روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد
بن حنبل ج / 1 ص -375-
باب: الأصل الثالث: الإجماع
فصل: ومعنى
الإجماع
في اللغة:
الاتفاق، يقال: أجمعت الجماعة على كذا: إذا اتفقوا عليه.
ويطلق بإزاء تصميم العزم، يقال: أجمع فلان رأيه على كذا:
إذا صمم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= القياس؛ فقال: فقد أوجبتم الوضوء بالنبيذ في السفر دون
الحضر، مع مخالفة ذلك لسائر المائعات استنادًا إلى ما رواه
أبو داود "84" والترمذي "88" وابن ماجه "84" وأحمد "1/ 49،
150".
عن ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له ليلة
الجن: "ما في إداوتك؟" قال: نبيذ قال: "تمرة طيبة وماء
طهور" وقد نص العلماء على ضعف الحديث من عدة طرق، منها: أن
ابن مسعود لم يكن مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه
الليلة: انظر: "نصب الراية 1/ 138-141".
كما أبطلتم الوضوء بالقهقهة داخل الصلاة دون خارجها، بما
روي عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: ".... بينما
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلى بالناس، إذ دخل رجل،
فتردى في حفرة كانت في المسجد، وكان في بصره ضرر، فضحك
كثير، من القوم وهم في الصلاة، فأمر رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- من ضحك أن يعيد الوضوء ويعيد الصلاة" أخرجه
الطبراني، والهيثمي في مجمع الزوائد "1/ 246".
وهو حديث في إسناده ثلاثة رواة متكلم فيهم. "نصب الراية 1/
47".
كما أخذتم بحديث القسامة، وهي عبارة عن أيمان تقسم على
أولياء القتيل إذا ادعوا الدم وليس لهم بينة، وهو حديث
صحيح أخرجه البخاري في الديات، ومسلم في كتاب القسامة، كما
أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهم.
وحديث القسامة مخالف لسائر الدعاوى، لأن اليمين يبدأ فيها
بالمدعي قبل المدعى عليه. ومعنى هذا كله: أن الحنفية بذلك
أخذوا بخبر الواحد فيما يخالف الأصول.
ج / 1 ص -376-
عزمه
عليه1.
قال الله -تعالى-:
{فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُم}2.
ومعنى الإجماع في الشرع: اتفاق علماء العصر من أمة محمد
-صلى الله عليه وسلم- على أمر من أمور الدين3.
[إمكان وجود الإجماع وتصوره]
ووجوده متصور:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: القامو س المحيط "3/ 15" والمصباح المنير "1/
171".
2 سورة يونس من الآية: 71.
3 جمهور الأصوليين يقولون في تعريفه: "اتفاق مجتهدي العصر
من هذه الأمة على أمر ديني بعد وفاة النبي -صلى الله عليه
وسلم-".
وعرفه الآمدي بقوله: "هو اتفاق جملة أهل الحل والعقد من
أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- في عصر ما على حكم واقعة من
الوقائع".
وقريب منه تعريف القرافي.
والمراد بالاتفاق: الاشتراك في القول، أو الفعل، أو
الاعتقاد.
والمراد بأهل الحل والعقد: المجتهدين -كما قال الجمهور-.
وقول الآمدي: "اتفاق جملة أهل الحل والعقد: فيه احتراز من
اتفاق البعض فلا يكون إجماعًا.
وفائدة قولهم: "من أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-" إخراج
اتفاق بقية الأمم، فإنه ليس إجماعًا معتبرًا، لأنهم قد
يتفقون على الباطل، ومن هنا جاءت الأحاديث في عصمة هذه
الأمة من الاتفاق على الباطل أو الخطأ. كما سيأتي في حجية
الإجماع.
انظر: في تعريف الإجماع: "العضد على ابن الحاجب 2/ 29، شرح
تنقيح الفصول ص322، الإحكام للآمدي 1/ 196، شرح مختصر
الروضة 2/ 6".
ج / 1 ص -377-
فإن
الأمة مجمعة على وجوب الصلوات الخمس، وسائر أركان الإسلام.
وكيف يمتنع تصوره؛ والأمة كلها متعبدة بالنصوص والأدلة
القواطع، معرضون للعقاب بمخالفتها؟
وكما لا يمتنع اتفاقهم على الأكل والشرب: لا يمتنع اتفاقهم
على أمر من أمور الدين.
وإذا جاز اتفاق اليهود -مع كثرتهم- على باطل: فلم لا يجوز
اتفاق أهل الحق عليه1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مسألة إمكان وقوع الإجماع للعلماء فيها ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: أنه يمكن انعقاده، بل ووقع فعلًا في كل
العصور، وهو مذهب جمهور العلماء.
المذهب الثاني: أنه غير ممكن عادة، لا عقلًا، وهو رأي
النظام وبعض الشيعة وبعض المعتزلة.
المذهب الثالث: أنه ممكن الوقوع باعتبار ذاته، ولكنه متعذر
باعتبار نقله، وهو مروي عن الإمام أحمد، كما روي عنه إمكان
ذلك ووقوعه في عصر الصحابة فقط، لإمكان الاطلاع عليه
ونقله.
وقد استدل المصنف للمذهب الأول: بأن الإجماع قد وقع،
والوقوع يستلزم الجواز، أي يدل عليه، ومثل لذلك بالإجماع
على الصلوات الخمس وسائر أركان الإسلام، فإنه لا خلاف بين
المسلمين في وجوب ذلك، وكيف يمتنع تصور ذلك والأمة كلها
متعبدة باتباع النصوص والأدلة القاطعة، ومعرضون للعقاب إذا
خالفوها.
فكما لا يمتنع اتفاقهم واجتماعهم على أمر من أمور الدنيا،
كالأكل والشرب لا يمتنع اتفاقهم على أمر من أمور الدين،
وإذا جاز اتفاق أهل الباطل على شيء، فمن باب أولى اتفاق
أهل الحق.
ج / 1 ص -378-
[كيف يعرف الإجماع]
ويعرف الإجماع بالإخبار، والمشافهة، فإن الذين يعتبر قولهم
في الإجماع: هم العلماء المجتهدون، وهم مشتهرون معروفون،
فيمكن تعرف أقوالهم من الآفاق1.
[موقف العلماء من حجية الإجماع]
والإجماع حجة قاطعة عند الجمهور2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا رد على سؤال مقدر يمكن أن يرد من المنكرين لإمكان وقوع
الإجماع، مفاده: أن الإجماع يتعذر وجوده لعدة أسباب:
أولًا: انتشار المجتمعين شرقًا وغربًا، وجواز خفاء بعضهم،
بأن يكون أسيرًا أو محبوسًا، أو أن يكون خامل الذكر غير
معروف.
ثانيًا: احتمال الكذب، فإن البعض قد يفتي على خلاف ما
يعتقد خوفًا من سلطان جائر، أو بقصد التقرب إليه للوصول
إلى منصب مرموق.
ثالثًا: احتمال رجوع بعضهم قبل الإجماع.
فأجاب المصنف على هذه الاحتمالات: بأن ذلك يعرف بالأخبار
التي تنقل عن العلماء، أو المشافهة، خاصة وأن الذين يصلون
إلى درجة الاجتهاد قليلون ومشهورون.
هذا معنى ما قاله المصنف وغيره.
وقد نقل "ابن بدران" عن أبي المعالي أنه قال: "والإنصاف
أنه لا طريق لنا إلى معرفة الإجماع إلا من زمن الصحابة"
ولعل هذا هو الذي جعل الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- يقول:
"من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، وما يدريه،
ولم ينته إليه، فليقل: لا نعلم الناس اختلفوا".
انظر: إعلام الموقعين "1/ 30" نزهة الخاطر العاطر جـ1
ص335، أصول مذهب الإمام أحمد ص322.
2 للعلماء في نوع حجية الإجماع ثلاثة مذاهب: =
ج / 1 ص -379-
وقال
النظام1: ليس بحجة2.
وقال: "الإجماع: كل قول قامت حجته" ليدفع عن نفسه شناعة
قوله، وهذا خلاف اللغة والعرف3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المذهب الأول: أنه حجة قطعية تحرم مخالفته، وهو رأي
الجمهور كما قال المصنف.
المذهب الثاني: أنه حجة ظنية، وهو رأي بعض العلماء،
كالإمام الرازي، والآمدي وغيرهما.
المذهب الثالث: أنه حجة قطعية إذا اتفق عليه المعتبرون،
أما إذا لم يتفقوا، بأن كان إجماعًا سكوتيًّا، أو يندر
مخالفه كان حجة ظنية. انظر: "فواتح الرحموت 2/ 213،
التقرير والتحبير 3/ 83، الإحكام للآمدي 1/ 144".
1 هو: إبراهيم بن يسار بن هانئ، أبو إسحاق البصري،
المعتزلي، كان أديبًا متكلمًا، وهو أستاذ الجاحظ، تنسب
إليه اقوال غريبة، كما كان شديد الحفظ، حفظ القرآن
والتوراة والإنجيل، وطالع كتب الفلاسفة، وخلط كلامهم بكلام
المعتزلة، من مؤلفاته "النكت" في عدم حجية الإجماع. توفي
سنة 231هـ.
انظر: فرق وطبقات المعتزلة ص59، تأريخ بغداد "6/ 97".
2 وهو رأي بعض الشيعة وبعض المعتزلة.
وقالت الإمامية: إن كان فيه قول الإمام المعصوم فهو حجة،
وإلا فلا. وهذا في الواقع خارج عن الإجماع، لأن الحجة
عندهم في قول الإمام، باعتبار أنه معصوم حسب عقيدتهم.
انظر: المعتمد "2/ 458".
3 يعنى: أن النظام لما أحس بشناعة رأيه عرف الإجماع بما
ذكره المصنف، وهو تعريف غير صحيح من ناحية اللغة والعرف
الشرعي.
فصل: [الأدلة
على حجية الإجماع]
ولنا دليلان1:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي طريقان أو مسلكان، أحدهما من القرآن، والثاني من
السنة.
ج / 1 ص -380-
أحدهما: قول الله -تعالى-:
{وَمَنْ
يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ
الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ
نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ
مَصِيرًا}1 وهذا يوجب اتباع سبيل المؤمنين، ويُحرِّم مخالفتهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء الآية: 115. والمصنف لم يكمل الآية، وقد
أكملتها تبعًا للغزالي حتى يظهر وجه الشاهد من الآية وهو:
الوعيد على مشاقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- أي مخالفته،
واتباع غير سبيل المؤمنين.
قال الشوكاني: "ووجه الدلالة من الآية: أن الله -تعالى-
جمع بين مشاقة الرسول -صلى الله عليه وسلم- واتباع غير
سبيل المؤمنين في الوعيد، فلو كان اتباع غير سبيل المؤمنين
مباحًا، لما جمع بينه وبين المحظور، فثبت أن متابعة غير
سبيل المؤمنين عبارة عن: متابعة قول أو فتوى يخالف قولهم
أو فتواهم، وإذا كانت تلك محظورة وجب أن تكون متابعة قولهم
وفتواهم واجبة" "إرشاد الفحول جـ1 ص293، 294".
والغزالي -كغيره من العلماء- أورد العديد من الآيات الدالة
على حجية الإجماع هي:
قوله تعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ...} [البقرة: 143].
وقوله تعالى:
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ...} [آل عمران: 110].
وقوله تعالى:
{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ
يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181].
وقوله تعالى:
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا
تَفَرَّقُوا...} [آل عمران: 103].
وقوله تعالى:
{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى
اللَّه...} [الشورى: 10].
وقوله تعالى:
{... فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59].
ثم قوله: فهذه كلها ظواهر لا تنص على الغرض، بل لا تدل
-أيضًا- دلالة الظواهر. وأقواها قوله تعالى:
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ.....}
الآية. انظر: "المستصفى جـ2 ص298، 299".
ج / 1 ص -381-
فإن
قيل1: إنما توعّد على مشاقة الرسول -صلى الله عليه وسلم-
وترك اتباع سبيل المؤمنين معًا، أو على ترك أحدهما بشرط
ترك الآخر، فالتارك لأحدهما بمفرده لا يلحق به الوعيد.
ومن وجه آخر: وهو أنه إنما ألحق الوعيد لتارك سبيلهم إذا
بان له الحق فيه؛ لقوله تعالى:
{مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى}
والحق -في هذه المسألة- من جملة "الهدى" فيدخل فيها.
ويحتمل: أنه توعد على ترك سبيلهم فيما صاروا فيه مؤمنين.
ويحتمل: أنه أراد بالمؤمنين: جميع الأمة إلى قيام الساعة،
فلا يحصل الإجماع بقول أهل عصر.
ولأن المخالف من جملة المؤمنين، فلا يكون تاركًا لاتباع
سبيلهم بأسرهم.
ولو قدر أنه لم يرد شيء من ذلك، غير أنه لا ينقطع
الاحتمال، والإجماع أصل لا يثبت بالظن2.
قلنا3: التوعد على الشيئين يقتضي أن يكون الوعيد على كل
واحد منهما منفردًا، أو بهما معًا.
ولا يجوز أن يكون لاحقًا بأحدهما معينًا، والآخر لا يلحق
به
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بدأ المصنف يورد الاعتراضات التي قالها المخالفون على
الاستدلال بالآية الكريمة.
2 خلاصة هذا الاعتراض: أن النص ليس بقاطع، لأن قوله تعالى:
{وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِين} يحتمل وجوهًا كثيرة، منها ما ذكره، إذا وجد الاحتمال لم يكن النص
قطعيًّا، وإنما كان ظنيًّا، والإجماع أصل من الأصول العامة
فلا يثبت بطريق الظن.
3 بدأ المصنف يرد على الاعتراضات السابقة.
ج / 1 ص -382-
وعيد،
كقول القائل: "من زنا أو شرب ماء عوقب".
وهذا لا يدخل في القسم الثاني1 لأن مشاقة الرسول بمفردها
تثبت العقوبة، فثبت أنه من القسم الأول2.
وأما الثاني3: فلا يصح؛ فإنه توعد على اتباع غير سبيل
المؤمنين مطلقًا من غير شرط.
وإنما ذكر تبين الهدي عقيب قوله تعالى:
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} وليس بشرط لإلحاق الوعيد على مشاقة الرسول اتفاقًا، فلأن لا يكون
شرطًا لترك اتباع سبيل المؤمنين -مع أنه لم يذكر معه-
أولى.
وأما الثالث4: فنوع تأويل، وحمل اللفظ على صورة واحدة.
"وأما الرابع5: فإن مطلق الاحتمال لا يؤثر في نفس كونه من
الأدلة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو: أن يكون على كل منهما معًا.
2 وهو: أن يكون الوعيد على كل منهما منفردًا.
3 أي الرد على الاعتراض الثاني وهو قوله: "أنه إنما ألحق
الوعيد لتارك سبيلهم إذا بان له الحق" وخلاصة الرد بوجهين:
أحدهما: لا نسلم أن كل ما كان شرطًا في المعطوف عليه أن
يكون شرطًا في المعطوف، لأن العطف لا يقتضى سوى التشريك في
مقتضى العامل إعرابًا ومدلولًا.
ثانيهما: لو سلمنا أن الشرط في المعطوف عليه شرط في
المعطوف، فإن ذلك لا يضرنا، فإنه لا نزاع في أن "الهدى"
المشروط في تحريم المشاقة إنما هو دليل التوحيد والنبوة،
لا أدلة الأحكام الفرعية، فيكون "الهدى" شرطًا في اتباع
غير سبيل المؤمنين ونحن نسلم به.
4 أي الاعتراض الثالث: وهو: "ويحتمل أنه توعد على ترك
سبيلهم فيما صاروا به مؤمنين".
5 أي الاعتراض الرابع وهو قوله "ولو قدر أنه لم يرد شيء من
ذلك".
ج / 1 ص -383-
الأصلية؛ إذ ما من دليل إلا ويتطرق إليه الاحتمال، فإن
النص يحتمل أن يكون منسوخًا، والعام يجوز أن يكون مخصوصًا،
وهذا وشبهه لم يمنع كونه من الأصول، كذا ههنا"1.
الدليل الثاني: من السنة2:
قول النبي -صلى الله عليه وسلم-
"لا تجتمع أمتي على ضلالة"3.
وروي:
"لا تجتمع على خطأ". وفي لفظ
"لم يكن الله ليجمع هذه الأمة على خطأ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين القوسين من النسخة التي حققها الدكتور عبد الكريم
النملة -يحفظه الله-.
2 المسلك الثاني على حجية الإجماع: أن الإجماع صادر عن
مجموع الأمة، والأمة معصومة، والمعصوم لا يصدر عنه إلا
الصواب.
أما أن الأجماع صادر عن مجموع الأمة، فلما سبق في تعريفه،
من أنه اتفاق مجتهدي الأمة إلخ. والمجتهدون قائمون مقام
الأمةإ إذ إليهم إبرام أمورهم ونقضها، ولذلك جاء في بعض
التعريفات أنه: "اتفاق أهل الحل والعقد".
وأما أن الأمة معصومة عن الخطأ، أو الضلال: فلأن الأخبار
النبوية في عصمتها بلغت حد التواتر المعنوي، لاختلاف
ألفاظها، واشتراكها في الدلالة على أمر واحد، وهو: نفي
الخطأ عنها.
انظر: شرح المختصر "3/ 18، 19".
3 هذا الحديث روي بألفاظ مختلفة مرفوعًا من حديث عبد الله
بن عمر -رضي الله عنهما- أخرجه عنه الترمذي: كتاب الفتن،
باب لزوم الجماعة بلفظ: "إن الله لا يجمع أمتي، أو قال:
أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- على ضلالة، ويد الله مع
الجماعة، ومن شذ شذ في النار" ثم قال: هذا الحديث غريب من
هذا الوجه.
كما رواه الحاكم في المستدرك: كتاب العلم "1/ 115، 116".
وأخرجه أبو داود: كتاب الفتن، باب ذكر الفتن ودلائلها عن
أبي مالك الأشعري. وابن ماجه في كتاب الفتن، باب السواد
الأعظم، من حديث أنس بن مالك. =
ج / 1 ص -384-
وقال:
"ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحًا
فهو عند الله قبيح"1.
وقال: "من فارق الجماعة شبرًا فقد خلع ربقة2 الإسلام من
عنقه"3
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= كما روي بأسانيد أخرى كثيرة بعضها مرفوع وبعضها موقوف،
وبعضها ضعيف.
يراجع في ذلك: مجمع الزوائد "1/ 177" و"5/ 217" ونصب
الراية "4/ 133".
1 هذا جزء من حديث موقوف على عبد الله بن مسعود -رضي الله
عنه- أخرجه الإمام أحمد في مسنده "1/ 379" ولفظه: "إن الله
نظر في قلوب العباد فوجد في قلب محمد -صلى الله عليه وسلم-
خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر
في قلوب العباد، بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب
العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه
المسلمون حسنًا فهوعند الله حسن، وما رأوه سيئًا فهو عند
الله سيّء" وأخرجه عنه الحاكم -موقوفًا- في كتاب معرفة
الصحابة، باب فضائل أبي بكر -رضي الله عنه-. ثم قال: "حديث
صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأخرجه البزار بسنده في باب
الإجماع من كتاب كشف الأستار عن زوائد البزار للهيثمي "1/
88".
قال الهيثمي في مجمع الزوائد "1/ 177، 178": "رواه أحمد
والبزار والطبراني في الكبير ورجاله موثقون".
والحديث وإن كانت له روايات متعددة، إلا أن الصحيح أنه
موقوف على ابن مسعود -رضي الله عنه-.
انظر: المقاصد الحسنة ص367".
2 قال ابن الأثير في النهاية "2/ 62": "الربقة في الأصل:
عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها،
فاستعارها للإسلام، يعني: ما يشد به المسلم نفسه من عرى
الإسلام: أي: حدوده وأحكامه وأوامره ونواهيه".
3 هذا الحديث رواه أبو ذر -رضي الله عنه- مرفوعًا: أخرجه
عنه أبو داود: كتاب =
ج / 1 ص -385-
و "من
فارق الجماعة مات ميتة جاهلية"1.
وقال: "عليكم بالسواد الأعظم".
وقال: "ثلاث لا يغل3 عليهن قلب المسلم: إخلاص العمل لله،
والمناصحة لولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= السنة، باب قتل الخوارج، وأحمد في المسند "5/ 180" كما
أخرجه عن الحارث الأشعري -رضي الله عنه- مرفوعًا بلفظ قريب
منه، وأخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب الصوم، عن الحارث-
أيضًا- وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
1 حديث صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الفتن، باب قول النبي
-صلى الله عليه وسلم-:
"سترون بعدي أمورًا تنكرونها" من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ولفظه:
"من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه، فإن من فارق الجماعة شبرًا
فمات، إلا مات ميتة جاهلية"
كما أخرجه في كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام، ما
لم يكن معصية.
كما أخرجه مسلم: كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة
المسلمين.
وهو مخرج -أيضًا- عند أحمد والدارمي والنسائي وغيرهم.
2 المراد بالسواد الأعظم: جملة الناس ومعظمهم الذين
يجتمعون على طاعة السلطان، وسلوك النهج السليم "النهاية
لابن الأثير 2/ 191" والحديث تقدم تخريجه ضمن روايات حديث
"لا تجتمع أمتي على ضلالة".
3 يغل: بضم الياء وكسر الغين، من الإغلال وهو الخيانة،
وروي "يغل" بفتح الياء، من الغل وهو الحقد. كما روي "يغل"
بفتح الياء وكسر الغين وتخفيف اللام من الوغول، وهو الدخول
في الشيء. "النهاية 3/ 168".
4 هذا جزء من حديث أخرجه الترمذي: كتاب العلم، باب ما جاء
في الحث على تبليغ السماع عن ابن مسعود -رضي الله عنه-
مرفوعًا بسند صحيح أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"نضر الله
عبدًا سمع مقالتي فحفظها ووعاها ثم أداها إلى من لم
يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو
أفقه منه، ثلاث لا يغل عليهن..."
ورواه أحمد في المسند "4/ 80" والحاكم في =
ج / 1 ص -386-
ونهى
عن الشذوذ1 وقال:
"مَن شَذًٌ شَذٌ فلي النٌار"2.
وقال: "لا تزال
طائفة من أمتى على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر
الله"3.
وقال:
"من أراد
بحبوحة4 الجنة فليلزم الجماعة؛ فإن الشيطان مع الواحد وهو
من الاثنين أبعد"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المستدرك وابن ماجه: كتاب المناسك، باب الخطبة يوم
النحر: "3056" عن جبير بن مطعم، كما رواه أبو داود وابن
ماجه عن زيد بن ثابت. انظر: مشكاة المصابيح "1/ 78" ومجمع
الزوائد "1/ 139".
1 الشذوذ: الانفراد والمقارنة، والمقصود: مفارقة جماعة
المسلمين.
2 تقدم تخريجه.
3 حديث صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الاعتصام، باب قول النبي
-صلى الله عليه وسلم-:
"لا تزل طائفة من أمتى ظاهرين على الحق" عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- ولفظه:
"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون".
كما أخرجه مسلم: كتاب الإمارة، باب لا تزال طائفة من أمتي
ظاهرين.
وأخرجه أبو داود في أول كتاب الفتن عن ثوبان -رضي الله
عنه-، وكذلك الترمذي وأحمد في المسند "5/ 278".
4 بحبوحة الجنة: أي وسطها. يقال: بحبوحة الدار: وسطها،
ويقال: تبحبح الرجل، وبحبح: إذا تمكن من الحلول والمقام
وتوسط المنزل.
5 حديث صحيح أخرجه الشافعي في الرسالة ص474، وأحمد في
المسند "14/ 18، 26" والترمذي حديث "2166" وابن ماجه
"2363" وابن حبان "2282" والحاكم "1/ 18، 4/ 1" من حديث
عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وأبي الدرداء مرفوعًا
بألفاظ مختلفة. انظر: شرح البغوي "3/ 347".
ج / 1 ص -387-
وهذه
الأخبار لم تزل ظاهرة مشهورة في الصحابة والتابعين، لم
يدفعها أحد من السلف والخلف.
وهي وإن لم تتواتر آحادها، حصل لنا بمجموعها العلم
الضروري: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عظم شأن هذه
الأمة، وبين عصمتها عن الخطأ1.
وبمثل ذلك نجد أنفسنا مضطرين إلى تصديق شجاعة "علي" وسخاء
"حاتم" 2 وعلم "عائشة"، وإن لم يكن آحاد الأخبار فيها
متواترًا، بل يجوز على كل واحد منها الكذب لو جرّدنا النظر
إليه، ولا يجوز على المجموع.
ويشبه ذلك: ما يحصل فيه العلم بمجموع قرائن آحادها لا ينفك
عن الاحتمال، ويحصل بمجموعها العلم الضروري.
ومن وجه آخر3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خلاصة ما يريده المصنف من ذلك: أن هذه الأخبار الكثيرة
التي أوردها على حجية الإجماع ظاهرة ومشهورة عند الصحابة
والتابعين، وهي وإن كانت لم تبلغ حد التواتر اللفظي، إلا
أنها إذا انضم بعضها إلى بعض وصلت إلى التواتر المعنوي،
كتواتر شجاعة "علي" -رضي الله عنه- وجود "حاتم الطائي"
وعلم السيدة "عائشة" أم المؤمنين -رضي الله عنها- فهذه
الأخبار لو كانت منفردة لجاز عليها الكذب، بخلاف ما لو
كانت مجتمعة فإنها تفيد العلم الضروري.
2 هو: حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج، المشهور بحاتم
الطائي، نسبة إلى قبيلة "طيئ" كان جوادًا مشهورًا بالكرم،
شاعرًا جيد الشعر، مات سنة 45 قبل الهجرة.
انظر: الشعر والشعراء لابن قتيبة "1/ 241" تهذيب ابن عساكر
"3/ 320 وما بعدها".
3 خلاصة ذلك: أن المصنف يريد أن يقول: إن دلالة الأحاديث
المتقدمة على حجية الإجماع من ثلاثة وجوه:
ج / 1 ص -388-
أن هذه
الأحاديث لم تزل مشهورة بين الصحابة والتابعين يتمسكون بها
في إثبات الإجماع، ولا يظهر فيه أحد خلافًا إلى زمن
النظام.
ويستحيل في مطرد العادة ومستقرها توافق الأمم في أعصار
مطردة على التسليم لما لم تقم الحجة بصحته، مع اختلاف
الطباع، وتباين المذاهب في الرد والقبول.
ولذلك: لم ينفك حكم ثبت بأخبار الآحاد عن خلاف مخالف،
وإبداء تردد فيه.
ومن وجه آخر:
أن المحتجين بهذه الأخبار أثبتوا بها أصلًا مقطوعًا به
وهو: الإجماع الذي يحكم على كتاب الله وسنة رسوله.
ويستحيل في العادة التسليم بخبر يرفعون به، الكتاب المقطوع
به إلا إذا استند إلى سند مقطوع به.
أما رفع المقطوع بما ليس بمقطوع فليس معلومًا، حتى لا
يتعجب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الوجه الأول: ما تقدم من أن هذه الأحاديث ظاهرة الدلالة
على حجية الإجماع منذ عصور الصحابة والتابعين، وهي وإن لم
تتواتر لفظيًّا إلا أنها تفيد التواتر المعنوي كما تقدم.
الوجه الثاني: أن هذه اأحاديث تمسك بها الصحابة والتابعون،
ولم يظهر أحد فيها خلافًا إلى زمن النظام، فهو الذي بدأ في
إنكار حجية الإجماع، ويستحيل اطراد مثل ذلك إلا إذا كان
حجة.
