روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد
بن حنبل ج / 1 ص -273-
الأصل الثاني من الأدلة سنة النبي -صلى الله
عليه وسلم-1
وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
حجة؛ لدلالة المعجز على صدقه، وأمر الله -سبحانه- بطاعته،
وتحذيره من مخالفة أمره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رواه الإمام أحمد في مسنده "2/ 88"
والشافعي، كتاب الطهارة، باب ما جاء في نواقض الوضوء،
والدارقطني: كتاب الطهارة، باب ما روي في لمس القبل والدبر
والذكر، والبيهقي: كتاب الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر
بلفظ "من مس ذكره فليتوضأ"، والحاكم في المستدرك: كتاب
الطهارة، باب الوضوء من مس الذكر وقال: "حديث صحيح".
وأخرجه ابن حبان في صحيحه وقال: "هذا
حديث صحيح سنده، وعدول نقلته".
وذكر الزيلعي في نصب الراية "1/ 56"
أن البيهقي أخرجه من طريق البخاري موقوفًا على أبي هريرة،
كما نقل ذلك عن الذهبي في مختصره.
وللعلماء في ترجيح أحد الحديثين على
الآخر، أو نسخ حديث أبي هريرة لحديث طلق خلاف طويل.
قال أبو يعلى في العدة "3/ 833":
"وكان خبر أبي هريرة متأخرًا، لأن أبا هريرة أسلم بعد وفاة
طلق بن علي، وقبل وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بأربع
سنين".
وقال الطوفي -تعقيبًا على حديث "هل
هو إلا بضعة منك"- قال: "فإن في بعض ألفاظه: "جئت وهم
يؤسسون المسجد" وكان ذلك أول الإسلام، وحديث أبي هريرة
وبسرة وأم حبيبة في نقض الوضوء بمس الذكر بعد ذلك، لأن أبا
هريرة متأخر الإسلام أسلم سنة سبع، وبناء المسجد كان في
أول السنة الأولى من الهجرة". شرح المختصر "2/ 343، 344".
1 لم يذكر المصنف تعريف السنة في
اللغة ولا في الاصطلاح، كعادة علماء الأصول، وسوف نذكر ذلك
بإيجاز ونحيل القارئ إلى المصادر التي استوفت ذلك:
فالسنة في اللغة: الطريقة والسيرة
المستمرة، سواء أكانت حسنة أم سيئة. قال =
ج / 1 ص -274-
.................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الله تعالى:
{سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا
وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا} [الإسراء: 77].
وروى مسلم في صحيحه: كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو
بشق تمرة -والترمذي وحسنه- أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال:
"من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها بعده، لا ينقص ذلك من
أجورهم شيئًا، ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل
بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا".
وخصها بعض العلماء بالطريقة الحسنة دون غيرها. انظر: "لسان
العرب جـ14 ص225، تهذيب اللغة جـ4 ص298".
وأما في الاصطلاح: فلها تعريف عام، وتعريفات خاصة، بحسب
اصطلاح أهل كل فن أو علم من العلوم:
فهي في الاصطلاح العام: تطلق على كل ما نقل عن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- أو عن السلف الصالح من الصحابة
والتابعين وغيرهم من الأئمة المقتدى بهم. وهو ما جاء في
قوله -صلى الله عليه وسلم-:
"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي،
عضوا عليها بالنواجذ".
أخرجه أبو داود حديث رقم "4607" والترمذي: باب الأخذ
بالسنة، وابن ماجه "1/ 15-16".
وهي بهذا المعنى تقابل البدعة.
وأما تعريفها في الاصطلاحات الخاصة، فإنها تختلف باختلاف
اصطلاح أهل كل فن:
فالسنة عند المحدثين: هي ما نقل عن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- من أقوال وأفعال وتقريرات، وصفاته الخَلْقية
والخُلُقية، سواء أكان ذلك قبل البعثة أم بعدها.
وعند الفقهاء: هي ما طلب الشارع فعله طلبًا غير جازم، أو
ما في فعلها ثواب، وليس في تركها عقاب، باعتبار أن الفقهاء
يبحثون عن حكم أفعال العباد، من الوجوب والندب، والإباحة
والحرمة والكراهة إلى آخر صفات أفعال العباد.
أما علماء الأصول فقد عرفوا السنة بتعريف يتفق مع طبيعة
منهجهم من =
ج / 1 ص -275-
وهو
دليل قاطع على من سمعه منه شفاهًا، فأما من بلغه بالإخبار
عنه: فينقسم في حقه قسمين: تواترًا وآحادًا1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= البحث في الأدلة الشرعية واستنباط الأحكام منها -على وجه
الإجمال- ولذلك قالوا في تعريفها: هي ما نقل عن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- من قول أو فعل أو تقرير، وزاد بعضهم
جملة "مما ليس بقرآن" وقال بعضهم: "تطلق السنة على ما صدر
من النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأفعال والأقوال التي
ليست للإعجاز".
وأدخلوا التقريرات في الأفعال، باعتبار أن التقرير عبارة
عن الكف عن الإنكار، والكف فعل، فكان التقرير داخلًا في
الأفعال.
انظر: في ذلك: الإبهاج للسبكي "2/ 170" نهاية السول "2/
170" الإحكام للآمدي "1/ 169" شرح الكوكب المنير "2/ 160"
شرح مختصر الروضة "2/ 623" وما بعدها إرشاد الفحول ص "1/
155"، الحدود للباجي ص56.
1 خلاصة هذا الكلام: أن المصنف أراد أن يستدل على أن السنة
حجة من ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن المعجز دل على صدقه -عليه الصلاة والسلام-
وكل من دل المعجز على صدقه فهو صادق، فهو -صلى الله عليه
وسلم- صادق، وكل صادق قوله حجة، فقوله -عليه الصلاة
والسلام- حجة.
والوجه الثاني: أن الله -تعالى- أمر بتصديقه، وكل من أمر
الله بتصديقه كان قوله حجة.
أما أن الله -تعالى- أمر بتصديقه -عليه الصلاة والسلام-
فلقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ...} [النساء: 136] أي: صدقوا؛ لأن الإيمان هو التصديق، ولا معنى
للتصديق بالرسول -صلى الله عليه وسلم- إلا اعتقاد صدقه،
وقبول ما جاء به.
وقال تعالى:
{قُلْ
إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} [آل عمران: 31] والمتابعة فرع على التصديق، وملزوم له، والأمر
بالفرع والملزوم أمر بالأصل واللازم.
أما أن كان من أمر الله -تعالى- بتصديقه يكون له قوله حجة؛
فلأن تصديقه إياه يقتضي أن قوله حق وصدق، والحق والصدق
حجة. =
ج / 1 ص -276-
.............................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوجه الثالث: أن الله -تعالى- حذر من مخالفة النبي -صلى
الله عليه وسلم- بقوله تعالى:
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
[النور: 63] وكل من حذر الله -سبحانه وتعالى- من مخالفته
وجبت موافقته ومتابعته؛ لأن المخالفة سبب لنزول العذاب،
وسبب العذاب -وهو المخالفة- حرام، وترك الحرام واجب، فترك
المخالفة واجب، وترك المخالفة يستلزم المتابعة والموافقة،
فتكون واجبة، وهذا هو المطلوب. انظر: شرح مختصر الروضة جـ2
ص66، 67.
هذا معنى ما قاله ابن قدامة.
وهذه الوجوه الثلاثة ذكرها الغزالي في المستصفى، ما عدا
الوجه الثالث فلم يذكره، ولكنه قال: "ولأنه لا ينطق عن
الهوى، إن هو إلا وحي يوحى" لكن بعض الوحي يتلى، فيسمى
"كتابًا" وبعضه لا يتلى وهو "السنة" المستصفى جـ2 ص120
تحقيق الدكتور حمزة بن زهير حافظ.
والواقع أن ما ذكره الغزالي أورده بعض العلماء في
الاستدلال على حجية السنة، وما ذكره "ابن قدامة" وارد
أيضًا، وهناك آيات أخرى كثيرة في الدلالة على حجية السنة،
من أوضحها قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].
قال ابن كثير: "أطيعوا الله: أي اتبعوا كتابه، وأطيعوا
الرسول: أي خذوا بسنته، وأولي الأمر منكم: أي فيما أمروكم
به من طاعة الله، لا في معصية الله، وأنه لا طاعة لمخلوق
في معصية الخالق" تفسير القرآن العظيم "1/ 518".
وقال ميمون بن مهران: "الرد إلى الله: هو الرجوع إلى
كتابه، والرد إلى الرسول: هو الرجوع إليه في حياته، وإلى
سنته بعد وفاته" جامع بيان العلم وفضله "2/ 190".
وكما دل القرآن الكريم على حجية السنة، فقد دلت السنة
نفسها على أن سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حجة يجب
الالتزام بما جاءت به من أحكام، والأحاديث الواردة في هذا
الشأن كثيرة، منها:
1- عن مالك -رضي الله عنه- أنه بلغه أن النبي -صلى الله
عليه وسلم قال:
"تركت فيكم
=
ج / 1 ص -277-
..........................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أمرين لن تضلوا ما تمسكتم
بهما: كتاب الله تعالى وسنة رسوله".
2- روى البخاري بسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- كتاب
الاعتصام: باب الاقتداء بسنن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى" قالوا: ومن يأب يا رسول الله؟ قال:
"من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى".
3- عن عبد الرحمن بن أبي عوف، عن المقدام بن معد يكرب، عن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
"ألا إني
أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته
يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه،
وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار
الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع.."
الحديث.
رواه أحمد في مسنده "4/ 130-131" وأبو داود في سننه حديث
"4604" ورواه الترمذي بلفظ
"ألا هل عسى رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته
فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال
استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حرمناه، وإن ما حرم رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- كما حرم الله" انظر: مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة للسيوطي ص11.
كذلك دل الإجماع على حجيّة السنة، منذ عصر الصحابة -رضي
الله عنهم- والتابعين، والأئمة المجتهدين، وإلى يومنا هذا،
لم يشذ عن ذلك إلا من لا حظ له في الإسلام.
فقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- إذا عرضت عليهم مسألة
بحثوا عن حكمها في كتاب الله تعالى، فإذا لم يجدوا حكمها
في القرآن بحثوا عنها في السنة، هكذا كانت سياسة الخليفة
الأول: أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وكذلك عمر بن
الخطاب، ومن جاء بعدهما من الصحابة والتابعين والأئمة
المجتهدين.
روى الدارمي عن ميمون بن مهران قال: "كان "أبو بكر" ‘إذا
ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي
به، قضي به بينهم، وإن لم يجد في كتاب الله، نظر: هل كانت
من النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه سنة؟ فإن علمها قضى
بها، فإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين فقال: أتاني كذا
وكذا... فنظرت في =
ج / 1 ص -278-
..........................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= كتاب الله، وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم
أجد في ذلك شيئًا، فهل تعلمون أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- قضى في ذلك بقضاء؟ فربما قام إليه الرهط فقالوا:
نعم، قضى فيه بكذا وكذا، فيأخذ بقضاء رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- ويقول -عند ذلك-: الحمد لله الذي جعل فينا من
يحفظ عن نبينا.
وإن أعياه ذلك دعا رءوس المسلمين وعلماءهم، فاستشارهم،
فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به".
وكتب "عمر" -رضي الله عنه- إلى "شريح" لما ولاه قضاء
الكوفة كتابًا قال له فيه:
"انظر ما تبين لك من كتاب الله فلا تسأل عنه أحدًا، وما لم
يتبين لك فاتبع فيه سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وما لم
يتبين لك من السنة فاجتهد رأيك، واستشر أهل العلم والصلاح"
انظر: إعلام الموقعين جـ1 ص84 وما بعدها.
وهكذا كان التابعين -رضي الله عنهم- والأئمة المجتهدون،
يرجعون إلى السنة النبوية بعد القرآن الكريم، بل كانوا
يرجعون إلى السنة لبيان ما جاء به القرآن مجملًا،
باعتبارها الشارحة والمفسرة للقرآن الكريم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
".... وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين -عند الأمة
قبولًا عامًّا- يتعمد مخالفة رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- في شيء من سنته، دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون
اتفاقًًا على وجوب اتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلى
أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء
حديث صحيح بخلافه، فلا بد له من عذر في تركه" رفع الملام
عن الأئمة الأعلام ص3-4.
والمراد بالمعجز: القرآن الكريم، حيث عجز العرب جميعًا عن
أن يأتوا بمثله، أو بمثل أقل سورة منه، بل عجز الإنس والجن
جميعًا عن الإتيان بمثله، كما جاء في قوله تعالى:
{قُلْ
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ
يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ
بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
وفي بعض النسخ المطبوعة "المعجزة" وهي أعم من أن تكون
قرآنًا أو غيره، =
ج / 1 ص -279-
فصل: [ألفاظ الرواية]
وألفاظ الرواية في نقل الأخبار خمسة1:
فأقواها: أن يقول سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
[يقول كذا]، أو أخبرني، أو حدثني، أو شافهني.
فهذا لا يتطرق إليه الاحتمال، وهو الأصل في أمر الرواية،
قال -صلى الله عليه وسلم-:
"نضر الله امرأ
سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها"2
الحديث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فمعجزات الرسول -صلى الله عليه وسلم- كثيرة، منها
المعنوية، ومنها الحسيّة، وكلها تدل على صدق رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- في كل ما أمر بتبليغه عن الله -عز
وجل- وقال الله تعالى:
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ
الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ
هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ
أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا
مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي
عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [يونس: 15].
وقال تعالى:
{وَمَا
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى،
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 3-5].
وقال تعالى:
{وَلَوْ
تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا
مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ
الْوَتِينَ}
[الحاقة: 44-46].
إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في صدق رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وأنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة كما أمره ربه جل
وعلا.
وقول المصنف: "وهو دليل قاطع على من سمعه منه شفاها..."
معناه: أن قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- إن كان مسموعًا
منه مباشرة بدون واسطة، فهو حجة قاطعة على من سمعه منه، لا
يسوغ مخالفته بوجه من الوجوه، إلا بنسخ، أو جمع بين
متعارضين بتأويل صحيح.
وإن كان منقولًا بواسطة، فهو ينقسم إلى قسمين: متواتر
وآحاد، ولكل منهما حكم خاص سيأتي قريبًا.
1 هذه المراتب خاصة بالصحابة -رضي الله عنهم- وقد صرح بذلك
الغزالي في المستصفى.
2 للحديث عدة طرق: فأخرجه من حديث زيد بن ثابت، أحمد في
مسنده =
ج / 1 ص -280-
الرتبة
الثانية: أن يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
كذا، فهذه ظاهرة النقل1، وليس نصًّا صريحًا؛ لاحتمال أن
يكون قد سمعه من غيره عنه، كما روى أبو هريرة أنه -صلى
الله عليه وسلم- قال: "من أصبح جنبًا فلا صوم له"2. فلما
استكشف قال: حدثني الفضل بن عباس3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "5/ 183" وأبو داود "3643" والترمذي "2794" وابن ماجه
"230" والطبراني في الكبير "4891" وابن حبان وصححه حديث
"72، 73".
كما أخرجه من حديث عبد الله بن مسعود، أحمد، والترمذي
"2657" وابن ماجه "1/ 85" والشافعي في الرسالة ص411، وفي
المسند "1/ 14" وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله
"1/ 40"، والحاكم في معرفة علوم الحديث ص322، وابن حبان
"1/ 227" وغيرهم.
1 قوله: "فهذا ظاهره النقل" أي: إذا صدر ذلك من الصحابي لم
يكن صريحًا؛ لاحتمال أن يكون قد قال ذلك اعتمادًا على ما
بلغه عن طريق التواتر، أو على لسان من يثق به.
2 حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وأحمد ومالك وابن ماجه.
انظر: فتح الباري "4/ 143"، صحيح البخاري حاشية السندي "1/
329" ومسلم مع شرح النووي "2/ 779" مسند الإمام أحمد "6/
84" الموطأ "1/ 290"، سنن ابن ماجه "6/ 84".
وقد روت عائشة وأم سلمة -رضي الله عنهما- "أن النبي -صلى
الله عليه وسلم- كان يصبح جنبًا من غير احتلام في رمضان،
ثم يغتسل ويصوم ذلك اليوم" أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب
اغتسال الصائم، وأبو داود: كتاب الصوم، باب فيمن أصبح
جنبًا في شهر رمضان حديث "2388" ومسلم: كتاب الصيام، باب
صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب حديث "78/ 1109".
فلما علم أبو هريرة بذلك قال: هما أعلم بذلك، وأن الحديث
الذي رواه إنما نقله عن: الفضل بن العباس بن عبد المطلب بن
هاشم ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان رديف رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع، غزا مع رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- في فتح مكة وثبت يوم حنين، توفي
سنة 13هـ على بعض الأقوال.
انظر: طبقات ابن سعد "4/ 37"، الأعلام "5/ 355".
ج / 1 ص -281-
وروى
ابن عباس قوله:
"إنما الربا في النسيئة"1. فلما روجع أخبر أنه سمعه من أسامة بن زيد2.
فهذا حكمه حكم القسم الذي قبله؛ لأن الظاهر أن الصحابي لا
يقول ذلك إلا وقد سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن
قوله ذلك يوهم السماع، فلا يقدم عليه إلا عن سماع، بخلاف
غير الصحابي3.
ولهذا اتفق السلف على قبول الأخبار، مع أن أكثرها هكذا4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قال الخطابي: فأحسن ما سمعت في تأويل ما رواه أبو هريرة
أن يكون ذلك محمولًا على النسخ، وذلك أن الجماع كان محرمًا
في أول الإسلام على الصائم في الليل بعد النوم، كالطعام
والشراب، فلما أباح الله -تعالى- الجماع إلى طلوع الفجر،
جاز للجنب، إذا أصبح قبل أن يغتسل أن يصوم ذلك اليوم؛
لارتفاع الحظر المتقدم. انظر: "معالم السنن للخطابي 2/
115".
1 حديث صحيح أخرجه البخاري "3/ 98" بلفظ "لا ربا إلا في
النسيئة" ومسلم: حديث رقم "1596" من طريق أبي صالح قال:
سمعت أبا سعيد الخدري يقول: الدينار بالدينار، والدرهم
بالدرهم، مثلًا بمثل، من زاد أو ازداد فقد أربى.
فقلت له: إن ابن عباس يقول هذا. فقال: لقد لقيت ابن عباس
فقلت له: أرأيت هذا الذي يقول، أشيء سمعته من رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- أو وجدته في كتاب الله عز وجل؟ فقال:
لم أسمعه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم أجده في
كتاب الله، ولكن حدثني أسامة بن زيد أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- قال: "الربا في النسيئة".
2 هو: أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل، أبو زيد الكلبي،
كان حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي في خلافة
معاوية -رضي الله عنه- سنة 54هـ. "الاستيعاب 1/ 75، تهذيب
الأسماء 1/ 113".
3 مقصوده من ذلك: أن قرينة حاله تدل على أنه لم يسمع من
النبي -صلى الله عليه وسلم- بخلاف الصحابي. هذا معنى
كلامه، وفيه نظر: فإن الحديثين المتقدمين منقولان عن بعض
الصحابة، ولم يسمعوا منه -صلى الله عليه وسلم- ولذلك لا
نسلم للمصنف جعل هذه الرتبة مثل السابقة، لهذا الاحتمال.
4 أي: أن أكثر الأخبار تروى هكذا: قال أبو بكر، قال عمر
-رضي الله عنهما-.
ج / 1 ص -282-
ولو
قدّر أنه مرسل فمرسل الصحابة حجة على ما سيأتي.
الرتبة الثالثة: أن يقول الصحابي: أمر رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- بكذا، أو نهى عن كذا. فيتطرق إليه احتمالان:
أحدهما: في سماعه، كما في قوله: [قال]1.
والثاني: في الأمر2؛ إذ قد يرى ما ليس بأمر أمرًا؛ لاختلاف
الناس فيه، حتى قال بعض أهل الظاهر: لا حجة فيه ما لم ينقل
اللفظ3.
والصحيح: أنه لا يظن بالصحابي إطلاق ذلك إلا إذا علم أنه
أمر [بذلك]4.
وأما احتمال الغلط: فلا يحمل عليه أمر الصحابة؛ إذ يجب حمل
ظاهر قولهم وفعلهم على السلامة مهما أمكن.
ولهذا لو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو شرط
شرطًا أو وقَّت وقتًا، فيلزمنا اتباعه5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الاحتمال الأول في سماعه شفاهًا أو بواسطة، كما في
الرتبة الثانية، ولذلك نقلت لفظ "قال" من المستصفى لتوضيح
المعنى.
2 الاحتمال الثاني: أن يظن ما ليس بأمر أمرًا وما ليس بنهي
نهيًا. وهذا الاحتمال بعيد، فإن الصحابة -رضي الله عنهم-
كانوا على دراية تامة بقواعد اللغة وأساليبها المختلفة،
فلا يعقل أن يشتبه عليهم ذلك، وهم أهل الفصاحة والبيان.
3 هذا النقل عن أهل الظاهر فيه نظر، فلم أجده في كتبهم،
فلا أدري من أين نقله المصنف. انظر: الإحكام لابن حزم "2/
205" فليس فيه ما يشير إلى ذبلك.
4 ما بين القوسين من المستصفى.
5 قال الغزالي: "ولا يجوز أن نقول: لعله غلط في فهم الشرط
والتأقيت، ورأى ما ليس بشرط شرطًا".
ج / 1 ص -283-
ثم هذا
إنما يستقيم أن لو كان الخلاف في الأمر مبنيًّا على اختلاف
الصحابة فيه، ولم يثبت ذلك.
والظاهر: أنه لم يكن بينهم فيه اختلاف؛ إذ لو كان لنقل،
كما نقل اختلافهم في الأحكام، وأقوالهم في الحلال والحرام.
وليس من ضرورة الاختلاف في زماننا أن يكون مبنيًّا على
اختلافهم، كما أنهم اختلفوا في الأصول، وفي كثير من
الفروع، مع عدم اختلاف الصحابة فيه، فإذا قال الصحابي: أمر
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو نهى، لا يكون إلا بعد
سماعه ما هو أمر حقيقة1.
الرتبة الرابعة: أن يقول: "أُمرنا بكذا" أو "نُهينا" [عن
كذا] فيتطرق إليه من الاحتمالات ما مضى3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الغزالي في المستصفى "2/ 125-126" تحقيق الدكتور
حمزة حافظ: "ويتطرق إليه احتمال ثالث في عمومه وخصوصه، حتى
ظن قوم: أن مطلق هذا يقتضي أمر جميع الأمة.
والصحيح: أن من يقول بصيغة العموم -أيضًا- ينبغي أن يتوقف
في هذا؛ إذ يحتمل أن يكون ما سمعه أمرًا للأمة، أو لطائفة،
أو لشخص بعينه، وكل ذلك يبيح له أن يقول: "أمر" فيتوقف فيه
على الدليل.
لكن يدل عليه: أن أمره للواحد أمر للجماعة، إلا إذا كان
لوصف يخصه، من سفر أو حضر، ولو كان كذلك لصرح به الصحابي،
كقوله: "أمرنا إذا كنا مسافرين أن لا ننزع خفافنا ثلاثة
أيام ولياليهن".
نعم، لو قال: أمرنا بكذا" وعلم من عادة الصحابي أنه لا
يطلقه إلا في أمر الأمة، حمل عليه، وإلا احتمل أن يكون
أمرًا للأمة أو له، أو لطائفة".
وسيأتي لذلك توضيح أكثر في باب العموم.
2 ما بين القوسين من المستصفى.
3 أي: احتمال أنه سمعه بواسطة، واحتمال اعتقاد ما ليس بأمر
أمرًا، وما ليس =
ج / 1 ص -284-
واحتمال آخر: وهو أن يكون الآمر غير النبي -صلى الله عليه
وسلم- من الأئمة والعلماء.
وذهبت طائفة إلى أنه لا يحتج به، لهذا الاحتمال1.
وذهب الأكثرون إلى أنه لا يحمل إلا على أمر الله -تعالى-
وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه يريد به إثبات شرع،
وإقامة حجة، فلا يحمل على قول من لا يحتج بقوله.
وفي معناه: قوله" "من السنة كذا" و"السنة جارية بكذا".
فالظاهر: أنه لا يريد إلا سنة رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- دون سنة غيره، ممن لا تجب طاعته.
ولا فرق بين قول الصحابي ذلك في حياة النبي -صلى الله عليه
وسلم- أو بعد موته.
وقول الصحابي والتابعي2 والصحابي في ذلك سواء، إلا أن
الاحتمال في قول التابعي أظهر3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بنهي نهيًا، واحتمال أن يكون الآمر غير النبي -صلى الله
عليه وسلم- والذي أشار إليه بقوله: "واحتمال آخر....".
1 أي: كون الآمر غير النبي -صلى الله عليه وسلم-.
2 أي قوله: "أمرنا وبكذا، أو نهينا عن كذا".
3 في جميع النسخ المطبوعة "إلا أن الاحتمال في قول الصحابي
أظهر" ما عدا النسخة التي حققها الدكتور: عبد العزيز بن
عبد الرحمن السعيد -يحفظه الله- ففيها "التابعي" وهو
الموافق لما في المستصفى "2/ 127" حيث قال: "ولا فرق بين
أن يقول الصحابي ذلك في حياة رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- أو بعد وفاته".
أما التابعي إذا قال: "أُمرنا" احتمل أمر رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- وأمر الأمة بأجمعها، والحجة حاصلة به،
ويحتمل أمر الصحابة.
لكن لا يليق بالعالم أن يطلق ذلك إلا وهو يريد من تجب
طاعته، ولكن الاحتمال في قول التابعي أظهر منه في قوله
الصحابي".
ج / 1 ص -285-
الرتبة
الخامسة: أن يقول: كنا نفعل، أو كانوا يفعلون [كذا] فمتى
أضيف [ذلك] إلى زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو
دليل على جوازه؛ لأن ذكره ذلك في معرض الحجة يدل على أنه
أراد ما علمه النبي -صلى الله عليه وسلم- فسكت عنه؛ ليكون
دليلًا [على الجواز] مثل قول ابن عمر -رضي الله عنهما-:
"كنا نفاضل على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنقول:
[خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم]1 أبو بكر ثم
عمر، ثم عثمان، فيبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فلا ينكره"2.
