روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد
بن حنبل فصل: [في اليقين
ومداركه]
اليقين: ما أذعنت النفس إلى التصديق به، وقطعت به، وقطعت
بأن قطعها به صحيح، بحيث لو حُكي لها عن صادق خلافه لم
تتوقف في تكذيب الناقل1. كقولنا: الواحد أقل من الاثنين،
وشخص واحد لا يكون في مكانين2، ولا يتصور اجتماع ضدين3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومعنى ذلك: أنه لو حكى للشخص نقيض ما يعتقده عن أفضل
الناس لما توقف في تجهيله وتكذيبه.
2 أي: في وقت واحد، وإلا فقد يوجد الشخص في مكانين مختلفين
في وقتين مختلفين، ولا تناقض في ذلك.
3 المعلومان: إما نقيضان، أو خلافان، أو ضدان، أو مثلان:
فالنقيضان: هما اللذان لا يجتمعان ولا يرتفعان، كالوجود
والعدم بالنسبة إلى الشيء المعين.
والخلافان: هما الشيئان اللذان قد يجتمعان وقد يرتفعان،
كالحركة والبياض في الجسم الواحد.
والضدان: هما الشيئان اللذان لا يجتمعان وقد يرتفعان،
كالسواد والبياض، =
ج / 1 ص -89-
ولنا
حالة ثانية، وهي: أن تصدق بالشيء تصديقًا جزميًّا لا
تتمارى فيه، ولا تشعر بنقيضه البتَّة، ولو شعرت بنقيضه عسر
إذعانها للإصغاء، لكن لو ثبتت وأصغت وحكى لها نقيضه عن
صادق أورث ذلك توقفًا عندها.
وهذا اعتقاد أكثر الخلق، وكافة الخلق يسمون هذا يقينًا،
إلا آحادًا من الناس.
فأما ما للنفس سكون إليه وتصديق به، وهي تشعر بنقيضه أو لا
تشعر، لكن إن شعرت به لم ينفر طبعها عن قبوله، فهو يسمى
ظنًّا1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لا يمكن اجتماعهما، وقد يرتفعان ويحل محلهما لون آخر،
كالصفار مثلًا.
والمثلان: هما الشيئان اللذان لا يجتمعان وقد يرتفعان،
كالبياض والبياض.
انظر في ذلك: شرح تنقيح الفصول ص97 وما بعدها، شرح الكوكب
المنير جـ1 ص68، 69.
1 المنهج الذي سلكه المصنف في حصر القسمة في "اليقين"
و"الظن" يخالف ما قاله جمهور العلماء من: أن القسمة تنحصر
في: الاعتقاد، والظن، والوهم، والشك، والجهل:
فالاعتقاد: هو الذي لا يحتمل متعلقه النقيض عند الذاكر،
فإن طابق الواقع كان اعتقادًا صحيحًا، وإن لم يطابقه كان
فاسدًا.
والظن: هو ما يكون متعلقه راجحًا على احتمال النقيض.
والمقابل للظن هو الوهم. فإن تساوى متعلقه واحتمال نقيضه
فهو الشك.
والجهل: اعتقاد المعتقد على ما ليس به.
وهو نوعان: مركب، وهو ما تقدم تعريفه.
وبسيط: وهو انتفاء إدراك الشيء بالكلية. ومنه: السهو،
والغفلة، والنسيان.
انظر: الحدود للباجي ص28 وما بعدها، بيان المختصر 1/ 51،
التعريفات للجرجاني ص134، شرح الكوكب المنير 1/ 74 وما
بعدها.
ج / 1 ص -90-
وله
درجات في الميل إلى النقصان والزيادة لا تحصى، فمن سمع من
عدل شيئًا سكنت نفسه إليه، فإن انضاف إليه ثان زاد السكون
حتى يصير يقينًا، وبعض الناس يسمي هذا يقينًا أيضًا1.
[مدارك اليقين]
ومدارك النفس خمسة:
الأول- الأوليات:
وهي: العقليات المحضة التي قضى العقل بمجرده بها، من غير
استعانة بحس وتخيل2، كعلم الإنسان بوجود نفسه، وأن القديم
ليس بحادث، واستحالة اجتماع الضدين، فهذه القضايا تصادف
مرتسمة في النفس3، حتى يظن أنه لم يزل عالمًا بها، ولا
يدري متى تجدد، ولا يقف حصولها على أمر سوى مجرد العقل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الشيخ ابن بدران: "كالمحدثين، فإنهم يسمون أكثر هذه
الأحوال علمًا ويقينًا، حتى يطلقون بأن الأخبار التي تشتمل
عليها الصحاح يجب العمل بها على كافة الخلق، إلا آحاد
المحققين، فإنهم يسمون الحالة الثانية يقينًا ولا يميزون
بين الحالة الأولى والثانية. والحق أن اليقين هو الأول،
والثاني مظان الغلط". "نزهة الخاطر العاطر 1/ 78".
