روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد
بن حنبل ج / 1 ص -485-
باب: في تقاسيم الكلام والأسماء1
فصل: اختلف في
مبدأ اللغات:
فذهب قوم
إلى أنها توقيفية2؛ لأن الاصطلاح لا يتم إلا بخطاب
ومناداة، ودعوة إلى الوضع، ولا يكون ذلك إلا عن لفظ معلوم
قبل الاجتماع للاصطلاح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لما فرغ المصنف من الكلام على الأحكام الشرعية، والأصول
التي تستقى منها الأحكام، بدأ يتكلم عن كيفية استنباط
الأحكام من هذه الأصول.
قال الطوفي: "واعلم أن الكلام في اللغات هو كالمدخل أو
أصول الفقه من جهة أنه أحد مفردات مادته وهي: الكلام -أي
علم العقيدة- والعربية، وتصّور الأحكام الشرعية.
فأصول الفقه متوقفة على معرفة اللغة؛ لورود الكتاب والسنة
بهما.... اللذين هما: أصول الفقه، وأدلته، فمن لا يعرف
اللغة لا يمكنه استخراج الأحكام من الكتاب والسنة" شرح
المختصر "1/ 468-469".
2 أي: عرفت بالتوقيف من الله -تعالى- بإلهام أو وحي، وهو
مذهب أبي الحسن الأشعري وأتباعه، وابن فورك -من الشافعية-
وابن الحاجب، وأبي الفرج المقدسي الحنبلي، وابن قاضي
الجبل، والظاهرية، وهو الذي رجحه المصنف -كما سيأتي- كما
اختاره الطوفي وغيره من الحنابلة.
قال في المقنع: "وهو الظاهر عندنا". =
ج / 1 ص -486-
وقال
آخرون: هي اصطلاحية1؛ إذ لا يفهم التوقيف ما لم يكن لفظ
صاحب التوقيف معروفًا للمخاطب باصطلاح سابق.
وقال القاضي: يجوز أن تكون توقيفية، ويجوز أن تكون
اصطلاحية ويجوز أن يكون بعضها توقيفية وبعضها اصطلاحية،
وأن يكون بعضها ثبت قياسًا، فإن جميع ذلك متصور في العقل2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= انظر: المحصول "1/ 243" الإبهاج "1/ 196" العدة "1/ 191"
شرح الكوكب المنير "1/ 285 وما بعدها".
1 وهو مذهب أبي هاشم الجبائي وأتباعه من المعتزلة.
2 قال القاضي -بعد أن حكى ما تقدم من الاحتمالات-: "والذي
نختاره: ما ذكرناه أولًا، وهو كلام أبي بكر عبد العزيز من
أصحابنا؛ لأنه فسر قوله تعالى:
{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} بما نذكره فيما بعد، ولم يحمل الآية على عمومها".
ثم قال: "وأما قوله تعالى:
{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}: فذكر أبو بكر في كتاب التفسير فقال: وأولى بالصواب: أسماء ذريته
وأسماء الملائكة، دون سائر أجناس الخلق، قال: وذلك أن الله
-تعالى- قال:
{ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي
بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ}
يعني بذلك: أعيان المسمين؛ إذ لا تكاد العرب تكني بالهاء
والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة، فأما إذا كنّت عن
أسماء البهائم، وسائر الخلق، سوى من وصفها، فإنها تكني
عنها بالهاء والألف، أو بالهاء والنون، فقالت: "عرضهن" أو
"عرضها" وكذلك تفعل إذا كنّت عن أصناف من الخلق والبهائم
والطير، وسائر أصناف الأمم، وفيها أسماء بني آدم
والملائكة، تكني عنها بما وصفنا نحو قوله تعالى:
{وَاللَّهُ
خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي
عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45] فكني عنها بالهاء والميم؛ لأنها أصناف مختلفة فيها
الآدمي. "العدة 1/ 191-192" هذا، وفي المسألة آراء أخرى
كثيرة فقيل: ما يحتاج إليه توقيف، وغيره محتمل أو اصطلاح.
وقيل: عكسه.
وقيل: بالتوقف وعدم الجزم برأي معين. يراجع في هذه
المسألة: المزهر =
ج / 1 ص -487-
أما
التوقيف: فإن الله -سبحانه- قادر على أن يخلق لخلقه العلم
بأن هذه الأسماء قصدت للدلالة على المسميات.
وأما الاصطلاح: فبأن تجتمع دواعي العقلاء للاشتغال بما هو
مهمهم وحاجتهم من تعرف الأمورالغائبة، فيبتدئ واحد، ويتبعه
آخر، حتى يتم الاصطلاح.
أما الواقع منها: فلا مطمع في معرفته يقينًا؛ إذ لم يرد به
نص، ولا مجال للعقل والبرهان في معرفته.
ثم هذا أمر لا يرتبط به تعبّد عملي، ولا يرهق إلى اعتقاده
حاجة، فالخوض فيه فضول، فلا حاجة إلى التطويل.
والأشبه: أنها توقيفية، لقوله تعالى:
{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= للسيوطي "1/ 16"، الخصائص لابن جني "1/ 40 وما بعدها"،
الصاحبي في فقه اللغة لابن فارس ص31 وما بعدها، شرح الكوكب
المنير "1/ 285 وما بعدها"، إرشاد الفحول "1/ 80 وما
بعدها".
1 سورة البقرة من الآية 31.
قال الطوفي: "ووجه دلالته: أنه -سبحانه وتعالى- أخبر أنه
علم آدم الأسماء باللام المستغرقة، وأكدها بلفظ "كل" وذلك
يقتضي أنه وقفه عليها، ثم توارثت ذلك ذريته من بعده
بالتلقي عنه، فلم يحتاجوا إلى اصطلاح آخر".
شرح مختصر الروضة "1/ 474".
وجاء في شرح الكوكب المنير "1/ 285-286": "ورُدَّ قول من
قال: علمه بعضها، أو اصطلاحًا سابقًا: أو علمه حقيقه الشيء
وصفته: بأن الأصل اتحاد العلم، وعدم اصطلاح سابق، وأنه
علمه حقيقة اللفظ، وقد أكده بـ: "كلها".
وفي الصحيحين في حديث الشفاعة:
"... وعلمك أسماء كل شيء"
"أخرجه البخاري: كتاب التفسير، عن أنس -رضي الله عنه-
مرفوعًا، ومسلم: بروايات أخرى قريبة من هذا اللفظ". =
ج / 1 ص -488-
فإن
قيل1:
يحتمل: أنه ألهمه وضع ذلك، ثم نسبه إلى تعليمه؛ لأنه
الهادي إليه.
ويحتمل: أنه كان موضوعًا قبل آدم بوضع خلق آخرين، فعلمه ما
تواضع عليه غيره.
ويحتمل: أنه أراد أسماء السماء والأرض، وما في الجنة
والنار، دون الأسامي التي حدثت مسمياتها.
قلنا:
هذا نوع تأويل يحتاج إلى دليل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وبأنه: يلزم إضافة الشيء إلى نفسه في قوله
{بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} فالتعليم للأسماء، وضمير
{عَرَضَهُمْ}
للمسميات.
ولظاهر قوله تعالى:
{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}
[الأنعام: 38].
ولقوله تعالى:
{عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5].
وقوله تعالى:
{وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم: 22].
وحمله على اللغة أبلغ من حمله على الجارحة، وحمله على
اختلاف اللغات أولى من حمله على الإقدار عليها؛ لعلة
الإضمار".
فهذه كلها أدلة تؤيد رأي الجمهور في أنها توقيفية.
1 هذا اعتراض على دليل التوقيف، خلاصته: أن الآية الكريمة
ليست نصًّا في الموضوع؛ إذ يحتمل: أن الله تعالى ألهم آدم
-عليه السلام- وضع تلك الأسماء لمسمياتها، ثم نسب التعليم
إلى نفسه -سبحانه- لأنه الهادي والمرشد إليه.
كما يحتمل: أنه علمه لغة من كانوا قبله في الأرض، فقد قيل:
إنه كان في الأرض أمم قبل آدم، ولا بد أن يكون لهم لغة
يتحاطبون بها.
ويحتمل: أنه -سبحانه- أوقفه على الأسماء الموجودة حينئذ،
كالسماء والأرض، والملائكة، وما في الجنة والنار، لا ما
حدث من أسماء المسميات =
ج / 1 ص -489-
فصل: [هل تثبت ا لأسماء بالقياس]
قال القاضي يعقوب: يجوز أن تثبت الأسماء قياسًا، كتسمية
النبيذ خمرًا، لعلمنا: أن مسكر العنب إنما سمي خمرًا؛ لأنه
يخامر العقل -أي: يغطيه- وقد وجد هذا المعنى في النبيذ
فيسمى به، حتى يدخل في عموم قوله -عليه السلام-:
"حرمت الخمر لعينها"1. وبه قال بعض الشافعية2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بعد ذلك، فلا يكون التوقيف كليًّا، وبوجود هذه
الاحتمالات لا يحصل المدعي.
وأجاب عنه المصنف: بأن هذه الاحتمالات التي عارضتهم بها
الآية المذكورة تخصيص لظاهر عمومها، وتأويل لا دليل عليه.
انظر: شرح المختصر "1/ 474-475".
كما يرد هذه الاحتمالات ما سبق نقله من شرح الكوكب المنير.
1 أخرجه النسائي: كتاب الأشربة، باب ذكر الأخبار التي اعتل
بها من أباح شراب المسكر، من حديث ابن عباس -رضي الله
عنهما- بلفظ: "حرمت الخمر لعينها قليلها وكثيرها والسكر من
كل شراب" انظر: جامع الأصول "6/ 736".
قال الصنعاني: "وتطلق -أي الخمر- على ما هو أعم من ذلك،
وهو ما أسكر من العصير أو من النبيذ أو من غير ذلك.....
قال صاحب القاموس: "العموم أصح؛ لأنها حرمت وما بالمدينة
خمر عنب، ما كان إلا البسر والتمر".
سبل السلام "4/ 28" والبسر: الغض الطري من ثمر النخل.
2 حرر الطوفي -رحمه الله تعالى- محل الخلاف في هذه المسألة
فقال: "وليس الخلاف في أسماء الأعلام، كزيد وعمرو، ولا في
أسماء الصفات، كعالم وقادر؛ إذ هذا متفق على امتناع القياس
فيه؛ لأن الأعلام ثابتة بوضع الواضع لها باختياره، فليس
لها ضابط، وأسماء الصفات لأجل المعاني الصادرة منها،
والقائمة بها، فليس لأحد أن يقول: زيد إنسان، فأنا أحكم
على كل إنسان بأن =
ج / 1 ص -490-
وقال
أبو الخطاب، وبعض الحنفية، وبعض الشافعية: ليس هذا بمرض؛
فإنا عرفنا أن أهل اللغة خصوا مسكر عصير العنب باسم
"الخمر" فوضعه لغيره اختراع من عندنا، فلا يكون من لغتهم.
وإذا علمنا أنهم وضعوه لكل مسكر: فاسم "الخمر" ثابت للنبيذ
توقيفًا من جهتهم، لا قياسًا.
وإن احتمل الأمرين، فَلِمع نتحكّم عليهم ونقول: لغتكم هذه؟
وقد رأيناهم يضعون الاسم لمعانٍ ويخصصونها بالمحل، كما
يسمون الفرس: أدهم؛ لسواده، وكميتًا1؛ لحمرته، والقارورة
من الزجاج، لأنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= اسمه زيد، ولا أن يقول: عمرو عالم، وهو رجل فأنا أحكم
بأن كل رجل عالم، وإنما النزاع في الأسماء الكلية، أعني:
أسماء الأجناس والأنواع التي وضعت لمعان في مسمياتها تدور
معها وجودًا وعدمًا، كالخمر الذي دار اسمه مع التخمير، هل
يجوز إطلاقه على النبيذ، قياسًا بعلة التخمير والإسكار؟
قال الآمدي: أثبت ذلك القاضي أبو بكر وابن سريج وجماعة من
الفقهاء وأهل العربية. ونفاه أكثر أصحاب الشافعي والحنفية
وجماعة من أهل الأدب، وهذا النقل كالتفصيل لنقل الشيخ أبي
محمد" شرح مختصر الروضة "1/ 476".
وتظهر ثمرة الخلاف في هذه المسألة في: أن من قال بالقياس
اعتبر حكم المسميات الفرعية ثابتًا بالنص لا بالقياس،
فيسمى "النباش" -وهو الذي يسرق أكفان الموتى- سارقًا،
ويقام عليه الحد، كما يسمى "اللائط" زانيًا ويقام عليه
الحد أيضًا. ويكون حكم النبيذ ثابتًا بقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
[المائدة: 90].
ومن قال: إن القياس لا يجري في اللغات: أثبت حكم المسميات
السابقة بالقياس لا بالنص. انظر: شرح العضد على المختصر
"1/ 183" نهاية السول "3/ 41" الإحكام للآمدي "1/ 208".
1 جاء في المصباح المنير "2/ 540": "الكميت من الخيل بين
الأسود والأحمر. =
ج / 1 ص -491-
يقر
فيها المائعات، ولا يتجاوزون بهذه الأسماء محلها، وإن كان
المعنى عامًّا في غيره.
فإذًا: ما ليس على قياس التصريف الذي عرف منهم لا سبيل إلى
إثباته ووضعه1.
قلنا: متى تحققنا أنهم وضعوا الاسم لمعنى استدللنا على
أنهم وضعوه بإزاء كل ما فيه المعنى، كما أنه إذا نُص على
حكم في صورة لمعنى، علمنا: أنه قُصد إثبات الحكم في كل ما
وجد فيه المعنى.
فالقياس: توسيع مجرى الحكم2.
وإذا جاز قياس التصريف، فسموا فاعل الضرب: ضاربًا،
ومفعوله: مضروبًا: فَلَِم لا يجوز فيما نحن فيه؟
وفيما استشهدوا به من الأسماء: وضع الاسم لشيئين: الجنس
والصفة، ومتى كانت العلة ذات وصفين: لم يثبت الحكم
بدونهما3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قال أبو عبيد: ويفرق بين "الكميت" و"الأشقر" بالعرف
والذنب، فإن كانا أحمرين فهو "أشقر" وإن كانا أسودين فهو
"الكميت" وهو تصغير "أَكْمَت" على غير قياس، والاسم
"الكمتة".
1 انظر: التمهيد "3/ 454 ما بعدها".
2 أي: أن القول بالقياس في اللغة يوسع دائرة الحكم، حيث إن
المسميات التي تلحق بالأصل على رأي من يقول بعدم القياس،
تدخل تحت النص مباشرة دون حاجة إلى دليل آخر، كما تقدم
توضيح ذلك في أن "النباش" يقام عليه الحد لأنه سارق.