وقال: "كنا نخابر [على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وبعده]3 أربعين سنة [حتى روى لنا رافع بن خديج4" الحديث]5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين القوسين من المستصفى، وهو موافق لما في كتب
السنة.
2 حديث صحيح رواه البخاري، غير أنه لم يرد فيه "فيبلغ ذلك
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا ينكره" راجع: صحيح
البخاري مع حاشية السندي "2/ 389".
3 ما بين القوسين من المستصفى، وهو موافق لما في كتب
السنة.
4 هو: أبو عبد الله: رافع بن خديج الأوسي الحارثي، عُرض
على النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم بدر فاستصغره، وأجازه
يوم أحد، استوطن المدينة وكان عريف قومه فيها حتى توفي سنة
74هـ. "الإصابة 2/ 495".
5 ما بين القوسين من المستصفى، وهو موافق لما في كتب
السنة.
والمخابرة: المزراعة على نصيب معين مما تخرجه الأرض،
كالثلث والربع، وقيل: هي من الخبار، وهي الأرض اللينة،
وقيل: مأخوذة من "خيبر" لأن النبي -صلى الله عليه وسلم-
أقرها في أيدي أهلها على النصف من محصولها، فقيل: خابرهم،
أي عاملهم في خيبر.
وحديث المخابرة رواه أحمد في المسند "1/ 234، 2/ 11"
والنسائي "7/ 48" وابن ماجه "2450" بلفظ "كنا نخابر ولا
نرى بذلك بأسًا".
وعند البخاري حديث "2343" ومسلم "1547/ 109" "أن ابن عمر
كان يكري مزارعه على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
وفي إمارة أبي بكر وعمر وعثمان، =
ج / 1 ص -286-
وقالت
عائشة -رضي الله عنها-: "كانوا لا يقطعون في الشيء
التافه"1.
فإن قال الصحابي: كانوا يفعلون: فقال أبو الخطاب: يكون
نقلًا للإجماع؛ لتناول اللفظ إياه2.
وقال بعض أصحاب الشافعي: لا يدل ذلك على فعل الجميع، ما لم
يصرح بنقله عن أهل الإجماع3.
قال أبو الخطاب: وإذا قال الصحابي "هذا الخبر منسوخ" وجب
قبول قوله، ولو فسره بتفسير وجب الرجوع إلى تفسيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وصدرًا من خلافة معاوية، حتى بلغه في آخر خلافة معاوية
أن رافع بن خديج يحدث فيها بنهي عن النبي -صلى الله عليه
وسلم-".
وحديث النهي عن المخابرة أخرجه الشافعي في المسند "2/
169"، ومسلم في البيوع حديث رقم "1536" وأبو داود عن جابر
-رضي الله عنه- "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن
المخابرة والمحاقل والمزابنة" والمخابرة تقدم معناها.
والمحاقلة: كراء الأرض بالطعام، والمزابنة: شراء التمر
بالتمر في رءوس النخل.
1 أخرج ابن أبي شيبة في المصنف "9/ 476" من طريق عبد
الرحيم بن سليمان الكناني عن هشام بن عروة عن أبيه عن
عائشة -رضي الله عنها- قالت: "لم يكن يقطع على عهد رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- في الشيء التافه" وإسناده صحيح
كما قال الزيلعي في نصب الراية "3/ 360".
2 انظر: التمهيد "3/ 184".
3 انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي جـ2 ص89.
ج / 1 ص -287-
فصل: [في حد الخبر وأقسامه]
وحد الخبر: هو الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب1.
وهو قسمان: تواتر وآحاد2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ما صح أن يقال في جوابه: صدق أو كذب، فيخرج بذلك
الإنشاء، من الأمر، والنهي، والاستفهام، والتمني، والدعاء،
فلا يصح أن يقال في جواب شيء من ذلك: صدق أو كذب.
قال الغزالي في المستصفى "2/ 131": "... وهو أولى من
قولهم: "يدخله الصدق والكذب" إذ الخبر الواحد لا يدخله
كلاهما، بل كلام الله -تعالى- لا يدخله الكذب أصلًا،
والخبر عن المحالات لا يدخله الصدق أصلًا".
2 التواتر في اللغة: التتابع، ومنه قوله تعالى:
{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً
رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا
وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا
يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 44] أصلها: وترا، أبدلت الواو تاء.
واصطلاحًا: إخبار قوم يمتنع تواطؤهم على الكذب لكثرتهم.
والآحاد: جمع أحد، كأبطال جمع بطل، وهمزة أحد مبدلة من
الواو، وأصل آحاد: أأحاد، بهمزتين، أبدلت الثانية ألفًا
للتخفيف.
أما في الاصطلاح: فله تعريفات كثيرة، وجمهور الأصوليين
يعرفونه: بأنه ما عدا المتواتر.
وقال الطوفي في شرح مختصر الروضة "2/ 103": "الثاني:
الآحاد، وهو ما عدم شروط التواتر أو بعضها".
وخبر الآحاد -عند الجمهور- ينقسم إلى عدة أقسام: منها: خبر
الواحد، ومنها: الخبر المستفيض، وهو ما زاد نقلته على
ثلاثة أو على واحد، أو على اثنين -على خلاف في ذلك- ومنها:
المشهور: وهو ما اشتهر ولو في القرن الثاني أو الثالث:
وكان رواته في الطبقة الأولى واحدًا أو أكثر.
وقسم القرافي الأخبار إلى متواتر وآحاد، وما ليس بمتواتر
ولا آحاد.
وجمهور الحنفية يقسمون السنة إلى ثلاثة أقسام: متواتر،
ومشهور، وآحاد. =
ج / 1 ص -288-
فالمتواتر يفيد العلم، ويجب تصديقه، وإن لم يدل عليه دليل
آخر، وليس في الأخبار ما يعلم صدقه بمجرده إلا المتواتر،
وما عداه إنما يعلم صدقه بدليل آخر يدل عليه سوى نفس
الخبر، خلافًا للسمنية1، فإنهم حصروا العلم في الحواس، وهو
باطل، فإننا نعلم استحالة كون الألف أقل من الواحد،
واستحالة اجتماع الضدين.
بل حصرهم العلم في الحواس -على زعمهم- معلوم لهم، وليس
مدركًا بالحواس، ولا يستريب عاقل في أن في الدنيا بلدة
تسمى "بغداد" "وإن لم يدخلها"2 ولا نشك في وجود الأنبياء،
بل في وجود الأئمة الأربعة ونحو ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= انظر "الكفاية للخطيب البغدادي ص16، شرح تنقيح الفصول
ص349 كشف الأسرار عن أصول فخر الإسلام البزدوي 2/ 360".
1 معنى ذلك: أنه يحصل العلم بالخبر المتواتر من نفس الخبر،
دون أن ينضم إليه دليل آخر، بخلاف الأخبار الأخرى فإنها
تحتاج إلى ما يقويها من قرائن وأدلة آخرى، ولم يخالف في
ذلك إلا بعض الفرق، فقالوا: يفيد الظن، ومنهم: الفرقة
الضالة التي تسمى "السمنية" بضم السين وفتح الميم، حصروا
مدارك العلم في الحواس الخمس: السمع والبصر والشم والذوق
واللمس.
والسمنية: فرقة من الفرق الضالة التي كانت تسكن الهند،
وتعبد الأصنام؛ دهريون يقولون بتناسخ الأرواح، وسموا بذلك
نسبة إلى اسم بلد تسمى "سومنات" أو نسبة إلى صنم كانوا
يعبدونه يسمى "سمن" أو "سوسان" كانوا يعتقدون فيه أنه يحيي
ويميت، كسره القائد الإسلامي، السلطان محمود الغزنوي،
المجاهد العالم الفقيه، أحد كبار القادة المسلمين، كانت
عاصمته "غزنة" بين خراسان والهند، وامتدت سلطنته من أقاصي
الهند إلى نيسابور، توفي سنة "421هـ" ينظر في ترجمته:
"وفيات الأعيان 2/ 84، والأعلام 8/ 47، 48".
وقد رد عليهم المصنف بعدة ردود واضحة لا تحتاج إلى شرح.
2 ما بين القوسين من المستصفى، وبه يستقيم الكلام، وهو محل
الشاهد حيث إن =
ج / 1 ص -289-
فإن
قيل: لو كان معلوما -ضرورة- لما خالفناكم؟
قلنا: إنما يخالف في هذا معاند يخالف بلسانه، مع معرفته
فساد قوله، أو من في عقله خبط1.
ولا يصدر إنكار هذا من عدد كثير يستحيل عنادهم.
ثم لو تركنا ما علمناه لمخالفتكم لزمنا ترك المحسوسات،
لمخالفة السوفسطائية2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= العلم حصل بدون مشاهدة، وإلا لكان للمخالف أن يقول: إن
العلم حصل بدخولها: فيكون ثابتًا بالحواس.
1 الخبط: الاضطراب والفساد.
2 خلاصة ذلك الاعتراض والرد عليه: أنه لو أفاد التواتر
العلم، لاشتركنا نحن وأنتم فيه بالضرورة -خصوصًا على رأي
من يقول: إنه يفيد العلم الضروري، ولو اشتركنا جميعًا في
حصول العلم الضروري من جهة التواتر لما خالفناكم فيه، لكنا
خالفناكم ولم نشارككم في ذلك، ولما لم نشارككم في العلم
التواتري دل على أنه لا يفيد الظن.
وأجاب المصنف على ذلك: بأن مخالفتكم لنا عناد منكم
ومكابرة، أو اضطراب في عقولكم، شأنكم في ذلك شأن من يخالف
في المحسوسات لاضطراب عقله ومزاجه، أو مرض في حواسه،
كالمريض الذي ينكر حلاوة العسل، كما قال الشاعر:
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد
وينكر الفم طعم الماء من سقم
ثم لو تركنا ما علمناه لمخالفتكم، لزمنا ترك المحسوسات
-أيضًا- لمخالفته السوفسطائية فيها.
والسفسطة: قياس مركب من الوهميات، الغرض منه: تغليظ الخصم
وإسكاته.
والسوفسطائية: فرقة يونانية تنكر حقائق الأشياء وتزعم أنه
لا حقيقة لها وهم ثلاث فرق: =
ج / 1 ص -290-
فصل: [فيما يفيده الخبر المتواتر]
قال القاضي: العلم الحاصل بالتواتر ضروري، وهو صحيح؛ فإننا
نجد أنفسنا مضطرين إليه، كالعلم بوجود مكة، ولأن العلم
النظري هو الذي يجوز أن يعرض فيه الشك، وتختلف فيه
الأحوال، فيعلمه بعض الناس دون بعض، ولا يعلمه النساء
والصبيان ومن ليس من أهل النظر، ولا من ترك النظر قصدًا.
وقال أبو الخطاب: هو نظري؛ لأنه لم يفد العلم بنفسه، ما لم
ينتظم في النفس مقدمتان:
إحداهما: أن هؤلاء -مع اختلاف أحوالهم وكثرتهم- لا يجمعهم
على الكذب جامع، ولا يتفقون عليه.
الثانية1: أنهم قد اتفقوا على الإخبار عن الواقعة، فينبني
العلم بالصدق على المقدمتين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الأولى: تسمى اللاأدرية، سموا بذلك لأنهم يقولون: لا
نعرف ثبوت شيء من الموجودات ولا انتفاءه، بل نحن متوقفون.
الثانية: تسمى العنادية، تنكر حقائق الأشياء وتزعم أنها
أوهام.
الثالثة: تسمى العندية، لأنهم يقولون: إن أحكام الأشياء
تابعة لاعتقادات الناس، فكل من اعتقد شيئًا فهو في الحقيقة
كما اعتقد، فالعالم قديم عند من يعتقد أنه قديم، وحادث عند
من يعتقد أنه حادث وهكذا.
قال الشيخ "ابن بدران": "هذه فرق السوفسطائية ومقالاتهم،
ومن يناظرهم يبقى في حيرة من أمره، لأنهم ينكرون حقيقة
الدليل ومقدماته وسائر الأشياء، فلا يقطعهم إلا الضرب حتى
يجدوا حقيقة ألمه، والإلقاء في النار حتي يقال لهم:
{ذُوقُوا مَسَّ سَقَر}.. "نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص247".
1 في جميع النسخ "الثاني" وما اثبتناه من المستصفى.
ج / 1 ص -291-
ولا بد
من إشعار النفس بهما، وإن لم يتشكل فيها بلفظ منظوم، فقد
شعرت به حتى حصل التصديق.
ورب واسطة حاضرة في الذهن لا يشعر الإنسان بتوسطها كقولنا:
"الاثنان نصف الأربعة" فإنا لا نعلم ذلك إلا بواسطة: أن
النصف أحد جزئي الجملة المساوي للآخر، والاثنان كذلك، فقد
حصل العلم بواسطة لكنها جلية في الذهن.
ولهذا لو قيل: "ستة وثلاثون نصف اثنين وسبعين" افتقر فيه
إلى تأمل ونظر.
والضروري عبارة عن الأوّلي الذي يحصل بغير واسطة، كقولنا:
"القديم ليس محدثا" "والمعدوم ليس موجودًا" لأننا نجد
أنفسنا مضطرين إليه، وهو ما يحصل دون تشكل واسطة في الذهن،
كالعلوم المحسوسة، والعلم بالتجربة، كقولنا: الماء مروٍ،
والخمر مسكر.
والصحيح الأول؛ فإن اللفظ يدل عليه؛ لاشتقاقه منه.
والقول الآخر: مجرد دعوى، لا دليل عليها1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ "مجرد اختيار لا دليل عليه".
هذا. والمصنف قدم وأخر في كلام الإمام الغزالي فأصبح غير
واضح، وسوف أنقل هنا عبارة المستصفى حيث تعتبر خلاصة لما
هو ضروري أو نظري.
قال: "وتحقيق القول فيه أن الضروري: إن كان عبارة عما يحصل
بغير واسطة، كقولنا: "القديم لا يكون حديثًا" و"الموجود لا
يكون معدومًا" فهذا ليس بضروري: فإنه حصل المقدمتين
المذكورتين.
وإن كان عبارة عما يحصل بدون تشكل الواسطة في الذهن فهذا
ضروري.
ورب واسطة حاضرة في الذهن، لا يشعر الإنسان بوجه توسطها،
وحصول العلم بواسطتها، فيسمى "أوليًّا" وليس بأولى "أي
يعتقد أنه أولى وهو ليس =
ج / 1 ص -292-
....................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= كذلك" كقولنا: "الاثنان نصف الأربعة" فإنه لا يعلم ذلك
إلا بواسطة، وهو: أن النصف أحد جزئي الجملة المساوي للآخر،
والاثنان أحد الجزءين المساوي للباقي من جملة الأربعة، فهو
إذا نصف.
فقد حصل العلم بواسطة، لكنها جلية في الذهن حاضرة، ولهذا
لو قيل: "ستة وثلاثون هل هو نصف اثنين وسبعين"؟ يفتقر فيه
إلى تأمل ونظر، حتى يعلم أن هذه الجملة تنقسم بجزءين
متساوين، أحدهما ستة وثلاثون.
فإذًا: العلم بصدق خبر التواتر يحصل بواسطة هذه المقدمات
وما هو كذلك فليس بأوّلي، وهل يسمى ضروريًا؟
ربما يختلف فيه الاصطلاح.
والضروري -عند الأكثرين- عبارة عن الأولى، لا عما نجد
أنفسنا مضطرين إليه؛ فإن العلوم الحسابية كلها ضرورية، وهي
نظرية, ومعنى كونها نظرية: أنها ليس بأولية. وكذلك العلم
بصدق التواتر.
ويقرب منه: العلم المستفاد من التجربة، التي يعبر عنها
بـ"اطراد العادات" كقولنا: "الماء مرو" و"الخمر مسكر"
المستصفى جـ2 ص136 تحقيق الدكتور حمزة حافظ.
أما الطوفي: فقد جعل الخلاف بين الفريقين نظريًّا، فبعد أن
أورد أدلة كل مذهب قال:
".... لأن القائل بأنه ضروري لا ينازع في توقفه على النظر
في المقدمات المذكورة، والقائل بأنه نظري لا ينازع في أن
العقل يضطر إلى التصديق به، وإذا وافق كل واحد من الفريقين
صاحبه على ما يقوله في حكم هذا العلم وصفته، لم يبق النزاع
بينهما إلا في اللفظ، وهو: أن الأول سمى ما يضطر العقل إلى
التصديق به -وإن توقف على مقدمات نظرية- ضروريًّا.
والثاني سمى ما يتوقف على النظر في المقدمات -وإن كانت
بينة- نظريًّا، وخص الضروري بالبديهي، وهو الكافي في حصول
الجزم به: تصور طرفيه، كقولنا: الواحد نصف الاثنين؛ فإن من
تصور حقيقة الواحد، وتصور حقيقة الاثنين حصل له العلم بأن
الواحد نصف الاثنين. =
ج / 1 ص -293-
فصل: [في أن ما حصل العلم في واقعة أفاده في غيرها]
ذهب قوم إلى أن ما حصل العلم في واقعة يفيده في كل واقعة،
وما حصله لشخص يحصله لكل شخص يشاركه في السماع، ولا يجوز
أن يختلف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وهذا معنى قوله: "إذ مراد الأول بالضروري: ما اضطر العقل
إلى تصديقه" أي سواء توقف على مقدمات بينة أو لا.
"والثاني": أي: ومراد الثاني بالضروري: "البديهي الكافي في
حصول الجزم به" أي: التصديق الجازم به "تصور طرفيه" أعني:
الموضوع والمحمول، وإن شئت: المحكوم والمحكوم عليه، نحو:
العالم موجود، والمعدوم لا يكون موجودًا حال عدمه، والقديم
لا يكون حادثًا، وبالعكس فيهما، بخلاف قولنا: العالم حادث،
أو ليس بقديم، فإنه لا بد في التصديق به من واسطة، فنقول:
العالم مؤلف، وكل مؤلف محدث، أو ليس بقديم.
ثم قال: العلم الضروري منقسم إلى البديهي، الذي يدرك
بالبديهية، من غير احتياج إلى واسطة نظر، وإلى ما اضطر
العقل إلى التصديق به بواسطة النظر.
فدعوى كل واحد من الفرقين غير دعوى الآخر، لأن الأول يقول:
هو ضروري متوقف على الوساطة البينة، والآخر يقول: ليس
بديهيًّا غنيًّا عن الواسطة مطلقًا.
وقد بينا أن كل واحد منهما موافق للآخر على قوله.
أي: كل واحد من الخصمين يقول: إن التواتر يفيد العلم
الجازم، لكن تنازعا في تسميته ضروريًّا أو نظريًّا.
قلت: قد سبق عند ذكرنا للعلم: أنه الحكم الجازم المطابق
لموجب، وأن ذلك الموجب إما عقل، أو سمع، أو مركب منهما،
وهو التواتر، لتركبه من نقل النقَلَة، ونظر السامع في
المقدمتين الممذكورتين، فصار التواتر كالواسطة بين
القسمين، فلذلك وقع فيه النزاع، وعلى هذا يترتب العلم إلى
قطعي وظني، والقطعي: إما بديهي محض، أو نظري محض، أو متوسط
بينهما، وهو =
ج / 1 ص -294-
وهذا
إنما يصح: إذا تجرد الخبر عن القرائن.
فإن اقترنت به قرائن: جاز أن تختلف به الوقائع والأشخاص؛
لأن القرائن قد تورث العلم، وإن لم يكن فيه أخبار، فلا
يبعد أن تنضم القرائن إلى الأخبار، فيقوم بعض القرائن مقام
بعض العدد من المخبرين1.
ولا ينكشف هذا إلا بمعرفة القرائن، وكيفية دلالتها فنقول:
لا شك أنا نعرف أمورًا ليست محسوسة؛ إذ نعرف من غيرنا حبّه
لإنسان، وبغضه إياه، وخوفه منه، وخجله، وهذه أحوال في
النفس لا يتعلق بها الحس، قد يدل عليها دلالات، آحادها
ليست قطعية، بل يتطرق إليها الاحتمال، لكن تميل النفس بها
إلى اعتقاد ضعيف، ثم الثاني والثالث يؤكده، ولو أفردت
آحادها لتطرق إليها الاحتمال، إلى أن يحصل القطع
باجتماعها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= التواتري، كما رأيت، والله أعلم" شرح مختصر الروضة جـ2
ص81-82.
1 خلاصة ذلك: أن ما أفاد العلم اليقيني من الأخبار في
واقعه معينة وجب أن يفيده -أيضًا- في كل واقعة أخرى، وأن
من أفاد العلم بالنسبة لشخص من الناس، وجب أن يفيده لكل
شخص غيره، إذا شاركه في سماع ذلك الخبر، ولا يجوز أن تختلف
واقعة عن واقعة، أو شخص عن شخص.
وإلى ذلك ذهب بعض العلماء، كأبي بكر الباقلاني، وأبي
الحسين البصري وغيرهما.
أما جمهور العلماء -ومنهم ابن قدامة- فقد فرقوا بين الخبر
الذي تجرد عن القرائن، والخبر الذي اقترنت به القرائن، فإن
تجرد الخبر عن القرائن، فلا يجوز أن يختلف كما قال
الأولون، وهذا معنى قوله: "وهذا إنما يصح إذا تجرد الخبر
عن القرائن".
أما إذا اقترنت بالخبر قرائن، فلا شك أن حصول اليقين به
يتفاوت؛ لأن القرائن الخفية يدركها البعض وتخفى على البعض
الآخر، فتقوم القرائن -عند من يدركها- مقام عدد من
المخبرين. وسوف يبدأ المؤلف ببيان هذه القرائن.
ج / 1 ص -295-
كما أن
قول كل واحد من عدد التواتر محتمل منفردًا، ويحصل القطع
بالاجتماع: فإنا نعرف محبة الشخص لصاحبه بأفعال المحبين من
خدمته، وبذل ماله له، وحضوره مجالسه لمشاهدته، وملازمته في
تردداته، وأمور من هذا الجنس، وكل واحد منها إذ انفرد
يحتمل أن يكون لغرض يضمره، لا لمحبته، لكن تنتهي كثرة هذه
للدلالات إلى حد يحصل لنا العلم القطعي بحبه.
وكذلك نشهد الصبي يرضع مرة بعد أخرى، فيحصل لنا علم بوصول
اللبن إلى جوفه، وإن لم نشاهد اللبن، لكن حركة الصبي في
الامتصاص، وحركة حلقه، وسكوته عن بكائه، مع كونه لا يتناول
طعامًا آخر، وكون ثدي المرأة الشابة لا يخلو من لبن،
والصبي لا يخلو من طبع باعث على الامتصاص ونحو ذلك من
القرائن.
فلا يبعد أن يحصل التصديق بقول عدد ناقص، مع قرائن تنضم
إليه.
ولو تجرد عن القرائن لم يفد العلم، والتجربة تدل على هذا.
وكذلك العدد الكثير ربما يخبرون عن أمر يقتضي إيالة1 الملك
وسياسة إظهاره، والمخبرون من [رؤساء]2 جنود الملك، فيتصور
اجتماعهم تحت ضبط الإيالة بالاتفاق على الكذب، ولو كانوا
متفرقين خارجين عن ضبط الملك لم يتطرق إليهم هذا الوهم،
فهذا يؤثر في النفوس تأثيرًا لا ينكر3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في القاموس المحيط، فصل الهمزة باب اللام: "آل الملك
رعيته إيالًا ساسهم، وعلى القوم أولًا وإيالًا وإيالة:
ولي".
2 ما بين القوسين من المستصفى.
3 خلاصة ذلك كله: أن القرائن إذا احتفت بالخبر قامت مقام
آحاد المخبرين في =
ج / 1 ص -296-
فصل: [في شروط التواتر]
وللتواتر ثلاثة شروط:
الأول: أن يخبروا عن علم ضروري مستند إلى محسوس1؛ إذ لو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إفادة الظن وتزايده، لأنا نجد تأثيرها في أنفسنا
بالضرورة، إذا كانت القرائن بمثابة المخبرين، جاز
-بالضرورة- أن يحصل العلم بخبر الواحد منها، لأن مخبرًا
واحدًا مع عشرين قرينة ينزل واحد وعشرين مخبرًا، بل ربما
أفادت القرينة الواحدة ما لا يفيده خبر جماعة، إذا احتفت
قرائن تنفي اليقين: كأن يجتمع رؤساء الجند -مع كثرتهم-
فيذيعون خبرًا عن أمر تكون إذاعته سياسة ودهاء للحاكم،
فهذا لا يحصّل اليقين، مع أنهم لو كانوا متفرقين خارجين
عما هم فيه من الانضمام إلى الحاكم لحصل اليقين بخبرهم.
انظر: المستصفى جـ2 ص145-146.
قال العزالي بعد ذلك:
"ولا أدري لم أنكر القاضي ذلك، وما برهانه على استحالته،
فقد بان بهذا: أن العدد بجوز أن يختلف بالوقائع والأشخاص،
فرب شخص انغرس في نفسه أخلاق تميل به إلى سرعة التصديق
ببعض الأسماء، فيقوم ذلك مقام القرائن، وتقوم تلك القرائن
مقام خبر بعض المخبرين، فينشأ من ذلك: أن لا برهان على
استحالته" المصدر السابق ص146.
1 أي: أن يكون الإخبار عن مشاهدة أو سماع يحصل بواحد منهما
العلم الضروري، بأن القول: رأينا مكة وبغداد، ورأينا موسى
وقد ألقى عصاه فصارت حية تسعى، ورأينا المسيح وقد أحيا
الموتى، ورأينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وقد انشق له
القمر، وسمعناه يتلو القرآن ويتحدى به العرب، فعجزوا عن
معارضته.
ومن تمام هذا الشرط: أن لا تكون المشاهدة والسماع على سبيل
غلط الحس، كما في إخبار النصارى بصلب المسيح -عليه السلام-
وأن يكونوا على صفة يوثق معها بقولهم، فلو كانوا متلاعبين
أو مكرهين لم يوثق بخبرهم.
انظر: نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص254.
ج / 1 ص -297-
فصل: [مذاهب العلماء في عدد التواتر]
واختلف الناس فيه:
فمنهم من قال: يحصل باثنين، ومنهم من قال: يحصل بأربعة.
