روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل

ج / 1 ص -542-       باب: الأمر
الأمر: استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء1.
وقيل: هو القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معنى "استدعاء الفعل": أي طلبه، ومعنى "الاستعلاء": أن يكون الأمر على كيفية فيها ترفع وغلظة على المأمور، كالسيد مع عبده، وكالسلطان مع رعيته.
وكون شرط الأمر على وجه الاستعلاء هو مذهب الإمام فخر الدين الرازي وأتباعه، وأبي الحسن البصري، والآمدي وابن الحاجب وغيرهم.
وقيل: يشترط العلو: وهو أن يكون الآمر أعلى منزلة من المأمور في الواقع ونفس الأمر، وهو مذهب المعتزلة وأبي إسحاق الشيرازي، وابن الصباغ والسمعاني.
وقيل: يشترط العلو والاستعلاء معًا، وهو مذهب القشيري والقاضي عبد الوهاب من المالكية.
وقيل: لا يشترط فيه علو ولا استعلاء، فيصح من المساوي والأدون على غير استعلاء، وهو مذهب المتكلمين، واختاره كثير من متأخري الأصوليين. انظر: نهاية السول "2/ 7" المعتمد "1/ 49" المسودة ص41.
وقد اختار المصنف كون الأمر على هيئة الاستعلاء. فقوله: "استدعاء الفعل" أي: طلبه، خرج به النهي؛ لأنه: استدعاء الترك.
2 وهو تعريف أبي بكر الباقلاني، واختاره إمام الحرمين والغزالي وأكثر الأشاعرة.
انظر: البرهان "1/ 203" والمستصفى "3/ 119".

 

ج / 1 ص -543-       وهو فاسد؛ إذ تتوقف معرفة المأمور على معرفة الأمر، والحد ينبغي أن يعرف المحدود، فيفضي إلى الدور1.
وللأمر صيغة مبينة فتدل بمجردها على كونها أمرًا إذا تعرت عن القرائن وهي: "افعل" للحاضر، "وليفعل" للغائب. هذا قول الجمهور2.
وزعمت فرقة من المبتدعة: أنه لا صيغة للأمر، بناء على خيالهم: أن الكلام معنى قائم بالنفس3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وضح الطوفي هذا الدور في شرحه "2/ 348-349" فقال: "هذا التعريف دوري، يلزم منه الدور؛ لأنه تعريف للأمر بالمأمور، والمأمور به، المتوقف معرفتهما على الأمر، فصار تعريفًا للأمر بنفسه، بواسطة المأمور والمأمور به وهذا -كما سبق- في تعريف العلم بمعرفة المعلوم".
2 معناه: أن للأمر صيغة موضوعة له، تدل عليه حقيقة، كدلالة سائر الألفاظ الحقيقية على موضوعاتها. "شرح الطوفي 2/ 353-354".
3 أي: أن القائلين بأن الأمر لا صيغة له، بنوا ذلك على إثبات الكلام القائم بالنفس، فإنه معنى لا صيغة له.
قال الآمدي: "وقد اختلف القائلون بكلام النفس: هل الأمر صيغة تخصه وتدل على دون غيره في اللغة أم لا؟ فذهب الشيخ أبو الحسن -رحمه الله-، ومن تابعه إلى النفي، وذهب ممن عداهم إلى الإثبات" الإحكام "2/ 12".
قال الطوفي: "قلت قول الأشعري: ليس للأمر النفسي صيغة تدل عليه مع قوله: إن القرآن صيغ وعبارات مخلوقة؛ تدل على كلام الله -عز وجل- القائم بنفسه، تناقص.
والأشهر عنه: أن للكلام والأمر صيغًا تدل على معناه، فلعل ما حكاه الآمدي عنه، قول مرجوع عنه، أن أن المراد به غير ما ظهر لي، والله سبحانه وتعالى أعلم" شرح مختصر الروضة "2/ 354".
وقد رد المصنف على من قال: إنه لا صيغة للأمر بأنهم خالفوا الكتاب والسنة وأهل اللغة والعرف -كما سيأتي-.

 

ج / 1 ص -544-       فخالفوا الكتاب والسنة وأهل اللغة والعرف:
أما الكتاب:
فإن الله -تعالى- قال لزكريا:
{آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا، فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}1. فلم يسم إشارته إليهم كلامًا.
وقال لمريم:
{فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا}2. فالحجة فيه مثل الحجة في الأول.
وأما السنة:
فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال
"إن الله عفا لأمتى عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به"3.
وقال لمعاذ:
"أمسك عليك لسانك" قال: وإنا لمؤاخذون بما نقول؟ قال: "ثكلتك أمك وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم"4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة مريم الآيتان: 10، 11 فلم يسم إشارته كلامًا، مع أنها تعبير عما في النفس.
2 سورة مريم الآية: 26.
3 حديث صحيح: رواه البخاري: كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكر أو الجنون من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا، كما رواه مسلم: كتاب الإيمان، باب: تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر، وأبو داود: كتاب الطلاق، باب في الوسوسة بالطلاق، وأحمد في مسنده "2/ 398-425، 474".
4 أخرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه، كلهم من رواية أبي وائل عن معاذ وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح" كما رواه البيهقي وغيره عن =

 

ج / 1 ص -545-       وقال: "إذا قال الإمام {وَلا الضَّالِّين} فَقًُولُوا: آمين"1 ولم يرد بذلك ما في النفس.
وأما أهل اللسان2:
فإنهم اتفقوا -عن آخرهم- على أن الكلام: اسم، وفعل وحرف2.
واتفق الفقهاء -بأجمعهم- على أن من حلف لا يتكلم، فحّدث نفسه بشيء دون أن ينطق بلسانه: لم يحنث، ولو نطق: حنث.
وأهل العرف -كلهم- يسمون الناطق: متكلمًا، ومن عداه: ساكتًا، أو أخرس3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ميمون بن أبي شيبة عن معاذ، كما في الترغيب والترهيب "5/ 165" طبعة دار الفكر، بيروت.
1 رواه مالك: كتاب النداء، باب ما جاء في التأمين خلف الإمام. الموطأ "1/ 87" والبخاري: كتاب الأذان، باب جهر المأموم بالتأمين، وباب جهر الإمام بالتأمين، ومسلم: كتاب الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين، وأبو داود: كتاب الصلاة، باب التأمين وراء الإمام، والنسائي، كتاب افتتاح الصلاة، باب جهر ا لإمام بآمين، وباب الأمر بالتأمين خلف الإمام، وابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة، باب الجهر بآمين، وأحمد في المسند "2/ 233، 238، 270، 449، 450".
2 معناه: أن من قال: إن الكلام معنى قائم في النفس قد خالف أهل اللغة واللسان العربي؛ فإنهم قسموا الكلام إلى اسم وفعل وحرف، وما في النفس ليس واحدًا منها، فإنهم هم الحجة في هذا المقام.
3 أي: أن من قال بالكلام النفسي فقد خالف إجماع الفقهاء، فإن من حلف أن لا يتكلم، ثم حدثته نفسه بأشياء لم ينطق بها لا يحنث، بخلاف ما لو نطق، فإنه يحنث وتجب عليه الكفارة.

 

ج / 1 ص -546-       ومن خالف كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وإجماع الناس كلهم -على اختلاف طبقاتهم- فلا يعتد بخلافه.
فأما الدليل على أن هذه صيغة الأمر: فاتفاق أهل اللسان على تسمية هذه الصيغة أمرًا.
ولو قال رجل لعبده: "اسقني ماء" عُدَّ آمرًا، وعُدَّ العبد مطيعًا بالامتثال، عاصيا بالترك، مستحقا للأدب والعقوبة.
[معاني صيغة الأمر]
فإن قيل: هذه الصيغة مشتركة بين:
الإيجاب كقوله-تعالى-:
{أَقِمِ الصَّلاةَ}1.
والندب كقوله-تعالى-:
{فَكَاتِبُوهُمْ....}2.
والإباحة كقوله-تعالى-:
{فَاصْطَادُوا...}3.
والإكرام كقوله-تعالى-:
{ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ}4.
والإهانة كقوله- تعالى-:
{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}5.
والتهديد كقوله-تعالى-:
{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ.....}6.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء من الآية: 78.
2 سورة النور من الآية: 33.
3 سورة المائدة من الآية: 2.
4 سورة الحجر من الآية: 46.
5 سورة الدخان الآية: 49.
6 سورة فصلت من الآية: 40.

 

ج / 1 ص -547-       والتعجيز كقوله -تعالى-: {كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا}1.
والتسخير كقوله -تعالى-:
{كُونُوا قِرَدَةً}2.
والتسوية كقوله -تعالى-:
{فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا}3.
والدعاء -كقوله-: "اللهم اغفر لي"4.
والخبر كقوله -تعالى-:
{أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ}6.
والتمني كقول الشاعر:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي7.

فالتعيين يكون تحكمًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الإسراء الآية: 50.
2 سورة البقرة من الآية: 65.
3 سورة الطور من الآية: 16.
4 هذا مجرد تمثيل، وإلا فالوارد في القرآن الكريم بلفظ:
{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي} [الأعراف: 151] {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [إبراهيم: 41] {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا} [نوح: 28].
5 سورة مريم من الآية: 38.
6 حديث صحيح: أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء، وفي الأدب المفرد باب: إذا لم تستح فاصنع ما شئت، من حديث أبي مسعود البدري، وأبو داود: في الأدب، باب في الحياء، وابن ماجه في الزهد، باب الحياء.
كما أخرجه من حديث حذيفة: أحمد في المسند "5/ 383" وأبو نعيم في الحلية "4/ 371" والخطيب في تأريخ بغداد "12/ 135".
7 الشاعر: هو امرؤ القيس. تقدمت ترجمته. وهذا صدر بيت من قصيدته المشهورة من المعلقات العشر.

 

ج / 1 ص -548-       قلنا: هذا لا يصح لوجهين:
أحدهما: مخالفة أهل اللسان؛ فإنهم جعلوا هذه الصيغة أمرًا، وفرقوا بين "الأمر" و"النهي" فقالوا: باب الأمر: "افعل"، وباب النهي: "لا تفعل"، كما ميزوا بين الماضي والمستقبل.
وهذا أمر نعلمه بالضرورة من كل لسان: من العربية، والعجمية، والتركية، وسائر اللغات، لا يشككنا فيه إطلاق مع قرينة التهديد ونحوه في نوادر الأحوال.
الثاني: أن هذا يفضي إلى سلب فائدة كبيرة من الكلام، وإخلاء الوضع عن كثير من الفائدة.
وفي الجملة: كالاشتراك على خلاف الأصل؛ لأنه يخل بفائدة الوضع، وهو: الفهم.
والصحيح: أن هذه صيغة الأمر، ثم تستعمل في غيره مجازًا مع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وعجز البيت:
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
وروي:
وما الإصباح فيك بأمثل
ومعنى البيت: أن الشاعر يشكو من طول ليله، لأن ليل المحب كأنه مستحيل الانجلاء، ولذلك حمله الشاعر على التمني، بخلاف الرجاء، فإنه يكون في الممكنات.
انظر: ديوان امرئ القيس ص8 الطبعة الثانية بدار المعارف بمصر.
وهناك معان أخر لصيغة الأمر، أوصلها بعضهم إلى أكثر من ثلاثين معنى.
انظر: أصول السرخسي "1/ 14"، المعتمد "1/ 49"، المحصول "جـ1 ق2 ص57 مختصر الطوفي ص84، شرح الكوكب المنير "3/ 17 وما بعدها".

 

ج / 1 ص -549-       القرينة، كاستعمال ألفاظ الحقيقة بأسرها في مجازها1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معنى ذلك: أن صيغة الأمر حقيقة في الطلب الجازم، مجاز في غيره من المعاني.
وذكر الآمدي أنهم اتفقوا على أن صيغة "افعل" مجاز فيما سوى الطلب، والتهديد، والإباحة، واختلفوا في أنها مشتركة بين الثلاثة، أو حقيقة في الإباحة، مجاز فيما سواها، أو في الطلب، مجاز فيما سواه.
قال: وهو المختار؛ لأن من قال لغيره: افعل كذا مجردًا عن جميع القرائن، تبادر إلى الفهم منه: الطلب، وذلك دليل الحقيقة. انظر: "الإحكام 2/ 142".
قال الطوفي: "قلت: وإذا ثبت بهذا أنها حقيقة في الطلب، ثبت أنها للجزم..." شرح مختصر الروضة "2/ 358".

فصل: [لا يشترط الإرادة في الأمر]
ولا يشترط في كون الأمر أمرًا: إرادة الآمر في قول الأكثرين.
وقالت المعتزلة: إنما يكون أمرًا بالإرادة1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه المسألة ناشئة من الخلاف الذي بين أهل السنة والجماعة وبين المعتزلة في: هل الطلب هو الإرادة، أو غيرها؟
وتحقيق القول في هذه المسألة: أن الإرادة نوعان:
1- إرادة كونية قدرية، وهي الإرادة الشاملة لجميع الموجودات.
2- إرادة دينية شرعية، وقد توجد وقد لا توجد. والأمر الشرعي إنما تلازمه الإرادة الشرعية، ولا تلازمه الإرادة الكونية، فالله -تعالى- أمر أبا لهب -مثلًا- بالإيمان، وأراده منه شرعًا، ولكنه لم يرده منه كونًا وقدرًا؛ إذ لو أراده -كونًا- لوقع والآيات في معنى ذلك كثيرة:
قال تعالى:
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 137] وقال تعالى: =

 

ج / 1 ص -550-       وحده بعضهم: بأنه: إرادة الفعل بالقول على وجه الاستعلاء.
قالوا: لأن الصيغة مترددة بين أشياء، فلا ينفصل الأمر منها مما ليس بأمر إلا بالإرادة.
ولأن الصيغة إن كانت أمرا لذاتها: فهو باطل بلفظ التهديد، أو لتجردها عن القرائن، فيبطل بكلام النائم والساهي.
فثبت أن المتكلم بهذه الصيغة على غير وجه السهو غرضه: المأمور به، وهو نفس الإرادة ولنا: أن الله أمر إبراهيم –عليه السلام- بذبح ولده، ولم يرده منه وأمر أبليس بالسجود، ولم يرده منه؛ إذ لو أراده لوقع؛ فإن الله -تعالى- فعال لما يريد.
دليل ثان: أن الله -تعالى- أمر بأداء الأمانات بقوله:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}1.
ثم لو ثبت أنه لو قال: "والله لأؤدين أمانتك إليك غدا إن شاء الله" فلم يفعل: لم يحنث2؛ فإن الله -تعالى- قد شاء ما أمره به من أداء أمانته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=
{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا....} [السجدة: 13]. وهذا ما عليه أهل السنة والجماعة.
أما المعتزلة فقالوا: إنه لا يكون أمرا إلا بإرادة وقوعه. فأدى بهم ذلك إلى القول: بأن معصية العاصي ليست بمشيئة الله تعالى؛ لأنه أمر بتركها، ولم يرد إلا التزام الذي أمر به، لأن الأمر لا يكون أمرا إلا بالإرادة.
وقد رد المصنف على اتجاه المعتزلة كما سيأتي قريبا.
1 سورة النساء من الآية: 58.
2 في الأصل "يجب" وصححناه من النسخة التي حققها الدكتور "النملة" -سلمه الله-.