3 معنى ذلك: أن ما معنا شبيه بالاشتقاق، حيث يوجد في
المشتق خصوص المحل مع المعنى المشتق منه، كما سمي الأسد
"ضيغمًا" مشتقًا من "الضغم" وهو العض الشديد، ولم يسم
الجمل "ضيغمًا" وإن كان العض الشديد موجودًا =
ج / 1 ص -492-
فصل: في تقاسيم الأسماء
وهي أربعة أقسام:
وضعية.
وعرفية.
وشرعية.
ومجاز مطلق1.
أما الوضعية: فهي الحقيقة.
وهو: اللفظ المستعمل في موضوعه الأصلي2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فيه، لأن خصوصية الأسدية مرادة في "الضغم" والبعير ليس
بأسد، فكذلك خصوصية الفرسية موجودة في الأدهم مع السواد،
فالعلة ذات وصفين، فلا يثبت الحكم بأحدهما دون الآخر.
انظر: شرح مختصر الروضة "1/ 480".
1 الوضعية: أي الثابتة بالوضع، وهو: تخصيص الواضع لفظًا
باسم، بحيث إذا أطلق ذلك اللفظ فهم منه ذلك المسمى، كما
إذا أطلق لفظ "الأسد" فهم منه حد الحيوان المفترس.
والعرفية: هي ما ثبتت بالعرف، وهو استطلاح المتخاطبين،
سواء أكان ذلك عرفًا عامًّا أم خاصًّا.
والشرعية: وهي ما ثبتت بوضع الشرع للمعاني الشرعية.
والمجاز: هو استعمال اللفظ في غير ما وضع له. وسيأتي
الكلام عليه.
وتقسيم المصنف للاسم إلى حقيقة ومجاز، إنما كان بسبب كثرة
ذلك في الأسماء، وإلا فهذا التقسيم يجري في الأفعال
والحروف أيضًا، انظر: شرح المختصر "1/ 484".
2 الحقيقة -على وزن فعيلة- مأخوذة من الحق، وهو الثابت،
لأن نقيضه الباطل، =
ج / 1 ص -493-
وأما
العرفية:
فإن الاسم يصير عرفيًّا باعتبارين:
أحدهما: أن يخصص عرف الاستعمال من أهل اللغة الاسم ببعض
مسمياته الوضعية1.
كتخصيص الدابة بذوات الأربع، مع أن الوضع لكل ما يدب.
الاعتبار الثاني: أن يصير الاسم شائعًا في غير ما وضع له
أولًا، بل هو مجاز فيه، كالغائط، والعذرة، والراوية2.
وحقيقة الغائط: المطمئن من الأرض، والعذرة: فناء الدار،
والراوية: الجمل الذي يستقى عليه.
فصار أصل الوضع منسيًّا، والمجاز معروفًا، سابقًا إلى
الفهم، إلا أنه ثبت بعرف الاستعمال، لا بالوضع الأول3.
وأما الشرعية:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وسمي اللفظ المستعمل في معناه الأصلي حقيقة؛ لأنه لم
ينقل عنه إلى غيره.
وقول المصنف "هو اللفظ المستعمل في موضوعه الأصلي" ليخرج
المجاز؛ لأنه مستعمل في غير ما وضع له أولًا.
1 فهذه تسمى حقيقة لغوية.
2 المراد بالراوية: الوعاء الذي يوضع فيه الماء.
3 وتسمى بالحقيقة العرفية العامة، وهناك حقيقة عرفية، وهي
التي يطلق عليها: الاصطلاحية، وهي: ما خصته كل طائفة من
الأسماء بشيء من مصطلحاتهم: كمبتدأ وخبر، وفاعل ومفعول،
ونعت وتوكيد، في اصطلاح النحاة ونقض وكسر وقلب في اصطلاح
الأصوليين وغير ذلك مما اصطلح عليه أرباب كل فن. انظر: شرح
الكوكب المنير "1/ 150".
ج / 1 ص -494-
فهي
الأسماء المنقولة من اللغة إلى الشرع، كالصلاة، والصيام
والزكاة والحج1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وضح الطوفي -رحمه الله تعالى- هذه المسألة، وحرر محل
النزاع فقال:
"اعلم أن هذه المسألة تعرف بمسألة الحقيقة، أو الحقائق
الشرعية. وتلخيص محل النزاع فيها يحتاج إلى كشف؛ فإن أكثر
الفقهاء يتسلّمه تقليدًا، ولو سئل عن تحقيقه لم يفصح به.
فنقول: أما إمكان وضع الشارع ألفاظًا من ألفاظ اللغة أو
غيرها على المعاني الشرعية تعرف بها، فلا خلاف فيه، أعني:
الإمكان؛ إذا لا يلزم من تقدير وقوعه محل لذاته، وإنما
النزاع في أن هذه الألفاظ التي استفيدت منها المعاني
الشرعية: هل خرج بها الشارع عن وضع أهل اللغة باستعمالها
في غير موضوعهم؟
مثاله: أن الصلاة في اللغة: الدعاء، والزكاة: الطهارة أو
النماء، والحج: القصد. وفي الشرع: الصلاة والحج: أفعال
مخصوصة ذات شروط وأركان.
والزكاة: إخراج جزء مقدّر من مقدار خاص ونوع خاص من المال،
إلى قوم مخصوصين على وجه القربة.
فهل خرج الشارع باستعمال هذه الألفاظ في هذه المعاني عن
وضع اللغة؟
بمعنى: أنه أعرض فيها عن الموضوع اللغوي، فلم يلاحظه
أصلًا، بل خطف -مثلًا- لفظ الصلاة فوضعه على الافعال
المعروفة شرعًا، وأعرض عن الموضوع اللغوي الذي هو الدعاء،
وهذا معنى قولنا: ما نقله الشرع، أي: معرضًا عن موضوعه في
اللغة. أم لم يخرج بذلك عن موضوعهم، بل لاحظ في كل لفظ
موضوعه اللغوي، لكنه زاد فيه شروطًا شرعية؟
مثلًا: إن موضوع الصلاة لغة -وهو الدعاء- مراد للشرع،
وملاحظ في نظره، لكنه ضم إليه اشتراط الوضوء، والوقت،
والسترة، والاستقبال، والنية، والتحريمة، والركوع،
والسجود، والطمأنية، والتشهد، والتسليم. وهذا معنى قولنا:
وقيل: لا، شرعية، أي: مستقلة مع الإعراض عن اللغة، بل
اللغوية باقية، وزيدت شروطًا. فهذا تلخيص محل النزاع في
المسألة.
وعلى القول الأول: تكون الألفاظ الواردة، كالصلاة،
والزكاة، والحج =
ج / 1 ص -495-
وقال
قوم: لم ينقل شيء، بل الاسم باق على ما هو عليه في اللغة،
لكن اشترط للصحة شروط، فالركوع أو السجود شرط للصلاة، لا
من نفس الصلاة بدليل أمرين:
أحدهما: أن القرآن عربي، والنبي -صلى الله عليه وسلم-
مبعوث بلسان قومه1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ونحوها، بالنسبة إلى الشرع واللغة: من باب المشترك،
كالعين والقرء، لأن المدلول مختلف مطلقًا بأصل الوضع.
وعلى القول الثاني: يكون من باب المتواطئ، كالحيوان، إذ
بين الصلاة لغة وشرعًا قدر مشترك، وهو الدعاء، كما أن بين
أنواع جنس الحيوان، كالفرس، والبعير، والشاة، ونحوها قدرًا
مشركًا، وهو الحيوانية.
وإذا عرفت ذلك، فالقول الأول -وهو إثبات الحقيقة الشرعية-
هو مذهب الفقهاء، والخوارج، والمعتزلة، ثم قالت المعتزلة:
هذه الأسماء الواردة في الشرع: إما جارية على الأفعال،
كالصلاة، والزكاة، والصوم، ونحوها، فهي شرعية، أو جارية
على الفاعلين، كالمؤمن، والفاسق، والكافر، فهي دينية،
تفرقة بين القسمين، وإن استويا في أن الجميع عرف شرعي.
ويلزم عليه أن يسموا المصلي والصائم والمزكي أسماء دينية؛
لجريانها على الفاعل، والإيمان والفسق والكفر أسماء شرعية،
لجريانها على الفاعل.
والصواب في ذلك أن يقال: إنها عملي، وهي الشرعية، أو
اعتقادي، وهي الدينية.... وهذه القسمة وإن لم تخل عما يقال
فيها، فهي أولى وأطرد من الأولى.
والقول الثاني: -وهو نفي الحقيقة الشرعية- هو قول القاضي
أبي بكر الطيب" شرح مختصر الروضة "1/ 490-492".
1 هذا هو الدليل الأول للقائلين بأنها لغوية، خلاصته، أنها
لو لم تكن عربية، بل ابتدأ الشارع وضعها لهذه المعاني
لكانت غير عربية، فلا يكون القرآن عربيًّا، لكن القرآن
عربي، وكذلك لو قال القائل: "أكرموا العلماء" وأراد
بالعلماء الفقراء لم يكن هذا من لسان العرب، وإن كان
المنقول إليه عربيًّا، لأن العرب لم تضع لفظ الفقير
للعالم.
ج / 1 ص -496-
ولو
قال: "أكرموا العلماء" وأراد الفقراء: لم يكن هذا بلسانهم،
وإن كان اللفظ المنقول إليه عربيًّا.
والثاني: أنه لو فعل ذلك: للزمه تعريف الأمة ذلك
بالتوقيف1.
وهذا ليس بصحيح2؛ فإن ما تصوره الشرع من العبادات ينبغي أن
يكون لها أسام معروفة، لا يوجد ذلك في اللغة إلا بنوع
تصرف، إما النقل، وإما التخصيص. وإنكار أن الركوع والسجود
والقيام والقعود الذي هو ركن الصلاة منها: بعيد حدًّا3.
وتسليم أن الشرع يتصرف في ألفاظ اللغة بالنقل تارة،
والتخصيص أخرى -على مثال تصرف أهل العرف- أسهل وأولى مما
ذكروه؛ إذ للشرع عرف في الاستعمال كما للعرب.
وقد سمى الله -تعالى- الصلاة إيمانًا بقوله -تعالى-:
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}4.
وهذا لا يخرج هذه الأسامي عن أن تكون عربية -كما قلنا في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا هو الدليل الثاني لهم. خلاصته: أن الشارع لو وضع
للمعاني الشرعية أسماء، لوجب أن تعرف الأمة ذلك بطريق
التوقيف علي هذه المعاني، أما وأنه لم يعرّفهم ذلك فلا
يكون الشرع قد وضع للمعاني الشرعية أسماء وضعًا مستقلًّا.
2 هذا رد على الدليلين السابقين.
3 ومع بعده، فإنه مخالف لما قاله العلماء في الفرق بين
الشرط والركن. فالركن: ما يتوقف عليه وجود الشيء، وكان
جزءًا من حقيقته، كالركوع والسجود، أما الشرط: فهو ما
يتوقف عليه وجود الشيء وكان خارجًا عن حقيقته، كالوضوء
فإنه شرط لصحة الصلاة، لكنه ليس داخلًا في حقيقتها، بل هو
خارج عنها.
4 سورة البقرة من الآية: 143.
ج / 1 ص -497-
تصرف
أهل اللغة- ولا تسلب الاسم العربي عن القرآن، كما لو اشتمل
على مثلها من الكلمات الأعجمية على ما مضى1.
وقوله: "كان يجب التوقيف على تصرفه" فهذا إنما يجب إذا لم
يعلم مقصوده بالقرائن، والتكرير مرة بعد أخرى، فإذا فهم
حصل الغرض2.
[إذا أطلق اللفظ حمل على المعنى الشرعي]
وعند إطلاق هذه الألفاظ في لسان الشرع، وكلام الفقهاء، يجب
حمله على الحقيقة الشرعية، دون اللغوية، ولا يكون مجملًا،
لأن غالب عادة الشارع استعمال هذه الأسامي على عرف الشرع
لسائر الأحكام الشرعية.
وحكي عن القاضي: أنه يكون مجملًا، وهو قول بعض الشافعية،
والأولى: ما قلناه3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في موضوع: هل في القرآن ألفاظ غير عربية.
2 ومعناه: أنه يلزم تعريف الأمة بهذه الألفاظ لو لم توجد
وسائل أخرى، فهناك طرق أخرى للتعريف، كتكرير استعمال الشرع
لتلك الألفاظ في تلك المعاني مرة بعد أخرى، وكذلك وجود
القرائن الدالة على المعنى، وهو كاف.
3 خلاصة ذلك: أن الشارع إن صدرت عنه، أو عن الفقهاء من
مؤلفاتهم ألفاظ من هذا القبيل، هل تحمل على المعنى الشرعي
أو اللغوي؟
ولا بد من تحديد محل النزاع، وهو: أنه إن علم بنص أو قرينة
أن المراد المعنى اللغوي، أو الشرعي، فلا خلاف في حمله على
ما دل عليه النص أو القرينة.
أما إن كان مطلقًا، ولم يوجد ما يدل على معنى معين: فجمهور
العلماء على حمله على المعنى الشرعي، لأن الشأن في الشارع
أنه يريد بيان الأحكام الشرعية، فلا بد من حملها على هذه
المعاني. =
ج / 1 ص -498-
.....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وحكي عن القاضي أبي يعلى، وبعض الشافعية أنها تكون
مجملة، لترددها بين المعنى اللغوي والشرعي.
قال المصنف: "والأولى: ما قلناه" لأن الأصل في الخطاب
الشرعي بيان الأحكام الشرعية.
ومن أمثلة ذلك: ما أخرجه مسلم "1431" وأبو داود "2461"
والترمذي "780" أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا
دعي إلى طعام فليجب، فإن كان مفطرًا فليطعم، وإن كان
صائمًا فليصل".
حمل بعضهم الصلاة على الصلاة الشرعية، أي: يتشاغل بالصلاة،
تنبيهًا لهم على أنه صائم، لئلا يحتاج إلى تعريفهم ذلك
خطابًا، وفيه ما فيه من الرياء.
وحمله بعض العلماء على معناه اللغوي: وهو: أن يدعو لهم ولا
يأكل.
وكذلك ما أخرجه مسلم "352" وأبو داود "194" والترمذي "79"
والنسائي "1/ 105" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي
-صلى الله عليه وسلم- قال: "توضئوا مما مست النار".
ومثله: ما أخرجه مسلم -أيضًا- "360" وأبو داود "184"
والترمذي "81" وأحمد في المسند "4/ 288" أنه -صلى الله
عليه وسلم- قال:
"توضئوا من لحوم الجزور".
حمل بعض العلماء الوضوء في الحديثين على الوضوء الشرعي،
وحمله بعضهم على المعنى اللغوي، وهو غسل اليدين.
انظر: المصباح المنير "2/ 663" شرح مختصر الروضة "1/ 502".
