روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد
بن حنبل ج / 1 ص -218-
الباب الثالث: النسخ
فصل: تعريف النسخ
النسخ في اللغة: الرفع والإزالة، ومنه: "نسخت الشمس الظل"
ونسخت الريح الأثر1.
وقد يطلق لإرادة ما يشبه النقل، كقولهم: "نسخت الكتاب"2.
فأما النسخ في الشرع: فهو بمعنى الرفع والإزالة لا غير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: رفعته وأزلته؛ لأن الشمس إذا قابلت موضع الظل ارتفع
وزال، والريح إذا مرت على آثار المشي، ارتفعت وزالت.
انظر: مختصر الطوفي وشرحه "2/ 251".
2 قال الطوفي: "..... فإن نسخ الكتاب ليس نقلًا لما في
المنسوخ منه حقيقة؛ لبقائه بعد النسخ، وإنما هو مشبه للنقل
من جهة أن ما في الأصل صار مثله في الفرع لفظًا ومعنى".
ومن هذا الباب: تناسخ المواريث، وهو: انتقال حالها
بانتقالها من قوم إلى قوم، مع بقاء المواريث في نفسها".
ثم قال:
"اختلف في النسخ في أي المعنيين هو حقيقة، هل هو حقيقة في
الرفع والإزالة، أو في النقل وما يشبهه؟
وفيه ثلاثة أقوال:
أحدهما: أنه حقيقة فيهما بالاشتراك، وهو قول القاضي أبي
بكر والغزالي وغيرهما. =
ج / 1 ص -219-
وحدّه:
رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متراخ عنه.
ومعنى الرفع: إزالة الشيء على وجه لولاه لبقي ثابتًا على
مثال:
"رفع حكم الإجارة بالفسخ" فإن ذلك يفارق زوال حكمها
بانقضاء مدتها.
وقيدنا الحد بالخطاب المتقدم؛ لأن ابتداء العبادات في
الشرع مزيل لحكم العقل من براءة الذمة، وليس بنسخ.
وقيدناه بالخطاب الثاني؟ لأن زوال الحكم بالموت والجنون
ليس بنسخ.
وقولنا: "مع تراخيه عنه"؛ لأنه لو كان متصلًا به، كان
بيانًا وإتمامًا لمعنى الكلام، وتقديرًا له بمدة وشرط1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والثاني: أنه حقيقة في الرفع والإزالة، مجاز في النقل،
وهو قول أبي الحسين البصري وغيره.
والثالث: عكس هذا، وهو أنه حقيقة في النقل، مجاز في
الإزالة، وهو اختيار القفال. ذكر هذه الأقوال وأصحابها
الآمدي.
والأظهر من هذه الأقوال أن النسخ حقيقة في الرفع، مجاز في
النقل". شرح المختصر "2/ 252" وانظر: المستصفى "2/ 35" وما
بعدها، الإحكام للآمدي "2/ 236".
1 هذه كلها احترازات أراد المصنف أن يخرجها عن كونها
نسخًا.
فقوله: "رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم" احتراز من زوال حكم
النفي الأصلي، فإن الأصل براءة الذمة، فإذا أثبتنا حقًّا
من الحقوق، فقد رفعنا حكم براءة الذمة، وشغلناها بهذا
الحق، وهو ليس بنسخ، لأن الحكم المرفوع لم يكن ثابتًا
بخطاب متقدم.
وقوله: "بخطاب" احتراز من زوال الحكم بالموت أو المجنون،
لأن من مات أو جن، انقطعت عنه أحكام التكليف، وليس ذلك
بنسخ. =
ج / 1 ص -220-
وقال
قوم: النسخ كشف مدة العبادة بخطاب ثان1.
وهذا يوجب أن يكون قوله -تعالى-:
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ...}2 نسخًا وليس فيه معنى الرفع3، فإن قوله:
{إِلَى اللَّيْلِ} إذا لم يتناول إلا النهار متباعدًا عن الليل بنفسه، فأي معنى
لنسخه؟!