وقال قوم بخمسة، وقال قوم بعشرين، وقال آخرون بسبعين، وقيل
غير ذلك1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فقيل: أربعون، وقيل: ثلاثمائة، وقيل: عشرة، عدد أهل بيعة
الرضوان. قال =
ج / 1 ص -298-
والصحيح: أنه ليس له عدد محصور، فإنا لا ندري متى حصل
علمنا بوجود "مكة" ووجود الأنبياء -عليهم السلام- ولا سبيل
إلى معرفته؛ فإنه لو قتل رجل في السوق، وانصرفت جماعة
فأخبرونا بقتله، فإن قول الأول يحرك الظن، والثاني يؤكده،
ولا يزال يتزايد حتى يصير ضروريًّا ولا يمكننا تشكيك
أنفسنا فيه.
فلو تصور الوقوف على اللحظة التي حصل فيها العلم ضرورة،
وحفظ حساب المخبرين، وعددهم: لأمكن الوقوف عليه، ولكن
إدراك تلك اللحظة عسير؛ فإنه تتزايد قوة الاعتقاد تزايدًا
خفيّ التدريج، كتزايد عقل الصبي المميز، إلى أن يبلغ حد
التكليف، وتزايد ضوء الصبح إلى أن ينتهي إلى حد الكمال،
فلذلك: تعذّر على القوة البشرية إدراكه.
فأما ما ذهب إليه المخصصون بالأعداد، فتحكم فاسد، لا يناسب
الغرض، ولا يدل عليه، وتعارض أقوالهم يدل على فسادها.
فإن قيل: فكيف تعلمون حصول العلم بالتواتر، وأنتم لا
تعلمون أقل عدده؟
قلنا: كما نعلم أن الخبز مشبع، والماء مرو، وإن كنا لا
نعلم أقل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الطوفي: وهو وهم لأن أهل بيعة الرضوان، وهي بيعة
الحدبيبة تحت الشجرة، كانوا ألفًا وخمسمائة. شرح مختصر
الروضة جـ2 ص89، 90.
جاء في صحيح البخاري "4150" عن البراء بن عازب: "كنا مع
النبي -صلى الله عليه وسلم- أربع عشر مائة" وجاء فيه أيضًا
"4151" عن البراء: "أنهم كانوا خمس عشرة مائة" وفيه روايات
أخرى بأعداد مخالفة.
والخلاصة: أن الضابط في حصول عدد التواتر: حصول العلم
بالخبر، فمتى حصل العلم بالخبر المجرد عن القرائن علمنا
حصول التواتر.
أما إذا وجدت قرائن، فهذه تزيد الخبر قوة، حتى ولو كان من
خبر الآحاد.
ج / 1 ص -299-
مقدار
يحصل به ذلك، فنستدل بحصول العلم الضروري على كمال العدد
لا أنَّا نستدل بكمال العدد على حصول العلم.
فصل
ليس من شرط التواتر: أن يكون المخبرون مسلمين، ولا عدولًا؛
لأن إفضاءه إلى العلم، من حيث إنهم مع كثرتهم لا يتصور
اجتماعهم على الكذب وتواطؤهم عليه، ويمكن ذلك في الكفار،
كإمكانه في المسلمين2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حاصل ذلك: أن المصنف أورد اعتراضًا خلاصته: أن حصول
العلم فرع عن حصول العدد، فلو عرف حصول العدد بحصول العلم
لكان دورًا، أي: يتوقف معرفة أحدهما على معرفة الآخر.
وحاصل ما أجاب به المصنف: أنا لا نسلم وجود الدور، لأن
الدور يتحقق إذا كانت الجهة متحدة، وهذا غير موجود فيما
نحن فيه، لأن حصول العلم معلول الإخبار ودليله، فالإخبار
علة حصول العلم ومدلول له، والاستدلال على وجود العلة
بوجود المعلول لا دور فيه، وإلا لما صح الاستدلال على وجود
الصانع -جل جلاله- بوجود العلم، لأنه علته، والموجد له،
ولأن العلة لازم المعلول، والاستدلال على وجود اللازم
بوجود الملزوم لا خلاف في صحته، وهذا كما نقول في الشبع:
هو معلول الطعام المشبع، ودليله: أنه لا شبع إلا بمشبع،
والري معلول الشراب المروي، ودليله: أنه لا ري إلا بمروٍ،
وإن كنا لا نعلم القدر الكافي من المشبع والمروي ابتداء،
لكن إذا شبعنا وروينا علمنا أننا تناولنا من الطعام أو
الشراب قدرًا مشبعًا أو مرويًا، فكذلك ما نحن فيه، لا نعلم
مقدار العدد المحصل للعلم ما هو؟ فإذا حصل العلم بالخبر
علمنا حصول العدد المحصل للعلم، لأنه لازم لحصول العلم
وشرط له، والمشروط والملزوم يدلان على وجود اللازم والشرط.
"نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص256-257".
2 هذا هو رأي جمهور العلماء. قال الطوفي: لأن مناط حصول
العلم كثرتهم، =
ج / 1 ص -300-
ولا
يشترط -أيضًا- ألا يحصرهم عدد، ولا تحويهم بلد؛ فإن الحجيج
إذا أخبروا بواقعة صدتهم عن الحج، وأهل الجمعة إذا أخبروا
عن نائبة في الجمعة منعت من الصلاة، علم صدقهم مع دخولهم
تحت الحصر وقد حواهم مسجد، فضلًا عن البلد1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بحيث لا يجوز عادة تواطؤهم على الكذب، لا العدالة
والإسلام وسائر أوصاف الرواية؛ لأن ذلك إنما يشترط في
الشهادات، وأخبار الآحاد، لأنها إنما تفيد الظن، أما
التواتر: فهو يفيد للعلم الضروي أو النظري -كما سبق- فهو
مستغن عن اعتبار أوصاف المخبرين المراد لتقوية الظن
وغلبته. "شرح مختصر الروضة 2/ 94".
1 ومعناه: أن الناس المجتمعين في الحج، لو أخبروا بأنه عرض
لهم مانع منعهم من أداء الحج في ذلك العام، كعدو صدهم عن
دخول البيت، أو غور عيون الماء في الطريق، ونحو ذلك؛ لحصل
لنا العلم بخبرهم، مع أنهم محصورون تحت عدد يمكن، معرفته،
وكذلك أهل الجامع -يوم الجمعة- لو أخبروا بوجود مانع منعهم
من صلاة الجمعة، كعدم وجود الإمام، أو هجوم عدو جعلهم
يخرجون من المسجد، حصل لنا العلم بخبرهم، مع أنهم محصورون
في عدد معين، وفي مسجد، فضلًا عن بلد.
وخالف في ذلك بعض العلماء، واشترطوا الإسلام والعدالة في
المخبرين.
كما أورد الغزالي آراء آخرى في المسألة. انظر: التمهيد
لأبي الخطاب "3/ 33" المستصفى "2/ 156 وما بعدها".
فصل: [لا يجوز على أهل التواتر كتمان ما يحتاج إليه]
ولا يجوز على أهل التواتر كتمان ما يحتاج إلى نقله
ومعرفته، وأنكر ذلك الإمامية1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الإمامية فرقة من الشيعة، تقول: "إن الإمامة لعلي -رضي
الله عنه- ولأولاده من =
ج / 1 ص -301-
وليس
بصحيح؛ لأن كتمان ذلك يجري -في القبح- مجرى الإخبار عنه
بخلاف ما هو به، فلم يجز وقوع ذلك منهم وتواطؤهم عليه.
فإن قيل: قد ترك النصارى نقل كلام عيسى في المهد1؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بعده، فهي منصب إلهي، والتصديق به ركن من أركان الإيمان
عندهم. وادعوا أن هناك نصوصًا تدل على إمامة علي كتمها
الصحابة -رضي الله عنهم- مع كثرتهم، ووقوع ذلك منهم يدل
على جواز كتمان الخبر المتواتر، واستندوا في ذلك إلى
أحاديث بعضها صحيح، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم- في شأن
"علي" -رضي الله عنه-:
"أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي" وهو حديث صحيح: أخرجه البخاري حديث رقم "3706" و"4416" عن سعد بن
أبي وقاص، ومسلم: حديث رقم "2404" والترمذي حديث رقم
"3731" وأحمد في المسند"1/ 173" والحديث وإن كان صحيحًا
إلا أنه ليس صريحًا.
وأجاب المصنف على ذلك بقوله: وليس بصحيح؛ فإن كتمان ما
يحتاج إلى النقل، يجري مجرى الكذب، والكذب محال في حق
الصحابة -رضي الله عنهم- حيث أثنى عليهم الخالق -جل وعلا-
في العديد من الآيات، كما أثنى عليهم الرسول -صلى الله
عليه وسلم- فتواطؤهم على الكذب محال، وكذلك تواطؤهم على
الكتمان.
قال الشيخ: "ابن بدران": "وللجمهور أن يعارضوا الإمامية
بالمثل، بأن يقولوا: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نص
على إمامة أبي بكر نصًّا جليًّا متواترًا.." "نزهة الخاطر
جـ1 ص259".
ومن هذه النصوص: قوله -صلى الله عليه وسلم-:
"اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر" وهو حديث صحيح وصريح، أخرجه أحمد في المسند "5/ 382، 385، 399،
402" كما أخرجه الترمذي حديث "3663"، وابن ماجه حديث "79"
وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله "2/ 223" وصححه
ابن حبان "2193" والحاكم "3/ 75".
1 هذه شبهة: أوردها الإمامية دعمًا لرأيهم -في جواز كتمان
الخبر المتواتر-، خلاصتها: أن النصارى تركوا كلام عيسى
-عليه السلام- في المهد، مع أنه =
ج / 1 ص -302-
قلنا:
لأن كلامه في المهد كان قبل ظهوره واتباعهم له.
القسم الثاني، أخبار الآحاد
وهي: ما عدا المتواتر1
اختلفت الرواية عن إمامنا -رحمه الله- في حصول العلم بخبر
الواحد:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مما يحتاج إلى نقله، وتتوفر الدواعي عليه، فهذه صورة من
صور الدعوى قد وقعت، وهي تدل على الجواز.
وأجاب المصنف على هذه الشبهة: بأن ذلك كان قبل نبوته،
والدواعي تتوفر على نقل أعلام النبوة.
قال الطوفي:
"وهذا ضعيف؛ لأن كلامه في المهد كان من خوارق العادات قبل
نبوته، والدواعي تتوفر على نقل مثله عادة، وإن لم يكن
الناقلون أتباعا للمنقول عنه". ثم ذكر وجوهًا أخرى للرد
عليهم فقال:
الوجه الثاني: أنه قد نقل أن حاضري كلام المسيح في المهد
لم يكونوا كثيرين، بحيث يحصل العلم بخبرهم، بل إنما كانوا
زكريا وأهل مريم ومن يختص بهم، فلذلك لم ينقل متواترًا،
ولا يلزم من عدم تواتره عدم نقله مطلقًا، لجواز أنهم نقلوه
ولم يتواتر.
الوجه الثالث: أنَّا لا نسلم أنهم لم ينقلوه، بل نقلوه وهو
متواتر عندهم في "إنجيل الصَّبْوَة" يعني: الذي ذكر فيه
أحوال عيسى -عليه السلام- في صبوته، منذ ولد إلى أن رفع،
وإنما لم يتوافر نقلهم لذلك عندنا لعدم مشاركتنا لهم في
سببه، أو لاستغنائنا عنه بتواتر القرآن". "شرح المختصر جـ2
ص101، 102".
1 قوله: وهي ما عدا المتواتر، أي: أن خبر الواحد ما فقدت
فيه شروط المتواتر أو بعض منها، بأن كان إخبارًا عن غير
محسوس، أو رواية ممن يجوز الكذب عليه عادة، أو جماعة لا
يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة، أو كانوا ممن يستحيل =
ج / 1 ص -303-
فروى:
أنه لا يحصل به. وهو قول الأكثرين والمتأخرين من أصحابنا؛
لأنَّا نعلم -ضرورة- أنا لا نصدق كل خبر نسمعه.
ولو كان مفيدًا للعلم: لما صح ورود خبرين متعارضين؛
لاستحالة اجتماع الضدين.
ولجاز نسخ القرآن والأخبار المتواترة به، لكونه بمنزلتهما
في إفادة العلم، ولوجب الحكم بالشاهد الواحد، ولاستوى في
ذلك العدل والفاسق كما في المتواتر1.
وروي عن أحمد أنه قال: -في أخبار الرؤية- يقطع على العلم
بها.
وهذا يحتمل أن يكون في أخبار الرؤية وما أشبهها، مما كثرت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= منهم الكذب عادة، لكن في بعض طبقاته دون البعض.
1 نقل المصنف عن الإمام أحمد -رضي الله عنه- روايتين فيما
يفيده خبر الآحاد:
الرواية الأولى: أنه لا يفيد العلم، واستدل على هذا الرأي
بخمسة أوجه:
الوجه الأول: أنه لو أفاد العلم لصدقنا كل خبر نسمعه، لكنا
لا نصدق كل خبر نسمعه، فدل ذلك على أنه لا يفيد العلم.
الوجه الثاني: لو أفاد خبر الواحد العلم لما تعارض خبران،
لأن العلمين لا يتعارضان، لكن التعارض موجود كثيرًا في
أخبار الآحاد، فدل ذلك على أنه لا يفيد العلم.
الوجه الثالث: أنه لو أفاد العلم لجاز نسخ القرآن والسنة
المتواترة به، لكنه لا يجوز نسخ القرآن والسنة المتواترة
بالآحاد، فدل على أنه لا يفيد العلم.
الوجه الرابع: أنه لو أفاد العلم لجاز الحكم بشاهد واحد،
ولم يحتج إلى شاهد آخر ولا إلى اليمين عند عدمه، ولو كان
مفيدًا للعلم لما احتاج لذلك.
الوجه الخامس: أنه لو أفاد العلم لاستوى خبر العدل
والفاسق، كما في المتواتر، لكن الفاسد والعدل لا يستويان
في خبر الواحد -بالإجماع- فدل ذلك على أنه لا يفيد العلم.
ج / 1 ص -304-
رواته،
وتلقته الآمة بالقبول، ودلت القرائن على صدق ناقله، فيكون
إذًا من المتواتر؛ إذ ليس للمتواتر عدد محصور.
ويحتمل أن يكون خبر الواحد عنده مفيدًا للعلم.
وهو قول جماعة من أصحاب الحديث وأهل الظاهر.
قال بعض العلماء: إنما يقول أحمد بحصول العلم بخبر الواحد
فيما نقله الأئمة الذين حصل الاتفاق على عدالتهم وثقتهم
وإتقانهم، ونقل من طرق متساوية، وتلقته الأمة بالقبول، ولم
ينكره منهم منكر؛ فإن الصديق والفاروق -رضي الله عنهما- لو
رويا شيئا سمعاه أو رأياه، لم يتطرق إلى سامعهما شك ولا
ريب، مع ما تقرر في نفسه لهما، وثبت عنده من ثقتهما
وأمانتهما.
ولذلك: اتفق السلف في نقل أخبار الصفات، وليس فيها عمل،
وإنما فائدتها: وجوب تصديقها، واعتقاد ما فيها.
لأن اتفاق الأمة على قبولها إجماع منهم على صحتها،
والإجماع حجة قاطعة1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه هي الرواية الثانية المنقولة عن الإمام إحمد.
وللعلماء في تخريجها عدة احتمالات:
الاحتمال الأول: أنها خاصة بأحاديث الرؤية وما أشبهها من
الأمور العقدية.
الاحتمال الثاني: أن ذلك خاص بما وجدت معه قرائنه تقويه.
الاحتمال الثالث: أن هذا هو رأي الإمام أحمد في خبر الآحاد
عمومًا، وهو رأي المحدثين وأهل الظاهر.
وهناك احتمال رابع -حكاه المصنف- عن بعض أهل العلم: أن ذلك
خاص بما نقله الأئمة المتفق على عدالتهم وثقتهم وتلقي
الأمة لما نقل عنهم بالقبول والرضا، مثل ما نقل عن الشيخين
أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما-.
وقد لخص محمد الأمين الشنقيطي آراء العلماء في هذه المسألة
فقال: =
ج / 1 ص -305-
.............................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
"حاصل كلام أهل الأصول في هذه المسألة: أن فيها للعلماء
ثلاثة مذاهب:
الأول: وهو مذهب جماهير الأصوليين: أن أخبار الآحاد إنما
تفيد الظن فقط، ولا تفيد اليقين.
المذهب الثاني: أنه يفيد اليقين إن كان الرواة عدولًا
ضابطين.
وهو رواية عن الإمام أحمد، وحكاه الباجي عن ابن خويز منداد
من المالكية، وهو مذهب الظاهرية.
المذهب الثالث: هو التفصيل: بأنه إذا احتفت به قرائن دالة
على صدقه أفاد اليقين، وإلا أفاد الظن.
ومن أمثلة ذلك: أحاديث الشيخين -البخاري ومسلم- لأن
القرائن دالة على صدقهما، لجلالتهما في هذا الشأن
وتقديمهما في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء
لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم
من مجرد كثرة الطرق، كما قاله غير واحد.
واختار هذا القول: ابن الحاجب، وإمام الحرمين، والآمدي،
والبيضاوي، وممن اختار هذا القول: أبو العباس ابن تيمية
-رحمه الله تعالى-.
وحمل بعضهم الرواية عن أحمد: على ما قامت القرائن على صدقه
خاصة دون غيره. ا. هـ ملخصًا من مذكرة الشيخ الشنقيطي
ص103.
[خبر الآحاد في العقيدة]
ثم تطرق -رحمه الله تعالى- إلى قضية أخرى مهمة، وهي: أن
أخبار الآحاد متى صحت، يجب قبولها في الأصول، كما يجب في
الفروع، فقال:
"اعلم أن التحقيق الذي لا يجوز العدول عنه: أن أخبار
الآحاد الصحيحة كما تقبل في الفروع، تقبل في الأصول، فما
ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بأسانيد صحيحة من صفات
الله يجب إثباته واعتقاده على الوجه اللائق بكمال الله
وجلاله على نحو:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
وبهذا تعلم أن ما أطبق عليه أهل الكلام ومن تبعهم من أن
أخبار الآحاد لا تقبل في العقائد ولا ثبت بها شيء من صفات
الله زاعمين أن أخبار الآحاد لا تفيد اليقين وأن العقائد
لا بد فيها من اليقين باطل لا يعول عليه. ويكفي من ظهور
بطلانه أنه يستلزم رد الروايات الصحيحة الثابتة عن النبي
-صلى الله عليه وسلم- بمجرد تحكيم العقل.
ج / 1 ص -306-
...............................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والعقول تتضاءل أمام عظمة صفات الله، وقد جرت عادة
المتكلمين أنهم يزعمون أن ما يسمونه الدليل العقلي وهو
القياس المنطقي الذي يركبونه من مقدمات اصطلحوا عليها أنه
مقدم على الوحي. وهذا من أعظم الباطل لأن ما يسمونه الدليل
العقلي ويزعمون أن إنتاجه للمطلوب قطعي، هو جهل وتخبط في
الظلمات.
ومن أوضح الأدلة، وأصرحها في ذلك أن هذه الطائفة تقول
مثلًا: إن العقل يمنع كذا من الصفات ويوجب كذا منها،
وينفون نصوص الوحي بناء على ذلك فيأتي خصومهم من طائفة
أخرى ويقولون: هذا الذي زعمتم أن العقل يمنعه كذبتم فيه بل
العقل يوجبه. وما ذكرتم بأنه يجيزه كذبتم فيه بل هو يمنعه
وهذا معروف في الكلام في مسائل كثيرة معروفة، كاختلافهم في
أفعال العبد وجواز رؤية الله بالأبصار، وهل العرض يبقى
زمانين إلى غير ذلك.
فيجب على المسلم أن يتقبل كل شيء عن النبي -صلى الله عليه
وسلم- بسند صحيح، ويعلم أنه إن لم يحصل له الهدي والنجاة
باتباع ما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- فإنه لا يحصل له
ذلك بتحكيم عقله التائه في ظلمات الحيرة والجهل.
وعلى كل حال فإثبات صفات الله بأخبار الآحاد الصحيحة
واعتقاد تلك الصفات كالعمل بما دلت عليه من أوامر الله
ونواهيه، كما أنها تثبت بها أوامره ونواهيه وكذلك تثبت بها
صفاته. "المصدر السابق ص104، 105".
والذي قاله الشيخ الشنقيطي هو ما نقل عن المحققين من
العلماء، منهم الأئمة: مالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن
حنبل، وأبو الحسين الكرابيسي، وابن خويز منداد، وابن كج،
وابن حزم، وابن قيم الجوزية، وبدر الدين الزركشي، والشيخ
محمد ناصر الدين الألباني، فقد ألف رسالة في ذلك بعنوان:
"وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة والرد على شبه
المخالفين".
وهو ما توصلت إليه في بحث بعنوان: "حجية خبر الآحاد في
العقيدة".
تحت الطبع.
ومن الأدلة التي استندت إليها في هذا البحث:
ج / 1 ص -307-
...............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الدليل الأول:
حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- لما بعث معاذًا -رضي الله عنه- على اليمن قال:
"إنك تقدم على قوم أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه
عبادة الله، فإن عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم
خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا فأخبرهم أن الله
فرض عليهم زكاة من أموالهم وترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا
بها فخذ منهم واتق كرائم أموال الناس".
أخرجه البخاري: 24- كتاب الزكاة: 41، باب وجوب الزكاة 3/
261، وباب لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة: 3/ 322،
وباب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء حيث كانوا:
3/ 357، وفي المظالم، باب الاتقاء والحذر من دعوة المظلوم:
5/ 101، وفي المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن 8/
64، وفي التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي -صلى الله عليه
وسلم- أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى: 13/ 347، ومسلم
في الإيمان 1/ 50.
فقد أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبلغهم قبل كل
شيء عقيدة التوحيد، وأن يعرفهم بالله عز وجل، وما يجب له
وما ينزه عنه، فإذا عرفوه تعالى بلغهم ما فرض الله عليهم،
وذلك ما فعله معاذ يقينًا، فهو دليل على أن العقيدة تثبت
بخبر الواحد، وتقوم به الحجة على الناس، ولولا ذلك لما
اكتفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بإرسار معاذ وحده.
ومن لم يسلم بما ذكرنا لزمه أحد أمرين لا ثالث لهما:
1- القول بأن رسله عليهم السلام ما كانوا يعلمون الناس
العقائد، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يأمرهم بذلك،
وإنما أمرهم بتبليغ الأحكام فقط، وهذا باطل لمخالفته لحديث
معاذ المتقدم.
2- أنهم كانوا مأمورين بتبليغها، وأنهم فعلوا ذلك، فبلغوا
الناس كل العقائد الإسلامية ومنها هذا القول المزعوم: "لا
تثبت العقيدة بخبر الآحاد" فإنه في نفسه عقيدة كما سبق،
وعليه فقد كان هؤلاء الرسل رضوان الله عليهم يقولون للناس:
آمنوا بما نبلغكم إياه من العقائد، ولكن لا يجب عليكم أن
تؤمنوا بها لأنها خبر آحاد، وهذا باطل أيضًا كالذي قبله،
وما لزم منه باطل فهو باطل، =
ج / 1 ص -308-
.........................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فثبت بطلان هذا القول، وثبت وجوب الأخذ بخبر الآحاد في
العقائد. وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة للشيخ
الألباني ص11، 12.
الدليل الثاني:
قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ
مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ
رِسَالَتَهُ}
[المائدة: 67] وقال تعالى:
{مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة: 99]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "بلغوا عني" متفقعليه.
وقال لأصحابه في الجمع الأعظم يوم عرفة:
"أنتم تسألون عني فما أنتم قائلون"، قالوا: "نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت" رواه مسلم في الحج "147":
وأبو داود "1905" وابن ماجه "311".
ومعلوم أن البلاغ هو الذي تقوم به الحجة على المبلغ، ويحصل
به العلم، فلو كان خبر الواحد، لا يحصل به العلم لم يقع به
التبليغ الذي تقوم به حجة الله على العبد، فإن الحجة إنما
تقوم بما يحصل به العلم. وقد كان رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- يرسل الواحد من أصحابه يبلغ عنه، فتقوم الحجة على من
بلغه، وكذلك قامت حجته علينا بما بلغنا العدول الثقات من
أقواله وأفعاله وسنته، ولو لم يفد العلم لم تقم علينا بذلك
حجة، ولا على من بلغه واحد أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو
دون عدد التواتر. وهذا من أبطل الباطل. فيلزم من قال: إن
أخبار الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا تفيد العلم أحد
أمرين:
1- إما أن يقول: إن الرسول لم يبلغ غير القرآن، وما رواه
عنه عدد التواتر، وما سوى ذلك لم تقم به حجة ولا تبليغ.
2- وإما أن يقول إن الحجة والبلاغ حاصلان بما لا يوجب
علمًا ولا يقتضي عملًا.
وإذا بطل هذان الأمران بطل بأن أخباره -صلى الله عليه
وسلم- التي رواها الثقات العدول الحفاظ وتلقتها الأمة
بالقبول لا تفيد علمًا. وهذا ظاهر لا خفاء به.
مختصر الصواعق المرسلة "2/ 396".
ج / 1 ص -309-
فأما
التعارض -فيما هذا سبيله- فلا يسوغ إلا كما يسوغ في
الأخبار المتواترة وآي الكتاب1.
وقولهم: "إنا لا نصدق كل خبر نسمعه" فلأننا إنما جعلناه
مفيدًا للعلم؛ لما اقترن به من قرائن زيادة الثقة، وتلقي
الأمة له بالقبول2.
ولذلك اختلف خبر العدل والفاسق3.
وأما الحكم بشاهد واحد: فغير لازم؛ فإن الحاكم لا يحكم
بعلمه، وإنما يحكم بالبينة التي هي مظنة الصدق4. والله
أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المصنف بعد أن أورد الرأي الثاني المنقول عن الإمام أحمد
وما فيه من احتمالات بدأ يرد على الوجوه التي استدل بها
على أن خبر الآحاد يفيد الظن، وتقدم أنها خمسة، لكنه هنا
لم يلتزم الترتيب، كما لم يرد على الوجه الثالث منها.