ج / 1 ص -499-
[المجاز وعلاقاته]
وأما المجاز: فهو اللفظ المستعمل في غير موضوعه على وجه
يصح.
ثم إنه إنما يصح بأمور:
أحدها: اشتراكهما1 في المعنى المشهور في محل الحقيقة،
كاستعارة لفظ "الأسد" في الرجل الشجاع؛ لاشتهار الشجاعة في
الأسد الحقيقي.
ولا تصح استعارة "الأسد" في الرجل الأبخر، وإن كان البخر
موجودًا في محل الحقيقة؛ لكونه غير مشهور به.
والثاني: بسبب المجاورة غالبًا، كتسمية المزادة2: راوية،
باسم الجمل الحامل لها؛ لتجاورهما في الأعم الأغلب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي الحقيقة والمجاز. ومعنى ذلك: أنه يشترط وجود علاقة
-بكسر العين- بين الحقيقة والمجاز، وهي: ما ينتقل الذهن
بواسطتها عن محل المجاز إلى الحقيقة، كالشجاعة التي ينتقل
الذهن بواسطتها عن الرجل الشجاع إلى السبع المفترس، إذ
لولا هذه العلاقة لما صح التجوز.
وقد أورد المصنف أربعة أنواع من العلاقات أولها: المشابهة
بن الحقيقة والمجاز، واشترط لهذا النوع أن تكون هذه الصفة
مشهورة وظاهرة يسرع الفهم إليها عند الإطلاق، حرصًا على
سرعة التفاهم، كما في استعارة "الأسد" للرجل الشجاع؛ لأن
الشجاعة صفة ظاهر في هذا الحيوان، بخلاف ما إذا كانت خفية
كالبخر، وهو: الريح المنتنة؛ فإنها وإن كانت موجودة في
الأسد، إلا أنها خفية، لا يكاد يعلمها إلا القليل من
الناس، ولذلك لا تطلق على الإنسان الأبخر، لعدم شهرة ذلك.
2 المزادة: وعاء الماء.
ج / 1 ص -500-
وتسمية
المرأة "ظعينة"1 باسم الجمل الذي تظعن عليه؛ للزومها إياه.
وكذلك تسمية الفضلة المستقذرة: غائطًا وعذرة2.
الثالث: إطلاقهم اسم الشيء على ما يتصل به، كقولهم "الخمر
محرمة" والمحرم: شربها، "والزوجة محلّلة" والمحلل: وطؤها.
وكإطلاقهم السبب على المسبب وبالعكس3.
الرابع: حذفهم المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، كقوله
تعالى:
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}4،
{وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ}5
أي: حب العجل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الظعينة في الأصل: وصف للمرأة في هودجها، ثم سميت بذلك
وإن كانت في بيتها بسبب كثرة مجاورتها أثناء السفر.
2 أصل كلمة "الغائط" المكان المنخفض من الأرض. والعذرة في
الأصل: فناء الدار، فأطلق لفظ "الفضلة المستقذرة" عليه
لأنهم كانوا يلقونها فيه، فهو مجاز بسبب المجاورة، كما
يطلق عليه: تسمية الظروف باسم المظروف.
3 معناه: أن من العلاقات، أو من أقسام التجوّز: إطلاق اسم
الشيء على ما يتصل به بأي نوع من أنواع الاتصال، وتحته
ثلاثة أنواع:
النوع الأول: إطلاق اسم الشيء على ما أعد له، كما في
قولهم: "الخمرة محرمة" و"الزوجة محللة" كما قال المصنف.
النوع الثاني: إطلاق السبب على المسبب، وتحته أربعة أقسام:
- سبب قابلي: مثل سال الوادي، والأصل: سال الماء في
الوادي.
- سبب فاعلي: مثل: نزل السحاب، أي: المطر.
- سبب صوري: مثل: إطلاق اليد على القدرة.
- سبب غائي: مثل: تسمية العصير خمرًا.
النوع الثالث: إطلاق المسبب على السبب، مثل: إطلاق "الموت"
على المرض الشديد.
4 سورة يوسف من الآية: 82. والتقدير: واسأل أهل القرية.
5 سورة البقرة من الآية: 93. =
ج / 1 ص -501-
[المجاز يستلزم الحقيقة دون العكس]
وكل مجاز له حقيقة في شيء أخر، إذ هو عبارة عن [اللفظ]
المستعمل في غير موضوعه، فلا بد أن يكون له موضوع1.
ولا يلزم أن يكون لكل حقيقة مجاز؛ إذ كون الشيء له موضوع
لا يلزم أن يستعمل فيما عداه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= هذا، وعلاقات المجاز كثيرة تكلفت بها كتب البلاغة، ذكر
الطوفي منها ما يزيد على عشرين نوعًا. انظر: شرح المختصر
"1/ 506 وما بعدها".
1 ذهب بعض العلماء إلى أن المجاز لا يستلزم الحقيقة، إذ إن
اللفظ قبل استعماله فيما وضع له أولًا، لا يوصف بالحقيقة،
فلا مانع من أن يتجوز في اللفظ قبل استمعاله فيما وضع له
أولًا.
وأجاب عنه جمهور العلماء: بأن المجاز فرع عن الحقيقة،
والحقيقة أصل، ومتى وجد الفرع وجد الأصل، بخلاف العكس،
فإنه قد يوجد الأصل ولا يوجد الفرع.
هذا معنى قول المصنف: "ولا يلزمك أن يكون لكل حقيقة مجاز".
انظر: المحلى على جمع الجوامع وحاشية البناني "1/ 306 وما
بعدها" شرح الكوكب المنير "1/ 189".
فصل: [في تعارض الحقيقة والمجاز]
متى دار
اللفظ بين الحقيقة والمجاز: فهو للحقيقة1، ولا يكون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسألة تعارض الحقيقة والمجاز تنقسم إلى أربعة أقسام:
الأول: أن يكون المجاز مرجوحًا، لا يفهم إلا بقرينة،
كالأسد للرجل الشجاع، وفي هذا القسم تقدم الحقيقة
لرجحانها، لأنها الأصل.
الثاني: أن يغلب استعماله حتى يتساوى مع الحقيقة، فتقدم
الحقيقة أيضًا، لعدم رجحان المجاز. مثل كلمة "النكاح"
فإنها تطلق على العقد والوطء إطلاقًا متساويًا، مع أنها
حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر.
الثالث: أن يكون المجاز راجحًا، والحقيقة مماتة لا تراد في
العرف، فيقدم =
ج / 1 ص -502-
مجملًا، إلا أن يدل دليل على أنه أريد به المجاز1؛ إذ لو
جعلنا كل لفظ أمكن التجوز فيه مجملًا: لتعذرت الاستفادة في
أكثر الألفاظ، واختل مقصود الوضع، وهو التفاهم2.
ولأن واضع الاسم لمعنًى إنما وضعه ليكتفي به فيه، فكأنه
قال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المجاز؛ لأنه إما حقيقة شرعية، كالصلاة، أو عرفية
كالدابة، فلا خلاف في تقديم المجاز على الحقيقة اللغوية.
مثال ذلك: لو حلف: لا يأكل من هذه النخلة، فأكل من ثمرها،
فإنه يحنث وإن أكل من خشبها لم يحنث، وإن كان الخشب هو
الحقيقة؛ لأن الحقيقة هنا مهجورة.
الرابع: أن يكون المجاز راجحًا والحقيقة تتعاهد في بعض
الأوقات.
مثال ذلك: لو حلف ليشربن من هذا النهر، فهو حقيقة في الكرع
منه بفيه، ولو اغترف بكوز وشرب فهو مجاز؛ لأنه شرب من
الكوز لا من النهر، لكنه مجاز راجح يتبادر إلى الفهم،
فيكون أولى من الحقيقة. وهذا القسم هو محل الخلاف.
انظر: القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام ص104، 105
شرح الكوكب المنير "1/ 195 وما بعدها".
1 وذهب بعض العلماء، كالإمام الرازي وأتباعه إلى أنه إذا
تعارضت الحقيقة والمجاز الراجح، كان اللفظ مجملًا، ويحتاج
إلى البيان.
وذهب أبو يوسف والقرافي وابن حمدان وابن قاضي الجبل إلى أن
المجاز الراجح أولى من الحقيقة المرجوحة.
وذهب أبو حنيفة وابن الحاجب وابن مفلح إلى أن الحقيقة أولى
من المجاز، ما لم تهجر.
وقال الأصفهاني: محل ذلك إن منع حمل الكلام على الحقيقة
والمجاز معًا. وقال ابن الرفعة: محله في إثبات وفي نفي
يعمل بالمجاز قطعًا.
انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص104 وما بعدها، شرح
الكوكب المنير "1/ 195".
2 لأن الحكمة من وضع الألفاظ: إنما هي إفهام معانيها
ودلالتها عليه، فلو جعلت =
ج / 1 ص -503-
"متى ما سمعتم هذه اللفظة: فافهموا ذلك المعنى" فيجب حمله
عليه.
إلا أن يغلب المجاز بالعرف، كالأسماء العرفية، فتصير
-حينئذ- الحقيقة كالمتروكة؛ فإنه لو قال: "رأيت غائطا أو
راوية" لم نفهم منه الحقيقة، فيصير الحكم للعرف ولا يصرف
إلى الحقيقة، ولا يصرف إلى حقيقة إلا بدليل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مترددة بين حقائقها ومجازاتها لكانت مجملة، والمجمل شأنه
أن يبقى معطلًا موقوفًا على ما يبينه.
فصل: [في علامات الحقيقة والمجاز]
ويستدل على معرفة الحقيقة من المجاز بشيئين:
أحدهما: أن يكون أحد المعنيين يسبق إلى الفهم من غير
قرينة، والآخر لا يفهم إلا بقرينة، فيكون حقيقة فيما يفهم
منه مطلقًا.
أو يكون أحد المعنيين يستعمل فيه اللفظ مطلقًا، والمعنى
الآخر لا يقتصر فيه على مجرد لفظه، فيكون حقيقة فيما يقتصر
فيه على مجرد اللفظ1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معنى ذلك: أن مبادرة الذهن إلى فهم المعنى من اللفظ بلا
قرينة يدل على أنه حقيقة.
وبيانه: أن اللفظ المحتمل لمعنيين فأكثر، إما أن يتبادر
فهمُ أهل اللغة عند إطلاقه بلا قرينة إلى جميع محتملاته،
أو إلى بعضها، والأول هو المشترك، كلفظ العين والقرء.
وأما الثاني: فالمتبادر إلى الفهم هو الحقيقة لأن السامع
لو لم يضطر إلى أن الواضع وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى
المتبادر، لما سبق إلى فهمه.
وقول المصنف: "بلا قرينة" احتراز من مبادرة فهم اللفظ
بقرينة، فإن هذا هو المجاز -كما تقدم-. =
ج / 1 ص -504-
الثاني: أن يصح الاشتقاق من أحد اللفظين، كالأمر في الكلام
حقيقة، لأنه يصح منه: "أمر، يأمر، أمرًا" وليس بحقيقة في
الشأن نحو قوله تعالى:
{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}1؛ لأنه لا يقال منه: "أمر، يأمر، أمرًا"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فلو قال قائل: رأيت أسدًا، أو بحرًا، ولا قرينة حمل على
المعنى الحقيقي، وهو: الحيوان المعروف، والماء الكثير.
أما لو قال: رأيت أسدًا بيده سيف، أو بحرًا على فرس، عرفنا
بهذه القرائن: أن المتكلم أراد الرجل الشجاع أو الكريم.
من هذا القسم -أيضًا- ما إذا كان اللفظ يستعمل مطلقًا من
غير قيد ولا قرينة، كما يستعمل مقرونًا بقرينة ما، فإن
حمله على إطلاقه هو الأصل، فيكون ذلك علامة على أنه حقيقة.
1 سورة هود من الآية: 97.
2 وضح الشيخ الطوفي هذا الفرق فقال: "الوجه الثاني: أن
يكون أحد اللفظين يصح فيه الاشتقاق والتصريف إلى الماضي
والمستقبل، واسم الفاعل والمفعول، واللفظ الآخر لا يصح فيه
ذلك فيكون، الأول حقيقة، والثاني مجازًا؛ لأن تصرف اللفظ
يدل على قوته وأصالته، وعدم تصرفه يدل على ضعفه وفرعيته.
وقد بينا أن الأصل هو الحقيقة، والمجاز فرع عليه، فكان
التصريف دليلًا على الحقيقة دون المجاز، وذلك كلفظ "الأمر"
يطلق على الصيغة الطلبية، نحو: اضرب، واجلس، ويطلق على
الشأن والفعل، نحو قوله تعالى:
{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي: شأنه وفعله، فلما وجدناهم يصرفون الأمر اللفظي فيقولون: "أمر
يأمر، أمرًا، فهو آمر، ومأمور" ولا يقولون ذلك في الأمر
بمعنى الفعل، دل ذلك على أن الأول حقيقة، والثاني مجاز"
شرح المختصر "1/ 518".
وقد ذكر -رحمه الله تعالى- وجهًا ثالثًا للفرق بين الحقيقة
والمجاز، وهو: أن يكون أحد اللفظين يستعمل وحده من غير
مقابل، والآخر لا يستعمل إلا في المقابلة..... ومثل له
بأمثلة كثيرة، منها: "النسيان" فإنه يطلق على المخلوق =
ج / 1 ص -505-
فصل: [في تعريف الكلام وأقسامه]
الكلام: هو الأصوات المسموعة، والحروف المؤلفة1.
وهو ينقسم إلى مفيد وغير مفيد.
وأهل العربية يخصون الكلام بما كان مفيدًا، وهو: الجملة
المركبة من مبتدأ وخبر، أو فعل وفاعل، أو حرف نداء واسم.
وما عداه: إن كان لفظة واحدة: فهي كلمة وقول.
وإن كثر فهو كلم وقول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بدون مقابل، نحو قوله تعالى:
{فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}
[طه: 115].
وفي حق فتى موسى -عليه السلام-:
{وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} [الكهف: 63]. ولا يطلق على الله -سبحانه وتعالى- إلا مع المقابل،
كقوله -سبحانه وتعالى-:
{نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ}
[التوبة: 67]،
{... وَقِيلَ
الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ
هَذَا} [الجاثية: 34].
ثم قال: "وللفرق بين الحقيقة والمجاز علامات غير هذه، هذا
الذي اتفق ذكره منها ههنا" المصدر السابق "1/ 519-521".
1 بدأ المصنف يذكر بعض الموضوعات المتعلقة باللغة، فعرف
الكلام بأنه: الأصوات إلخ.
والصوت عبارة عن عرض مسموع يحصل عن اصطكاك الأجرام، بسبب
انضغاط الهواء بين المجرمين، فيتموج تموجًا شديدًا، فيخرج
فيقرع صماخ الأذن، فتدركه قوة السمع، ولهذا تختلف الأصوات
في الظهور والخفاء، تبعًا لاختلاف الأجسام المتصاككة في
الصلابة والرخاوة.