 

ج / 1 ص -551-       دليل آخر: أن دليل الأمر ما ذكرنا1 عن أهل اللسان، وهم لا يشترطون الإرادة.
ودليل آخر: أنا نجد الأمر متميزا عن الإرادة؛ فإن السلطان لو عاتب رجلا على ضرب عبده، فمهد عذره بمخالفة أمره فقال له بين يدي الملك: "أسرج الدابة" وهو لا يريد أن يسرج؛ فيه من خطر الهلاك للسيد.
ولأنه قصد تمهيد عذره، ولا يتمهد إلا بمخالفته، وتركه امتثال أمره، وهو أمر، لولاه لما تمهد العذر.
وكيف لا يكون آمرا، وقد فهم العبد والملك والحاضرون منه الأمر2؟.
فأما الاشتراك في الصيغة: فقد أجبنا عنه3.
ولأننا قد حددنا الأمر بأنه: استدعاء الفعل بالقول، ومع التهديد لا يكون استدعاء.
وهذا الجواب عن الكلام الثاني4، فإنا نقول: هي أمر؛ لكونها استدعاء على وجه الاستعلاء.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قوله -سابقا-: "وأما الدليل على أن هذه صيغة الأمر إلخ".
2 نقل أبو يعلى في العدة "1/ 215" عن الإمام أحمد -رضي الله عنه- أنه قال: "أمر الله -عز وجل- العباد بالطاعة، وكتب عليهم المعصية؛ لإثبات الحجة عليهم، وكتب الله على آدم يصيب الخطيئة قبل أن يخلقه".
قال أبو يعلى: "وهذا يدل على أن الأمر يعتبر فيه الإرادة للآمر؛ لأن كتبه المعصية ضد الأمر بالطاعة، لأن ما كتبه حتم لا بد من وجوده، فعلم أن ما أمر به من الطاعة لم يكن مريدا له؛ لأنه كتب ضده".
3 في قوله: "قلنا: هذا لا يصح لوجهين...".
4 معناه: أن المعتزلة لما قالوا في دليلهم الثاني: "إن كانت الصيغة أمرا لذاتها، =

 

ج / 1 ص -552-       ويخرج من هذا النائم والساهي؛ فإنه لا يجد على وجه الاستعلاء1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فهو باطل بلفظ التهديد، وإن كانت أمرا نظرا لتجردها عن القرائن فهو باطل بكلام النائم..." فأجاب عنه الجمهور: بأنا جعلنا صيغة "افعل" أمرا لكونها استدعاء لفعل متجردة على وجه الاستعلاء، لا للإرادة، فإذا جاءت متجردة اكتفينا في الحكم عليها بأنها "أمر" والذي يستعلمها في غير ذلك يحتاج إلى دليل، ويخرج عن هذا النائم والساهي لأنه لا استعلاء في صيغتهما
1 معناه: أن لفظ النائم والساهي بصيغة "افعل" مع أنه ليس أمرا لا يرد علينا؛ لأن انتفاء كونه أمرا ليس لعدم الإرادة، بل لعدم الاستعلاء فيه؛ إذ الاستعلاء لا يتصور من النائم والساهي، لأن الاستعلاء كيفية تصدر عن تصور الأمر واستشعاره أنه أعلى من المأمور، وذلك يستلزم صحة التصور والقصد، وهما ممتنعان في النائم والساهي، ولذلك قلنا: لا يتوجه الخطاب إليهما حال النوم والسهو.
انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 361-362".

مسألة: [الأمر المجرد يدل على الوجوب]
إذا ورد الأمر متجردا عن القرائن1: اقتضى الوجوب في قول الفقهاء وبعض المتكلمين.
وقال بعضهم: يقتضى الإباحة لأنها أدنى الدرجات، فهي مستيقنة، فيجب حمله على اليقين2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أشار المصنف بذلك إلى تحرير محل النزاع وهو: ما إذا خلا الأمر عن أي قرينة تدل على أن المراد به الوجوب، أو الندب، أو الإباحة أو التهديد، وكذا سائر المعاني التي سبق ذكرها، فإنه إذا اقترنت به قرينة تدل على معنى حمل عليه بلا خوف.
2 وضحه الطوفي في شرحه: "2/ 366 فقال: "أي: أن الأمر قد استعمل في الوجوب والندب والإباحة، وهي المتيقنة، فليكن الأمر حقيقة فيها، ويقف

 

ج / 1 ص -553-       وقال بعض المعتزلة: يقتضي الندب؛ لأنه لا بد من تنزيل الأمر على أقل ما يشترك فيه الوجوب والندب وهو: طلب الفعل واقتضاؤه، وأن فعله خير من تركه، وهذا معلوم، أما لزوم العقاب بتركه فغير معلوم، فيتوقف فيه1.
ولأن الأمر طلب، والطلب يدل على حسن المطلوب لا غير، والمندوب حسن، فيصح طلبه، وما زاد على ذلك درجة لا يدل عليها مطلق الأمر، فيحمل على اليقين.
وقالت الواقفية: هو على الوقف، حتى يرد الدليل ببيانه؛ لأن كونه موضوعا لأحد الأقسام: إما أن يعلم بنقل أو عقل، ولم يوجد أحدهما، فيجب التوقف فيه2.
ولنا: ظواهر الكتاب، والسنة، والإجماع، وقول أهل اللسان:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= حمله خصوصية الندب، أو الوجوب على الدليل؛ لأنهما مشكوك فيهما، فلا يحمل عليهما بالشك، ولأن جواز الإقدام هو القدر المشترك بين الثلاثة، فليكن الأمر حقيقة فيه، وهو الإباحة؛ دفعا للمجاز والاشتراك".
1 تقرير ذلك: أن الأمر ورد تارة للوجوب وتارة للندب، فلو جعل حقيقة في أحدهما كان مجازا في الآخر، ولو جعل حقيقة فيهما لزم الاشتراك، وكلاهما خلاف الأصل، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما، وهو مطلق رجحان الفعل.
وأما العقاب على الترك: فينتفي بالاستصحاب، أي: استصحاب عدمه، وهو كون الأصل: براءة الذمة منه.
انظر: شرح الطوفي "2/ 366.
2 وحجتهم: إبطال أدلة المخالفين والقدح فيها، فيجب التوقف.

 

ج / 1 ص -554-       أما الكتاب:
فقوله –تعالى-:
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}1. حذر الفتنة والعذاب الأليم في مخالفة الأمر، فلولا أنه مقتض للوجوب ما لحقه ذلك.
وأيضا قول الله –تعالى-:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}2.
وقوله تعالى:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ}3 ذمهم على ترك امتثال الأمر، والواجب: ما يذم يتركه.
ومن السنة:
ما روى البراء بن عازب: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة، فردوا عليه القول، فغضب، ثم انطلق حتى دخل على عائشة غضبان، فقالت: "من أغضبك أغضبه الله"؟ فقال:
"وما لي لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع"4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قال الطوفي: "وهذه طريقة جيدة في المطالب القطعية، أما الظنية: فيكون فيها ظهور أحد الطرفين، وإن توجه إليه قادح ما".
1 سورة النور من الآية: 63.
2 سورة الأحزاب من الآية: 36.
3 سورة المرسلات من الآية: 48.
4 أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب التمتع والإقران والإفراد بالحج، وفسخ الحج لمن لم يكن معه هدي، ومسلم: كتاب الحج، باب بيان وجوه الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران، وأبو داود: كتاب الحج، باب إفراد الحج، كما أخرجه الشافعي والطيالسي.
انظر: تلخيص الحبير "2/ 231".

 

ج / 1 ص -555-       فإن قيل: هذا أمر اقترن به ما دل على الوجوب.
قلنا: النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما علل غضبه بتركهم اتباع أمره، ولولا أن أمره للوجوب، لما غضب من تركه.
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:
"لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"1. والندب غير شاق، فدل على أن أمره اقتضى الوجوب.
وقوله -عليه السلام- لبريرة2:
"لو راجعتيه؟" قالت: أتأمرني يا رسول الله؟ فقال: "إنما أنا شافع"3. فقالت: لا حاجة لي فيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب التمني، باب ما يجوز من اللو، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- كما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ومالك والشافعي، كلهم في كتاب الطهارة.
2 هي: بريرة مولاة عائشة -رضي الله عنهما- اشترتها من رجل من بني هلال وأعتقتها.
انظر: الاستيعاب "4/ 1795".
3 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الطلاق، باب شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- في زوج بريرة، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- بلفظ:
"لو راجعتيه؛ فإنه أبو ولدك"، فقالت: بأمرك يا رسول الله؟ فقال: "إنما أنا شافع".
كما أخرجه أبو داود: كتاب الطلاق، باب في المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد، والترمذي: كتاب الرضاع، باب ما جاء في المرأة تعتق ولها زوج، والنسائي: كتاب القضاء، باب شفاعة الحاكم للمحكوم قبل فصل الحكم، وابن ماجه وغيرهم.
قال أبو يعلي في العدة "1/ 233-234": "فموضع الدليل: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر أنه شافع، وشفاعته تدل على الندب، ومن قال: الأمر على الندب يقول: هو بمنزلة الشفاعة، فلو كان الأمر والشفاعة سواء ما تبرأ من الأمر".

 

ج / 1 ص -556-       وإجابة شفاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- مندوب إليها، فدلنا ذلك على أن أمره للإيجاب.
الثالث: إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- فإنهم أجمعوا على وجوب طاعة الله -تعالى- وامتثال أوامره من غير سؤال النبي -صلى الله عليه وسلم- عما عنى بأوامره، وأوجبوا أخذ الجزية من المجوس بقوله:
"سنوا بهم سنة أهل الكتاب"1.
وغسل الإناء من الولوغ بقوله
"... فليغسله سبعا"2.
والصلاة عند ذكرها بقوله:
".... فليصلها إذا ذكرها"3.
واستدل أبو بكر -رضي الله عنه- على إيجاب الزكاة بقوله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح: رواه البخاري: كتاب الجزية، باب الجزية والموادعة مع أهل الحرب، والترمذي: كتاب السير حديث رقم "1586" ومالك في الموطأ: باب جزية أهل الكتاب والمجوس.
2 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الوضوء -باب إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا –حديث "37 عن أبي هريرة، ومسلم: كتاب الطهارة باب حكم ولوغ الكلب حديث "90" من طريق هشام عن ابن سيرين بلفظ: "إذا" ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات".
ورواه مثل رواية مسلم: الترمذي وقال: "حسن صحيح".
كما روي من طريق مالك عن أبي الزناد وعن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ:
"إذا شرب الكلب في إناء أحدكم غسل سبعا أولاهن بالتراب".
ورواه مثل رواية مسلم: الترمذي وقال: "حسن صحيح".
كما روي من طريق مالك عن أبي الزناد وعن الأعرج عن أبي هريرة بلفظ:
"إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات".
3 حديث صحيح: أخرجه البخاري -كتاب مواقيت الصلاة، باب من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها- من حديث أنس بن مالك –رضي الله عنه- مرفوعا. ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، كما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه ولفظه:
"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها".

 

ج / 1 ص -557-       - تعالى-: {.... وَآتُوا الزَّكَاةَ}1.
ونظائر ذلك مما لا يخفى، يدل على إجماعهم على اعتقاد الوجوب.
الرابع: أن أهل اللغة عقلوا2 من إطلاق الوجوب؛ لأن السيد لو أمر عبده، فخالفه، حسن -عندهم- لومه وتوبيخه وحسن العذر في عقوبته لمخالفتة الأمر، والواجب: ما يعاقب بتركه، أو يذم بتركه.
فإن قيل: إنما لزمت العقوبة؛ لأن الشريعة أوجبت ذلك.
قلنا: إنما أوجبت طاعته إذا أتى السيد بما يقتضي الإيجاب، ولو أذن له في الفعل، أو حرمه عليه: لم يجب عليه.
ولأن مخالفة الأمر معصية. قال الله -تعالى-:
{لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ}3، وقال: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}4، ويقال: {أمرتك فعصيتني}.
وقال الشاعر5:

أمرتك أمرا جازما فعصيتني6                           .............................


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة الآيات: 43-110، وسورة النور الآية: 56، والمزمل الآية 20.
2 أي: فهموا.
3 سورة التحريم من الآية: 6.
4 سورة طه من الآية: 93.
5 هو: الحصين بن المنذر الذهلي الرقاشي، من أهل البصرة، حامل راية بكر بن وائل في معركة "صفين" كان مع جيش علي، وكان شابا، ثم أصبح شريفا في قومه، وكان يكني نفسه بأبي ساسان، وكنيته في الحقيقة: أبو حفص. انظر: وفيات الأعيان "6/ 290".
6 هذا صدر بيت ضمن بيتين قالهما ليزيد بن المهلب لما أمره الحجاج بترك البصرة عام 85هـ فاستشار الحصين فأنشده

 

ج / 1 ص -558-       والمعصية موجبة للعقوبة؛ قال الله -تعالى-: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا}1.
وأما قول من قال: "نحمله على الإباحة2؛ لأنه اليقين" فهو باطل؛ فإن الأمر: استدعاء وطلب، والإباحة ليست طلبًا ولا استدعاء، بل إذن له وإطلاق.
وقد أبعد من جعل قوله: "افعل" مشتركًا بين الإباحة والتهديد، الذي هو: المنع وبين الاقتضاء؛ فإنا ندرك في وضع اللغات -كلها- قولهم: "افعل" و"لا تفعل" و"إن شئت فافعل" و"إن شئت فلا تفعل".
حتى لو قدرنا انتفاء القرائن كلها يسبق إلى الأفهام اختلاف معاني هذه الصيغ، ونعلم -قطعًا- أنها ليست أسامي مترادفة على معنى واحد، كما ندرك التفرقة بين قولهم: "قام" و"يقوم" في: أن هذا ماض، وذاك مستقبل، وهذا أمر يعلم ضرورة، ولا يشككنا فيه إطلاق مع قرينة التهديد.
وبالطريق الذي نعرف فإنه لم يوضع للتهديد: فعلم أنه لم يوضع للتخيير.
وقول من قال: "هو للندب؛ لأنه اليقين"3: لايصح لوجهين:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=

أمرتك أمرًا جازمًا فعصيتني                   فأصبحت مسلوب الإمارة نادما

فما أنا بالباكي عليك صبابة                  وما أنا بالداعي لترجع سالما

انظر: معجم الشعراء ص "193" شرح الحماسة للمرزوقي "2/ 814".
1 سورة الأحزاب من الآية: 36.
2 بدأ المصنف يرد على القائلين بأن صيغة "افعل" تدل على الإباحة.
3 هذا رد على القائلين بأنها للندب.

 

ج / 1 ص -559-       أحدهما: أنا قد بينا أن مقتضى الصيغة الوجوب بما ذكرنا من الأدلة.
الثاني: أن هذا إنما يصح أن لو كان الوجوب ندبًا وزيادة، وليس1 كذلك؛ لأنه يدخل في حد الندب: جواز الترك، وليس بموجود في الوجوب.
وأما أهل الوقف2: فغاية ما معهم: المطالبة بالأدلة، وقد ذكرناها.
ثم قد سلموا أن الأمر اقتضى: ترجيح الفعل على الترك، فيلزمهم: أن يقولوا بالندب، ويتوقفوا فيما زاد، كقول أصحاب الندب.
أما القول: بأن الصيغة لا تفيد شيئًا: فتسفيه لواضع اللغة، وإخلاء للوضع عن الفائدة بمجرده3.
وإن توقفوا لمطلق الاحتمال: لزمهم التوقف في الظواهر كلها، وترك العمل بما لا يفيد القطع، واطراح أكثر الشريعة فإن أكثرها إنما ثبت بالظنون.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل "ولا".
2 هذا رد على القائلين بالتوقف.
3 لم أطلع على مذهب يقول: بأن صيغة "افعل" لا تفيد شيئًا، فلا أدري من أين جاء المصنف بهذا المذهب الغريب؟!

فصل: [فيما تفيده صيغة الأمر بعد الحظر]
إذا وردت صيغة الأمر بعد الحظر: اقتضت الإباحة وهو ظاهر قول الشافعي1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن اللحام في القواعد ص138 "هذا قول جمهور أصحابنا".

 

ج / 1 ص -560-       وقال أكثر الفقهاء والمتكلمين: تفيد ما كانت تفيده1 لولا الحظر؛ لعموم أدلة الوجوب.
ولأنها صيغة أمر مجردة عن قرينة أشبهت ما لم يتقدمه حظر.
ولأن صيغة الأمر اقتضت نسخ الحظر، وقد ينسخ بإيجاب، وينسخ بإباحة، وإذا احتمل الأمرين: بقي الأمر على مقتضاه في الوجوب.
ولأن النهي بعد الأمر يقتضي ما كان مقتضيًا له، فكذلك الأمر بعد الحظر.
وقال قوم: إن ورد الأمر بعد الحظر بلفظة "افعل": فكقولنا2.
وإن ورد بغير هذه الصيغة كقولهم: "أنتم مأمورون بعد الإحرام بالاصطياد" كقولهم3؛ لأنه في الأول انصرف بعرف الاستعمال إلى رفع الذم -فقط- حتى رجع حكمه إلى ما كان.
وفي الثاني لا عرف له في الاستعمال، فيبقى على ما كان4.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو الوجوب.
2 في الأصل: كقولنا: أي: أنه يفيد الإباحة.
3 في الأصل: كقولهم: أي: كقول الفقهاء والمتكلمين، من أنه للوجوب.
4 وفي المسألة آراء أخرى كثيرة، من أرجحها: أن حكمه يرجع إلى ما كان عليه قبل الحظر، فإن كان قبل الحظر للوجوب، رجع إلى الوجوب، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم- لفاطمه بنت أبي حبيش:
"دعي الصلاة أيام أقرائك، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي". متفق عليه.
أما إن كان للإباحة رجع إليها كما في قوله تعالى:
{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} فإن الصيد كان مباحًا قبل الحظر وقت الإحرام...." قال ابن اللحام: "وهذا اختيار ابي العباس. قال: وهو المعروف عن السلف والأئمة ومعناه كلام المزني" "القواعد ص139".

