِنَاع اجْتِمَاع الْأَمر وَالنَّهْي من جِهَة وَاحِدَة،
وَلَكِن النَّهْي السَّابِق قضى عَلَيْهِ بالإثم مَا لم يخرج
عَن الِاسْتِيلَاء فَبَقيت آثاره، وَإِن لم يطْرَأ الْآن نهي،
فَلم نقل بالمعصية مَعَ انْتِفَاء النَّهْي رَأْسا، بل مَعَ
انْتِفَاء نهي طَرَأَ الْآن، ثمَّ الْمعْصِيَة مستندة إِلَى
النَّهْي السَّابِق الَّذِي إِن انْقَطع لمصادمة الْأَمر لم
[تَنْقَطِع] آثاره، فَإِن المضادة إِنَّمَا وَقعت بَين الْأَمر
[وَالنَّهْي] لَا بَين آثارهما، فَإنَّا لَا نعني بِالنَّهْي
إِلَّا طلب الْكَفّ وَلَا بِالْأَمر إِلَّا طلب الْفِعْل
لَيْسَ بكف، واجتماعهما مُتَعَذر، وَالْأَمر مَوْجُود،
فَانْتفى النَّهْي، وَأثر النَّهْي - وَهُوَ التأثيم لَا وَجه
لارتفاعه، وَهَذَا كَمَا يَقُول الْفُقَهَاء فِيمَن ارْتَدَّ،
ثمَّ جن، ثمَّ آفَاق وَأسلم: إِنَّه يجب عَلَيْهِ قَضَاء
صلوَات أَيَّام الْجُنُون، وَمَا ذَلِك إِلَّا لاستصحاب حكم
الرِّدَّة عَلَيْهِ، وَلَا [تسألن] الْفَقِيه هُنَا فَمَا
قَوْلكُم فِيهِ: لَو مَاتَ أَيَّام جُنُونه، هَل يلقى الله
تَعَالَى كَافِرًا أَو غير مُكَلّف؟ .
لأَنا نقُول: هَذَا لَيْسَ مِمَّا نَحن فِيهِ؛ لِأَن لقِيه ربه
رَاجع إِلَى مَا عرف الرب من حَاله، وَالَّذِي يظْهر لنا أَنه
مُرْتَد، والرب أعلم بِهِ.
(1/551)
جِهَتَيْنِ؛ لتعذر الِامْتِثَال.
هَامِش
فَإِن قَالَ: فَهَل تقتلون الْمُرْتَد إِذا طَرَأَ جُنُونه؟
قُلْنَا: لَو قيل: لم يُوقع الْموقع، وَلَكنَّا لَا نجوز قَتله
لأمر لَا يتَعَلَّق بِمَا نَحن فِيهِ، وَقد مثل إِمَام
الْحَرَمَيْنِ بالتائب فِيمَا اقْتَرَف من حُقُوق
الْآدَمِيّين، فَإِن الْإِثْم ينسحب عَلَيْهِ مَا لم يعزم.
وَإِن عزم على الْعَزْم، وَمَا ذَلِك إِلَّا لتوريطه نَفسه.
قَالَ الْمَازرِيّ: وَلَو يمثل بِقِيَام الْحُدُود على
السَّكْرَان، وَوُقُوع طَلَاقه، وَإِن كَانَ غير
(1/552)
صفحة فارغة
هَامِش عَاقل حِين جِنَايَته مَا جنى لأجل أَن شربه الْخمر
مَعْصِيّة، وَهِي طَرِيق إِلَى زَوَال الْعقل، فزوال
(1/553)
صفحة فارغة
هَامِش الْعقل كالمكتسب لَهُ بِسَبَبِهِ، وَإِن كَانَ لَا
[صنع] لَهُ فِيهِ لَكَانَ أوضح، لكَون الْجِنَايَة الْوَاقِعَة
الْآن لَيست كَفعل يقْضِي مثل مَا يقْضِي زمن الْغَصْب، بل
هِيَ فعل شرع فِيهِ السَّكْرَان كَمَا شرع الْغَاصِب فِي
الْخُرُوج من الدَّار.
ثمَّ ذكر إِمَام الْحَرَمَيْنِ أَن غَرَضه يظْهر بِمَسْأَلَة
أَلْقَاهَا أَبُو هَاشم فحارت فِيهَا عقول الْفُقَهَاء، وَهِي
أَن من توَسط جمعا من الْجَرْحى، وجثم على صدر وَاحِد مِنْهُم،
وَعلم أَنه لَو بَقِي على مَا هُوَ عَلَيْهِ لهلك من تَحْتَهُ،
وَلَو انْتقل لهلك آخر، يَعْنِي مَعَ تَسَاوِي الرجلَيْن فِي
جَمِيع الْخِصَال.
قَالَ: وَهَذَا الْمَسْأَلَة لم أتحصل فِيهَا من قَول
الْفُقَهَاء على ثَبت، فَالْوَجْه الْمَقْطُوع بِهِ سُقُوط
التَّكْلِيف عَن صَاحب الْوَاقِعَة مَعَ اسْتِمْرَار حكم سخط
الله عَلَيْهِ وغضبه.
وَوجه السُّقُوط اسْتِحَالَة التَّكْلِيف بالمحال، واستمرار
الْعِصْيَان بِسَبَبِهِ إِلَى مَا لَا مخلص مِنْهُ.
وَلَو فرض إِلْقَاء رجل على صدر آخر بِحَيْثُ لَا ينْسب
الْوَاقِع إِلَى اخْتِيَار فَلَا [تَكْلِيف] وَلَا عصيان.