وصوت المتكلم عرض -أيضًا- حاصل على اصطكاك أجرام الفم، وهي
مخارج الحروف، ودفع الهواء حتى يصل إلى أذان السامع.
وقول المصنف -في تعريف الكلام-: "الأصوات المسموعة" ليخرج
ما عدا =
ج / 1 ص -506-
والعرف: ما قلناه1، مع أنه لا مشاحة في الاصطلاح.
والكلام المفيد ينقسم ثلاثة أقسام:
نص.
وظاهر.
ومجمل2.
القسم الأول- النص3:
وهو: ما يفيد بنفسه من غير احتمال، كقوله تعالى:
{تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= العرَض الذي يدرك بالسمع، وهو الصوت. انظر: همع الهوامع
"1/ 33" شرح مختصر الروضة "1/ 538 وما بعدها".
1 أي: أن الكلام هو الأصوات المسموعة والحروف المؤلفة، وأن
المسألة مسألة اصطلاح فقط، ولا مشاحة في ذلك.
2 وجه الحصر فلي الأنواع الثلاثة: أن اللفظ إما أن يحتمل
معنى واحدًا، أو أكثر من معنى. فالأول: النص، والثاني -وهو
ما يحتمل أكثلر من معنى- إما أن يترجح في أحد معنييه أو
معانيه، أو لا يترجح، فإن ترجح فهو الظاهر، وإلا فهو
المجمل. انظر: شرح المختصر "1/ 553".
3 النص قد يرد في مقابلة الأدلة العقلية التي تندرج تحت
اسم الاجتهاد، ولذلك يقال: لا اجتهاد مع النص. وهذا يشمل
جميع النصوص الشرعية من الكتاب أو السنة، سواء أكانت قطعية
أم ظنية. وقد يرد في مقابلة الظاهر والمجمل.
والنص هنا له تعريفات كثيرة، أورد المصنف بعضها.
عرفه المجد بن تيمية بأنه: "ما أفاد الحكم يقينًا
أوظاهرًا، وهو منقول عن أحمد والشافعي -رضي الله عنهما-"
المسودة ص574.
وقال القرافي: "للنص ثلاثة اصطلاحات: أحدها: ما لا يحتمل
التأويل، والثاني: ما احتمله احتمالًا مرجوحًا كالظاهر،
وهو الغالب في إطلاق الفقهاء، والثالث: ما دل على معنى كيف
ما كان" "شرح تنقيح الفصول ص36 وما بعدها".
4 سورة البقرة من الآية: 196.
ج / 1 ص -507-
وقيل:
هو الصريح في معناه.
وحكمه: أن يصار إليه ولا يعدل عنه إلا بنسخ.
وقد يطلق اسم النص على الظاهر1.
ولا مانع منه؛ فإن النص في اللغة بمعنى الظهور، كقولهم:
"نصت الظبية رأسها" إذا رفعته وأظهرته.
قال امرؤ القيس2:
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش
إذا هي نصته ولا بمعطل
ومنه سميت منصة العروس
للكرسي الذي تجلس عليه لظهورها عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو ما يراه الإمام الشافعي -رضي الله عنه- وتبعه على
ذلك بعض العلماء، كالقاضي أبي بكر الباقلاني.
قال إمام الحرمين: "أما الشافعي فإنه يسمي الظواهر نصوصًا
في مجاري كلامه، وكذلك القاضي، وهو صحيح في وضع الللغة؛
فإن النص معناه الظهور" البرهان "1/ 415-416".
2 هو: امرؤ القيس بن حجر بن عمرو الكندي، الشاعر الجاهلي
المشهور، روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال فيه:
"هو قائد الشعراء إلى النار". توفي سنة "545م".
انظر في ترجمته: الشعر والشعراء "1/ 52 وما بعدها"، المزهر
للسيوطي "2/ 443".
3 البيت من معلقته المشهورة، انظر: شرح المعلقات السبع
لأبي عبد الله الزوزني، تحقيق الشيخ محمد محيى الدين عبد
الحميد ص38.
والجيد: العنق. والريم: الظبي الأبيض الخالص البياض.
ونصته: أي رفعته، والمعطل: العنق الذي ليس عليه حلي.
ج / 1 ص -508-
إلا أن
الأقرب تحديد النص بما ذكرناه أولًا1؛ دفعًا للترادف
والاشتراك عن الألفاظ، فإنه على خلاف الأصل.
وقد يطلق النص على: ما لا يتطرق إليه احتمال لا يعضده
دليل2.
فإن تطرق إليه احتمال لا دليل عليه: فلا يخرجه عن كونه
نصًّا.
القسم الثاني- الظاهر:
وهو: ما يسبق إلى الفهم منه عند الإطلاق معنى، مع تجويز
غيره.
وإن شئت قلت: ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر.
فحكمه: أن يصار إلى معناه الظاهر، ولا يجوز تركه إلا
بتأويل.
والتأويل: صرف اللفظ عن الاحتمال الظاهر إلى احتمال مرجوح
به لاعتضاده بدليل يصير به، أغلب على الظن من المعنى الذي
دل عليه الظاهر.
إلا أن الاحتمال يقرب تارة ويبعد أخرى:
وقد يكون الاحتمال بعيدا جدًّا فيحتاج إلى دليل في غاية
القوة.
وقد يكون قريبًا فيكفيه أدنى دليل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو قوله: "النص: وهو ما يفيد بنفسه من غير احتمال".
2 هذا احتراز مما لو تطرق إليه احتمال أن المراد من المسح
الوارد في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} الغسل،
فإنه احتمال لا دليل عليه.
وقول الفقهاء: هل غسل الرأس يجزئ عن المسح أو لا، ليس
مبنيًّا على هذا الاحتمال، بل على أمر آخر: هو هل مسح
الرأس أمر تعبدي، أو تخفيف لمشقة غسله غالبًا؟ انظر: شرح
مختصر الروضة "1/ 556".
ج / 1 ص -509-
وقد
يتوسط بين الدرجتين، فيحتاج دليلًا متوسطًا.
والدليل1 يكون قرينة.
أو ظاهرًا آخر.
ومهما تساوى الاحتمال وجب المصير إلى الترجيح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الدليل الذي يتقوى به الظاهر والاحتمال تارة يكون
بعيدًا، فيحتاج إلى دليل قوي يعضد ضعف الظاهر، وتارة يكون
قريبًا فيحتاج إلى أدنى دليل، وتارة يكون متوسطًا فيحتاج
إلى دليل متوسط وهكذا.
وهذا الدليل قد يكون قرينة من القرائن مثل ما روي عن أحمد
-رحمه الله تعالى- أنه قال: "كلمت الشافعي في أن الواهب
ليس له الرجوع فيها وهب؛ لقوله -عليه الصلاة والسلام-:
"العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" فقال الشافعي -وهو
يرى أن له الرجوع-: ليس بمحرم على الكلب أن يعود في قيئه.
قال أحمد: فقلت له: فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
"ليس لنا مثل السوء" فسكت.
يعني الشافعي.
فالشافعي تمسك بالظاهر، وهو أن الكلب لما لم يحرم عليه
الرجوع في قيئه، فالظاهر أن الواهب إذا رجع مثله في عدم
التحريم؛ لأن الظاهر من التشبيه: استواء المشبه والمشبه به
من كل وجه، مع احتمال أن يفترقا من بعض الوجوه احتمالًا
قويًّا جدًّا، فضعف -حيئذ- جانب أحمد في الاستدلال جدًّا؛
لأنه لم يبق معه إلا احتمال ضعيف جدًا فقواه بالقرينة
المذكورة، وهي قوله -صلى الله عليه وسلم- في صدر الحديث
المذكور: "ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يعود
في قيئه" وهي دليل قوي، حيث إن الشرع اعتبر الرجوع في
الهبة "مثل سوء" وقد نفاه صاحب الشرع، وما نفاه صاحب الشرع
يحرم إثباته، فلزم من ذلك: أن جواز الرجوع في الهبة يحرم
إثباته، فيجب نفيه.
هذا مثال للقرينة.
ومثال تقويته بظاهر آخر: قوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} =
ج / 1 ص -510-
................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= [المائدة: 3] ظاهر في تحريم جلدها، دبع أو لم يدبغ، مع
احتمال أن الجلد غير مراد بالعموم احتمالًا مترددًا، من
جهة أن إضافة التحريم تحمل على الأكل، والجلد غير مأكول،
فيقتضي عدم تناول الجلد، ومن جهة أن عموم اللفظ قوي،
متناول لجميع أجزائها، يقتضي تناول الجلد، فإذا نظرنا إلى
قوله -عليه الصلاة والسلام-:
"أيما إهاب دبغ فقد طهر" وجدناه عامًّا يتناول إهاب الميتة، فكان هذا الظاهر مقويًا لاحتمال
عدم إرادة جلد الميتة في الآية الكريمة.
وإذا جازت التقوية بالظاهر -كما تقدم- فإنها تكون بالنص
أقوى وأقوى.
ومن أمثلة ذلك: قوله -عليه الصلاة والسلام- في شاة ميمونة:
"ألا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟" فقالوا: إنها ميتة. قال:
"إنما حرم من الميتة أكلها".
فهذا نص في طهارة جلد الميتة.
ومثال التقوية بالقياس: تركه -سبحانه وتعالى- ذكر الإطعام
في كفارة القتل الخطأ في قوله تعالى:
{وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطًَا
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ} إلى أن قال سبحانه:
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] فقد حددت الآية الكريمة الكفارة في تحرير الرقبة أو
صيام شهرين متتابعين، ولم تذكر الإطعام كما في الظهار،
فترك الإطعام ظاهر في عدم وجوبه، إذ لو كان واجبًا لذكر،
هذا مع احتمال أن يكون مسكوتًا عنه، يستخرجه المجتهدون، ثم
رأينا إثبات الطعام في كفارة القتل، بالقياس على إثباته في
كفارة الظهار، والصيام، واليمين متجهًا؛ لأن الكفارات حقوق
لله تعالى، وحكم الأمثال واحد، فثبوت الإطعام في تلك
الكفارات تنبيه على ثبوته في كفارة القتل.
انظر: شرح مختصر الروضة "1/ 564 وما بعدها".
وأقول:
في المثال الأخير نظر؛ فإن القياس في الكفارات مختلف فيه
بين العلماء، وهو راجع إلى قضية حمل المطلق على المقيد،
وأرى -والله أعلم بالصواب- أن الراجح هنا عدم حمل المطلق
على المقيد، وأن التشديد في كفارة القتل ملحوظ =
ج / 1 ص -511-
[الأمور التي تلزم المتأول]
وكل متأول يحتاج إلى:
بيان احتمال اللفظ لما حمله عليه.
ثم إلى دليل صارف له1.
وقد يكون في الظاهر قرائن تدفع الاحتمال بمجموعها، وآحادها
لا تدفعه2.
مثاله: تأويل الحنفية قول النبي -صلى الله عليه وسلم-
لغيلان بن سلمة3 -حيث أسلم على عشر نسوة-: "أمسك منهن
أربعا وفارق نت سواهن"4: بالانقطاع عنهن وترك نكاحهن،
وعضدوه بالقياس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ومراعى من الشارع حتى يتناسب مع جريمة القتل، حتى ولو
كان خطأ، ففيه نوع تقصير.
انظر: تفسير القرطبي "5/ 328".
1 معنى ذلك: أن كل من أراد تأويل لفظ ظاهر لزمه أمران:
الأول: بيان الاحتمال المرجوح مع الظاهر.
الثاني: بيان الدليل الذي يقويه حتى يقدم على الظاهر.
2 يعني: أن الظاهر والاحتمال المرجوح إذا تقابلا، فقد يحتف
بالظاهر هرائن تلغي ذلك الاحتمال وتبطله بالكلية، وقد تكون
فيه قرائن عدة، كل واحدة منفردة لا تقوى على معارضة
الاحتمال، أما إذا انضم بعضها إلى بعض قويت على معارضته.
ومثل المصنف لذلك بالحديث الآتي.
3 هو: غيلان بن سلمة بن شرحبيل الثقفي، أسلم بعد فتح
الطائف ولم يهاجركان شاعرًا محسنًا، توفي في آخر خلافة عمر
بن الخطاب -رضي الله عنه-.
انظر: الاستيعاب "3/ 1256".
4 أخرجه الترمذي: كتاب النكاح، باب ما جاء في الرجل يسلم
وعنده عشر نسوة =
ج / 1 ص -512-
إلا أن
في الحديث قرائن عضدت الظاهر، وجعلته أقوى من الاحتمال:
أحدها: أنه لم يسبق إلى أفهام الصحابة إلا الاستدامة؛
فإنهم لو فهموه لكان هو السابق إلى أفهامنا.
والثاني: أنه فوض الإمساك والمفارقة إلى اختياره، وابتداء
النكاح لا يصح إلا برضاء المرأة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= من حديث ابن عمر ولفظه "أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم،
وله عشر نسوة في الجاهلية فأسلمن معه، فأمره النبي -صلى
الله عليه وسلم- أن يتخير منهن أربعًا".
كما رواه ابن ماجه: كتاب النكاح، باب الرجل يسلم وعنده
أكثر من أربع نسوة، والشافعي، كتاب النكاح، باب أنكحة
الكفار وإقرارهم عليها، والحاكم في المستدرك: كتاب النكاح،
باب قصة إسلام غيلان الثقفي، وتخييره لأربع من النساء.
قال ابن عبد البر: "طرقه كلها معلولة".
كما أعله البخاري وأبو زرعة وأبو حاتم. قال الترمذي: قال
البخاري: هذا الحديث غير محفوظ. انظر: تلخيص الحبير "3/
168"، سبل السلام "3/ 132".
ومذهب الحنفية: أن من أسلم وتحته أكثر من أربع، فإن كان قد
تزوجهن في عقد واحد، بطل نكاحهن جميعًا، وإن تزوجهن
متعاقبات: اختار من الأول أربعًا، وترك الباقي، وهذا يعارض
ظاهر الحديث الذي معنا، لذلك احتاجوا إلى التأويل، فحملوا
الإمساك -في الحديث- على ابتداء النكاح، فكأنه قال: أمسك
أربعًا: أي: ابتدئ نكاحهن من جديد، وفارق سائرهن، بأن لا
تعقد عليهن.
وعضدوا هذا بالقياس، فقالوا: إن بعض النسوة ليس بأولى
الإمساك من البعض الآخر، فهو ترجيح بلا مرجح.
أما الأئمة الثلاثة: فقالوا: يختار منهن أربعًا، وأيدوا
ذلك بعدة قرائن، سيذكرها المصنف.
انظر: شرح مختصر الروضة "1/ 569 وما بعدها".