وإنما يرفع ما دخل تحت الخطاب الأول، وما ذكروه تخصيص.
على أن نسخ العبادة قبل وقتها والتمكن من امتثالها جائز،
وليس فيه بيان لانقطاعها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقوله: "مع تراخيه عنه" احتراز من زوال الحكم بخطاب
متصل، كالشرط والاستثناء، فهذا ليس نسخًا، وإنما يعتبر
تخصيصًا، والتخصيص معناه -عند بعض الأصوليين-: بيان المراد
بالعام، ولذلك قال المصنف: "لأنه لو كان متصلًا به كان
بيانًا" يعني: تخصيصًا لا نسخًا.
انظر: شرح مختصر الروضة "2/ 258" إرشاد الفحول "1/ 510".
1 وهو منقول عن الحنفية حيث قالوا: "النسخ بيان لمدة الحكم
المنسوخ في حق الشارع، وتبديل لذلك الحكم بحكم آخر في حقنا
على ما كان معلومًا عندنا لو لم ينزل الناسخ" انظر: أصول
السرخسي "2/ 54" وقريب منه ما ذهب إليه الإمام الرازي في
المحصول "جـ1 ق3 ص428" والبيضاوي في المنهاج، على ما في
نهاية السول "2/ 162"، وابن حزم في الإحكام "4/ 438".
2 سورة البقرة من الآية "187".
3 هذا رد من المصنف على التعريف خلاصته: أن انتهاء مدة
الصوم بظهور الليل ليس رفعًا للحكم، وإنما هو مغيًّا بغاية
معينة، ينتهي بوجودها.
ثم بين أن هذا التعريف ينطبق على التخصيص، لا على النسخ.
كما بين أن نسخ العبادة قبل دخول وقتها جائز عند جمهور
العلماء، ومنهم أكثر الفقهاء، إلا أن أكثر الحنفية
والمعتزلة منعوا ذلك.
ج / 1 ص -221-
فصل: [معنى النسخ عند المعتزلة]
وحدّ المعتزلة النسخ بأنه:
الخطاب الدال على أن مثل الحكم الثابت بالنص المتقدم زائل
على وجه لولاه لكان ثابتا1.
ولا يصح؛ لأن حقيقة النسخ الرفع، وقد أخلوا الحد عنه2.
فإن قيل:
تحديد النسخ بالرفع لا يصح لخمسة أوجه:
أحدها: أنه لا يخلو: إما أن يكون رفعًا لثابت، أو لما لا
ثبات له،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: المعتمد "1/ 396".
2 قوله: "ولا يصح" يريد أن هذا التعريف المنقول عن بعض
المعتزلة غير صحيح، لأن النسخ في الشرع إنما هو الرفع، وقد
عدلوا عنه إلى قولهم: "الخطاب الدال... الخ" فكان الحد
للناسخ لا للنسخ، والمطلوب: تعريف النسخ لا الناسخ الذي هو
اسم فاعل، وذلك أن الخطاب ليس المراد به مصدر خاطب خطابًا،
حتى يكون تعريف مصدر بمصدر، وإنما المراد بالخطاب: القول
الدال على شيء. انظر: نزهة الخاطر "1/ 192".
جاء في العدة لأبي يعلى "3/ 768-769" -بعد أن عرّف النسخ-
أن النسخ يفتقر إلى وجود خمس شرائط:
1- أن يكون الناسخ متأخرًا عن المنسوخ.
2- أن يكون الحكم المنسوخ قد ثبت بالشرع.
3- أن يكون الرافع دليلًا شرعيًّا.
4- أن لا يكون للعبادة المنسوخة مدة معينة.
5- أن يكون الناسخ أقوى من المنسوخ أو مثله، ولا يكون أضعف
منه.
انتهى ملخصًا من العدة، وهي مأخذوة من التعريفات المتقدمة.