وَقَالَ الْغَزالِيّ: يحْتَمل ذَلِك، وَيحْتَمل أَن يُقَال:
يُمكن، فَإِن الِانْتِقَال فعل مُسْتَأْنف، وَيحْتَمل
التَّخْيِير.
(1/554)
صفحة فارغة
هَامِش
وسيكون لنا عودة إِلَى هَذَا فِي أَخْبَار الْآحَاد.
وبلغنا أَن الْغَزالِيّ قَالَ للْإِمَام: كَيفَ قلت: لَا حكم،
وَأَنت ترى أَنه لَا تَخْلُو وَاقعَة عَن حكم؟ فَقَالَ: حكم
الله أَلا حكم، فَقَالَ الْغَزالِيّ: لَا أفهم هَذَا.
قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: وَهَذَا تأدب من الْغَزالِيّ،
وَهَذَا القَوْل غير مَفْهُوم فِي نَفسه وَهُوَ متناقض.
قلت: وَيُمكن أَن يُقَال: إِن الله تَعَالَى حكم بِانْتِفَاء
الْأَحْكَام الْخَمْسَة الَّتِي هِيَ الِاقْتِضَاء والتخيير،
وَتَكون الْبَرَاءَة الْأَصْلِيَّة حكما لله تَعَالَى بِهَذَا
الِاعْتِبَار، فَإِن تَركه الْخلق على قضيتها قَضَاء مِنْهُ
بهَا، وَلَيْسَ هُوَ الْقَضَاء فِي الْأَحْكَام الْخَمْسَة.
وَقد عد الْغَزالِيّ مَا قَالَه الإِمَام من المحتملات مَعَ
قَوْله أَيْضا بألا تَخْلُو وَاقعَة عَن حكم.
فَإِن قلت: مَا قَوْلكُم فِيمَن كسر رجله، أَو ألْقى بِنَفسِهِ
من سطح، هَل يقْضِي الصَّلَاة قَاعِدا؟ .
قلت: قَالَ الْغَزالِيّ: لَا، وَيَنْبَغِي مساق كَلَام
الإِمَام إِن كَانَ فعل ذَلِك ذَرِيعَة للصَّلَاة قَاعِدا أَن
ينسحب عَلَيْهِ حكم الْعِصْيَان، بل وَيجب الْقَضَاء.
قَالَ الإِمَام: وَمِمَّا أخرجه على ذَلِك أَن من وَاقع قريب
الْفجْر قَاصِدا إِيقَاع ذَلِك الوقاع بِحَيْثُ إِذا طلع
الْفجْر اقْترن بمطلعه الانكفاف والنزع، فسد صَوْمه من جِهَة
سَببه إِلَى وضع المخالطة فِي مُقَارنَة الْفجْر وَإِن كَانَ
منكفا، وَإِن خالط أَهله ظَانّا أَنه فِي مهل من بَقِيَّة
اللَّيْل، ثمَّ ابتدره الْفجْر فابتدر النزع فَلَا يفْسد.
وَالْفُقَهَاء لَا يفصلون هَذَا التَّفْصِيل، ويحكمون بِأَن
النازع لَا يفْطر، وَإِن قصد وتعمد فِي الصُّورَة الَّتِي
فرضناها من جِهَة أَنه نَازع مَعَ أول الْفجْر.
قلت: وَقد حكى الْأَصْحَاب فِيمَا إِذا قَالَ لزوجته: إِن
وَطئتك فَأَنت طَالِق ثَلَاثًا وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَنه بعد مُضِيّ مُدَّة الْإِيلَاء يُطَالب
بِالطَّلَاق على
(1/555)
صفحة فارغة
هَامِش التَّعْيِين، وَيمْنَع من الْوَطْء؛ لِأَن الطَّلَاق
يَقع بتغييب الْحَشَفَة، فالنزع يَقع بعد وُقُوعه، وَهُوَ نوع
استمتاع بالمطلقة فَلَا يجوز.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَا يَتَأَتَّى وصل النزع بآخر التغييب،
بل يَقع بَينهمَا فصل، وَهِي فِي تِلْكَ الْحَالة مُحرمَة
عَلَيْهِ.
وَأَيْضًا فالصائم إِذا خشِي طُلُوع الْفجْر، وَوُقُوع النزع
بعد الطُّلُوع يمْنَع من الْوَطْء فَكَذَا هُنَا.
وَالأَصَح الْمَنْصُوص عَلَيْهِ يُطَالب بالفيئة أَو
الطَّلَاق، وَلَا يمْنَع من الْوَطْء؛ لِأَن النزع ترك
وَخُرُوج عَن الْمعْصِيَة.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَالْقَوْل بِأَن يَقع بَينهمَا فصل لَا
حَاصِل لَهُ، فَإِن التَّكْلِيف بِمَا فِي الوسع والفصل
الَّذِي لَا [يحسن] لَا عِبْرَة بِهِ.
قلت: وَهَذَا نَازع إِلَى أَن المنتسب إِلَى الضدين لَا
تَكْلِيف عَلَيْهِ بهما كَمَا تقدم إِلَّا أَن هَذَا أصل
إيلاجه حَلَال بِخِلَاف الْغَاصِب، فنظيره: من وَقع على جريح
بِغَيْر اخْتِيَار مِنْهُ.
قَالَ: وَمَسْأَلَة الصَّوْم مَمْنُوعَة إِن تحقق وُقُوع
الْإِيلَاج فِي اللَّيْل، وَلَا فرق بَين الصُّورَتَيْنِ.
قلت: هَذَا نَظِير مَسْأَلَة الإِمَام، وَقد قَالَ
بِالْجَوَازِ.
(1/556)
|