ج / 1 ص -513-
والثالث: أنه لو أراد ابتداء النكاح: لذكر شرائطه؛ لئلا
يؤخر البيان عن وقت الحاجة، وما أحوج حديث العهد بالإسلام
إلى معرفة شرائط النكاح.
الرابع: أن ابتداء النكاح لا يختص بهن، فكان ينبغي أن
يقول: "انكح أربعًا ممن شئت".
ومثال التأويل في العموم القوي: قول الحنفية في قول النبي
-صلى الله عليه وسلم-: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن
وليها فنكاحها باطل"1. قالوا: هذا محمول على الأمة.
فثناهم عن قولهم "فلها المهر بما استحل من فرجها"؛ فإن مهر
الأمة للسيد فعدلوا إلى المكاتبة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه -جميعهم في كتاب
النكاح- عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا، كما أخرجه أحمد
في المسند "6/ 47" والحاكم في المستدرك، وقال: "هذا حديث
صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". كما صححه أبو عوانة
وابن حبان ويحيى بن معين وغيرهم.
ولفظة:
"أيما امرأة
نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر
بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي
لها".
ولما كان الحنفية يجيزون للمرأة البالغة أن تزوج نفسها
بغير إذن وليها، قياسًا على تصرفاتها المالية، فقد أولوا
الحديث وحملوه على الأمة، لأنها مملوكة لسيدها، وليست
الحرة داخله في الحديث مع أنه عام.
فلما عارض هذا التأويل تمام الحديث "فإن دخل بها فلها
المهر" حيث أضاف المهر إليها بلام التمليك، والأمة لا
تملك، حملوا الحديث على المكاتبة، ورد عليهم المصنف: "بإن
هذا تعسف ظاهر" لمعارضته للعموم القوي كما تقدم.
ج / 1 ص -514-
وهذا
تعسف ظاهر؛ لأن العموم قوي، والمكاتبة نادرة بالإضافة إلى
النساء.
وليس من كلام العرب إرادة الشاذ النادر باللفظ الذي ظهر
منه قصد العموم إلا بقرينة تقترن باللفظ.
وليس قياس النكاح على المال، والإناث على الذكور: قرينة
تقترن باللفظ وتصلح لتنزيله على صورة نادرة1.
ودليل ظهور قصد التعميم2 أمور:
الأول: أنه صدر بأي، وهي من كلمات الشرط، ولم يتوقف في
عموم أدوات الشرط جماعة ممن خالف في صيغ العموم.
الثاني: أنه أكد بـ"ما" وهي من مؤكدات العموم.
الثالث: أنه رتب بطلان النكاح على الشرط في معرض الجزاء.
ولو اقترح على العربي الفصيح أن يأتي بصيغة دالة على
العموم مع الفصاحة والجزالة: لم تسمح قريحته بأبلغ من هذه
الصيغة.
ونعلم أن الصحابة لم يفهموا من هذه الصيغة "المكاتبة" ولو
سمعنا نحن هذه الصيغة: لم نفهم منها "المكاتبة".
ولو قال القائل: أردت المكاتبة: لنسب إلى الأإغاز3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا رد على كلام الحنفية في قياس النكاح على المال،
وقياس الإناث في تولي عقد النكاح على الرجال.
2 أي: العموم الوارد في الحديث الشريف كما سيأتي أن يبينه
المصنف من أن "أي" من صيغ العموم التي لم يخالف فيها أحد.
3 الإلغاز: التعمية وصرف الشيء عن وجهه.
ج / 1 ص -515-
ولو
أخرج "المكاتبة" وقال: "ما خطرت ببالي" لم يستنكر.
فما لم يخطر على البال إلا بالإخطار كيف يجوز قصر العموم
عليه؟
وقد قيل في تأويل قوله -عليه السلام-:
"لا صيام لمن لم يبيت الصيام بالليل"1
-يحمله على القضاء- إنه من هذا القبيل2؛ لأن التطوع غير
مراد، فلا يبقى إلا الغرض الذي هو ركن الدين، وهو صوم
رمضان، والقضاء والنذر يجب بأسباب عارضة، فهو كالمكاتبة في
مسألة النكاح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد
والدارمي ومالك في الموطأ، والطحاوي في شرح معانى الآثار،
جميعهم في كتاب الصيام، من حديث حفصة أم المؤمنين -رضي
الله عنهها- مرفوعًا وموقوفًا.
وقد رجح البخاري وأبو داود والترمذي عدم رفعه. انظر: تلخيص
الحبير "2/ 188"، فتح الباري "4/ 142" ونصب الراية "2/ 432
وما بعدها".
2 أي: من قبيل التأويل الوارد في مسألة صحة زواج المرأة
بدون ولي، كما قال الحنفية.
وقد قال الحنفية -في الحديث الذي معنا-: إنه محمول على صوم
القضاء والنذر، فإنه يجب تبييت النية لهما دون شهر رمضان؛
فإنه متعين ولا يحتاج إلى تبييت النية، باعتبار أن وقته
مضيق لا يسع غيره معه، بخلاف القضاء والنذر.
قال بعض العلماء: إن هذا التأويل في البعد والندرة كتأويل
حديث النكاح بغير ولي على المكاتبة؛ وذلك لأنه قوله -صلى
الله عليه وسلم-:
"لا صيام"
صيغة عموم، فيتناول الواجب والتطوع، خص منه التطوع بأدلة
أخرى دلت على عدم اشتراط النية، وهو تأويل قريب، فإن
التطوع إلى أنواع الصيام قليل، بخلاف ما إذا قصر على
القضاء والنذر، فإنه يكون بعيدًا نادرًا، انظر: شرح
المختصر "1/ 577 وما بعدها".
وقد رد عليهم المصنف: بأن القضاء والنذر ليسا في الندرة
والقلة كالمكاتبة كما سيأتي.
ج / 1 ص -516-
والصحيح: أنه ليس ندرة هذا كندرة المكاتبة1، وإن كان
كالغرض أسبق إلى الفهم، فيحتاج هذا التخصيص إلى دليل قوي.
وليس يظهر بطلانه كظهور التخصيص بالمكاتبة.
وعند هذا يعلم: أن إخراج النادر قريب، والقصر على النادر
ممتنع، وبينهما درجات تتفاوت في البعد والقرب.
ولكل مسألة ذوق يجب أن تفرد بنظر خاص، ويليق ذلك بالفروع.
القسم الثالث- المجمل:
وهو: ما لا يفهم منه عند الإطلاق معنى2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وذلك لأن العموم هناك أقوى من العموم هنا، للأسباب التي
تقدم ذكرها، أما صيغة "لا صيام" فالخلاف فيها مشهور؛ لأنه
يحتمل نفي كمال الصيام، لا نفي صحته، ويحتمل نفي الصحة،
وأصناف الصوم خمسة: صوم رمضان، والتطوع، والقضاء، والنذر،
والكفارات، قصر الحديث على ثلاثة منها، وهي القضاء والنذر
والكفارة، ولم يبق إلا التطوع وصوم رمضان، وليس نسبة ثلاثة
إلى خمسة كنسبة نوع المكاتبة إلى جنس النساء.
انظر: شرح مختصر الروضة "1/ 578".
2 المجمل في اللغة: ما جعل جملة واحدة، لا ينفرد بعض
آحادها عن بعض.
قال الجوهري: وقد أجملت الحساب: إذا رددته إلى الجملة.
انظر: الصحاح مادة "جمل"، معجم مقاييس اللغة "1/ 481".
وفي الاصطلاح: له عدة تعريفات، ذكر منها المصنف تعريفين،
أحدهما "ما لا يفهم منه عند الإطلاق معنى".
واعترض عليه الطوفي بأن ذلك يصدق على المهمل، فإنه لا يفهم
منه معنى، أما المجمل: فإنه يفيد معنى، لكنه غير معين؛ إذ
لو لم يكن له معنى، لما تعين المراد منه بالبيان؛ لأن
البيان كاشف عن المراد بالمجمل؛ ولذلك أضاف إليه في مختصره
لفظ "معين، فأصبح التعريف: "المجمل: ما لا يفهم منه عند
الإطلاق معنى معين" انظر: الشرح "2/ 649".
ج / 1 ص -517-
وقيل:
ما احتمل أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر1.
وذلك مثل: الألفاظ المشتركة كلفظة "العين": المشتركة بين
"الذهب" و"العين الناظرة" وغيرها2. و"القرء" للحيض
والطهر3، والشفق للبياض والحمرة4.
وقد يكون الإجمال في لفظ مركب، كقوله تعالى:
{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}5، متردد بين الزوج والولي6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا التعريف قريب من تعريف الآمدي حيث قال: "المجمل: ما
له دلالة على أحد معنيين لا مزية لأحدهما على الآخر
بالنسبة إليه" انظر: الإحكام "3/ 8".
2 كما تطلق على: حرف الهجاء المعروف، وما نبع من الماء،
والجاسوس، والمال الناض، ورئيس الجيش، وكبير القوم، وذات
الشيء ونفسه، وعلى النفس من كل شيء، وغير ذلك.
انظر: المزهر "1/ 369".
3 ولذلك وقع الخلاف في العدة، هل هي بالحيض أو بالطهر؟
4 كما اختلف الفقهاء في دخول وقت العشاء: هل هو بغيبوبة
حمرة الشفق، أو بغيبوبة البياض.
5 سورة البقرة من الآية: 237.
6 قال ابن عباس، وعلقمة، وطاووس، ومجاهد، وشريح، والحسن،
وإبراهيم النخعي، والشعبي، والزهري، ومالك، وغيرهم: هو
الولي، الذي المرأة في حجره، فهو الأب في ابنته التي لم
تملك أمرها، والسيد في أمته.
وقال بعض العلماء: هو الزوج؛ قاله علي بن أبي طالب -رضي
الله عنه- وسعيد بن جبير، وكثير من فقهاء الأمصار، وقاله
ابن عباس -أيضًا- ورجع إليه شريح.
انظر: فتح القدير للشوكاني "1/ 279".
قال الطوفي: "قلت: الصحيح من مذهب أحمد والشافعي أنه
الزوج، وهو مذهب أبي حنيفة، وقال مالك: هو الولي، الأب
وسيد الأمة، والمختار الراجح في النظر: أنه الولي، وقد
استقصيت أدلته اعتراضًا وجوابًا في التفسير بحمد الله
تعالى ومنّه" شرح المختصر "2/ 654".
ج / 1 ص -518-
وقد
يكون بحسب التصريف كالمختار، يصلح للفاعل والمفعول1.
وقد يكون لأجل حرف محتمل: كالواو، تصلح عاطفة، ومبتدأة4.
و "من" تصلح للتبعيض، وابتداء الغاية، والجنس، وأمثال ذلك.
[حكم المجمل]
فحكم هذا التوقف فيه حتى يتبين المراد منه4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فلفظ "المختار" متردد بين من وقع منه الاختيار، وبين من
وقع عليه الاختيار، فالله تعالى مختار لنبيه -صلى الله
عليه وسلم- حيث اختاره رسولًا، والنبي -صلى الله عليه
وسلم- مختار، أي: وقع عليه اختيار الله عز وجل.
2 كما تكون بمعنى أو، ومعنى "مع" ومعنى "رب" وبمعنى الحال
وغير ذلك.
3 وتكون للتبعيض، والتعليل، والبدل، وانتهاء الغاية،
وبمعنى الباء وغير ذلك.
4 أي بدليل خارجي يبين المراد منه.
قال الطوفي: "لأن الله -تعالى- لم يكلفنا العمل بما لا
دليل عليه، والمجمل لا دليل على المراد به، لا نكلف بالعمل
به... ثم قال: والدليل على أنه لا يجوز ذلك -أيضًا-: هو أن
في العمل به تعرضًا بالخطأ في حكم الشرع، والتعرض بالخطأ
في حكم الشرع لا يجوز، وإنما قلنا: إن فيه تعرضًا بالخطأ؛
لأن اللفظ إذا تردد بين معنيين، فإما أن يرادا جميعًا، أو
لا يراد واحد منهما، أو يراد أحدهما دون الآخر، فهذه أربعة
أقسام، يسقط منها الثاني، وهو أن لا يراد واحد منهما؛ لأن
ذلك ليس من شأن الحكماء، أن يتكلموا كلامًا لا يقصدون به
معنى، يبقى ثلاثة أقسام، لا دليل على إرادة واحد منها.
فإذا أقدمنا على العمل قبل البيان، احتمل أن يوافق مراد
الشرع، فنصيب حكمه، واحتمل أن نخالفه، فنخطئ حكمه، فتحقق
بذلك أن العمل بالمجمل =
ج / 1 ص -519-
[صور اختلف في إجمالها]
فأما قوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَة}1
ونحوها2: فليس بمجمل، لظهوره من جهة العرف في تحريم الأكل،
والعرف كالوضع.
ولذلك قسمنا الأسماء إلى عرفية ووضعية3.
ومن أنس بتعارف أهل اللغة: علم أنهم يريدون بقوله: "حرمت
عليك الطعام": الأكل، دون اللمس والنظر، و"حرمت عليك
الجارية": أي الوطء. ويذهبون في تحريم كل عين إلى تحريم ما
هي معدة له.
وهذا اختيار أبي الخطاب وبعض الشافعية4.
وحكي عن القاضي أنه مجمل5؛ لأن الأعيان لا تتصف بالتحريم
حقيقة، وإنما يحرم فعل ما يتعلق بها، فلا يدري ما ذلك
الفعل في الميتة:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قيل البيان تعرض بالخطأ في حكم الشرع.
وأما أن ذلك لا يجوز؛ فلأن حكم الشرع يجب تعظيمه، والتعرض
بالخطأ فيه ينافي تعظيمه، فيكون ذلك ضربًا من الإهمال له،
وقلة المبالاة والاحتفال به، وذلك لا يجوز" شرح المختصر
"2/ 655".
1 سورة المائدة من الآية: 3.
2 مثل قوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}
وقوله تعالى:
{قُلْ
أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتِ}
وسائر الصور التي أضيف الحكم فيها إلى الأعيان.
3 أي: في أول هذا الفصل.
4 وهو رأي القاضي عبد الجبار وأبي علي الجبائي وابنه أبي
هاشم، وأبي الحسين البصري.
انظر شرح المختصر "2/ 659".
5 ووافقه بعض العلماء، كأبي الحسن الكرخي -من الحنفية-
وأبي عبد الله البصري -من المعتزلة- وبعض الشافعية.
ج / 1 ص -520-
أكلها،
أم بيعها، أم النظر إليها أو لمسها؟
وهذا قول جماعة من المتكلمين.
وقد ذكرنا أن هذا ظاهر من جهة العرف في الأكل، والصريح
يكون بالوضع تارة، وبالعرف أخرى.
وقوله الله -تعالى-:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}1:
ليس بمجمل، وإنما هو لفظ عام، فيحمل على عمومه2.
وقال القاضي: هو مجمل3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= انظر: العدة "1/ 145" وشرح مختصر الروضة "2/ 659".