الوجه الثالث: أن المحتجين بهذه الأحاديث أثبتوا بها أصلًا
مقطوعًا به يحكم به على كتاب الله تعالى وسنة رسوله -صلى
الله عليه وسلم- فلا بد وأن يكون مستندًا، إلى دليل قطعي.
هذا معنى كلامه، وفيه نظر يطول شرحه.
ج / 1 ص -389-
متعجب،
ولا يقول قائل: كيف ترفعون الكتاب القاطع بإجماع مستنده
إلى خبر غير معلوم الصحة؟!
وكيف يذهل عنه جميع الأمة إلى زمن النظام فيختص بالتنبيه
له؟ هذا وجه الاستدلال1.
فصل: ولا يشترط في أهل الإجماع أن يبلغوا عدد التواتر؛
لأن الحجة في قولهم، لصيانة الأمة عن الخطأ بالأدلة
المذكورة، فإذا لم يكن على الأرض مسلم سواهم، فهم على الحق
يقينًا، صيانة لهم عن الاتفاق على الخطأ2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي وجه الاستدلال بالأحاديث المتقدمة على حجية الإجماع،
وهي من ثلاثة أوجه -كما تقدم-.
2 خلاصة ذلك: أنه لا يشترط لصحة الإجماع أن يبلغ المجمعون
عدد التواتر كما لا يشترط ذلك في الدليل السمعي، لأن
المقصود اتفاق مجتهدي العصر، وقد حصل، ولا دخل للعدد فيه.
ونقل عن بعض العلماء أنه يشترط التواتر، ومنهم: أبو بكر
الباقلاني، وإمام الحرمين، وابن السبكي.
هكذا ورد في بعض الكتب مثل: شرح تنقيح الفصول ص341، شرح
الكوكب المنير "2/ 252".
إلا أن الغزالي وغيره من العلماء يفرقون بين من أخذ حجية
الإجماع من دليل العقل، وبين من أخذ من الدليل السمعي.
فإذا كان من دليل العقل فيلزم اشتراط التواتر، وإذا كان من
السمع ففيه مذهبان:
أحدهما: اشتراط ذلك.
وثانيهما: عدم الاشتراط. =
ج / 1 ص -390-
فصل: [في المعتبرين في الإجماع]
ولا اختلاف في اعتبار علماء العصر من أهل الاجتهاد في
الإجماع وأنه لا يعتد بقول الصبيان والمجانين.
فأما العوام:
فلا يعتبر قولهم عند الأكثرين.
وقال قوم: يعتبر قولهم؛ لدخولهم في اسم "المؤمنين" ولفظ
الأمة1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأورد أدلة كل فريق ورجح عدم الاشتراط كما يقول الجمهور.
راجع في هذه المسألة: "البرهان 1/ 680، 691، المستصفى 2/
351 وما بعدها، بيان المختصر للأصفهاني 1/ 573-575".
1 خلاصة هذا الفصل: أن كل واحد من الأمة، إما أن يكون
مجتهدًا أو لا، فإن كان مجتهدًا فلا خلاف في اعتبار
موافقته، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد، فإما أن يكون غير
مكلف، وإما أن يكون مكلفًا، فإن كان غير مكلف فلا خلاف في
عدم اعتبار، وموافقته كالصبي والمجنون.
وإن كان مكلفًا كالعوام، وطلبة العلم الذين لم يصلوا إلى
درجة الاجتهاد، فهؤلاء لا يعتبر قولهم من الإجماع، وهذا هو
رأي جمهور العلماء، ومنهم الأئمة الأربعة:
وذهب بعض العلماء إلى اعتبار قولهم في الإجماع، كأبي بكر
الباقلاني والآمدي.
ومنهم من قال: يعتبر قولهم في المسائل المشهورة والمعلومة
من الدين بالضرورة.
ومن الأدلة التي استند إليها هؤلاء: أن اسم "المؤمنين"
و"الأمة" يشمل العوام، كما يشمل المجتهدين. وأجيب عنه: بأن
العامي خص من هذا العموم، كما خص الصبي والمجنون. =
ج / 1 ص -391-
وهذا
القول يرجع إلى إبطال الإجماع؛ إذ لا يتصور قول الأمة كلهم
في حادثة واحدة.
وإن تصوّر: فمن الذي ينقل قول جميعهم، مع كثرتهم وتفرقهم
في البوادي والأمصار والقرى؟!
ولأن العامي ليس له آلة هذا الشأن1، فهو كالصبي في نقصان
الآلة، ولا يفهم من عصمة الأمة عن الخطأ: إلا عصمة من
تتصور منه الإصابة لأهليته.
والعامي إذا قال قولًا: علم أنه يقوله عن جهل، وليس يدري
ما يقول.
ولهذا انعقد الإجماع على أنه يعصي بمخالفة العلماء، ويحرم
عليه ذلك.
ولذلك ذم النبي -صلى الله عليه وسلم- الرؤساء الجهال الذين
أفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا2.
وقد وردت أخبار كثيرة بإيجاب المراجعة للعلماء، وتحريم
الفتوى بالجهل والهوى3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= انظر: "آراء العلماء وأدلتهم في: شرح الكوكب المنير 2/
252، شرح مختصر الروضة 3/ 31 وما بعدها، العدة 4/ 113".
1 وهي أهليته للنظر والاجتهاد.
2 يشير بذلك إلى الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم
وغيرهما، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا من الناس، ولكن يقبض
العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم -أو لم يُبق
عالمًا- اتخذ الناس رؤساء -وفي بعض الروايات رءوسًا-
جهالًا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا".
3 مثل قوله تعالى:
{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] =
ج / 1 ص -392-
فصل: [فيمن يعتبر في الإجماع من أصحاب العلوم]
ومن يعرف من العلم ما لا أثر له في معرفة الحكم، كأهل
الكلام، واللغة، والنحو ودقائق الحساب: فهو كالعامي لا
يعتد بخلافه، فإن كل أحد عامي بالنسبة إلى ما لم يحصل
علمه، وإن حصل علمًا سواه1.
فأما الأصولي الذي لا يعرف تفاصيل الفروع، والفقيه الحافظ
لأحكام الفروع، من غير معرفة بالأصول، أو النحوي إذا كان
الكلام في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و [الأنبياء: 7] وقوله تعالى:
{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي
الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ...} [النساء: 83].
وروى جابر بن عبد الله قال: "خرجنا في سفر، فأصاب رجلًا
منا حجر، فشجه في رأسه، ثم احتلم، فسأل أصحابه فقال: هل
تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر
على الماء، فاغتسل فمات. فلما قدمنا على النبي -صلى الله
عليه وسلم- أخبر بذلك، فقال:
"قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء
العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتمم ويعصر -أو يعصب- على
جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده" أخرجه أبو داود "336" وابن ماجه "572" والدارمي "1/ 157" وأحمد
"3056" والطبراني "11472" وله طرق أخرى كثيرة.
1 وهو رأي الجمهور العلماء. قال الطوفي: "ويعتبر في إجماع
كل فن قول أهله، كالفقيه في الفقه، والأصولي في الأصول،
والنحوي في النحو، والطبيب في الطب، إذ غير أهل ذلك الفن،
بالإضافة إلى ذلك الفن عامة".
ثم قال: "وعلى قول القاضي أبي بكر ينبغي أن يعتبر في
الإجماع في فن إجماع أهل سائر الفنون؛ لأن أسوا أحوالهم أن
يكونوا كالعامة، وهو يعتبر قولهم" شرح المختصر "3/ 36".
ج / 1 ص -393-
مسألة
تنبني على النحو: فلا يعتد بقولهم -أيضًا-.
وقال قوم: لا ينعقد الإجماع بدونهم؛ لأن الأصولي -مثلًا-
العارف بمدارك الأحكام، وكيفية تلقيها من المفهوم
والمنطوق، وصيغة الأمر والنهي، والعموم: متمكن من درك
الأحكام إذا أراد، وإن لم يحفظ الفروع1.
وآية ذلك2: أن
"العباس"3........................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله "فأما الأصولي... إلخ" هذا متفرع على مسألة تجزؤ
الاجتهاد، فمن أجاز ذلك أجاز أن يكون قول هؤلاء معتبرًا،
لأن كلًّا منهم وإن لم يكن أهلًا للاجتهاد في جميع
المسائل، لكنه أهل للاجتهاد في بعضها، مثل: أن يبني
الأصولي وجوب الزكاة على أن الأمر للفور، ويبني النحوي
مسائل الشرط في الطلاق على باب الشرط والجزاء. ومن منع
تجزؤ الاجتهاد منع ذلك.
قال الطوفي: "والأشبه بالصواب، وما دل عليه الدليل، اعتبار
قول الأصولي والنحوي فقط، دون الفقيه الصرف؛ لتمكّنهما من
إدراك الحكم بالدليل، هذا بقواعد الأصول، وهذا بقواعد
العربية، لأن علمهما من مواد الفقه وأصوله، فيتسلطان به
عليه، ولأن مباحث الأصول والعربية عقلية، وفيهما من
القواطع كثير، فيتنقح بهما الذهن، ويقوى بهما استعداد
النفس لإدراك التصورات والتصديقات حتى يصير لها ذلك ملكة،
فإذا توجهت إلى الأحكام الفقهية أدركتها".
المصدر السابق ص39.
2 يقصد بذلك: الاستدلال على أنه يعتد بخلاف من لم يصل إلى
درجة من العلم كما وصل بعض الصحابة، وأجرى مقارنة بين
العباس، وطلحة، والزبير، وبين العبادلة: كعبد الله بن
عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وزيد
بن ثابت ومعاذ بن جبل، وبعضهم كان من أهل الشورى الذين
عينهم عمر بن الخطاب، كعبد الله بن عمر وغيره.
3 هو: العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، كان من
أكابر قريش في =
ج / 1 ص -394-
و
"طلحة"1 و"الزبير" ونظراءهم ممن لم ينصب نفسه للفتيا نصب
العبادلة، وزيد بن ثابت ومعاذ: يعتد بخلافهم.
وكيف لا يعتد بهم وهم يصلحون للإمامة العظمى، وقد سمّي
بعضهم في الشورى، ولم يكونوا يحفظون الفروع، بل لم تكن
الفروع موضوعة بعد.
لكن عرفوا الكتاب والسنة، وكانوا أهلًا لفهمهما.
والحافظ للفروع قد لا يحفظ دقائق مسائل الحيض والوصايا،
فأصل هذه الفروع لأصل هذه الدقائق.
ولنا3: أن من لا يعرف الأحكام لا يعرف النظير فيقيس عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الجاهلية، وفي الإسلام. توفي سنة 32هـ "صفة الصفوة 1/
203".
1 هو: طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو، القرشي،
التيمي، شهد أحدًا وما بعدها، أحد العشرة والمبشرين
بالجنة، قتل في وقعة الجمل سنة 36هـ. "الإصابة 3/ 290".
2 هو: الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد القرشي الأسدي،
ابن عمة النبي -صلى الله عليه وسلم- أول من سل سيفًا في
الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة. قتل سنة 36هـ.
"الاستيعاب 2/ 510-516".
3 بدأ المصنف يذكر ما يرجح مذهب القائلين بعدم تجزؤ
الاجتهاد، فبين أن من لا يعرف الأحكام الشرعية لا يستطيع
معرفة نظائرها، ومن يعرف النصوص الشرعية، ولا يعرف كيف
تؤخذ منها الأحكام، والتي تسمى بكيفية استنباط الأحكام
الشرعية من الأدلة، كل هؤلاء لا يمكنهم معرفة الأحكام.
ثم رد على استشهاد المخالفين بالصحابة، بأن هؤلاء الصحابة
كانوا على علم بالأدلة الشرعية وبكيفية استنباط الأحكام
منها.
ثم أورد استفهامًا على هذه المسألة، هل هي اجتهادية أو
قطعية؟ فأجاب: بأنها اجتهادية، ومعنى هذا: أننا إذا
اعتبرنا قول العوام ومن في حكمهم في =
ج / 1 ص -395-
ومن لا
يعرف الاستنباط، مع عدم معرفته ما يستنبط منه: لا يمكنه
الاستنباط.
وكذلك من يعرف النصوص، ولا يدري كيف يتلقى الأحكام منها:
كيف يمكنه تعرف الأحكام؟
وأما الصحابة الذين ذكروهم: فقد كانوا يعلمون أدلة
الأحكام، وكيفية الاستنباط، وإنما استغنوا بغيرهم، واكتفوا
بمن سواهم.
فإن قيل: فهذه المسألة اجتهادية أم قطعية؟
قلنا: هي اجتهادية، فمتى جوزنا أن يكون قول واحد من هؤلاء
معتبرًا فخالف: لم يبق الاجماع حجة قاطعة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الإجماع، فخالف بعضهم، لم يكن الإجماع حجة قطعية،
لمخالفة البعض، وإذا لم نعتبره كان الإجماع حجة قطعية، لأن
مخالفتهم كمخالفة الصبيان فلا أثر لها.
فصل: [في عدم
الاعتداد بقول الكافر والفاسق في الإجماع]
ولا يعتد في الإجماع بقول كافر، سواء بتأويل أو بغيره1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ينقسم الكافر إلى معاند ومتأول، فالمعاند: كاليهود
والنصاري ومن ارتد عن الإجماع بلا خوف.
أما المتأول: وهو المستند إلى شبهة، كمبتدعة المسلمين من
الخوارج والمعتزلة ونحوهما، فهؤلاء للعلماء فيهم قولان:
أحدهما: عدم قبول قولهم مطلقًا.
والثاني: أنهم كالكفار عند من يكفرهم، فلا يقبل قولهم
بالنسبة له، ومن لا يكفرهم يقبل قولهم.
ج / 1 ص -396-
فأما
الفاسق باعتقاد، أو فعل1 فقال القاضي: لا يعتد بهم2 وهو
قول جماعة3؛ لقوله تعالى:
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ}4.
أي: عدولًا. وهذا غير عدل، فلا تقبل روايته، ولا شهادته،
ولا قوله في الإجماع.
ولأنه لا يقبل قوله منفردًا فكذلك مع غيره.
وقال أبو الخطاب. يعتد بهم5؛ لدخولهم في قوله تعالى:
{... وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِين}. وقوله عليه السلام:
"لا تجتمع أمتي على خطأ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثال الفسق بالاعتقاد: الرفض والاعتزال، والفسق بالفعل:
كالزنا والسرقة وشرب الخمر كما في شرح الكوكب المنير "2/
227" وقال الطوفي: "المختار أن من كان من أهل الشهادتين
فإنه لا يكفر ببدعة على الإطلاق، ما استند فيها إلى تأويل
يلتبس فيه الأمر على مثله، فيقبل قول جميع مبتدعة المسلمين
الذين هم كذلك، إذا عرف منهم الصدق والعدالة في بدعتهم،
كما قلنا: إن الكافر العدل في دينه يلي مال ولده الصغير
والمجنون؛ لأنه إذا اجتمعت العدالة مع الكفر، فمع البدعة
أولى، وقد ثبت أن أئمة الحديث نقلوا أخبار كثير من أهل
البدع الغليظة، لصدقهم وعدالتهم في بدعتهم. "الشرح 3/ 44".
2 انظر: العدة لأبي يعلى "4/ 1139".
3 منهم: الجصاص: والجرجاني، وكثير من علماء الحنفية
وغيرهم.
4 سورة البقرة من الآية: 143.
5 هذا النقل مخالف لما في التمهيد "3/ 253" حيث قال:
"والصحيح عندي أنه إذا كان من أهل الاجتهاد وارتكب بدعة
كفّر بها لم يعتد بخلافه، وإن لم يكفّر بها اعتد بخلافه"
وفي المسألة آراء أخرى ذكرها أيضًا، كما ذكرها أبو يعلى في
العدة "4/ 1040".
ج / 1 ص -397-
مسألة: [في الاعتداد بقول التابعي المجتهد في إجماع
الصحابة]
وإذا بلغ التابعي رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة اعتد
بخلافه في الإجماع عند الجمهور، واختاره أبو الخطاب1.
وقال القاضي وبعض الشافعية: لا يعتد به، وقد أومأ أحمد
-رضي الله عنه- إلى القولين2.
وجه قول القاضي:
أن الصحابة شاهدوا التنزيل، وهم أعلم بالتأويل، وأعرف
بالمقاصد، وقولهم حجة على من بعدهم، فهم مع التابعين
كالعلماء مع العامة، ولذلك قدمنا تفسيرهم3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: التمهيد "3/ 267" وهو رأي الحنفية والمالكية
وجمهور الشافعية، وهو ما اختاره ابن عقيل، والقاضي أبو
الطيب الطبري، وأبو إسحاق الشيرازي، وابن الصباغ، وابن
السمعاني.
وقال القاضي عبد الوهاب، الفقيه المالكي: الحق التفصيل،
وهو: أن الواقعة إن حدثت للصحابة بعد أن صار التابعي من
أهل الاجتهاد، كان كأحدهم لا إجماع لهم بدونه، وإن حدثت
قبل أن يصير من أهل الاجتهاد، فأجمعوا على حكمها، أو
اختلفوا، أو توقفوا، لم يعتد بقوله.
قال الطوفي: "قلت: ونحوه اختار الآمدي، والأشبه: أنه متى
أدرك الخلاف فيها، أو التوقف، اعتبر قوله فيها، اختلافًا
أو اتفاقًا" شرح المختصر "3/ 62".
2 الروايتان عن الإمام أحمد ذكرهما القاضي أبو يعلى في
العدة "4/ 1153، 1157" وأبو الخطاب في التمهيد "3/ 267،
268".
3 ذكر القاضي أبو يعلى في العدة "4/ 1160" عدة وجوه
تأييدًا لمذهبه، وأورد أدلة المخالفين وردّ عليها، وخلص من
ذلك كله: أن للصحابة -رضي الله عنهم- مزايا لا توجد في
التابعين، فلا يشاركهم التابعون في هذا الفضل.
ج / 1 ص -398-
وأنكرت
عائشة -رضي الله عنها- على أبي سلمة1 حين خالف ابن عباس،
قالت: "إنما مثلك مثل الفروج، سمع الديكة تصيح فصاح
لصياحها"2.
ووجه الأول3:
أنه إذا بلغ رتبة الاجتهاد: فهو من الأمة، فإجماع غيره لا
يكون إجماع كل الأمة، والحجة إجماع الكل.
نعم لو بلغ رتبة الاجتهاد بعد إجماعهم: فهو مسبوق
بالإجماع، فهو كمن أسلم بعد تمام الإجماع.
ولا خلاف أن الصحابة -رضي الله عنهم- سوّغوا اجتهاد
التابعين:
ولهذا ولى عمر -رضي الله عنه- "شريحًا"4 القضاء وكتب إليه:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، قيل:
اسمه عبد الله وقيل: إسماعيل، وقيل: اسمه كنيته. كان ثقة
كثير الحديث، روى عن أبيه وعن عثمان بن عفان وطلحة وعائشة
وغيرهم.
توفي سنة 94هـ. وقيل: سنة 104هـ. "تهذيب التهذيب 12/ 115".
2 مخالفة أبي سلمة لابن عباس في عدة المتوفى عنها زوجها
سيأتي تخريجها قريبًا، وليس فيها كلام السيدة عائشة -رضي
الله عنها- والذي ورد فيه ذلك هو: ما رواه مالك في الموطأ:
كتاب الطهارة، باب واجب الغسل إذا التقى الختانان وفيه:
"قال أبو سلمة: سألت عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-
ما يوجب الغسل؟ فقالت: هل تدري ما مثلك يا أبا سلمة؟ مثل
الفروج يسمع الديكة تصرخ، فيصرخ معها، إذا جاوز الختان
الختان وجب الغسل".
3 أي المذهب الأول وهو مذهب جمهور العلماء، من أن التابعي
إذا بلغ رتبة الاجتهاد اعتد برأيه في الإجماع.
4 هو: شريح بن الحارث بن قيس، أبو أمية الكندي، الكوفي،
القاضي المشهور، تولى القضاء ستين سنة مات سنة 78هـ وقيل
غير ذلك بعد أن عمر طويلًا. =
ج / 1 ص -399-
"ما لم تجد في السنة فاجتهد رأيك"1.
وقد علم أن كثيرًا من أصحاب عبد الله2، كعلقمة3، والأسود4،
وغيرهما، وسعيد بن المسيب5، وفقهاء المدينة6 كانوا يفتون
في عصر الصحابة -رضي الله عنهم- فكيف لا يعتد بخلافهم؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= انظر: "تذكرة الحفاظ 1/ 58، شذرات الذهب 1/ 85".
1 كتاب عمر -رضي الله عنه- إلى شريح أخرجه وكيع في كتابه:
أخبار القضاة "2/ 189" بسنده إلى الشعبي ولفظه: "عن الشعبي
قال: كتب عمر إلى شريح: ما في كتاب الله وقضاء النبي -صلى
الله عليه وسلم- فاقض به، فإذا أتاك ما ليس في كتاب الله
ولم يقض به النبي -عليه السلام- فما قضى به أئمة العدل،
وما لم يقض به أئمة العدل فأنت بالخيار، إن شئت أن تجتهد
رأيك، وإن شئت تؤامرني، ولا أرى في مؤامرتك إياي إلا أسلم
ذلك".
كما رواه بلفظ آخر قريب مما تقدم، جاء في آخره: ".. فإن
جاءك ما ليس في كتاب الله، ولم يسنه رسول الله، ولم يتكلم
به أحد، فاختر أي الأمرين شئت، فإن شئت فتقدم واجتهد رأيك،
وإن شئت فأخره، ولا أرى التأخير إلا خيرًا لك".
2 يعني: عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- وتقدمت ترجمته.
3 هو: علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك النخعي الهمداني،
تابعي، كان يشبه ابن مسعود في هديه وسمته وفضله. توفي سنة
62هـ. "تأريخ بغداد 12/ 296".
4 هو: الأسود بن يزيد بن قيس النخعي، الكوفي، تابعي، روى
عن الخلفاء الأربعة، كما روى عن عائشة وغيرها. توفى سنة
75هـ. وقيل غير ذلك.
"تذكرة الحفاظ 1/ 50، تهذيب التهذيب 1/ 321".
5 هو: سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب المخزومي القرشي،
سيد التابعين، وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة المنورة. توفي
سنة 94هـ. "حلية الأولياء 2/ 161".
6 فقهاء المدينة هم: الذين عينهم عمر بن عبد العزيز لأخذ
رأيهم في أمور المسلمين كمجلس استشاري له -رضي الله عنه-
حتى روى أنه قال لهم: "إنما =
ج / 1 ص -400-
وقد
روى الإمام أحمد في الزهد أن أنسًا1 سئل عن مسألة فقال:
"سلوا مولانا الحسن2، فإنه غاب وحضرنا، وحفظ ونسينا"3
"وإنما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعوانًا على الحق،
ما أريد أن اقطع أمرًا إلا برأيكم، أو برأي من حضر منكم"
وكانوا عشرة هم:
1- عبد الله بن عامر بن ربيعة توفي سنة بضع وثمانين من
الهجرة.
2- عروة بن الزبير. توفي سنة 94هـ.
3- أبو بكر بن عبد الرحمن. توفي سنة 94هـ.
4- عبيد الله بن عبد الله بن عتبة. توفي سنة 98هـ.
5- خارجة بن زيد. توفي سنة 100هـ.
6- عبد الله بن عبد الله بن عمرو. توفي سنة 105هـ.
7- سالم بن عبد الله بن عمر. توفي سنة 106هـ.
8- سليمان بن يسار. توفي سنة 107هـ.
9- القاسم بن محمد. توفي سنة 108هـ.
10- أبو بكر سليمان بن أبي حثْمة.
انظر: "تأريخ الطبري 6/ 427-428" ط. دار المعارف، عمر بن
عبد العزيز وسياسته في رد المظالم، ماجدة فيصل زكريا ص73 ط
مكتبة الطالب الجامعية مكة المكرمة".
1 يعنى: أنس بن مالك، تقدمت ترجمته.
2 هو: الحسن بن أبي الحسن بن يسار البصري، أبو سعيد، تابعي
عالم زاهد، ولد بالمدينة المنورة في خلافة عمر بن الخطاب
-رضي الله عنه- وتوفي سنة بالبصرة سنة 110هـ. "تذكرة
الحفاظ 1/ 71".
3 هذا الأثر أخرجه ابن سعد في الطبقات "7/ 176" في ترجمة
الحسن البصري وفيه:....... فقالوا: يا أبا حمزة نسألك
وتقول: سلوا مولانا الحسن؟! فقال: إنا سمعنا وسمع، فحفظ
ونسينا" وذكر مثله الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب "2/
264".
ج / 1 ص -401-
يفضل
الصحابي بفضيلة الصحبة"1 أليس فيكم أبو الشعثاء؟ يعني:
جابر بن زيد2.
وروى نحوه عن جابر بن عبد الله3.
وإنما فضّل الصحابي بفضيلة الصحبة4، ولو كانت هذه الفضيلة
تخصص الإجماع لسقط قول متأخري الصحابة بقول متقدميهم، وقول
المتقدم منهم بقول العشرة5، وقول العشرة بقول الخلفاء،
وقولهم بقول أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- وإنكار عائشة
على أبي سلمة مخالفة ابن عباس قد خالفها أبو هريرة7 فقال:
"أنا مع ابن اخي"8 هي قضية في عين،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يبدو أن هذه الجملة مكررة ولا محل لها هنا، وأن قوله
"أليس فيكم أبو الشعثاء" من تمام الأثر. والله أعلم.
2 هو: جابر بن زيد الأزدي ثم الجوفي -نسبة إلى الجوف- محلة
بالبصرة، فقيه ثقة، من مشاهير علماء التابعين. توفي سنة
93هـ. "البداية والنهاية 9/ 93".
3 تقدمت ترجمته.
4 هذه الجملة تؤكد أن الجملة السابقة مكررة.
5 يقصد العشرة المبشرين بالجنة، وهم: أبو بكر الصديق، وعمر
بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلى بن أبي طالب، وسعد بن أبي
وقاص، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة الجراح، وطلحة بن
عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وسعيد بن زيد. رضي الله
عنهم جميعًا.
6 يريد أن يرد على الاستشهاد بالأثر المروي عن السيدة
عائشة -رضي الله عنها- بأنه معارض بما روي عن ابي هريرة
-رضي الله عنه- من أنه وافق أبي سلمة على رأيه -كما
سيأتي-.
7 هو: عبد الرحمن بن صخر الدوسي، المقلب بأبي هريرة، كان
أكثر الصحابة حفظًا للحديث ورواية له. توفي سنة 59هـ.
"تهذيب الأسماء 2/ 270".
8 أخرج هذا الأثر البخاري في كتاب التفسير، سورة الطلاق،
كما أخرجه مسلم، =
ج / 1 ص -402-
يحتمل
أنها أنكرت عليه ترك التأدب مع ابن عباس، أولم تره بلغ
رتبة الاجتهاد، أوغير ذلك من المحتملات. والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والترمذي والنسائي وغيرهم ولفظه: "عن أبي سلمة بن عبد
الرحمن بن عوف قال: كنا نتذاكر أنا وابن عباس وأبو هريرة
في عدة المتوفى عنها زوجها، فقال ابن عباس: أبعد الأجلين،
وقلت أنا عدتها: أن تضع حملها، وقال أبو هريرة:
أنا مع ابن أخى، فأرسل ابن عباس غلامه "كريبًا" إلى أم
سلمة يسألها فقالت: قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى،
فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخطبت فأنكحها رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- وكان أبو السنابل فيمن خطبها".
فصل: [في حكم
انعقاد الإجماع بقول الأكثر]
ولا ينعقد الإجماع بقول الأكثرين من أهل العصر في قول
الجمهور1.