وقوله: "فأما التعارض... إلخ" هذا هو الرد على الوجه
الثاني الذي خلاصته: أن خبر الآحاد لو أفاد العلم لما وقع
تعارض بين الأدلة المتعارضة القطعية من السنة المتواترة
وآي القرآن الكريم، وذلك بالجمع بين الدليلين إن أمكن، أو
يعتبر المتأخر ناسخًا للمتقدم، أو حمل المطلق على المقيد،
إلى آخر وجوه الجمع بين المتعارضات.
2 هذا هو الرد على الوجه الأول: وهو أن التفرقة بين خبر
وخبر، إنما جاءت من القرائن، كزيادة الثقة في الراوي، أو
تلقي الأمة له بالقبول.
3 هذا رد على الوجه الخامس: وهو أنه لو أفاد العلم لاستوى
خبر العدل والفاسق، كالمتواتر، فإنه لا يشترط فيه أن يكون
المخبرون عدولًا. فرد على ذلك: بأن التفرقة جاءت من
القرينة.
4 هذا رد على الوجه الرابع: وهو أنه لو أفاد العلم لجاز
الحكم بشاهد واحد، ولم يحتج إلى شاهد آخر، أو اليمين عند
عدمه. فأجاب عن ذلك: بأن هذا ليس =
ج / 1 ص -310-
فصل: [في حكم التعبد بخبر الواحد عقلًا]
وأنكر قوم جواز التعبد بخبر الواحد عقلًا1؛ لأنه يحتمل أن
يكون كذبًا، والعمل به عمل بالشك، وإقدام على الجهل، فتقبح
الحوالة على الجهل.
بل إذا أمرنا الشرع بأمر فليعرفناه؛ لنكون على بصيرة، إما
ممتثلون، وإما مخالفون2.
والجواب:
أن هذا إن صدر من مقر بالشرع فلا يتمكن منه؛ لأنه تعبد
بالحكم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بلازم، أي لا يلزمنا ذلك، للفرق بين الشهادة والرواية،
ولذلك لا يحكم القاضي بمقتضى علمه، وإنما يحكم بناء على
البينة التي هي مظنة الصدق، فقياس الرواية على الشهادة
قياس مع الفارق.
1 معنى التعبد بخبر الواحد: أي يجوز أن يتعبد الله -تعالى-
خلقه بخبر الواحد، بأن يقول لهم: اعبدوني بمقتضى ما يبلغكم
عني وعن رسولي على ألسنة الآحاد. وهو قول الجمهور: الأئمة
الأربعة وغيرهم من الفقهاء والأصوليين.
وأنكر ذلك جماعة: منهم الجبائي وبعض المتكلمين.
انظر: "العدة جـ3 ص857، شرح اللمع جـ1 ص583، شرح مختصر
الروضة جـ2 ص112، 113".
2 هذه حجة المنكرين لجواز التعبد بخبر الواحد عقلًا،
خلاصتها: أن خبر الواحد يحتمل الكذب، فالعمل به عمل
بالجهل، وهو قبيح عقلًا، والعقل لا يجيز القبيح؟
وأيضًا: فإن امتثال أمر الشرع والدخول فيه؛ يجب أن يكون
بطريق علمي؛ ليكون المكلف منه على يقين وبصيرة، وأمان من
الخطأ.
انظر: شرح المختصر جـ1 ص115.
ج / 1 ص -311-
بالشهادة، والعمل بالفتيا، أو التوجه إلى الكعبة بالاجتهاد
عند الاشتباه، وإنما يفيد الظن، كما يفيد بالعمل
بالمتواتر، والتوجه إلى الكعبة عند عدم معاينتها، فلِمَ
يستحيل أن يلحق المظنون بالمعلوم؟
وإن صدر من منكر للشرع: فيقال له: أي استحالة في أن يجعل
الله -تعالى- الظن علامة للوجوب، والظن مدرك بالحس، فيكون
الوجوب معلومًا؟
فيقال له: إذا ظننت صدق الشاهد، والرسول، والحالف: فاحكم
به، ولست متعبدًا بمعرفة صدقه، بل بالعمل به عند ظن صدقه،
وأنت ممتثل مصيب صدق أم كذب.
كما يجوز أن يقال: إذا طار طائر ظننتموه غرابًا: أوجبت
عليكم كذا، وجعلت ظنكم علامة، كما جعل زوال الشمس علامة
على وجوب الصلاة1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة ما أجاب به المصنف على هؤلاء المنكرين: أن المنكر
إما أن يكون مقرًّا بالشرع أو لا؟ فإن كان مقرًّا فنقول
له: إن الشرع ورد فيه ما ينقض قولك، كالحكم بالشهادة،
والعمل بقول المفتي، وهو واحد، والاجتهاد في القبلة إذا
اشتبهت على المصلي، فإنه يجب عليه أن يصلي إلى الجهة التي
ظنها القبلة، وكل هذا من قبيل الظنون.
وإن كان المنكر ممن ينكر الشرع فيقال له: أي استحالة في أن
يجعل الله -تعالى- الظن علامة للوجوب، كما لو قال: إذا طار
بكم طائر وظننتموه غرابًا أوجبت عليكم كذا وكذا، وجعلت
ظنكم علامة على وجوب العمل، كما جعلت زوال الشمس علامة على
وجوب الصلاة، والظن وجوده مدرك بالحس، فيكون الوجوب
معلومًا، فمن أتى بالواجب عند الظن فقد امتثل قطعًا، وهكذا
العمل في الشاهد والحالف، لسنا متعبدين بالعلم بصدقه، لكن
بالعمل بالظن الذي نحسه من أنفسنا. انظر: "شرح ابن بدران
جـ1 ص264، 265".
ج / 1 ص -312-
فصل1 وقال أبو الخطاب: العقل يقتضي وجوب قبول خبر الواحد
لأمور ثلاثة:
أحدها: أنا
لو فرضنا العمل على القطع تعطلت الأحكام؛ لندرة القواطع،
وقلة مدارك اليقين.
الثاني: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مبعوث إلى الكافة،
ولا يمكنه مشافهة جميعهم، ولا إبلاغهم بالتواتر.
الثالث: أنا إذا ظننا صدق الراوي فيه ترجح وجود أمر الله
-تعالى- وأمر رسوله -عليه السلام- فالاحتياط: العمل
بالراجح.
وقال الأكثرون: لا يجب التعبد بخبر الواحد عقلًا، ولا
يستحيل ذلك.
ولا يلزم من عدم التعبد به تعطيل الأحكام؛ لإمكان البقاء
على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الفصل تابع للمسألة السابقة، وهي: حكم التعبد بخبر
الواحد عقلًا، والفصل الآتي لحكم التعبد به سمعًا، فلا
أدري لماذا جعله المصنف فصلًا مستقلًّا؟!
والخلاصة: أن المسألة فيها ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: إنكار التعبد بخبر الواحد -وهو الذي حكاه
المصنف في الفصل السابق-.
المذهب الثاني: وجوب التعبد، للأدلة الثلاثة التي ساقها
المصنف -نقلًا عن أبي الخطاب-، وهي في الواقع للغزالي.
المذهب الثالث: الجواز، وهو الذي عبر عنه المصنف بقوله:
"وقال الأكثرون: لا يجب التعبد بخبر الواحد عقلًا، ولا
يستحيل ذلك" هذا ما فهمته في هذه المسألة. والله أعلم.
ج / 1 ص -313-
البراءة الأصلية والاستصحاب.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يكلف تبليغ من أمكنه من أمته
تبليغه، دون من لا يمكنه، كمن في الجزائر ونحوها.
فصل: [في التعبد
بخبر الواحد سمعًا]
فأما التعبد بخبر الواحد سمعًا1: فهو قول الجمهور.
خلافًا لأكثر القدرية2 وبعض أهل الظاهر.
ولنا دليلان قاطعان:
أحدهما: إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- على قبوله:
فقد اشتهر ذلك عنهم في وقائع لا تنحصر، إن لم يتواتر
آحادها حصل العلم بمجموعها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معنى "سمعًا" أي: من جهة دليل الشرع، وما تقدم كان من
جهة العقل.
قال الطوفي: "وفي المسألة تفصيل، وهو: أن القائلين بجواز
التعبد به عقلًا، منهم من نفى كونه حجة شرعًا، كالشيعة،
والقاشاني، وابن داود [الظاهري]، ومنهم من أثبت ذلك، ثم
هؤلاء اتفقوا على دلالة السمع عليه، واختلفوا في دلالة
العقل عليه، فأثبته أحمد والقفال وابن سريج، ونفاه الباقون
وقال أبو عبد الله البصري: هو حجة فيما لا يسقط بالشبهة،
واختار الآمدي أنه حجة مطلقًا، وهو المذكور في المختصر".
"شرح المختصر جـ2 ص119". وانظر: الإحكام للآمدي "2/ 45"
والإحكام لابن حزم "1/ 94".
2 القدرية: فرقة من المعتزلة بالغت في القول بالقدر، بمعنى
أنهم يكذبون بالقدر، ويبالغون في إنكار إضافة الخير والشر
إلى القدر، وهم عشرون فرقة، كل فرقة منها تكفر الأخرى.
الفرق بين الفرق ص24.
ج / 1 ص -314-
منها:
أن الصديق -رضي الله عنه- لما جاءته الجدة تطلب ميراثها
نشد الناس: من يعلم قضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فيها؟
فشهد له محمد بن مسلمة1، والمغيرة بن شعبة2 أن النبي -صلى
الله عليه وسلم- أعطاها السدس، فرجع إلى قولهما، وعمل به
"عمر" بعده3.
وروي عن "عمر" -رضي الله عنه- في وقائع كثيرة:
منها: قصة الجنين حين قال: "أذكر الله امرأ سمع من رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- في الجنين"؟ فقام حمل بن مالك
بن النابغة4 وقال: "كنت بين جاريتين لي، فضربت إحداهما
الأخرى بمسطح5 فقتلتها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: محمد بن مسلمة بن خالد الأنصاري الحارثي، صحابي
جليل، شهد بدرًا وما بعدها، استخلفه الرسول -صلى الله عليه
وسلم- على المدينة في بعض غزواته، مات بالمدينة سنة 43هـ.
انظر في ترجمته: "الاستعياب 3/ 1377، الخلاصة ص359".
2 هو: المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود الثقفي، أسلم
عام الخندق، أحد دهاة العرب، ولاه "عمر" البصرة، ثم عزله
عنها وولاه الكوفة، وأقره "عثمان" عليها، ثم عزله، ولما تم
الأمر لمعاوية أعاده عليها، حتى توفي سنة 50هـ.
انظر: "الاستيعاب 4/ 1445، الإصابة القسم السادس ص197".
3 أخرجه أبو داود: كتاب الفرائض، باب في الجدة، والترمذي:
كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث الجدة، وابن ماجه: كتاب
الفرائض، باب ميراث الجدة.
4 هو: حمل بن مالك بن النابغة بن جابر الهذلي، البصري،
استعمله النبي -صلى الله عليه وسلم- على صدقات "هذيل" وعاش
إلى خلافة "عمر" -رضي الله عنهما-.
انظر في ترجمته: "الإصابة 1/ 355، الاستيعاب 1/ 366".
5 المسطح: بكسر الميم عود من أعواد الخباء.
ج / 1 ص -315-
وجنينها، فقضى النبي -صلى الله عليه وسلم- في الجنين
بغرة"1 فقال عمر: "لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره"2.
وكان لا يورث المرأة من دية زوجها حتى أخبره الضحاك3: أن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتب إليه: أن يورث امرأة
أَشْيَم الضبابي4 من دية زوجها"5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الغرة: بضم الغين: عبد أو أمة.
2 الحديث رواه أبو داود: كتاب الديات، باب دية الجنين،
والدراقطني: كتاب الحدود والديات، كما رواه الترمذي
والنسائي وابن ماجه والشافعي في الرسالة ص427. عن ابن عباس
-رضي الله عنهما- أن دية الجنين خفيت على عمر بن الخطاب
-رضي الله عنه- حتى سأل الناس... الحديث.
وفي رواية لأبي داود: فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها
وجنينها، فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جنينها
بغرة وأن تقتل" أي القاتلة.
3 هو: الضحاك بن سفيان بن عوف بن أبي بكر بن كلاب الكلابي،
من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان شجاعًا
مقدامًا، ولاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جمع الصدقات
من قومه.
انظر: في ترجمته: "الإصابة 3/ 477، الخلاصة ص197".
4 أشيم -بوزن أحمد-: الضبابي -بكسر المعجمة بعدها باء
موحدة-، قتل مسلمًا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-
فأمر -صلى الله عليه وسلم- الضحاك بن سفيان أن يورث امرأته
من ديته.
انظر: الإصابة مع الاستيعاب "1/ 97"، أسد الغابة "1/ 197".
5 أخرجه أبو داود: كتاب الفرائض، باب المرأة ترث من دية
زوجها، والترمذي كتاب الفرائض، باب ما جاء في ميراث المرأة
من دية زوجها، وقال: "حديث حسن صحيح".
كما أخرجه ابن ماجه: كتاب الديات، باب الميراث من الدية،
ومالك في الموطأ: كتاب العقول، باب ما جاء في ميراث العقل
والتغليظ فيه، والشافعي: كتاب الفرائض، باب ما جاء في
ميراث المرأة من دية زوجها، والدارقطني: كتاب الفرائض.
ج / 1 ص -316-
ورجع
إلى حديث عبدالرحمن بن عوف1 عن النبي -صلى الله عليه وسلم-
في المجوس: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب"2.
وأخذ عثمان بخبر "فريعة بن مالك"3 في السكنى، بعد أن أرسل
إليها وسألها4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: عبد الرحمن بن عوف بن الحارث، القرشي الزهري، أبو
محمد، ولد بعد عام الفيل بعشر سنين، وأسلم قبل فترة دار
الأرقم، جمع بين الهجرتين، هجرة الحبشة، وهجرة المدينة.
شهد بدرًا وما بعدها، كان أحد العشرة المبشرين بالجنة،
وأحد الستة الذين جعل عمر المشورة فيهم في الخلافة. مات
بالمدينة سنة 31هـ. "الإصابة 4/ 346".
2 رواه البزار في مسنده، والدارقطني في سننه، وابن أبي
شيبة في مسنده، ومالك في الموطأ: كتاب الزكاة عن جعفر بن
محمد عن أبيه أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "لا
أدري ما أصنع بالمجوس؟ فقال عبد الرحمن بن عوف -رضي الله
عنه-: "أشهد لسمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
"سنوا بهم سنة أهل الكتاب" أعله ابن عبد البر بالانقطاع؛
لأن محمد بن علي بن الحسين لم يلق عمر، وأعله غيره
بالإرسال، لكن يشهد له ما جاء في البخاري من حديث مجالد
قال: أتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة فرقوا بين كل
ذي محرم من المجوس، ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى
شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
أخذها من مجوس هجر.
كما يشهد له -أيضًا- ما رواه البخاري من أخذ الجزية من
البحرين التي صالح أهلها الرسول -صلى الله عليه وسلم- وولى
عليها العلاء بن الحضرمي، وهم من المجوس.
انظر: "فتح الباري جـ6 ص259".
3 هي: فريعة بنت مالك بن سنان الخدرية، أخت أبي سعيد
الخدري، وهي التي قتل زوجها في عهد رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- فأمرها النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن تمكث في
بيتها حتى تنتهي عدتها -كما سيأتي تخريج الحديث-.
انظر: في ترجمتها: "الإصابة 8/ 66، والاستيعاب 4/ 1903".
4 أخرجه أبو داود: كتاب الطلاق، في المتوفى عنها تنتقل،
والترمذي: كتاب =
ج / 1 ص -317-
وعلي
كان يقول: كنت إذا سمعت من النبي -صلى الله عليه وسلم-
حديثًا نفعني الله بما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني عنه غيره
استحلفته، فإذا حلف لي صدقته. وحدثني أبو بكر -وصدق أبو
بكر-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"ما من عبد يذنب، فيتوضأ، ثم يصلي ركعتين ويستغفر الله إلا
غفر الله له"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الطلاق، باب ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها ولفظه:
"أنها -أي فريعة- جاءت رسول الله –صلى الله عليه وسلم-
تسأله أن ترجع إلى أهلها في "بني خدرة" وأن زوجها خرج في
طلب أعبد له أبقوا، حتى إذا كان بطرف القدوم -موضع بضاحية
المدينة- لحقهم فقتلوه.
قالت: فسألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أرجع إلى
أهلي؛ فإن زوجي لم يترك لي مسكنًا يملكه، ولا نفقة.
قالت: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
"نعم".
قالت: ما انصرفت، حتى إذا كنت في الحجرة، أو في المسجد،
ناداني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو أمر بي، فنوديت
له، فقال:
"كيف قلت؟"
قالت: فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي، قال:
"امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله".
قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا.
قالت: فلما كان عثمان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته،
وقضى به".
والحديث أخرجه أيضًا: النسائي: باب مقام المتوفى عنها
زوجها في بيتها حتى تحل، وابن ماجه: باب أين تعتد المتوفى
عنها زوجها، والدارمي: باب خروج المتوفى عنها زوجها،
والشافعي: كتاب النفقات، باب اعتداد المتوفى عنها في بيت
زوجها.
1 الحديث رواه أبو داود: كتاب الصلاة، باب في الاستغفار
بلفظ: "كنت رجلًا إذا سمعت من رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- حديثًا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني، وإذا
حدثني أحد من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدقته، قال:
وحدثني أبو بكر -وصدق أبو بكر- أنه قال: سمعت رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- يقول: "وما من =
ج / 1 ص -318-
ولما
اختلف الأنصار في الغسل من المجامعة: أرسلوا أبا موسى1 إلى
"عائشة" فروت لهم عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مس
الختان الختان وجب الغسل"2. فرجعوا إلى قولها.
واشتهر رجوع أهل قباء إلى خبر الواحد في التحول إلى
الكعبة3.
وروى أنس4 قال: كنت أسقي أبا عبيدة5، وأبا طلحة6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عبد يذنب ذنبًا، فيحسن الوضوء، ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم
يستغفر الله، إلا غفر الله له" ثم قرأ هذه الآية:
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ
ذَكَرُوا اللَّهَ}
[آل عمران: 135].
كما أخرجه ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة؛ باب ما جاء في أن
الصلاة كفارة، وأحمد في مسنده "1/ 2" وابن حبان حديث
"2454" وصححه.
1 هو: عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب بن عامر
الأشعري، أسلم قديمًا بمكة، ثم رجع إلى قومه، ثم قدم جماعة
من الأشعريين إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- حين فتح
خيبر، ولاه النبي -صلى الله عليه وسلم- اليمن، ثم ولاه عمر
البصرة... مات بالكوفة وقيل: بمكة سنة 44هـ. "الإصابة 4/
211".
2 أخرجه مسلم: كتاب الحيض، باب نسخ الماء من الماء ووجوب
الغسل بالتقاء الختانين، وأبو داود: كتاب الطهارة، باب في
الإكسال، والترمذي: كتاب الطهارة، باب ما جاء إذا التقى
الختانان، وجب الغسل، وابن ماجة: كتاب الطهارة، باب ما جاء
في وجوب الغسل إذا التقى الختانان.
3 تقدم تخريجه في باب النسخ.
4 هو: أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم البخاري الخزرجي
الأنصاري، صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وخادمه.
توفي سنة 93هـ. "صفة الصفوة 1/ 298، الأعلام 1/ 365".
5 هو: عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال الفهري القرشي،
أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن السابقين إلى الإسلام.
توفي بالطاعون سنة 18هـ. "حلية الأولياء 1/ 100، والأعلام
4/ 21".
6 هو: زيد بن سهل بن الأسود بن حرام بن عمرو الأنصاري
الخزرجي، كان فارسًا =
ج / 1 ص -319-
وأبي
بن كعب1 شرابًا من فضيخ2، إذ أتانا آت فقال: إن الخمرة قد
حرمت. فقال أبو طلحة: يا أنس "قم إلى هذه الجرار فاكسرها"
فكسرتها3.
ورجع ابن عباس إلى حديث أبي سعيد4 في الصرف5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= شديدًا، وقى النبي -صلى الله عليه وسلم- بصدره من قبل
المشركين في أحد، تصدق بحديقة كانت له لما نزل قوله الله
-تعالى-:
{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} توفي سنة 50هـ. "الإصابة 2/ 607".
1 هو: أبي بن كعب بن قيس بين عبيد بن النجار الأنصاري، سيد
القراء، من أصحاب العقبة الثانية، شهد بدرًا وما بعدها،
وكان من كتاب الوحي. توفي سنة 20هـ. وقيل غير ذلك.
انظر: "الإصابة 1/ 27، البداية والنهاية 7/ 97".
2 الفضيخ: هو أن يجعل التمر في إناء ثم يصب عليه الماء
الحار، فيستخرج حلاوته، ثم يغلى ويشتد. التعريفات للجرجاني
ص167.
3 حديث صحيح، رواه البخاري "3/ 321" بحاشية السندي، ومسلم
"13/ 151" مع شرح النووي، ومالك في الموطأ "3/ 155" مع
المنتقى.
4 هو: سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة، الخزرجي، الأنصاري،
الخدري، من علماء الصحابة، وحفاظها المكثرين. توفي سنة
74هـ.
انظر: "الاستيعاب 4/ 1671، تاريخ بغداد 1/ 180".
5 حديث ابن عباس: "إنما الربا في النسيئة" تقدم الحديث
عنه. أما حديث أبي سعيد الذي رجع إليه ابن عباس فهو: ما
أخرجه البخاري: كتاب البيوع، باب بيع الفضة، وأحمد في
مسنده "3/ 9" ومسلم: كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب
بالورق نقدًا، ولفظه: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
"الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر وبالبر، والشعير بالشعير، والتمر
بالتمر، والملح بالملح، مثلًا بمثل، يدًا بيد، فمن زاد أو
ازداد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء".
ج / 1 ص -320-
ورجع
ابن عمر إلى حديث رافع بن خديج في المخابرة1.
وكان زيد بن ثابت2 يرى أن لا تصدر الحائض حتى تطوف3.
فقال له ابن عباس سل فلانة الأنصارية، هل أمرها النبي -صلى
الله عليه وسلم- بذلك؟ فأخبرته، فرجع زيد يضحك وقال لابن
عباس: "ما أراك إلا قد صدقت".
والأخبار في هذا أكثر من أن تحصى.
واتفق التابعون عليه أيضا4. وإنما حدث الاختلاف بعدهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم قريبًا.
2 هو: زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري، كان من كتاب الوحي
وهو الذي تولى جمع القرآن في عهد أبي بكر -رضى الله عنه-
وهو أعلم الصحابة بالفرائض فقال -صلى الله عليه وسلم-:
"أفرضكم زيد" توفي سنة 42هـ. "الإصابة 2/ 594، الاستيعاب
1/ 551".
3 أي: لا ترجع إلى بلدها إلا إذا طافت طواف الوداع.
وكان زيد بن ثابت يفتي بذلك، حتى علم بخبر ابن عباس، الذي
أخرجه البخاري: كتاب الحج، باب إذا حاضت المرأة بعدما
أفاضت "أي: طافت طواف الإفاضة". ولفظه: عن عكرمة قال: إن
أهل المدينة سألوا ابن عباس -رضي الله عنهما- عن امرأة
طافت، ثم حاضت؟ قال لهم: تنفر. قالوا: لا نأخذ بقولك وندع
قول زيد. قال: إذا قدمتم المدينة فسلوا. فقدموا المدينة
فسألوا، فكان فيمن سألوا "أم سليم" فقالت: إن صفية بنت حيي
-زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- حاضت فذكرت ذلك لرسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فقال:
"أحابستنا هي؟"
قالوا: إنها أفاضت. قال:
"فلا إذن".
أخرجه مسلم: كتاب الحج، باب وجوب طواف الوادع وسقوطه عن
الحائض، والبيهقي في السنن الكبرى: كتاب الحج، باب ترك
الحائض الوداع.
4 أي: أن التابعين اتفقوا على العمل بخبر الواحد، كما اتفق
الصحابة -رضي الله عنهم- وما وقع الاختلاف إلا بعد عصر
التابعين.
ج / 1 ص -321-
فإن
قيل: لعلهم عملوا بأسباب قارنت هذه الأخبار، لا بمجردها،
كما أنهم أخذوا بالعموم، وعملوا بصيغة الأمر والنهي، ولم
يكن ذلك نصًّا صريحًا فيها1.
قلنا: قد صرحوا بأن العمل بالأخبار؛ لقول عمر: "لولا هذا
لقضينا بغيره".
وتقدير قرينة وسببها هنا كتقدير قرائن مع نص الكتاب
والأخبارالمتواترة وذلك يبطل جميع الأدلة.
وأما العموم، وصيغة الأمر والنهي، فإنها ثابتة، يجب الأخذ
بها، ولها دلالات ظاهرة، تعبدنا بالعمل بمقتضاها، وعملهم
بها دليل على صحة دلالاتها فهي كمسألتنا2.
وإنما أنكرها من لا يعتد بخلافه، وأعتذروا بأنه لم ينقل
عنهم في صيغة الأمر والعموم تصريح3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا اعتراض حاصله: أنهم ربما عملوا بخبر الواحد لأسباب
وقرائن قارنت الأخبار لا بمجردها، كما أنهم عملوا
بالعمومات، والأمر والنهي، وكلها نصوص غير صريحة، فعملوا
بها مع القرائن أيضًا.
وأجاب المصنف عن ذلك: بأنه لم ينقل عنهم إلا الأخذ
بالأخبار، كما في خبر حمل بن مالك المتقدم. ولو قدر وجود
قرائن هنا لقدر ذلك مع آيات القرآن الكريم والأحاديث
المتواترة، وهذا يؤدي إلى إبطال جميع الأدلة، لأنه لا
يستدل بها منفردة عن القرائن، وهذا غير صحيح.
2 هذا رد من المصنف على أولئك الذين قالوا: إن العمل
بالأخبار والألفاظ العامة، والأوامر والنواهي، بناء على
قرائن احتفت بها، وليس منها مجردة.
وخلاصته: بأن صيغ العموم، والأمر والنهي لها دلالات ظاهرة
وواضحة، كلفنا بالعمل بمقتضاها، والسلف الصالح عملوا بها
مجردة عن القرائن وعملهم بها دليل على صحة دلالاتها كما في
الأخبار.