 

ج / 1 ص -561-       ولنا:
أن عرف الاستعمال في الأمر بعد الحظر الإباحة، بدليل: أن أكثر أوامر الشرع بعد الحظر للإباحة، كقوله تعالى:
{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}1 {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا} {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ}3.
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:
"كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحى فوق ثلاث، فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأوعية كلها، ولا تشربوا مسكرا"4.
وفي العرف: أن السيد لو قال لعبده: "لا تأكل هذا الطعام" ثم قال: "كله" أو قال لأجنبي: "ادخل داري وكل من ثماري" اقتضى ذلك رفع الحظر دون الإيجاب.
ولذلك: لا يحسن اللوم والتوبيخ على تركه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة من الآية: 2.
2 سورة الجمعة من الآية: 10.
3 سورة البقرة من الآية: 222.
4 رواه مسلم: كتاب الجنائز، باب استئذان النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه -عز وجل- في زيارة قبر أمه، وفي كتاب الأضاحي، باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه من حديث بريدة -رضي الله عنه- كما رواه عنه أبو داود: كتاب الجنائز، باب في زيارة القبور، وفي كتاب الأشربة، باب في الأوعية، والترمذي: كتاب الجنائز، باب الرخصة في زيارة القبور، وقال: "حديث حسن صحيح".
كذلك رواه النسائي وابن ماجه، والشافعي وغيرهم، من طريق بريدة وغيره.
انظر: نصب الراية "4/ 218"، فيض القدير "5/ 55".

 

ج / 1 ص -562-       فإن قيل:
فقد قال الله -تعالى-:
{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}1.
قلنا: ما استفيد وجوب القتل بهذه الآية، بل بقوله:
{اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ}2.
وأما أدلة الوجوب: فإنما تدل على اقتضائه مع عدم القرائن الصارفة له، بدليل المندوبات وغيرها وتقدم الحظر قرينة صارفة لما ذكرناه.
وقولهم: "إن النسخ يكون بالإيجاب"3.
قلنا: النسخ إنما يكون بالإباحة التي تضمنها الإيجاب، زائد لا يلزم من النسخ، ولا يستدل به عليه.
وأما النهي4 بعد الإيجاب: فهو مقتض لإباحة الترك، كقوله -عليه السلام-: "توضئوا من لحوم الإبل ولا توضئوا من لحوم الغنم"5.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة من الآية: 5.
2 سورة التوبة من الآية: 12.
3 هذا رد على الدليل الثالث للقائلين بأنها تفيد الوجوب.
4 هذا -أيضًا- رد على دليلهم الرابع وهو: قياس الأمر بعد الحظر، على النهي بعد الأمر.
5 رواه أحمد في المسند "4/ 352" عن أسد بن حضير، وابن ماجه: كتاب الطهارة، باب ما جاء في الوضوء من لحوم الإبل من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما-.
وفي رواية أخرى -عند أحمد-:
"توضئوا من لحوم الإبل وألبانها".
ورواية مسلم عن جابر بن سمرة أن رجلًا سأل سول الله -صلى الله عليه وسلم-: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال:
"إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ".
وللعلماء في وجوب الوضوء من أكل لحوم الإبل خلاف حكاه المصنف في =

 

ج / 1 ص -563-       وإن سلمنا: فالنهي آكد6.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "المغني" فقال: "وجملة ذلك: أن أكل لحم الإبل ينقض الوضوء على كل حال، نيئًا ومطبوخًا، عالمًا كان أو جاهلًا، وبهذا قال جابر بن سمرة ومحمد بن إسحاق وأبو خيثمة ويحيى بن يحيى وابن المنذر، وهو أحد قولي الشافعي.
قال أبو الخطاب: ذهب إلى هذا عامة أصحاب الحديث.
وقال الثوري ومالك والشافعي وأصحاب الرأي: لا ينقض الوضوء بحال؛ لأنه روي عن ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
"الوضوء مما يخرج، لا مما يدخل" أخرجه الدراقطني والبيهقي وغيرهما.
وروي عن جابر قال: "كان آخر الأمرين من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ترك الوضوء مما مست النار" أخرجه أبو داود، والترمذي، والنسائي. "المغني 1/ 250-251 تحقيق الدكتور عبد الله التركي والدكتور عبد الفتاح الحلو".
6 قوله: "وإن سلمنا: فالنهي آكد" هذا رد على قياس الأمر على النهي في قول الفقهاء والمتكلمين: "ولأن النهي بعد الأمر يقتضي ما كان مقتضيًا له، فكذلك الأمر" فأجاب المصنف على ذلك بجوابين.
أحدهما: عدم التسيلم بأن النهي بعد الأمر يفيد ما كان يفيده قبل النهي.
الجواب الثاني: لو سلمنا -جدلًا- بأنه يفيد ما كان يفيده قبل النهي، فلا يصح قياس الأمر عليه لأمرين:
الأول: أن حمل النهي على التحريم يقتضي الترك وهو الأصل، لأن الأصل عدم الفعل، وحمل الأمر على الوجوب يقتضي الفعل، وهو خلاف الأصل.
الأمر الثاني: أن النهي لدفع المفسدة المتعلقة بالمنهي عنه، والأمر لجلب المصلحة، ولا شك أن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح. وهذا كله يندرج تحت قول المصنف: "فالنهي آكد".

 

ج / 1 ص -564-       فصل: [الأمر المطلق هل يقتضي التكرار]
الأمر المطلق1: لا يقتضي التكرار في قول أكثر الفقهاء والمتكلمين. وهو اختيار أبي الخطاب2.
وقال القاضي وبعض الشافعية: يقتضي التكرار3؛ لأن قوله: "صم" ينبغي أن يعم كل زمان، كما أن قوله -تعالى-:
{اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}4 يعم كل مشرك؛ لأن إضافة الأمر إلى جميع الزمان كإضافة لفظ المشترك إلى جميع الأشخاص.
ولأن الأمر بالشيء: نهي عن ضده، وموجب النهي: ترك المنهي أبدًا، فليكن موجب الأمر: فعل الصوم أبدًا، فإن قوله: "صم" معناه: لا تفطر، وقوله: "لا تفطر" يقتضي التكرار أبدًا5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله: "المطلق" تحرير لمحل النزاع، فإن الأمر إذا قيد بالمرة أو بالتكرار حمل على ما قيد به بلا خلاف، كذلك إذا قيد بصفة أو شرط، عند وجود الصفة أو الشرط.
2 وهو رواية عن الإمام أحمد. انظر: "التمهيد 1/ 187".
3 انظر: العدة "1/ 264".
4 سورة التوبة من الآية: 5.
5 خلاصته: أن القائلين بأنه يدل على التكرار استدلوا على ذلك بوجهين.
أحدهما: أن النهي نقيض الأمر، والنهي يقتضي التكرار بالاتفاق، فكذلك الأمر، يجب أن يقتضي التكرار.
ثانيهما: أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فإذا قال له: صم، فقد نهاه عن الفطر، والنهي عن الفطر يقتضي التكرار، فكذلك الأمر بالصوم.
انظر: شرح الطوفي "2/ 376".

 

ج / 1 ص -565-       ولأن الأمر يقتضي العزم، والفعل ثمراته تقتضي العزم على التكرار، فكذلك الموجب الآخر1.
وقيل: إن علق الأمر على شرط اقتضى التكرار، وإلا فلا يقتضيه2؛ لأن تعليق الحكم بالشرط كتعلقه بالعلة، ثم إن الحكم يتكرر بتكرر علته، فكذلك يتكرر بتكرر شرطه.
ولأنه لا اختصاص له بالشرط الأول دون بقية الشروط، ودليل اعتباره: النهي المعلق على شرط.
وقيل: إن كرر لفظ الأمر كقوله:
"صل غدًا ركعتين" اقتضي التكرار؛ طلبًا لفائدة الأمر الثاني، وحملا له على مقتضاه في الوجوب والندب كالأول.
وحكي هذا القول عن أبي حنيفة وأصحابه3.
ولنا:
أن الأمر خالٍ عن التعرض لكمية المأمور به؛ إذ ليس في نفس اللفظ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وضحه أبو الخطاب في التمهيد "1/ 197" فقال: "إن الأمر يقتضي وجوب الفعل، ووجوب الاعتقاد والعزم، ثم الاعتقاد والعزم يجب استدامتها، كذلك الفعل".
2 حكاية المصنف لهذا الرأي خارجة عن محل النزاع، إذ سبق في تحرير محل الخلاف: أن الأمر المعلق على شرط أو صفة مثل المقيد بعدد معين، فهو مقيد، وليس مطلقا؛ ولذلك قال الشيخ الشنقيطي -رحمه الله تعالى- في مذكرته ص194: "اعلم -أولًا- أن ذكر القول بأنه: "إن علق على شرط: اقتضى التكرار" سهو من المؤلف -رحمه الله- لأن الكلام في الأمر المطلق خاصة، والمعلق على شرط غير مطلق".
3 انظر: "فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت جـ1 ص391".

 

ج / 1 ص -566-       تعرض للعدد، ولا هو موضوع لآحاد الأعداد وضع اللفظ المشترك، لكنه محتمل للإتمام ببيان الكمية، فهو كقوله: "اقتل"، لا نقول: هو مشترك بين زيد وعمرو، ولا فيه تعرض لهما، فتفسيره بهما، أو بأحدهما زيادة على كلام ناقص، فإتمامه بلفظ دل على تلك الزيادة، لا بمعنى البيان.
فحصل من هذا: أن ذمته تبرأ بالمرة الواحدة؛ لأن وجوبها معلوم، والزيادة لا دليل عليها، ولم يتعرض اللفظ لها، فصار الزائد كما قبل الأمر؛ فإنا كنا نقطع بانتفاء الوجوب، فقوله: "صم" أزال القطع في مرة واحدة، فصار كما كان1.
ويعتضد هذا باليمين، والنذر والوكالة، والخبر:
بيانه: أنه لو قال: "والله لأصومن" أو: "لله علي أن أصوم" برّ بصوم يوم.
ولو قال لوكيله: "طلق زوجتي" لم يكن له أكثر من تطليقة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عبارة الغزالي في المستصفى "3/ 160-161": "فإن قيل: بين مسألتنا وبين القتل فرق؛ فإن قوله: "اقتل" كلام ناقص، لا يمكن امتثاله، وقوله: "صم" كلام تام مفهوم، يمكن امتثاله.
قلنا: يحتمل أن يقال: يصير ممتثلًا بقتل أي شخص كان، بمجرد قوله: "اقتل" كما يصير ممتثلًا بصوم أي يوم كان، إذا قال: "صم يومًا" بلا فرق ويكون قوله: "اقتل" كقوله: "اقتل شخصًا"؛ لأن الشخص القتيل من ضرورة القتل، وإن لم يذكر، كما أن اليوم من ضرورة الصوم، وإن لم يصرح به.
فيتحصل من هذا: أنه تبرأ ذمته بالمرة الواحدة؛ لأن وجوبها معلوم، والزيادة لا دليل على وجوبها؛ إذ لم يتعرض اللفظ لها فصار كما كان قبل قوله "صم" وكنا لا نشك في نفي الوجوب، بل نقطع بانتفائه، وقوله "صم" دال على القطع في يوم واحد، فبقي الزائد على ما كان.
هذا هو الظاهر من مطلق اللفظ المجرد عن الكمية".

 

ج / 1 ص -567-       ولو أمر عبده بدخول الدار، أو بشراء متاع: خرج عن العهدة بمرة واحدة، ولم يحسن لومه، ولا توبيخه.
ولو قال: "صمت" أو "سوف أصوم": صدق بمرة واحدة.
فإن قيل: فلم حصل الاستفسار عنه؟
قلنا: هذا يلزمكم إن كان يقتضي التكرار فلم حسن الاستفسار1؟
ثم يبطل بما ذكرناه من الأمثلة بحسن الاستفسار، مع انه لا يقتضي التكرار2.
ثم إنه حسن الاستفسار؛ لأنه محتمل له، لما ذكرناه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جاء في نزهة الخاطر العاطر "2/ 82": "قوله: "فإن قيل: فلم حسن الاستفسار عنه" أي: فإن قال من زعم بأن الأمر مشترك بين التكرار والمرة: إنه يحسن الاستفسار فيه فيقال: أردت الأمر مرة واحدة أو دائمًا؛ ولذلك قال سراقة للنبي -صلى الله عليه وسلم-: أحجنا هذا لعامنا أم للأبد؟ مع أنه من أهل اللسان، وأقره عليه. فلو كان الأمر موضوعًا في لسان العرب للتكرار أو للمرة لاستغنى عنه الاستفسار؟
وأجيب عنه بالمنع بأن يقال: ما قلته ممنوع؛ فإنه قد يستفسر عن أفراد المتواطئ، فإذا قال: "أعتق رقبة: فيقول: أمنومنة أم كافرة، سليمة أم معيبة؟.
وقد يتمسك بدليلهم –أيضا- من يقول: بأن الأمر للتكرار فيقال له: ما ألزمتنا به هو لازم لك، لا لنا؛ لأنه إن كان يقتضي التكرار، فلم حسن الاستفسار؟
وأيضا: ما ذكرناه من الأمثلة المتقدمة يحسن فيها الاستفسار ولا يقتضي التكرار باتفاق منا ومنكم، فليس كل ما حسن فيه الاستفسار يكون للتكرار".
2 يقصد بالأمثلة المتقدمة قوله: "والله لأصومن، وطلق زوجتي، وأمر عبده بدخول الدار إلخ" فإن يحسن الاستفسار فيها أيضًا.

 

ج / 1 ص -568-       وقولهم: "إن صم عام في الزمان": ليس بصحيح1؛ إذ لا يتعرض للزمان بعموم ولا خصوص، لكن الزمان من ضرورته كالمكان، ولا يجب عموم الأماكن بالفعل، كذا الزمان.
وليس هذا نظير قوله -تعالى-:
{اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}، بل نظيره قولهم: "صم الأيام".
ونظير مسألتنا قوله: "اقتل" مطلقًا، فإنه لا يقتضي العموم في كل من يمكن قتله.
والفرق بين الأمر والنهي: أن الأمر يقتضي: وجود المأمور مطلقًا2.
والنهي يقتضي: ألا يوجد مطلقًا، والنفي المطلق يعم، والوجود المطلق لا يعم، فكل ما وجد مرة فقد وجد مطلقًا، وما انتفى مرة فما انتفى مطلقًا.
ولذلك افترقا في اليمين، والنذر، والتوكيل، والخبر3.
ولأن الأمر يقتضي الإثبات، والنهي يقتضي النفي، والنفي في النكرة يعم، والإثبات المطلق لا يعم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا رد على دليلهم الذي جاء فيه: "أن صم و"فاقتلوا المشركين" كل منهما عام؛ لأن صم، وصل، ينبغي أن يعم كل زمان....".
2 هذا رد على قياسهم الأمر على النهي في قولهم: "ولأن الأمر نهي عن ضده، وموجب النهي ترك المنهي أبدًا، فيكن موجب الأمر فعل الصوم أبدًا" فأجاب المصنف: بأن هذا القياس مع الفارق.
3 فإذا قال: "والله لافعلن" برّ في يمينه بمرة واحدة، أما إذا قال: "والله لا أفعل" حنث ولو بمرة واحدة. وكذلك في الصيام.