وقال محمد بن جرير2، وأبو بكر الرازي3: ينعقد4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو: المنقول عن أكثر الحنفية، والمالكية، والشافعية،
والحنابلة، وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد. وهو الذي
رجحه الغزالي حيث قال: "والمعتمد عندنا: أن العصمة إنما
تثبت للأمة بكليتها، وليس هذا إجماع الجميع، بل هو مختلف
فيه، وقد قال تعالى:
{وَمَا
اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى
اللَّهِ} [الشوري: 10] وانظر: المستصفى "2/ 341".
2 وهو: محمد بن جرير بن يزيد، أبو جعفر الطبري، الإمام
الجليل والمجتهد، المطلق، جمع من العلوم ما لا يشاركه فيه
أحد من أهل عصره. توفي سنة 310هـ. "وفيات الأعيان 3/ 332،
شذرات الذهب 2/ 260".
3 هو: أحمد بن علي أبو بكر الرازي الجصاص، الفقيه الحنفي
المشهور، ولد سنة 305هـ وتوفي سنة 370هـ. "الدرر المضية 1/
84".
4 ونقل أبو الحسن البصرى في "المعتمد" "2/ 486" هذا الرأي
عن أبي الحسين الخياط. =
ج / 1 ص -403-
وقد
أومأ إليه أحمد -رحمه الله-.
ووجهه1:
أن مخالفة الواحد شذوذ، وقد نهى عن الشذوذ.
وقال -عليه السلام-:
"عليكم
بالسواد الآعظم". وقال:
"الشيطان مع الواحد وهو من الإثنين أبعد".
ولنا2:
أن العصمة إنما تثبت للأمة بكليتها، وليس هذا إجماع الجميع
بل هو مختلف فيه، وقد قال -تعالى-:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّه}3.
وقال تعالى:
{وَمَا
اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى
اللَّهِ...}4.
فإن قيل5:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وفي أصول السرخسي "1/ 316": أن رأي أبي بكر الرازي فيه
تفصيل: وهو أن الأكثرين إذا سوغوا للأقل ذلك الاجتهاد لم
ينعقد الإجماع، وإن أنكروا عليهم رأيهم انعقد الإجماع.
ونقل الغزالي رأيًا آخر في المسألة وهو: إن بلغ عدد الأقل
عدد التواتر اندفع الإجماع، وإن نقص فلا يندفع.
ونقل الشوكاني في إرشاد الفحول جـ1 ص341 عن القاضي أبي بكر
أنه قال: إن هذا الرأي هو الذي صح عن ابن جرير.
1 أي دليل القائلين بانعقاد الإجماع بقول الأكثر.
2 بدأ المصنف يذكر أدلة الجمهور على أن الإجماع لا ينعقد
بقول الأكثرين.
3 سورة النساء من الآية: 59.
4 سورة الشورى من الآية: 10.
5 هذا اعتراض أورده المصنف على لسان المخالفين للجمهور،
خلاصته: أنه قد =
ج / 1 ص -404-
قد
يطلق اسم الكل على الأكثر؟
قلنا: هذا مجاز؛ لأن الجمع المعرّف حقيقة في الاستغراق،
ولهذا يصح أن يقال: إنهم ليسوا كل المؤمنين، ولا يجوز
التخصيص بالتحكم.
وقد وردت نصوص تدل على قلة أهل الحق وذم الأكثرين: كقوله
تعالى:
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}1 ونحوها.
وقال تعالى:
{وَقَلِيلٌ مَا هُمْ...}2. وقال:
{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً}3. وقال تعالى:
{وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}4
وقال -صلى الله عليه وسلم-
"بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود كما بدأ، فطوبى للغرباء".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يطلق اسم الأمة وهو الكل على الأكثر، كما يقال: بنو تميم
يحمون الجار، ويكرمون الضيف، ويراد به الأكثر.
وأجاب المصنف على ذلك: بأن هذا من قبيل المجاز، والمجاز لا
بد له من دليل، ولا دليل هنا على التخصيص، ولا يجوز
التخصيص بالتحكم من غير دليل.
ثم أكمل الرد بقوله بعد ذلك: "وقد وردت نصوص إلخ" ومعناه:
أنه كيف تصح دعواكم والحال أنه قد وردت نصوص كثيرة تدل على
قلة أهل الحق".
1 سورة الأنعام الآية: 37.
2 سورة "ص" من الآية: 24.
3 سورة البقرة من الآية: 249.
4 سورة سبأ من الآية: 13.
5 الحديث رواه مسلم "146" من حديث عبد الله بن عمر بلفظ
"بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود -كما بدأ- غريبًا، فطوبى للغرباء".
كما رواه أحمد في المسند "1604" عن سعد بن أبي وقاص قال:
سمعت أبي =
ج / 1 ص -405-
دليل
ثان1:
إجماع الصحابة على تجويز المخالفة للآحاد:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يقول سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
"إن الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود كما بدأ فطوبى يومئذ للغرباء، إذا فسد
الناس، والذي نفس أبي القاسم بيده، ليأرز الإيمان بين هذين
المسجدين، كما تأرز الحية في جحرها".
ومعنى: يأرز: أي ينضم ويجتمع بعضه إلى بعض. والمسجدان: هما
المسجد الحرام، والمسجد النبوي بالمدينة المنورة.
و "بدأ" بالهمز وبدونه، معناها: الابتداء، وبدون همز
معناها الظهور، قال النووي: ضبطناه بالهمز ويؤيده المقابلة
بالعود، فإن العود يقابل بالابتداء.
قال ابن بدران: "ومعناه: أن الإسلاكم بدأ في آحاد من الناس
وقلة، ثم انتشر وظهر، ثم سيلحقه النقص والإخلال، حتى لا
يبقى إلا في آحاد وقلة -أيضًا- كما بدأ.
وحاصل الاستدلال: أنه إذا لم يكن ضابط يضبط أهل الإجماع،
ولا مرد يرجع إليه عند الاختلاف، فلا خلاص إلا بقول
الجميع". "نزهة الخاطر 1/ 360".
1 هذا دليل ثان لمذهب الجمهور على أن الإجماع لا ينعقد
بقول الأكثر، وصرح الغزالي بذلك فقال: "الدليل الثاني:
إجماع الصحابة على تجويز الخلاف للآحاد، فكم من مسألة
انفرد فيها الآحاد بمذهب، كانفراد ابن عباس بالعول، فإنه
أنكره "المستصفى 2/ 343".
ووجه الدلالة من هذا الدليل: أن ابن عباس وغيره من الصحابة
خالفوا جمهور الصحابة في مسائل كثيرة، وجوز الصحابة لهم
هذه المخالفة، وهذا الانفراد ببعض الآراء، ولو انعقد إجماع
الصحابة بدون ذلك، لاستحال ترك النكير عليهم، وإقرارهم على
مخالفة الإجماع، فدل ذلك على أن الإجماع مع مخالفة الأقل
لا ينعقد وهو المدعى.
ج / 1 ص -406-
فانفرد
ابن عباس بخمس مسائل في الفرائض1، وانفراد ابن مسعود
بمثلها2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وضح المصنف -رحمه الله تعالى- هذه المسائل في المغني
فقال:
"فصل: حصل خلاف ابن عباس للصحابة في خمس مسائل، اشتهر قوله
فيها:
أحدها: زوج وأبوان.
والثانية: امرأة وأبوان، للأم ثلث الباقي عندهم، وجعل هو
لها ثلث المال فيهما.
والثالثة: أنه لا يحجب الأم إلا ثلاثة من الأخوة "يعنى من
الثلث إلى السدس".
والرابعة: لم يجعل الأخوات مع البنات عصبة.
والخامسة: أنه لم يُعِل المسائل، فهذه الخمس صحت الرواية
عنه فيها، واشتهر عنه القول بها، وشذت عنه روايات سوى هذه
ذكرنا بعضها فيما مضى" المغني "9/ 30" طبعة هجر بتحقيق
الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي والدكتور عبد
الفتاح محمد الحلو.
ومعنى قوله "لم يعد المسائل": أنه يرى إنكار القول بالعول
في الفرائض.
2 في بعض النسخ "فانفرد ابن مسعود بخمس مسائل، وانفرد ابن
عباس بمثلها".
والمسائل التي انفرد بها عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-
في الفرائض كثيرة، أشار إليها المصنف في "المغني" وجمع
منها ستة مسائل في فصل واحد فقال:
"وإذا كانا ابني عم، أحدهما أخ لأم، فللأخ للأم السدس، وما
بقي بينهما نصفين: هذا قول جمهور الفقهاء، يروى عن عمر
-رضي الله عنه- ما يدل على ذلك، ويروى ذلك عن "علي" -رضي
الله عنه- وزيد وابن عباس، وبه قال أبو حنيفة، ومالك،
والشافعي، ومن تبعهم. وقال ابن مسعود: المال للذي هو أخ من
أم.
ثم قال: وإن كان ابن عم لأبوين، وابن عم هو أخ لأم، فعلى
قول الجمهور: للأخ السدس، والباقي للآخر، وعلى قول ابن
مسعود: المال كله لابن العم =
ج / 1 ص -407-
فإن
قيل1:
فقد أنكروا على ابن عباس القول بالمتعة2، و"إنما الربا في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الذي هو أخ لأم.... فإن كان ابنا عم، أحدهما أخ من أم،
وبنت ابن، فللبنت أو بنت الابن النصف، والباقي بينهما
نصفين، وسقطت الإخوة من الأم بالبنت، وإن كان الذي ليس بأخ
ابن عم من أبوين، أخذ الباقي كله كذلك، وعلى قول ابن
مسعود: الباقي للأخ في المسألتين، بدليل أن الأخ من
الأبوين يتقدم على الأخ من الأب، بقرابة الأم، فإن كان في
الفريضة بنت تحجب قرابة الأم....".
ثم أشار إلى أن هذه الأمثلة كلها تمثل مسألة واحدة، فقال:
"فصل: فحصل خلاف ابن مسعود في مسائل ست، هذه إحداهن.
والثانية: في بنت وبنات ابن وابن ابن، الباقي عنده للابن
دون أخواته.
الثالثة: في أخوات لأبوين وأخ وأخوات لأب، الباقي عنده
للأخ دون أخواته.
الرابعة: بنت وابن ابن وبنات ابن، عنده لبنات الابن الأضر
بهن من السدس أو المقاسمة.
الخامسة: أخت لأبوين وأخ وأخوات لأب، للأخوات عنده الأضر
بهن من ذلك.
السادسة: كان يحجب الزوجين والأم بالكفار والعبيد
والقاتلين، ولا يورثهم. المصدر السابق ص31، 32.
1 هذا يعتبر دليلًا آخر للخصم وردًّا على ما استدل به
الجمهور من تجويز الخلاف للآحاد -كما نقل عن ابن مسعود
وابن عباس-، وحاصله: أنهم أنكروا على ابن عباس إباحة زواج
المتعة، وحصر الربا على النسيئة حتى رجع عنهما، وأنكرت
عائشة -رضي الله عنها- على زيد بن أرقم بيع العينة، وهي
شراء ما بيع بأقل مما بيع عليه، ومحل الشاهد: أنه لولا أن
اتفاق الأكثر حجة، لما كان لهم الإنكار عليهم.
2 أخرج البخاري: كتاب الحيل، باب الحيلة في النكاح، عن
محمد بن علي: "أن =
ج / 1 ص -408-
النسيئة"1، وأنكرت عائشة على "زيد بن أرقم"2 مسألة
العينة3.
وأنكر ابن عباس على من خالفه في العول والجد4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عليًّا -رضي الله عنه- قيل له: إن ابن عباس لا يرى بمتعة
النساء بأسًا، فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية".
وروى مثله الإمام أحمد في المسند "1/ 142" والطبراني في
الأوسط، وابن أبي شيبة في المصنف "4/ 292-293".
1 سبق تخريجه وأن ابن عباس قال: "أخبرني به أسامة بن زيد".
2 هو: زيد بن أرقم بن زيد بن قيس الأنصاري الخزرجي، شهد
الخندق وما بعدها، وشهد موقعة "صفين" مع علي -رضي الله
عنه- توفي بالكوفة سنة 66هـ. "الإصابة 2/ 589".
3 يشير إلى ما أخرجه أحمد في المسند، والدارقطني في سننه:
كتاب البيوع، عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته أنها دخلت
على عائشة -رضي الله عنها- فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم
الأنصاري وامرأة أخرى، فقالت أم ولد زيد بن أرقم: يا أم
المؤمنين، إني بعت غلامًا من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم
نسيئة، وإني ابتعته بستمائة درهم نقدًا، فقالت لها عائشة:
بئسما شريت، وبئسما اشتريت، إن جهاده مع رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قد بطل، إلا أن يتوب".
وله طرق أخرى كثيرة عند البيهقي "5/ 330، 331" وعبد الرزاق
في المصنف "8/ 184" وابن حزم في المحلى "9/ 688-693".
4 العول في اللغة: الميل إلى الجور، والرفع. وفي الشرع:
زيادة السهام على الفريضة، فتعول المسألة إلى سهام
الفريضة، فيدخل النقص عليهم بقدر حصصهم. "التعريفات
للجرجاني ص159".
وخلاف ابن عباس في العول أخرجه الحاكم في المستدرك: كتاب
الفرائض باب أول من أعال الفرائض عمر، والبيهقي في سننه:
كتاب الفرائض، باب العول في الفرائض، بسنده إلى عتبة بن
مسعود قال: "دخلت أنا وزفر بن أوس بن الحدثان على ابن عباس
-بعدما ذهب بصره-، فتذاكرنا فرائض الميراث، فقال: ترون
الذي أحصى رمل عالج عددًا لم يحص ما في مال نصفًا ونصفًا =
ج / 1 ص -409-
.............................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وثلثًا، إذا ذهب نصف ونصف فأين موضع الثلث؟! فقال له
زفر: يا ابن عباس من أول من أعال الفرائض؟ قال: عمر بن
الخطاب -رضي الله عنه- قال: ولم؟ قال: لما تدافعت عليه
وركب بعضها بعضًا، قال: والله ما أدري كيف أصنع بكم، والله
ما أدري أيكم قدّم الله، ولا أيكم أخّر، قال: وما أجد في
هذا المال شيئًا أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص.
ثم قال: ابن عباس: وأيم الله لو قدم من قدم الله، وأخر من
أخر الله ما عالت فريضة، فقال له زفر: وأيهم قدم وأيهم
أخر؟ فقال: كل فريضة لا تزول إلا إلى فريضة، فتلك التي قدم
الله، وتلك فريضة الزوج، له النصف، فإن زال فإلى الربع، لا
ينقص منه، والمرأة لها الربع، فإن زالت عنه صارت إلى
الثمن، لا تنقص منه، الأخوات لهن الثلثان، والواحدة لها
النصف، فإن دخل عليهن البنات كان لهن ما بقي، فهؤلاء الذين
أخر الله، فلو أعطى من قدم الله فريضته كاملة، ثم قسم ما
بقي بين من أخر الله بالحصص ما عالت فريضة.
فقال له زفر: فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال:
هبته والله.
قال ابن إسحاق: فقال لي الزهري: وأيم الله لولا أن تقدمه
إمام هدى كان أمره على الورع ما اختلف على ابن عباس اثنان
من أهل العلم".
وأما إنكاره على من خالفه في الجد:
فإن ابن عباس وأبا بكر وغيرهما من الصحابة -رضي الله عنهم-
كانوا يرون أن الجد يسقط جميع الإخوة والأخوات من جميع
الجهات، كما يسقطهم الأب.
وكان علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وزيد بن ثابت -رضي الله
عنهم- يورّثونهم معه، ولا يحجبونهم به؛ لأن الأخ ذكر يعصّب
أخته، فلم يسقطه الجد، كالابن، ولأن ميراثهم ثبت بالكتاب،
فلا يحجبون إلا بنص أو إجماع أو قياس، وما وجد شيء من ذلك،
فلا يحجبون.
ولأنهم تساووا في سبب الاستحقاق فيتساوون فيه؛ فإن الأخ
والجد يدليان بالأب، الجد أبوه، والأخ ابنه، وقرابة النبوة
لا تنقص عن قرابة الأبوة، بل ربما كانت أقوى؛ فإن الابن
يسقط تعصيب الأب، ولذلك مثّله "علي" -رضي الله عنه- بشجرة
أنبتت غصنًا، فانفرق منه غصنان، كل واحد منهما إلى الآخر
أقرب =
ج / 1 ص -410-
قلنا:
إنما أنكروا عليهم لمخالفتهم السنة المشهورة، والأدلة
الظاهرة.
ثم هب أنهم أنكروا عليهم، والمنفرد منكر عليهم إنكارهم،
فلم ينعقد الإجماع، فلا حجة في إنكارهم1.
والشذوذ يتحقق بالمخالفة بعد الوفاق.
ولعله أراد به: الشاذ من الجماعة، الخارج على الإمام، على
وجه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= منه إلى أصل الشجرة، ومثّله زيد بواد خرج منه نهر، انفرق
منه جدولان، كل واحد منهما إلى الآخر أقرب منه إلى الوادي.
ولابن عباس ومن معه من الصحابة أدلة أخرى كثيرة، تدل على
أن الجد يسمى أبًا، ويحل محله في حجب الإخوة، ولذلك قال:
"ألا يتقي الله زيد؟ يجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أب
الاب أبًا".
أخرجه ابن عبد البر في كتابه: "جامع بيان العلم وفضله" "2/
131" وانظر: السنن الكبرى للبيهقي "6/ 247" والمغني لابن
قدامة "9/ 65 وما بعدها" طبعة هجر، تحقيق الدكتور عبد الله
عبد المحسن تركي والدكتور عبد الفتاح محمد الحلو.
1 هذا جواب عن الدليل المتقدم وهو: إنكار الصحابة على ابن
عباس، في المتعة والربا، وإنكار السيدة عائشة على زيد بن
أرقم، وإنكار ابن عباس على من خالفه في العول والجد.
والجواب من وجهين:
الأول: أن إنكار الصحابة إنما كان بسب مخالفتهم السنة
المشهورة والأدلة الظاهرة، لا لكون اتفاقهم مع مخالفة
هؤلاء إجماعًا.
الثاني: سلمنا بإنكار الصحابة -رضي الله عنهم- لكن
المخالفين أنكروا على الصحابة إنكارهم... ولذلك روي عن ابن
عباس أنه قال: "ألا يتقي الله زيد، يجعل ولد الولد بمنزلة
الولد، ولا يجعل أب الأب بمنزلة الأب، إن شاء باهلته عند
الحجر الاسود"، وإذا حصل الإنكار من الطرفين فلا إجماع بل
هو مختلف فيه.
ج / 1 ص -411-
يثير
الفتنة1، كفعل الخوارج.
وهذا الجواب عن الحديث الآخر2، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا جواب عن قول ابن جرير: "إن مخالفة الواحد شذوذ وهو
منهي عنه".
وقد أجاب عنه المصنف: بأن المراد بالشذوذ: إما أن يكون ذلك
بعد الاتفاق وانعقاد الإجماع، وإما أن يكون المراد به:
الشذوذ الذي يشق به صاحبه عصا الطاعة، ويخرج عن حكم
الإمام، ويثير الفتن والقلاقل، كما فعل الخوارج، وهم: كل
من خرج على الإمام الحق، وكان أول ظهور هذه الفرقة في عهد
علي بن أبي طالب، ومن معتقداتهم، التبري من عثمان وعلي،
ويكفّرون أصحاب الكبائر، ويرون وجوب الخروج على الحاكم إذا
خالف السنة وغير ذلك من معتقداتهم الفاسدة.
2 وهو قوله: -صلى الله عليه وسلم-
"عليكم بالسواد الأعظم" و"الشيطان مع الواحد.." إلخ.
فصل: [في حكم
إجماع أهل المدينة]
وإجماع أهل المدينة ليس بحجة1.
وقال مالك: هو حجة، لأنها معدن العلم، ومنزل الوحي، وبها
أولاد الصحابة، فيستحيل اتفاقهم على غير الحق، وخروجه
عنهم2.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو رأي جمهور العلماء، ولم يخالف في ذلك إلا مالك -رحمه
الله تعالى-.
2 ينبغي توضيح المذهب، كما هو وارد عندهم، لأن اعتبار
إجماع أهل المدينة حجة مشروط بشرطين:
أحدهما: أن يكون فيما لا مجال فيه للرأي والاجتهاد.
ثانيهما: أن يكون من الصحابة أو التابعين، دون من بعدهم،
لأن قول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه في حكم المرفوع،
فألحق بهم مالك التابعين =
ج / 1 ص -412-
ولنا1:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= من أهل المدينة، لتعلّمهم ذلك عن الصحابة.
أما في مسائل الاجتهاد: فالصحيح عنه أنهم كغيرهم من الأمة،
وإن كان قد نقل عنه الإطلاق.
قال صاحب مراقي السعود:
وأوجبنْ حجية للمدني
فيما على التوقيف أمره بُني
وقيل: مطلقًا..... انظر:
نثر الورود على مراقي السعود "2/ 431".
ومن الأدلة التي تمسك بها الإمام مالك: الأحاديث التي وردت
في فضل المدينة، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "أمرت
بقرية تأكل القرى، يقولون: يثرب، وهي المدينة تنفي الناس،
كما ينفي الكير خبث الحديد" أخرجه البخاري: كتاب فضائل
المدينة، ومسلم: في كتاب الحج، باب: المدينة تنفي شرارها
بلفظ "ألا إن المدينة كالكير، تخرج الخبيث، لا تقوم الساعة
حتى تنفي المدينة شرارها، كما ينفي الكير خبث الحديد".
وقد أجاب المصنف على ذلك -فيما بعد- بأن ورود مثل ذلك لا
يدل على أن اتفاق أهلها حجة، فالعصمة ليست للمكان، وإلا
لكانت مكة أولى بذلك من المدينة، ومساوية لها، لأنها أفضل
من المدينة عند الأكثرين، وإنما العصمة للأمة جميعها. كما
أجاب الجمهور عن الاستدلال بالحديث المتقدم؛ بأن هذا
الحديث ورد على سبب خاص، وهو: أن أعرابيًا دخل المدينة،
وبايع النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك، فخرج بغير
إذنه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن المدينة
كالكير، تنفي خبثها، ويتضيع طيبها" أخرجه البخاري ومسلم
أيضًا. ومعنى "يتضيع طيبها" أي: يفوح وينتشر.
كما أجيب عنه بوجه ثان: هو أن الخبث في عرف اللغة لا يفيد
الخطأ مطابقة، ولا تضمنًا ولا التزامًا، فكيف يستدل
بالحديث على نفي الخطأ؟
انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 105، 106".
1 هذا استدلال على أن إجماع أهل المدينة ليس حجة وهو من
وجهين:
أحدهما: أن العصمة تثبت للأمة كلها إلخ. =
ج / 1 ص -413-
أن
العصمة تثبت للأمة بكليتها، وليس أهل المدينة كل الأمة.
وقد خرج من المدينة من هو أعلم من الباقين بها: كعلي، وابن
مسعود، وابن عباس، ومعاذ، وأبي عبيدة، وأبي موسى، وغيرهم
من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الثاني: أنه قد خرج من المدينة عدد كثير من الصحابة، وهم
أعلم ممن بقي بها، فكيف ينعقد إجماع بدونهم، وهم من أهل
الاجتهاد، ثم ناقش أدلة المالكية، وهي واضحة.
إجماع أهل الحرمين والمصرين:
من المسائل التي يوردها الأصوليون، وأغفلها المصنف ما يسمى
بإجماع أهل الحرمين: مكة والمدينة، والمصرين: البصرة
والكوفة.
فقد زعم بعض أهل الأصول أن إجماع أهل الحرمين والمصرين حجة
مع مخالفة غيرهم؛ لأن هذه المواطن كانت محلًا لإقامة
الصحابة -رضي الله عنهم-.
قال الزراكشي: "وهذا صريح بأن القائلين بذلك لم يعمموا في
كل عصر، بل في عصر الصحابة فقط".
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرزي: "قيل: إن المخالف أراد زمن
الصحابة والتابعين، فإن هذا مراده فمسلم لو اجتمع العلماء
في هذه البقاع، وغير المسلم أنهم اجتمعوا فيها" فإن
الصحابة -رضي الله عنهم- انتشروا في مدن أخرى، كاليمن،
والشام، ومصر، والعراق.
وقصر الإجماع على عصر الصحابة -رضي الله عنهم- يخالف
الأدلة الكثيرة التي تدل على عدم انحصار الإجماع في عصر
دون عصر.
وبذلك يظهر أن الراجح هو ما ذهب إليه جمهور العلماء، من
عدم حجية إجماع أهل الحرمين والمصرين، لأن العصمة إنما
ثبتت مجتمعة، وهؤلاء بعض الأمة وليس كلها.
انظر في هذه المسألة: "الأحكام لابن حزم "4/ 566" شرح
المحلي على جمع الجوامع وحاشية البناني "2/ 158" إرشاد
الفحول جـ1 ص321 الطبعة المحققة.
ج / 1 ص -414-
الصحابة، فلا ينعقد الإجماع بدونهم.
وقوله: "يستحيل خروج الحق عنهم" تحكم؛ إذ لا يستحيل أن
يسمع رجل حديثا من النبي -صلى الله عليه وسلم- في سفر، أو
في المدينة، ثم يخرج منها قبل نقله.
وفضل المدينة لا يوجب انعقاد الإجماع بأهلها، فإن مكة أفضل
منها، ولا أثر لها في الإجماع.
ولأن إجماعهم لو كان حجة، لوجب أن يكون حجة في جميع
الأزمنة. ولا خلاف في أن قولهم لا يعتد به في زماننا فضلًا
عن أن يكون إجماعًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة هذا الفصل: أنه لو اتفق الخلفاء الأربعة: أبو بكر
وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- على أمر من الأمور بعد
وفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخالفهم غيرهم، لا
يعد ذلك إجماعًا، وهذا هو رأي الجمهور.
وحجتهم على ذلك: ما ذكره المصنف -قبل ذلك- من أن العصمة عن
الخطأ =
فصل: [في حكم
إجماع الخلفاء الأربعة]
واتفاق الأئمة الخلفاء الأربعة ليس بإجماع.
وقد نقل عن أحمد -رحمه الله- ما يدل على أنه لا يخرج من
قولهم إلى قول غيرهم.
والصحيح: أن ذلك ليس بإجماع؛ لما ذكرناه.
وكلام أحمد -في إحدى الروايتين عنه- يدل على أن قولهم حجة،
ولا يلزم من كل ما هو حجة ان يكون إجماعًا.
ج / 1 ص -415-
...............................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إنما تثبت للأمة كلها، والخلفاء الأربعة ليسوا كل الأمة،
وهذا ما أشار إليه بقوله: "والصحيح أن ذلك ليس بإجماع لما
ذكرناه".
والمنقول عن الإمام أحمد عدة روايات.
الأولى: كالجمهور، وهو أن اتفاقهم ليس إجماعًا.
الثانية: أنه حجة وليس إجماعًا، ومعنى هذا: أنه لا يلزم من
كونه حجة وجوب اتباعه، وإلزام الغير به، غاية الأمر أنه
يجوز للمجتهد أن يعمل به وحده ولا يلزم غيره به.
الرواية الثالثة: أنه حجة وإجماع، نقل ذلك الفتوحي وقال:
"اختاره ابن البنا من أصحابنا وأبو خازم -بالمعجمتين- وكان
قاضيًا حنفيًّا، وحكم بذلك زمن المعتضد "الخليفة العباسي
ت289هـ" في توريث ذوي الأرحام، فأنفذ حكمه، وكتب به إلى
الآفاق، ولم يعتبر خلاف زيد في ذلك، بناء على أن الخلفاء
الأربعة يورثونهم... "شرح الكوكب المنير "2/ 239-241"
وانظر: تاريخ الخلفاء ص368.