3 هذا كالحجة لمن ينكر دلالة الأخبار، والعمومات، والأمر
والنهي. =
ج / 1 ص -322-
فإن
قيل: فقد تركوا العمل بأخبار كثيرة1.
فلم يقبل النبي -صلى الله عليه وسلم- خبر ذي اليدين2,
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مضمونها: أنه لم ينقل عن السلف: أنهم عملوا بها مجردة،
وفي هذا إشارة إلى أنه كانت هنالك قرائن لم يذكروها.
هذا معنى كلام المصنف، والواقع أن هذه الجملة ليس محلها
هنا، وإنما كانت تأتي عند حكاية مذهبهم، كما فعل الغزالي،
إلا أن المصنف دأب على اختصار العبارات، وعلى التقديم
والتأخير مما جعل المعنى غير مترابط، وإلا فجملة:
"واعتذروا" ليس لها محل هنا. يوضح ذلك عبارة الغزالي حيث
قال:
"فإن قيل: لعلهم عملوا بها [يقصد الأخبار] مع قرائن أو
بأخبار أخر صاحبتها، أو ظواهر ومقاييس وأسباب قارنتها، لا
بمجرد هذه الأخبار -كما زعمتم-.
كما قلتم بالعموم وصيغة الأمر والنهي ليس نصًّا صريحًا على
أنهم عملوا بمجردها، بل بها مع قرائن قارنتها...".
1 هذا اعتراض على قول المصنف -في أول المسألة: ولنا دليلان
قاطعان، أحدهما: إجماع الصحابة على قبوله إلى آخر الأمثلة
التي تقدمت، فكأن المخالف يقول: كيف تدعون الإجماع على
القبول، مع أن هناك أدلة آخرى كثيرة، بلغت حد الإجماع
-أيضًا- برد العمل بخبر الواحد، ثم بدأ يذكر أمثلة لذلك.
2 ذو اليدين: هو الخرباق بن عمرو، من بني سليم، قيل له: ذو
اليدين؛ لأنه كان في يديه طول، فسماه -صلى الله عليه
وسلم-: ذا اليدين، عاش بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى
روى عنه بعض المتأخرين من التابعين. انظر في ترجمته:
"الإصابة 1/ 489، تهذيب الأسماء 1/ 185".
وحديثه -في السهو في الصلاة- حديث صحيح: رواه البخاري:
كتاب الصلاة، باب من لم يتشهد في سجدتي السهو، ومسلم: كتاب
الصلاة، باب السهو في الصلاة والسجود له، وأبو داود: كتاب
الصلاة، باب السهو في السجدتين، والترمذي: كتاب الصلاة،
باب ما جاء في الرجل يسلم في الركعتين =
ج / 1 ص -323-
ولم
يقبل "أبو بكر" خبر "المغيرة" وحده في ميراث الجدة1.
و "عمر" لم يقبل خبر "أبي موسى" في الاستئذان2.
ورد "علي" خبر معقل بن سنان الأشجعي3 في "بروع"4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= من الظهر والعصر، كما أخرجه النسائي وابن ماجه وغيرهما.
ولفظ مسلم -عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: صلى لنا رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة العصر، فسلم في ركعتين،
فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟
فقال: -صلى الله عليه وسلم-:
"كل ذلك لم يكن"
قال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله.
فأقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما بقي من الصلاة،
ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد التسليم.
1 تقدم تخريجه قريبًا.
2 عن عمر -رضي الله عنه- أن أبا موسى استأذن عليه ثلاثًا،
فلم يؤذن له، فانصرف، فأرسل إليه "عمر": لم انصرفت؟ فقال:
سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
"إذا استأذن
أحدكم على صاحبه ثلاثًا، فلم يؤذن له فلينصرف".
فقال من يشهد ذلك؟ فمضى أبو موسى إلى الأنصار، فقالوا:
نبعث معك بأصغرنا: أبي سعيد الخدري، فمضى فسمع "عمر"
منهما.
روى هذه القصة: البخاري في كتاب الاستئذان، باب: التسليم
والاستئذان ثلاثًا، ومسلم في كتاب الآداب، باب: الاستئذان،
وأبو داود: كتاب الأدب، باب: كم مرة يسلم الرجل في
الاستئذان، والترمذي: كتاب الاستئذان، باب ما جاء في
الاستئذان ثلاثة، وابن ماجه: كتاب الأدب، باب الاستئذان،
والدارمي: كتاب الاستئذان، باب: الاستئذان ثلاثًا.
3 هو: معقل بن سنان بن مظهر بن غطفان الأشجعي، كان يحمل
لواء قومه يوم الفتح ويوم حنين، قتله عقبه بن مسلم سنة
63هـ.
4 هي: بروع -بكسر الباء أو فتحها وسكون الراء وفتح الواو-
بنت واشق =
ج / 1 ص -324-
...........................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الأشجعية، زوج هلال بن مرة، روت أن رجلًا عقد عليها ولم
يفرض لها مهرًا، وفوضت إليه ذلك، فتوفي قبل أن يدخل بها،
فقضى لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصداق نسائها:
انظر: الإصابة "4/ 251".
وأما الخبر الذي رده "علي" -رضي الله عنه- فهو ما أخرجه
الإمام أحمد في مسنده "1/ 447" وأبو داود في كتاب النكاح،
باب فيمن تزوج ولم يسم صداقًا حتى مات حديث رقم "2114"
والترمذي في كتاب النكاح، باب "44" حديث رقم "1145"
والنسائي في سننه "6/ 121" وابن ماجه في كتاب النكاح، باب
الرجل يتزوج ولا يفرض لها حديث رقم "1891" ولفظه: عن ابن
مسعود -رضي الله عنه- أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض
فيها صداقًا، ولم يدخل بها حتى مات. فقال ابن مسعود: لها
مثل صداق نسائها، ولا وكسَ ولا شطط، وعليها العدة، ولها
الميراث. فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- في بروع بنت واشق -امرأة منا- مثل
الذي قضيت، ففرح بها ابن مسعود.
وكان "علي" -رضي الله عنه- لا يرى ذلك ويقول: "لا ندع كتاب
ربنا لقول أعرابي بوال على عقبيه".
ورواية البيهقي في سننه "7/ 247": "لا يقبل قول أعرابي من
أشجع على كتاب الله".
وقد ضعف بعض المحدثين عبارة "بوال على عقبيه" وأن ذلك لا
يصح عن "علي" وفي إسناد هذه الرواية: أبو إسحاق الكوفي.
قال عنه الأزدي: ليس بثقة. انظر: ميزان الاعتدال "4/ 488"،
تخريج أحاديث اللمع ص221، 222.
وقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه "6/ 293": أن عليًّا -رضي
الله عنه- كان يجعل لها الميراث وعليها العدة، ولا يجعل
لها صداقا، ويقول: "لا نصدق الأعراب على رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-".
ج / 1 ص -325-
وردت
"عائشة" خبر "ابن عمر" في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه1.
قلنا: الجواب من وجهين:
أحدهما: أن هذا حجة عليهم؛ فإنهم قد قبلوا الأخبار التي
توقفوا عنها بموافقة غير الراوي له، ولم يبلغ بذلك رتبة
التواتر، ولا خرج عن رتبةالآحاد إلى رتبة التواتر.
والثاني: أن توقفهم كان لمعان مخصصة بهم.
فتوقف النبي -صلى الله عليه وسلم- في خبر "ذي اليدين"
ليعلمهم: أن هذا الحكم لا يؤخذ فيه بقول الواحد1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روى يحيي بن عبد الرحمن عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن
النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الميت يعذب ببكاء أهله
عليه" فقالت عائشة -رضي الله عنها-: يرحمه الله، لم يكذب،
ولكنه وهم، إنما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لرجل
مات يهوديًّا:
"إن الميت
ليعذب، وإن أهله ليبكون عليه". حديث
صحيح: رواه البخاري حديث "1288" ومسلم حديث "391" والترمذي
حديث "100" والنسائي "4/ 17" ومالك في الموطأ "1/ 234"
بلفظ: "أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ".
1 خلاصة الرد الثاني: أن هذه الأخبار كان لها ظروف خاصة
اقترفت بها: فخبر ذي اليدين، كان الناس كثيرين خلف النبي
-صلى الله عليه وسلم- وفيهم من هو أضبط لأفعال الصلاة من
ذي اليدين، فلذلك أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن
يتأكد بوقوع ذلك.
وأما خبر "المغيرة" فلعل أبا بكر -رضي الله عنه- قد غلب
فيه جانب الشهادة على المال، وهو يثبت حقًّا ماليًّا
مؤبدًا، وهو ميراث الجدة، فكان ذلك مناسبًا للتوقف
والتأكد.
وأما رد سيدنا عمر لخبر أبي موسى، فواضح الدلالة، حيث كان
-رضي الله عنه- شديد الحرص على عدم دخول شيء في السنة ليس
منها.
وأما حديث "ابن عمر" الذي ردته "عائشة" -رضي الله عنها-
فإنما ردته لا من =
ج / 1 ص -326-
وأما
أبو بكر -رضي الله عنه-: فلم يرد خبر "المغيرة" وإنما طلب
الاستظهار بقول آخر، وليس فيه ما يدل على أنه لا يقبل قوله
لو انفرد.
وأما عمر -رضي الله عنه- فإنه كان يفعل ذلك سياسة؛ ليتثبت
الناس في رواية الحديث، وقد صرح به فقال: "إني لم أتهمك،
ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-".
وعائشة -رضي الله عنها- لم ترد خبر "ابن عمر" وإنما
تأولته.
الدليل الثاني1:
ما تواتر من إنفاذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمراءه
ورسله وقضاته وسعاته إلى الأطراف؛ لتبليغ الأحكام،
والقضاء، وأخذ الصدقات وتبليغ الرسالة.
ومن المعلوم: أنه كان يجب عليهم تلقي ذلك بالقبول، ليكون
مفيدًا، والنبي -صلى الله عليه وسلم- مأمور بتبليغ
الرسالة، ولم يكن ليبلغها بمن لا يكتفى به.
دليل ثالث2:
أن الإجماع انعقد على وجوب قبول قول المفتي فيما يخبر به
عن ظنه فما يخبر به عن السماع الذي لا يشك فيه أولى، فإن
تطرق الغلط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= حيث الكذب، وإنما من حيث الوهم، أو الخطأ والنسيان.
وكل هذه الملابسات لا تقوى على الطعن في العمل بخبر
الآحاد.
1 هذا هو الدليل الثاني على وجوب التعبد بخبر الواحد....
حيث قال في أول الفصل: ولنا دليلان قاطعان: أحدهما: إجماع
الصحابة، وهذا هو الثاني.
2 هذا دليل ثالث على وجوب العمل بخبر الواحد. ولما لم يكن
في قوة الدليلين السابقين لم يضمه إلى الدليلين السابقين.
وخلاصة هذا الدليل: قياس خبر الواحد على ما يفتي به
المفتي، بجامع =
ج / 1 ص -327-
إلى
المفتي كتطرق الغلط إلى الراوي؛ لأن المجتهد -وإن كان
مصيبًا- فإنما يكون مصيبا إذا لم يفرط.
وربما ظن أنه لم يفرط، ويكون قد فرط، وهذا عند من يجوز
تقليد مقلد بعض الأئمة أولى، فإنه إذا جاز أن يروي مذهب
غيره، لم لا يجوز أن يروي قول غيره.
فإن قيل:
هذا قياس لا يفيد إلا الظن، وخبر الواحد أصل لا يثبت
بالظن.
ثم الفرق بينهما: أن هذا حال ضرورة، فإنا لو كلفنا كل أحد
الاجتهاد تعذر1.
قلنا: لا نسلم أنه مظنون، بل هو مقطوع بأنه في معناه؛ فإنا
إذا قطعنا بخبر الواحد في البيع، قطعنا به في النكاح، ولم
يختلف باختلاف المروي فيه، ولم يختلف ههنا إلا المروي عنه،
فإن هذا يروي عن ظنه، وهذا يروي عن غيره2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= حصول الظن فيهما؛ أما في الفتيا: فإنه يغلب على ظن
المفتي والمستفتي أن ما أفتى به هو حكم الله تعالى.
وأما في الراوي: فلأنه يغلب على ظن السامع أن ما رواه ثابت
عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيجب أن يقبل؛ قياسًا
على الفتيا: انظر: "شرح مختصر الروضة ج2 ص131-132".
1 خلاصة هذا الاعتراض: أن هذا القياس ظني؛ فلا يثبت به
العمل بخبر الواحد؛ لأنه أصل قوي، فلا يثبت بمثل هذا
القياس.
2 خلاصة الجواب على هذا الاعتراض: أن كون القياس المذكور
ظنيًّا محل النزاع، ونحن لا نسلم به، بل هو جلي قاطع، فإنه
لا فارق بين الرواي والمفتي، إلا أن هذا يخبر عن غيره،
وهذا يخبر عن ظنه. =
ج / 1 ص -328-
وقولهم: "إنه يفضي إلى تعذر الأحكام" ليس كذلك، فإن العامي
يرجع إلى البراءة الأصلية، واستصحاب الحال، كما قلتم في
المجتهد إذا لم يجد قاطعًا1.
فصل: وذهب الجبائي2 إلى أن خبر الواحد
إنما يقبل إذا رواه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- اثنان،
ثم يرويه عن كل واحد منهما اثنان إلى أن يصير في زماننا
إلى حد يتعذر معه إثبات حديث أصلًا، وقاسه على الشهادة.
وهذا باطل بما ذكرناه من الدليل على قبول خبر الواحد.
ولا يصح قياسه على الشهادة؛ فإن الرواية تخالف الشهادة في
أشياء كثيرة، وكذلك لا تعتبر الرواية في الزنى أربعة، كما
يعتبر ذلك في الشهادة فيه3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قال الطوفي -مضيفًا ردًا آخر-: "وتحرير الجواب عن
الاعتراض المذكور: إما بما ذكرناه من منع كون القياس
المذكور ظنيًّا، أو بمنع كون محل النزاع -وهو جواز التعبد
بخبر الواحد- قطعيًّا بل هو اجتهادي فيثبت بدلالته الظنية
كالقياس المذكور وغيره". "شرح مختصر الروضة جـ2 ص132".
1 هذا رد على قولهم: "إن حالة الإفتاء حالة ضرورة، فلو
كلفنا كل واحد بالاجتهاد لتعذرت الأحكام".
خلاصته: أن ذلك لا يفضي إلى تعذر الأحكام، فإن العامي إذا
لم يصل إلى الحكم بناء على دليل، استطاع أن يرجع إلى
البراءة الأصلية، وهي عدم التكليف.
هذا معنى كلامه، وفيه نظر، فإن العامي لا يعرف ذلك.
2 هو: أبو علي: محمد بن عبد الوهاب بن سلام الجبائي
البصري، رأس المعتزلة وشيخهم، من أشهر مؤلفاته: "تفسير
القرآن" و"متشابه القرآن" توفي سنة 303هـ. انظر: "الفرق
بين الفرق ص183، فرق وطبقات المعتزلة ص85".
3 معنى كلام المصنف في هذا الفصل: أن أبا علي الجبائي
يشترط في قبول خبر =
ج / 1 ص -329-
فصل: [في شروط الراوي]1
ويعتبر في الراوي المقبول روايته أربعة شروط:
الإسلام، والتكليف، والعدالة، والضبط.
أما الإسلام: فلا خلاف في اعتباره؛ فإن الكافر متهم في
الدين2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الواحد أن يرويه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- اثنان،
ثم يرويه عن كل واحد اثنان، وهكذا إلى الحد الذي يتعذر معه
إثبات حديث أصلًا، وقاس خبر الواحد على الشهادة.
ورد عليه المصنف من وجهين:
الأول: الأدلة المتقدمة التي دلت على وجوب العمل بخبر
الواحد وهي صحيحة وكثيرة.
الثاني: عدم صحة قياس خبر الواحد على الشهادة لأنها تفارق
الخبر من أوجه كثيرة منها: أن الشهادة دخلها التعبد، ولذلك
لا تقبل فيها النساء بدون الرجال، إلا في المواضع التي لا
يصح اطلاع الرجال عليها.
ومنها: أن الشهادة إنما تكون على معين من الناس، فاحتيط له
أكثر من غيره، بخلاف الرواية فإنها تكون في جملة أحكام
الناس، وينبني عليها قواعد كلية، فلا يتجرأ المسلم على
الكذب فيها.
1 لما انتهى المصنف من بيان جواز التعبد بخبر الواحد عقلًا
وسمعًا، أراد أن يبين أن الواحد الذي تقبل روايته له شروط
لا بد من تحقيقها.
2 فلا يؤتمن عليه من خبر ديني، كالرواية، والإخبار عن جهة
القبلة، ولا يقبل خبره في وقت الصلاة، وطهارة موضعها،
وطهارة الماء، ووقت السحور والإفطار، والأصل في ذلك قوله
سبحانه:
{لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ
يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ
أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13]
وقوله -تعالى-:
{لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ
تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا
بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ
وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ
مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا
أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ
يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ =
ج / 1 ص -330-
فإن
قيل: هذا يتجه في كافر لا يؤمن بنبينا -صلى الله عليه
وسلم- إذ لا يليق بالسياسة تحكيمه في دين لا يعتقد تعظيمه.
أما الكافر المتأول: فإنه معظم للدين، يمتنع من المعصية،
غير عالم أنه كافر، فلم لا تقبل روايته؟
قلنا: كل كافر متأول، فاليهودي -أيضًا- متأول؛ فإن المعاند
هو الذي يعرف الحق بقلبه ويجحده بلسانه، وهذا يندر، بل
تورّع هذا من الكذب كتورع اليهودي، فلا يلتفت إلى هذا، ولا
يستفاد هذا المنصب بغير الإسلام1.
وقال أبو الخطاب -في الكافر والفاسق المتأولين-: إن كان
داعية فلا يقبل خبره؛ فإنه لا يؤمن أن يضع حديثًا على
موافقة هواه، وإن لم يكن داعية:
فكلام أحمد -رحمه الله- يحتمل الأمرين: من القبول وعدمه؛
فإنه قد قال: "احتملوا الحديث من المرجئة"2.
وقال: يكتب عن القدري3 إذا لم يكن داعية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=
ضَلَّ سَوَاءَ
السَّبِيل} [الممتحنة: 1] أي لا تتولهم في الدين، وهذه الفروع من الدين: شرح
المختصر "2/ 136".
"وهذا ما أكده القرآن الكريم في العديد من آياته، يقول
الله تعالى في سورة البقرة آية: 146:
{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا
يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ
لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
2 المرجئة: طائفة من أهل الكلام، يزعمون أن الإيمان هو
المعرفة بالله والمحبة والخضوع، بالقلب والإقرار
بالوحدانية، وما جاءت به الرسل ليس داخلًا في أصل الإيمان،
فلا تضر مع الإيمان معصية، ولا تنفع مع الكفر طاعة، وهم
فرق كثيرة. انظر في معتقداتهم: "الفرق بين الفرق ص203،
والملل والنحل 1/ 186".
3 تقدم التعريف بالقدرية.
ج / 1 ص -331-
واستعظم الرواية عن سعد العوفي1 وقال: هو جهمي، امتحن
فأجاب2.
واختار أبو الخطاب: قبول رواية الفاسق المتأول، لما
ذكرناه، وأن توهم الكذب منه كتوهمه من العدل؛ لتعظيمه
المعصية وامتناعه منها، وهو مذهب الشافعي.
ولذلك كان السلف يروي بعضهم عن بعض، مع اختلافهم في
المذاهب والأهواء3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: سعد بن محمد بن الحسن بن عطية بن سعيد العوفي، ضعيف،
قال فيه الإمام أحمد: "جهمي" وقال: "ولم يكن هذا -أيضًا-
ممن يستأهل أن يكتب عنه، ولا كان موضعًا لذاك" توفي سنة
276هـ. انظر: تاريخ بغداد "9/ 126".
2 وعبارة أبي يعلى في العدة "3/ 948": "امتحن فأجاب قبل أن
يكون ترهيب".
والجهمية: فرقة تنسب إلى "جهم بن صفوان" من الجبرية، وافق
المعتزلة في نفي الصفات الأولية: ونفي عن الله -كل ما يوصف
به خلقه: كالعلم والحياة، ويقول: إن الإنسان لا يقدر على
شيء، وتنسب له الأفعال مجازًا، كما تنسب للجماد، ويقول
بفناء الجنة والنار، وأن الإيمان هو المعرفة فقط، كما ينفي
رؤية الله -تعالى- في الآخرة.
انظر: في عقيدة هذه الفرقة "الملل والنحل جـ1 ص87".
3 أرى أن تعليل ابن قدامة في قبول رواية الفاسق المتأول
بالقياس على اختلاف السلف الصالح، غير مقبول، وهو قياس مع
الفارق، فاختلاف السلف كانت له أسباب ومبررات مشروعة، مثل:
اختلاف الرواية، أو عدم اطلاع البعض على الدليل أصلًا، وما
إلى ذلك من الأسباب التي تذكر في بيان سبب الخلاف.
والذي نرجحه في هذه المسألة: عدم قبول رواية الفاسق، حتى
لو كان متأولًا.
وما نقله المصنف عن الشافعي يخالف ما نقل عنه في الأم، حيث
رأى عدم انعقاد النكاح بشهادة الفاسق "الأم 5/ 22".
ج / 1 ص -332-
والثاني: التكليف:
فلا يقبل خبر الصبي والمجنون، لكونه لا يعرف الله -تعالى-
ولا يخافه، ولا يلحقه مأثم، فالثقة به أدنى من الثقة بقول
الفاسق؛ لكونه يعرف الله -تعالى- ويخافه، ويتعلق المأثم
به، ولأنه لا يقبل قوله فيما يخبر عن نفسه -وهو الإقرار-
ففيما يخبر به عن غيره أولى1.
أما ما سمعه صغيرًا، ورواه بعد البلوغ: فهو مقبول؛ لأنه لا
خلل في سماعه ولا أدائه.
ولذلك: اتفق السلف على قبول أخبار أصاغر الصحابة: كابن
عباس، وعبد الله بن جعفر2، وعبد الله بن الزبير3،....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقال الغزالي: "ومذهب الشافعي: أن الكفر نقصان، والفسق
يوجب الرد للتهمة". "المستصفى جـ2 ص242".
وقال: "وتورع المتأول عن الكذب كتورع النصراني، فلا ينظر
إليه، بل هذا المنصب لا يستفاد إلا بالإسلام، وعرف ذلك
بالإجماع، لا بالقياس" المصدر السابق ص230.
قال الشيخ الشنقيطي: "اعلم أن الكافر لا تقبل روايته على
التحقيق ولو كان متأولًا معظمًا للدين؛ لأن منصب القبول لا
يستفاد بغير الإسلام، وخلاف من خالف في هذا لا يعول عليه"
مذكرة أصول الفقه ص112.
1 فرق بعض العلماء بين الصبي المميز وغير المميز، فقلبوا
رواية المميز. قال القاضي أبو يعلى: "فأما تحمله الخبر، إن
كان عاقلًا مميزًا، ورواه بعد بلوغه، فجائز؛ لإجماع السلف
على عملهم بخبر ابن عباس وابن الزبير..... وغيرهم من أحداث
الصحابة". "العدة جـ3 ص949".
2 هو: عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب، ولد
بأرض الحبشة لما هاجر إليها أبواه: جعفر، وأسماء بنت عميس،
التي تزوجها أبو بكر بعد وفاة جعفر، ثم علي -بعد أبي بكر-.
كانت سنّه عند وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين
توفي سنة 80هـ. انظر: "الإصابة 4/ 40".
3 هو: عبد الله بن الزبير بن العوام، القرشي الأسدي، ولد
سنة اثنتين من الهجرة، =
ج / 1 ص -333-
والحسن1، والحسين2، والنعمان بن بشير3، ونظرائهم.
وعلى ذلك درج السلف والخلف: في إحضارهم الصبيان مجالس
السماع، وقبولهم لشهادتهم فيما سمعوه قبل البلوغ.
والثالث: الضبط4:
فمن لم يكن حاله السماع ممن يضبط، ليؤدي في الآخرة5 على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقيل في السنة الأولى، وأمه أسماء بنت أبي بكر، بويع
بالخلافة سنة 64هـ عقب موت يزيد، ولم يتخلف عن مبايعته إلا
أهل الشام، ثم قتل وصلب سنة 73هـ. "الاستيعاب 3/ 905".
1 هو: الحسن بن علي بن أبي طالب، ابن بنت رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- السيدة فاطمة الزهراء ولد سنة 3 للهجرة،
تولى الخلافة بعد مقتل أبيه، ثم تنازل عنها لمعاوية حقنًا
لدماء المسلمين. توفي بالمدينة سنة 49هـ. "الإصابة 2/ 68".
2 هو: الحسين بن علي بن أبي طالب، سبط رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وابن السيدة فاطمة الزهراء، سيد شباب أهل
الجنة، قتل في كربلاء على يد عبيد الله بن زياد سنة 61هـ.
"الإصابة 2/ 76".
3 هو: النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري الخزرجي، ولد قبل
وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بثمان سنين، تولى إمرة
الكوفة في خلافة معاوية ستة أشهر، ثم تولى له إمرة حمص،
ولابنه يزيد من بعده، ولما مات يزيد دعا لابن الزبير،
فخالفه أهل "حمص" وقتلوه سنة 64هـ. "الاستيعاب 4/ 1496".
4 أصل الضبط: إمساك الشيء باليد، أو اليدين، إمساكًا يؤمن
مع الفوات، ثم استعمل -مجازًا- في حفظ الوالي ونحوه البلاد
بالحزم وحسن السياسة، وفي حفظ المعاني بألفاظها، أو بدونها
بالقوة الحافظة.
ويستعمل في اصطلاح المحدثين في التحري والتشديد في النقل،
والمبالغة في إيضاح الخط بالإعراب، والشكل، والنقط. "شرح
مختصر الروضة جـ2 ص144-145".
5 أي بعد البلوغ.
ج / 1 ص -334-
الوجه1، لم تحصل الثقة بقوله.
الرابع: العدالة2:
فلا يقبل خبر الفاسق؛ لأن الله -تعالى- قال:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ
فَتَبَيَّنُوا}3.
وهذا زجر عن الاعتماد على قبول [قول] الفاسق.