2 هذا التعريف للعقليات هو ما قاله الغزالي، وأخصر منه أن
يقال: هي ما يجزم العقل فيها بمجرد تصور الطرفين، بديهيًّا
كان التصور أو نظريًّا، وتتفاوت جلاءً وخفاءً.
3 وضح الشيخ "ابن بدران" ذلك بقوله: "أي مرتبة في العقل
عند وجوده، فيرتسم فيه الوجود -مثلًا- مفردًا، والحادث
مفردًا، والقوة المفكرة تجمع هذه المفردات، وتنسب بعضها
إلى بعض، مثل: أن تحضر أن القديم حادث، ويكذب العقل به، أو
أن القديم ليس بحادث، ويصدق العقل به، ولا يحتاج إلا إلى
ذهن ترتسم فيه المفردات، أو إلى قوة مفكرة تنسب بعض هذه
المفردات =
ج / 1 ص -91-
الثاني- المشاهدات الباطنة:
كعلم الإنسان بجوع نفسه وعطشه وسائر أحواله الباطنة التي
يدركها من ليس له الحواس الخمس، فليست حسية، ولا هي عقلية؛
إذ تدركها البهيمة والصبي. والأوليات لا تكون للبهائم.
الثالث- المحسوسات الظاهرة:
وهي: المدركة بالحواس الخمس، وهي: البصر، والسمع، والذوق،
والشم، واللمس.
فالمدرك بواحد منها يقيني، كقولنا: الثلج أبيض، والقمر
مستدير، وهذا واضح.
لكن يتطرق الغلط إليها لعوارض: كتطرق الغلط إلى الإبصار،
لبعد أو قرب مفرط، أو ضعف في العين وخفاء في المرئي.
وكذلك ترى الظل ساكنًا وهو متحرك، وكذلك الشمس، والقمر،
والنجوم، والصبي، والنبات، هو في النمو لا يتبين ذلك.
وأسباب الغلط في الأبصار المستقيمة1 منها: الانعكاس كما في
المرآة، والانعطاف، كما يرى ما وراء البلور والزجاج وغير
ذلك.
الرابع- التجريبيات:
ويعبر عنها باطراد العادات: ككون النار محرقة، والخبز
مشبع، والماء مرو، والخمر مسكر، والحجر هاو، وهي يقينية
عند من جربها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إلى البعض، فيتربص العقل على البديهة إلى التصديق أو
التكذيب". "نزهة الخاطر جـ1 ص79".
1 قوله: المستقيمة: أي الصحيحة، وليس فيها ما في النوع
الأول من أسباب.
ج / 1 ص -92-
وليست
هذه محسوسة؛ فإن الحس شاهد حجرًا يهوي بعينه، أما أن كل
حجر هاو، فقضية عامة لم يشاهدها، وليس للحس إلا قضية في
عين.
الخامس- المتواترات:
كالعلم بوجود مكة وبغداد. وليس هو بمحسوس، إنما للحس أن
يسمع، أما صدق المخبر فذلك إلى العقل. فهذه الخمسة مدارك
اليقين.
فأما ما يتوهم أنه منها وليس منها: فالوهميات1،
والمشهورات.
وهي آراء محمودة توجب التصديق بها2، إما شهادة الكل، أو
الأكثر، أو جماعة من الأفاضل، كقولك: الكذب قبيح، وكفران
المنعم، وإيلام البريء قبيح، والإنعام، وشكر المنعم،
وإنقاذ الهلكى حسن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الوهميات: عبارة عن قوة في التجويف الأخير من الدماغ
تسمى "وهمية" شأنها ملازمة المحسوسات التي ألفتها، فليس في
طبعها إلا النبوة عنها، وليست هي من مدارك اليقين. "نزهة
الخاطر العاطر 1/ 81".
2 قوله: وهي آراء محمودة الخ: تفسير للمشهورات، وإنما لم
تكن من مدارك اليقين، لأنها ليست مطردة، فتارة تكون صادقة،
وتارة تكون كاذبة. |