هذا، ولم يذكر المصنف هنا مسألتين توردهما كتب الأصول كلها
وهما:
المسألة الأولى: أبو بكر وعمر -رضي الله عنه- هل هو: إجماع
أو لا؟.
المسألة الثانية: هل ينعقد الإجماع بالعترة وهم: آل بيت
النبي -صلى الله عليه وسلم- أو لا؟
أما بالنسبة لاتفاق الخليفتين: أبي بكر وعمر -رضي الله
عنهما- فجمهور العلماء على أن اتفاقهما ليس إجماعًا، لأن
العصمة إنما تثبت للأمة مجتمعة، وهما ليسا كل الأمة، وإذا
لم نعتبر اتفاق الخلفاء الأربعة حجة، فمن باب أولى عدم
اعتبار قول الشيخين -رضي الله عنهما-.
وذهب بعض العلماء إلى أن اتفاقهما يعتبر إجماعًا، مستدلين
بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: اقتدوا باللذين من
بعدي: أبي بكر وعمر" وراه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن
حبان والحاكم من حديث حذيفة بن اليمان. انظر: "تلخيص
الحبير 4/ 190".
وأجاب الجمهور عن هذا الاستدلال: بأن المقصود من الحديث
أنهم أهل للاقتداء بهم، لا على أن قولهم حجة على غيرهم،
فإن المجتهد متعبد بالبحث =
ج / 1 ص -416-
..................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عن الدليل حتى يظهر له ما يظنه حقًّا.
كما أن الحديث معارض بأحاديث أخرى تفيد حجية قول بعض
الصحابة منفردًا، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-:
"رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد"
وهو: عبد الله بن مسعود، رواه الطبراني ورجاله ثقات "مجمع
الزوائد 9/ 260".
وقوله -صلى الله عليه وسلم- عن أبي عبيدة بن الجراح:
"إنه أمين هذه الأمة" رواه البخاري ومسلم.
فلو كان الحديث الخاص بالشيخين دالًّا على أن قولهما يعتبر
إجماعًا، لكان هذان الحديثان دالين على حجية قول ابن مسعود
وحده، وقول أبي عبيدة وحده حجة، وهذا غير مسلم.
انظر: شرح العضد على مختصر ابن الحاجب "2/ 36" وشرح مختصر
الروضة "3/ 102".
إجماع آل البيت:
أما مسألة إجماع العترة، وهم: آل بيت النبي -صلى الله عليه
وسلم-: علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء، بنت رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- والحسن، والحسين -رضي الله عنهم
جميعًا-، وهم الذين نزل فيهم قول الله -تعالى-:
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33].
فقد روي أنه لما نزلت هذه الآية أدار النبي -صلى الله عليه
وسلم- الكساء وقال:
"هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا" رواه
الترمذي عن عمر بن أبي سلمة، ورواه أحمد والحاكم وصححه،
وابن جرير الطبري عن أم سلمة، ورواه مسلم من حديث عائشة.
انظر: مسند الإمام أحمد "6/ 296" صحيح مسلم "4/ 1883" تحفة
الأحوذي "9/ 66".
وجمهور العلماء على أن اتفاقهم ليس إجماعًا، لأنهم ليسوا
كل الأمة، والعصمة إنما ثبتت للأمة مجتمعة، متمثلة في
اتفاق مجتهديها.
وذهبت الشيعة إلى أن اتفاقهم يعتبر إجماعًا، واستدلوا على
ذلك بالآية المتقدمة، وقالوا: إن الله -تعالى- أخبر عن نفي
الرجس عن أهل البيت، =
ج / 1 ص -417-
................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والخطأ رجس، فيكون منفيًّا عنهم، وإذا انتفى عنهم الخطأ
كان إجماعهم حجة.
ورد عليهم: بأنه لم يقل أحد: إن الخطأ رجس، فالرجس -في
اللغة- هو القذر أو العذاب، فلا دلالة في الآية على
المدعي.
كما استدلوا بأحاديث تدل على فضلهم وشرفهم، مثل قوله -صلى
الله عليه وسلم-: "إني تارك فيكم الثقلين، فإن تمسكتم بهما
لن تضلوا: كتاب الله وعترتي".
أخرجه أحمد في المسند "3/ 17" والحاكم "3/ 148" والطبراني
في الكبير "5/ 190، 205، 210" وفي الصغير "1/ 131" ورواه
الترمذي بلفظ "إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا:
كتاب الله وعترتي: أهل بيتي".
وأجاب الجمهور على هذا:
أولًا: أن هذا خبر آحاد، وليس حجة عند الشيعة.
ثانيًا: ومع التسليم بأنه حجة، فلا نسلم أن المراد
بالثقلين: القرآن والعترة وإنما المراد: القرآن والسنة،
كما في الرواية الأخرى:
"تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله" أخرجه مالك
في الموطأ.
وإنما خج / 1 ص -صلى الله عليه وسلم- العترة بالذكر؛ لأنهم
أخبر بحاله -صلى الله عليه وسلم-.
ثالثًا: على أن أقصى ما تدل عليه هذه الرواية: إنما هو
بيان فضلهم وشرفهم، وهذا أمر لم ينازع فيه أحد، وفرق بين
الفضيلة والحجية، على نحو ما سبق في إجماع الخلفاء الأربعة
والشيخين.
قال الطوفي: "أقرب ما يسلك في الرد على الإمامية في هذه
المسألة:.... أن يقال: إذا خالف أهل البيت باقي الأمة في
حكم، فإما أن يعتبر القولان، أو يلغيا جميعًا، وهو باطل
باتفاق، أو يقدم قول أهل البيت، وهو ضعيف لوجهين:
أحدهما: أنه مخالف لقوله عليه السلام: "اتبعوا السواد
الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار".
الثاني: أن إصابة آحاد يسيرة، وخطأ الجم الغفير بعيد
جدًّا.
شرح مختصر الروضة "3/ 116".
وبذلك يترجح قول الجمهور، وهذا هو الذي عليه العمل والله
أعلم.
ج / 1 ص -418-
مسألة: [هل انقراض العصر شرط لصحة الإجماع]؟
ظاهر كلام أحمد -رحمه الله-: أن انقراض أهل العصر شرط في
صحة الإجماع، وهو قول بعض الشافعية1.
وقد أومأ إلى أن ذلك ليس بشرط، بل لو اتفقت كلمة الأمة ولو
في لحظة واحدة: انعقد الإجماع.
وهو قول الجمهور واختاره أبو الخطاب2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهؤلاء اختلفوا في كيفية الانقراض: فمنهم من اشترط
انقراض جميع أهل العصر، ومنهم من اشتراط انقراض الأكثر،
وهو الماوردي، ومنهم من اشترطه في إجماع الصحابة دون
غيرهم. انظر: التقرير والتحبير "3/ 87".
2 وهو رأي الأئمة الثلاثة: أبي حنيفة ومالك والشافعي، وهو
المنقول عن أكثر الحنفية والمتكلمين.
وفي المسألة مذاهب أخرى:
فقيل: يشترط ذلك في الإجماع السكوتي دون غيره، وهو مذهب
أبي إسحاق الإسفراييني واختاره الآمدي؛ لاحتمال أن يكون
السكوت من أجل التأمل والنظر، وإظهار الخلاف بعد سكوت دليل
على هذا الاحتمال، بخلاف الإجماع القولي أو الفعلي، فليس
فيهما هذا الاحتمال.
وقيل: إن كان مستند الإجماع دليلًا قطعيًّا فلا يشترط فيه
الانقراض، أما إن كان عن دليل ظني اشترط فيه ذلك. وهو مذهب
إمام الحرمين.
وقيل: إن كان المجمع عليه من الأحكام التي لا يتعلق بها
إتلاف واستهلاك اشترط فيه انقراض العصر، وإن تعلق بها ذلك
فوجهان، وهو مذهب الماوردي.
وقيل: إن كان الإجماع مطلقًا لم يشترط الانقراض، وإن كان
معلقًا على شرط اعتبر، مثل أن يقول المجمعون: هذا قولنا،
ويجوز أن يكون الحق في غيره، فإذا وضح نظرنا إليه، وهو
منقول عن بعض الشافعية. =
ج / 1 ص -419-
وأدلة
ذلك أربعة:
أحدها: أن دليل الإجماع: الآية والخبر1، وذلك لا يوجب
اعتبار العصر.
الثاني: أن حقيقة الإجماع: الاتفاق، وقد وجد، ودوام ذلك
استدامة له، والحجة في اتفاقهم، لا في موتهم.
الثالث: أن التابعين كانوا يحتجون بالإجماع في زمن أواخر
الصحابة كأنس2 وغيره، ولو اشترط انقراض العصر: لم يجز ذلك.
الرابع: أن هذا يؤدي إلى تعذر الإجماع، "فإنه إن بقي واحد
من الصحابة: جاز للتابعي المخالفة؛ إذ لم يتم الإجماع"3.
وما دام واحد من عصر التابعي "باق بها"4 لا يستقر الإجماع
منهم، فلتابعي التابعين مخالفتهم، وهذا خبط5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= انظر في هذه المذاهب: البرهان "1/ 693" والإحكام للآمدي
"1/ 231"، المسودة لآل تيمية ص320، أدب القاضي للماوردي
"1/ 474"، التمهيد لأبي الخطاب "3/ 346-347".
1 أما الآية: فقوله تعالى:
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُ الْهُدَى...}.
وأما الخبر: فالأحاديث الكثيرة التي دلت على عصمة الأمة عن
الخطأ، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تجتمع أمتي على
خطأ".
2 أي: أنس بن مالك حيث توفي سنة 93هـ "صفة الصفوة 1/ 298".
3 ما بين القوسين من المستصفى "2/ 372" ومن النسخة التي
حققها الدكتور: عبد الكريم النملة -يحفظه الله-. "2/ 483".
4 ما بين القوسين من المستصفى.
5 وعبارة الغزالي: "وهذا خبط لا أصل له" وفي هذا دلالة على
أن ابن قدامة ينقل كلام الغزالي ويختصر منه بعض العبارات.
ج / 1 ص -420-
ووجه
الأول: أمران:
أحدهما: ذكره الإمام احمد: وهو أن أم الولد كان حكمها حكم
الأمة بإجماع، ثم أعتقهن "عمر" وخالفه "علي" بعد موته1.
وحد الخمر: كان في زمن أبي بكر أربعين، ثم جلد "عمر"
ثمانين، ثم جلد "علي" أربعين2، ولو لم يشترط انقراض العصر
لم يجز ذلك.
الثاني: أن الصحابة لو اختلفوا على قولين: فهو اتفاق منهم
على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة الدليل الأول: أنه لو لم يشترط انقراض العصر، لما
جاز للمجتهد الرجوع عما وافق عليه المجمعين، لاستقرار
الإجماع قبل رجوعه، فيكون محجوجًا به، لكن ذلك جائز وواقع
فعلًا، كالأمثلة التي ذكرها المصنف.
ومنها: أن الصحابة -رضي الله عنهم- أجمعوا في زمن عمر -رضي
الله عنه- على أن أم الولد تعتق بموت سيدها ولا تباع، ثم
خالف "علي" هذا الإجماع بعد موت "عمر" وأجاز بيعها كالأمة،
كما كانت قبل الإجماع.
والأثر المروي في ذلك: عن عبيدة السلماني قال: "سمعت
عليًّا يقول: اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا
يبعن، قال: ثم رأيت بعد أن يبعن. قال عبيدة: فقلت له:
فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحب إليّ من رأيك وحدك في
الفرقة".
أخرجه عبد الرزاق في المصنف: باب بيع أمهات الأولاد، وابن
أبي شيبة في مصنفه: كتاب البيوع والأقضية، باب في بيع
أمهات الأولاد، والبيهقي في سننه الكبرى: كتاب عتق أمهات
الأولاد، باب الخلاف في أمهات الأولاد.
2 روى مسلم: كتاب الحدود، باب حد الخمر، "أن عثمان -رضي
الله عنه- لما أراد إقامة الحد على الوليد بن عقبة- لما
شرب الخمر- قال لعلي -رضي الله عنه-: قم فاجلده، فقال على:
قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن: ولّ حارها من تولى قارّها،
"فكأنه وجد عليه" فقال: يا عبد الله بن جعفر: قم فاجلده،
فجلده، وعلي يعد، حتى بلغ أربعين، فقال: أمسك، ثم قال: جلد
=
ج / 1 ص -421-
تسويغ
الخلاف، والأخذ بكل واحد من القولين فلو رجعوا إلى قول
واحد صارت المسألة إجماعًا.
ولو لم يشترط انقراض العصر: لم يجز ذلك؛ لأنه يفضي إلى خطأ
أحد الإجماعين1.
فإن قيل: لا نسلم تصور وقوع هذا، لكونه يفضي إلى خطأ أحد
الإجماعين.
ثم إن سلمنا تصوره، فلا نسلم أن اختلافهم إجماع على تسويغ
الخلاف، بل كل طائفة تقول: الحق معنا والأخرى مخطئة، وإنما
سوّغت للعامي أن يستفتي كل أحد حتى لا يتحرّج، فإذا اتفقوا
زال القول الآخر، لعدم من يفتي به.
الثالث2: لا نسلم أن إجماعهم بعد الاختلاف إجماع صحيح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعين وجلد أبو بكر أربعين،
وعمر ثمانين، وكلٌّ سُنة، وهذا أحب إلي".
1 هذا هو الدليل الثاني لمذهب القائلين باشتراط انقراض
العصر، خلاصته أنه لو لم يشترط انقراض العصر لما كان اتفاق
المجمعين على أحد القولين في المسألة بعد اختلافهم فيها
إجماعًا، إذ يلزم منه تعارض الإجماعين، وهو باطل، إذ إن
اختلافهم في مسألة على قولين إجماع منهم على تسويغ الخلاف،
فإذا رجعوا إلى أحد القولين واتفقوا عليه، صار ذلك إجماعًا
على عدم تسويغ الخلاف، بل حصروا الحكم في أحد القولين،
فصار الإجماع الثاني معارضًا للإجماع الأول، وتعارض
الإجماعين باطل، لأن كلًّا منهما قاطع، والقواطع المعصومة
لا تتعارض، لكن اتفاقهم على أحد القولين بعد اختلافهم في
المسألة إجماع صحيح، ولا يلزم منه محال، وقد وقع، كاتفاق
الصحابة على قتال مانعي الزكاة، وعلى أن الأئمة من قريش
بعد اختلافهم فيهما وفي أمثالهما.
2 الثالث من وجوه الاعتراض التي بدأها بقوله: "فإن قيل.."
وكان على =
ج / 1 ص -422-
قلنا1.
هذا متصور عقلًا، إذ لا يمتنع أن يتغير اجتهاد المجتهد،
ولا نحجر عليه أن يوافق مخالفه، فمن ذهب إلى تصحيح النكاح
بغير ولي، لِمَ لا يجوز أن يوافق من أبطله إذا ظهر له دليل
بطلانه؟
وإذا انفرد الواحد عن الصحابة، كانفراد ابن عباس في مسألة
العول، لم لا يجوز أن يرجع إلى قولهم؟
وقد أجمع الصحابة -رضي الله عنهم- على قتال مانعي الزكاة
بعد الخلاف2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المصنف أن يقول: فإن قيل: هذا عليه اعتراض من ثلاثة
وجوه: هي: كذا وكذا.
1 بدأ المصنف يرد على الاعتراضات المتقدمة، فبين أنها
قائمة على تصور عقلي محض، وأن الواقع يكذبها ثم أتى بأمثلة
تؤيد ذلك.
2 قصة اختلاف الصحابة -رضي الله عنهم- في قتال مانعي
الزكاة أخرجها مسلم في صحيحه: كتاب الإيمان، باب الأمر
بقتال الناس حتي يقولوا: لا إله إلا الله وأبو داود في
سننه: كتاب الجهاد، باب علام يقاتل المشركون؟ والدراقطني
في سننه، كتاب الزكاة، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-:
"لما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- واستخلف أبو بكر،
وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف
تقاتل الناس وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله
إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله عز
وجل"
قال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة
حق المال، والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- لقاتلهم على منعه.
فقال عمر بن الخطاب: "فوالله ما هو إلا أن رأيت الله -عز
وجل- قد شرح صدر أبي بكر للقتال قال: "فعرفت أنه الحق".
ج / 1 ص -423-
وعلى
أن: "الأئمة من قريش".
وعلى إمامة "أبي بكر" -رضي الله عنه- بعد الخلاف2.
ولا خلاف في تجويز ذلك في القطعيات، فلمَ لا يجوز في
الظنيات؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث: "الأئمة من قريش" أخرجه أحمد في المسند "3/ 129"
والنسائي في سننه الكبرى حديث رقم "2525" والطبراني في
المعجم الكبير حديث "725"، والبزار في كشف الأستار، كتاب
الإمارة، باب الناس تبعًا لقريش حديث "1578" والبيهقي في
السنن الكبرى: كتاب قتال أهل البغي، باب الأئمة من قريش
"8/ 144"، من حديث أنس بن مالك.
ورواه الطبراني، والحاكم في المستدرك: كتاب معرفة الصحابة،
باب ذكر فضائل قريش "4/ 75، 76" والبيهقي من حديث "علي"
-رضي الله عنه-. واختلف في رفعه ووقفه على "علي" ونقل
الحافظ عن الدراقطني أنه رجح في العلل الموقوفة.
ورواه أحمد وأبو بكر بن أبي شيبة، من حديث أبي برزة،
وإسناد الأخيرين حسن. كما قال الحافظ ابن حجر.
وللحديث روايات أخرى بألفاظ مختلفة.
2 قصة اختلاف الصحابة -رضي الله عنهم- فيمن يتولى الخلافة
بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مشهورة، أخرجها ابن
سعد في طبقاته "3/ 183" وأبو يعلى في كتابه "المعتمد في
أصول الدين" ص224. وجاء في هذه القصة: أن عليًّا -رضي الله
عنه- قال: "ولكن إن نبيكم نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم-
لم يمت فجأة، ولم يقتل قتلًا، مرض أيامًا وليالي، يأتيه
بلال فيؤذنه بالصلاة، فيقول: "مروا أبا بكر فليصل بالناس" وهو يرى مكاني، فلما قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نظرنا في
أمرنا: أن الصلاة عضد الإسلام وقوام الدين، فرضينا لدنيانا
من رضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لديننا، فولينا
الأمر أبا بكر".
ج / 1 ص -424-
ومنْع
ذلك1؛ بناء على تعارض الإجماعين ينبني على أن الإجماع تم
في بعض العصر، وهو محل النزاع، فكيف يجعل دليلًا عليه؟
والثاني باطل؛ إذ لا خلاف أن فرض المجتهد في مسائل
الاجتهاد: ما يؤديه إليه اجتهاده.
وفرض المقلد: تقليد أي المجتهدين شاء.
والثالث: دليله: إجماع الصحابة على خلافة أبي بكر، بعد
الاختلاف، فدل على صحته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من هنا بدأ المصنف يناقش الاعتراضات الثلاثة المتقدمة،
فقوله: "ومنع ذلك... إلخ" رد على الاعتراض الأول، فبين أنه
استدلال، بمحل النزاع فلا يصح أن يكون دليلًا.
وقوله: "والثاني باطل.." رد على الاعتراض الثاني، وهو قوله
-قبل ذلك- "ثم إن سلمنا تصوره إلخ".
وقوله: "والثالث" رد على الاعتراض الثالث الذي قال فيه:
"إن إجماعهم بعد الاختلاف إجماع غير صحيح" فرد عليه المصنف
بأن ذلك وقع من الصحابة كثيرًا، فدل على أنه صحيح.
ج / 1 ص -425-
خلافًا
لداود1، وقد أومأ أحمد -رحمه الله- إلى نحو ذلك2، لأن
الواجب: اتباع سبيل المؤمنين جميعهم، والصحابة وإن ماتوا:
لم يخرجوا من المؤمنين ولا من الأمة.
ولذلك: لو أجمع التابعون على أحد قولي الصحابة، لم يصر
إجماعًا، ولا ينعقد الإجماع دون الغائب، فكذلك الميت3.
ومقتضى هذا4 أن لا ينعقد الإجماع -أيضًا- للصحابة، لكن لو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: داود بن على بن خلف، الأصبهاني أصلًا، الكوفي
مولدًا، البغدادي نشأة ووفاة، إمام أهل المذهب الظاهري،
ولد سنة 202هـ.
من مؤلفاته "إبطال القياس" توفي سنة 270هـ.
انظر: وفيات الأعيان "2/ 26" شذرات الذهب "2/ 158".
2 أي أن الرواية الثانية عن الإمام أحمد أنه مع أهل الظاهر
في أن إجماع الصحابة فقط هو الحجة، وإن كانت الرواية ليست
صريحة كالرواية الأولى، وإن كان يعتبر في الإجماع الغائب
دون الميت، خلافًا للظاهرية.
3 انظر: الإحكام للآمدي "1/ 256" والمستصفى "1/ 192".
4 هذا اعتراض توقع الظاهرية وروده عليهم، فذكروه ثم ردوا
عليه، وخلاصة الاعتراض: أن يقول لهم قائل: يلزم على دليلكم
أن لا ينعقد إجماع بعد موت بعض الصحابة، مثل: سعد بن معاذ،
وحمزة بن عبد المطلب وغيرهما ممن استشهدوا من المهاجرين
والأنصار، ممن كانوا موجودين عند نزول قوله تعالى:
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ
الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} فإن إجماع، من وراءهم ليس إجماع جميع المؤمنين، ولا إجماع كل
الأمة، كما يلزم على ذلك -أيضًا- أن لا يعتد بخلاف من أسلم
بعد نزول الآية الكريمة.
فأجابوا عن ذلك بقولهم: نعم لو اعتبرنا ذلك لم ينعقد إجماع
قط، فلم ينتفع بالإجماع، لذلك نعتبر قول من دخل في الوجود
دون من لم يوجد، بمعنى: أنهم فرقوا بين السابق وهو الميت،
وبين اللاحق، فإن الميت ثبت قوله واستقر ورتبت عليه
الأحكام، بخلاف اللاحق، فإنه لم يوجد بعد، فضلًا عن أن
يكون له اجتهاد. انظر: نزهة الخاطر "1/ 373" والمستصفى "2/
355 وما بعدها".
ج / 1 ص -426-
اعتبرنا ذلك: لم ينتفع بالإجماع، فاعتبرنا قول من دخل في
الوجود، دون من لم يوجد.
أو نقول: الآية والخبر تناولا الموجودين الذين كان وجودهم
حين نزول الآية؛ إذ المعدوم لا يوصف بإيمان، ولا أنه من
الأمة.
ولأنه يحتمل: أن يكون لبعض الصحابة في هذه الحادثة قول لم
نعلمه يخالف ما أجمع عليه التابعون، فلا ينعقد إجماعهم
بخلافه.
ولنا: ما ذكرناه من الأدلة على قبول الإجماع، من غير تفريق
بين عصر وعصر.
والتابعون إذا أجمعوا: فهو إجماع من الأمة، ومن خالفهم
سالك غير سبيل المؤمنين.
ويستحيل -بحكم العادة- شذوذ الحق عنهم -مع كثرتهم- كما
سبق.
ولأنه إجماع أهل العصر فكان حجة كإجماع الصحابة.
وما ذكروه باطل:
إذ يلزم على مساقه: أن لا ينعقد الإجماع بعد موت من مات من
الصحابة في عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعده، بعد
نزول الآية، كشهداء أحد، واليمامة، ولا خلاف في أن موت
واحد من الصحابة لا يحسم باب الإجماع.
وكما بطل -على القطع- الالتفات إلى اللاحقين: بطل الالتفات
إلى الماضين، فالماضي لا يعتبر، والمستقبل لا ينتظر.
"فثبت أن وصف"1 كلية الأمة حاصل لكل الموجودين في كل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين القوسين من المستصفى "2/ 357" والذي في الأصل:
"وكلية الأمة =
ج / 1 ص -427-
وقت،
ويدخل في ذلك الغائب، لأنه ذو مذهب تمكن مخالفته وموافقته
بالقوة، والميت لا يتصور في حقه وفاق ولا خلاف، لا بالقوة
ولا بالفعل1.
بل الطفل والمجنون لا ينتظر؛ لأنه بطل منه إمكان الوفاق
والخلاف، فالميت أولى، وما ذكر من احتمال مخالفة واحد من
الصحابة، يبطل بالميت الأول من الصحابة فإن إمكان خلافه لا
يكون كحقيقة مخالفته.
وهذا هو التحقيق "وهو أنه"2 لو فتح باب الاحتمال لبطلت
الحجج؛ إذ ما من حكم إلا ويتصور تقدير نسخه، "وانفراد
الواحد بنقله وموته قبل أن ينقل إلينا"3.
وإجماع الصحابة يحتمل أن يكون واحد منهم أضمر المخالفة
وأظهر الموافقة لسبب، أو رجع بعد أن وافق.
والخبر يحتمل أن يكون كذبًا، فلا يلتفت إلى هذه
الاحتمالات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= حاصلة" ومعناه: أن سائر خطابات التكليف تعم الحاضرين ومن
بعدهم إلى يوم الدين، ولم يختص بمن كان حاضرًا.
1 يعني: أن الغائب يعتبر قوله كالحاضر؛ لأنه تمكن مراجعته
واستعلام رأيه في الواقعة بالمراسلة، او انتظار رجوعه،
فيؤخر الإجماع لحين عودته، بخلاف الميت.
2 ما بين القوسين من المستصفى "2/ 359" وفي المطبوعة "وهذا
التحقيق لأنه...".
3 ما بين القوسين في المستصفى والذي في الأصل: "إذ ما من
حكم إلا يتصور تقدير نسخه ولم ينقل".
ج / 1 ص -428-
فصل: [هل اتفاق التابعين على أحد قولي الصحابة إجماع؟]
وإذا اختلف الصحابة على قولين، فأجمع التابعون على
أحدهما1:
فقال أبو الخطاب، والحنفية: يكون إجماعًا2.
لقوله عليه السلام:
"لا تزال
طائفة من أمتي على الحق"3 وغيره من
النصوص.
ولأنه: اتفاق من أهل عصر، فهو كما لو اختلف الصحابة على
قولين ثم اتفقوا على أحدهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الطوفي في شرح المختصر "3/ 95": "وليس ذلك مخصوصًا
بالتابعين مع الصحابة، بل أي عصر من الأعصار اختلف أهله،
يصح اتفاق أهل العصر بعده على أحد القولين؟ ولا نزاع في
إمكان تصور ذلك عقلًا، بل في صحته شرعًا".
2 وهو رأي كثير من المتكلمين والمعتزلة، وأكثر الحنفية،
وليس الكل كما قال المصنف.
انظر: التمهيد "3/ 297 وما بعدها" وأصول السرخسي "1/ 320".
3 حديث صحيح: أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام، باب قول النبي
-صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على
الحق" عن المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- مرفوعًا، بلفظ:
"لا تزال
طائفة من أمتى ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون".
كما أخرجه مسلم-: كتاب الإمارة، باب: لا تزال طائفة من
أمتي.
وأخرجه الترمذي في كتاب الفتن، باب ما جاء في الأئمة
المضلين، عن ثوبان -رضي الله عنه- مرفوعًا، وقال: "حديث
حسن صحيح".
وأخرجه عن ثوبان -أيضًا- أبو داود في أول كتاب الفتن،
وأحمد في المسند "5/ 278" كما أخرجه عن أبي أمامة -رضي
الله عنه- "5/ 269".