وأما كونه أقوى أو مساو فسيأتي ذلك قريبًا.
ج / 1 ص -222-
فالثابت لا يمكن رفعه، وما لا ثبات له لا حاجة إلى رفعه.
الثاني: أن خطاب الله -تعالى- قديم، فلا يمكن رفعه.
الثالث: أن الله -تعالى- إنما أثبته لحسنه، فالنهي يؤدي
إلى أن ينقلب الحسن قبيحًا.
الرابع: أن ما أمر به، إن أراد وجوده، كيف ينهى عنه، حتى
يصير غير مراد؟
الخامس: أنه يدل على "البداء" فإنه يدل على أنه بدا له مما
كان حكم به وندم عليه، وهذا محال في حق الله -تعالى-1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة هذه الاعتراضات:
أولًا: أن الحكم قبل النسخ إما أن يكون ثابتًا أو غير
ثابت، فإن كان ثابتًا لم يمكن رفعه بالناسخ، لأن ارتفاع
الحكم الثابت بالحكم الطارئ ليس بأولى من العكس؛ لاستقرار
الثابت وتمكنه. وأما إذا كان غير ثابت فلا يحتاج إلى
النسخ، لأنه مرتفع بنفسه.
ثانيًا: أن حكم الله -تعالى- قديم، فلا يمكن رفعه وإزالته،
لأن ذلك يعتبر تغييرًا له، وهو محال على القديم.
ثالثًا: أن الله -تعالى- إنما أثبت الحكم المرفوع لما فيه
من حسن، فإذا رفعه كان هذا الرفع قبيحًا، وهذا لا يجوز.
رابعًا: أن الرفع فيه تناقض، لأن إثباته يدل على إرادته،
ورفعه يدل على قدم إرادته، وهو تناقض لا يليق بالله تعالى.
خامسًا: أن الرفع أو النسخ يدل على نسبة الجهل إلى الله
تعالى، وهو محال، لأنه يدل على أن الشارع قد بدا له ما كان
خافيًا عنه، على حد قوله تعالى:
{وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] هذا معنى كلامه، وسيأتي رده على هذه الاعتراضات.
ج / 1 ص -223-
قلنا:
أما الأول: ففاسد؛ فإنا نقول: بل هو رفع لحكم ثابت لولاه
لبقي ثابتًا، كالكسر في المكسور، والفسخ في العقود.
إذ1 لو قال قائل: إن الكسر إما أن يرد على معدوم أو موجود:
فالمعدوم لا حاجة إلى إعدامه، والموجود لا ينكسر2، كان غير
صحيح؛ لأن معناه: أن له من استحكام البنية ما يبقى لولا
الكسر، وندرك تفرقته بين كسره، وبين انكساره بنفسه، لتناهي
الخلل فيه، كما ندرك تفرقته بين فسخ الإجارة، وبين زوال
حكمها: لانقضاء مدتها3.
وبهذا فارق "التخصيص" "النسخ"؛ فإن التخصيص يدل على أنه
أريد باللفظ: البعض3.
وأما الثاني:
فإنه يراد بالنسخ: رفع تعلق الخطاب بالمكلف، كما يزول
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لفظ "إذ" من المستصفى لتوضيح المعنى.
2 عبارة المستصفى: "والوجود لا سبيل إلى إزالته".
3 خلاصة الرد: أن ارتفاعه غير ممتنع؛ لأنه إما أن يرتفع
بانتهاء مدته، وإما بالناسخ مع إرادة الشارع، قياسًا على
كسر آنية من الأواني: فيقال: إن استحكام شكل الآنية يقتضي
بقاء صورتها دائمًا، لولا ما ورد عليه من السبب الكاسر،
فالكاسر قطع ما اقتضاه استحكام بنية الآنية دائمًا، لولا
الكسر.