ولأن من لا يخاف الله -سبحانه- خوفًا يزعه4 عن الكذب لا
تحصل الثقة بقوله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عبارة المستصفى: "على وجهه" أي: لم يغير اللفظ ولا
المعنى.
2 قال الغزالي: "والعدالة: عبارة عن استقامة السيرة
والدين.
ويرجع حاصلها إلى: هيئة راسخة في النفس، تحمل على ملازمة
التقوى والمروءة جميعًا، حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه، فلا
ثقة بقول من لا يخاف الله -تعالى- خوفًا وازعًا عن الكذب.
ثم لا خلاف في أنه لا يشترط العصمة من جميع المعاصي، ولا
يكفي -أيضًا- اجتناب الكبائر، بل من الصغائر ما يرد به،
كسرقة بصلة، وتطفيف حبة قصدًا.
وبالجملة: كل ما يدل على ركاكة دينه، إلى حد يستجرئ على
الكذب بالأغراض الدنيوية". "المستصفى جـ2 ص231".
3 سورة الحجرات من الآية: 6.
4 يزعه: أي يكفه ويمنعه.
فصل: [في حكم
خبر مجهول الحال]
ولا يقبل خبر مجهول الحال في هذه الشروط، في إحدى
الروايتين1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عن الإمان أحمد -رضي الله عنه-.
ج / 1 ص -335-
وهو
مذهب الشافعي1.
والأخرى يقبل مجهول الحال في العدالة خاصة، دون بقية
الشروط. وهو مذهب أبي حنيفة2.
ووجهه: أربعة أدلة3:
أحدها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل شهادة الأعرابي
برؤية الهلال، ولم يعرف منه إلا الإسلام4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بل مذهب أكثر الشافعية والمالكية والحنابلة، وبعض
الحنفية.
انظر: "المستصفى جـ2 ص233 وما بعدها، المسودة ص253، كشف
الأسرار على أصول البزدوي جـ2 ص400".
2 اتفق العلماء على عدم قبول رواية مجهول الحال في:
الإسلام، والتكليف، والضبط. واختلفوا في قبول خبر مجهول
العدالة على مذهبين -كما قال المصنف-.
وتحرير الخلاف في هذه المسألة متفرع على: هل شرط قبول
الرواية العلم بعدالة الراوي، أو عدم العلم بالفسق؟
فإن قلنا: شرط القبول العلم بعدالته، لم تقبل رواية
المجهول، لأننا لم نعلم بتحققها فيه.
وإن قلنا: الشرط هو عدم العلم بالفسق، قبلت رواية المجهول؛
لعدم العلم بفسقه. انظر: "شرح مختصر الروضة جـ2 ص147".
وقد فرق السرخسي في أصوله "1/ 352" بين مجهول الحال في
القرون الثلاثة التي شهد لها الرسول -صلى الله عليه وسلم-
بالخيرية، وبين غيره من القرون الأخرى فقال: "المجهول من
القرون الثلاثة عدل بتعديل صاحب الشرع إياه، ما لم يتبين
منه ما ينزل عدالته، فيكون خبره حجة..." وهو تفصيل حسن.
3 أي أن صاحب المذهب الثاني، وهم القائلون بقبول رواية
المجهول استدلوا بأربعة أدلة كما سيأتي.
4 حديث قبول شهادة الأعرابي: أخرجه الترمذي: كتاب الصوم،
باب ما جاء في =
ج / 1 ص -336-
الثاني: أن الصحابة كانوا يقبلون رواية الأعراب، والعبيد،
والنساء؛ لأنهم لم يعرفوهم بفسق.
الثالث: أنه لو أسلم، ثم روى أو شهد: فإن قلتم: لا تقبل
فبعيد. وإن قلتم: تقبل فلا مستند لذلك إلا إسلامه، مع عدم
ظهور الفسق منه، فإذا مضى لذلك زمان، فلا يجوز أن يجعل ذلك
مستندًا لرد روايته.
الرابع: أنه لو أخبر بطهارة الماء، أو نجاسته، أو أنه على
طهارة: قبل ذلك حتى يصلح للائتمام به.
ولو أخبر بأن هذه الجارية المبيعة ملكه، أو أنها خالية عن
زوج، قبل قولهم حتى ينبني على ذلك حل الوطء.
ووجه الرواية الأولى1 خمسة أمور:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الصوم بالشهادة، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ولفظه:
"جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إني
رأيت الهلال. قال:
"أتشهد أن لا إله إلا الله؟ أتشهد أن محمدًا رسول الله؟" قال: نعم. قال:
"يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غدًا".
قال الترمذي: "حديث ابن عباس فيه اختلاف، وروى سفيان
الثوري وغيره عن سماك عن عكرمة عن النبي -صلى الله عليه
وسلم- مرسلًا، وأكثر أصحاب سماك رووا عن سماك عن عكرمة عن
النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلًا".
كما أخرجه أبو داود: كتاب الصيام، باب في شهادة الواحد على
رؤية هلال رمضان.
عن ابن عباس مسندًا، وعن عكرمة مرسلًا، بلفظ قريب من لفظ
الترمذي.
كذلك أخرجه النسائي: كتاب الصيام، باب في قبول شهادة الرجل
الواحد على هلال شهر رمضان بنحو ما أخرجه أبو داود، ومثله
ابن ماجه عن ابن عباس مسندًا.
1 وهي: أن رواية المجهول لا تقبل.
ج / 1 ص -337-
أحدها:
أن مستند قبول خبر الواحد الإجماع، والمجمع عليه: قبول
رواية العدل، ورد خبر الفاسق.
والمجهول الحال ليس بعدل، ولا هو في معنى العدل في حصول
الثقة بقوله.
الثاني: أن الفسق مانع كالصبا والكفر، فالشك فيه كالشك في
الصبا والكفر من غير فرق.
الثالث: أن شهادته لا تقبل، فكذلك روايته.
وإن منعوا في المال1: سلموا في العقوبات.
وطريق الثقة في الرواية والشهادة واحدة، وإن اختلفا في
بقية الشروط.
الرابع: أن المقلد إذا شك في بلوغ المفتي درجة الاجتهاد:
لم يجز تقليده، بل قد سلموا أنه لو شك في عدالته وفسقه: لم
يجز تقليده.
وأي فرق بين حكايته عن نفسه اجتهاده، وبين حكايته خبرًا عن
غيره؟
الخامس: أنه لا تقبل شهادة2 الفرع ما لم يعين شاهد الأصل
فَلِمَ يجب تعيينه إن كان قول المجهول مقبولًا؟
فإن قالوا: يجب تعيينه، لعل الحاكم يعرفه بفسق فيرد
شهادته3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معناه: إن قالوا: لا نسلم عدم قبول شهادته في المال، فقد
سلموا بعدم القبول في العقوبات.
2 في الأصل "رواية" وما نقلناه من المستصفى.
3 معنى هذا: أنه في حال الشهادة، لا تقبل الشهادة الثانية،
والتي =
ج / 1 ص -338-
قلنا:
إذا كانت العدالة هي: الإسلام من غير ظهور فسق، فقد عرف
ذلك، فلم يجب التتبع1؟
وأما قبول النبي -صلى الله عليه وسلم- قول الأعرابي، فإن
كونه أعرابيًّا لا يمنع كونه معلوم العدالة عنده إما بخبر
عنده، أو تزكيته ممن عرف حاله، وإما بوحي، فمن سلم لكم أنه
كان مجهولًا؟
وأما الصحابة: فإنما قبلوا قول أزواج النبي -صلى الله عليه
وسلم- وقول من عرفوا حاله ممن هو مشهود العدالة عندهم،
وحيث جهلوا ردُّوا.
جواب ثان:
أن الصحابة -رضي الله عنهم- لا تعتبر معرفة ذلك فيهم؛ لأنه
مجمع على عدالتهم بتزكية النص لهم، بخلاف غيرهم2.
وأما الحديث العهد بالإسلام: فلا يسلم قبول قوله؛ لأنه قد
يسلم الكاذب ويبقى على طبعه.
وإن سلمنا قبول روايته فذلك لطراوة إسلامه، وقرب عهده
بالإسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= تسمى فرعًا، على الشهادة حتي يعين الأصل الذي شهد على
شهادته، فلو كان قول المجهول مقبولًا لم يحتج للتعيين.
1 هذا مبني على الخلاف في العدالة والفسق: هل هما بحسب نفس
الأمر وباطنه فيما بين المكلف وبين ربه، أو بحسب ما يظهر
من أفعاله وحركاته الدالة -عادة- على باطنه، أو بحسب علمنا
بحاله: عدالة أو فسقًا.
فأهل العراق -من الحنفية- يقولون: العدالة عبارة عن إظهار
الإسلام، مع سلامته عن فسق ظاهر، فكل مسلم مجهول الحال
عندهم عدل.
أما الجمهور فيقولون: لا تعرف عدالته إلا بخبرة باطنة،
والبحث عن سيرته وسريرته. انظر: "المستصفى جـ2 ص233".
2 معناه: أن المجهول منهم عدل، بتزكية الشارع وتعديلهم
جميعًا.
ج / 1 ص -339-
وشتان
بين من هو في طراوة البداية وبين من نشأ عليه بطول الألفة.
فإن قيل: إذا كانت العدالة لأمر باطن، وأصله الخوف، ولا
يشاهد، بل يستدل عليه بما يغلب على الظن: فأصل ذلك الخوف:
الإيمان، فإنه يدل على الخوف دلالة ظاهرة، فلنكتف به؟
قلنا: المشاهدة والتجربة دلت على أن فسّاق المسلمين أكثر
من عدولهم فلا نشكك أنفسنا فيما عرفناه يقينًا.
ثم هلّا اكتفى به في شهادة العقوبات، وشهادة1 الأصل، وحال
المفتي، وسائر ما سلّموه.
وأما قول العاقد: فهو مقبول رخصة مع ظهور فسقه، لمسيس
الحاجة إلى المعاملات.
وأما الخبر عن نجاسة الماء وقلته، فلا نسلمه2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل "شاهد" وما نقلناه عن المستصفى.
2 معناه: أن إخباره بنجاسة الماء وطهارته، وسائر الأمثلة
التي ذكروها -غير مسلم، وإن سلّمنا بذلك، فلا تقاس عليه
الرواية، لأن نجاسة الماء وطهارته، أحكام جزئية، ولا تعظم
في قبولها منه، بخلاف الرواية، فإنها تثبت حكمًا شرعيًّا
عامًّا، تعظم المفسدة بتقدير الكذب فيه.
ففرق بين من يقول: أنا متطهر، فصلوا خلفي، فلو فرض كذبه
لترتب على ذلك فساد هذه الصلاة فقط، في واقع الأمر، مع
أنها صحيحة في ظاهر الحكم.
أما من روي: أن مس الذكر لا ينقض الوضوء، فعلى تقدير كذبه
يبطل صلاة كثير من الناس.
انظر في بيان ذلك: "شرح مختصر الروضة جـ2 ص155، 156".
ج / 1 ص -340-
فصل: [فيما لا يشترط في الراوي]
ولا يشترط في الرواية الذكورية؛ فإن الصحابة قبلوا قول
عائشة وغيرها من النساء.
ولا البصر1؛ فإن الصحابة كانوا يروون عن عائشة -رضي الله
عنها- اعتمادًا على صوتها، وهم كالضرير في حقها.
ولا يشترط كون الراوي فقيها2 لقوله -عليه الصلاة والسلام-:
"رب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه"3.
وكانت الصحابة تقبل خبر الأعرابي الذي لا يروي إلا حديثًا
واحدًا.
ولا يقدح في الرواية: العداوة والقرابة، لأن حكمها عام، لا
يختص بشخص فيؤثر فيه ذلك4
ولا يشترط معرفة نسب الراوي؛ فإن حديثه يقبل ولو لم يكن له
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فالضرير الضابط للصوت تقبل روايته، وإن لم تقبل شهادته.
2 خلافًا لمالك وأبي حنيفة وبعض العلماء، فإنهم يشترطون
فقه الراوي ولذلك قدح أهل العراق في رواية أبي هريرة -رضي
الله عنه- لأنه لم يكن مشهورًا بالفقه، ويرد عليهم بالحديث
الأتي.
3 لفظ الحديث: عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: سمعت
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "نضر الله امرأ سمع
منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو
أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه" رواه أحمد في مسنده "5/
183" وأبو داود في سننه حديث "3643" والترمذي حديث "2794"
وابن ماجه "230" والطبري في الكبير "4891"، "4924"،
"4925"والطحاوي في مشكل الآثار "2/ 232".
4 وهذا بخلاف الشهادة، فإن العداوة أو القرابة تمنع من
قبولها، كما هو معروف.
ج / 1 ص -341-
نسب،
فالجهل بالنسب أولى أن لا يقدح.
ولو ذكر اسم شخص متردد بين مجروح وعدل فلا يقبل حديثه
المتردد.
فصل: في التزكية والجرح1
اعلم أنه يسمع الجرح والتعديل من واحد في الرواية2؛ لأن
العدالة التي تثبت بها الرواية لا تزيد على نفس الرواية،
بخلاف الشهادة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الفصل في "المستصفى" بعنوان: الجرح والتعديل، ولم
يذكر التزكية.
والتزكية: هي التعديل. والجرح: ضد التزكية.
قال الطوفي: "وحقيقة الجرح -بفتح الجيم- هو القطع في الجسم
الحيواني بحديد أو ما قام مقامه، والجرح -بالضم- هو أثر
الجرح -بالفتح- وهو الموضع المقطوع من الجسم، ثم استعمله
المحدثون والفقهاء فيما يقابل التعديل مجازًا، لأنه في
الدين والعرض، كما أن الجرح الحقيقي تأثير في الجسم.
والجرح -كما ذكر-: هو أن ينسب إلى الشخص ما يرد قوله
لأجله، من فعل معصية كبيرة أو صغيرة، أو ارتكاب دنيئة.
وبالجملة: ينسب إليه ما يخل بالعدالة التي هي شرط قبول
الرواية...".
ثم قال: "والتعديل خلافه، أي خلاف الجرح، فيكون إذن: نسبة
ما يقبل لأجله قول الشخص، أي: أن ينسب إليه من الخير،
والعفة والصيانة، والمروءة، والتدين، بفعل الواجبات، وترك
المحرمات، ما يسوغ، قبول قوله شرعًا، لدلالة هذه الأحوال
على تحري الصدق، ومجانية الكذب" شرح المختصر "2/ 162-163".
2 هذا هو مذهب الجمهور. قال الغزالي: ".... فشرط بعض
المحدثين العدد في المزكي والجارح، كما في مزكي الشهادة.
وقال القاضي: لا يشترط العدد في تزكية الشاهد، ولا في
تزكية الراوي، وإن =
ج / 1 ص -342-
وكذلك
تقبل تزكية العبد والمرأة، كما تقبل روايتها.
واختلفت الرواية1 في قبول الجرح إذا لم يتبين سببه:
فروي: أنه يقبل؛ لأن أسباب الجرح معلومة، فالظاهر أنه لا
يجرح إلا بما يعلمه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= كان الأحوط في الشهادة الاستظهار بعدد المزكي.
وقال قوم: يشترط في الشهادة دون الرواية. وهذه مسألة
فقهية، والأظهر -عندنا- أنه يشترط في الشهادة دون الرواية،
وهذا لأن العدد الذي تثبت به الرواية لا يزيد على نفس
الرواية". "المستصفى جـ2 ص250-251".
1 عن الإمام أحمد. قال الطوفي: "مذهب الإمام أحمد -رحمه
الله تعالى- أن التعديل لا يشترط بيان سببه، استصحابًا
لحال العدالة، وهو قول الشافعي. بخلاف سبب الجرح، فإنه
يشترط بيانه في أحد القولين عن أحمد، وهو قول الشافعي؛
وذلك لاختلاف الناس في سبب الجرح، واعتقاد بعضهم ما لا
يصلح أن يكون سببًا للجرح جارحًا، كشرب النبيذ متأولًا،
فإنه يقدح في العدالة عند مالك، دون غيره، كمن يرى إنسانًا
يبول قائمًا، فيبادر لجرحه بذلك، ولم ينظر أنه متأول، مخطئ
أو معذور، كما حكى عند النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه بال
قائمًا؛ لعذر كان به. فينبغي بيان سبب الجرح؛ ليكون على
ثقة واحتراز من الخطأ، والغلو فيه".
ثم قال: "والقول الثاني عن أحمد: لا يشترط بيان سبب الجرح
-أيضًا- اكتفاءً بظهور أسبابه، فإنها ظاهرة مشهورة بين
الناس، والظاهر من الجارح أنه إنما يجرح بما يعلمه صالحًا
للجرح. والقول الأول أولى.
ومذهب أبي بكر في عدم اشتراط بيان السبب فيهما حسن جيد،
فينبغي للحاكم أو المحدث، أن لا يقبل إلا قول الجازم،
المتوسط بين المفرّط والمفْرط، فمن غلا في الجزم بما يصلح
وما لا يصلح، لا يقبل قوله، ومن أحسن ظنه بالناس، واطرح
الجزم، حتى عدل من يصلح ومن لا يصلح، لا يقبل قوله، لأن
الأول إفراط، والثاني تفريط، وكلاهما مذموم، والصواب
التوسط". "شرح المختصر جـ2 ص164، 165".
ج / 1 ص -343-
وروي:
أنه لا يقبل؛ لاختلاف الناس فيما يحصل به الجرح، من فسق
الاعتقاد، والتدليس وغيره، فيجب بيانه ليعلم.
وقيل: هذا يختلف باختلاف المزكِّي، فمن حصلت الثقة ببصيرته
وضبطه يكتفى بإطلاقه.
ومن عرفت عدالته دون بصيرته فنستفصله.
أما إذا تعارض الجرح
والتعديل: قدمنا الجرح؛ فإنه اطلاع على زيادة خفيت على
المعدل1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة ذلك: أنه إن كان عدد المجرحين أكثر من عدد
المعدلين قدم الجرح بلا خلاف، فإن تساوي عدد المجرحين
والمعدلين أو كان المعدلون أكثر، فالصحيح تقديم المجرحين؛
لأن مستند المعدل في تعديله: استحصاب حال العدالة الأصلية،
وعدم الاطلاع على ما ينافيها. ومستند الجارح: الاطلاع على
ما يقدح في العدالة، فقدم قوله، كراوي الزيادة في الحديث؛
لأنه سمع ما لم يسمعه غيره.
والقول الثاني: أنه إذا زاد عدد المعدلين على عدد المجرحين
قدم قول المعدلين؛ لأن الكثرة تقوي الظن، والمعدل بأقوى
الظنين واجب، كما في تعارض الحديثن والأمارتين وغيرهما من
المتعارضات.
قال المصنف: وهو ضعيف، فإن سبب التقديم زيادة العلم، فلا
ينتفي ذلك بكثرة العدد.
قال الطوفي: "هذا إنما هو فيما إذا أمكن اطلاع الجارح على
زيادة، أما إذا استحال ذلك، مثل أن قال الجارح: رأيت هذا
قد قتل زيدًا في وقت كذا، وقال المعدل: رأيت زيداحيًّا بعد
ذلك الوقت، فههنا يتعارضان، فيتساقطان، ويبقى أصل العدالة
ثابتًا.
قلت: ويحتمل هاهنا أن يقدم قول المعدل، لأن السبب الذي
استند إليه =
ج / 1 ص -344-
فإن
زاد عدد المعدل على الجارح فقد قيل: يقدم التعديل، وهو
ضعيف، لأن سبب التقديم زيادة العلم، فلا ينتفي ذلك بكثرة
العدد.
فصل: في التعديل
وذلك: إما بقول، وإما بالرواية عنه، بخبر، أو بالحكم به.
وأعلاها: صريح القول، وتمامه: هو عدل، رضي، ويبين السبب1
الثاني: أن يروى عنه.
وهل ذلك تعديل له؟ على روايتين2:
والصحيح: أنه إن عرف من عادته، أو بصريح3 قوله: أنه لا
يستجيز الرواية إلا عن العدل، كانت الرواية تعديلًا له.
وإلا فلا؛ إذ من عادة أكثرهم الرواية عمن لو كلفوا الثناء
عليه لسكتوا، فليس فيه تصريح بالتعديل.
فإن قيل: لو روى عن فاسق كان غاشًّا في الدين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الجارح قد تبين بطلانه، فتبين به أن الجرح كأنه لم يكن،
فيبقى التعديل مستقلًّا". "شرح المختصر جـ2 ص166".
2 أي: سبب التعديل: وإلا لم يقبل.
2 عن الإمام أحمد.
3 في الأصل "تصريح" وما نقلناه من المستصفى.
ج / 1 ص -345-
قلنا:
لم يوجب على غيره العمل به، بل قال: سمعت فلانًا قال كذا،
وقد صدق فيه.
ثم لعله لم يعرفه بفسق ولا عدالة، فروى عنه ووكل البحث إلى
من أراد القبول.
الثالث: العمل بالخبر، إن أمكن حمله على الاحتياط، أو
العمل بدليل آخر وافق الخبر، فليس بتعديل.
وإن عرفنا يقينًا أنه عمل بالخبر فهو تعديل؛ إذ لو عمل
بخبر غير العدل فَسَقَ.
ويكون حكم ذلك حكم التعديل بالقول من غير ذكر السبب.
الرابع: أن يحكم بشهادته، وذلك أقوى من تزكيته بالقول.
أما تركه الحكم بشهادته فليس بجرح؛ إذ قد يتوقف في شهادته
لأسباب سوى الجرح.
فصل: [في عدالة
الصحابة]
والذي عليه سلف الأمة وجمهور الخلف: أن الصحابة -رضي الله
عنهم- معلومة عدالتهم بتعديل الله وثنائه عليهم.
قال الله -تعالى-:
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ}1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة التوبة الآية: 100 وتمام الآية:
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا
ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
ج / 1 ص -346-
قال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ}1 وقال:
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ
عَلَى الْكُفَّار}2.
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-
"خير الناس قرني...."3، وقال:
"إن الله اختارني، واختار لي أصحابًا وأصهارًا وأنصارًا"4.
فأي تعديل أصح من تعديل علام الغيوب، وتعديل رسوله -صلى
الله عليه وسلم-؟
ولو لم يرد لكان فيما اشتهر وتواتر من حالتهم في طاعة الله
-تعالى- وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وبذل المهج5 ما
يكفي في القطع بعدالتهم.
وهذا يتناول من يقع عليه اسم الصحابي، ويحصل ذلك بصحبته
ساعة ورؤيته مع الإيمان به6.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الفتح من الآية: 18.
2 سورة الفتح من الآية: 29.
3 حديث صحيح رواه عمران بن حصين قال: سمعت رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- يقول:
"خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم..." أخرجه البخاري في أول كتاب فضائل الصحابة، ومسلم: كتاب فضائل
الصحابة، باب فضل الصحابة، ثم الذين يلونهم، ثم الذين
يلونهم. حديث رقم "2535" وأبو داود: كتاب السنة، باب في
فضل أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، حديث "4657"
والترمذي: كتاب الفتن، باب ما جاء في القرن الثالث.
والنسائي: كتاب الأيمان والنذور، باب الوفاء بالنذر، وأحمد
في المسند "4/ 426، 436، 440".
4 أخرجه الحاكم في المستدرك "3/ 443" وقال: صحيح الإسناد
ولم يخرجاه، والخطيب في تاريخه "13/ 140" والطبراني في
الكبير "17/ 140" بلفظ: "إن الله اختارني، واختار لي
أصحابًا، فجعل لي بينهم وزراء وأنصارًا، فمن سبهم فعليه
لعنة الله والملائكة والناسب أجمعين، لا يقبل منه يوم
القيامة صرف ولا عدل" قال الهيثمي في مجمع الزوائد "10/
17": "فيه من لم أعرفه".
5 المهج: جمع مهجة، وهي الدم، أو الروح والنفس.
6 هذا تعريف للصحابي الذي تقدمت الأدلة على أنهم جميعًا
عدول، وأن مجهول =
ج / 1 ص -347-
ويحصل
لنا العلم بذلك بخبره عن نفسه، أو عن غيره: أنه صحب النبي
-صلى الله عليه وسلم-.
فإن قيل: إن قوله: [أنا صحابي] شهادة لنفسه، فكيف يقبل؟
قلنا: إنما هو خبر عن نفسه بما يترتب عليه حكم شرعي يوجب
العمل، لا يلحق غيره مضرة، ولا يوجب تهمة، فهو كرواية
الصحابي عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الحال منهم تقبل روايته. هذا هو مقصود المصنف.
والذي ذكره في تعريف الصحابي هو رأي من الآراء التي قيلت
في هذا المقام. وقد أجمل الغزالي هذه الآراء في المستصفى
جـ2 ص261 فقال: "فإن قيل: القرآن أثنى عل الصحابة، فمن
الصحابي؟ أمن عاصر رسول الله -صلي الله عليه وسلم-؟
أو من لقيه مرة؟
أو من صحبه ساعة؟
أو من طالت صحبته؟ وما حد طولها؟
قلنا: الاسم لا يطلق إلا على من صحبه، ثم يكفي للاسم -من
حيث الوضع- الصحبة ولو ساعة. ولكن العرف يخصص الاسم بمن
كثرت صحبته" وهناك آراء آخرى كثيرة، وبيان المدة التي يجب
أن يصحب النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها تراجع في
المطولات.
1 قال الطوافي: "بل يوجب تهمة، وهو تحصيل منصب الصحبة
لنفسه، ويضر بالمسلمين، حيث يلزمهم قبول ما يرويه مع هذه
التهمة" شرح المختصر "2/ 187" وقال ابن بدران: "والحق أنه
لا بد من تقييد من قال بقبول خبره أنه صحابي: أن تقوم
القرائن الدالة على صدق دعواه، وإلا لزم خبر كثير من
الكذابين الذين ادعوا الصحبة".
ج / 1 ص -348-
فصل: [في حكم خبر المحدود في القذف]
المحدود في القذف: إن كان بلفظ الشهادة: فلا يرد خبره؛ لأن
نقصان العدد ليس من فعله1.
ولهذا روى الناس عن أبي بكرة2، واتفقوا على ذلك، وهو محدود
في القذف.