ج / 1 ص -429-
وقال
القاضي، وبعض الشافعية: لا يكون إجماعًا؛ لأنه فتيا بعض
الأمة؛ لأن الذين ماتوا على القول الآخر من الأمة لا يبطل
مذهبهم بموتهم1.
ولذلك يقال: خالف أحمد، أو وافقه، بعد موته فأشبه ما إذا
اختلفوا على قولين، فانقرض القائل بأحدهما.
فإن قيل:
إن ثبت نعت الكلية للتابعين، فيكون خلاف قولهم حرامًا، وإن
لم يكونوا كل الأمة فلا يكون قولهم إجماعًا.
أما أن يكونوا كل الأمة في شيء دون شيء فهذا متناقض.
قلنا:
الكلية2 تثبت بالإضافة إلى مسألة حدثت في زمنهم.
أما ما أفتى به الصحابي: فقوله لا يسقط بموته3.
ولو مات القائل "فأجمع الباقون على خلافه، لا يكون
إجماعًا، ولو حدثت مسألة بعد موته"4 فأجمع عليها الباقون
على خلافه كان إجماعًا.
ومن وجه آخر: أن اختلاف الصحابة على قولين: اتفاق منهم على
تسويغ الأخذ بكل منهما، فلا يبطل إجماعهم بقول من سواهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: العدة "4/ 1105" مختصر ابن الحاجب مع شرح العضد
"2/ 41".
2 أي: الأمة كلها، وهذا يصدق على من حدثت المسالة في
زمنهم.
3 يقول الإمام الشافعي: "المذاهب لا تموت بموت أربابها".
4 ما بين القوسين من النسخة التي حققها الدكتور عبد الكريم
النملة -سلمه الله- "2/ 466".
ج / 1 ص -430-
فصل: [اختلاف الصحابة على قولين يمنع إحداث قول ثالث]
إذا اختلف الصحابة على قولين: لم يجز إحداث قول ثالث في
قول الجمهور1.
وقال بعض الحنفية، وبعض أهل الظاهر: يجوز2؛ لأمور ثلاثة:
أحدها: أن الصحابة خاضوا خوض مجتهدين، ولم يصرحوا بتحريم
قول ثالث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ظاهر كلام المصنف قصر الخلاف في هذه المسألة على عصر
الصحابة مع التابعين، والذي في كتب الأصول عدم التخصيص
بعصر الصحابة، ولذلك يعبرون عنها بقولهم: "إذا اختلف أهل
العصر على قولين امتنع على من بعدهم إحداث قول ثالث" فلا
أدري ما السبب الذي جعل المصنف يقصر المسألة على عصر
الصحابة وحدهم؟
قال ابن مفلح: "كما لو أجمعوا على قول واحد، فإنه يحرم
إحداث قول ثان، ونص عليه الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في
الرسالة".
انظر: الرسالة ص596، شرح الكوكب المنير "2/ 264".
2 ومعهم الشيعة أيضًا، وهو رواية أخرى عن الإمام أحمد.
انظر: التمهيد "3/ 311".
وهناك رأي ثالث مروي عن الشافعي، واختاره المتأخرون من
أصحابه، ورجحه كثير من الأصوليين، منهم: ابن الحاجب،
والقراقفي، والرازي، وابن السبكي، والطوفي وغيرهم، وهو:
أنه إن رفع حكمًا مجمعًا عليه حرم إحداثه، وإن لم يرفع
حكمًا مجمعًا عليه جاز إحداثه:
فمن أمثلة الأول: القول بأن الأخ يحجب الجد، فهذا لا يجوز؛
لأن الصحابة -رضي الله عنهم- اختلفوا في ذلك على قولين،
فمنهم من جعله بمنزلة الأب، فيحجب الأخ، ومنهم من شرّك
بينه وبين الإخوة -على خلاف بينهم في مقدار هذا التشريك-
فكأن الصحابة -رضي الله عنهم- قد أجمعوا على أن للجد نصيب،
فالقول بحجب الأخ له خرق لهذا الإجماع، فلا يجوز.
ج / 1 ص -431-
الثاني: أنه لو استدل الصحابة بدليل، وعللوا بعلة: جاز
الاستدلال والتعليل بغيرهما؛ لأنهم لم يصرحوا ببطلانه، كذا
هنا.
الثالث: أنهم لو اختلفوا في مسألتين، فذهب بعضهم إلى
الجواز فيهما، وذهب الآخرون إلى التحريم فيهما: فذهب
التابعي إلى التجويز في إحدهما، والتحريم في الأخرى: كان
جائزًا، وهو قول ثالث.
ولنا:
أن ذلك يوجب نسبة الأمة إلى تضييع الحق، والغفلة عنه؛ فإنه
لو كان الحق في القول الثالث: كانت الأمة قد ضيعته وغفلت
عنه، وخلا العصر من قائم لله بحجته، ولم يبق منهم عليه أحد
وذلك محال. وقولهم1: "لم يصرحوا بتحريم قول ثالث".
قلنا: ولو اتفقوا على قول واحد، فهو كذلك، ولو لم يجوّزوا
خلافهم.
فأما إذا عللوا بعلة، فيجوز بسواها؛ لأنه ليس من فرض دينهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ومن أمثلة الثاني: اختلاف العلماء في جواز أكل متروك
التسمية، فقال بعضهم: يحل أكله، سواء أكان عمدًا أم سهوًا،
وقال البعض: لا يحل مطلقًا فالقول بأنه إن كان الترك عمدًا
فلا يحل، وإن كان سهوًا فهو حلال، يعتبر قولًا ثالثًا، ولا
حرج فيه.
ويبدو -والله أعلم- رجحان هذا المذهب.
يراجع في هذه المسألة: المحصول للرازي "2/ 1/ 179 وما
بعدها" الإحكام للآمدي "1/ 269-270"، مختصر ابن الحاجب مع
شرح العضد "2/ 39"، المحلى على جمع الجوامع "2/ 198" شرح
الكوكب المنير "2/ 264 وما بعدها" شرح مختصر الروضة "3/ 88
وما بعدها".
1 أي القول الثاني، وهو جواز إحداث قول ثالث.
ج / 1 ص -432-
الاطلاع على جميع الأدلة، بل يكفيهم معرفة الحق بدليل
واحد، وليس على الاطلاع على علة أخرى نسبة إلى تضييع الحق،
بخلاف مسألتنا.
وأما إذا اختلفوا في مسألتين فإنهم: إن صرحوا بالتسوية بين
المسألتين: فهو كمسألتنا، لا يجوز التفريق.
وإن لم يصرحوا به: جاز التفريق، لأن قوله في كل مسألة
موافق لمذهب طائفة.
ودعوى المخالفة للإجماع ههنا جهل بمعنى المخالفة، إذ
المخالفة: نفي ما أثبتوه، أو إثبات ما نفوه، ولم يتفق أهل
العصر على إثبات أو نفي، في حكم واحد، ليكون القول بالنفي
والإثبات مخالفًا، ولا يلتئم الحكم من المسألتين، بل نقول:
لا يخلو الإنسان من خطأ ومعصية، والخطأ موجود من جميع
الأمة، وليس محالًا، إنما المحال: الخطأ بحيث يضيع الحق
حتى لا تقوم به طائفة.
ولهذا: يجوز أن تنقسم الأمة في مسألتين إلى فريقين، فتخطئ
فرقة في مسألة، وتصيب فيها الأخرى، وتخطئ في المسألة
الأخرى، وتصيب فيها المخطئة الأولى2. والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حاصل ذلك: الرد على ما استدل به أصحاب المذهب الثاني من
قولهم:
"الثاني: لو استدل الصحابة بدليل... إلخ" وخلاصته: أن ما
ذكروه قياس مع الفارق، فهناك فرق بين استنباط الحكم، وبين
الدليل والتعليل، فإن الحكم يجوز إثباته بدليلين أو علتين،
ويخفى أحدهما على أهل العصر الأول، ويظهر لأهل العصر
الثاني، وليسوا متعبدين بالاطلاع على جميع الأدلة والعلل؛
لأنها وسائل لا مقاصد، وليس في اطلاعهم على علة أخرى، أو
دليل آخر نسبة إلى تضييع الحق.
انظر: شرح مختصر الطوفي "3/ 90".
2 خلاصة هذا كله: أن الأصوليين اختلفوا في انقسام الأمة
إلى قسمين في =
ج / 1 ص -433-
.......................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مسأليتن، وكلاهما مخطئ في إحداهما:
وحاصل ذلك في ثلاث حالات:
الحالة الأولى: اتفاقهم على الخطأ في المسألة الواحدة من
الوجه الواحد، فهذا لا يجوز إجماعًا.
الحالة الثانية: اتفاقهم على الخطأ في مسألتين مختلفتين،
كأن تكون إحداهما في المعاملات والأخرى في العبادات، فهذا
جائز باتفاق.
الحالة الثالثة: المسألة الواحدة ذات الوجهين، مثل: المانع
من الميراث فإنه جنس واحد، إلا أنه ينقسم إلى نوعين، مثل:
القتل والرق، فهل يجوز أن يقول بعضهم: القاتل يرث، والعبد
لا يرث، ويقول البعض: بعكس ذلك، فيخطئ كل منهما فيما أصاب
فيه الآخر، فقيل: هذا لا يمتنع، لأن الأمة لا تجتمع على
خطأ في شيء معين واحد وقيل: يمتنع؛ نظرًا إلى خطأ المجموع
في الجملة.
انظر: مذكرة الشيخ الشنقيطي ص157.
قال الطوفي -موضحًا ذلك-:
"واعلم أن خطأ كل فرقة في مسألة هو واسطة بين طرفين، فلهذا
خرج الخلاف فيه، وذلك لأن القسمة تقتضي أنه إما أن تخطئ كل
واحدة من الفرقتين، في كل واحدة من المسألتين، أو تصيب كل
واحدة في مسألة وتخطئ في الآخرى:
فالأول ممتنع؛ لأنه خطأ كلي، والثاني جائز حسن؛ لأنه إصابة
كلية، والثالث واسطة، لأنه خطأ من وجه دون وجه، فبالنظر
إلى ما فيه من الخطأ ألحق بالطرف الأول، وهو الخطأ الكلي
في الامتناع، وبالنظر إلى ما فيه من الصواب ألحق بالطرف
الثاني، وهو الصواب الكلي في الجواز" شرح المختصر "3/ 92".
هذا، وقد مثل الطوفي لذلك بأمثلة كثيرة، منها: خطأ
الشافعية في إباحة البنت المخلوقة من الزني، وكراهة الماء
المشمس، وإصابة الحنابلة في تحريمها "أي بنت الزنى" وعدم
كراهة الماء المشمس. انظر: المصدر السابق.
ج / 1 ص -434-
فصل: [في حكم الإجماع السكوتي]
إذا قال بعض الصحابة1 قولًا، فانتشر في بقية الصحابة،
فسكتوا: فإن لم يكن قولا في تكليف فليس بإجماع2.
وإن كان: فعن أحمد -رضي الله عنه- ما يدل على أنه إجماع،
وبه قال أكثر الشافعية.
وقال بعضهم: يكون حجة، ولا يكون إجماعًا3.
وقال جماعة آخرون: لا يكون حجة ولا إجماعًا4، ولا ينسب إلى
ساكت قول، إلا أن تدل قرائن الأحوال على أنهم سكتوا مضمرين
للرضا، وتجويز الأخذ به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تخصيص المصنف مسألة الإجماع السكوتي في الصحابة فقط،
مخالف لما عليه جمهور الأصوليين من تعميمهما في كل
الأعصار، إلا إذا كان مذهبه تخصيص حجية الإجماع بعصر
الصحابة، إلا أن هذا يناقض ما قاله قبل ذلك في مسألة
"إجماع أهل كل عصر حجة، كإجماع الصحابة"؟!
2 يريد بذلك ذكر شروط الإجماع السكوتي وهي: أن ينتشر
ويشتهر، بحيث يبلغ جميع المجتهدين، وأن يكون من المسائل
التكليفية، وليس من مسائل الأصول والعقائد، وأن يكون
السكوت قبل استقرار المذاهب، لأنه إن كان بعدها لم يدل على
الموافقة، وأن تمضي مدة كافية للنظر والتأمل، وأن توجد
قرائن تدل على الرضا، وأن يكون الشخص الذي صدرت منه
المسألة مجتهدًا، وهي من المسائل المجتهد فيها، وأن تنتفي
الموانع التي تمنع من اعتبار السكوت موافقة.
3 بمعنى: أن يكون حجة ظنية يجوز العمل بها، وليس بإجماع
تمتنع مخالفته وهو اختيار أبي هاشم الجبائي والآمدي. انظر:
الأحكام "1/ 252".
4 وهو منقول عن الإمام الشافعي، ولذلك قال: "لا ينسب لساكت
قول". وفي المسألة آراء آخرى كثيرة ذكرها الشوكاني في
كتابه "إرشاد الفحول" وأوصلها إلى =
ج / 1 ص -435-
وقد
يسكت من غير إضمار الرضا لسبعة أسباب:
أحدها: أن يكون لمانع في باطنه لا يطلع عليه.
الثاني: أن يعتقد أن كل مجتهد مصيب.
الثالث: أن لا يرى الإنكار في المجتهدات، ويرى ذلك القول
سائغًا لمن أداه اجتهاده إليه، وإن لم يكن هو موافقًا.
الرابع: أن لا يرى البدار1 في الإنكار مصلحة؛ لعارض من
العوارض ينتظر زواله، فيموت قبل زواله، أو يشتغل عنه.
الخامس: أن يعلم أنه لو أنكر: لم يلتفت إليه، وناله ذل
وهوان، كما قال ابن عباس حين سكت عن القول بالعول في زمن
عمر -رضي الله عنه-: "كان رجلًا مهيبا فهبته"2.
السادس: أن يسكت؛ لأنه متوقف في المسألة؛ لكونه في مهلة
النظر.
السابع: أن يسكت؛ لظنه أن غيره قد كفاه الإنكار، وأغناه عن
الإظهار؛ لأنه فرض كفاية ويكون قد غلط فيه؛ وأخطأ في
وهمه3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= اثنى عشر قولًا. يراجعها من يريد معرفتها والوقوف على
أدلة كل مذهب. انظر: إرشاد الفحول "1/ 326 وما بعدها".
1 أي: المبادرة بالإنكار، بل ينتظر مدة لسبب من الأسباب.
2 سبق تخريجه.
3 عبارة الغزالي: "أن يسكت لظنه أن غيره قد كفاه الإنكار،
وأغناه عن الإظهار ثم يكون قد غلط فيه، وترك الإنكار عن
توهم، إذ رأى الإنكار فرض كفاية، وظن أنه قد كُفي، وهو
مخطئ في وهمه" وهي أوضح من عبارة المصنف في الدلالة على
المراد.
ج / 1 ص -436-
ولنا:
أن حال الساكت لا يخلو من ستة أقسام1:
أحدها: أن يكون لم ينظر في المسألة.
الثاني: أن ينظر فيها فلا يتبين له الحكم.
وكلاهما خلاف الظاهر؛ لأن الدواعي متوفرة، والأدلة ظاهرة،
وترك النظر خلاف عادة العلماء عند النازلة، ثم يفضي ذلك
إلى خلو الأرض عن قائم لله بحجته.
الثالث: أن يسكت تقيَّة، فلا يُظهِر سَبَبها، ثم يظهر قوله
عند ثقاته وخاصته، فلا يلبث القول أن ينتشر.
الرابع: أن يكون سكوته لعارض لم يظهر.
وهو خلاف الظاهر، ثم يفضي إلى خلو العصر عن قائم لله
بحجته.
الخامس: أن يعتقد أن كل مجتهد مصيب.
فليس ذلك قولًا لأحد من الصحابة.
ولهذا: عاب بعضهم على بعض، وأنكر بعضهم على بعض مسائل
انتحلوها.
ثم العادة: أن من ينتحل مذهبًا يناظر عليه، ويدعو إليه،
كما نشاهد في زمننا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل "سبعة" في الواقع ستة، إلا أن الطوفي أشار إلى
وجه سابع فقال: "ووجه سابع: وهو أن ينكر الساكت، لكن لم
ينقل إنكاره" شرح المختصر "3/ 82".
ج / 1 ص -437-
السادس: أن لا يرى الإنكار في المجتهدات.
وهو بعيد لما ذكرناه.
فثبت أن سكوته كان لموافقته.
ومن وجه آخر1: أن التابعين كانوا إذا أشكل عليهم مسألة،
فنقل إليهم قول صحابي منتشر وسكوت الباقين: كانوا لا
يجوزون العدول عنه، فهو إجماع
منهم على كونه حجة.
ومن وجه آخر: أنه لو لم يكن هذا إجماعًا: لتعذر وجود
الإجماع؛ إذ لم ينقل إلينا في مسألة قول كل علماء العصر
مصرحًا به.
وقول من قال: "هو حجة وليس بإجماع" غير صحيح؛ فإنا إن
قدّرنا رضا الباقين كان إجماعًا، وإلا فيكون قول بعض أهل
العصر، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أضاف المصنف إلى الحالات السابقة وجهان آخران، لإثبات أن
الإجماع السكوتي حجة.
إلا ان الطوفي استبدل الوجه الثاني هنا بدليل آخر قال فيه:
"إن إقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- على ما سمعه أو يراه
دليل على رضاه وتصويبه، فكذلك سكوت المجتهدين وإقرارهم؛
لأنهم شهداء الله في الأرض، بنص السنة الصحيحة" شرح
المختصر "3/ 83".
ويقصد بالسنة الصحيحة: ما رواه البخاري في صحيحه حديث رقم
"1367، 2642" ومسلم "949 والترمذي "1058" والنسائي "4/ 59،
60" وأحمد في المسند "3/ 186، 211، 245" من حديث أنس بن
مالك: أنه مر بجنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال النبي -صلى
الله عليه وسلم-
"وجبت"
ثم مر بأخرى فأثنوا عليها شرًا، فقال -صلى الله عليه
وسلم-:
"وجبت"
فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: ما وجبت؟
قال:
"هذا أثنيتم
عليه خيرًا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا فوجبت
له النار، أنتم شهداء الله في الأرض".
ج / 1 ص -438-
مسألة: [في جواز انعقاد الإجماع عن اجتهاد وقياس]
يجوز أن ينعقد الإجماع عن اجتهاد وقياس، ويكون حجة1.
وقال قوم: لايتصور ذلك2؛ إذ كيف يتصور اتفاق الأمة مع
اختلاف طبائعها، وتفاوت أفهامها على مظنون؟
أم كيف تجتمع على قياس، مع اختلافهم في القياس؟
وقال آخرون: هو متصور، وليس بحجة؛ لأن القول بالاجتهاد
يفتح باب الاجتهاد ولا يجب3.
ولنا:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو رأي جمهور العلماء.
2 وهو رأي ابن جرير الطبري كما في المستصفى "2/ 377" وأهل
الظاهر كما في الإحكام لابن حزم "4/ 527" والشيعة كما في
الإحكام للآمدي "1/ 264".
3 عبارة المستصفى "لأن القول بالاجتهاد يفتح باب الاجتهاد،
ولا يحرمه" وقد وضحه الطوفي فقال: "إنه إذا تصور الاتفاق
عن القياس، كان حجة بأدلة الإجماع السابقة؛ لأنه سبيل
المؤمنين، فيحرم خلافه، وبقوله -عليه السلام-: "أمتى لا
تجمتع على ضلالة ونحوه" ومعناه: انه إذا كان عن اجتهاد جاز
مخالفته ولا يحرم، وهذا بالتالي يتعارض مع طبيعة الإجماع.
وهناك رأي رابع حكاه الطوفي، وهو جواز انعقاده عن قياس
جلي، لا عن قياس خفي.
وقد أورد الطوفي -كذلك- رأي القائلين بالجواز بأنهم
اختلفوا في الوقوع: فمنهم من قال: إنه قد وقع، مثل: إمامة
أبي بكر -رضي الله عنه- وقتال مانعى الزكاة، وتحريم شحم
الخنزير وغير ذلك كلها ثبتت بالرأي والاجتهاد.
أما المانعون فقالوا: إن الصورة المذكورة مستفادة من نصوص
معينة، وليست باجتهاد. انظر: شرح المختصر "3/ 124، 125".
ج / 1 ص -439-
أن هذا
إنما يستنكر فيما يتساوى فيه الاحتمال.
أما الظن الأغلب فيميل إليه كل واحد، فأي بُعْدٍ في أن
يتفقوا على أن النبيذ في معنى الخمر في التحريم؛ لكونه في
معناه في الإسكار؟
وأكثر الإجماعات مستندة إلى عمومات، وظواهر، وأخبار آحاد،
مع تطرق الاحتمال.
وإذا جاز اتفاق أكثر الأمم على باطل -مع أنه ليس لهم دليل
قطعي ولا ظني- لِمَ لا يجوز الاتفاق على دليل ظاهر، وظن
غالب؟!
وأما منع تصوره بناء على الخلاف في القياس: فإنا نفرض ذلك
في الصحابة، وهم متفقون عليه، والخلاف حدث بعدهم1.
وإن فرض ذلك بعد حدوث الخلاف فيستند أهل القياس إليه،
والآخرون إلى اجتهاد في مظنون ليس بقياس وهو في الحقيقة
قياس، فإنه قد يظن غير القياس قياسًا وكذلك العكس.
وإذا ثبت تصوره: فيكون حجة لما سبق من الأدلة على
الإجماع2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا اعتراف من المصنف على أن المسألة خاصة بعصر الصحابة
فقط، كما هو ديدنه في المسائل السابقة، بينما الجمهور على
عدم التخصيص بعصر الصحابة -رضي الله عنهم-.
2 معناه: أن كثيرًا من المنكرين للقياس يستندون إليه في
بعض الأحكام ويسمونه بغير اسمه، كالتنبيه وتنقيح المناط
وما أشبه ذلك.
قال الطوفي: ".... فإن كثيرًا من منكري القياس استندوا
إليه في مواضع، وسموه بغير اسمه، كالتنبيه وتنقيح المناط،
فبعضهم يقول: لا يقضي القاضي وهو جائع، وهو في الحقيقة
قياس على الغضب بالجامع المعروف، ويقولون: نبّه بحالة
الغضب على حالة الجوع وغيرها من الأحوال.
والحنفية مع قولهم: لا قياس في الكفارات، أوجبوا الكفارة
على الصائم =
ج / 1 ص -440-
فصل: الإجماع ينقسم إلى مقطوع ومظنون1.
فالمقطوع:
ما وجد فيه الاتفاق مع الشروط التي لا تختلف فيه مع
وجودها، ونقله أهل التواتر.
والمظنون:
ما اختل فيه أحد القيدين: بأن توجد مع الاختلاف فيه،
كالاتفاق في بعض العصر، وإجماع التابعين على أحد قولي
الصحابة، أو يوجد القول من البعض والسكوت من الباقين، أو
توجد شروطه لكن ينقله آحاد1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بالأكل والشراب، وهو في الحقيقة قياس على الوطء، بجامع
الإفساد، وقالوا: هذا تنقيح المناط، اعتبارًا من حديث
الأعرابي، لعموم الإفساد، لا لخصوص الجماع.
فهكذا يجوز أن يستند المخالف في القياس عند الإجماع على ما
لا يعتقده قياسًا، وهو قياس، فيتحد المستند ويتفرع عليه
الإجماع، أو نفرض أن المخالف "يظن القياس غير قياس،
كالعكس" أي: كما يجوز أن يظن غير القياس قياسًا، كالتنقيح،
والتنبيه، ومفهوم الموافقة، كذلك يجوز أن يظن القياس غير
قياس، فيستند إليه في الإجماع".
شرح المختصر "3/ 122-123".
1 خلاصة ما قاله المصنف: أن الإجماع قسمان: مقطوع: وهو ما
وجد فيه جميع الشروط التي لا يختلف فيها، مع وجودها، ونقل
نقلًا متواترًا. ومظنون: وهو: ما اختل فيه أحد القيدين،
بأن يوجد على وجه مختلف فيه متواترًا، أو متفقًا عليه، لكن
بطريق الآحاد.
مثال الأول: اتفاق أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل
العصر الأول، أو أن يكون الإجماع سكوتيًّا، أو يوجد
الاتفاق في بعض العصر، ولم ينقرض حتى =
ج / 1 ص -441-
وذهب
قوم إلى أن الإجماع لا يثبت بخبر الواحد1؛ لأن الإجماع
دليل قاطع، يحكم به على الكتاب والسنة، وخبر الواحد لا
يقطع به، فكيف يثبت به المقطوع؟
وليس ذلك بصحيح؛ فإن الظن متبع في الشرعيات، والإجماع
المنقول بطريق الآحاد يغلب على الظن، فيكون ذلك دليلًا
كالنص المنقول بطريق الآحاد.
وقولهم: "هو دليل قاطع".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خولف إلى آخر المسائل التي وقع فيها الخلاف، هل هي إجماع
أو لا؟.
ومثال الثاني: وهو: المتفق عليه، لكنه نقل آحادًا: أن ينقل
إجماع عن الصحابة بطريق الآحاد. هذا معنى كلامه.
إلا أن جمهور الأصوليين يقسمونه إلى أربعة أقسام: وضحها
الطوفي بقوله: "إن الإجماع إما نطقي، أو سكوتي، وكل واحد
منهما: إما تواتر أو آحاد:
فالنطقي: ما كان اتفاق مجتهدي الأمة، جميعهم عليه نطقًا،
بمعنى: أن كل واحد منهم نطق بصريح الحكم في الواقعة، نفيًا
أو إثباتًا.
والسكوتي: ما نطق به البعض، وسكت البعض.
وكل واحد من هذين إما أن ينقل تواترًا أو آحادًا.
ثم قال: ومراتبها متفاوتة في القوة والضعف، وأقواها:
النطقي المتواتر، ثم النطقي المنقول آحادًا، لضعف الآحاد
عن التواتر، ثم السكوتي المتواتر، ثم السكوتي المنقول
آحادًا". شرح مختصر الروضة "3/ 126، 127".
1 أي: أن الإجماع يكون مستنده خبر من أخبار الآحاد، وهو
رأي جمهور العلماء.
قال الآمدي: -بعد أن بين أن العلماء اختلفوا في ثبوت
الإجماع عن خبر الآحاد-: "فأجازه الحنابلة، وبعض الشافعية،
وبعض الحنفية، وأنكره الباقون". انظر: الإحكام "1/ 281". =
ج / 1 ص -442-
قلنا
قول النبي -صلى الله عليه وسلم- دليل قاطع -أيضًا- في حق
من شافهه، أو بلغه بالتواتر، وإذا نقله الآحاد كان
مظنونًا، وهو حجة، فالإجماع كذلك، بل هو أولى؛ فإنه أقوى
من النص، لتطرق النسخ إلى النص، وسلامة الإجماع منه؛ فإن
النسخ إنما يكون بنص، والإجماع لا يكون إلا بعد انقراض زمن
النص1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقال القرافي في شرح تنقيح الفصول ص332: "الإجماع المروي
بأخبار الآحاد حجة، يعني عند مالك، خلافًا لأكثر الناس".
1 ولذلك قال العلماء: الإجماع لا ينسخ، ولا ينسخ به، وقد
تقدم توضيح ذلك في باب النسخ.
فصل: [الأخذ
بأقل ما قيل ليس إجماعًا]
الأخذ بأقل ما قيل: ليس
تمسكًا بالإجماع، نحو اختلاف الناس في دية الكتابي:
فقيل: دية المسلم1.
وقيل: النصف2.
وقيل: الثلث3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو مذهب الحنفية. انظر: تيسير التحرير "3/ 258" شرح فتح
القدير "8/ 307".