 

ج / 1 ص -569-       وتحقيقه: أنه لو قال: لا تفعل مرة واحدة: اقتضى العموم.
ولو قال: افعل مرة واحدة: اقتضى التخصيص بلا خلاف1.
وقولهم: "إن الأمر بالشيء نهي عن ضده".
قلنا: إنما هو نهي عما يعقب الامتثال، فكان النهي مقيدًا بزمن امتثال الأمر2.
وقولهم: "إن الأمر يقتضي الاعتقاد على الدوام".
قلنا: يبطل بما لو قال: افعل مرة واحدة.
والفرق بين الفعل والاعتقاد: أن الاعتقاد: ما وجب بهذا الأمر، إنما وجب بإخباره أنه يجب اعتقاد أوامره، فمتى عرف الأمر، ولم يعتقد وجوبًا: كان مكذبًا. وقولهم: "إن الحكم يتكرر بتكرار العلة، فكذا الشرط"3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصته: أن الأمر يقتضي فعل المأمور به، وهذا يحصل بفرد من أفراد المأمور به، في أي زمن كان، فإذا قال له: "صل" حصلت الصلاة بصلاة واحدة، أما النهي: فإنه يقتضي ترك ماهيته مطلقًا، وذلك لا يتحقق إلا بتركها في كل زمان.
2 وضحه الشيخ ابن بدران فقال: "وحاصل ما ذكره: أن اقتضاء النهي للأضداد دائمًا إنما هو فرع على تكرار الأمر، وذلك لأن النهي بحسب الأمر، فإذا كان أمرًا بالفعل دائمًا، كان نهيًا عن أضداده، وإذا كان أمرًا به في وقت كان نهيًا عن الأضداد في ذلك الوقت، فإذًا: كونه النهي الذي تضمنه الأمر للتكرار فرع كون الأمر للتكرار، فإثباته به دور. فقول المصنف: "إنما هو نهي عما يعقب الامتثال" إشارة إلى أن النهي مفرع على الأمر، فإذا كان الأمر مقيدًا، كان النهي مقيدًا، وإذا كان عاما، كان عاما" نزهة الخاطر "2/ 84".
3 قوله: "إن الحكم يتكرر بتكرر العلة" ليس على الإطلاق، بل قد تكرر العلة ولا يتكرر الأمر، كمن بال عدة مرات، ولم يتوضأ، فعليه وضوء واحد، وكذلك من =

 

ج / 1 ص -570-       قلنا: العلة تقتضي حكمها، فيوجد بوجودها.
والشرط: لا يقتضي، وإنما هو بيان لزمان الحكم، فإذا وجد: ثبت عنده ما كان يثبت بالأمر المطلق، كاليمين، والنذر، وسائر ما استشهدنا به.
وقولهم: "إن الواجب يتكرر بتكرر اللفظ": لا يصح؛ فإن اللفظ الثاني دل على ما دل عليه اللفظ الأول، فلا يصح حمله على واجب سواه.
ولذلك لو كرر اليمين فقال: "والله لأصومن، والله لأصومن" بّر بصوم واحد.
وقد نقل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال
"والله لأغزون قريشا –ثلاثا-"1. ثم غزاهم غزوة الفتح.
ولو كرر لفظ النذر: لكان الواجب به واحدًا.
وفائدة اللفظ الثاني: تحصيل التأكيد، فإنه من سائغ كلام العرب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= جامع أكثر من مرة ليس عليه إلا غسل واحد. فقضية تكرر الحكم بتكرر علته، إنما هي في الأعم الأغلب، وليست على إطلاقها.
1 أخرجه أبو داود: كتاب الأيمان والنذور باب الاستثناء في اليمن بعد السكوت من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- مرفوعًا، كما أخرجه عن عكرمة مرسلًا.
وأخرجه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ابن حبان في صحيحه، وأبو يعلى في مسنده، والبيهقي في سننه، وابن عدي في الكامل عن عبد الواحد بن صفوان عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا.
انظر: تلخيص الحبير: كتاب الأيمان، حديث "2033" 4/ 166، الكامل في ضعفاء الرجال "5/ 1937".

 

ج / 1 ص -571-       فصل: مسألة: [الأمر المطلق: هل يقتضي الفور]1
الأمر يقتضي فعل المأمور به على الفور، في ظاهر المذهب2.
وهو قول الحنفية3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 محل الخلاف: إذا لم توجد قرينة تدل على أنه للفور أو التراخي.
قال الإسنوي: "إن قلنا: إنه يدل على التكرار دل على الفور، وإن قلنا: لا يدل على التكرار، فهل يدل على الفور أم لا؟ حكى المصنف فيه أربعة مذاهب:
أحدها: أنه لا يدل على الفور، ولا يدل على التراخي، بل يدل على طلب الفعل.
قال في البرهان: وهذا ما ينسب إلى الشافعي وأصحابه. وقال في المحصول:
إنه الحق: واختاره الآمدي وابن الحاجب وا لمصنف.
والثاني: أنه يفيد الفور، أي: وجوبًا، وهو مذهب الحنفية.
والثالث: أنه يفيد التراخي، أي: جوازًا. قال الشيخ أبو إسحاق: والتعبير بكونه يفيد التراخي غلط. وقال في البرهان: أنه لفظ مدخول؛ فإن مقتضى إفادته التراخي أنه لو فرض الامتثال على الفور لم يعتدّ به، وليس هذا معتقد أحد. نعم حكى ابن برهان عن غلاة الواقفية: أنا لا نقطع بامتثاله، بل يتوقف فيه إلى ظهور الدلائل، لاحتمال إرادة التأخير. قال: والمقتصدون منهم إلى القطع بامتثاله، وحكاه في البرهان أيضًا.
والرابع: هو مذهب الواقفية: أنه مشترك بين الفور والتراخي" "نهاية السول جـ2 ص47 ط صبيح.
2 فيه إشارة إلى أن هناك رواية عن الإمام أحمد، فقد نقل عنه أن الحج على التراخي. قال الطوفي في شرحه "2/ 388: "قلت: فإن كان الخلاف في هذا الأصل استفيد من هذا القول في الحج، فلا حجة فيه، لأن القواعد والأصول يجوز تخصيصها بدليل أقوى منها عند المجتهد، وإن كان قد وجد عنه نص، بأن الأمر على التراخي فذاك".
3 في هذه النسبة نظر، فإن المنقول عنهم: أنه للتراخي، ولم يقل بأنه على الفور إلا الكرخي وبعض علماء الحنفية: انظر: أصول السرخسي "1/ 26".

 

ج / 1 ص -572-       وقال أكثر الشافعية: هو على التراخي1؛ لأن الأمر يقتضي فعل المأمور لا غير، أما الزمان: فهو لازم الفعل، كالمكان والآلة والشخص، فيما إذا أمره بالقتل، فلا يدل على تعيين الزمان، كما لا يدل على تعيين المكان والآلة.
ولأن الزمان في الأمر إنما حصل ضرورة، والضرورة تندفع بأي زمان كان فالتعيين تحكم2.
ويعتضد هذا بالوعد واليمين، لو قال: "سوف أفعل" فمتى فعل. كان صادقًا، وكذا اليمين.
وقالت الواقفية: هو على الوقف في الفور والتراخي، والتكرار وعدمه.
وهو بيّن البطلان؛ فإن المبادر ممتثل بإجماع الأمة، مبالغ في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: جوازًا كما تقدم في كلام الإسنوي.
2 هذا دليل القائلين بأن الأمر المطلق للتراخي، وهو من عدة وجوه:
الأول: أن الأمر يقتضي فعل الماهية المجردة، ولا يدل على غيرها من زمان ومكان، فإذا قلنا: إنه يدل على الفور، فقد زدنا فيه ما ليس منه، والزيادة عليه كالنقص منه، وكلاهما لا يجوز.
الثاني: أنه نسبة الفعل إلى جميع الأزمنة سواء؛ لعدم دلالة اللفظ على بعضها دون بعض، ولصحة وقوعه في أي زمن منها، وإذا استوت نسبة الفعل إلى جميعها، كان تخصيصه بالفور تحكمًا، وترجيحًا بدون مرجح.
الثالث: "أن تعلق الزمان بالفعل" أي: احتياج الفعل إلى الزمان ضروري، أي: لضرورة أن الفعل يمتنع وقوعه في غير زمان، وإذا كان تعلق الزمن به لهذه الضرورة، فهي تندفع بإيقاعه في أي زمن كان، تقدم أو تأخر، وهذا يدل على أن الفور لا يتعين، وأن التأخير جائز.
الرابع: أن الزمان من لوازم الفعل، لا ينفك عنه، كما أن المكان، والآلة، =

 

ج / 1 ص -573-       الطاعة، مستوجب جميل الثناء.
ولو قيل لرجل: "قم" فقام في الحال: عُدَّ ممتثلًا، ولم يُعدَّ مخطئًا باتفاق أهل اللغة.
وقد أثنى الله -تعالى- على المسارعين فقال:
{أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}1.
ولنا أدلة2:
أحدها: قوله -تعالى-
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}4 أمر بالمسارعة، وأمره يقتضي الوجوب5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والمحل من لوازمه -أيضًا- والأمر المطلق لا يقتضي تعيين مكان، أو آلة، أو محل، دون غيره، فكذلك لا يقتضي تعيين زمان دون غيره.
فلو قال شخص لآخر: "توضأ" جاز له أن يتوضأ في أي مكان شاء، بأي ماء طهور شاء، ولم يتعين للوضوء، مكان دون غيره، ولا ماء من المياه الطاهرة دون غيره.
انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 392-393".
3 سورة المؤمنون من الآية: 61.
4 سورة البقرة من الآية 148.
5 وقد اعترض الإسنوي على الاستدلال بهذه الآيات فقال: "لا نسلم أن الفورية مستفادة من الأمر، بل إيجاب الفور مستفاد من قوله تعالى:
{وَسَارِعُوا}، لا من لفظ الأمر، وتقرير هذا الكلم من وجهين:
أحدهما: أن حصول الفورية ليس من صيغة الأمر، بل من جوهر اللفظ؛ لأن لفظ المسارعة دال عليه كيفما تصرف.

 

ج / 1 ص -574-       الثاني: أن مقتضاه عند أهل اللسان: الفور فإن السيد لو قال لعبده: "اسقني" فأخر: حسن لومه وتوبيخه وذمه.
ولو اعتذر عن تأديبه على ذلك: بأنه خالف أمري وعصاني: لكان عذره مقبول1.
الثالث: أنه لا بد [للأمر] من زمان، وأولى الأزمنة عقيب الأمر؛ ولأنه يكون ممتثلا يقينًا، وسالما من الخطر قطعًا.
ولأن الأمر سبب للزوم الفعل، فيجب أن يتعقبه حكمه، كالبيع، والطلاق، وسائر الإيقاعات؛ ولذلك يعقبه العزم على الفعل والوجوب.
الرابع: أن جواز التأخير غير مؤقت ينافي الوجوب؛ فإنه لا يخلو:
إما أن يؤخر إلى غاية.
أو إلى غير غاية.
فالأول: باطل؛ لأن الغاية لا يجوز أن تكون مجهولة؛ لأنه يكون تكليفًا لما لا يدخل تحت الوسع.
وإن جعلت الغاية: الوقت الذي يغلب على ظنه البقاء إليه: فباطل -أيضًا-؛ فإن الموت يأتي بغتة كثيرًا.
ثم لا ينتهي إلى حالة يتيقن الموت فيها إلا عند عجزه عن العبادات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الثاني: وهو تقرير صاحب الحاصل: أن ثبوت الفور في المأمورات ليس مستفادًا من مجرد الأمر بها، بل من دليل منفصل، وهو قوله تعالى:
{وَسَارِعُوا} نهاية السول "2/ 48".
1 اعترض بعض العلماء على هذا الدليل، بأن الفورية مستفادة من قرينة خارجية هي: أن قوله: "اسقني" دليل على عطشه، وهذا يقتضي المبادرة بإحضار الماء، ومحل الكلام فيما لم تقترن به قرينة.

 

ج / 1 ص -575-       لا سيما العبادات الشاقة، كالحج، لا سيما والإنسان طويل الأمل، يهرم ويشب أمله1.
وإن قيل: يؤخر إلى غير غاية: فباطل -أيضًا-؛ لأنه لا يخلو من قسمين:
إما أن يؤخر إلى غير بدل، فيلتحق بالنوافل والمندوبات2.
أو إلى بدل: فلا يخلو البدل: إما أن يكون بالوصية به، أو العزم عليه:
والوصية لا تصلح بدلًا؛ لأن كثيرا من العبادات لا تدخلها النيابة.
ولأنه لو جاز التأخير للموصي: جاز للوصي -أيضًا- فيفضي إلى سقوطه.
والعزم ليس ببدل؛ لأن العزم يجب قبل دخول الوقت، والبدل لا يجب قبل دخول وقت المبدل.
ولأن وجوب البدل يحذو وجوب المبدل، والمبدل لا يجب على الفور، فكذلك البدل.
ولأن البدل يقوم مقام المبدل، ويجزئ عنه، والعزم ليس بمسقط للفعل، وكيف يجب الجمع بين البدل والمبدل؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير إلى حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"يهرم ابن آدم ويبقى معه اثنان: الحرص والأمل" رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي. ولفظ البخاري: "يكبر ابن آدم...." ولفظ مسلم: "يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان: الحرص والأمل" انظر: فيض القدير "6/ 465".
2 ومعلوم: أن المندوب يجوز تأخيره، وتركه بدون بدل، بخلاف الواجب، ولا يؤخر إلا إلى بدل، كالواجب الموسع.

 

ج / 1 ص -576-       ثم لا ينفعكم تسميته بدلًا، مع كون الفعل واجبًا، فما الذي يسقط وجوب الفعل ويقوم مقامه؟
فإن قيل: هذا يبطل بما إذا قال: "افعل أي وقت شئت، فقد أوجبته عليك" فإنه لا يتناقض.
قلنا: يتناقض؛ إذ حقيقة الواجب: ما لا يجوز تركه مطلقًا، وهذا جائز الترك مطلقًا.
وقولهم1: "إن الأمر لا يتعرض للزمان" فهي مطالبة بالدليل، وقد ذكرناه2.
والفرق بين الزمان، والمكان، والآلة: أن عدم التعيين في الزمان يفضي إلى فواته، بخلاف المكان.
ولأن المكانين سواء بالنسبة إلى الفعل، والزمان الأول أولى، لسلامته فيه من الحظر، والخروج من العهدة يقينًا، فافترقا2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: القائلون بأن الأمر يفيد التراخي.
2 وهو: أن تعلق الفعل بالزمان ضروري عقلًا، لاستحالة وقوعه في غير الزمان وكذلك شرعًا: فقد يتعلق به مصلحة يختار الشرع إيقاعه في بعض الأزمنة دون بعض، لأجل هذه المصلحة، فلا يكون تعلقه بالفعل حينئذ ضروريًا، بل اختياريًا.
انظر: شرح الطوفي "2/ 393-394".
3 معناه: أن العبد الذي أمره سيده بأن يسقيه: لو أخر امتثال أمر سيده، جاز له عقوبته، ولو فعل ما أمر به في غير مكان الأمر، لم يجز له عقوبته، فبان الفرق بين الزمان والمكان.

 

ج / 1 ص -577-       فصل: [الواجب المؤقت إذا فات وقته لا يحتاج إلى أمر جديد]1
الواجب المؤقت لا يسقط بفوات وقته، ولا يفتقر إلى أمر جديد. وهو قول بعض الفقهاء2.
وقال الأكثرون: لا يجب القضاء إلا بأمر جديد. اختاره أبو الخطاب3.
لأن تخصيص العبادة بوقت الزوال، وشهر رمضان، كتخصيص الحج: بعرفات، والزكاة: بالمساكين، والصلاة: بالقبلة، والقتل: بالكفار. ولا فرق بين الزمان، والمكان، والشخص؛ إذ جميع ذلك تقييد له بصفة، فالعاري عنها لا يتناوله اللفظ، بل يبقى على ما كان قبل الأمر.
ولنا4: أن الأمر اقتضى الوجوب في الذمة، فلا تبرأ منه إلا بأداء أو إبراء، كما في حقوق الآدميين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تحرير المسألة: أن الشارع إذا أمر بعبادة مؤقتة بوقت معين، ولم يفعلها المكلف في هذا الوقت حتى خرج جميع وقتها. فهل هذه العبادة تسقط ولا تفعل إلا بأمر جديد، أو لا تسقط، ويجب قضاؤها بالأمر الأول؟
حكى المصنف فيها مذهبين. وهناك مذهب ثالث مروي عن أبي زيد الدبوسي: أنها تجب قياسًا. ووجهته في ذلك: أن الشرع لما عهد منه إيثار استدراك عموم المصالح الفائتة، عُلِمَ بذلك: أنه يؤثر استدراك الواجب الفائت في الزمن الأول، بقضائه في الزمن الثاني: "شرح الطوفي 2/ 395".
2 وعلى ذلك عامة الحنفية والمالكية وبعض الشافعية.
3 انظر: التمهيد "1/ 252".
4 هذا دليل القول بأن الواجب لا يسقط بفوات الوقت، ولا يحتاج إلى أمر جديد.
وتقريره: أن الذمة إذا اشتغلت بواجب الشرع، أو لآدمي، لم تبرأ منه إلا =

 

ج / 1 ص -578-       وخروج الوقت ليس بواحد منهما.
ويصير هذا كما لو اشتغل الحيز بجوهر، لا يزول الشغل إلا بمزيل.
والفرق بين الزمان والمكان1: أن الزمن الثاني تابع للأول، فما ثبت فيه انسحب على جميع الأزمنة التي بعده، بخلاف الأمكنة والأشخاص.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بالامتثال، وهو الأداء أو إبراء من المستحق للواجب، بأن القول الشرعي: نسخت عنك هذه العبادة، أو الآدمي: أبرأتك من هذا الدين، وإذا كانت الذمة مشغولة بالواجب، ما لم يوجد أداء له، أو إبراء من مستحقه، فقد أجمعنا على أن الذمة مشغولة بالواجب المؤقت في وقته، والأصل بقاء ما كان فيه على ما كان.
والمكلف لم يوجد منه أداء، ولا من الشرع إبراء، فوجب القول ببقاء الواجب في الذمة، فتكون براءتها منه موقوفة على الأداء أو الإبراء، والإبراء بعد انقضاء زمن الوحي صار ممتنعًا، فتعين الأداء لبراءة الذمة، وهذا يقتضي أن يكون بالأمر الأول.
وإذا كانت الذمة لا تبرأ بواحد من الأمرين السابقين، فإن خروج الوقت ليس واحدًا منهما، فلا يمنع القضاء بالأمر الأول.
انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 396".
1 هذا إبطال لقياس أصحاب الرأي الثاني: تعلق الفعل بالزمان على تعلقه بالمكان. خلاصته: أن الزمن حقيقة سيّالة غير مستقرة، فالمتأخر تابع للمتقدم، بخلاف الأمكنة والأشخاص، فإنها حقائق ثابتة، وليس بعضها تابعًا لبعض. المصدر السابق.