ومثل ذلك: فسخ عقد الإجارة، فإن الفسخ يقطع حكم العقد،
ولولاه لدام العقد، فالفسخ قاطع لحكم العقد الدائم.
وبهذا فارق النسخ التخصيص، فإن التخصيص يبين لنا أن اللفظ
يدل على البعض لا الكل، والنسخ يخرج عن اللفظ ما أريد
الدلالة عليه.
انظر في ذلك: المستصفى "2/ 40، 41".
ج / 1 ص -224-
تعلقه
به؛ لطريان العجز والجنون، ويعود بعودة القدرة والعقل،
والخطاب في نفسه لا يتغير1.
وأما الثالث:
فينبني على التحسين والتقبيح في العقل، وهو باطل2. وقد
قيل: إن الشيء يكون حسنًا في حالة، وقبيحًا في أخرى، لكن
لا يصح هذا العذر؛ لجواز النسخ قبل دخول الوقت، فيكون قد
نهي عما أمر به في وقت واحد.
والرابع:
ينبني على أن الأمر مشروط بالإرادة وهو غير صحيح3.
وأما الخامس:
ففاسد؛ فإنهم إن أرادوا أن الله -تعالى- أباح ما حرم، ونهى
عما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة الرد: أن الحكم مقتضى الخطاب وأثره، لا نفس الخطاب
حتى يرد عليه ما قلتم، فالمرتفع بالنسخ مقتضى الخطاب
القديم، لا نفس الخطاب، بدليل أن الخطاب يرتفع بالعجز
والجنون، ثم يعود بعد القدرة والعقل.
2 يريد أن يقول: إن هذا مبنى على مسألة أخرى: هي التحسين
والتقبيح العقليين اللذين يقول بهما المعتزلة، بينما أهل
السنة يقولون: إن الحسن والقبح شرعيان، فالحسن: ما حسنه
الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع.
3 معناه: أن اعتراضكم مبني على أن الأمر مشروط بالإرادة،
وهو يؤدي إلى التناقض، فيكون المنسوخ مرادًا وغير مراد،
وهذا غير صحيح، لأن الإرادة تعلقت بوجوده قبل النسخ،
وبعدمه بعده، فلا تناقض، لأن التناقض إنما يكون مع اتحاد
وقت التعلق، أما إرادة شيء في وقت، وعدم إرادته في وقت آخر
فلا تناقض فيه، لانفكاك الجهة.
ج / 1 ص -225-
أمر
به: فهو جائز؛
{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ}1، ولا تناقض كما أباح الأكل ليلًا، وحرمه نهارًا.
وإن أرادوا: أنه انكشف له ما لم يكن عالمًا به: فلا يلزم
من النسخ، فإن الله -تعالى- يعلم أنه يأمرهم بأمر مطلق،
ويديم عليهم التكليف إلى وقت معلوم يقطع فيه التكليف
بالنسخ2.
فإن قيل:
فهم مأمورون به في علم الله -تعالى- إلى وقت النسخ، أو
أبدًا؟
إن قلتم: إلى وقت النسخ: فهو بيان مدة العبادة.
وإن قلتم: أبدًا، فقد تغير علمه ومعلومه.
قلنا:
بل هم مأمورون في علمه إلى وقت النسخ الذي هو قطع للحكم،
المطلق الذي لولاه لدام الحكم كما يعلم الله البيع المطلق
مفيدًا لحكمه،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الرعد من الآية: 39.
2 وضح الطوفي هذا الرد بقوله: "واجب عن الخامس -وهو لزوم
البداء- فإنه غير لازم للقطع، أي: لأنا نقطع بكمال علم
الله -تعالى- والبداء ينافي كمال العلم، لأنه يستلزم الجهل
المحض؛ لأنه ظهور الشيء بعد أن كان خفيًّا....