2 وهو ظاهر مذهب الحنابلة: انظر: المغني "8/ 398".
3 وهو ما ذهب إليه الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد. انظر:
الأم "6/ 105" والمغني "8/ 398" وظن بعض العلماء أن الإمام
الشافعي يعتبر ذلك إجماعًا. وهو غير صحيح، حتى قال الإمام
الغزالي: "وهو سوء ظن بالشافعي رحمه الله" ثم بين وجهة نظر
الإمام الشافعي -رضي الله عنه- فقال: =
ج / 1 ص -443-
فالقائل: إنها الثلث ليس هو متمسكًا بالإجماع؛ لأن وجوب
الثلث متفق عليه، وإنما الخلاف في سقوط الزيادة، وهو مختلف
فيه، فكيف يكون إجماعًا؟
ولو كان إجماعًا كان مخالفه خارقًا للإجماع، وهذا ظاهر
الفساد. والله تعالى أعلم.
الأصل الرابع
استصحاب الحال ودليل العقل
اعلم أن الأحكام السمعية لا تدرك بالعقل، لكن دل العقل على
براءة الذمة من الواجبات، وسقوط الحرج عن الحركات والسكنات
قبل بعثة الرسل1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "وظن ظانون أنه تمسك بالإجماع، وهو سوء ظن بالشافعي
-رحمه الله- فإن المجمع عليه وجوب هذا القدر، فلا مخالف
فيه "وهو الثلث" وإنما المختلف فيه: سقوط الزيادة، ولا
إجماع فيه، بل لو كان الإجماع على الثلث إجماعًا على سقوط
الزيادة، لكان موجب الزيادة خارقًا للإجماع، ولكان مذهبه
باطلًا -على القطع-.
لكن الشافعي أوجب ما أجمعوا عليه، وبحث عن مدراك الأدلة،
فلم يصح عنده دليل على إيجاب الزيادة، فرجع إلى استصحاب
الحال في البراءة الأصلية، التي يدل عليها العقل، فهو تمسك
بالاستصحاب، ودليل العقل، لا بدليل الإجماع" انظر:
المستصفى "2/ 404، 405".
1 المصنف جعل الاستصحاب ثلاثة أقسام، وهي: استصحاب العدم
الأصلي، واستصحاب دليل الشرع، واستصحاب حال الإجماع في محل
النزاع.
أولًا: استصحاب العدم الأصلي بدليل العقل على براءة الذمة
من أي تكليف حتى يرد دليل من الشرع بالتكليف، لأن الأصل
براءة الذمة منه، فيستصحب الحال في ذلك، وهذا النوع هو
الذي يعرف بالبراءة الأصلية، والإباحة العقلية. =
ج / 1 ص -444-
فالنظر
في الأحكام: إما في إثباتها، وإما في نفيها.
فأما الإثبات: فالعقل قاصر عنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد دل على هذا النوع آيات من القرآن الكريم مثل قوله
تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275].
ووجه الدلالة من الآية: أنه لما نزلت الآيات القاطعة في
تحريم الربا، خاف الصحابة من الأموال التي اكتسبوها من
الربا قبل التحريم، فبين الله -تعالى- لهم أن ما أكتسبوه
قبل ذلك كان على البراءة الأصلية ولا حرج فيه.
قال الشوكاني: "فله ما سلف: أي ما تقدم منه من الربا لا
يؤاخذ به، لأن فعله قبل أن يبلغه تحريم الربا، أو قبل أن
تنزل آية تحريم الربا" "فتح القدير 1/ 327".
ومثلها قوله تعالى:
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ
هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [سورة
البقرة: 115].
ووجه الدلالة من الآية: أن النبي -صلى الله عليه وسلم-
استغفر لعمه أبي طالب -عند موته- وقال -كما جاء في صحيحي
البخاري ومسلم-:
"لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" كما استغفر بعض المؤمنين لموتاهم من المشركين، فأنزل الله -تعالى-:
{مَا
كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي
قُرْبَى}
[التوبة: 113] فندموا على استغفارهم، وخشوا أن يعاقبوا على
ذلك فنزلت الآية الكريمة:
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى
يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} قال الشوكاني: "أي: أن الله -سبحانه- لا يوقع الضلال على قوم، ولا
يسميهم ضلّالًا بعد أن هداهم إلى الإسلام، والقيام
بشرائعه، ما لم يقدموا على شيء من المحرمات بعد أن يتبين
لهم أنه محرم، وأما قبل أن يتبين لهم ذلك فلا إثم عليهم،
ولا يؤاخذون به". فتح القدير "2/ 469".
وهذا النوع من الاستصحاب حجة عند الجمهور.
ثانيًا: استصحاب ما دل الشرع على ثبوته ودوامه، كاستصحاب
النص وحكمه حتى يرد الناسخ، وكاستصحاب العموم من اللفظ
العام حتى يرد دليل =
ج / 1 ص -445-
................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= على التخصيص، ودوام الملك حتى يثبت انتقاله إلى شخص آخر،
ودوام شغل الذمة الثابت بدليل شرعي، حتى تثبت براءتها.
وهذا النوع حجة أيضًا عند الجمهور.
ثالثًا: استصحاب حال الإجماع، إذا وقع نزاع بعد، فيما تم
الإجماع عليه.
انظر: العدة "4/ 1262" والتمهيد "4/ 251" وإرشاد الفحول
"2/ 248" إعلام الموقعين "1/ 378" التمهيد للإسنوي ص489،
تيسير التحرير "4/ 177".
ومن أمثلة ذلك: إجماع الفقهاء على صحة الصلاة بالتيمم عند
فقد الماء، إذا استمر ذلك حتى دخل في الصلاة، فإذا رأى
الماء أثناء الصلاة، أو سمع وهو يصلي بعض الناس يقولون: قد
وجد الماء، فهل يستمر في صلاته، بناء على الإجماع المستصحب
قبل الصلاة، وصلاته تكون صحيحة، أم أن الصلاة تبطل،
ويستأنفها بالوضوء، ولا اعتبار بالإجماع المتقدم على صحة
الصلاة قبل رؤية الماء؟
في هذا النوع خلاف بين العلماء.
فقال بعضهم، ومنهم الإمام الشافعي: لا تبطل الصلاة، وقال
البعض الآخر -ومنهم الإمام أبو حنيفة-: تبطل الصلاة، ولا
اعتبار بالإجماع السابق؛ لتغير الحال، وهو الذي رجحه علماء
الحنابلة.
ولذلك سيأتي رد الشيخ "ابن قدامة" على القائلين بحجيته،
حيث قال: "وهذا فاسد، لأن الإجماع إنما دل على دوامها حال
العدم، فأما مع الوجود، فهو مختلف فيه، ولا إجماع مع
الاختلاف، واستصحاب الإجماع عند انتفاء الإجماع محال".
وقال الشوكاني مرجحًا ما ذهب إليه الإمام الشافعي-:
"والقول الثاني هو الراجح؛ لأن المتمسك بالاستصحاب باق على
الأصل، قائم في مقام المنع، فلا يجب عليه الانتقال عنه إلا
بدليل يصلح لذلك، فمن ادعاه جاء به". إرشاد الفحول "2/
252".
قلت: ويؤيده النهي عن إبطال العبادة على الدخول فيها؛
لقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [سورة محمد: 33].
ج / 1 ص -446-
وأما
النفي: فالعقل قد دل عليه إلى أن يرد دليل السمع الناقل
عنه، فينتهض دليلًا على أحد الشطرين1.
ومثاله: لما دل السمع2 على خمس صلوات، بقيت السادسة غير
واجبة، لا لتصريح السمع بنفيها؛ فإن لفظه قاصر على إيجاب
الخمسة، لكن كان وجوبها منتفيًا، ولا مثبت للوجوب، فيبقى
على النفي الأصلي.
وإذا أوجب عبادة على قادر، بقي العاجز على ما كان عليه،
ولو أوجبها في وقت، بقيت في غيره على البراءة الأصلية.
فإن قيل:
إذا كان العقل إنما كان دليلًا بشرط أن لا يرد سمع، فبعد
وضع الشرع لا يعلم نفي السمع، ومنتهاكم: عدم العلم بوروده،
وعدم العلم ليس بحجة.
ولو جاز ذلك، لجاز للعامي النفي مستندًا إلى أنه لم يبلغه
دليل3.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: إما الحكم المذكور أو إثباته.
2 وهو النوع الأول من أنواع الاستصحاب الذي أوضحناه
قريبًا.
3 هذا اعتراض أورده المصنف على المنكرين لحجية الاستصحاب،
خلاصته: أن دلالة العقل إنما تكون حجة قبل ورود الشرع، أما
بعد وروده الشرع فغير مسلم، وإلا لجاز للعامي أن يستند إلى
ذلك. بحجة أنه لم يبلغه.
وأجاب عنه المصنف إجابة مختصرة شرحها الشيخ الطوفي فقال:
"إن الناس إما عامي لا يمكنه البحث والاجتهاد في طلب
الدليل، أو مجتهد يمكنه ذلك:
فإن كان عاميًّا، فتمسكه بالاستصحاب مع عدم الدليل الناقل،
هما مما ذكرتم من التمسك بالجهل، فهو لعدم أهليتها كالأعمى
يطوف في البيت على متاع، وآلة البصر لا تساعده على إدراكه.
أما المجتهد الذي يمكنه الوقوف على الدليل، فتمسكه بعد
الجدّ والاجتهاد =
ج / 1 ص -447-
قلنا:
انتفاء الدليل قد يعلم، وقد يظن؛ فإنا نعلم أنه لا دليل
على وجوب صوم شوال، ولا صلاة سادسة؛ إذ لو كان لنقل
وانتشر، ولم يخفَ على جميع الأمة، وهذا علم بعدم الدليل،
لا عدم علم بالدليل، فإن عدم العلم بالدليل ليس حجة،
والعلم بعدم الدليل حجة.
وأما الظن: فإن المجتهد إذا بحث عن مدارك الأدلة، فلم يظهر
له دليل مع أهليته. واطلاعه على مدارك الأدلة، وقدرته على
الاستقصاء، وشدة بحثه، وعنايته، غلب على ظنه انتفاء
الدليل، فنزل ذلك منزلة العلم في وجوب العمل؛ لأنه ظن
استند إلى بحث واجتهاد، وهذا غاية الواجب على المجتهد.
وأما العامي: فلا قدرة له؛ فإن الذي يقدر على التردد في
بيته لطلب متاع، إذا فتش وبالغ، أمكنه القطع بنفي المتاع،
والأعمى الذي لا يعرف البيت، ولا يدري ما فيه، لا يمكنه
ادعاء نفي المتاع.
فإن قيل:
ليس للاستقصاء غاية محدودة، بل للمجتهد بداية ووسط ونهاية،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في طلبه، إنما هو بالعلم بعدم الدليل، لا بعدم العلم
بالدليل، فهو كبصير اجتهد في طلب المتاع من بيت لا علة فيه
مخفيّة له، أي: للمتاع، أي: ليس في ذلك البت أمر يستر
المتاع، فيخفيه عن طالبه، فيجزم بعدمه عند ذلك.
فكذلك المجتهد إذا بالغ في طلب الدليل، فلم يجده، جزم
بعدمه، فإن لم يجزم به، غلب على ظنه، وهو كاف في العمل، لا
سيّما وقواعد الشرع قد مهدت، وأدلته قد اشتهرت وظهرت، وفي
الدواوين قد دوّنت، فعند استفراغ الوسع في طلب الدليل ممن
هو أهل للنظر والاجتهاد، يعلم أنه لا دليل هناك.
وحينئذ يكون الاستصحاب منه تمسكًا بالعلم بعدم الدليل
الناقل، لا بعدم العلم به" شرح مختصر الروضة "3/ 153-154".
ج / 1 ص -448-
فمتى
يحل له أن ينفي الدليل السمعي، والبيت محصور، وطلب اليقين
فيه ممكن، ومدارك الشرع غير محصورة، فإن الأخبار كثيرة،
وربما غاب راوي الحديث.
قلنا:
مهما علم الإنسان أنه قد بلغ وسعه، فلم يجد فله الرجوع إلى
دليل العقل؛ فإن الأخبار قد دونت، والصحاح قد صنّفت فما
دخل فيها محصور، وقد انتهى ذلك إلى المجتهدين، وأوردوها في
مسائل الخلاف.
فإن قيل:
لِمَ لا يكون واجبًا لا دليل عليه، أو له دليل لم يبلغنا؟
قلنا:
أما إيجاب ما لا دليل عليه فمحال؛ لأنه تكليف ما لا يطاق،
ولذلك نفينا الأحكام قبل ورود الشرع، والبحث يدلنا على عدم
الدليل، على ما ذكرناه.
[استصحاب دليل الشرع]
وأما استصحاب دليل الشرع1: فكاستصحاب العموم إلى أن يرد
تخصيص، واستصحاب النص إلى أن يرد النسخ، واستصحاب حكم دل
الشرع على ثبوته ودوامه، كالملك الثابت، وشغل الذمة
بالإتلاف أو الالتزام، وكذلك الحكم بتكرار اللزوم إذا
تكررت الأسباب، كتكرر شهر رمضان، وأوقات الصلوات.
فالاستصحاب إذن: عبارة عن التمسك بدليل عقلي أو شرعي،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو النوع الثاني من الأنواع الثلاثة التي سبق توضيحها.
ج / 1 ص -449-
وليس
راجعًا إلى عدم الدليل، بل إلى دليل ظني مع انتفاء
المغير1، أو العلم به.
فصل: فأما استصحاب حال الإجماع في محل الخلاف:
فليس بحجة في قول الأكثرين2.
وقال بعض الفقهاء: هو دليل3 واختاره أبو إسحاق بن شاقلا4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "بل إلى دليل ظن مع انتفاء المغير" والذي
أثبتناه -تبعًا للمستصفى- هو الذي يدل عليه السياق.
هذا، ولم يشر المصنف في هذين النوعين إلى آراء العلماء في
حجيتهما.
والمشهور في كتب الأصول أن فيهما أربعة مذاهب:
المذهب الأول: أنهما ليسا بحجة، وهو مذهب أكثر الحنفية،
وبعض المتكلمين.
المذهب الثاني: أنه حجة، وهو رأي الجمهور.
المذهب الثالث: أنه يصلح للترجيح دون الاستدلال، وهو منسوب
لبعض المتكلمين.
المذهب الرابع: أنه حجة للدفع لا للإثبات، وهو رأي أبي زيد
الدبوسي، والسرخسي، والبزدوي من الحنفية.
انظر: الإحكام للآمدي "4/ 127 وما بعدها" أصول السرخسي "2/
323" تيسير التحرير "4/ 176".
2 من الحنفية والمالكية والحنابلة، وبعض الشافعية.
3 منهم: أبو ثور، والمزني، وأبو بكر الصيرفي، وداود
الظاهري وبعض الحنابلة، وهو الذي اختاره الآمدي في الإحكام
"4/ 136".
4 هو: إبراهيم بن أحمد بن عمر بن حمدان بن شاقلًا، من
العلماء المبرزين في =
ج / 1 ص -450-
مثاله:
أن يقول في المتيمم إذا رأى الماء في أثناء الصلاة:
الإجماع منعقد على صحة صلاته ودوامها، فنحن نستصحب ذلك حتى
يأتينا دليل يزيلنا عنه.
وهذا فاسد؛ لأن الإجماع إنما دل على دوامها حال العدم.
فأما مع الوجود: فهو مختلف فيه، ولا إجماع مع الاختلاف،
واستصحاب الإجماع عند انتفاء الإجماع محال.
وهذا كما أن العقل دل على البراءة الأصلية بشرط عدم دليل
السمع، فلا يبقى له دلالة مع وجود دليل السمع، وهذا لأن كل
دليل يضاده نفس الخلاف، لا يمكن استصحابه معه، والإجماع
يضاده نفس الخلاف.
والعموم، والنص، ودليل العقل، لا يضاده نفس الاختلاف،
فلذلك صح استصحابه معه4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مذهب الحنابلة، كان جليل القدر، كثير الرواية، حسن
الكلام في الأصول والفروع توفي سنة "369هـ" "شذرات الذهب
2/ 683".
4 حاصل ذلك: أن القائلين بحجية هذ النوع من الاستصحاب
يقولون إن الحكم الثابت قبل الخلاف بالإجماع، حاصل في كل
متحقق دوامه، فيكون هذا الحكم دائم الثبوت، وهو المطلوب.
وأجاب عنه المصنف بأن الأصل في كل متحقق دوامه، ما لم يوجد
ما ينافيه، ومن المعلوم أن الخلاف الذي حدث ينافي الإجماع
الأول، فلا يبقى الحكم مجمعًا عليه.
كما اعترض القائلون بحجيته: بأن استصحاب حال الإجماع
المذكور، يقاس على اللفظ العام، في أنه يصير حجة بعد
التخصيص.
فأجاب المصنف: بأن هذا القياس مع الفارق، وبيانه: أن
الإجماع في صورة التيمم، إنما حصل حال عدم الماء، أما حال
وجوده فهو مختلف فيه، والخلاف =
ج / 1 ص -451-
فصل: [هل النافي للحكم يلزمه الدليل]
والنافي للحكم يلزمه الدليل.
وقال قوم في الشرعيات كقولنا، وفي العقليات لا دليل عليه.
وقال قوم: لا دليل عليه مطلقًا لأمرين:
أحدهما: أن المدّعى عليه الدَّين لا دليل عليه.
والثاني: أن الدليل على النفي متعذر، فكيف يكلف ما لا
يمكن؟
كإقامة الدليل على براءة الذمة1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يضاد الإجماع، فلا يجتمعان، ولا يبقى الإجماع مع الخلاف
حال عدم الماء، كما أن النفي الأصلي الدال على عدم الحكم
لا يبقى مع الدليل السمعي الناقل عن الحكم النافي؛ لكونه
يضاده، فالقياس على العموم قياس باطل؛ لأن العموم والنص،
ودليل العقل، كالقياس من حيث الاختلاف في الحكم لا
ينافيها، فيصح التمسك بها مع الاختلاف، ولا كذلك الإجماع،
فإن الخلاف ينافيه، فلا يصح التمسك به معه. انظر: شرح
مختصر الروضة "3/ 156 وما بعدها".
وأقول:
إن هذا الخلاف الذي نقله المصنف في هذه المسألة، والذي
نقلناه في النوعين السابقين يؤكد ما قلناه في مقدمة هذ
الكتاب من أن المصنف خالف جمهور العلماء في جعل الاستصحاب
من الأدلة المختلف فيها، وليس الأصل الرابع من أصول
الأدلة.
1 اتفق العلماء على أن المثبت للحكم يلزمه الدليل، والخلاف
إنما هو في النافي هل يلزمه الدليل على النفي أو لا؟
في المسألة عدة مذاهب، ذكر المصنف منها ثلاثة:
الأول: أن النافي يلزمه الدليل، وهو مذهب الحنفية وأكثر
الشافعية وأكثر الحنابلة. =
ج / 1 ص -452-
ولنا
قوله -تعالى-:
{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ
نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا
بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}1.
ومن المعنى: يقال للنافي: ما ادعيت نفيه، علمته، أم أنت
شاك فيه؟
فإن أقر بالشك فهو معترف بالجهل.
وإن ادعى العلم: فإما أن يعلم بنظر أو تقليد:
فإن ادعى العلم بتقليد، فهو -أيضًا- معترف بعمى نفسه،
وإنما يدعي البصيرة لغيره.
وإن كان ينظر: فيحتاج إلى بيانه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المذهب الثاني: أنه يلزمه الدليل في الشرعيات، ولا يلزمه
في الأمور العقلية.
وهذا غير مسلم للمصنف، فإن الذي قاله العلماء: عكس هذا،
أي: يلزمه الدليل في العقليات دون الشرعيات.
المذهب الثالث: أنه لا يلزمه الدليل مطلقًا.
وهذا ما جاء واضحًا في عبارة الإمام الغزالي في المستصفى
"2/ 521".
قال: "اختلفوا في أن النافي هل عليه دليل؟
فقال قوم: لا دليل عليه.
وقال قوم: لا بد من الدليل.
وفرق فريق ثالث بين العقليات والشرعيات، فأوجبوا في
العقليات دون الشرعيات".
والذي قاله الغزالي هو ما جاء في العدة لأبي يعلى "4/
1270".
وقد أورد الشوكاني تسعة آراء في المسألة ونسبها لأصحابها،
فراجع حـ2 ص276-279.
1 سورة البقرة الآية: 111.
ج / 1 ص -453-
ولأنه
لو أسقط الدليل عن النافي: لم يعجز المثبت عن التعبير عن
مقصود إثباته بالنفي فيقول: بدل قوله: "مُحدَث": "ليس
بقديم" وبدل قوله: "قادر": "ليس بعاجز"1.
وقولهم: "إن المدعى عليه الدين لا دليل عليه": عنه أجوبة2:
أحدها: المنع؛ فإن اليمين دليل، لكنها قصرت عن الشهادة،
فشرعت عند عدمها، واختصت بالمنكر؛ لرجحان جانبه باليد التي
هي دليل الملك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من أول قول المصنف "ولنا" إلى هنا عبارة عن أدلة
للقائلين بأن النافي يلزمه الدليل، وهي دليل نقلى، وآخر
عقلي من وجهين:
الدليل الأول: أن الله -تعالى- ألزم النافي الدليل في مقام
المناظرة، وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- بمطالبة اليهود
والنصارى بدليل على دعواهم النفي -كما في الآية الكريمة-.
الدليل الثاني: من وجهين:
الأول: عبارة عن عدة احتمالات توجه للنافي: هل ما تدعيه من
علم أو شك، فإن كان عن شك فلا يطلب بدليل، لأنه معترف
بجهله وعدم معرفته، وإن ادعى العلم، فيقال له: هل هو عن
نظر واجتهاد، أو تقليد، فإن كان عن نظر وجب بيانه، وإن كان
عن تقليد فلا يفيده، لأن الخطأ على المقلد جائز.
الوجه الثاني: أن نافي الحكم لو لم يلزمه الدليل لضاع الحق
بين الخصمين وتعطل؛ لأن كلًّا من الخصمين يمكنه أن يعبر عن
دعواه بعبارة نافية، فيقول المدعي لحدوث العالم: "ليس
بقديم" ويقول المدعي لقدمه: "ليس محدث" وإذا أسقط الدليل
عنهما ضاع الحق، وعمت الجهالة. انظر: شرح المختصر "3/
165".
2 هذه أجوبة على دليل أصحاب المذهب القائل: بأنه لا يطالب
بإقامة الدليل على النفي.
ج / 1 ص -454-
واحتمال الكذب فيها لا يمنع كونها دليلًا، كاحتمال الكذب
في الشهادة.
الثاني: إنما لم يحتج المنكر إلى دليل؛ لوجود اليد التي هي
دليل الملك؛ إذ الظاهر أن ما في يد الإنسان ملكه.
الثالث: إنما لم يجب عليه الدليل لعجزه عنه؛ إذ لا سبيل
إلى إقامة دليل على النفي، فإن ذلك إنما يعرف: بأن يلازمه
الشاهد من أول وجوده إلى وقت الدعوى، فيعلم انتفاء سبب
اللزوم قولًا وفعلًا، بمراقبته للحظات، وهو محال.
وشغل الذمة -أيضًا- لا سبيل إلى معرفته؛ فإن الشاهد لا
يحصل إلا الظن بجريان سبب اللزوم، من إتلاف أو غيره، وذلك
في الماضي.
أما في الحال: فإنه يجوز براءتها بأداء، أو إبراء، فاكتفى
بالشهادة على سبب اللزوم، واكتفى معها باليمين لقول النبي
-صلى الله عليه وسلم-: "البينة على المدّعي، واليمين على
من أنكر"1.
أما في مسألتنا: فيمكن إقامة الدليل إن كان النزاع في
الشرعيات، فقد يصادف الدليل عليها من الإجماع، كنفي وجوب
صلاة الضحى، وصوم شوال، أو النص، كقوله، -صلى الله عليه
وسلم-:
"لا زكاة في
الحلي"2، و"لا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح: أخرجه البخاري في: باب إذا اختلف الراهن
والمرتهن، كتاب الرهن، ومسلم: كتاب الأقضية، باب اليمين
على المدعى عليه، والترمذي: أبواب الأحكام، باب ما جاء في
أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، وابن ماجه:
كتاب الأحكام، باب البينة على المدعي واليمين على المدعى
عليه.
2 روى البيهقي في "المعرفة" من حديث عافية بن أيوب عن
الليث عن أبي الزبير عن جابر أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- قال:
"ليس في الحلى زكاة" كما رواه عنه الدراقطني =
ج / 1 ص -455-
زكاة في
المعلوفة"1، أو بمفهوم، أو بقياس، كقياس الخضروات على الرمان في نفي وجوب
الزكاة2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مرفوعًا "2/ 107" وابن الجوزي في التحقيق.
قال البيهقي: عافية مجهول، وقال ابن الجوزي: ما نعلم فيه
جرحًا.
وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد: رأيت بخط شيخنا
المنذري أنه قال: "عافية بن أيوب لم يبلغني فيه ما يوجب
تضعيفه".
انظر: نصب الراية "2/ 374-375".
1 وهو مستفاد من الحديث الذي أخرجه البخاري في كتاب
الزكاة، باب زكاة الغنم، عن أبي بكر -رضي الله عنه- من
طريق محمد بن عبد الله بن المثنى عن أبيه عن ثمامة بن عبد
الله بن أنس، أن أنسًا حدثه: "أن أبا بكر -رضي الله عنه-
كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: بسم الله الرحمن
الرحيم هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- على المسلمين... وذكر كتابًا طويلًا في صدقة
الماشية وفيه: وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين
إلى عشرين ومائة شاة.
ورواه عنه -أيضًا- ابن ماجه: كتاب الزكاة، باب إذا أخذ
المصدق سنًّا دون سن، أو فوق سن حديث رقم "1800".
وله طرق أخرى عن عمرو بن حزم.
2 هذه المسألة فيها عدة وقفات:
الوقفة الأولى: بيان ما ورد في الرمان من أحاديث أو آثار:
ورى مالك في الموطأ، باب ما لا زكاة فيه من الفواكه والقضب
والبقول، قال: "السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، والذي
سمعته من أهل العلم، أنه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة:
الرمان والفرسك والتين، وما أشبه ذلك وما لم يشبه إذا كان
من الفواكه" والفرسك بكسر الفاء والسين: الخوخ.
وروى البيهقي في السنن الكبرى، كتاب الزكاة، من حديث معاذ
بن جبل وفيه: "....... فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب
والخضر فعفو عفا عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". =
ج / 1 ص -456-
وإن
عدم الأدلة: فيتمسك باستصحاب النفي الأصلي الثابت بدليل
العقل.
وأما العقليات: فيمكن نفيها، فإن إثباتها يفضي إلى محال،
وما أفضى إلى المحال محال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الوقفة الثانية: قول المصنف: "كقياس الخضروات على الرمان
في نفي وجوب الزكاة" فيه نظر؛ لأن الخضروات مخالفة للفواكه
فلا تقاس عليها، ولذلك يقال فيها: قياس مع الفارق. هذا من
ناحية.
ومن ناحية أخرى: أن المقيس عليه ليس محل اتفاق حتى يقاس
عليه، فقد ذهب أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- إلى وجوب
الزكاة في كل ما تخرجه الأرض، واستدل على ذلك بأدلة كثيرة،
منها قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ
طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] وقوله -صلى الله عليه وسلم-:
"فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر" إلى آخر ما ذكره الحنفية من أدلة في هذه المقام.