1 سورة البقرة من الآية: 275.
2 أي: أن البيوع في الشرع كثيرة ومتعددة، منها الحلال،
كالبيوع المستوفية لشروط الصحة، ومنها الحرام.... فبعض
العلماء ادعى أن البيع في قوله تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} مجمل، لتردده بين ما هو جائز وما هو محرم، ثم ورد البيان من الشرع.
ومنهم من قال: إنه عام في البيوع الجائزة وغيرها، ثم خص
المحرم منها بأدلة أخرى، كالأحاديث التي جاءت بتحريم بعض
البيوعات، كالنهي عن بيع الغرر، وعن بيعتين في بيعة، وعن
بيع الإنسان ما ليس عنده وغير ذلك.
وقد بين الطوفي الفرق بين القولين فقال: "والقولان
متقاربان؛ لأن تخصيص العموم نوع من البيان.
نعم، تظهر فائدة الخلاف في قوله -عز وجل-:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} إن قلنا: هو مجمل بين، كان حجة بلا خلاف، وإن قلنا: هو عام خص، كان
في بقائه حجة الخلاف السابق، في أن العالم -بعد التخصيص-
حجة أم لا؟
وعلى كل حال، فكونه من باب المخصوص أولى، وأكثر وأشهر" شرح
المختصر "2/ 661-662".
3 انظر: العدة "1/ 110".
ج / 1 ص -521-
فصل: [نفي الذوات لا يقتضي الإجمال]
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-
"لا صلاة إلا بطهور"1 ليس
بمجمل2.
وقال الحنفية: هو مجمل3؛ لأن المراد به: نفي حكمه؛ إذ لا
يمكن حمل اللفظ على نفي صورة الفعل، فيكون خلفا4، وليس حكم
أولى من حكم5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه مسلم: كتاب الطهارة، باب وجوب الطهارة للصلاة، من
حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- مرفوعًا، كما أخرجه
عند الترمذي: كتاب الطهارة، باب ما جاء لا تقبل صلاة بغير
طهور، وابن ماجه: كتاب الطهارة، باب لا يقبل الله صلاة
بغير طهور، والطيالسي في مسنده: كتاب الطهارة، باب ما جاء
في فضل الوضوء، وأن الصلاة لا تقبل بدونه.
وللحديث طرق أخرى كثيرة يراجع: فيض القدير "6/ 415".
ومثل هذا الحديث كل ما جاء فيه نفي ذوات واقعة تتوقف الصحة
فيها على إضمار شيء. مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-:
"لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل"
و"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب".
2 وهو مذهب جمهور العلماء.
3 وهو رأي أبي بكر الباقلاني وأبي عبد الله البصري "شرح
المختصر 2/ 663".
4 خلفا -بضم الخاء وسكون اللام-: أي باطلًا، كما في
القاموس، ولم يرتضه الزبيدي في شرحه، وقال: إنه بفتح
الخاء، وهو الرديء من القول، وشبهه العلماء بمن ينطق من
خلفه، وفي المثل: سكت ألفا ونطق خلفًا، أي: سكت عن ألف
كلمة، ثم تكلم بخطأ.
قال الزبيدي: "ولعلهما لغتان، وإلا فالقياس في اللغة لا
يصح والأشهر الفتح" انظر: تاج العروس "6/ 96" مادة "خلف".
5 خلاصة دليل الحنفية ومن معهم: أن قوله -صلى الله عليه
وسلم-: "لا صلاة إلا بطهور" ونحوه، =
ج / 1 ص -522-
قلنا:
إذا حملناه على نفي الصلاة الشرعية: لم يحتج إلى إضمار
الحكم، وإنما يصار إلى الإضمار: إذا لم يمكن حمل اللفظ على
ما أضيف إليه اللفظ1.
فإن قيل فالفاسدة تسمى صلاة.
قلنا: ذلك مجاز؛ لكونها على صورة الصلاة، والكلام يحمل على
حقيقته.
والصحيح: أن يحمل ذلك على نفي الصحة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أما أن يحمل نفي صورة الصلاة أو نفي حكمها، والأول باطل؛
لأن صورة الصلاة يمكن وجودها بغير طهارة، فتعين أن يكون
المراد: نفي حكم الصلاة ولكن الأحكام متعددة ومتساوية،
فيحتمل: نفي الصحة والكمال والأجزاء فيبقى الكلام مترددًا
بين هذه المعاني، ومن هنا جاء الإجمال.
1 أجاب المصنف على استدلال الحنفية ومن معهم: بأن دعواكم
الإجمال مبني على جعل اللفظ مترددًا بين معناه اللغوي
ومعناه الشرعي، والمصطلحات الشرعية غلبت في كلام الشارع
على المعاني اللغوية، فأصبحت المعاني اللغوية مجازًا
بالنسبة للمعاني الشرعية، وعلى ذلك يحمل قول الرسول -صلى
الله عليه وسلم-:
"لا صلاة إلا بطهور" على المعنى الشرعي، أي: لا صلاة معتدًا بها شرعًا إلا بطهور، فلا
نحتاج إلى إضمار حكم من الأحكام التي ترددتم فيها؛ لأن ذلك
الإضمار إنما يحتاج إليه إذا لم يمكن حمل اللفظ على المعنى
الحقيقي، وهو هنا: الصلاة المعهودة شرعًا من القيام
والركوع والسجود وغير ذلك، وعلى ذلك يمكن حمل اللفظ على
المعنى الشرعي، وإن حصلت صورته الظاهرة، إلا أنه منفي
لفوات شرط من شروط صحة الصلاة، وهو الطهور.
وهذا المعنى هو الذي أشار إليه المصنف -بعد ذلك- في رده
على قولهم: "فإن قيل: فالفاسدة تسمى صلاة" فأجاب: قلنا ذلك
مجاز، لكونها على صورة الصلاة، والكلام يحمل على حقيقته.
انظر توضيح ذلك في شرح مختصر الروضة "2/ 664-665".
ج / 1 ص -523-
وجهه1:
أنه قد اشتهر في العرف نفي الشيء لنفي فائدته كقولهم:
"لاعلم إلا ما نفع" و"لا عمل إلا بنية" و"لا بلدة
إلا بسلطان" يراد به:
نفي الفائدة والجدوى.
ولو قضينا بالصحة لم تنتف الفائدة، فيكون على خلاف العرف.
ولا يصح حمله على نفي الصلاة الشرعية؛ فإنه: إن أريد
بالصلاة الشرعية: الصورة: لم يكن حمل اللفظ عليه لكونه
خلفًا.
وإن فسرت بالفعل مع الحكم: لم يصح؛ لأن الصلاة يؤمر بها
وينهى عنها، والأمر والنهي إنما يتعلق بالفعل الذي يمكن
الإتيان به وتركه.
فصل
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-
"لا عمل إلا بنية"2 يدل على
نفي الأجزاء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا جواب آخر على كلام الحنفية خلاصته: أنه اشتهر في
العرف نفي الشيء لانتفاء فائدته، فيحمل الكلام في قوله
-صلى الله عليه وسلم-:
"لا صلاة إلا بطهور" على نفي الصحة، لانتفاء الفائدة؛ لأن الصلاة بغير طهور، والصيام
بغير تبييت نية لا يفيدان، فانتفت صحتها لانتفاء فائدتهما،
إذ إن الصحة عبارة عن ترتيب الفوائد، والآثار المقصودة من
الفعل. انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 665".
2 جاء في كشف الخفاء "1/ 166" عن هذا الحديث: وورد بألفاظ
مختلفة، بيناها في أوائل "الفيض الجاري" منها: العمل
بالنية، ومنها:
"لا عمل إلا بالنية".
والرواية المشهورة التي رواها عمر بن الخطاب -رضي الله
عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى".
أخرجه البخاري في باب كيف كان بدء الوحي، وفي كتاب
الأيمان، باب النية في الأيمان، وفي كتاب العتق، باب الخطأ
والنسيان في العتاق والطلاق ونحوه، كما اخرجه مسلم: كتاب
الإمارة، باب قوله -صلى الله عليه وسلم- "إنما الأعمال
بالنية" =
ج / 1 ص -524-
وعدمه؛
لما ذكرنا من العرف، فليس هذا من المجملات، بل هو من
المألوف في العرف وكل هذا نفي لما لا ينتفي، وهو صدق، لأن
المراد: نفي مقاصده لا نفي ذاته1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= حديث "1907" وأبو داود "2201" والنسائي "1/ 58، 6/ 158،
7/ 13" والترمذي "1647" ومالك في الموطأ "983".
1 قال الطوفي في شرحه "2/ 667": "النزاع في قوله عليه
السلام: "إنما الأعمال بالنيات" من هذا الباب، لأن
"الأعمال" مبتدأ، وخبره محذوف، فاختلفوا: هل هو الصحة،
فيكون التقدير: إنما الأعمال صحيحة، أو الكمال، فيكون
تقديره: إنما الأعمال كاملة، والأظهر: إضمار الصحة لما
سبق، والله -تعالى- أعلم".
فصل: [رفع الخطأ رفع للحكم]
وقوله -عليه الصلاة والسلام-:
"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"1
المراد به رفع حكمه؛ فإنا علمنا أنه لم يرد رفع صورته؛ لأن
كلامه يجل عن الخلف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخرجه ابن ماجه: كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وعن أبي ذر -رضي الله عنه-.
كما أخرجه عن ابن عباس -أيضًا-: الحاكم: كتاب الطلاق، باب
ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة، وقال:
"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
كذلك أخرجه ابن حبان في صحيحه، والطبراني في معجمه، وأبو
نعيم في الحلية، وابن عدي في الكامل بلفظ "رفع عن هذه
الأمة ثلاثًا: الخطأ، والنسيان، والأمر يكرهون عليه".
كما أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار": كتاب الطلاق،
باب في طلاق المكره. =
ج / 1 ص -525-
وقيل:
المراد: رفع حكمه الذي هو المؤاخذة، لا نفي الضمان ولزوم
القضاء، لأنه ليس بصيغة عموم فيجعل عامًّا في كل حكم، كما
لم يجعل قوله -تعالى-
{حَرَّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} عامًّا في كل حكم.
بل لا بد من إضمار فعل يضاف النفي إليه.
فههنا لا بد من إضمار حكم يضاف الرفع إليه، ثم ينزل على ما
يقتضيه عرف الاستعمال قبل الشرع.
وقد1 كان يفهم من قولهم: "رفعت عنك الخطأ" المؤاخذة به
والعقاب، والضمان لا يجب للعقاب خاصة، بل قد يجب امتحانًا،
ليثاب عليه2، ولهذا يجب على الصبي والمجنون، وعلى العاقلة،
ويجب على المضطر مع وجوب الإتلاف، ويجب عقوبة على قاتل
الصيد.
وأكثر ما يقال: إنه ينتفي الضمان الذي يجب عقوبة.
قال أبو الخطاب: "وهذا لايصح؛ لأنه لو أراد نفي الإثم: لم
يكن لهذه الأمة فيه مزية؛ فإن الناسي لا يكلف في كل
شريعة"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وفي كل طريق من طرقه مقال يقدح في صحته، إلا أن ابن
الدييغ قال في كتابه "تمييز الطيب من الخبيث": "رواته
ثقات" كما صححه ابن حبان في صحيحه.
انظر: تلخيص الحبير "1/ 281 وما بعدها" كشف الخفاء "1/
522".
1 معناه: أنه قد كان يفهم قبل الشرع من قول القائل: "رفعت
عنك الخطأ والنسيان" رفع الحكم وهو الذم والمؤاخذة، وهو
تأييد للمذهب الأول وهو: أن المراد من الحديث: رفع الحكم.
2 قول المصنف: "والضمان إلخ" رد على سؤال مقدر، تقديره: أن
الضمان -أيضًا- عقاب، فكان يجب رفعه، فأجاب: ان الضمان قد
يجب امتحانًا ليثاب عليه، لا للعقاب.
3 انظر: التمهيد: "2/ 236".
ج / 1 ص -526-
ولأنه
لما أضاف الرفع إلى ما لا يرتفع ذاته: اقتضى رفع ما يتعلق
به؛ ليكون وجوده وعدمه واحدًا.
كما أنه لما أضاف النفي إلى ما لا تنتفي ذاته: انتفى حكمه؛
ليكون وجوده وعدمه واحدًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة الكلام في ذلك: أن للعلماء في الحديث المذكور
رأيين:
الرأي الأول: أنه لا إجمال في الحديث، وأن المقصود من
الرفع: رفع الحكم وهو المؤاخذة؛ لأن العرف جارعلى أن
المراد به: المؤاخذة، ولا يلزم من رفع المؤاخذة رفع ضمان
ما أتلفه المخطئ أو الناسي، لأن ضمان المتلفات وأروش
الجنايات من خطاب الوضع، وليست من خطاب التكليف، ولذلك يجب
الضمان على الصبي مع أنه غير مكلف، ويلزم وليه، وكذلك تجب
الدية على العاقلة، مع أنهم لا علم لهم بالجناية.
الرأي الثاني: أن الحديث فيه إجمال، وأن قصر الحكم على رفع
المؤاخذة فقط لا يصح؛ لأنه لو أراد نفي الإثم فقط، لم يكن
لهذه الأمة مزية على غيرها من الأمم؛ لأن الناسي والمخطئ
غير مكلفين في جميع الشرائع -كما قال أبو الخطاب-.
وقد أجاب الشيخ الشنقيطي عن ذلك فقال:
"فيه عندي أمران:
أحدهما: أن رفع إثم الناسي والمخطئ من غير هذه الأمة غير
مسلم؛ لورود أدلة تدل على اختصاص هذه الأمة بعفو الخطأ
والنسيان وما استكرهوا عليه، منها: الحديث الذي نحن بصدده،
فقوله: "عن أمتي" يفهم منه: أن غيرها ليس كذلك: ومنها:
حديث طارق بن شهاب في الذي دخل النار في ذباب قربه لصنم،
مع أنه مكره بالخوف من القتل، لأنهم قتلوا صاحبه لما أبى
عن ذلك.
ومنها: أن قوله تعالى:
{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا...} [البقرة: 286] وقول الله: "قد فعلت" كما ثبت في صحيح مسلم، يدل على
أن المؤاخذة بالخطأ والنسيان كانت معهودة على من قبلنا؛ إذ
لو كانت مرفوعة عن كل أحد لما دعت ضرورة إلى هذا الدعاء،
وإظهار الكرامة بالإجابة بقوله: "قد فعلت" =
ج / 1 ص -527-
فصل: في البيان
والمبيّن في مقابلة المجمل1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فظاهر الامتنان أنه خاص بنا.