وإذا ثبت استحالة البداء على الله سبحانه وتعالى، فتوجيه
النسخ: هو أن الله سبحانه وتعالى، علم المصلحة في الحكم
تارة، فأثبته بالشرع، وعلم المفسدة فيه تارة، فنفاه
بالنسخ. ولذلك فائدتان:
إحداهما: رعاية الأصلح للمكلفين تفضلًا من الله عز وجل لا
وجوبًا.
الفائدة الثانية: امتحان المكلفين بامتثالهم الأوامر
والنواهي، خصوصًا في أمرهم بما كانوا منهيين عنه، ونهيهم
عما كانوا مأمورين به، فإن الانقياد له أدل على الإيمان
والطاعة". شرح المختصر "2/ 264".
ج / 1 ص -226-
إلى أن
ينقطع بالفسخ، ولا يعلمه في نفسه قاصرًا، ويعلم أن الفسخ
سيكون، فينقطع الحكم به، لا لقصوره في نفسه.
فصل: [الفرق بين
النسخ والتخصيص]
فإن قيل:
فما الفرق بين النسخ والتخصيص؟
قلنا:
هما مشتركان من حيث: إن كل واحد يوجب اختصاص بعض متناول
اللفظ.
مفترقان من حيث: إن التخصيص: بيان أن المخصوص غير مراد
باللفظ.
والنسخ يخرج ما أريد باللفظ الدلالة عليه كقوله: "صم
أبدًا" يجوز أن ينسخ ما أريد باللفظ في بعض الأزمنة.
كذلك افترقا في وجوه ستة:
أحدها: أن النسخ يشترط تراخيه، والتخصيص يجوز اقترانه1.
والثاني: أن النسخ يدخل في الأمر بمأمور واحد، بخلاف
التخصيص.
والثالث: أن النسخ لا يكون إلا بخطاب، والتخصيص يجوز بأدلة
العقل والقرائن.
والرابع: أن النسخ لا يدخل في الأخبار، والتخصيص بخلافه2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كما يجوز أن يتقدم أو يتأخر.
2 وهو مذهب جمهور العلماء، وهناك من أجاز ذلك، كالإمام
الرازي وغيره. انظر: المحصول "جـ1 ق3 ص9". =
ج / 1 ص -227-
والخامس: أن النسخ لا يبقى معه دلالة اللفظ على ما تحته،
والتخصيص لا ينتفي معه ذلك.
والسادس: أن النسخ في المقطوع به لا يجوز إلا بمثله،
والتخصيص فيه جائز بالقياس وخبر الواحد وسائر الأدلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقد أورد الشوكاني عشرين فرقًًا بين النسخ والتخصيص،
ونسبها لقائليها، تراجع في الجزء الأول ص510 وما بعدها
الطبعة المحققة.
فصل: [ثبوت
النسخ بالأدلة العقلية والنقلية]
وقد أنكر قوم النسخ1.
وهو فاسد؛ لأن النسخ جائز عقلًا وقد قام دليله شرعًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخلاف في النسخ دائر بين الجواز العقلي أو الشرعي،
والوقوع.
قال الشيخ الطوفي: "اختلف الناس في النسخ، والخلاف إما في
جوازه أو في وقوعه.
والخلاف في جوازه، إما عقلًا، أو شرعًا.
وقد اتفق أهل الشرائع على جوازه عقلًا، ووقوعه سمعًا، إلا
الشمعونية من اليهود، فإنهم أنكروا الأمرين، وأما العنانية
منهم، وأبو مسلم الأصفهاني من المسلمين، فإنهم أنكروا جواز
النسخ شرعًا، لا عقلًا شرح مختصر الروضة "2/ 266، 267".
وأبو مسلم الذي أشار إليه الطوفي: هو: محمد بن بحر
الأصفهاني، مفسر، نحوي، متكلم معتزلي، له كتاب في التفسير
على مذهب المعتزلة يسمى "جامع التأويل لمحكم التنزيل" ولد
الأصفهاني سنة 254هـ، وتوفي سنة 322هـ. وهو غير الجاحظ،
خلافًا لما ذكره الإسنوي في نهاية السول "2/ 149": انظر:
"معجم الأدباء 18/ 35، بغية الوعاة 1/ 59".