الوقفة الثالثة: أن الخضروات وردت فيها أحاديث خاصة، فلا
معنى للقياس ومن تلك الأحاديث: ما أخرجه الترمذي في كتاب
الزكاة، باب ما جاء في زكاة الخضروات عن معاذ بن جبل -رضي
الله عنه- أنه كتب إل النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله عن
الخضروات -وهي البقول- فقال: "ليس فيها شيء" ثم قال: إسناد
هذا الحديث ليس بصحيح، وليس يصح في هذا الباب عن النبي
-صلى الله عليه وسلم- شيء، وإنما يروى هذا عن موسى بن طلحة
عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا.
كما أخرجه الدراقطني: كتاب الزكاة، باب ليس في الخضروات
صدقة.
وللحديث طرق أخرى كثيرة عن علي وطلحة وأنس بن مالك وعائشة
-رضي الله عنهم جميعًا-.
وقد تكلم الحافظ ابن حجر على هذه الطرق وضعفها كلها.
انظر: تلخيص الحبير "2/ 165"، كتاب الزكاة.
ج / 1 ص -457-
ويمكن
الدليل عليه بدليل التلازم؛ فإن انتفاء أحد المتلازمين
دليل على انتفاء الآخر، كقوله -تعالى-:
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}1.
فانتفاء الفساد دليل على انتفاء إله ثان2.
هذا بيان أصول مختلف فيها، وهي أربعة
الأول- شرع من قبلنا:
إذا لم يصرح شرعنا بنسخه، هل هو شرع لنا؟
وهل كان النبي -صلى الله عليه وسلم- متعبدًا بعد البعثة
باتباع شريعة من قبله3؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنبياء من الآية: 22.
2 من أول قول المصنف: "وأما العقليات..." استدلال منه على
أن النافي في العقليات يمكن أن يستدل بأحد أمرين:
الأمر الأول: أن إثباتها يفضي إلى محال، وكل ما يفضي إلى
المحال محال.
مثال ذلك أن يقال: العالم ليس بقديم، لأنه لو كان قديمًا
للزم تأثير إرادة الصانع وقدرته فيه، لكن تأثير القدرة
والإرادة في القديم محال؛ لأنه يصير بذلك أثرًا، وكل أثر
محدث، فيلزم أن ينقلب القدم محدثًا وهو محال.
الأمر الثاني: الاستدلال عليه بدليل التلازم؛ فإن انتفاء
اللازم يدل على انتفاء الملزوم، مثل قوله تعالى:
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] لكنهما لم تفسدا، فلزم أن لا إله فيهما إلا الله
تعالى.
انظر: شرح مختصر الروضة "3/ 165".
3 ينبغي قبل أن نعرض لمذاهب العلماء، أن نحرر محل النزاع
فنقول: الشرائع السابقة على الإسلام ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ما قام الدليل -عندنا- على أنه كان خاصًا
بهم، وأن الإسلام قد =
ج / 1 ص -458-
............................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نسخه، فهذا لا خلاف بين العلماء في أننا غير مكلفين به،
مثل قوله تعالى:
{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ
الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا
إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ
مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ
وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146].
النوع الثاني: أحكام كانت ثابتة في الشرائع السابقة، وجاء
الإسلام فقررها، سواء أكانت في الكتاب أم في السنة، وهذا
النوع لا خلاف -أيضًا- في أننا مكلفون بها بالنصوص التي في
شريعتنا، لا نقلًا عن الشرائع السابقة، مثل قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
ومثل ما أخرجه ابو داود وابن ماجه، عن جابر -رضي الله عنه-
قال: ذبح النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم الذبح -أي في يوم
العيد- كبشين أقرنين أملحين مرجأين -أي: خصيين- فلما
وجههما قال:
"إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض على ملة إبراهيم
حنيفًا وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي
لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين،
اللهم منك وإليك عن محمد وأمته، بسم الله، والله أكبر" ثم ذبح "التاج: 3/ 113-114".
النوع الثالث: ما ورد في شريعتنا عن الأمم السابقة ولم
يقترن به ما يدل على أنه كان خاصًا بهم، كما لم يتقرن به
ما يدل على أننا مكلفون به، فهذا هو محل الخلاف.
وهذا الخلاف مبني على مسألة أخرى، وهي: هل الرسول -صلى
الله عليه وسلم- كان متعبدًا -قبل البعثة- بشرع أحد من
الأنبياء السابقين أو لا؟
فيه أربعة مذاهب:
المذهب الأول: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان متعبدًا بشرع
من قبله من الأنبياء والمرسلين، وهو مذهب جمهور الحنفية
والمالكية والشافعية، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد.
المذهب الثاني: أنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكن متعبدًا
بشرع أحد ممن قبله، وهو مذهب =
ج / 1 ص -459-
فيه
روايتان1:
إحداهما: أنه شرع لنا اختارها التميمي، وهو قول الحنفية.
والثانية: ليس بشرع لنا.
وعن الشافعية كالمذهبين.
وجه أنه ليس بشرع لنا سبعة أدلة:
الأول: قوله تعالى: لكل
{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}2 فدل على أن كل نبي اختص بشريعة لم يشاركه فيها غيره.
الثاني: قوله -عليه السلام-:
"بعثت إلى الأحمر والأسود، وكل نبي بُعث إلى قومه"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأشاعرة، والمعتزلة، والرواية الثانية عن الإمام أحمد،
وهو الذي اختاره الآمدي.
المذهب الثالث: أنه جائز عقلًا، ولكنه ممتنع شرعًا، وهو
اختيار الإمام فخر الدين الرازي واتباعه.
المذهب الرابع: التوقف وعدم الجزم برأي معين.
انظر في هذه المذاهب: الإبهاج للسبكي "2/ 303" الإحكام
للآمدي "4/ 190"، المعتمد لأبي الحسين البصري "2/ 899"،
والعدة لأبي يعلى "3/ 756"، والتمهيد "2/ 411"، أصول
السرخسي "2/ 99"، تيسير التحرير "3/ 131".
1 أي: عن الإمام أحمد -رحمه الله- كما تقدم تقريبًا.
2 سورة المائدة من الآية: 48.
3 أخرجه مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، عن جابر بن عبد
الله -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
قال:
"أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه
خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود" كما أخرجه
الدرامي =
ج / 1 ص -460-
فدل
على أن كل نبي يختص شرعه بقومه، ومشاركتنا لهم تمنع
الاختصاص.
الثالث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى يومًا بيد
"عمر" قطعة من التوراة فغضب فقال:
"ما هذا
ألم آت بها بيضاء نقية؟ لو أدركني موسى حيًّا ما وسعه إلا
اتباعي"1.
الرابع: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بعث معاذًا إلى
اليمن قال:
"بم تحكم"2؟
فذكرالكتاب، والسنة، والاجتهاد ولم يذكر شرع من قبلنا،
وصوبه النبي -صلى الله عليه وسلم- ولو كانت من مدارك
الأحكام لم يجز العدول إلى الاجتهاد، إلا بعد العجز عنها.
فإن قيل:
اندرجت التوارة والإنجيل تحت الكتاب، فإنه اسم جنس، يعم كل
كتاب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في سننه: كتاب الجهاد، باب أن الغنيمة لا تحل لأحد قبلنا
من حديث أبي ذر -رضي الله عنه- وأحمد في المسند "1/ 250"،
"4/ 416" عن جابر وأبي ذر -رضي الله عنهما-.
1 حديث حسن أخرجه الإمام أحمد في المسند "3/ 470-471" من
حديث عبد الله بن ثابت، الأنصاري، كما أخرجه عنه الطبراني
والبزار، كما في مجمع الزوائد "1/ 173" وقال: رجاله
الصحيح، إلا أن فيه "جابرًا الجعفي" وهو ضعيف.
كذلك أخرجه أحمد في المسند "3/ 338" من حديث جابر بن عبد
الله، وأبو يعلى والبزار، والبغوي في شرح السنة: كتاب
العلم، باب حديث أهل الكتاب، وللحديث طرق أخرى كثيرة غير
ما ذكرنا، يراجع فيها مجمع الزوائد "1/ 173 وما بعدها".
2 تقدم تخريجه.
ج / 1 ص -461-
قلنا:
إطلاق اسم الكتاب لا يفهم منه المسلمون غير القرآن، كيف
ولم يعهد من "معاذ" تعلم شيء من هذه الكتب، ولا الرجوع
إليها؟
الخامس: لو كان النبي -صلى الله عليه وسلم- متعبدًا بها
للزمه مراجعتها والبحث عنها، ولكان لا ينتظر الوحي، ولا
يتوقف في الظهار والمواريث ونحوها.
ولم يعهد منه ذلك إلا في آية الرجم، ليبين أنه ليس بمخالف
لدينهم1.
السادس: أنه لو كان مَدْرَكًا لكان تعلمها وحفظها ونقلها
فرض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن اليهود جاءوا
إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذكروا له أن رجلًا وامرأة
منهم زنيا، فقال -صلى الله عليه وسلم-:
"ما تجدون في التوراة في شأن الزنا؟" فقالوا: نفضحهم ويجلدون.
فقال عبد الله بن سلام: كذبتم، إن فيها الرجم، فأتوا
بالتوراة فنشروها، فجعل رجل منهم يده على آية الرجم، ثم
قرأ ما بعدها وما قبلها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفع
يدك، فرفعها، فإذا فيها آية الرجم، قالوا: صدَق يا محمد،
إن فيها الرجم، فأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بهما
فرجما.
رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهما.
وفي بعض الرويات أنه -صلى الله عليه وسلم- قال لهم:
"ائتوني بأعلم رجلين منكم" فجاءوا بابني صوريا، فنشدهما الله تعالى
"كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟" قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها
كالمرود في المكحلة رجما.
قال:
"فما يمنعكما
أن ترجموهما؟" قالا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل. فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم-
برجمهما".
انظر: صحيح البخاري "8/ 205" صحيح مسلم "3/ 1326" وسنن أبي
داود "2/ 463"، نيل الأوطار "7/ 104" تفسير القرطبي "6/
178".
ج / 1 ص -462-
كفاية،
ولوجب على الصحابة مراجعتها في تعرف الأحكام ولم يفعلوا.
السابع: إطباق الأمة على أن هذه الشريعة: شريعة رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- بجملتها، ولو تعبد بشرع غيره، كان
مخبرًا لا شارعًا.
ووجه الرواية الأخرى:
خمس آيات، وثلاثة أحاديث:
أما الآيات:
فقوله -تعالى-:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ
اقْتَدِه}1.
وقوله -تعالى-:
{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ
يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا}2.
وقوله:
{ثُمَّ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ...}3.
وقوله:
{شَرَعَ
لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا}4.
وقوله:
{وَمَنْ
لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْكَافِرُونَ}5.
فإن قيل:
أما الآيات الثلاث6: فالمراد بها التوحيد، بدليل: أنه أمره
باتباع هدى جميعهم، وما وصّى به جملتهم، وشرائعهم مختلفة،
وناسخة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام من الآية: 90.
2 سورة المائدة من الآية: 44.
3 سورة النحل من الآية: 123.
4 سورة الشورى من الآية: 13.
5 سورة المائدة من الآية: 44.
6 الآيات الثلاث هي آيات سورة الأنعام، والنحل، والشورى.
ج / 1 ص -463-
ومنسوخة، فيدل على أنه أراد الهدى المشترك.
والملة: عبارة عن أصل الدين، بدليل: أنه قال:
{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ
نَفْسَهُ}1.
ولا يجوز تسفيه الأنبياء الذين خالفوا شريعة إبراهيم عليه
السلام.
والهدى والنور: أصل الدين والتوحيد2.
قلنا:
الشريعة من جملة الهدى، فتدخل في عموم قوله تعالى:
{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}
وهي من جملة ما أوصى الله به الأنبياء -عليهم السلام-.
قولهم: "في شرائعهم الناسخ والمنسوخ".
قلنا: إنما يتّبع الناسخ دون المنسوخ، كما في الشريعة
الواحدة.
وأما الأحاديث:
فمنها: أنه قضى في السن بالقصاص، وقال: "كتاب الله
القصاص"3 وليس في القرآن قصاص في السن إلا في قوله تعالى:
{السِّنَّ بِالسِّنِ}4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة من الآية: 130.
2 يقصد بذلك ما جاء في قوله تعالى:
{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ}.
3 هذا الحديث وارد في قصة الربيع بنت النضر الأنصارية حين
كسرت سن جارية، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
"كتاب الله القصاص". أخرجه
البخاري: كتاب الديات باب السن بالسن، وأبو داود كتاب
الديات، باب القصاص في السن، والنسائي: كتاب القسامة، باب
القصاص في السن، وابن ماجه: كتاب الديات باب القصاص في
السن، من حديث أنس بن مالك.
4 سورة المائدة من الآية: 45.
ج / 1 ص -464-
الثاني: مراجعته التوراة في رجم الزانيين1.
الثالث: قوله: "من نام عن الصلاة أو نسيها فليصلها إذا
ذكرها"2
{وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}3. وهذا خطاب لموسى عليه السلام.
وقد أجيب عن الأول4: بأنه دخل في عموم قوله تعالى:
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}5.
وعن الثاني6: بأنه راجع التوراة ليبين كذبهم، وأنه ليس
بمخالف لشريعتهم.
ومن المعنى7:
أن شرع الله -تعالى- الحكم في حق أمة يدل على تعلق المصلحة
به؛ فإنه حكيم لا يخلو حكمه عن مصلحة، ويدل على اعتبار
الشرع له، فلا يجوز العدول عنه حتى يدل على نسخه دليل، كما
في الشريعة الواحدة.
وأما قوله تعالى:
{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}7 فإن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه قريبًا.
2 حديث صحيح: أخرجه البخاري في كتاب مواقيت الصلاة، باب من
نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع
الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها،
وأبو داود: كتاب الصلاة، باب من نام عن صلاة أو نسيها، كما
رواه النسائي وابن ماجه وغيرهما من حديث أنس بن مالك -رضي
الله عنه- مرفوعًا.
3 سورة طه من الآية: 14.
4 أي: الحديث الأول وهو القصاص في السن.
5 سورة البقرة من الآية: 194.
6 وهو حديث رجم الزانيين.
7 أي: الحجة العقلية على كون شرع من قبلنا شرع لنا.
8 سورة المائدة من الآية: 48.
ج / 1 ص -465-
المشاركة في بعض الشريعة لا تمنع نسبتها بكمالها إلى
المبعوث بها؛ نظرًا إلى الأكثر.
وبقية الأدلة تندفع بكون الشريعة الأولى لم تثبت بطريق
موثوق به، بل قد أخبر الله -تعالى- بتحريف أهلها وتبديلهم،
فلذلك أنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- على "عمر" كتاب
التوراة، وصوب معاذًا في إعراضه عن كتبهم، ولم يلزمه ولا
الصحابة الرجوع إليها، ولا البحث عنها.
وإنما الواجب: الرجوع إلى ما ثبت منها بشرعنا، كآية
القصاص1، والرجم، ونحوهما، وهو ما تضمنه الكتاب والسنة،
فيكون منهما، فلا يجوز العدول إلى الاجتهاد مع وجوده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي قوله -تعالى- في سورة المائدة الآية: 45:
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ
وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ
وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ...}.
وبهذا يتضح أنه ليس المقصود بحجية "شرع من قبلنا" مراجعة
كتبهم التي حرفوها، وإنما المقصود: الأحكام التي جاءت في
شريعتنا منسوبة إليهم، أو حكاية عنهم، خاصة في القصص
القرآني، دون أن يقترن بها ما يدل على أنها كانت خاصة بهم،
أو أننا مكلفون بها، كما كانوا مكلفين -على نحو ما سبق في
بيان محل النزاع أول المسألة-.
قال أبو يعلى في العدة "3/ 753": "وإنما يثبت كونه شرعًا
لهم بمقطوع عليه، إما الكتاب أو الخبر، من جهة الصادق، أو
بنقل متواتر، فأما الرجوع إليهم وإلى كتبهم فلا".
وقريب منه ما جاء في المسودة ص184.
وقد اسنتبط العلماء العديد من الأحكام الشرعية المترتبة
على هذا الأصل:
كحرمة السحر، وصحة جعل المنفعة صداقًا للمرأة، والآداب
التي ينبغي على القاضي أن يتحلى بها، أخذًا من قصة داود
عليه السلام، وغير ذلك مما ورد في كتب تفسير آيات الأحكام،
وقصص القرآن. =
ج / 1 ص -466-
الأصل
الثاني من المختلف فيه
قول الصحابي إذا لم يظهر له مخالف1
فروي: أنه حجة يقدم على القياس، ويخص به العموم وهو قول
مالك، والشافعي في القديم، وبعض الحنفية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقد ذكرت أمثلة لذلك في بحث بعنوان: "الإسلام ومواقفه من
الشرائع السابقة".
1 لا بد -قبل حكاية آراء العلماء- من تحرير محل الخلاف،
فنقول:
أولًا: لا خلاف بين العلماء في أن قول الصحابي لا يعتبر
حجة على صحابي آخر؛ لاستوائها في الصحبة والمنزلة، بالنسبة
للمجتهدين منهم.
ثانيًا: أن قول الصحابي فيما لا مجال فيه للرأي والاجتهاد،
حكمه حكم المرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيأخذ
حكم السنة في الحجية، كما روي عن السيدة عائشة -رضي الله
عنها- أن الحمل لا يمكث في بطن أمه أكثر من سنتين.
ثالثًا: قول الصحابي الذي اشتهر وذاع، ولم ينكره أحد، يدخل
في الإجماع السكوتي، كما تقدم خلاف العلماء فيه.
رابعًا: قول الصحابي لا يعتبر حجة بالاتفاق إذا ثبت رجوعه
عنه، كما روي عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- في
رجوعه عن القول بحل زواج المتعة.
خامسًا: قول الصحابي يعتبر حجة على العوام مطلقًا، سواء
أكان ذلك في عصر الصحابة -رضي الله عنهم- أم في غيره من
العصور.
سادسًا: قول الصحابي فيما للرأي فيه مجال، ولم يشتهر؛
لكونه مما لا تعم به البلوى، هذا هو محل الخلاف.
وقد حكى المصنف فيه أربعة مذاهب، وهناك مذهبان آخران:
1- أنه حجة إذا وافق القياس، وهو منسوب إلى الإمام
الشافعي.
2- أنه حجة إذا خالف القياس، لأنه لم يخالف القياس، إلا
لاطلاعه على خبر لم نعرفه. وقد نسب إلى بعض الحنفية وبعض
الشافعية.
انظر: البرهان "2/ 1358" المسودة ص276، 336، 470، الإحكام
=
ج / 1 ص -467-
وروي1:
ما يدل على أنه ليس بحجة.
وبه قال عامة المتكلمين، والشافعي في الجديد، واختاره أبو
الخطاب؛ لأن الصحابي يجوز عليه الغلط والخطأ والسهو، ولم
تثبت عصمته.
وكيف تتصور عصمة من يجوز عليهم الاختلاف؟
وقد جوز الصحابة مخالفتهم، فلم ينكر أبو بكر وعمر على من
خالفهما.
فانتفاء الدليل على العصمة، ووقوع الخلاف بينهم، وتجويزهم
مخالفتهم: ثلاثة أدلة2.
وقال قوم: الحجة قول الخلفاء الراشدين؛ لقوله -عليه
السلام-: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين"3.
وذهب آخرون: إلى أن الحجة قول أبي بكر وعمر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للآمدي "4/ 149"، أصول السرخسي "2/ 105" شرح تنقيح الفصول
ص445.
1 أي عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- وهي الراوية
الثانية عنه.
1 أي: أن القائلين بعدم حجية قول الصحابي استدلوا بثلاثة
أدلة، هي انتفاء العصمة، ووقوع الخلاف بينهم، وتجويزهم
للمخالفة، وقد تقدمت.
3 رواه أحمد في المسند "4/ 126" وأبو داود: كتاب السنة،
باب في لزوم السنة حديث "4607" والترمذي: كتاب العلم، باب
ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع حديث "2676" وابن
ماجه: المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين
حديث "42" وابن حبان: باب الاعتصام بالسنة، حديث5 والحاكم
في المستدرك: كتاب العلم، باب عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين، من حديث العرباض بن سارية.
ج / 1 ص -468-
-رضي الله عنهما- لقوله -عليه السلام-:
"اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر"1.
ووجه الرواية الأولى2.
قوله -صلى الله عليه وسلم-:
"أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"3.
فإن قيل: هذا خطاب لعوام عصره؛ بدليل: أن الصحابي غير داخل
فيه.
قلنا: اللفظ عام، لكن خرج منه الصحابي بقرينة: أنهم الذين
أُمِرَ بتقليدهم، وجعل الأمر لغيرهم.
ومن وجه آخر: هو أن الصحابة أقرب إلى الصواب، وأبعد من
الخطأ؛ لأنهم حضروا التنزيل، وسمعوا كلام الرسول منه، فهم
أعلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه الترمذي من طريق سفيان بن عيينة عن حذيفة: كتاب
المناقب، باب في مناقب أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- حديث
"3663" وقال: حديث حسن.
كما رواه أحمد في المسند "5/ 385" وابن ماجه: في المقدمة
حديث "97" وابن حبان، والحاكم في المستدرك: كتاب معرفة
الصحابة، باب أحاديث فضل الشيخين.
قال البزار وابن حزم: لا يصح، وأعلّاه بأن فيه جهالة
وانقطاعًا. ودفع ذلك الحافظ ابن حجر في التلخيص "4/ 190"
حديث رقم "2096".
2 وهي: أن قول الصحابي حجة، يقدم على القياس، ويخص به
العام.
3 رواه ابن عبد البر في كتاب العلم من طريق الحارث بن غصين
عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، وقال: هذا إسناد لا تقوم
به حجة؛ لأن الحارث مجهول، ورواه الدراقطني في غرائب مالك
عن جابر أيضًا، ورواه عبد بن حميد في مسنده من طريق حمزة
النصيبي عن نافع عن ابن عمر، وله روايات أخرى كثيرة كلها
لا تصح. قال الحافظ في تلخيص الحبير "4/ 190-191": "إسناده
واهٍ" وقال الذهبي في الميزان "2/ 605": "باطل".
ج / 1 ص -469-
بالتأويل، وأعرف بالمقاصد، فيكون قولهم أولى، كالعلماء مع
العامة1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال ابن القيم: "إن الصحابي له مدارك ينفرد بها عنا:
ومدارك نشاركه فيها:
فأما ما يختص به: فيجوز أن يكون سمعه من النبي -صلى الله
عليه وسلم- شفاهًا، أو من صحابي آخر، وعن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- فإن ما انفردوا به من العلم أكثر من أن
يحاط به..... ثم بين أن قوله لا يخرج عن الوجوه الآتية:
أحدهما: أن يكون سمعها من النبي -صلى الله عليه وسلم-.
الثاني: أن يكون سمعها ممن سمعها منه.
الثالث: أن يكون فهمها من آية من كتاب الله فهمًا خفي
علينا.
الرابع: أن يكون قد اتفق عليها ملؤهم، ولم ينقل إلينا إلا
قول المفتي بها وحده.
الخامس: أن يكون لكمال علمه باللغة، وشهود تنزيل الوحي،
ومشاهدة تأويله بالفعل يكون فهم ما لم نفهمه.
وعلى هذه التقادير الخمسة تكون فتواه حجة يجب اتباعها.
السادس: أن يكون فهم ما لم يرده الرسول -صلى الله عليه
وسلم- وأخطأ في فهمه.
وعلى هذا التقدير لا يكون له حجة.
ومعلوم -قطعًا- أن وقوع احتمال من خمسة أغلب على الظن من
وقوع احتمال واحد معين، وذلك يفيد ظنًّا غالبًا قويًّا على
أن الصواب في قوله، دون ما خالفه، وليس المطلوب إلا الظن
الغالب، والعمل به متعين.
وأما المدارك التي شاركناهم فيها من دلالات الألفاظ،
والأقيسة، فلا ريب أنهم كانوا أبرّ قلوبا، وأعمق علما،
وأقرب إلى أن يوفقوا فيما لم نوفق له؛ لما خصهم الله
-تعالى- به من توقد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم،
وسهولة الأخذ، وحسن الإدرك، فالعربية سليقتهم، والمعاني
الصحيحة مركوزة في فطرتهم وعقولهم، ولا حاجة بهم إلى النظر
في الإسناد وأحوال الرواة وعلل الحديث، والجرح والتعديل.
وعلى هذا كانت آراؤهم حجة بالنسبة لغيرهم الذين لم تتوافر
لهم مزاياهم =
ج / 1 ص -470-
وما
ذكروه1 "من عدم العصمة": فلا يلزم؛ فإن المجتهد غير معصوم،
ويلزم العامي تقليده.
وقول من خص الأئمة2 بالاحتجاج بقولهم: لا يصح؛ لما ذكرناه
من عموم الدليل في غيرهم3.
وتخصيصهم بالأمر بالاقتداء بهم: يحتمل أنه أراد الاقتداء
بهم في سيرتهم وعدلهم، ويحتمل: أنه ذكرهم؛ لكونهم من جملة
من يجب الاقتداء بهم.
فصل
وإذا اختلف الصحابة على قولين: لم يجز للمجتهد4 الأخذ بقول
بعضهم من غير دليل5.
خلافًا لبعض الحنفية وبعض المتكلمين: أنه يجوز ذلك، ما لم
ينكر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ومشاهداتهم، والذين انتقلت إليهم النصوص والآثار سماعًا،
وما راءٍ كمن سمعا".
إعلام الموقعين "1/ 248 وما بعدها" ط. الكليات الأزهرية.
1 أي: ما ذكره النافون للحجية من عدم الدليل على عصمة
الصحابي، غير ملزم؛ فإن قول المجتهد من غير الصحابة يلزم
قبوله من العامي، فقول الصحابي أولى حتى ولو كان غير
معصوم.
2 أي: الخلفاء الراشدين.
3 أي: أن من قال: الحجة في قول الخلفاء الراشدين فقط،
عارضه عموم الأدلة الدالة على حجية قول جميعهم، مثل الحديث
المتقدم:
"أصحابي كالنجوم...."
على ما فيه من كلام.
4 أي: من غير الصحابة.
5 وذلك لوجهين: =
ج / 1 ص -471-
على
القائل قوله؛ لأن اختلافهم إجماع على تسويغ الخلاف، والأخذ
بكل واحد من القولين.
ولهذا رجع "عمر" -رضي الله عنه- إلى قول "معاذ" في ترك رجم
المرأة1.
وهذا فاسد؛ فإن قول الصحابة لا يزيد على الكتاب والسنة،
ولو تعارض دليلان من كتاب أو سنة: لم يجز الأخذ بواحد
منهما بدون الترجيح.
ولأننا نعلم أن أحد القولين صواب، والآخر خطأ، ولا نعلم
ذلك إلا بدليل.
وإنما يدل اختلافهم على تسويغ الاجتهاد في كلا القولين،
أما على الأخذ به: فكلَّا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أولًا: للقياس على تعارض دليلين من الكتاب أو السنة،
فإنه لا يجوز الأخذ بواحد منهما إلا بمرجح.
ثانيًا: أن أحد القولين خطأ قطعًا؛ لاستحالة كون الصواب في
كل منهما، وإذا كان أحدهما خطأ، والآخر صواب، فلا سبيل إلى
التمييز إلا بالدليل. انظر: شرح المختصر "3/ 188".
1 يشير إلى ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف "10/ 88، 89"
في كتاب الحدود، باب من قال: إذا فجرت وهي حامل انتظر: "أن
امرأة غاب عنها زوجها، ثم جاء وهي حامل، فرفعها إلى عمر،
فأمر برجمها، فقال معاذ: إن يكن لك عليها سبيل، فلا سبيل
لك على ما في بطنها، فقال عمر: احبسوها حتي تضع، فوضعت
غلامًا له ثنيتان، فلما رآه أبوه قال: ابني، فبلغ ذلك عمر
فقال: عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، لولا معاذ لهلك عمر".