ويستأنس لهذا بما ذكره البغوي عن الكلبي من أن من قبلنا
كانوا يؤاخذون بالخطأ والنسيان: وقد قال الله في آدم:
{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ} [طه: 115]
{وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ}
[طه: 121] فأضاف إليه العصيان والنسيان، فدل على المؤاخذة
به. وأما على القول بأن "فنسي" بمعنى: "ترك" فلا دليل في
الآية.
ومن الأدلة على مؤاخذتهم في الإكراه: قوله تعالى -عن أصحاب
الكهف-:
{إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ
يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ}
[الكهف: 20] فهذا صريح في الإكراه، مع أنهم قالوا:
{وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} فدل على عدم عذرهم به.
ثانيهما: هو أن نقول: متعلق الرفع في قوله: "رفع عن أمتى
إلخ" لا بد أن يكون أحد أمرين، أو كليهما، وهما: الإثم
والضمان؛ إذ لا وصف يتعلق به الرفع إلا الإثم والضمان،
والإثم مرفوع قطعًا؛ لقوله تعالى:
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ} [الأحزاب: 5] وقوله في الحديث القدسي: "قد فعلت" كما تقدم.
والضمان غير مرفوع إجماعًا، لتصريحه -تعالى- بضمان المخطئ
في قوله:
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ...} [النساء: 92] فاتضح أن الإثم مرفوع، وأن الضمان غير مرفوع، فتعين
كون المرفوع: متعلق الرفع في الحديث كما هو واضح" مذكرة
أصول الفقه ص182-183.
1 في جميع النسخ المطبوعة: "البيان والمبين في مقابلة
المجمل" وهو خطأ نشأ من جعل كلمة "البيان" مقرونة بالمبين
والأصل أن تكون في العنوان، وإلا فليس البيان هو المبين
حتى يكون في مقابلة المجمل، فمقابل البيان: الإجمال،
ومقابل المبين: المجمل.
ج / 1 ص -528-
واختلف
في البيان:
فقيل: هو الدليل. وهو: ما يتوصل بصحيح النظر فيه إلى علم
أو ظن.
وقيل: هو إخراج الشيء من الإشكال إلى الوضوح.
وقيل: هو ما دل على المراد بما يستقل بنفسه في الدلالة على
المراد.
وقد قيل: هذان الحدان يختصان بالمجمل1.
يقال لمن دل على شيء: "بينه" و"هذا بيان حسن" وإن لم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فالإجمال: هو النطق باللفظ على وجه يقع فيه التردد بين
معان مختلفة، والمجمل: هو اللفظ نفسه.
والمصنف ذكر التعريفات الواردة في البيان، وأحال تعريف
المبين إلى تعريف المجمل وقال: إنه في مقابلته: أي ضده.
وهو قد أورد للمجمل تعريفين:
أحدهما: ما لا يفهم منه عند الإطلاق معنى.
وثانيهما: ما احتمل أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر.
وعلى ذلك يكون تعريف المبين دائرًا بين معنيين أيضًا:
أحدهما: ما يفهم منه عند الإطلاق معنى معينًا.
وثانيهما: ما لا يحتمل أمرين، أو ما له محمل واحد.
قال القرافي: الميين: هو اللفظ الدال بالوضع على معنى، إما
بالإصالة، وإما بعد البيان. "شرح تنقيح الفصول ص274".
وقال الآمدي: "المبين قد يراد به الخطاب المستغني بنفسه عن
بيان، وقد يراد به ما يحتاج إلى البيان عند وروده عليه،
كالمجمل وغيره" الإحكام "3/ 25".
1 هذا اعتراض وارد على التعريفين: الثاني والثالث:
ج / 1 ص -529-
يكن
مجملًا، والنصوص المعربة عن الأحكام ابتداء: بيان، وليس ثم
إشكال.
ولا يشترط -أيضًا- حصول العلم للمخاطب؛ فإنه يقال: "بيّن
له، غير أنه لم يتبيّن".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= خلاصته: أنهما ينطبقان على المجمل فقط، بينما البيان
أشمل من ذلك.
ولذلك قال الغزالي -عن التعريف الأول-: "إلا أن الأقرب إلى
اللغة، وإلى المتداول بين أهل العلم ما ذكره القاضي؛ إذ
يقال -لمن دل غيره على الشيء- "بينه له" و"هذا بيان منك،
لكنه لم يتبين" وقال تعالى:
{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 138] وأراد به القرآن" المستصفى "3/ 62" تحقيق الدكتور
حمزة حافظ.
فصل: [الأمور التي يحصل بها البيان]
ثم البيان يحصل:
بالكلام1.
وبالكتابة: ككتابة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عماله
في الصدقات2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= خلاصته: أنهما ينطبقان على المجمل فقط، بينما البيان
أشمل من ذلك.
ولذلك قال الغزالي -عن التعريف الأول-: "إلا أن الأقرب إلى
اللغة، وإلى المتداول بين أهل العلم ما ذكره القاضي؛ إذ
يقال -لمن دل غيره على الشيء- "بينه له" و"هذا بيان منك،
لكنه لم يتبين" وقال تعالى:
{هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 138] وأراد به القرآن" المستصفى "3/ 62" تحقيق الدكتور
حمزة حافظ.
1 والكلام قد يكون من الله -تعالى- كقوله تعالى:
{صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة: 69] فإنه مبين لقوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67].
وقد يكون الكلام من الرسول -صلى الله عليه وسلم- كقوله
-صلى الله عليه وسلم- فيما رواه البخاري وغيره عن ابن عمر
-رضي الله عنهما- مرفوعًا:
"فيما سقت السماء والعيون أو كان عَثَرِيًا [وهو الزرع الذي لا يسقيه إلا ماء المطر]
العشر، وما سقي بالنضح نصف العشر" فإنه مبين لقوله تعالى:
{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141].
2 ومنها: حديث أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- والذي جاء
فيه عن أنس =
ج / 1 ص -530-
وبالإشارة، كقوله -صلى الله عليه وسلم-:
"الشٌَهْرُ هَكَذَا وهَكَذَا وهَكَذَا"
وأشار بأصابعه1.
وبالفعل2، كتبيينه الصلاة والحج بفعله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رضي الله عنه- أن أبا بكر -رضي الله عنه- كتب له هذا
الكتاب لما وجهه إلى البحرين:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين، والتي أمر الله
بها رسوله -صلى الله عليه وسلم- فمن سئلها على وجهها
فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط: في أربع وعشرين فما دونها
من الإبل في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمس
وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى.... الحديث" أخرجه البخاري:
كتاب الزكاة، باب من بلغت عنده صدقة بنت مخاض وليست عنده،
كما أخرجه في باب زكاة الغنم، وفي باب: لا يؤخذ في الصدقة
هرمة.
كذلك أخرجه أبو داود: كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة،
والنسائي في باب زكاة الإبل، وابن ماجه: باب إذا أخذ
المصدق سنًّا دون سن أو فوق سن، والدارقطني: باب زكاة
الإبل والغنم.
1 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الصيام، باب قول النبي
-صلى الله عليه وسلم-:
"لا نكتب ولا نحسب" من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-. كما أخرجه عنه مسلم:
كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر
لرؤية الهلال، والنسائي: كتاب الصيام، باب ذكر الاختلاف
على يحيى بن أبي كثير في خبر أبي سلمة فيه، وأبو داود:
كتاب الصيام، باب: الشهر يكون تسعًا وعشرين.
2 المراد به: فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو رأي
جمهور العلماء. قال الفتوحي في شرح الكوكب المنير "3/
442": "وخالف في ذلك شرذمة قليلون".
والراجح: رأي الجمهور، فقد بين -صلى الله عليه وسلم- أعداد
ركعات الصلاة، وأوصافها وهيآتها، ثم أكد ذلك بقوله -صلى
الله عليه وسلم- "صلوا كما رأيتموني أصلي" فهو بيان لقوله
تعالى:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاة} [البقرة: 43، 110] وبين مناسك الحج بفعله، ثم =
ج / 1 ص -531-
فإن
قيل: إنما حصل البيان بقوله:
"صلوا كما
رأيتموني أصلي"1
و
"خذوا عني مناسككم"2.
قلنا: هذا اللفظ لا تعلم منه الصلاة والمناسك، وإنما بان
وعلم بفعله.
والبيان بالفعل أدل على الصفة، وأوقع في الفهم من الصفة
بالقول، لما في المشاهدة من المزيد عن الإخبار.
وقد يتبين جواز الفعل بالسكوت عنه، فإن النبي -صلى الله
عليه وسلم- لا يقر على الخطأ.
فكل مفيد من الشارع بيان3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أكد ذلك بقوله: "خذوا عني مناسككم" فإنه بيان لقوله
تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلًا} [آل
عمران: 97].
وقد اعترض المخالفون بأن البيان إنما كان بهذه الأحاديث،
وليس بالفعل، فأجاب المصنف على ذلك: بأن اللفظ لم تعلم منه
الصلاة ولا المناسك، وإنما علمت بالفعل، والأحاديث إنما هي
تأكييد للأخذ بالأفعال التي رآها الصحابة من رسول الله
-صلى الله عليه وسلم-. وهذا معنى قوله الآتي: "فإن قيل
إلخ".
1 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب الأذان
للمسافر إذا كانوا جماعة، كما أخرجه في كتاب الأدب، باب
رحمة الناس والبهائم، وفي باب ما جاء في إجازة خبر الواحد،
من حديث مالك بن الحويرث.
كما أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم.
2 جزء من حديث أخرجه مسلم: كتاب الحج، باب استحباب رمي
جمرة العقبة يوم النحر راكبًا، من حديث جابر عن عبد الله
-رضي الله عنهما- مرفوعًا، كما اخرجه أبو داود والنسائي
وغيرهما في كتاب الحج.
3 هذه قاعدة عامة فيما يحصل به البيان، تشمل ما سبق، كما
تشمل وجوهًا ثلاثة، ذكرها الطوفي في شرح المختصر "2/
681-684" نلخصها فيما يلي:
الوجه الأول: الاستدلال العقلي من الشارع، بأن يبين العلة،
أو مأخذ =
ج / 1 ص -532-
..............................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحكم، او أي فائدة. كما قال تعالى في صفة ماء السحاب:
{فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ}
[فاطر: 9].
وقال تعالى -في موضع آخر-:
{كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:
11].
فبين سبحانه وتعالى لنا بذلك طريق الاستدلال على إمكان
البعث والمعاد، ولولا هذا الطريق الذي فتحه الله تعالى
للمؤمنين لما اجترأ متكلموهم أن يستدلوا عليه، ولا يتكلمون
مع الفلاسفة المنكرين له فيه.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعمر -رضي الله عنه- حين
قال له: قبلت وأنا صائم-:
"أرأيت لو
تمضمضت بماء وأنت صائم؟"
فقال عمر:
لا بأس بذلك. فقال -صلى الله عليه وسلم-:
"ففيم؟" "رواه أبو داود "2385" وأحمد "1/ 21، 52" وصححه ابن خزيمة "1999"
وابن حبان "905" والحاكم "1/ 431" ووافقهم الذهبي".
فقاس -صلى الله عليه وسلم- القبلة على المضمضة، وبين بذلك
أن الفطر إنما يكون بما يجاوز الحلق إلى الجوف، أو بما
يحصل منه مقصوده الموضوع له من المفطرات، والقبلة لم يحصل
منها مقصود جنسها وهو الإنزال، كما أن المضمضة لم يحصل
منها مقصود الشرب وهو الري.
الوجه الثاني: الترك: مثل تركه -صلى الله عليه وسلم- لفعل
أمر به تركه، أو سبق له فعله ثم تركه، فيكون تركه لهذا
الفعل بيانًا له.
ومن أمثلة الأول: الأمر بالإشهاد في قوله تعالى:
{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- كان بيايع ولا يشهد،
بدليل الفرس الذي اشتراه من الأعرابي، ثم أنكر الأعرابي
البيع، حتى جاء خزيمة بن ثابت فشهد لرسول الله -صلى الله
عليه وسلم- مع أنه لم يكن حاضرًا، وإنما شهد بناء على صدق
الرسول -صلى الله عليه وسلم- فعلم -بذلك- أن الإشهاد في
البيع غير واجب.
ومن امثلة الثاني: تركه -صلى الله عليه وسلم- لصلاة
التروايح، بعد أن صلاها في رمصان، خشية أن تفرض على
المسلمين، فدل ذلك على عدم وجوبها، لأن الواجب لا يجوز
تركه.
الوجه الثالث: السكوت بعد السؤال عن حكم الواقعة، فيعلم
-بهذا السكوت- أنه لا حكم للشرع فيها، كما روي: أن زوجة
سعد بن الربيع -رضي =
ج / 1 ص -533-
ويجوز
تبيين الشيء بأضعف منه، كتبيين آي القرآن بأخبار الآحاد1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الله عنه- جاءت بابنتيها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-
فقالت: يا رسول الله، هاتان ابنتا سعد، قتل أبوهما معك يوم
أحد، وقد أخذ عمهما مالهما، ولا ينكحان إلا بمال، فقال
"اذهبي حتي يقضي الله فيك" فذهبت ثم نزلت آية الميراث:
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] فبعث خلف المرأة وابنتيها وعمهما، فقضى فيهم بحكم
الآية. "رواه أبو داود "2891" والترمذي "292" وابن ماجه
"2720" وأحمد "3/ 352" من حديث جابر بن عبد الله".
فدل ذلك على أن المسألة لم يكن فيها حكم شرعي قبل نزول
الآية، ومن هنا كان السكوت داخلًا تحت القاعدة المتقدمة.
1 المراد من قول المصنف: "بأضعف منه": الأضعف في الرتبة لا
في الدلالة؛ لأن تبيين اللفظ بما هو أضعف إلى أن المراد
هنا: الضعف في الرتبة بقوله: "كتبيين آي القرآن بأخبار
الآحاد".
وخلاصة آراء العلماء في مسألتنا: أنه لا خلاف بين العلماء
في جواز البيان بما هو أقوى من المبين في الرتبة -وهذا
وضح-.
ثم اختلفوا بعد ذلك على عدة مذاهب:
فذهب جمهور العلماء ومنهم أكثر الحنابلة إلى جواز البيان
بالمساوي والأضعف، وهو ما رجحه ابن قدامة؛ ولذلك لم يذكره
غيره.
وذهب بعض العلماء إلى أنه لا بد من التساوي.
ونقل عن بعضهم أنه لا بد وأن يكون أقوى من المبين.
وقد رجح كثير من العلماء مذهب الجمهور واستدلوا على ذلك
بأنه لا يلزم من ضعف الرتبة ضعف الدلالة؛ لجواز أن يكون
الأضعف رتبة أقوى دلالة، كتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد
لأنه أخص منه، فيكون أدل على الحكم.
انظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب "2/ 163"، فواتح
الرحموت "2/ 48"، شرح الكوكب المنير "3/ 450-451".
ج / 1 ص -534-
فصل: [لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة]
ولا خلاف في: أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة1.