فصل: [مقتضى الأمر: حصول الإجزاء بفعل المأمور به]1
ذهب بعض الفقهاء إلى أن الأمر يقتضي الإجزاء بفعل المأمور به.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  الخلاف في هذه المسألة مفرع على تفسير "الإجزاء": فمن فسره بحصول =

 

ج / 1 ص -579-       إذا امتثل المأمور بكمال وصفه وشرطه.
وقال بعض المتكلمين: لا يقتضي الإجزاء، ولا يمتنع وجوب القضاء مع حصول الامتثال: بدليل المضي في الحج الفاسد، ويجب القضاء.
ومن ظن أنه متطهر فإنه مأمور بالصلاة، إذا صلى فهو ممتثل مطيع، ويجب القضاء.
ولأن القضاء إنما يجب بأمر جديد، والأمر بالشيء لا يمنع إيجاب مثله1.
يدل عليه: أن الأمر إنما يدل على اقتضاء المأمور وطلبه لا غير، والإجزاء أمر زائد لا يدل عليه الأمر ولا يقتضيه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الامتثال قال: إن الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي تحقق الأجزاء.
ومن فسره بسقوط القضاء قال: لا يقتضي الإجزاء.
1 هذا هو دليل المذهب الثاني: وهو مكون من وجهين:
الأول: أن الحج الفاسد مأمور بإتمامه، ولا يقع مجزئًا، وكذلك المحدث الذي يظن أنه متطهر، فإذا صلى لا تجزئه هذه الصلاة.
الثاني: أن الإجزاء مفسر بسقوط القضاء، لكن القضاء بأمر جديد، وإذا كان كذلك، فالأمر بالشيء لا يمنع إيجاب مثله بعد وقته، فالأمر -مثلًا- بصلاة ركعتين بعد طلوع الفجر، لا يمنع الأمر بصلاة ركعتين بعد طلوع الشمس. انظر: شرح الطوفي "2/ 402".
ويرد على ذلك: أن عدم الإجزاء فيما ذكر من الحج والصلاة لفوات مصححات هذه العبادات، فاختل ما قاله المصنف: "إذا امتثل المأمور بكمال وصفه وشروطه" ولذلك قال الغزالي: "الأمر يدل على إجزاء المأمور، إذا أُدًّيَ بكمال وصفه وشرطه، من غير خلل.
وإن تطرق إليه خلل، كما في الحج الفاسد، والصلاة على غير طهارة، فلا =

 

ج / 1 ص -580-       ولنا: ما روي أن امرأة1 سنان بن مسلمة الجهني2 أمرت أن تسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أمها ماتت ولم تحج، أفيجزئ عنها أن تحج عنها؟
قال:
"نعم لو كان على أمها دين فقضته ألم يكن يجزئ عنها؟ فلتحج عنها"3.
وهذا يدل على أن الإجزاء بالقضاء: كان مقررًا عندهم.
ولأن الأصل براءة الذمة، وإنما اشتغلت بالمأمور به، وطريق

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يدل الأمر على إجزائه، بمعنى: منع إيجاب القضاء" وقال قبل ذلك: "إنما يسمى قضاء إذا كان فيه تدارك لفائت من أصل العبادة أو وصفها، وإن لم يكن فيه فوات وخلل، استحال تسميته قضاء" المستصفى "3/ 179".
على أن قولهم: "إن القضاء بأمر جديد" غير مسلم، فهي قضية خلافية فلا يصح الاحتجاج بها.
1 جاء في الإصابة "8/ 44": أن اسمها غائثة، وقيل: غاثية.
2 هو: سنان بن سلمة بن المحبق الهذلي، يكنى أبا عبد الرحمن، وقيل: أبو حبتر، وقيل: أبو بسر. روي عنه أنه قال: ولدت يوم حرب لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسماني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- سنانًا
وقال أبو أحمد العسكري: ولد سنان يوم الفتح، فسماه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنانا، وكان شجاعًا بطلًا. توفي آخر أيام الحجاج.
انظر: الإصابة "3/ 344"، أسد الغابة "2/ 357-358" ط. المكتبة الإسلامية.
3 حديث صحيح: أخرجه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب الحج والنذور عن الميت، ومسلم: كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت.
والنسائي: في كتاب مناسك الحج، من حديث ابن عباس، رضي الله عنهما. ولفظه: "يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها نذر حج، أفأحج عنها؟ قال:
"أرأيت إن كان على أمك دين أكنت قضيته؟" قالت: نعم، قال: فحجي عن أمك، فالله أحق بالقضاء" ولفظ البخاري: "أحق بالوفاء". انظر: جامع الأصول "4/ 198".

 

ج / 1 ص -581-       الخروج عن عهدته: الإتيان به فإذا أتى به يجب أن تعود ذمته بريئة كما كانت كديون الآدميين.
وفي المحققات: إذا اشتغل الحيز بجوهر، فبرفعه يزول الشغل.
ولأنه لو لم يخرج عن العهدة: للزمه الامتثال أبدًا، فإذا قال له: "صم يومًا" فصامه، فالأمر يتوجه إليه بصوم يوم كما كان، قبل منه ذلك أبدًا، وهو خلاف الإجماع1.
قولهم: "إن القضاء يجب بأمر جديد": ممنوع2.
وإن سلم: فإن القضاء إنما سمي قضاء إذا كان فيه تدارك لفائت من أصل العبادة أو وصفها.
وإن لم يكن كذلك: استحال تسميته قضاء.
والحج الفاسد، والصلاة بلا طهارة، أمر بها مع الخلل، ضرورة حاله ونسيانه، فعقل الأمر بتدارك الخلل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة ذلك في وجهين:
أحدهما: أن الذمة كانت بريئة من المأمور به قبل التكليف، فلما شغلت به وجب الخروج منه، ولا طريق لذلك إلا الفعل، قياسًا على حق الآدمي، إذ لا تبرأ الذمة منه إلا بالأداء.
الوجه الثاني: قياس ذلك على الأمور العقلية المحققة الثابتة، فإن الجوهر إذا شغل حيزًا، فإنه لا يزال شاغلًا له في جميع الأزمان، ولا يرتفع إلا برافع يزيل شغله، والمأمور به شبيه بالجوهر، فإذا لم تفرغ الذمة مما شغلها كان امتثال المكلف بفعل المأمور به مطالبًا به في جميع الأزمان، ولزوم الامتثال أبدًا خلاف الإجماع، فبراءة الذمة بمضي زمن المأمور به خلاف الإجماع.
انظر: نزهة الخاطر العاطر "2/ 95".
2 إذ هو: استدلال بما هو مختلف فيه فلا يصح.

 

ج / 1 ص -582-       أما إذا أتى بها مع الكمال بلا خلل، فلا يعقل إيجاب القضاء.
والمفسد لحجة لا يقضي الفاسد، وإنما هو مأمور بحج خال عن الفساد، وقد أفسده على نفسه، فيبقى في عهدة الأمر، ويؤمر بالمضي بالفاسد؛ ضرورة الخروج عن الإحرام1.
وقولهم: "لا يقتضي الأمر إلا الامتثال": هو محل النزاع لا يقبل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق أن أوضحناه بما نقل عن الغزالي في المستصفى.

فصل: مسألة: [الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرًا به]
الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرًا به، ما لم يدل عليه دليل1.
مثاله: قوله -عليه السلام-
"مروهم بالصلاة لسبع"2 ليس بخطاب من الشارع للصبي، ولا إيجابًا عليه، مع أن الأمر واجب على الولي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا هو رأي جمهور العلماء.
وقال بعض أهل العلم: الأمر بالأمر أمر، فالأول مأمور مباشرة، والثاني مأمور بالواسطة. وهو مروي عن بعض الحنفية.
ومحل الخلاف: إذا لم ينص الآمر على ذلك، أو تقم قرينة على أن الثاني مبلًّغ عن الأول: فإن الثالث يكون مأمورًا بالإجماع، كما في قصة عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- حين طلق زوجه وهي حائض، فذكر ذلك عمر للنبي -صلى الله عليه وسلم- فقال:
"مره فليراجعها..." متفق عليه.
2 أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، حديث "495"، والترمذي "2/ 445"، وأحمد في مسنده "2/ 187" والدراقطني "1/ 230" والحاكم "1/ 197".

 

ج / 1 ص -583-       لكن إذا كان المأمور بالأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- كان واجبًا بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لقيام الدليل على وجوب طاعة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتحريم مخالفته1
أما إذا كان المأمور بالأمر غيره: فلا يبعد أن يجب عليه الأمر؛ لحكمة فيه، مختصة به.
ولهذا لا يمتنع أن يقال للولي الذي يعتقد أن لطفله على طفل آخر شيئًا: عليك المطالبة بحقه.
ويقال لولي الطفل الآخر: إذا لم تعلم أن على طفلك شيئًا يجب عليك الممانعة، وليس لك التسليم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال القرافي: "علم من الشريعة أن كل من أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأمره غيره، فإنما هو على سبيل التبليغ، ومتى كان على سبيل التبليغ صار الثالث مأمورًا إجماعًا" شرح تنقيح الفصول ص149.
2 سورة آل عمران من الآية: 104.

فصل: [أمر الجماعة أمر لكل واحد منهم]
الأمر لجماعة يقتضي وجوبه على كل واحد منهم، ولا يسقط الواجب عنهم بفعل واحد منهم، إلا أن يدل عليه دليل، أو يرد الخطاب بلفظ لا يعم، كقوله تعالى:
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فيكون فرض كفاية1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وضحه الطوفي في شرحه "2/ 403، 404" فقال: "اعلم أن الأمر المتوجه إلى جماعة، إما أن يكون بلفظ يقتضي تعميمهم، نحو قوله عز وجل:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاة} [البقرة: 43، 110] فإما أن لا يعترض عليه دليل يدل على =

 

ج / 1 ص -584-       [فرض الكفاية]
فإن قيل: ما حقيقة فرض الكفاية؟
أهو واجب على الجميع ويسقط بفعل البعض؟
أم على واحد غير معين، كالواجب المخير؟
أم واجب على من حضر دون من غاب، كحاضر الجنازة -مثلًا-؟
قلنا: بل واجب على الجميع ويسقط بفعل البعض، بحيث لو فعله الجميع: نال الكل ثواب الفرض، ولو امتنعوا: عم الإثم الجميع، ويقاتلهم الإمام على تركه1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= اختصاص الخطاب ببعضهم، أو يعترض دليل على ذلك، فإن لم يعترض على العموم دليل؛ اقتضى وجوبه على كل واحد منهم؛ لأن الواو في "افعلوا" كالواو في "الزيدون" وكلاهما للجميع، ثم الواو في "الزيدان" تدل على أشخاص متعددة، نحو: زيد وزيد، فكذلك الواو في "افعلوا" تدل على عدة مخاطبين، فهي في قوة قوله: "افعل أنت وأنت" كذلك، حتى يستغرق المخاطبين.
وإن اعترض على العموم دليل يقتضي اختصاصه ببعضهم، فالبعض إما معين، أو غير معين.
فإن كان معينًا؛ فذلك هو العام المخصوص، سواء كان التعيين باسم، كقوله عز وجل:
{قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ، إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِين} [الحجر: 58، 59] أو بصفة كقوله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67].
وإن كان ذلك البعض غير معين، أو كان الخطاب بلفظ لا يعم الجميع، وهو القسم الثاني من أصل التقسيم، نحو قوله عز وجلك
{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [آل عمران: 104]، فهذا هو فرض الكفاية".
1 الذي رجحه المصنف هو رأي جمهور العلماء، فالقادر عليه يقوم به بنفسه، =

 

ج / 1 ص -585-       وسقوط الفرض بدون الأداء ممكن: إما بالنسخ أو بسبب آخر.
أما الإيجاب على واحد لا بعينه: فمحال؛ لأن المكلف ينبغي أن يعلم أنه مكلف، وإذا أبهم الوجوب لم يعلم.
بخلاف إيجاب خصلة من خصلتين؛ فإن التخيير فيهما لا يوجب تعذر الامتثال1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وغير القادر يحث غيره على القيام به؛ لأن الخطاب موجه للكل، وأن الإثم يتعلق بالكل عند عدم الفعل، ويسقط هذا الإثم بفعل البعض، لأن المقصود منه: تحقيق مصلحة معينة، دون نظر إلى فاعلها، بخلاف فرض العين، فإن المقصود منه: تعبّد أعيان المكلفين، متى تحققت فيهم شروط التكليف.
وقال بعض العلماء، كالإمام فخر الدين الرازي والبيضاوي وأتباعهما: إن فرض الكفاية يتعلق بطائفة غير معينة؛ لأنه لو تعلق بالكل لما سقط إلا بفعل الكل، ولا استحالة في الأمر بواحد مبهم، كما في قوله تعالى:
{وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] وهو منقول عن المعتزلة أيضًا.
وفي مسألة أقوال أخرى تراجع في مظانها.
انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص156، مناهج العقول للبدخشي "1/ 118"، شرح مختصر الطوفي "2/ 404 وما بعدها".
1 يريد المصنف أن يفرق بين الواجب الكفائي والواجب المخير؛ حيث إن المكلف مخير بين أمور معينة، كما هو واضح.
وهناك فوائد وفروع متعلقة بالواجب الكفائي، أوردها الطوفي في شرحه "2/ 409، 110" نلخصها في الآتي:
1- لا يشترط في الخروج عن عهدة فرض الكفاية: تحقق وقوعه من بعض الطوائف، بل أي طائفة غلب على ظنها أن غيرها قام بها سقط عنها، وإن غلب على ظن كل من الطائفتين أو الطوائف أن الأخرى قامت به، سقط عن الجميع عملًا بموجب الظن. =

 

ج / 1 ص -586-       فصل: [أمر الله تعالى للنبي أمر للأمة ما لم يوجد تخصيص]
إذا أمر الله -تعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم- بلفظ ليس فيه تخصيص، كقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْل}1، أو أثبت في حقه حكمًا: فإن أمته يشاركونه في ذلك الحكم، ما لم يقم على اختصاصه به دليل.
وكذلك إذا توجه الحكم إلى واحد من الصحابة دخل فيه غيره، ويدخل فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- نحو قوله:
"إن الله فرض عليكم صيامه"2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=
2- أن القائم بفرض الكفاية أفضل من غيره؛ لأنه حصل مصلحته دون غيره، وإن كانا سيان في الخروج عن العهدة.
3- اختلف العلماء في المفاضلة بين فاعل فرض العين، وفاعل فرض الكفاية.
فقال البعض: فرض العين أفضل، ولذلك وجب على كل مكلف.
وقال البعض: إن فرض الكفاية أفضل؛ لأن نفعه أعم؛ إذ هو يسقط الفرض عن نفسه وعن غيره.
4- هل يتعين فرض الكفاية، ويجب إتمامه على من تلبس به أم لا؟
قال الطوفي: "والأشبه: أنه يتعين، كالمجاهد يحضر الصف، وطالب العلم يشرع في الاشتغال به، ونحو ذلك في صوره.
ووجهه: أنه بالشروع تعلق به حق الغير، وهو انعقاد سبب براءة ذمته من التكليف بفرض الكفاية، وخروجه عن عهدته، فلا يجوز له إبطال ما تعلق به حق غيره، كما لو أقر بحق لم يجز له الرجوع عنه.
ووجه القول الآخر: أن ما لا يجب الشروع فيه، لا يجب إتمامه في غير الحج، كصوم التطوع، وصلاته، ولأنه لو تعين بالشروع، لما جاز للقاضي أن يعزل نفسه، لكنه جائز باتفاق".
1 سورة المزمل الآية 1، 2.
2 يشير إلى ما روي عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: "خطبنا =

 

ج / 1 ص -587-       هذا قول القاضي، وبعض المالكية، وبعض الشافعية1.
وقال أبو الحسن التميمي، وأبو الخطاب، وبعض الشافعية: يختص الحكم بمن توجه إليه الأمر؛ لأن السيد من أهل اللغة لو أمر عبدا من عبيده بأمر: لاختص به دون بقية عبيده.
ولو أمر الله -تعالى- بعبادة، لم يتناول -بمطلقه- عبادة أخرى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آخر يوم من شعبان قال: "يا أيها الناس، قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعًا... الحديث" رواه ابن خزيمة في صحيحه ثم قال: "إن صح الخبر" كما رواه ابن خزيمة والبيهقي -مختصرًا- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- وفي إسناده كثير بن زيد. "الترغيب 2/ 67"
1 حاصل ذلك: أن ما خوطب به النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأحكام يتناول أمته كذلك، ومثله ما إذا توجه خطاب من رسول الله –صلى الله عليه عليه وسلم- إلى واحد من الصحابة –رضي الله عنهم- فإنه يعم الجميع، حتى النبي -صلى الله عليه وسلم-. ما لم يدل دليل مخصص للنبي -صلى الله عليه وسلم- أو لبعض الصحابة: كوجوب السواك والضحى والوتر على النبي -صلى الله عليه وسلم- دون الأمة، فقد وجد دليل يدل على هذا الاختصاص، ومثل ذلك: ما خوطب به -صلى الله عليه وسلم- صراحة، كقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50]. ومن أمثلة ما دل الدليل على اختصاصه ببعض الصحابة:
قوله -صلى الله عليه وسلم- لأبي بردة "تجزئك ولا تجزئ أحدًا بعدك".
أخرجه البخاري "955" و"965"، "983"، "5545"، "5556"، "5757"، "5560"، "5563" كما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم.
فإذا لم يقل دليل على التخصيص، كان الحكم عامًا عند القاضي أبي يعلى، وبعض المالكية وبعض الشافعية.
انظر: العدة "1/ 318"، وشرح العضد "2/ 121"، وشرح الطوفي "2/ 411".