ج / 1 ص -472-
وأما
رجوع "عمر" -رضي الله عنه- إلى معاذ: فلأنه بان له الحق
بدليله، فرجع إليه1.
الثالث: الاستحسان
ولا بد أولًا من فهمه.
وله ثلاثة معان2:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أن رجوعه لم يكن تقليدًا، بل كان بسبب وجود الحجة
التي استند إليها واقتنع بها.
2 هذه التعريفات في الاصطلاح، أما في اللغة: فقد قال ابن
منظور في لسان العرب "13/ 117": "والحسن -محركة- ما حسن من
كل شيء، فهو استفعال من الحسن، يطلق على ما يميل إليه
الإنسان ويهواه، حسيًّا كان هذا الشيء أو معنويًا، وإن كان
مستقبحًا عند غيره".
وفي القاموس المحيط "4/ 215-216": "استحسن الشيء عده
حسنًا".
والمعاني الثلاثة التي ذكرها المصنف، الأول منها منقول عن
الكرخي من الحنفية، وكذلك الغزالي، وغيره، والثاني والثالث
منقولان عن الإمام الغزالي وغيره من المتكلمين، وله
تعريفات أخرى كثيرة أوضح وأصح مما نقل عن الغزالي، نذكر
منها:
1- عرّفه ابن العربي -من المالكية- بأنه: "إثبات ترك مقتضى
الدليل، على طريق الاستثناء والترخيص لما يعارضه في بعض
مقتضياته". "شرح تنقيح الفصول ص452".
2- وعرفه البزدوي -من الحنفية- فقال: "هو العدول عن موجب
قياس إلى قياس أقوى، أو هو: تخصيص قياس بقياس أقوى منه"
أصول البزدوي "4/ 6".
3- ذكر له السرخسي عدة تعريفات منها: "ترك القياس والأخذ
بما هو أرفق للناس: كشف الأسرار "4/ 3".
4- وعرفه الطوفي -من الحنابلة- بأنه: "العدول بحكم المسألة
عن نظائرها =
ج / 1 ص -473-
أحدها:
أن المراد به: العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاص
من كتاب أو سنة.
قال القاضي يعقوب1: القول بالاستحسان مذهب أحمد -رحمه
الله- وهو: أن تترك حكما إلى حكم هو أولى منه.
وهذا مما لا ينكر، وإن اختلف في تسميته، فلا فائدة في
الاختلاف في الاصطلاحات مع الاتفاق في المعنى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لدليل شرعي خاص" شرح مختصر الروضة "3/ 190" وهو قريب من
تعريف المصنف.
قال ابن السمعاني: "إن كان الاستحسان هو القول بما يستحسنه
الإنسان ويشتهيه من غير دليل فهو باطل، ولا أحد يقول به...
ثم قال: والذي يقولون به إنه العدول في الحكم من دليل أقوى
منه، فهذا مما لا ينكره أحد عليه" إرشاد الفحول "2/ 262".
وقد وضح ذلك الشيخ عبد الوهاب خلاف في كتابه "مصادر
التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه ص70" فقال:
"إذا عرضت واقعة يقتضي عموم النص حكمًا فيها، أو يقتضي
تطبيق الحكم الكلي حكمًا فيها، وظهر للمجتهد أن لهذه
الواقعة ظروفًا وملابسات خاصة تجعل تطبيق النص العام، أو
الحكم الكلي عليها، أو اتباع القياس الظاهر فيها يفوت
المصلحة، أو يؤدي إلى مفسدة، فعدل فيها عن هذا الحكم إلى
حكم آخر اقتضاه تخصيصها من العام، أو استثناؤها من الكلي،
أو اقتضاه قياس خفي غير متبادر، فهذا العدول هو الاستحسان،
وهو من طرق الاجتهاد برأيه؛ لأن المجتهد يقدر الظروف
الخاصة لهذه الواقعة باجتهاده برأيه، ويرجح دليلًا على
دليل باجتهاده برأيه".
1 هو: يعقوب بن إبراهيم البرزيني، أبو علي، قاض من فقهاء
الحنابلة، من أهل "برزين" من قرى بغداد، تتلمذ على القاضي
أبي يعلى، وولي قضاء "باب الأزج" وتوفي بها سنة "486هـ" من
مؤلفاته: "التعليقة" في الفقه والخلاف انظر: اللباب "1/
111" معجم البلدان "2/ 123" والأعلام "9/ 253".
ج / 1 ص -474-
الثاني: أنه يستحسنه المجتهد بعقله.
وقد حكي عن أبي حنيفة أنه قال: هو حجة؛ تمسكًا بقوله
تعالى:
{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}1، وقوله:
{اتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ
رَبِّكُمْ}2.
وبقول النبي -صلى الله عليه وسلم- "ما رآه المسلمون حسنًا
فهو عند الله حسن"3.
ولأن المسلمين استحسنوا دخول الحمام من غير تقدير أجرة،
وكذلك نظائره؛ إذ التقدير في مثله قبيح، فاستحسنوا تركه.
ولنا على فساده مسلكان:
الأول: أن هذا لا يعرف من ضرورة العقل ونظره، ولم يرد من
سمع متواتر، ولا نقل آحاد، ومهما انتفى الدليل وجب النفي4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزمر من الآية: 18.
2 سورة الزمر في الآية: 55.
3 تقدم تخريجه في باب الإجماع. والأصح وقفه على عبد الله
بن مسعود -رضي الله عنه- انظر: المقاصد الحسنة ص367.
4 وضحه الطوفي في شرحه "3/ 194" فقال: "إن ما ذكروه من
تعريف الاستحسان إما أن يكون عقليًّا، أو سمعيًّا، أي:
معلومًا من جهة العقل، أو من جهة السمع، وكلاهما باطل، فما
ذكروه من تعريف الاستحسان باطل، أما بطلان كونه عقليًّا أو
سمعيًّا، فلأنه لو كان عقليًّا لكان إما ضروريًّا أو
نظريًّا، لكنه ليس ضروريًّا؛ لأن الضروريات مشتركة بين
العقلاء، ولا اشتراك فيما ذكروه، وليس نظريًّا؛ لأن النظر
فيه ليس قاطعًا، وإلا لكان مشتركًا. ولا مظنونا؛ إذ لا
دليل عليه في النظر، ولو كان سمعيًّا، لكان إما تواترًا،
وهو مفقود، أو آحادًا، وهو كذلك، أي: مفقود أيضًا
كالتواتر، وليس فيه تواتر ولا آحاد، وإن سلمنا أن فيه
دليلًا =
ج / 1 ص -475-
الثاني
أنا نعلم -بإجماع الأمة قبلهم- على أن العالم ليس له الحكم
بمجرد هواه وشهوته من غير نظر في الأدلة.
والاستحسان من غير نظر حكم بالهوى المجرد، فهو كاستحسان
العامي، وأي فرق بين العامي والعالم غير معرفة الأدلة
الشرعية، وتمييز صحيحها عن فاسدها؟
ولعل مستند استحسانه وهم وخيال، إذا عرض على الأدلة لم
يحصل منه طائل.
روي عن الشافعي -رحمه الله- أنه قال: "من استحسن فقد
شرع"1.
ولما بعث معاذ إلى "اليمن" لم يقل: إني أستحسن، بل ذكر
الكتاب والسنة والاجتهاد فقط.
وأما اتباع أحسن ما أنزل إلينا من ربنا: فواجب، فليبينوا
أن هذا أنزل إلينا، فضلًا عن أن يكون من أحسنه.
والخبر2 دليل على أن الإجماع حجة، ولا خلاف فيه.
ثم يلزمهم استحسان العوام والصبيان، فإن فرقوا بأنهم ليسوا
أهلًا للنظر، قلنا: إذا كان لا ينظر في الأدلة، فأي فائدة
في أهلية النظر؟
وما استشهدوا به من المسائل: لعل مستند ذلك: جريانه في عصر
النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقريره عليه، من معرفته به؛
لأجل المشقة في تقدير الماء
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= سمعيًا آحادًا، لكن الآحاد لا تفيد في هذا الباب، لأنها
إنما تفيد ظنًّا ما، والاستحسان أصل قوي، فلا يثبت بمثل
ذلك".
1 الرسالة ص507، والأم "7/ 270".
2 أي: "ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن".
ج / 1 ص -476-
المصبوب في الحمام، ومدة المقام، والمشقة سبب الرخصة.
ويحتمل أن يقال: دخول الحمام مستباح بالقرينة، والماء متلف
بشرط العوض، بقرينة حال الحمامي، ثم ما يبذله له إن ارتضى
الحمامي، واكتفى به عوضًا، وإلا طالبه بالتسديد إن شاء،
فهذا أمر يقاس، والقياس حجة.
الثالث: قولهم: "المراد به دليل ينقدح في نفس المجتهد لا
يقدر على التعبير عنه" وهذا هوس1؛ فإن ما لا يعبر عنه لا
يدري أهو وهم أو تحقيق، فلا بد من إظهاره ليعتبر بأدلة
الشريعة، فلتصححه أو تزيفه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "هو بين" وما أثبتناه من المستصفى "2/ 474"
وفسره الجوهري بأنه: طرف من الجنون.
وأقول: هذا الكلام فيه مبالغة من الغزالي، وممن تابعه
كالمصنف؛ فإنه لم يقل أحد من المسلمين بجواز الاستحسان
بالهوى والتشهي، فضلًا عن الأئمة المجتهدين الذين رضيهم
المسلمون لأخذ الأحكام الشرعية عنهم؛ لثقتهم فيهم، ومن
أولهم: الإمام أبو حنيفة النعمان الذي قال عنه الإمام
الشافعي "الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة".
وهو أول من أظهر القول بالاستحسان، وجاء تلاميذه من بعده
فأصّلوه ووضعوا له التعريفات التي سبق ذكر بعضها، وقسموه
تقسيمًا يتفق مع قواعد الشريعة ومقاصدها العامة.
والإمام مالك -رحمه الله- تعالى إمام دار الهجرة يقول: عن
الاستحسان "إنه تسعة أعشار العلم".
والإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- مع إنكاره الشديد على
من قال بالاستحسان، استعمل الاستحسان في كثير من المسائل
الفقيهة ومنها:
1- استحسن في متعة المطلقة أن تكون على المتوسط ثلاثين
درهمًا، وعلى الموسع خادم، وعلى المقتر مقنعة، وهي: ما
تغطي به المرأة رأسها. =
ج / 1 ص -477-
....................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= 2- استحسن في الشفعة أن تؤجل ثلاثًا، وقال: "إنه استحسان
مني وليس بأصل" الأم "3/ 232".
3- استحسن التحليف على المصحف، لما في ذلك من فضل الخوف من
الله تعالى والتحرج من الكذب، قال: "وقد رأيت بعض الحكام
يحلف بالمصحف، وذلك عندي حسن" الأم "6/ 289" وأمثلة أخرى
كثيرة يضيق المقام عن حصرها.
وإذا رجعنا إلى الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- نجده
-أيضًا- يستعمل الاستحسان في بعض المسائل منها:
1- قال في رواية صالح، في المضارب إذا خالف فاشترى غير ما
أمره به صاحب المال: "فالربح لصاحب المال، ولهذا أجرة
مثله، إلا أن يكون الربح يحيط بأجرة مثله فيذهب، وكنت أذهب
إلى الربح لصاحب المال، ثم استحسنت" مسائل الإمام أحمد
رواية ابنه صالح "1/ 448" وانظر: العدة "5/ 1604".
2- قال في رواية الميموني: "أستحسن أن يتيمم لكل صلاة،
ولكن القياس أنه بمنزلة الماء حتي يحدث، أو يجد الماء"
العدة "5/ 1604" التمهيد "4/ 87".
3- وقال -في رواية بكر بن محمد- فيمن غصب أرضًا فزرعها:
"الزرع لرب الأرض وعليه النفقة، وليس هذا بشيء يوافق
القياس، أستحسن أن يدفع إليه نفقته" العدة "5/ 1605"
والتمهيد "4/ 87" والمسوّدة ص452.
وإذا كانت هذه هي نصوص أئمة الفقه، وهي صريحة في استعمال
كلمة "الاستحسان" والاحتكام إليه، فلم يبق إلا أن نقول: إن
الخلاف في المسألة خلاف لفظي، وأن المنكرين للاستحسان،
إنما يقصدون القائم على الهوى والتشهي، وحين يحتكمون إلى
الاستحسان، إنما يقصدون الاستحسان الذي يستند إلى أصل من
أصول الشريعة، وقواعدها العامة، التي تهدف إلى جلب المصالح
ودفع المفاسد.
وقد بين القاضي أبو يعلى -رحمه الله تعالى- الفرق بين
القول بالتشهي =
ج / 1 ص -478-
الاستصلاح، أو المصلحة المرسلة
الرابع من الأصول المختلف فيها: الاستصلاح1:
وهو: اتِّباع المصلحة المرسلة.
والمصلحة: هي جلب المنفعة، أو دفع المضرة.
وهي ثلاثة أقسام:
قسم شهد الشرع باعتبارها. فهذا هو القياس، وهو: اقتباس
الحكم من معقول النص أو الإجماع2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والقول بالاستحسان فقال:
"فإن قيل: فما الفرق بين المستحسن وبين المشتهي؟ وهلّا
أجزتم إطلاق المشتهي على ما سميتموه مستحسنًا؟ قيل: الفرق
بينهما: أن الشهوة لا تتعلق بالنظر والاستدلال.
ألا ترى أنها لا تختص من كمل عقله، وعرف الأصول، وطرق
الاجتهاد في أحكام الشريعة، دون من ليست هذه صفته.
وأما الاستحسان: فإنه يختص النظر والاستدلال على حسب ما
بيّنا.
يبين صحة الفرق بينهما: أنه قد يصح وصف الشيء بأنه مستحسن
عند الله، ولا يصح وصفه بأنه مشتهى عنده، تعالى الله أن
يوصف بذلك" العدة "5/ 1609".
1 الاستصلاح: استفعال، مأخوذ من "صَلَح يَصْلُح" سمي بذلك؛
لأن الشرع أو المجتهد يطلب صلاح المكلفين باتباع المصلحة
ومراعاتها، لأن الشريعة -عامة- قائمة على جلب المصالح ودرء
المفاسد، فما من خير إلا دعت إليه ورغبت فيه، وما من شر
إلا حذرت منه ونهت عنه.
2 معنى "اقتباس الحكم...." أي: استفادته وتحصيله من معقول
الشرع، سواء أكان نصًّا من كتاب أوسنة، أو إجماع: مثل:
تحريم شحم الخنزير قياسًا على تحريم لحمه الذي في العديد
من آيات القرآن الكريم، ومثل: وجوب الحل =
ج / 1 ص -479-
القسم
الثاني:
ما شهد ببطلانه: كإيجاب الصوم بالوقاع في رمضان على الملك؛
إذ العتق سهل عليه فلا ينزجر، والكفارة وضعت للزجر، فهذا
لا خلاف في بطلانه؛ لمخالفته النص، وفتح هذا يؤدي إلى
تغيير حدود الشرع1.
الثالث- ما لم يشهد له بإبطال، ولا اعتبار معين:
وهذا على ثلاثة ضروب:
أحدها: ما يقع في مرتبة الحاجات: كتسليط الولي على تزويج
الصغيرة، فذلك لا ضرورة إليه، لكنه محتاج إليه؛ لتحصيل
الكفؤ؛ خيفة من الفوات، واستقبالًا للصلاح المنتظر في
المآل.
الضرب الثاني: ما يقع موقع التحسين والتزيين، ورعاية حسن
المناهج في العبادات والمعاملات، كاعتبار الولي في النكاح؛
صيانة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بوطء ذات المحرم بعقد النكاح، قياسًا على وطئها بالزنى،
وهو محل اتفاق بين العلماء. انظر: شرح مختصر الروضة "3/
205".
1 جاء في كتاب الاعتصام للشاطبي "2/ 114": "حكى ابن بشكوال
أنه اتفق لعبد الرحمن بن الحكم أن وطئ في نهار رمضان، فسأل
الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته، فقال يحيى بن يحيى
الليثي المالكي، تلميذ الإمام مالك: يكفر ذلك صيام شهرين
متتبابعين، ثم علل فتواه -بعدم التخيير في الكفارة- لو
فتحنا له هذا الباب، سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة،
ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود".
وعدم صحة ذلك راجع إلى مخالفته لصريح الحديث الذي رواه
مسلم وغيره: في كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في
نهار رمضان على الصائم، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- "أن
النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر رجلًا أفطر في رمضان أن
يعتق رقبة، أو يصوم شهرين، أو يطعم ستين مسكينًا".
انظر: نصب الراية "2/ 319".
ج / 1 ص -480-
للمرأة
عن مباشرة العقد؛ لكونه مشعرًا بتوقان نفسها إلى الرجال،
فلا يليق ذلك بالمروءة، ففوض ذلك إلى الولي؛ حملًا للخلق
على أحسن المناهج.
ولو أمكن تعليل ذلك بقصور رأي المرأة في انتقاء الأزواج
وسرعة الاغترار بالظاهر: لكان من الضرب الأول، ولكن لا يصح
ذلك في سلب عبارتها.
فهذان الضربان لا نعلم خلافًا في أنه لا يجوز التمسك بهما
من غير أصل؛ فإنه لو جاز ذلك: كان وضعا للشرع بالرأي، ولما
احتجنا إلى بعثة الرسل.
ولكان العامي يساوي العالم في ذلك؛ فإن كل أحد يعرف مصلحة
نفسه1.
الضرب الثالث- ما يقع في رتبة الضروريات2:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة ذلك: أن المصلحتين: الحاجية والتحسينية، لا يجوز
التمسك بهما من غير وجود ما يشهد لهما من الشرع من جنسهما،
لأسباب ثلاثة:
الأول: أن ذلك يكون وضعًا للشرع بالرأي من غير دليل شرعي
من نص أو إجماع.
الثاني: أنه لو جاز ذلك لاستوى العامي والعالم، لأن كلًّا
منهما يعرف مصلحة نفسه.
الثالث: أنه لو صح ذلك، لاستغنى عن بعثة الرسل، باعتبار أن
العقل كاف، وهذا غير صحيح.
2 الضروريات: هي ما لا بد منها في قيام مصالح الدين
والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة،
وبفقدها يختل نظام الحياة، وتعم الفوضى، وتنتشر المفاسد
بين الناس، وتفوت النجاة والنعيم في الآخرة.
أما الحاجية: فهي المصالح التي يحتاج الناس إليها للتوسعة
ورفع الحرج =
ج / 1 ص -481-
وهو ما
عرف من الشارع الالتفات إليها.
وهي خمسة: أن يحفظ عليهم دينهم، وأنفسهم، وعقلهم، ونسبهم،
ومالهم.
ومثاله: قضاء الشرع بقتل الكافر المضل، وعقوبة المبتدع
الداعي إلى البدع، صيانة لدينهم1.
وقضاؤه بالقصاص، إذ به حفظ النفوس.
وإيجابه حد الشرب؛ إذ به حفظ العقول.
وإيجابه حد الزنا، حفظًا للنسل والأنساب2.
وإيجابه زجر السارق؛ حفظًا للأموال3.
وتفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والمشقة، بحيث إذا فقدت لحق الناس ضيق ومشقة، لكنه لا
يبلغ مبلغ الفساد الواقع أو المتوقع من فوات الضروريات.
والتحسينات: هي الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب
المدنسات فهي لا ترجع إلى ضرورة، ولا إلى حاجة، وإنما تقع
موقع التحسين والتزيين والتوسعة والتيسير للمزايا
والمراتب، ورعاية أحسن المناهج في العبادات والمعاملات،
والحمل على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات.
انظر: الموافقات "2/ 8 وما بعدها"، المستصفى "1/ 290" شرح
العضد على مختصر ابن الحاجب "2/ 241".
1 وكذلك قتل المرتد، والداعي إلى الردة.
2 وحفظ العرض بإيجاب حد القذف.
3 وذلك بتشريع حد السرقة، وهو القطع، أو حد الحرابة
للمحاربين الذين يعيثون في الأرض فسادًا.
ج / 1 ص -482-
[آراء العلماء في اعتبار المصالح المرسلة]
فذهب مالك، وبعض الشافعية إلى أن هذه المصلحة حجة؛ لأنا قد
علمنا أن ذلك من مقاصد الشرع.
وكون هذه المعاني مقصودة عرف بأدلة كثيرة لا حصر لها من
الكتاب والسنة وقرائن الأحوال، وتفاريق الأمارات.
فيسمى ذلك مصلحة مرسلة، ولا نسميه قياسًا؛ لأن القياس يرجع
إلى أصل معين1.
والصحيح: أن ذلك ليس بحجة؛ لأنه ما عرف من الشارع المحافظة
على الدماء بكل طريق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الواقع أن هذا ليس مذهب الإمام مالك وبعض الشافعية، كما
قال المصنف، ولكنه رأي جمهور العلماء، ومنهم الإمام
الشافعي في القديم، وبعض الحنفية، كما أنه مروي عن الإمام
أحمد وكثير من الحنابلة، غير أن الإمام مالكًا -رحمه الله
تعالى- توسع في الأخذ بالمصالح المرسلة أكثر من غيره،
ويليه في الأخذ بها الحنابلة، وهذا ما نص عليه العلماء في
العديد من مؤلفاتهم:
قال القرافي: "هي عند التحقيق في جميع المذاهب؛ لأنهم
يقومون ويقعدون بالمناسبة، ولا يطلبون شاهدًا بالاعتبار"
شرح تنقيح الفصول ص445.
وقال ابن دقيق العيد "الذي لا شك فيه أن لمالك ترجيحًا على
غيره من الفقهاء في هذا النوع، ويليه أحمد بن حنبل، ولا
يكاد يخلو غيرهما من اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيح
في الاستعمال لها على غيرهما" المصدر السابق وانظر: إرشاد
الفحول "2/ 265".
وقال الطوفي -تعليقًا على قول ابن قدامة-: "والصحيح أن ذلك
ليس بحجة": "وقال بعض أصحابنا: ليست حجة، هذا إشارة إلى
الشيخ أبي محمد.
قال في الروضة: "والصحيح أن ذلك ليس بحجة" وإنما قلت: "قال
بعض أصحابنا" ولم أقل: قال أصحابنا؛ لأني رأيت من وقفت على
كلامه منهم، حتى الشيخ "أبا محمد" في كتبه إذا اسغرقوا في
توجيه الأحكام، يتمسكون بمناسبات =
ج / 1 ص -483-
............................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مصلحية، يكاد الشخص يجزم بأنها ليست مرادة للشارع،
والتمسك بها يشبه التمسك بحبال القمر، فلم أقدم على الجزم
على جميعهم بعدم القول بهذه المصلحة خشية أن يكون بعضهم قد
قال بها، فيكون ذلك تقوّلًا عليهم" شرح مختصر الروضة "3/
210".
وقد نسب إمام الحرمين القول بحجية المصالح إلى الإمام
الشافعي، ومعظم الحنفية، والإمام مالك، والإمام أحمد، وشيخ
الإسلام ابن تيمية، وأنهم جميعًا يأخذون بالمصالح المرسلة،
ويعتبرونها دليلًا، ما دامت قد اشتملت على ما دعا الشارع
لحفظه. انظر: البرهان "2/ 1114" والاعتصام للشاطبي "2/
111".
ونختم الحديث في ذلك بما جاء عن الإمام ابن تيمية وتلميذه:
الإمام ابن القيم:
جاء في فتاوى ابن تيمية "3/ 338، 349، 394" في بحث قاعدة:
الأصل في العقود والشروط. يقول -رحمه الله تعالى-: "فتبين
أن مقصود العباد
من المعاملات لا يبطله الشارع إلا مع التحريم، لا أنه لا
يصححه إلا بتحليل... إلى أن قال: وإذا كان الملك يتنوع
أنواعًا، وفيه من الإطلاق والتقييد ما وصفته وما لم أصفه،
لم يمتنع أن يكون ثبوت ذلك مفوضًا إلى الإنسان، يثبت منه
ما رأى فيه مصلحته، ويمتنع من إثبات ما لا مصلحة فيه،
والشارع لا يحظر على الإنسان إلا ما فيه فساد راجح أو محض،
فإذا لم يكن فيه فساد، أو كان فساده مغمورًا بالمصلحة، لم
يحظره أبدًا".
ويقول ابن القيم في إعلام الموقعين "3/ 288": "وتعليق
العقود والفسوخ والتبرعات وغيرها بالشروط، أمر تدعو إليه
الضرورة، أو الحاجة، أو المصلحة، فلا يستغني عنه المكلف".
هذا بالإضافة إلى الأحكام الفرعية المبثوثة في كتب الفقه
الحنبلي، والتي بنيت على المصلحة، ومنها:
1- القول بتضمن الأجير المشترك وإن لم يتعدّ، وهو مروي عن
الإمام أحمد -نفسه- وله قول آخر بتضمين كل شريك ولو كان
خاصًّا، مستندًا إلى قول "علي" -رضي الله عنه- الذي رواه
في مسنده "لا يصلح الناس إلا هذا" انظر: المغني "6/ 107".
=
ج / 1 ص -484-
ولذلك
لم يشرع المثلة، وإن كانت أبلغ في الردع والزجر، ولم يشرع
القتل في السرقة وشرب الخمر.
فإذا ثبت حكمًا لمصلحة من هذه المصالح لم يعلم أن الشرع
حافظ على تلك المصلحة بإثبات ذلك الحكم، كان وضعًا للشرع
بالرأي، وحكمًا بالعقل المجرد، كما حكي أن مالكا قال:
"يجوز قتل الثلث من الخلق لاستصلاح الثلثين".
ولا نعلم أن الشرع حافظ على مصلحتهم بهذا الطريق، فلا يشرع
مثله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=
2- روي عن الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- أنه جوز تخصيص
بعض الأولاد بالهبة لمعنى يقتضي التخصيص؛ مثل: اختصاصه
بحاجة أو زمانة، أو عمي، أو كثرة عائلة، أو اشتغاله بطلب
العلم، أو نحوه من الفضائل، أو صرف عطيته عن بعض ولده
لفسقه، أو بدعته، أو لكونه يستعين بما أخذه على معصية
الله، أو ينفقه فيها. المغني "6/ 265".
3- وجاء في كشاف القناع "2/ 177": "وضمان العهدة صحيح عند
جماهير العلماء؛ لأن الحاجة تدعو إلى الوثيقة.... ثم قال:
ولأنه لو لم يصح لامتنعت المعاملات مع من لم يعرف، وفيه
ضرر عظيم رافع لأصل الحكمة التي شرع البيع من أجلها".
وينبغي أن يكون معلومًا أن ما يقوله جمهور العلماء في
الأخذ بالمصالح المرسلة، إنما هو حدود ما تشهد له الشريعة
في الجملة بالاعتبار، ما لم يخالف نصًّا أو إجماعًا، وهذا
يخالف ما ذهب إليه الإمام الطوفي -رحمه الله تعالى- من
اعتبار المصلحة، حتى ولو خالفت نصًّا أو إجماعًا، وهذا
الرأي منه مخالف لما عليه أهل العلم، سلفًا وخلفًا، لأن
مذهبه هذا يتعدى حدود المصالح المرسلة، إلى العمل بالمصالح
التي ألغاها الشارع، وهو مرفوض تمامًا، ولا أحد يوافقه
عليه، لأن المصلحة دائمًا مع الدليل الشرعي، ولا كلام في
ذلك. والله أعلم. |