واختلف في تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة:
قال ابن حامد والقاضي يجوز2.
وبه قال أكثر الشافعية وبعض الحنفية3.
وقال أبو بكر: عبدالعزيز4، وأبو الحسن التميمي: لا يجوز
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 صوّره بعض العلماء بقول الشارع: "صلوا غدًا" ثم لا يبن
لهم في غد كيف يصلون، وهذا هو رأي جمهور العلماء، لأن
تكليف الإنسان بما لا علم له به تكليف بما لا يطاق.
وأجاز ذلك من أجاز تكليف المحال، وعلى ذلك المعتزلة.
وقال بعض العلماء: إن القائلين بالجواز العقلي يوافقون
الجمهور على عدم الوقوع.
قال الشوكاني: "وأما من جوز التكليف بما لا يطاق، فهو يقول
بجوازه فقط، لا بوقوعه، فكان عدم الوقوع متفقًا عليه بين
الطائفتين، ولهذا نقل أبو بكر الباقلاني إجماع أرباب
الشرائع على امتناعه". إرشاد الفحول "2/ 37" تحقيق الدكتور
شعبان إسماعيل. وانظر: المعتمد "1/ 342"، والبرهان "1/
166" الإحكام لابن حزم "1/ 75".
2 انظر: العدة "3/ 725" والتمهيد "2/ 290".
3 انظر: البرهان "1/ 166" وكشف الأسرار "3/ 108".
4 هو عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد بن معروف، أبو
بكر الحنبلي، المشهور بغلام الخلال، أصولي فقهيه من
مؤلفاته: "المقنع" "توفي سنة 363هـ". =
ج / 1 ص -535-
ذلك،
وهو قول أهل الظاهر والمعتزلة1.
ووجهه ثلاثة أمور:
أحدها: أن الخطاب يراد لفائدته، وما لا فائدة فيه وجوده
كعدمه.
ولا يجوز أن يقال: "أبجد هوز" يراد به: وجوب الصلاة، ثم
يبينه فيما بعد.
والثاني: أنه لا يجوز مخاطبة العربي بالعجمية؛ لأنه لا
يفهم معناه، ولا يسمع إلا لفظه.
والثالث: أنه لا خلاف أنه لو قال: "في خمس من الإبل شاة"2:
يريد به: خمس من البقر: لم يجز؛ لأنه تجهيل في الحال3،
وإيهام لخلاف المراد.
وكذا قوله -تعالى-:
{اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}4
يوهم قتل كل مشرك، فإذا لم يبين التخصيص: فهو تجهيل في
الحال.
ولو أراد بالعشرة: سبعة: لم يجز إلا بقرينة الاستثناء.
كذلك العام، لا يجوز أن يراد به الخصوص إلا بقرينة متصلة
مبينة، فإن لم يكن بقرينة فهو تغيير للوضع.
وقال آخرون: يجوز تأخير بيان المجمل، ولا يجوز تأخير بيان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= انظر: تاريخ بغداد "10/ 459" طبقات الحنابلة "2/ 199".
1 وكذلك أبو بكر الصيرفي وأبو إسحاق المروزي "شرح الطوفي
2/ 688".
2 جزء من كتاب أبي بكر -رضي الله عنه- في الصدقات. تقدم
قريبًا.
3 أي: تجهيل للسامع، فلا يدري ما المراد.
4 سورة التوبة من الآية: 5.
ج / 1 ص -536-
التخصيص في العموم؛ فإنه يوهم العموم، فمتى أريد به
الخصوص، ولم يبين مراده: أوهم ثبوت الحكم في صورة غير
مرادة.
والمجمل بخلاف هذا، فإنه لم يفهم منه شيء1.
ولنا2 الاستدلال بوقوعه في الكتاب والسنة:
قال الله -تعالى-:
{فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}
{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ}4
وثم للتراخي5، وقال:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}6 ولم يفصّل إلا بعد السؤال7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو مذهب الكرخي من الحنفية. وهناك مذاهب أخرى، حكاها
الطوفي في شرحه "2/ 688" فقال: "وذهب بعض الأصوليين إلى
جواز تأخير الأمر دون الخبر، وذهب الجبائي وابنه، والقاضي
عبد الجبار إلى جواز تأخير بيان النسخ دون غيره، وقال أبو
الحسن البصري: ما ليس له ظاهر، كالمجمل يجوز تأخير بيانه،
وما له ظاهر، والمراد به غيره، يجوز تأخير بيانه التفصيلي،
لا الإجمالي، بأن يقول وقت الخطاب مثلًا: هذا العموم
مخصوص، ولا يجب تفصيل أحكام تخصيصه، ببيان غير المخصص،
ومقدار ما يخص منه. ثم قال: والصحيح جوازه مطلقًا".
2 بدأ المصنف يستدل للمذهب الراجح، وهو الجواز مطلقًا.
3 سورة القيامة الآيتان: 18، 19.
4 سورة هود الآية: 1.
5 فقد رتب -سبحانه- بيان القرآن على القراءة، وتفصيل
الآيات على إحكامها بـ"ثم" التي تفيد التراخي والمهلة، وقد
تقدم أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلم يبق إلا
جوازه عن وقت الخطاب.
6 سورة البقرة الآية: 67.
7 وهو: ما جاء في الآيات: 68-71 من نفس السورة.
ج / 1 ص -537-
وقال
-في خمس الغنيمة-:
{... وَلِذِي الْقُرْبَى...}1 وأراد: "بني هاشم" و"بني المطلب" ولم يبينهم، فلما منع "بني نوفل"
و"بني عبد شمس": سئل عن ذلك فقال: "إنا وبني عبد المطلب لم
نفترق في جاهلية ولا إسلام"2.
وقال لنوح:
{احْمِلْ
فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا
مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}3 فتوهم نوح -عليه السلام- أن ابنه من اهله، حتى بين الله -تعالى-
له.
وقال:
{أَقِيمُوا
الصَّلاةَ}4. وبين المراد بصلاة جبريل بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في
اليومين5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنفال من الآية: 41.
2 رواه البخاري من حديث جبير بن مطعم بلفظ:
"إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد" ورواه أبو داود حديث رقم "2980" بلفظ:
"إنا وبني المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام، وإنما نحن وهم شيء
واحد" وشبك بين
أصابعه -صلى الله عليه وسلم-.
كما رواه أحمد "4/ 81" والنسائي "7/ 130، 131" بنحوه.
انظر: صحيح البخاري "2/ 196" بحاشية السندي، نصب الراية
"1/ 221".
3 سورة هود من الآية: 40.
4 سورة البقرة: 43، 110.
5 روى نافع بن حبير بن مطعم قال: أخبرني ابن عباس -رضي
الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"أمني جبريل عند البيت مرتين، فصلى بي الظهر حيت زالت
الشمس فكانت بقدر الشراك.. الحديث" رواه أحمد حديث رقم "3081" وأبو داود "393" والترمذي "149"
وعبد الرزاق "2028" والشافعي "1/ 50" والطحاوي "1/ 146،
147" والطبراني "10753" وغيرهم. وله شاهد من حديث جابر عن
أحمد والنسائي، وصححه الحاكم "1/ 195".
ج / 1 ص -538-
وبان
المراد بقوله -تعالى-:
{وَآتُوا الزَّكَاةَ}1 بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:
"في أربعين شاة شاة"2 و"ليس فيما
دون خمسة أوسق صدقة"3.
وبان المراد بقوله
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}4 بفعله؛ لقوله:
"خُذُوا عَنَي مَناَسِكَكَُمْ"5.
والنكاح، والإرث أصلهما في الكتاب وبينهما النبي -صلى الله
عليه وسلم- متراخيا بالتدريج: من يرث، ومن لا يرث، ومن يحل
نكاحه، ومن يحرم.
وقوله -تعالى-:
{وَجَاهِدُوا}6 عام، ثم قال:
{لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى}7.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة الآيات: 43، 110 وسورة النور الآية: 56
وسورة المزمل الآية: 20.
2 جزء من حديث طويل في الصدقات عن ثمامة بن عبد الله بن
أنس أن أنسًا حدثه أن أبا بكر كتب له هذا الكتاب لما وجهه
إلى البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة الصدقة
التي فرض رسول الله على المسلمين والتي أمر الله بها
رسوله.... وفيه:
"وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين، ففيها شاة إلى عشرين
ومائة"
تقدم
تخريجه قريبًا.
3 حديث صحيح: رواه البخاري "1484" ومسلم "979" ومالك في
الموطأ "1/ 244" وأحمد في المسند "3/ 6، 30، 59، 60، 73،
73، 79، 96، 97" وأبو داود "1558" والترمذي "6261"
والنسائي "5/ 17" وابن ماجه "1793" من حديث أبي سعيد
الخدري -رضي الله عنه-.
4 سورة آل عمران من الآية: 97.
5 تقدم تخريجه قريبًا.
6 سورة المائدة من الآية: 35 وسورة الحج من الآية: 78.
7 سورة التوبة من الآية: 91.
ج / 1 ص -539-
وكل
عام أتى في الشرع ورد خصوصه بعده. وهذا لا سبيل إلى
إنكاره.
وإن تطرق الاحتمال إلى بعض هذه الاستشهادات، فلا يتطرق إلى
الجميع.
المسلك الثاني1:
أنه لا يجوز تأخير النسخ، بل يجب، والنسخ: بيان للوقت
فيجوز أن يرد بلفظ يدل على تكرار الفعل على الدوام، ثم
ينسخ بعد حصول اعتقاد اللزوم في الدوام.
أما قولهم2: "لا فائدة في الخطاب بمجمل": فغير صحيح؛ فإن
قوله -تعالى-:
{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِه}3 يعرف وجوب الإيتاء،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بعد أن أورد المصنف أمثلة من القرآن والسنة تأخر فيها
البيان عن المبين، أورد دليلًا آخر: هو: أن النسخ بيان في
الزمان، وهذا بيان في الأعيان، وقد وجب التأخير في النسخ،
فليجز ههنا. وهو حجة على من فرق بين النسخ وغيره في تأخير
البيان؛ لأن تأخير النسخ يوهم ثبوت الحكم في زمن ليس
ثابتًا في نفس الأمر، وتأخير تخصيص العام يوهم ثبوت الحكم
في صورة التخصيص، وليس ثابتًا فيها في نفس الأمر، وكلاهما
محذور، وقد التزم الخصم أحدهما، فيلزمه التزام الآخر.
انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 693".
2 بدأ المصنف يرد على أدلة مذهب المانعين من تأخير البيان
عن وقت الخطاب، فبدأ بمناقشة الوجه الأول وهو قولهم: "لا
فائدة في الخطاب بمجمل" فقال: إن له فوائد كثيرة: من وجوب
الإيتاء وغير ذلك مما ذكره المصنف، والذي عبر عنه "الطوفي"
بقوله: "الانقياد التكليفي" وهو يخالف عبارة "أبجد هوز"
حيث لا تفيد معنى أصلًا.
3 سورة الأنعام من الآية: 141.
ج / 1 ص -540-
ووقته،
وأنه حق المال، ويمكن العزم على الامتثال، والاستعداد له،
ولو عزم على تركه: عصى.
وقوله -تعالى-:
{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}1 يعرف إمكان سقوط المهر بين الزوج والولي.
فهو كالأمر إذا لم يتبين أنه للإيجاب أو للندب، وأنه على
الفور أم على التراخي، فقد أفاد اعتقاد الأصل، وإن خلا من
كمال الفائدة، وليس ذلك مستنكرًا، بل واقع في الشريعة
والعادة، بخلاف "أبجد هوز" فإنه لا فائدة فيه أصلًا.
والتسوية2 بينه -أيضًا- وبين الخطاب بالفارسية لمن لا
يفهمها، غير صحيحة لما ذكرنا3.
ثم لا يمتنع أن يخاطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جميع
أهل الآرض بالقرآن، وينذر به من بلغه من الزنج4 وغيرهم،
ويشعرهم اشتماله على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة من الآية: 237. فإن قول تعالى:
{الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} متردد بين الزوج أو ولي الزوجة.
2 هذا رد على دليلهم الثاني وهو قولهم: "لا يجوز مخاطبة
العربي بالعجمية" فقال: هذه التسوية غير صحيحة.
3 من أن مخاطبة العربي بالعجمية لا يفيد شيئًا أصلًا، لعدم
فهمه، أما المجمل: فإنه يفيد ما تقدم ذكره من: الانقياد
التكليفي، والاستعداد للامتثال وغير ذلك.
ثم على فرض وقوع ذلك، فليس في ذلك ما يمنع أن يبلغ رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- ما يوحى إليه لغير العربي عن
طريق الترجمة.
4 الزنج: طائفة من السودان تسكن تحت خط الاستواء وجنوبيه
وليس وراءهم عمارة. قال بعضهم: وتمتد بلادهم من المغرب إلى
قرب الحبشة، وبعض بلادهم على نيل مصر. "المصباح المنير 1/
256".
ج / 1 ص -541-
أوامر
يعرفهم المترجم "إياها"1.
وكيف يبعد هذا، ونحن نجوز كون المعدوم مأمورًا على تقدير
الوجود، فأمر الأعجمي على تقدير البيان أقرب، وههنا يسمى
خطابًا؛ لحصول أصل الفائدة.
وأما الثالث2: فإنما يلزم لو كان العام نصًّا في
الاستغراق، وليس3 كذلك، بل هو ظاهر، وإرادة الخصوص به من
كلام العرب4.
فمن اعتقد العموم قطعًا: فذلك لجهله، بل يعتقد أنه محتمل
للخصوص، وعليه الحكم بالعموم إن خلى والظاهر، وينتظر أن
ينبه على الخصوص.
أما إرادة السبعة بالعشرة، والبقرة بالإبل، فليس من كلام
العرب، بخلاف ما ذكرناه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه الزيادة من المستصفى.
2 هذا هو الرد على الدليل الثالث وهو قولهم: "إنه لا خلاف
أنه لو قال:
"في خمس من الإبل شاة": يريد به: في خمس من البقر: لم يجز... إلخ" فبين أن هذا إنما يلزم
إذا كانت دلالة العام دلالة قطعية، وهو أمر غير مسلم،
فدلالة العام دلالة ظنية -كما سيأتي-.
3 في الأصل "ولا" وما أثبتناه من المستصفى.
4 معناه: أن العربي قد يتكلم باللفظ العام ويريد به
الخصوص، فيقول -مثلًا- "للبنت النصف من الميراث" فيقال له:
فالبنت الرقيقة والكافرة لا ترث شيئًا فيقول: ما خطر ببالي
هذا، وإنما أردت غير الرقيقة والكافرة.
وأما إرادة السبعة بالعشرة، فليس من كلام العرب.
انظر: المستصفى "3/ 77" تحقيق الدكتور حمزة حافظ. |