وإن كان بغير لفظ الشهادة: فلا تقبل روايته حتى يتوب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة هذا الفصل: أن المحدود في القذف نوعان:
أحدهما: أن يكون قذف غيره بلفظ الشهادة، مثل أن يشهد على
إنسان بالزنا ولا تكتمل الشهادة فيحد لذلك، وهذا تقبل
روايته، لأنه إنما يحد لعدم كمال نصاب الشهادة بالزنا وهو
أربعة، وعدم كمال نصاب الشهادة ليس من فعله، فلا ترد
شهادته.
ثانيهما: القذف بغير لفظ الشهادة، بأن يقول لآخر: يا زاني،
يا عاهر، ونحو ذلك، فهذا ترد شهادته حتى يتوب، لأن هذا
الحد إنما كان بسبب فعله، فسلب منه منصب الشهادة حتى يتوب،
لقوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ
جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا
وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ
تَابُوا}
[النور: 4، 5] فإذا تاب قبلت روايته.
2 هو: نفيع بن الحارث الثقفي، ويقال: نفيع بن مسروح،
المكنى بأبي بكرة، لأنه تدلى إلى النبي -صلى الله عليه
وسلم- من حصن الطائف وقت حصار النبي -صلى الله عليه وسلم-
له بعد "حنين" ببكرة، فاشتهر بها. كان من فضلاء الصحابة
الذين سكنوا البصرة، واعتزال الفتنة بعد مقتل عثمان -رضي
الله عنه- وكان عمر -رضي الله عنه- قد جلده حين شهد على
المغيرة بن شعبة بالزنا ولم تكتمل الشهادة. توفي سنة 51هـ.
انظر في ترجمته: "الإصابة 6/ 467".
ج / 1 ص -349-
فصل: في كيفية الرواية
وهي على أربع مراتب:
أعلاها: قراءة الشيخ عليه في معرض الإخبار ليروي عنه.
وذلك يسلّط الراوي أن يقول: حدثني، وأخبرني، وقال فلان،
وسمعته يقول.
الثانية: أن يقرأ على الشيخ فيقول: نعم، أو يسكت، فتجوز
الرواية به، خلافًا لبعض أهل الظاهر.
ولنا: أنه لو لم يكن صحيحًا لم يسكت.
نعم لو كان ثَمَّ مخيلة2 إكراه، أو غفلة لا يكتفى بسكوته.
وهذا يسلط الراوي على أن يقول: أنبأنا أو حدثنا فلان قراءة
عليه.
وهل يجوز أن يقول: أخبرنا، أوحدثنا؟ على روايتين3:
إحداهما: لا يجوز، كما لا يجوز أن يقول: سمعت من فلان.
والأخرى: يجوز. وهو قول أكثر الفقهاء4.
لأنه إذا أقر به كقوله: نعم. والجواب بنعم كالخبر، بدليل
ثبوت أحكام الإقرار به.
ولذلك يقول: أشهدني على نفسه5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه الكيفية لغير الصحابي، أما الصحابي: فقد تقدم حكمها.
2 مخيلة: مصدر خال الشيء يخاله: أي يظنه.
3 أي: عن الإمام أحمد.
4 ومنهم: أبو حنيفة ومالك وأكثر العلماء.
5 هذا تقوية للرواية الثانية: ومعناه: أن من قيل له:
أََلِفلان عليك عشرة دراهم =
ج / 1 ص -350-
وكذلك
إذا قال الشيخ: أخبرنا، أو حدثنا، هل يجوز للراوي عنه
إبدال إحدى اللفظتين بالأخرى؟
على روايتين:
وهل يجوز أن يقول سمعت فلانًا؟
فقد قيل: لا يجوز؛ لأنه يشعر بالنطق، وذلك كذب، إلا إذا
علم بصريح قوله أو بقرينة أنه يريد القراءة على الشيخ.
الثالثة: الإجازة:
وهي أن يقول: أجزت لك ان تروي عني الكتاب الفلاني، أو ما
صح عندك من مسموعاتي1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فقال: نعم، كان للشاهد عليه أن يقول: أشهدني على نفسه
بعشرة دراهم، مع أنه لا مستند له إلا قوله نعم، فكذا في
الرواية، بل أولى.
1 العلماء يقسمون الإجازة إلى أربعة أقسام:
الأول: الإجازة لمعين في غير معين، كقوله: أجزت لك أو لكم
أن تروي أو ترووا عني الكتاب الفلاني.
الثاني: الإجازة لمعين في غير معين، كقوله: أجزت لك أن
تروي عني جميع مروياتي.
الثالث: الإجازة لغير معين في معين، كأن يقول: أجزت
للمسلمين أن يرووا عني الكتاب الفلاني.
الرابع: الإجازة لغير معين من غير معين، كأن يقول: أجزت
للمسلمين أن يرووا عني جميع مروياتي.
وجمهور العلماء على جواز الرواية والعمل بالإجازة، حتى حكي
الإجماع على ذلك.
ومنع الرواية بالإجازة والمناولة جماعة من العلماء منهم:
القاضي حسين والماوردي، وهي إحدى الروايتين عن الشافعي،
وحكاه الآمدي عن أبي حنيفة =
ج / 1 ص -351-
الرابعة: المناولة:
وهي أن يقول: خذ هذا الكتاب فاروه عني.
فهو كالإجازة؛ لأن مجرد المناولة دون اللفظ لا يغني،
واللفظ وحده يكفي، وكلاهما تجوزالرواية به، فيقول حدثني،
أو أخبرني إجازة.
فإن لم يقل: "إجازة" لم يجز.
وجوَّزه قوم. وهو فاسد؛ لأنه يشعر بسماعه منه، وهو كذب.
وحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف1: أنه لا يجوز الرواية
بالمناولة والإجازة، وليس بصحيح؛ لأن المقصود: معرفة صحة
الخبر، لا عين الطريق2.
وقوله: "هذا الكتاب مسموعي، فاروه عني" -في التعريف-
كقراءته والقراءة عليه.
وأما إن قال: "سماعي" ولم يقل: "اروه عني" فلا تجوز
الرواية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأبي يوسف، ونقله القاضي عبد الوهاب عن مالك. وقال ابن
حزم: إنها بدعة. انظر: الإحكام "2/ 100"، كشف الأسرار "3/
45" المسودة ص287.
1 هو: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب، صاحب أبي حنيفة، والذي
ساعد على نشر مذهبه، من أهم مؤلفاته: "الخراج" توفي سنة
182هـ. "الفوائد البهية ص225".
2 طريق الحديث: هو قول الراوي: حدثنا فلان عن فلان إلى
السند، وهو وسيلة إلى معرفة صحة الحديث، فمعرفة صحة الحديث
هي المقصودة.
والقاعدة: أن المقاصد إذا حصلت بدون الوسائل، سقطت
الوسائل، لأنها ليست مقصودة لنفسها، ومعرفة صحة الخبر،
حصلت بالإجازة أو المناولة؛ لأن المخبر عدل جازم بالإذن في
الرواية، والظاهر أنه ما أذن إلا فيما هو عالم بصحته
وروايته له. انظر: "شرح مختصر الروضة جـ2 ص209".
ج / 1 ص -352-
عنه؛
لأنه لم يأذن، فلعله لا يجوّز الرواية، لخلل يعرفه.
وكذا لو قال: "عندي شهادة" لا يشهد بها ما لم يقل "أذنت لك
أن تشهد على شهادتي".
فالرواية شهادة، والإنسان قد يتساهل في الكلام، لكن عند
الجزم بها1 يتوقف2.
وكذلك لو وجد شيئًا مكتوبًا بخطه: لا يرويه عنه.
لكن يجوز أن يقول: "وجدت بخط فلان".
أما إذا قال العدل: "هذه نسخة من صحيح البخاري"3 فليس له
أن يروي عنه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي بالشهادة.
2 قوله: "والإنسان قد يتساهل إلخ" جواب عن سؤال مقدر، وهو
أن يقال: لو علم أن في روايته خللًا، لما قال له: خذ هذا
الكتاب، أو هو سماعي؛ لأنه تغرير للسامع بالرواية عنه،
فيكون غشًّا في الدين.
والجواب: أن الإنسان قد يتساهل في الكلام، وعند العمل
والجزم والتحقيق يتوقف، وحينئذ لا يمتنع أن يقول له: خذ
هذا الكتاب ليستفيد به نظرًا، أو هو سماع، ترغيبًا له في
الرواية عنه لغيره، أو لذلك الكتاب بعينه، بشرط أن يتحقق
حال روايته له فيما بعد. "شرح مختصر الروضة جـ2 ص211".
3 البخاري: هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري،
أبو عبد الله الإمام الحافظ، أمير المؤمنين في الحديث،
وصاحب أصح كتاب بعد القرآن الكريم، جمع فيه سبعة آلاف
ومائتين وخمسة وسبعين حديثًا، وقيل غير ذلك.
ولد ببخارى سنة 194هـ وتوفي سنة 256هـ بقرية تسمى "خرتنك"
على بعد ثلاثة فراسخ من سمرقند.
انظر في ترجمته: "تذكرة الحفاظ 2/ 122، تهذيب التهذيب 9/
47".
ج / 1 ص -353-
وهل
يلزم العمل به؟
فقيل: إن كان مقلدًا: فليس له العمل به؛ لأن فرضه تقليد
المجتهد1.
وإن كان مجتهدًا: لزمه2؛ لأن أصحاب رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- كانوا يحملون صحف الصدقات إلى البلاد، وكان
الناس يعتمدون عليها بشهادة حاملها بصحتها، دون أن يسمعها
كل واحد منه، فإن ذلك يفيد سكون النفس وغلبة الظن.
وقيل: لا يجوز العمل بما لم يسمعه3. والله أعلم.
فصل: إذا وجد سماعه بخط يوثق به، جاز له
أن يرويه وإن لم يذكر سماعه، إذا غلب على ظنه أنه سمعه.
وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز، قياسًا على الشهادة.
ولنا: ما ذكرنا من اعتماد الصحابة على كتب النبي -صلى الله
عليه وسلم-.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لقصوره عن معرفة الحكم مع تعارض الأدلة.
2 أي: لزمه العمل به، لأن المحذور، في العمل بالحديث، إما
من جهة ضعفه، أو من جهة الخطأ في دلالته، وكلاهما منتف
ههنا.
أما الضعف: فقد انتفى بقول العدل العارف: هذه نسخة صحيحة.
وأما الخطأ في الدلالة فمنتف لأن المجتهد عارف بتنزيل
الأدلة منازلها، وكيفية التصرف فيها، ولأن الصحابة كانوا
يحملون صحف الصدقات وغيرها إلى البلاد، كما، قال المصنف.
انظر: "شرح مختصر الروضة جـ2 ص212".
3 لعدم سماعه له.
ج / 1 ص -354-
ولأن
مبنى الرواية على حسن الظن وغلبته، بناء على دليل، وقد وجد
ذلك.
والشهادة لا نسلمها على إحدى الروايتين.
وعلى الأخرى: الشهادة آكد؛ لما علم بينهما من الفروق.
والله أعلم1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة هذا الفصل: أنه إذا وجد سماعه بخط يغلب على الظن
به أنه سمعه، مع أنه ناس للسماع، فهل له أن يرويه اعتمادًا
على الخط، وهو ما اختاره المؤلف، وعزاه للشافعي، وعلل ذلك:
بأن مبنى الرواية على حسن الظن وغلبته بناء على دليل، وقد
وجد ذلك في هذه المسألة؛ لأن الثقة بالخط المذكور يغلب على
الظن بها صحة السماع المذكور، وهذه هي الرواية الأولى عن
الإمام أحمد.
والرواية الثانية: لا يجوز له أن يروي ذلك اعتمادًا على
الخط بسبب نسيانه للسماع، وهو مروي عن أبي حنيفة قياسًا
للرواية على الشهادة.
واعترض المصنف على قياس الرواية على الشهادة من جهتين:
الأولى: أن الشهادة تصح اعتمادًا على الخط الموثوق به، وإن
لم يتذكرها على إحدى الروايتين عن الإمام أحمد.
الثانية: أن الشهادة أضيق من الرواية، فهي آكد من الرواية،
وأغلظ، فإذا وجد خطه ولم يذكر، لم يشهد به.
انظر: مذكرة أصول الفقه للشيخ الشنقيطي ص131، التمهيد لأبي
الخطاب "3/ 974".
فصل: [في حكم
الشك في السماع]
إذا شك في سماع حديث من شيخه: لم يجز أن يرويه عنه؛ لأن
روايته عنه شهادة عليه، فلا يشهد بما لم يعلم.
ج / 1 ص -355-
وإن شك
في حديث من سماعه والتبس عليه: لم يجز أن يروي شيئًا منها
مع الشك؛ لما ذكرنا.
فإن غلب على ظنه في حديث أنه مسموع:
فقال قوم: يجوز؛ اعتمادًا على غلبة الظن.
وقيل: لا يجوز؛ لأنه يمكن اعتبار العلم بما يرويه، فلا
يجوز أن يرويه مع الشك فيه كالشهادة1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة هذه المسألة في النقاط التالية:
1- إذا شك في سماع حديث من شيخه لا يجوز له أن يرويه عنه
مع الشك.
2- إذا شك في حديث من سماعه، ثم التبس عليه ذلك الحديث
المشكوك فيه فلم يميزه عن غيره، لم يجز له أن يروي عنه
شيئًا مع ذلك الشك، لأن كل حديث رواه عنه محتمل أن يكون هو
ذلك الحديث الذي شك في سماعه.
3- إذا غلب على ظنه أنه سمع منه حديثًا، ولم يجزم بذلك،
فهل تكفي غلبة الظن فتجوز الرواية، أو لا تكفي فلا يجوز؟
حكى المصنف في ذلك روايتين ولم يرجح واحدة منهما، وقد رجح
الغزالي الرأي الأول، وقال عن الرأي الثاني إنه بعيد؛ لأن
الاعتماد في الشهادة على غلبة الظن، بالنسبة للحاكم؛ لأنه
لا يعلم صدق الشاهد.
أما الشاهد: فينبغي أن يتحقق؛ لأن تكليفه أن لا يشهد إلا
على المعلوم -فيما تمكن فيه المشاهد- ممكن، وتكليف الحاكم
أن لا يحكم إلا بصدق الشاهد محال.
انظر: "المستصفى جـ2 ص270".
فصل: [في حكم
إنكار الشيخ للحديث]
إذا أنكر الشيخ الحديث وقال: "لست أذكره" لم يقدح ذلك في
ج / 1 ص -356-
الخبر
في قول إمامنا1، ومالك، والشافعي، وأكثر المتكلمين2.
ومنع منه الكرخي؛ قياسًا على الشهادة.
وليس بصحيح، لأن الراوي عدل جازم بالرواية، فلا نكذبه، مع
إمكان تصديقه، والشيخ لا يكذبه، بل قال "لست أذكره" فيمكن
الجمع بين قوليهما:
بأن يكون نسيه، فإن النسيان غالب على الإنسان، وأي محدث
يحفظ جميع حديثه، فيجب العمل به، جمعًا بين قوليهما.
والشهادة تفارق الرواية في أمور كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-.
2 هكذا أطلق المصنف الكلام في هذه المسألة، ولم يذكر ما
إذا كان الشيخ جازمًا بعد الرواية، أو أنه لا يذكره، وهو
ما وضحه الغزال بقوله: "إذا أنكر الشيخ الحديث إنكار جاحد
قاطع مكذب للراوي لم يعمل به، ولم يصر الراوي مجروحًا. ثم
قال: أما إذا أنكر إنكار متوقف، وقال: لست أذكره، فيعمل
بالخبر؛ لأن الراوي جازم أنه سمعه منه، وهو ليس بقاطع
بتكذيبه، وهما عدلان، فنصدقهما إذا أمكن.
وذهب الكرخي: إلى أن نسيان الشيخ الحديث يبطل الحديث".
"المستصفى جـ2 ص272".
وما قاله الكرخي، هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف
وأكثر الحنفية.
انظر: أصول السرخسي "2/ 3".
3 هو: عبيد الله بن الحسن بن دلال، من أئمة الحنفية
المجتهدين، كان تقيًّا ورعًا، ألّف العديد من الكتب في فقه
الإمام أبي حنيفة مثل: "شرح الجامع الصغير والكبير" توفي
سنة 340هـ. انظر: "تاج التراجم ص39".
ج / 1 ص -357-
منها:
أن لا تسمع شهادة الفرع -مع القدرة- على الأصل. والرواية
بخلافه1.
فإن الصحابة -رضي الله عنهم- كان بعضهم يروي عن بعض، مع
القدرة على مراجعة النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ولهذا كان يلزمهم قبول قول رسله وسعاته من غير مراجعة.
وأهل قباء تحولوا إلى القبلة بقول واحد من غير مراجعة2.
وأبو طلحة وأصحابه قبلوا خبر الواحد في تحريم الخمر من غير
مراجعة3. والله أعلم.
وقد روى ربيعة بن عبدالرحمن4 عن سهل5 عن أبيه6 عن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قول المصنف "والشهادة تفارق الرواية إلخ" جواب عن قول
الكرخي: لو جاز العمل برواية الفرع مع نسيان الأصل، لجاز
العمل بشهادة الفرع مع نسيان الأصل، والتالي باطل
بالاتفاق. فأجاب المصنف: بأن هناك فروقًًا كثيرة بين
الشهادة والرواية: منها ما ذكره المصنف. ومنها: أن الشهادة
آكد من الرواية وأضيق، فيغتفر في الرواية ما لا يغتفر في
الشهادة.
2 تقدم تخريجه.
3 تقدم تخريجه أيضًا.
4 هو: ربيعة بن أبي عبد الرحمن، واسم أبيه فروخ المدني،
مولى آل المنكدر، المعروف بربيعة الرأي، أحد التابعين، ثقة
مشهور، وكان أحد شيوخ الإمام مالك. توفي سنة 136هـ.
انظر: "تاريخ بغداد 8/ 420، تذكرة الحفاظ 1/ 157".
5 هو: سهيل بن أبي صالح، ذكوان السمان، أبو يزيد المدني،
اختلف في توثيقه وضعفه، روى عن أبيه وسعيد بن المسيب، توفي
في خلافة المنصور. "ميزان الاعتدال 2/ 243".
6 هو: ذكوان أبو صالح السمان المدني، ثقة، روى عن أبي
هريرة وأبي الدرداء =
ج / 1 ص -358-
أبي
هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قضى باليمين مع
الشاهد1، ثم نسيه سهيل، فكان بعده يقول: "حدثني ربيعة عني
أني حدثته" فلا ينكره أحد من التابعين2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وعائشة وغيرهم. توفي سنة 101هـ. "تذكرة الحفاظ 1/ 89".
1 تقدم تخريجه في مبحث الزيادة على النص، هل هي نسخ أو لا؟
قال أبو داود: أحد رواة الحديث -عقب روايته للحديث-:
"وزادني الربيع بن سليمان المؤذن هذا الحديث، قال: أخبرني
الشافعي، عن عبد العزيز، قال: فذكرت ذلك لسهيل، فقال:
أخبرني ربيعة -وهو عندي ثقة- أني حدثته إياه، ولا أحفظه،
قال عبد العزيز: وقد كانت أصابت سهيلًا علة أذهبت بعض
عقله، ونسي بعض حديثه، فكان سهيل بعد يحدثه عن ربيعة، عنه،
عن أبيه" يراجع: العلل لابن أبي حاتم جـ1 ص463، 469.
2 فكان ذلك إجماعًا على قبوله.
قال الطوفي: "فإن قيل: لعل سهيلًا تذكر الحديث برواية
ربيعة عنه، ومراجعته له في ذلك، فتخرج قصته عن الاحتجاج
بها في محل النزاع.
قلنا: لو كان كذلك، لما رواه بعد ذلك عن ربيعة عنه، بل كان
يرويه كما لو لم ينس، عن أبيه، عن أبي هريرة، والنسيان
متسلط على الإنسان فيحمل الحال عليه". "شرح المختصر جـ2
ص217".
فصل: [في حكم
انفراد الثقة بزيادة في الحديث]
انفراد الثقة في الحديث بزيادة مقبول، سواء كانت لفظًا أو
معنى1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي سواء أكانت هذه الزيادة في اللفظ فقط ولا تغير
المعنى، أم كانت زيادة في اللفظ والمعنى.
ومن أمثلة الأول: لفظ "ربنا لك الحمد"، "ربنا ولك الحمد"
في الرفع من =
ج / 1 ص -359-
لأنه
لو انفرد بحديث لقبل1، فكذلك إذا انفرد بزيادة.
وغير ممتنع أن ينفرد بحفظ الزيادة؛ إذ إن المحتمل أن يكون
النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر ذلك في مجلسين، وذكر
الزيادة في أحدهما، ولم يحضرها الناقص.
ويحتمل أن راوي الناقص دخل أثناء المجلس، أو عرض له -في
أثنائه- ما يزعجه2 أو ما يدهشه عن الإصغاء3، أو ما يوجب له
القيام قبل التمام، أو سمع الكل ونسي الزيادة.
والراوي للتمام عدل جازم بالرواية، فلا نكذبه مع إمكان
تصديقه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الركوع للمؤتم، فإن الواو زيادة في اللفظ ولا تغير
المعنى، وكلاهما وارد ومن أمثلة الزيادة التي تغير المعنى:
قوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الذي رواه أحمد "1/
466" وأبو داود "3511" و"3512" والنسائي "7/ 303" وابن
ماجه "2186" وغيرهم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-
أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة، تحالفا وترادًا" فإن جملة "والسلعة قائمة" وردت في بعض الروايات، وهي زيادة في
اللفظ تفيد معنى زائدًا.
1 معناه: أن الرواي الثقة إذا روى حديثًا كاملًا قبل منه
ذلك، فمن باب أولى إذا روى زيادة في حديث.
2 مثل ما روي عن عمران بن حصين قال: دخلت على النبي -صلى
الله عليه وسلم- وعقلت ناقتي بالباب، فأتى ناس من أهل
اليمن فقالوا: يا رسول الله، جئنا لنتفقه في الدين،
ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ قال:
"كان الله ولم يكن معه شيء، وكان عرشه على الماء، ثم خلق
السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء" قال عمران:
ثم أتاني رجل فقال: يا عمران، أدرك ناقتك فقد ذهبت،
فانطلقت أطلبها، فإذا السراب يتقطع دونها، وأيم الله لوددت
أنها ذهبت ولم أقم".
3 أي يشغله ويجعله ينصرف عن الاستماع.
ج / 1 ص -360-
فإن
علم أن السماع كان في مجلس واحد:
فقال أبو الخطاب: يقدم قول الأكثرين، وذوي الضبط، فإن
تساووا في الحفظ والضبط، قدّم قول المثبت1.
وقال القاضي: إذا تساووا فعلى روايتين2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: "التمهيد جـ3 ص153، 154".
2 أي عن الإمام أحمد، إحداهما: الأخذ بالزيادة، كما يقول
الجمهور، لما تقدم في الأدلة التي أوردها المصنف،
والثانية: لا تقبل الزيادة.
وقد أورد القاضي أبو يعلى أدلة في كتابه "العدة جـ3 ص1007
وما بعدها" ومما أورده للقائلين برفض الزيادة قال: "واحتج
المخالف: بأنه إذا نقله الكل وانفرد واحد بالزيادة، كان ما
تفرد به سهوًا، لأنهم ما حفظوه حين قاله النبي -صلى الله
عليه وسلم- مرارًا سمعوه كلهم، فلو كان ما تفرد به صحيحًا
لقال الزيادة، كما قال المزيد عليه، ولو قال سمعوه كما
سمع، ونقلوه كما نقل.
ثم رد عليه بالاحتمالات التي ذكرها ابن قدامة، وقال: واحتج
-أي المخالف أيضًا- بأن الأصل متحقق، والزيادة مشكوك فيها،
فلا تترك الحقيقة بالمشكوك فيه.
والجواب: أنا لا نسلم أنها مشكوك فيها، لأن غالب الظن فيه
التصديق فيما تفرد به، للاحتمال الذي ذكرنا".
فصل: [في حكم
رواية الحديث بالمعنى]
وتجوز رواية الحديث بالمعنى للعالم المفرق بين المحتمل
وغير المحتمل والظاهر والأظهر، والعام والأعم عند
الجمهور1.
فيبدل لفظًا مكان لفظ فيما لا يختلف الناس فيه: كالألفاظ
المترادفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ومنهم الأئمة الأربعة. وتفصيل القول في هذه المسألة: أن
الراوي للحديث: إن =
ج / 1 ص -361-
مثل:
القعود والجلوس، والصب والإراقة، والحظر والتحريم،
والمعرفة والعلم، وسائر ما لا يشك فيه، ولا يتطرق إليه
الاستنباط والفهم.
ولا يجوز إلا فيما فهمه قطعًا، دون ما فهمه بنوع استنباط،
واستدلال يُختلف فيه.
ولا يجوز -أيضًا- للجاهل بمواقع الخطاب، ودقائق الألفاظ.
ومنع منه بعض أصحاب الحديث مطلقًا لقول النبي -صلى الله
عليه وسلم-:
"نضر الله امرأ سمع مقالتي فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= كان غير عالم بمقتضيات الألفاظ، والفرق بينها من جهة
الإطلاق والتقييد، والعموم والخصوص، فلا يجوز له الرواية
بالمعنى، لأنه قد يبدل لفظًا بلفظ يساويه -في ظنه- وهو ليس
كذلك، فيترتب على ذلك خلل في المعنى.
أما إن كان عالمًا بما تقدم، فإن كان المعنى غير متطابق
فلا يجوز.
وإن كان مطابقًا: فقد جوزه جمهور العلماء، بشروط يأتي
بيانها.
ومنعه جماعة، منهم: محمد بن سيرين "ت110هـ" وبعض السلف.
وشروط الجمهور لجواز نقل الحديث بالمعنى كما يلي:
1- أن يكون الناقل عالمًا باللسان العربي، لا تخفى عليه
النكت الدقيقة التي يحصل بها الفرق بين معاني الألفاظ. كما
مثل المنصف.
2- أن يكون جازمًا بمعنى الحديث، وليس عن طريق الاستنباط
أو الاستدلال بمختلف فيه.
3- أن لا يكون اللفظ الذ نقل به الراوي معنى الحديث أخفى
من لفظ النبي -صلى الله عليه وسلم-.
قال القرافي: "يجوز بثلاثة شروط: أن لا يزيد الترجمة، ولا
ينقص، ولا يكون أخفى من لفظ الشارع" شرح تنقيح الفصول
ص164.