 

ج / 1 ص -589-       فقال: لست مثلنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال: "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي"1.
وروي عنه -صلى الله عليه وسلم- في القبلة للصائم مثل ذلك. رواه مسلم2.
فالحجة فيه من وجهين:
أحدهما: أنه أجابهم بفعله، ولو اختص به الحكم، لم يكن جوابًا لهم.
الثاني: أنه أنكر عليهم مراجعتهم له باختصاصه بالحكم، فدل على أن مثل هذا لا يجوز اعتقاده.
ولأن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يرجعون إلى أفعال

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه مسلم: كتاب الصيام، باب: صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، وأبو دواد في الصيام حديث "2389"، والنسائي في السنن الكبرى، في الصيام والتفسير، ومالك في الموطأ "1/ 289" من حديث عائشة -رضي الله عنها-.
2 هو: مسلم بن الحجاج بن مسلم، النيسابوري، أحد أئمة حفاظ الحديث، صاحب الصحيح المشهور الذي جمع فيه ثلاثمائة ألف حديث. وله مصنفات أخرى كثيرة، منها: "المسند الكبير" على أسماء الرجال، "الجامع الكبير" على الأبواب، وكتاب "العلل" و"الكنى" و"أوهام المحدثين". توفي -رحمه الله تعالى- سنة "261هـ" انظر: "طبقات الحفاظ ص260، تذكرة الحفاظ 2/ 588".
وحديث القبلة للصائم: أخرجه مسلم، كتاب الصيام، من طريق عمر بن أبي سلمة أنه سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيقبل الصائم؟ فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصنع ذلك. فقال يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
"أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له". حديث رقم "1108".

 

ج / 1 ص -590-       النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما يختلفون فيه من الأحكام: كرجوعهم إلى فعله في الغسل من التقاء الختانين من غير إنزال1، وإيجاب الوضوء من الملامسة2، وصحة الصوم ممن أصبح جنبًا3، وعدم ثبوت حكم الإحرام في حق من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم: كتاب الحيض، باب: نسخ الماء، ووجوب الغسل من التقاء الخنانين من حديث عائشة -رضي الله عنها-، والترمذي: كتاب الطهارة، باب: ما جاء إذا التقى الختانان وجب الغسل، وأبو داود: كتاب الطهارة، باب في الإكسال، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
كما أخرجه عنها وعن غيرها ابن ماجه في كتاب الطهارة، باب ما جاء في وجوب الغسل إذا التقى الختاتان، وهو أظهر من محل الشاهد، حيث جاء فيه لفظ الفعل صريحًا. فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، فعلته أنا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاغتسلنا".
2 حديث الوضوء من مس المرأة: أخرجه الترمذي: كتاب التفسير، باب ومن سورة هود عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- مرفوعًا.
ولفظه "...... عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ قال: أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلًا لقى امرأة، وليس بينهما معرفة، فليس يأتي الرجل شيئًا إلى امرأته إلا وقد أتى هو إليها، إلا أنه لم يجامعها، قال: فأنزل الله:
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114] فأمره أن يتوضأ ويصلي. قال معاذ: يا رسول الله، أهي له خاصة أم للؤمنين عامة؟ قال: بل للمؤمنين عامة". قال الترمذي: "هذا حديث ليس إسناده بمتصل، عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ".
كذلك أخرجه عن معاذ -أيضًا- الدراقطني كتاب الطهارة، باب صفة ما ينقض الوضوء وما روي في الملامسة والقبلة. ثم قال: "حديث صحيح"، والحاكم في المستدرك، كتاب الطهارة، باب الدليل على أن اللمس ما دون الجماع والوضوء منه.
كما أخرجه مالك والشافعي من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما-.

 

ج / 1 ص -591-       بعث هديه وأقام في أهله1، حتى عدوا ذلك ناسخًا لما قبله، معارضًا لما خالفه من أمره ونهيه.
ولأن الله -تعالى- أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بقيام الليل2، ودخل فيه أمته، حتى نسخه بقوله:
{عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ}3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روى البخاري ومسلم وأبو دواد والترمذي والنسائي عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أنا فتلت تلك القلائد من عهن كان عندنا وأصبح فينا حلالًا، يأتي ما يأتي الحلال من أهله، أو ما يأتي الرجل من أهله.
وفي رواية: فتلت قلائد بُدنِ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم أشعرها وقلّدها، ثم بعث بها إلى البيت، فما حرم عليه شيء كان له حلالًا. انظر: جامع الأصول "4/ 165" والمنتقى من أخبار المصطفى ص423.
2 في قوله -تعالى-:
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 1-4].
3 سورة المزمل من الآية: 20.
روى ابن جرير الطبري عن أبي عبد الرحمن قال: لما نزلت
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} قاموا حولًا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم حتى نزلت {فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَه} قال: فاستراح الناس.
وروي عن زرارة بن أبي أوفى عن سعيد بن هشام قال: فقلت -يعني لعائشة- أخبرينا عن قيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قالت: ألست تقرأ
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} قلت: بلى. قالت: فإنها كان قيام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه حتى انتفخت أقدامهم، وحبس آخرها في السماء ستة عشر شهرًا، ثم نزل.
وروى الطبري عن سعيد بن جرير قال: لما أنزل الله تعالى على نبيه -صلى الله عليه وسلم
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} قال: مكث النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه، فأنزل الله -تعالى- عليه بعد عشر سنين {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ} الآية.
تفسير ابن كثير "4/ 437".

 

ج / 1 ص -592-       ولما عاتبه في تحريم ما أحل الله ما أحل الله له1، قال -عقيبه-: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}2.
وابتدأ الخطاب بمناداته وحده، ثم تممه بلفظ الجمع بقوله:
{ياَ أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ..}3. وهذا يدل على أن حكم خطابه لا يختص به.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}.
2 سورة التحريم من الآية: 2.
وقد اختلف العلماء في سبب نزول ذلك على أقوال كثيرة، أشهرها -كما قال الواحدي والقرطبي- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في بيت حفصة، فزارت أباها، فلما رجعت أبصرت مارية في بيتها مع النبي -صى الله عليه وسلم- فلم تدخل حتى خرجت مارية ثم دخلت، فلما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في وجه حفصه الغيرة، والكآبة قال لها:
"لا تخبري عائشة ولك عليّ أن لا أقربها أبدًا" فأخبرت حفصة عائشة -وكانتا متصافيتين- فغضبت عائشة، ولم تزل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- حتى حلف أن لا يقرب مارية، فأنزل الله هذه السورة. "فتح القدير للشوكاني 5/ 287".
كما روى البخاري في كتاب التفسير، باب سورة التحريم، ومسلم في كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق، من حديث حفصة وعائشة أنهما قالتا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: نشم منك رائحة مغافير "صمغ حلو له رائحة كريهة" قال:
"لا، بل شربت عسلًا" -وكان قد شربه عند زينب بنت جحش- ولن أعود إليه" فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ}.
قال الشوكاني في فتح القدير "5/ 290": "والجمع ممكن بوقوع القصتين:
العسل، وقصة مارية، وأن القرآن نزل فيهما جميعًا".
3 مفتتح سورة الطلاق.
قال الشوكاني: "نادى النبي -صلى الله عليه وسلم- أولًا تشريفًا له، ثم خاطبه مع أمته، أو الخطاب له خاصة، والجمع للتعظيم، وأمته أسوته في ذلك". المصدر السابق ص377.

 

ج / 1 ص -593-       وقد أشار إليه -عليه السلام- بقوله: "إِنّمَا أََسْهُو لأَسُنًّ" 1.
فإذا ثبت أن امته يشاركونه في حكمه: فلزم مشاركته لهم في أحكامهم؛ لوجود التلازم ظاهرًا؛ فإن ما ثبت في أحد المتلازمين ثبت في الآخر؛ فإنه لو ثبت في حقهم حكم انفردوا به دونه: لثبت نقيض ذلك الحكم في حقه دونهم، وقد أقمنا الدليل على خلافه.
لذلك: قالت حفصة2 للنبي -صلى الله عليه وسلم-: ما شأن الناس حلُّوا ولم تحلل من عمرتك؟ قال،
"إِنَّي لَبدَتُّ رَأْسِي3، وَقَلَّدتُّ، هَدْبِي، فَلاَ أُحِلَّ حَتىَّ أَنْحَرَ" 4.
فلولا أنه داخل فيما ثبت لهم من الأحكام: ما استدعوا منه موافقتهم، ولا أقرهم على ذلك، وبين لهم عذره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مالك في الموطأ: كتاب الصلاة -باب العمل في السهو- قال: "بلغني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"إني لأنسى، أو أنسًّى لأسنّ".
قال ابن عبد العزيز: "لا أعلم هذا الحديث روي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مسندًا ولا مقطوعًا من غير هذا الوجه، وهو أحد هذه الأحاديث الأربعة التي في الموطأ، لا توجد في غيرن مسنده ولا مرسلة، ومعناه صحيح في الأصول".
شرح الزرقاني على موطأ مالك "1/ 205".
شرح الزرقاني على موطأ مالك "1/ 205".
2 هي: أم المؤمنين: حفصة بنت عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- تزوجها الرسول -صلى الله عليه وسلم- سنة "3هـ" على أرجح الأقوال: توفيت -رضي الله عنها- سنة "41هـ" وقيل سنة "45هـ". انظر: الاستيعاب "4/ 1811".
3 في المصباح فيقال: لبّدت الشيء تلبيدًا: ألزقت بعضه ببعض حتى صار كاللبّد، ولبّد الحاج شعره بخطمى ونحوه كذلك حتى لا يتشعث".
4 أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب التمتع ولإقران والإفراد بالحج من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن حفصة -رضي الله عنها- كما أخرجه =

 

ج / 1 ص -594-       والدلالة على أن الحكم إذا ثبت في حق واحد من الصحابة دخل فيه غيره: قوله -عليه السلام-: "خطابي للواحد خطاب للجماعة"1.
ولأن الصحابة -رضي الله عنهم- كانت ترجع في أحكامهم إلى قضايا النبي -صلى الله عليه وسلم- في الأعيان2: كرجوعهم في حد الزاني إلى قصة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عنها في باب فتل القلائد للبدن والبقر، وفي باب من لبّد رأسه عن الإحرام وحلق.
كما أخرجه عنها -أيضًا- أبو داود: كتاب الحج، باب في الإقران، والشافعي في كتاب الحج، باب ما جاء في فسخ الحج إلى العمرة. وفي بعض رواياته: "إني أهديت ولبّدت، فلا أحل حتى أنحر هديي".
1 هكذا يذكره الأصوليون في كتبهم، كما يروونه بلفظ "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة" وهو بهذين اللفظين، لا أصل له، كما قال المزي، والذهبي، والعراقي، والسخاوي، لكن جاء في معناه ما وراه النسائي في سننه، كتاب البيعة، باب النساء، من طريق مالك، والترمذي، كتاب السير، باب ما جاء في بيعة النساء، من طريق سفيان عن محمد بن المنكدر، سمعت أميمة بنت رقيقة تقول: بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في نسوة لنا: "فيما استطعتنّ وأطقتنّ" قلت: الله ورسوله أرحم منا بأنفسنا. فقلت: يا رسول الله بايعنا. قال سفيان: يعنى صافحنا. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
"إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة" قال الترمذي: حسن صحيح. ولفظ النسائي: "ما قولي لامرأة واحدة إلا كقولي لمائة امرأة".
وأخرجه كذلك ابن حبان في صحيحه، والدرقطني في سننه.
انظر: موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان "ص34" المقاصد الحسنة "ص192" تحفة الطالب لابن كثير "ص286" الابتهاج بتخريج أحاديث المنهاج "ص110".
2 أي: الوقائع التي حكم فيها الرسول -صلى الله عليه وسلم- على أشخاص معينين.

 

ج / 1 ص -595-       ماعز1 وفي دية الجنين إلى حديث حمل بن مالك2، وفي "المفوضة" إلى قصة بروع بنت واشق، و"في السكنى والنفقة" إلى حديث فاطمة بنت قيس، وفريعة بنت مالك3، وإلى حديث صفية الأنصارية4 في: "سقوط طواف الوداع عن الحائض" وغير ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: ماعز بن مالك الأسلمي، أبو عبد الله، صحابي جليل، يعد من المدنيين، روى عنه ابنه عبد الله حديثًا واحدًا. له ترجمة في: الاستيعاب "3/ 1345" والإصابة "5/ 705".
وقصة رجم ماعز: أخرجها البخاري: كتاب الحدود، باب هل يقول الإمام للمقر: لعلك لمست أو غمزت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ومسلم: كتاب الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري: كما أخرجها أبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم.
2 تقدمت ترجمته، وتخريج حديثه فصل "التعبد بخبر الواحد".
3 تقدمت هذه الأخبار في فصل "التعبد بخبر الواحد".
4 في أكثر النسخ المطبوعة "الأنصارية" بدون واو، حتى قال الطوفي في شرحه "2/ 415-416: "قال الشيخ أبو محمد: وإلى حديث صفية الأنصارية؛ في سقوط طواف الوداع عن الحائض. قلت: وإنما هي صفية بنت حيي، أم المؤمنين".
والصواب إثبات الواو؛ لأن القصة نقلت عن السيدة حفصة، وامرأة أنصارية تسمى "أم سليم". وقد تقدم في "فصل التعبد بخبر الواحد سمعًا": عن عكرمة قال: إن أهل المدينة سألوا ابن عباس -رضي الله عنهما- عن امرأة طافت، ثم حاضت؟ قال لهم: تنفر. قالوا: لا نأخذ بقولك وندع قول زيد "وكان زيد بن ثابت يفتي بخلاف ذلك" قال: -أي ابن عباس-: إذا قدمتم المدينة فسلوا. فقدموا المدينة فسألوا، فكان فيمن سألوا "أم سليم" فقالت: إن صفية بنت حيي زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- حاضت، فذكرت ذلك لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال:
"أحابستنا هي؟". قالوا: إنها أفاضت. قال: "فلا إذن".
أخرجه البخاري: كتاب الحج -باب إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت، =

 

ج / 1 ص -596-       ولأنه لو اختص به لما احتيج إلى التخصيص بقوله -لأبي بردة1- في التضحية بالجذع من المعز: "تجزئك ولا تجزئ عن أحد بعدك"2.
دليل آخر: أن قول الراوي: "نهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أمر، أو قضى" يعم، ولو اختص الحكم من شوفه به: لم يكن عامًا؛ لاحتمال أن يكون الراوي سمع نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- أو أمره لواحد فلا يكون عامًا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ومسلم: كتاب الحج، باب وجوب طواف الوادع وسقوطه عن الحائض، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب الحج، باب ترك الحائض الوادع.
1 هو: الصحابي الجليل: هانئ بن نيار الأنصاري، خال البراء بن عازب، شهد أبو بردة بدرًا وما بعدها. توفي في أول خلافة معاوية بعد أن شهد مع علي -رضي الله عنه- حروبه كلها، وكان سنة "41هـ" وقيل "42هـ" وقيل "45هـ". انظر في ترجمته: الإصابة "4/ 18" تهذيب الأسماء واللغات "2/ 178".
2 الحديث رواه البراء بن عازب قال: ضحى خال لي يقال له: أبو بردة، قبل الصلاة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
"شاتك شاة لحم" فقال: يا رسول الله، إن عندي داجنًا جذعة من المعز؟ قال: "اذبحها ولا تصلح لغيرك".
وفي رواية أخرى عن البراء -أيضًا- قال: خطبنا النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم النحر قال:
"إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل أن نصلي، فإنما هو لحم عجله لأهله، ليس من النسك في شيء" فقام خالي أبو بردة بن نيار فقال يا رسول الله، أنا ذبحت قبل أن أصلي، وعندي جذعة خير من مسنة، قال: "اذبحها، ولا تجزئ جذعة عن أحد بعدك" وفي رواية: إن عندي عناق لبن هي خير من شاتي لحم، فقال: "هي خير نسيكتك، ولا تجزئ جذعة عن أحد بعدك". والعناق: أنثى المعز قبل أن تستكمل حولًا.
أخرجه البخاري "955" ومسلم "1961" وأبو داود "2800" والترمذي "1508 وأحمد في المسند "4/ 281، 287، 297، 302" وغيرهم.

 

ج / 1 ص -597-       ولأن الخطاب بالكتاب والسنة إنما شوفه به أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا خلاف في ثبوت حكمه في حق أهل الأعصار1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه خمسة أدلة تدل على أن ما توجه إلى بعض الأمة يتناول غيره، ما لم يدل دليل على الاختصاص كما تقدم.

فصل: [في تعلق الأمر بالمعدوم]
الأمر يتعلق بالمعدوم، وأوامر الشرع قد تناولت المعدومين إلى قيام الساعة، بشرط وجودهم على صفة من يصح تكليفه.
خلافًا للمعتزلة وجماعة من الحنفية1 قالوا: لا يتعلق الأمر به؛ لأنه يستحيل خطابه، فيستحيل تكليفه.
ولأنه لا يقع منه فعل ولا ترك، فلم يصح أمره، كالعاجز والمجنون، ولأن المعدوم ليس بشيء، فأمره هذيان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1  تحرير محل النزاع في المسألة: أن توجه الأمر إلى المعدوم: إن كان بمعنى طلب إيقاع الفعل منه حال عدمه، فهو محال وباطل بالإجماع؛ لأن المعدوم لا يفهم إيقاع الفعل منه حال عدمه، فهو محال وباطل بالإجماع؛ لأن المعدوم لا يفهم الخطاب، فضلًا عن أن يعمل بمقتضاه، وشروط التكليف كلها منفية فيه.
وإن كان بمعنى توجه الخطاب له عند وجوده، ووجود شروط التكليف فيه، فهذا هو محل النزاع.
فالجمهور على جواز ذلك، ولهم على ذلك أدلة سيذكرها المصنف.
والمعتزلة وبعض الحنفية، وبعض المتكلمين يرون عدم الجواز، للأدلة التي ذكرها المصنف.
والواقع أن ما أوردوه من الأدلة لا ينطبق على محل النزاع، وسيأتي رد المصنف على هذه الأدلة.
انظر: شرح الطوفي "2/ 419-420".

 

ج / 1 ص -598-       وكما أن من شرط القدرة: وجود المقدور، يجب أن يكون من شرط الأمر: وجود المأمور.
ولنا:
اتفاق الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين على الرجوع إلى الظواهر المتضمنة أوامر الله -سبحانه- وأوامر نبيه -عليه السلام- على من لم يوجد في عصرهم، لا يمتنع من ذلك أحد.
ولأنه قد ثبت أن كلام الله –تعالى- قديم، وصفة من صفاته، لم يزل آمرا ناهيًا.
وقال الله -تعالى-:
{فَاتَّبِعُوه}1 وهذا أمر باتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا خلاف أنا مأمورون باتباعه ولم نكن موجودين.
قولهم2: "إن خطاب المعدومين محال".
قلنا: إنما يستحيل خطابه بإيجاد الفعل حال عدمه3.
أما أمره بشرط الوجود: فغير مستحيل، بأن يفعل عند وجوده ما أمر به متقدمًا، كما يقول: الوالد يوجب على أولاده، ويلزمهم التصدق عنه إذا عقلوا وبلغوا، فيكون الإلزام حاصلا بشرط الوجود.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف من الآية: 158
{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وفي جميع النسخ: "فاتبعوه" وقد وردت في الآيتين: 153، 155 من سورة الأنعام. ولا تصلحان للاستشهاد هنا، حيث الضمير في الأولى يعود على صراط الله تعالى، وفي الثانية يعود على الكتاب. فتأمل ذلك.
2 بدأ المصنف يناقش الأدلة التي تمسك بها المعتزلة ومن معهم.
3 أي: حال عدم المأمور.

 

ج / 1 ص -599-       ولو قال لعبده: "صم غدًا" فهو أمر في الحال بصوم الغد، لا أنه أمر في الغد.
وأما العاجز: فإنه يصح أمره بشرط القدرة، كمسألتنا بغير فرق.
فإن قيل: هذا مخالف لقوله -عليه السلام-:
"رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي..."1 قلنا: المراد به: رفع المأثم والإيجاب المضر، بدليل أنه قرن به النائم.
ولا نسلم أن شرط القدرة: وجود المقدور؛ فإن الله -سبحانه وتعالى- قادر قبل أن يوجد مقدور2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الحديث أخرجه أبو داود في سننه: كتاب الحدود حديث "4403" وابن ماجه: كتاب الطلاق حديث "2041" وأحمد في المسند "6/ 100" عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا عن النبي -صلي الله عليه وسلم- قال:
"رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق" وإن كان في إسناده مقال، إلا أن الحاكم في المستدرك "2/ 59" قال: "هذا الحديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه: أي: البخاري ومسلم.
2 ترك مسلم الرد على قولهم: "ولأن المعدوم ليس بشيء، فأمره هذيان" وقد رد عليه الطوفي في شرحه "2/ 421-422" مبينا أن هذا قول بعضهم، لا كل المعتزلة: "قال بعضهم: هو عرض قائم بجوهر، وأن تأثير القدرة الإلهية ليست في إيجاد معدوم، بل في إظهار الأشياء من رتبة الخفاء إلى رتبة الجلاء، أي: أن الأشياء خفية في العدم، فيظهرها الله -عز وجل- ويجليها، كما قال -عز وجل- في الساعة التي نسميها الآن معدومة:
{إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] فسماها شيئًا، وقال في موضع آخر: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187]. ثم قال: وإذا كان معنى إيجاد المعدوم عندهم هو: إظهار أشياء بعد خفائها، فما المانع من توجه الخطاب الأزلي إلى تلك الأشياء، بشرط ظهورها وتأهلها للامتثال، هذا مما لا مانع منه، وهو لازم لمن قال به من المعتزلة، على ما حكيته عنهم في كتاب: "إبطال التحسين والتقبيح". ا. هـ.

 

ج / 1 ص -600-       فصل: [في التكليف بغير الممكن]
ويجوز الأمر من الله -سبحانه- لما في معلومه أن المكلف لا يتمكن من فعله.
وعند المعتزلة: لا يجوز ذلك إلا أن يكون تعلقه بشرط تحققه مجهولا عند الآمر، أما إذا كان معلوما أنه لا يتحقق الشرط، فلا يصح الأمر به؛ لأن الأمر طلب، فكيف يطلب الحكيم ما يعلم امتناعه؟
وكيف يقول السيد لعبده: خط ثوبي إن صعدت السماء؟
وبهذا يفارق أمر الجاهل؛ لأن من لا يعرف عجز غيره عن القيام: يتصور أن يطلبه منه.
أما إذا علم امتناعه: فلا يكون طالبًا، وإذا لم يكن طالبًا: لم يكن آمرا. ولأن إثبات الأمر بشرط يفضي إلى أن يكون وجود الشيء مشروطًا بما يوجد بعده، والشرط ينبغي أن يقارن، أو يتقدم أما أن يتأخر عن المشروط، فمحال.
وهذه المسألة تنبني على النسخ قبل التمكن، وأن فيه فائدة، على ما مضى1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حاصل هذه المسألة: أن الآمر والمأمور إما أن يكونا عالمين بانتفاء شرط التكليف، أو جاهلين به، أو أحدهما عالم به والآخر جاهل به. فالقسمة العقلية رباعية.
فإن كانا عالمين بانتفاء التكليف، فلا يصح التكليف؛ لانتفاء فائدته في حق المكلف.
وإن كانا جاهلين بانتفائه، فيصح، لحصول فائدته في حق المكلف، وصحة =

 

 

ج / 1 ص -601-       ولنا:
الإجماع على أن الصبي إذا بلغ يجب عليه أن يعلم ويعتقد أنه مأمور بشرائع الإسلام، منهي عن الزنا والسرقة، ويثاب على امتثال المأمورات، وترك المنهيات، ويكون متقربًا بذلك وإن لم يحضر وقت عبادة، ولا يتمكن1 من زنا ولا سرقة.
وعلمه بأن الله -تعالى- عالم بعاقبة الأمر: لا ينفي عنه ذلك.
وإن احتمل أن لا يكون مأمورا منهيًّا، لعدم مساعدة التمكن يجب أن يشك في كونه مأمورًا منهيًّا، وفي كونه متقربًا؛ إذ لا خلاف في أن العزم على امتثال ما ليس بمأمور، وترك ما ليس بمنهي ليس بقربة، وهذا لا يتيقن أنه مأمور ولا متقرب وهذا خلاف الإجماع.
ودليل ثان:
الإجماع على أن صلاة الفرض لا تصح إلا بنية الفرضية، ولا تقبل نية الفرضية، إلا بعد معرفة الفرضية والعبد ينوي في أول الوقت فرض الظهر، وربما مات في أثنائها، فتبين -عندهم2- أنها لم تكن فرضًا،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الطلب من الآمر، إذ ما يعلم انتفاء شرطه لا يصح طلبه ممن يجوز جهله به.
أما إذا كان الآمر عالمًا به دون المأمور: فيصح إذا كان المأمور عالمًا به دون المأمور: فيصح إذا كان الآمر هو الله تعالى؛ لابتلاء المكلف واختباره، بخلاف العكس: وهو ما إذا كان المأمور عالمًا به دون الآمر، فلا يصح؛ لانتفاء فائدته من جهة المكلف، وعدم صحة طلبه من الآمر، لجهله به.
والمسألة مفرعة على مسألة: النسخ قبل التمكن من الامتثال، وقد تقدم ما فيها.
انظر: شرح مختصر الطوفي "2/ 423-424".
1 في الأصل "لا يمكن" ولا يستقيم المعنى بذلك.
2 أي: عند المعتزلة.

 

ج / 1 ص -602-       فليكن شاكًّا في الفرضية، فتمتنع النية لأنها لا تتوجه إلا إلى معلوم.
فإن قيل: فإذا مات في أثنائها كيف يقال: إن الأربع كانت فريضة على الميت؟
قلنا: هو قاطع بأنها فرض عليه، لكن بشرط البقاء، والأمر بشرط أمر في الحال، وليس بمعلق من عزم عليه يثاب ثواب العزم على الواجبات؛ فإن قول السيد لعبده: "صم غدًا" أمر في الحال بصوم الغد، لا أنه أمر في الغد.
ولو قال: "فرضت عليك بشرط بقائك": فهو فارض في الحال، لكن بشرط.
ولو قال لوكيله: "بع داري في رأس الشهر": كان وكيلًا في الحال، يصح أن يقال: وكّله، ويصح عزله.
وإذا قال: وكّلني، وعزلني: كان صادقًا، فإن مات قبل رأس الشهر لم يتبين كذبه.
بخلاف ما إذا قال: "إذا جاء رأس الشهر فأنت وكيلي"، فإنه لا يكون وكيلًا في الحال.
الثالث: الإجماع على لزوم الشروع في صوم رمضان، فإن كان الموت يتبين به عدم الأمر، والموت مجوّز1، فيصير مشكوكًا فيه، فكيف تلزمه العبادة؟.
قالوا2: لأن الظاهر بقاؤه، والحاصل يستصحب، والاستصحاب أصل تنبني عليه الأمور، كما أن من أقبل عليه سبع: لم يقبح الهرب، وإن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: جائز.
2 أي: المعتزلة.

 

ج / 1 ص -603-       كان من المحتمل موت السبع دونه، ولو فتح هذا الباب: لم يتصور امتثال أمر.
قلنا: هذا يلزمكم، ومذهبكم يفضي إليه، وما أفضي إلى المحال محال1.
وأما الهرب: فحزم، وأخذ بالأسوأ من الأحوال، ويكفي فيه الاحتمال البعيد والشك، فإن من شك في سبع في الطريق، أو لص: حسن منه الاحتراز عنه.
وأما الوجوب: فلا يثبت بالشك والاحتمال، بل ينبغي أن من أعرض عن الصوم لم يكن عاصيًا؛ لأنه أخذ بالاحتمال الآخر.
وقولهم2: "الأمر طلب، وطلب المستحيل من الحكيم محال".
قلنا: الأمر إنما هو قول الأعلى لمن دونه: "افعل" مع تجردها عن القرائن، وهذا متصور مع علمه بالاستحالة3.
وعلى أنا لو سلمنا أن الأمر طلب، فليس الطلب من الله -تعالى- كالطلب من الآدميين؛ وإنما هو استدعاء فعل لمصلحة العبد، وهذا يحصل مع الاستحالة؛ لكي يكون توطئة للنفس على عزم الامتثال، أو الترك؛ لطفًا به في الاستعداد، والانحراف عن الفساد، وهذا متصور.
ويتصور من السيد -أيضًا- أن يستصلح عبده بأوامر ينجزها عليه،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة رد المصنف على المعتزلة: أن هذا يلزمكم، حيث قلتم: إن الظاهر بقاؤه، ونحن نقول بلزوم الشروع في نحو صوم رمضان، فما كان جوابًا لكم، فهو جواب لنا أيضًا.
2 أي: قول المعتزلة.
3 وتكون الحكمة: هي اختبار المأمور، هل سيأخذ في الأسباب أو لا؟ فيكون ذلك دليلًا على الامتثال أو المخالفة.

 

ج / 1 ص -604-       مع عزمه على فسخ الأمر قبل الامتثال؛ امتحانًا للعبد واستصلاحًا له.
ولو وكل رجلًا في عتق عبده غدًا، مع عزمه على عتق العبد: صح، ويتحقق فيها المقصود من: استمالة الوكيل، وامتحانه في إظهار الاستبشار بأوامره، والكراهية له، وكل ذلك معقول الفائدة، فكذا ههنا.
وقولهم1: "يفضي إلى تقدم المشروط على الشرط".
قلنا: ليس هذا شرطًا لذات الأمر، بل الأمر موجود، وجد الشرط أم لم يوجد، وإنما هو شرط لوجوب التنفيذ، فلا يفضي إلى ما ذكروه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: المعتزلة في بعض أدلتهم السابقة.

فصل: [في النهي]
اعلم أن ما ذكرناه من الأوامر، تتضح به أحكام النواهي؛ إذ لكل مسألة من الأوامر وزان من النواهي2 وعلى العكس، فلا حاجة إلى التكرار إلا في اليسير.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معنى ذلك: أن المسائل التى بحثت في الأمر هي التي تبحث في النهي، فما قيل هناك يقال هنا، والراجح هناك هو الراجح هنا إلا في بعض الأمور، كما سيأتي.
فإذا كان الأمر عبارة عن: استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء، فالنهي عبارة عن استدعاء الترك بالقول على وجه الاستعلاء.
وصيغة الأمر: "افعل" وصيغة النهي: "لا تفعل"، ولا يشترط إرادة الآمر والناهي.
وإذا كان الأمر ظاهرًا في الوجوب، محتملًا للندب، فالنهي ظاهر في التحريم، مع احتمال الكراهة.
وإذا كان الأمر يدل على التكرار والفور على خلاف في ذلك، فإن النهي يقتضي التكرار والفور بدون خلاف. =

 

ج / 1 ص -605-       من ذلك:
أن النهي عن الأسباب المفيدة للأحكام يقتضي فسادها1.
وقال قوم: النهي عن الشيء لعينه: يقتضي الفساد2، والنهي عنه لغيره لا يقتضيه؛ لأن الشيء قد يكون له جهتان هو مقصود من إحداهما، مكروه من الأخرى على ما مضى3.
وقال آخرون: النهي عن العبادات يقتضي فسادها، وفي المعاملات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والأمر يقتضي صحة المأمور به، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
1 سواء أكان لعينه أم لغيره، في العبادات، أم في المعاملات.
وهو رأي جمهور الأصوليين. قال الخطابي: هذا مذهب العلماء في قديم الدهر وحديثه؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها-: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" متفق عليه.
والمذهب الثاني: أنه لا يدل على الفساد مطلقًا، نقله في المحصول عن أكثر الفقهاء، والآمدي عن المحققين.
انظر: المحصول جـ1 ق2 ص486، والإحكام "2/ 188".
والثالث: وهو المختار في المحصول والمنتخب وغيرهما أنه يدل على الفساد في العبادات دون المعاملات. وبه قال بعض المعتزلة.
المذهب الرابع: أنه يدل على الفساد في العبادات، وفي المعاملات؛ إلا إذا رجع إلى أمر مقارن للعقد غير لازم له، كالبيع وقت النداء للجمعة، فإن النهي إنما هو لخوف تفويت الصلاة، فإنه لا يدل على الفساد، وإن كان يأثم بتفويت الصلاة. وهو منقول عن الشافعي وأكثر أصحابه.
انظر: القواعد لابن اللحام ص160.
2 مثل: الكفر والظلم، والكذب، ونحو ذلك من الأمور المنهي عنها لذاتها.
3 كما تقدم ذلك في الصلاة في الدار المغصوبة، فلو نهى عنها لذاتها، أي: لكونها صلاة، اقتضى فسادها مطلقًا، وإذا نهى عنها لما لابسها من معصية الغصب، لم يقتض فسادها.