قال الطوفي: "هذا هو معنى المطابقة" شرح المختصر "2/ 245".
1 وهذا ما سبق توضيحه.
2 تقدم تخريجه.
ج / 1 ص -362-
ولنا:
الإجماع على جواز شرح الشرع للعجم بلسانهم، فإذا جاز إبدال
كلمة عربية بأعجمية ترادفها، فبعربية أولى.
وكذلك كان سفراء النبي -صلى الله عليه وسلم- يبلغونهم
أوامره بلغتهم.
وهذا لأنا نعلم أنه لا يعتد1 باللفظ، وإنما المقصود فهم
المعنى، وإيصاله إلى الخلق.
ويدل على ذلك: أن الخطب المتحدة والوقائع، رواها الصحابة
بألفاظ مختلفة.
ولأن الشهادة آكد من الرواية، ولو سمع الشاهد شاهدًا يشهد
بالعجمية: جاز أن يشهد على شهادته بالعربية.
ولأنه تجوز الرواية عن غير النبي -صلى الله عليه وسلم-
بالمعنى، فكذلك عنه؛ فإن الكذب فيهما حرام2.
والحديث حجة لنا3؛ لأنه ذكر العلة، وهو اختلاف الناس في
الفقه والفهم ونحن لا نجوّزه لغير من يفهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الأصل "تعتد" وما أثبتناه من المستصفى. قال العلماء:
هذا في غير الألفاظ المتعبد بلفظها، كالأذان والإقامة
والتكبير، والتشهد في الصلاة، فلا يجوز نقله بالمعنى؛
لأننا متعبدون بلفظه، ومثل ذلك ما كان من جوامع الكلم التي
اختص بها النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يجوز نقله
بالمعنى.
2 وأقول: قياس الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
على غيره قياس مع الفارق؛ فقد روى مسلم في مقدمة صحيحه عن
المغيرة بن شعبة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه
وسلم-: يقول:
"إن كذبًا
علي ليس ككذب على أحد، فمن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده
من النار" انظر: صحيح مسلم بشرح النووي "14/ 57" طبعة الشعب.
3 هذا رد على دليل المخالف وهو الحديث المتقدم. قال
الغزالي: "وهذا الحديث =
ج / 1 ص -363-
جواب
آخر:
أن من روى بالمعنى فقد روى كما سمع، ولهذا لا يعد كذبًا.
قال أبو الخطاب: لا يجوز أن يبدل لفظًا بأظهر منه؛ لأن
الشارع ربما قصد إيصال الحكم باللفظ الجلي تارة، وبالخفي
أخرى1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بعينه قد نقل بألفاظ مختلفة، والمعنى واحد، وإن أمكن أن
تكون جميع الألفاظ قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في
أوقات مختلفة، لكن الأغلب أنه حديث واحد، ونقل بألفاظ
مختلفة، فإنه روى:
"رحم الله امرأ"،
"نضر الله امرأ"،
وروى:
"رب حامل فقه
لا فقه له" وروى: "رب حامل فقه غير فقيه". المستصفى "2/ 280".
1 انظر: التمهيد "3/ 162".
قال الطوفي -معللًا لذلك-: "لأن الشارع ربما قصد إيصال
الحكم إلى المكلفين باللفظ الجلي تارة؛ تسهيلًا للفهم
عليهم، وباللفظ الخفي أخرى؛ تكثيرًا لأجرهم بإجالة النظر
فيه". شرح مختصر الروضة "2/ 248".
فصل: [في حكم
مراسيل الصحابة]
مراسيل1 أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- مقبولة عند
الجمهور.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المرسل في اللغة: المطلق، فهو اسم مفعول من أرسل بمعنى:
أطلق.
وعند المحدثين: هو أن يترك التابعي الواسطة بينه وبين رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- ويقول: قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- كذا.
أما جمهور أهل الأصول: فيطلقون المرسل على قول من لم يلق
النبي -صلى الله عليه وسلم-: "قال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- كذا" سواء أكان من التابعين أم من تابعي
التابعين أم ممن بعدهم. فالمرسل عند علماء الأصول يشمل
المنقطع، وهو: ما حذف من إسناده رجل في أثنائه، كما يشمل
المعضل وهو: ما سقط من إسناده اثنان فصاعدًا في أي موضع
كان.
والمراد بالمرسل -في مقامنا هذا-: ما رواه صحابي عن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- =
ج / 1 ص -364-
وشذ
قوم فقالوا: لا يقبل مرسل الصحابي إلا إذا عرف بصريح خبره،
أو بعادته أنه لا يروي إلا عن صحابي، وإلا فلا، لأنه قد
يروي عمن لم تثبت لنا صحبته.
وهذا ليس بصحيح، فإن الأمة اتفقت على قبول رواية ابن عباس
ونظرائه من أصاغر الصحابة مع إكثارهم، وأكثر روايتهم عن
النبي -صلى الله عليه وسلم- مراسيل.
قال البراء بن عازب1: "ما كل ما حدثنا به عن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- سمعناه منه، غير أننا لا نكذب"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بلفظ: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو لم يسمع
منه مباشرة، وإنما سمعه من صحابي آخر لم يسمه. كما في حديث
أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال: "من أصبح جنبًا فلا صوم له" ولما سئل عنه قال:
رويته عن الفضل بن العباس.
وهو حجة عند جمهور العلماء، منهم: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد
في أشهر الروايتين عنه، وجمهور المعتزلة، وهو الذي رجحه
الآمدي.
وقد حكى أبو الخطاب الإجماع على ذلك، وفيه نظر، فكيف ينقل
الإجماع مع أن فيه خلافًا كما سيذكر المصنف وغيره.
انظر: الإحكام للآمدي "2/ 112" التمهيد "3/ 134" الإحكام
لابن حزم "1/ 143" إرشاد الفحول جـ1 ص258 وما بعدها تحقيق
الدكتور شعبان إسماعيل.
1 هو: البراء بن عازب بن حارث بن عدي، أبو عمارة الأنصاري
الحارثي الخزرجي، صحابي جليل، شهد الخندق وما بعدها، توفي
بالكوفة سنة 71هـ وقيل: 72هـ.
انظر في ترجمته: "الاستيعاب 1/ 155، الإصابة 1/ 142".
2 ذكره الآمدي "2/ 179" بلفظ "ما كل ما نحدثكم سمعناه من
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولكن سمعنا بعضه، وحدثنا
أصحابنا ببعضه".
ج / 1 ص -365-
وكثير
منهم كان يرسل الحديث، فإذا استكشف قال: حدثني به فلان:
كأبي هريرة وابن عباس1 وغيرهما.
والظاهر أنهم لا يروون إلا عن صحابي، والصحابة معلومة
عدالتهم.
فإن رووا عن غير صحابي، فلا يروون إلا عمن علموا عدالته.
والرواية عن غير عدل وهم بعيد، لا يلتفت إليه ولا يعول
عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وأورده الخطيب البغدادي في الكفاية "ص548": عن أبي إسحاق
قال: سمعت البراء بن عازب يقول: ليس كلنا سمع حديث رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- كانت لنا ضيعة "العقار والأرض
المغلة" وأشغال، وكان الناس لم يكونوا يكذبون يومئذ، فيحدث
الشاهد الغائب" وروي مثله عن أنس.
1 كما تقدم في حديث "من أصبح جنبًا" وحديث "إنما الربا في
النسيئة".
فصل: [في حكم
مراسيل غير الصحابة]
فأما مراسيل غير الصحابة، وهو أن يقول: قال النبي -صلى
الله عليه وسلم- من لم يعاصره، أو يقول: قال أبو هريرة من
لم يدركه: ففيها روايتان1:
إحداهما: تقبل، اختارها القاضي2.
وهو مذهب مالك وأبي حنيفة، وجماعة من المتكلمين3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أبو يعلى في العدة جـ3 ص906.
2 يراجع: المستصفى جـ2 ص281 وما بعدها، الإحكام للآمدي جـ2
ص133 وما بعدها، شرح مختصر الروضة جـ2 ص230 وما بعدها.
ج / 1 ص -366-
والأخرى: لا تقبل، وهو قول الشافعي1، وبعض أهل الحديث وأهل
الظاهر2.
ولهم دليلان3:
أحدهما: أنه لو ذكر شيخه ولم يعدّله وبقي مجهولًا عندنا:
لم نقبله، فإذا لم يسمه فالجهل أتم، إذ من لا يعرف عينه
كيف نعرف عدالته؟!
الثاني: أن شهادة الفرع لا تقبل ما لم يعين شاهد الأصل،
فكذا الرواية.
وافتراق الشهادة والرواية في بعض التعبدات لا توجب فرقًا
في هذا المعنى، كما لا توجب فرقًا في قبول رواية المجروح
المجهول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 النقول عن الإمام الشافعي -في حجية المراسيل- متعارضة
ومتضاربة، فالبعض يروي عنه أنها حجة، والبعض الآخر ينكر،
والذي عليه المحققون: أنه اشترط لقبول الحديث المرسل بعض
الشروط التي تؤدي إلى غلبة الظن بصحة الحديث، وخلاصة ذلك:
أن الحديث إن كان من مراسيل الصحابة، أو كان قد أسنده غير
من أرسله، أو أرسله راو آخر من غير طريق الأول، بمعنى أنه
اختلفت طرق الإرسال، فيعضد بعضها بعضًا، أو يكون المرسل قد
عرف من حاله أنه لا يروي إلا عن عدل، أو عضده قول صحابي،
أو قول أكثر أهل العلم، فهو حجة، وإلا فلا. فإطلاق المصنف
النقل عن الإمام الشافعي تبعًا للغزالي ليس بجيد.
يراجع في ذلك: الرسالة تحقيق الشيخ شاكر ص461 وما بعدها،
نهاية السول للإسنوي جـ2 ص324، شرح مختصر الروضة جـ2 ص230.
2 انظر: الإحكام لابن حزم جـ1 ص135.
3 أي: القائلون بعدم حجية المرسل.
ج / 1 ص -367-
ووجه
الرواية الأولى:
أن الظاهر من العدل الثقة: أنه لا يستجيز أن يخبر عن النبي
-صلى الله عليه وسلم- بقول، ويجزم به، إلا بعد أن يعلم ثقة
ناقله وعدالته.
ولا يحل له إلزام الناس عبادة، أو تحليل حرام، أو تحريم
مباح، بأمر مشكوك فيه، فيظهر أن عدالته مستقرة عنده، فهو
بمنزلة قوله: "أخبرني فلان وهو ثقة عدل".
ولو شك في الحديث: ذكر من حدّثه؛ لتكون العهدة عليه دونه.
ولهذا قال إبراهيم النخعي2: "إذا رويتُ عن عبد الله3
وأسندت: فقد حدثني واحد عنه، وإذا أرسلت فقد حدثني جماعة
عنه"4.
وأما المجهول5: فإن الرواية عنه ليست بتعديل له -في إحدى
الروايتين-.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهي: رواية قبول المرسل.
2 هو: إبراهيم بن يزيد بن قيس بن الأسود النخعي، أحد أعلام
التابعين، رأى جماعة من الصحابة، ولم يسمع منهم مباشرة،
فكان يرسل عنهم، ومنهم عبد الله بن مسعود. مات بالكوفة سنة
96هـ. "ميزان الاعتدال 1/ 74".
3 يقصد: عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- تقدمت ترجمته.
4 أخرج هذا الأثر: البيهقي في سننه "1/ 48" والدراقطني "3/
174".
5 بعد أن ذكر أدلة الفريقين، بدأ يناقش أدلة المنكرين
لحجية مراسيل غير الصحابة.
وخلاصة ما استدل به النافون للحجية: أن الواسطة المحذوفة
في المرسل لا تعرف عينها، ومن لا تعرف عينه لم تعرف
عدالته، ورواية مجهول العدالة مردودة -كما تقدم- ولأن
شهادة الفرع لا تقبل على شهادة الأصل فكذلك الرواية،
وافتراق الشهادة والرواية في بعض الأحكام لا يستلزم
افتراقهما في هذا المعنى، كما أنه لا فرق بينهما في عدم
قبول رواية المجروح والمجهول. =
ج / 1 ص -368-
وفي
الأخرى: تكون تعديلًا، على ما مضى، ولا كذلك ههنا.
والرواية تفارق الشهادة في أمور كثيرة:
منها: اللفظ، والمجلس، والعدد، والذكورية، والعجز عن شهود
الأصل، والحرية -عندهم- وأنه لا يجوز لشهود الفرع الشهادة
حتى تحملهم إياها شهود الأصل، فيقولوا: اشهدوا على
شهادتنا.
والرواية تخالف هذا.
فجاز اختلافهما في هذا الحكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فرد المصنف على ذلك: بأن الرواية عن الجمهور ليست
تعديلًا له في إحدى الروايتين، وفي الرواية الأخرى تكون
تعديلًا، لكن لا يقاس عليها ما نحن فيه، لعدم معرفة
الساقط، والاكتفاء بعدالة الرواي وثقته. هذا هو الرد على
الدليل الأول.
ثم رد على الدليل الثاني: بأن الرواية تخالف الشهادة في
أمور كثيرة ذكر منها ما هو موجود في الأصل، ثم بنى على
ذلك: جواز اختلاف الرواية عن الشهادة، وأن الرواية المرسلة
مقبولة.
فصل: [في حكم
خبر الواحد فيما تعم به البلوى]
ويقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى1: كرفع اليدين في
الصلاة، ومس الذكر، ونحوه، في قول الجمهور2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معنى "تعم به البلوى" أي يكثر التكليف به، كرفع اليدين
في الصلاة، ونقض الوضوء بمس الذكر، ونحو ذلك من أخبار
الآحاد التي يكثر التكليف بها، ولا تخص أحدًا دون أحد.
2 انظر: العدة لأبي يعلى "3/ 885" والتمهيد لأبي الخطاب
"3/ 86" وشرح مختصر الروضة "2/ 233 وما بعدها".
ج / 1 ص -369-
وقال
أكثر الحنفية: لا يقبل؛ لأن ما تعم به البلوى كخروج
النجاسة من السبيلين يوجد كثيرًا، وتنتقض به الطهارة، ولا
يحل للنبي -صلى الله عليه وسلم- أن لا يشيع حكمه؛ إذ يؤدي
إلى إخفاء الشريعة، وإبطال صلاة الخلق، فتجب الإشاعة فيه،
ثم تتوفر الدواعي على نقله، فكيف يخفى حكمه، وتقف روايته
على الواحد؟!
ولنا: أن الصحابة -رضي الله عنهم- قبلوا خبر عائشة في
الغسل من الجماع بدون الإنزال1، وخبر رافع بن خديج في
المخابرة2.
ولأن3 الراوي عدل جازم بالرواية، وصدقه ممكن، فلا يجوز
تكذيبه، مع إمكان تصديقه.
ولأن4 ما تعم به البلوى يثبت بالقياس، والقياس مستنبط من
الخبر وفرع له، فلأن يثبت بالخبر الذي هو أصل أولى.
وما ذكروه يبطل بالوتر، والقهقهة، وخروج النجاسة من غير
السبيلين، وتثنية الإقامة، فإنه مما تعم به البلوى، وقد
أثبتوه بخبر الواحد5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريجه.
2 تقدم تخريجه والكلام على معنى "المخابرة" وهذا هو الدليل
الأول للجمهور.
3 هذا هو الدليل الثاني.
4 هذا هو الدليل الثالث للجمهور.
5 بعد أن ذكر أدلة الجمهور، وأدلة الحنفية، بدأ يرد عليهم
ويناقشهم في هذه الأدلة فقال: إنهم قبلوا خبر الواحد فيما
يعم به البلوى مثل: وجوب الوتر، وإبطال الوضوء بالقهقهة
داخل الصلاة، واختاروا تثنية الإقامة في الصلاة، وأوجبوا
الوضوء بخروج النجاسة من غير السبيلين، وكل ذلك مما تعم به
البلوى، وقد أثبته الحنفية بخبر الواحد.
ثم رد على قولهم: "يجب إشاعة ما تعم به البلوى..." بقوله:
إنه -صلى الله عليه وسلم- =
ج / 1 ص -370-
ولم
يكلف الله -تعالى- رسوله -صلى الله عليه وسلم- إشاعة جميع
الأحكام، بل كلفه إشاعة البعض، ورد الخلق -في البعض- إلى
خبر الواحد.
كما ردهم إلى القياس في قاعدة الربا، وكان يسهل عليه أن
يقول: لا تبيعوا المكيل بالمكيل، والمطعوم بالمطعوم؛ حتى
يستغني عن الاستنباط من الأشياء الستة. فيجوز أن يكون ما
تعم به البلوى من جملة ما يقتضي مصلحة الخلق: أن يرد فيه
إلى خبر الواحد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مكلف بإشاعة البعض، ورد البعض الآخر إلى خبر الواحد،
فالذي لا يكفي فيه الظن تجب فيه الإشاعة، والذي يكفي فيه
الظن لا تجب فيه الإشاعة، ولذلك رد الناس إلى القياس فيما
تعم به البلوى في الأصناف الستة وهي: الذهب، والفضة،
والبر، والشعير، والتمر، والملح، فيقاس عليها ما يماثلها،
والخبر أولى من القياس ومقدم عليه. فإذا جاز ذلك في
القياس، فلأن يجوز في خبر الواحد من باب أولى، ويكون في
ذلك مصلحة للخلق، أرادها المشرع.
فصل: [في حكم
خبر الواحد في الحدود]
ويقبل خبر الواحد في الحدود، وما يسقط بالشبهات1.
وحكي عن الكرخي2: أنه لا يقبل؛ لأنه مظنون فيكون ذلك شبهة،
فلا يقبل، لقوله -عليه السلام-:
"ادرءوا الحدود
بالشبهات"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو قول جمهور العلماء.
2 وبه قال أبو عبد الله البصري من المعتزلة انظر: المعتمد
"2/ 570".
3 رواه بهذا اللفظ: الحارثي في مسند أبي حنيفة من حديث
مقسم عن ابن عباس =
ج / 1 ص -371-
وهذا
غير صحيح، فإن الحدود حكم شرعي، يثبت بالشهادة، فيقبل فيه
خبر الواحد، كسائر الأحكام.
ولأن ما يقبل فيه القياس المستنبط من خبر الواحد: فهو
بالثبوت بخبر الواحد أولى.
وما ذكروه يبطل الشهادة والقياس، فإنهما مظنونان ويقبلان
في الحدود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مرفوعًا، كما في المقاصد الحسنة ص344، وابن عساكر في
تاريخه.
كما روته عائشة -رضي الله عنها- مرفوعًا بلفظ:
"ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم؛ فإن كان له مخرج
فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ
في العقوبة"
أخرجه الترمذي: كتاب الحدود، باب ما جاء في درء الحد،
ورواه -أيضًا- موقوفًا وقال: الموقوف أصح، والدراقطني: في
أوائل كتاب الحدود، والبيهقي، والحاكم في المستدرك: كتاب
الحدود، باب، إن وجدتم لمسلم مخرجًا فخلوا سبيله وقال:
"هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
ومدار هذا الحديث على "يزيد بن زيادة" أحد رواة هذا
الحديث، قال عنه البخاري: "منكر الحديث" وقال النسائي:
"متروك الحديث" وضعفه الترمذي وغيره انظر: المغني في
الضعفاء "2/ 749" وله روايات أخرى كثيرة مرفوعة وموقوفة
انظر: تلخيص الحبير "4/ 56".
فصل: [في حكم
الواحد إذا خالف القياس]
ويقبل خبر الواحد فيما يخالف القياس1.
وحكي عن مالك: أن القياس يقدم عليه2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو قول الشافعية والحنابلة وكثير من الفقهاء، وهو الذي
رجحه ابن قدامة.
2 المنقول عن الإمام مالك رأيان. والذي حكاه المصنف بقوله:
"وحكي...." هو =
ج / 1 ص -372-
وقال
أبو حنيفة: إذا خالف الأصول، أو معنى الأصول، لم يحتج به1.
وهو فاسد؛ فإن معاذًا2 قدم الكتاب والسنة على الاجتهاد،
فصوبه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المشهور من مذهبه. انظر: "شرح تنقيح الفصول ص387".
1 الفرق بين مخالفة الأصول، أو معنى الأصول: أن مخالفة
القياس أخص من مخالفة الأصول؛ لأن القياس أصل من الأصول،
فكل قياس أصل، وليس كل أصل قياسًا، فما خالف القياس خالف
أصلًا خاصًّا، وما خالف الأصول يصدق بما خالف قياسًا أو
نصًّا أو إجماعًا، أو استصحابًا أو غير ذلك.
فوجوب الوضوء بالنوم موافق للقياس؛ من حيث إنه تعليق حكم
بمظنته كسائر الأحكام المعلقة بمظانها، مع أنه مخالف لبعض
الأصول، وهو: استصحاب العدم الأصلي في خروج الحدث حتى يعلم
أمر ناقل عن الاستصحاب.
فالمراد بمعنى الأصل: نفي الفارق بين الأصل والفرع.
هذا معنى ما ذكره المصنف في مذهب الحنفية، والذي في كتبهم
غير هذا وخلاصة ما ورد في كتبهم:
1- المتقدمون يرون تقديم خبر الآحاد على القياس مطلقًا،
وهو رأي الإمام وصاحبيه.
2- تقديم القياس إذا كان الراوي لخبر الواحد غير فقيه، ولا
مجال للاجتهاد في الحديث.
3- يقدم القياس على الصحابي الذي لم يعرف إلا بحديث أو
حديثين،
واختلف الثقات في قبوله، أو لم يشتهر بين السلف.
4- تقديم خبر الواحد إذا كان الراوي ضابطًا غير متساهل
فيما يرويه.
5- تقديم القياس إذا كان الراوي من غير الخلفاء الأربعة
والعبادلة، وهو رأي البزدوي. انظر في ذلك: "أصول السرخسي
1/ 343، كشف الأسرار 2/ 379".
2 هو: معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي، صحابي
جليل، كان =
ج / 1 ص -373-
النبي
-صلى الله عليه وسلم-1.
وقد عرفنا من الصحابة -رضي الله عنهم- في مجاري اجتهاداتهم
أنهم كانوا يعدلون إلى القياس عند عدم النص.
ولذلك قدم عمر -رضي الله عنه- حديث حمل بن مالك في غرة
الجنين2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أعلم الناس بالحلال والحرام، شهد المشاهد كلها مع رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- وولاه الرسول -صلى الله عليه
وسلم- قضاء اليمن، كما في الحديث الذي معنا. توفي سنة 18هـ
"أسد الغابة 4/ 376، حلية الأولياء 1/ 228".
1 يشير إلى حديث معاذ أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما
بعثه إلى اليمن قال له:
"كيف تقضي إذا عرض لك القضاء؟" قال: أقضى بكتاب الله. قال:
"فإن لم تجد في كتاب الله؟" قال: فبسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال:
"فإن لم تجد في سنة رسول الله؟" قال: أجتهد رأيي ولا آلو. قال: فضرب رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- صدره وقال:
"الحمد
لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضاه الله ورسوله".
أخرجه أبو داود: كتاب الأقضية، باب اجتهاد الرأي في
القضاء، والترمذي في كتاب الأحكام، باب ما جاء في القاضي
كيف يقضي، وقال: "لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده
عندي بمتصل" وأخرجه الطيالسي في كتاب القضاء والدعاوي
والبينات، باب آداب القضاء والقاضي كيف يقضي.
والحديث وإن كان في سنده مقال، إلا أن المحققين من العلماء
حكموا بقبوله والعمل به. قال عنه إمام الحرمين، كما نقله
ابن حجر في تلخيص الحبير "4/ 183" "إنه حديث مدون في
الصحاح متفق على صحته، لا يتطرق إليه التأويل".
وقال الغزالي: "تلقته الأمة بالقبول، ولم يظهر أحد فيه
طعنًا، فلا يقدح فيه كونه مرسلًا" كما قواه ابن عبد البر،
وابن تيمية وابن القيم والذهبي وابن كثير.
انظر: المستصفى "2/ 254" والمعتبر في تخريج أحاديث المنهاج
والمختصر.
2 سبق تخريجه.
ج / 1 ص -374-
وكان
يفاضل بين ديات الأصابع ويقسمها على قدر منافعها، فلما روي
عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
"في كل إصبع
عشر من الإبل"1: رجع عنه
إلى الخبر، وكان بمحضر من الصحابة2.
ولأن قول النبي -صلى الله عليه وسلم- كلام المعصوم وقوله،
والقياس استنباط الراوي، وكلام المعصوم أبلغ في إثارة غلبة
الظن.
ثم أصحاب أبي حنيفة قد أوجبوا الوضوء بالنبيذ في السفر دون
الحضر. وأبطلوا الوضوء بالقهقهة داخل الصلاة، دون خارجها،
وحكموا في القسامة بخلاف القياس، وهو مخالف للأصول3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 روى البيهقي في سننه الكبرى: كتاب الديات، باب الأصابع
كلها سواء، عن سعيد بن المسيب قال: قضى عمر -رضي الله عنه-
في الأصابع: في الإبهام بثلاث عشر، وفي التي تليها باثنتي
عشر، وفي الوسطى بعشر، وفي التي تليها بتسع، وفي الخنصر
بست، حتى وجد كتاب عند آل عمرو بن حزم يذكرون أنه من رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- وفيما هنالك من الأصابع "عشر،
عشر" قال سعيد: فصارت الأصابع إلى عشر، عشر.
وحديث عمرو بن حزم أخرجه النسائي: كتاب القسامة، باب ذكر
حديث عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين له.
وللحديث روايات أخرى عن أبي موسى الأشعري عند أبي داود،
والنسائي وابن ماجه، والحاكم وصححه. وأخرجه أحمد بلفظ
"الأصابع سواء، والأسنان سواء".
2 قال أبو يعلى في العدة "3/ 890": "وكان بمحضر من الصحابة
-رضي الله عنهم- فلم ينكر ذلك منكر، ولم يخالفه فيه مخالف،
فدل على أنه إجماع عنهم".
3 تقدم أن أبا حنيفة يرى: أن خبر الواحد إذا خالف الأصول،
أو معنى الأصول لا يحتج به، وأورد المصنف العديد من الأدلة
التي تدل على رفض ما قاله أبو حنيفة. ثم أورد على مذهب
الحنفية بعض الأمثلة التي أخذوا فيها بما يخالف = |