 

ج / 1 ص -606-       لا يقتضيه؛ لأن العبادة طاعة، والطاعة موافقة الأمر، والأمر والنهي يتضادان، فلا يكون النهي مأمورًا، فلا يكون طاعة ولا عبادة.
ولأن النهي يقتضي التحريم وكون الشيء قربة محرمًا محال1.
وحكي عن طائفة، منهم أبو حنيفة: أن النهي يقتضي الصحة؛ لأن النهي يدل على التصور، لكونه يراد للامتناع، والممتنع في نفسه، المستحيل في ذاته، لا يمكن الامتناع منه، فلا يتوجه إليه النهي، كنهي الزَّمِن2 عن القيام، والأعمى عن النظر.
وكما أن الأمر يستدعي مأمورًا يمكن امتثاله: فالنهي يستدعي منهيًّا يمكن ارتكابه، إذا ثبت تصوره.
فلفظات الشرع تحمل على المشروع، دون اللغوي فإذا نهى عن صوم يوم النحر، دل على تصوره شرعًا3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة ذلك: أن هناك فرقًا بين العبادات والمعاملات من وجهين:
أحدهما: أن المقصود من العبادات: هو التقرب إلى الله تعالى، وارتكاب النهي معصية، فلا يجتمعان، بخلاف المعاملات، فإنها ليست للتقرب، فلا يناقضها ارتكاب النهي.
الوجه الثاني: أن فساد المعاملات بالنهي، يضر بالناس، ويفضي إلى قطع معايش الناس أو تقليلها، فراعى الشرع مصلحتهم، وعليهم إثم ما ارتكبوا من المنهيات.
أما العبادات: فإنها حق الله -تعالى- فتعطيلها بإفسادها بسبب النهي لا يضر به سبحانه، بل من أوقعها صحيحة كان مطيعًا، ومن لم يواقعها بسبب صحيح كان عاصيًا.
انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 433-434".
2 الزمانة: العاهة، ورجل زمن: أي مبتلى بمرض يدوم زمنًا طويلًا.
3 خلاصة دليل أبي حنيفة ومن معه: أنه لما استحال أن يقال للأعمى: لا تبصر، =

 

ج / 1 ص -607-       وقال بعض الفقهاء وعامة المتكلمين: لا يقتضي فسادًا ولا صحة؛ لأن النهي من خطاب التكليف، والصحة والفساد من خطاب الأخبار1، فلا يتنافى أن يقول: نهيتك عن كذا، فإذا فعلته رتبت عليك حكمه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وللزمن لا تَطِرْ، وللأخرس: لا تنطق، علمنا أن استحالة النهي عنه لعدم تصوره وذلك دليل على أن صحة النهي تعتمد على تصور المنهي عنه، فيكون صحيحًا ولذلك صححوا بيع درهم بدرهمين، ويثبت الملك في أحدهما، ويرد الآخر، لأن النهي دل على الصحة، والصحة عبارة عن ترتب الآثار والتمكن من التصرفات.
انظر: شرح الطوفي "2/ 434".
وقد ناقش الطوفي هذا الدليل وبين أنه يؤدي إلى التناقض فقال:
"وتقريره: أن النهي يقتضي الصحة العقلية، وهي الإمكان الذي هو شرط الوجود، أي: كون المنهي عنه ممكن الوجود لا ممتنعه، فَنَعَمْ يصح ما قلتموه، وإن أردتم الصحة الشرعية، أي: المستفادة من الشرع، وهي: ترتب آثار الشيء شرعًا عليه، فذلك تناقض؛ إذ يلزم منه صحة كل ما نهى الشرع عنه، وقد أبطلوا هم منه أشياء، كبيع الحمل في البطن ونحوه، ولأن النهي يقتضي -في وضع اللغة، وعرف الشرع- إعدام المنهي عنه؛ لأن كل عاقل، بل وغير عاقل، إذا أراد عدم فعل ما، قال لمن خشي صدروه منه: لا تفعله، ولا يقول ذلك إذا أراد إيجاد ذلك الفعل، فدل على أن مقتضى النهي: إعدام المنهي عنه، وحينئذ ترتب آثاره مع إعدامه تناقض" المصدر السابق ص435.
1 أي: من قبيل الحكم الوضعى. وقد وضحه الطوفي فقال: "النهي خطاب تكليفي، أي: من قبيل خطاب التكليف اللفظي، والصحة والفساد من قبيل خطاب الوضع والإخبار -كما سبق- وليس بين القبيلين، أعنى: الخطاب التكليفي والوضعي رابط عقلي، حتى يقتضي أحدهما الآخر، وإنما تأثير فعل المنهي عنه في الإثم به، لا في صحته، كما يقول أبو حنيفة، ولا في فساده، كما يقول غيره، فإن اقترن بالإثم بفعل المنهي عنه صحة أو فساد، فذلك لدليل خارج".
شرح مختصر الروضة "2/ 436".

 

ج / 1 ص -609-       فإن قيل: معناه: ليس بمقبول قربة ولا طاعة.
قلنا: قوله: "مردود" يقتضي رد ذاته، فإن لم يكن1، اقتضى رد ما يتعلق به؛ ليكون وجوده وعدمه واحدًا.
والثاني: أن الصحابة -رضي الله عنهم- استدلوا على فساد العقود بالنهي عنها:
فاستدلوا على فساد عقود الربا بقوله -عليه السلام-:
"لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلًا بمثل"2.
واحتج ابن عمر -رضي الله عنه- في فساد نكاح المشركات بقوله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل "يكن" ولعل الصواب ما أثبتناه، ليتسق المعنى، فإن المقصود من العبارة أن الرد يتجه إلى الذات، فإذا كانت الذات موجودة، توجه الرد إلى ما يتعلق بها من الصحة، أو الكمال، وما أشبه ذلك؛ لأن رد الذات بعد وجودها محال.
2 أخرجه مسلم: كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا، والترمذي: كتاب البيوع، باب ما جاء أن الحنطة مثلًا بمثل وقال: "حديث حسن صحيح" وأبو داود: كتاب البيوع، باب في الصرف، وابن ماجه: كتاب التجارات، باب الصرف وما لا يجوز متفاضلًا يدًا بيد، والنسائي: كتاب البيوع، باب بيع البر بالبر، وباب بيع الشعير بالشعير. كما أخرجه الدرامي والدراقطني، والشافعي وغيرهم، من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينًا بعين، يدًا بيد".
3 في بعض الروايات: "ابن عمر -رضي الله عنهما-". وفي أحكام القرآن لابن العربي "1/ 156" "لا يجوز العقد بنكاح على مشركة، كانت كتابية أو غير كتابية، قاله عمر في إحدى روايتيه" ثم قال: "كل كافر بالحقيقة مشرك، ولذلك يروى عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه كره نكاح اليهودية والنصرانية، =

 

ج / 1 ص -610-       -تعالى-: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ}1، وفي نكاح المحرم بالنهي4.
وفي بيع الطعام قبل قبضه بالنهي3. وغير ذلك مما يطول.
الثالث: أن النهي عن الشيء يدل على تعلق المفسدة به، أو بما يلازمه؛ لأن الشارع حكيم لا ينهى عن المصالح، إنما ينهى عن المفاسد، وفي القضاء بالفساد إعدام لها بأبلغ الطرق4.
الرابع: أن النهي عنها مع ربط الحكم بها يفضي إلى التناقض في الحكمة؛ لأن نصبها سببًا تمكين من التوسل، والنهي منع من التوسل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقال: أي شرك أعظم ممن يقول: عيسى هو الله أو ولده، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا". فيبدو أن ذلك منقول عنهما، ولذلك اختلفت الروايات.
1 سورة البقرة من الآية: 221.
2 روى مسلم في كتاب النكاح، باب تحريم نكاح المحرم وكراهية خطبته، عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"لا يَنكح المحرم ولا يُنكح". كذلك أخرجه عنه: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدرامي والدراقطني ومالك وغيرهم.
انظر: "المنتقى ص387".
3 حديث النهي عن بيع الطعام قبل قبضه: رواه مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"من اشترى طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله".
وأخرجه السبعة إلا الترمذي من حديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يستوفيه" انظر: سبل السلام "3/ 15".
4 معنى ذلك: أن المفسدة ضرر على الناس في المعاملات، وشين يجب أن تنزه عنه العبادات، وإعدام الضرر مناسب عقلًا وشرعًا، عملًا بقوله -صلى الله عليه وسلم-:
"لا ضرر ولا ضرار" "رواه مالك في الموطأ 2/ 745 مرسلًا، ورواه الحاكم والبيهقي والدراقطني عن أبي سعيد الخدري موصلًا، وله طرق أخرى كثيرة. انظر: نصب الراية "4/ 386"، شرح الطوفي "2/ 438".

 

ج / 1 ص -611-       ولأن حكمها مقصود الآدمي، ومتعلق غرضه، فتمكينه منه حث على تعاطيه، والنهي منع من التعاطي ولا يليق ذلك بحكمة الشرع.
ثم لا فرق بين كون النهي عن الشيء لعينه، أو لغيره، لدلالة النهي على رجحان ما يتعلق به من المفسدة، والمرجوح كالمستهلك المعدوم.
وقولهم1: "إن النهي لا ينافي الصحة". قد بينا تناقضهما.
وإن سلمنا أنه لا ينافيه، لكن يدل على الفساد ظاهرًا، ويكفي ذلك.
وفي المواضع التي قضينا بالصحة2، خولف فيه الظاهر، فلا يخرجه عن أن يكون الأصل ما ذكرناه، كما لو خولف مقتضاه في التحريم.
وقولهم: "إنه يدل على الصحة". بعيد جدًّا؛ فإنهم إذا لم يجعلوه دليلًا على الفساد مع قربه منه، كيف يجعلونه دليلًا على الصحة؟!
قولهم: "إنه يدل على التصور".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أبو حنيفة ومن معه، حيث قالوا: "إن النهي يقتضي الصحة، لأن النهي يدل على التصور...." إلى آخر ما استدلوا به، وقد تقدم الرد عليه، كما قال المصنف في الدليل الرابع.
2 مثل: الطلاق حال الحيض، فإن الطلاق يقع وإن كان مخالفًا للنهي.
قال المصنف في المغني "10/ 324": "أجمع العلماء في جميع الأمصار، وكل الأعصار على تحريمه، ويسمى طلاق البدعة؛ لأن المطلق خالف السنة، وترك أمر الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم- قال الله تعالى:
{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ} [الطلاق: 1] وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء".
ثم قال: "فإن طلق للبدعة، وهو أن يطلقها حائضًا، أو في طهر أصابها فيه، أثم ووقع طلاقه، في قول عامة أهل العلم. قال ابن المنذر، وابن عبد البر: لم يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال...".

 

ج / 1 ص -612-       قلنا: يدل على تصوره حسَّا، وهو الأفعال1.
أما الصحة والفساد: فحكمان شرعيان، لا ينهى عنهما، ولا يؤمر بهما، ودليله: مناهي الشرع: كالمحاقلة والمزابنة، والمنابذة والملامسة2، وقوله -تعالى-:
{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}4، وقوله -عليه السلام-: "دعي الصلاة أيام أقرائك"5. إلى نظائره.
قولهم: "إن الأسامي الشرعية تحمل على موضوع الشرع".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة ذلك: أن النهي يدل على تصور المنهي عنه في الوجود، أي: كون المنهي عنه ممكن الوجود، ولا يدل على تصوره شرعًا، لأن مقتضى النهي شرعًا: إعدام المنهي عنه، فكونه يدل على تصوره شرعًا فيه تناقض واضح.
2 المحاقلة: هي بيع الطعام في سنبله، وقيل: هي أن يبيع الرجل الزرع بمائة فرق من الحنطة، أو هي: اكتراء الأرض بالحنطة.
أما المزابنة: فهي بيع الرطب في رءوس النخل بالتمر.
والمنابذة: بيع السلعة بالنبذ بدون رؤية وعلم بها.
والملامسة: بيع الشيء بالشيء بمجرد اللمس بدون رؤية. وكلها بيوعات منهي عنها لما فيها من الجهالة، أو عدم التساوي.
عن أنس -رضي الله عنه- قال: "نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن المحاقلة، والمخابرة "وهي بيع الثمار والحبوب قبل بدو صلاحها" والملامسة والمنابذة والمزابنة" رواه البخاري. سبل السلام "3/ 20".
3 سورة النساء من الآية: 22.
4 سورة البقرة من الآية: 278.
5 لفظ الحديث: ما روته عائشة -رضي الله عنها- أن فاطمة بنت أبي حبيش جاءت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
"إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي". أخرجه البخاري: كتاب =

 

ج / 1 ص -613-       عنه جوابان:
أحدهما: أن الأصل تقرير الأوضاع اللغوية، إلا ما صرف عنه الاستعمال الشرعي1.
وفي الأوامر: ألفنا من الشارع استعمال هذه الأسماء للموضوع الشرعي.
أما في المنهيات فلم يثبت هذا العرف.
الثاني: أنا نسلم استعماله في الموضوع الشرعي، لكن الصلاة الشرعية: هي الأفعال المنظومة، والصحة غير داخلة في حدها؛ لما ذكرناه2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الوضوء، باب غسل الدم، وفي كتاب الحيض، باب الاستحاضة، وفي باب إقبال المحيض وإدباره.
كما أخرجه مسلم: كتاب الحيض، باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، أبو داود: كتاب الطهارة، باب من روى أن الحيضة إذا أدبرت لا تدع الصلاة، وكذلك أخرجه الترمذي وابن ماجه والنسائي وأحمد والدارمي وغيرهم.
انظر: نصب الراية "1/ 199".
1 معناه: أن الأصل استعمال الألفاظ في معانيها اللغوية حتى يوجد دليل ينقلها من المعنى اللغوي إلى معنى اصطلاحي شرعي.
2 ذكر المصنف في دلالة النهي على الفساد خمسة مذاهب.
الأول: أنه يقتضي الفساد مطلقًا، إلا الدليل، وهو الذي رجحه المصنف كما سبق.
الثاني: أنه يقتضي الفساد إذا كان النهي عنه لعينه، أما إن كان لغيره فلا يقتضي الفساد.
الثالث: أنه يقتضي الفساد في العبادات دون المعاملات.
الرابع: أنه يقتضي الصحة، وهو منقول عن أبي حنيفة وغيره.

 

ج / 1 ص -614-      
.............................................
= الخامس: أنه لا يقتضي الصحة ولا الفساد.
وقد أورد الطوفي مذهبًا سادسًا، ذكر أنه المختار، وأنه أقرب إلى التحقيق من الإطلاقات الواردة في المسألة خلاصته: أن النهي عن الفعل إما أن يكون لذاته، أو لوصف لازم له، لا ينفك عنه، أو لأمر خارج عنه، لا يتعلق به أصلًا، أو لوصف يتعلق به، لكنه غير لازم له.
فإن كان النهي عنه لذاته، كالكفر والكذب والظلم، دل النهي على الفساد والبطلان.
وكذلك إذا كان لوصف لازم له، كالنهي عن نكاح الكافر المسلمة.
وإن كان لأمر خارج عنه لا يتعلق له به أصلًا، فلا يدل على الفساد، مثل:
النهي عن غرس العنب خشية جعله خمرًا.
وإن كان لوصف غير لازم: مثل النهي عن الصلاة وقت النداء للجمعة ففيه خلاف. قال: "والصحيح من مذهب أحمد أنه لا يصح، لظاهر النهي...".
انظر: شرح الطوفي "2/ 439-441".