والنقول عن هذا الرجل -في قضية النسخ- متضاربة، والذي توصل
إليه المحققون أن خلافه مع الجمهور خلاف لفظي، وأنه لا
ينكر النسخ، كما هو =
ج / 1 ص -228-
أما
العقل:
فلا يمتنع أن يكون الشيء مصلحة في زمان دون زمان، ولا
بُعْدَ في أن الله -تعالى- يعلم مصلحة عباده في أن يأمرهم
بأمر مطلق حتى يستعدوا له فيثابوا، ويمتنعوا -بسبب العزم
عليه- عن معاص وشهوات، ثم يخففه عنهم.
فأما دليله شرعًا:
فقال الله -تعالى-:
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا...}1،
{وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَة....}2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مشهور، فهو يسميه تخصيصًا لا نسخًا,
قال المحلي في شرح جمع الجوامع "2/ 88": "النسخ واقع عند
كل المسلمين، وسماه أبو مسلم الأصفهاني من المعتزلة
تخصيصًا؛ لأنه قصر للحكم على بعض الأزمان، فهو تخصيص في
الأزمان، كالتخصيص في الأشخاص.
فقيل: خالف في وجوده حيث لم يذكره باسمه المشهور، فالخلف
الذي حكاه الآمدي وغيره عنه من نفيه وقوعه لفظي لما تقدم
من تسميته تخصيصًا".
1 سورة البقرة من الآية: 106 وقد اعترض بعض العلماء على
الاستدلال بهذه الآية على وقوع النسخ فقالوا: إن الآية
تفيد صدق التلازم الحاصل بين الشرط والجزاء، وصدق هذا
التلازم، لا يتوقف على وقوع الشرط والجزاء ولا على
وقوعهما، بل إن التلازم يصدق ولو كان الشرط محالًا، كما في
قوله تعالى:
{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِين} [الزخرف: 81].
وقد أجاب الإسنوي على ذلك بما حاصله: أن الآية مع قطع
النظر عن سبب نزولها لا دلالة فيها على الجواز كما تقولون،
ولكن إذا نظرنا إلى سبب النزول: وهو أن اليهود عابوا على
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحوله عن بيت المقدس إلى
البيت الحرام، فقالوا: إن محمدًا يأمر بالشيء، ثم ينهى
عنه، فأنزل الله تعالى -ردًا عليهم-:
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا
أَوْ مِثْلِهَا...}
انظر: نهاية السول "2/ 557" بهامشه سلم الوصول.
2 سورة النحل من الآية: 110.
ج / 1 ص -229-
وقد
أجمعت الأمة على أن شريعة محمد -صلى الله عليه وسلم- قد
نسخت ما خالفها من شرائع الأنبياء قبله.
وقد كان يعقوب -عليه السلام- يجمع بين الأختين.
وآدم -عليه السلام- كان يزوج بناته من بنيه، وهو محرم في
شرائع من بعدهم من الأنبياء عليهم السلام1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه أمثلة لوقوع النسخ بين الشرائع المختلفة، وهناك
أمثلة كثيرة لوقوع النسخ في شريعتنا، منها:
1- نسخ اعتداد المتوفى عنها زوجها حولًا كاملًا، بالاعتداد
بأربعة أشهر وعشر، فقد كانت المرأة في صدر الإسلام تعتد
سنة كاملة، عملًا بقوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا
وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ
غَيْرَ إِخْرَاجٍ...} [ا لبقرة: 240] ثم نسخ ذلك بقوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ
وَعَشْرًا...} [البقرة: 234] فهذه الآية الأخيرة ناسخة للاعتداد بالحول، وهي وإن
كانت متقدمة على الثانية في التلاوة، والأصل: أن يكون
المتأخر هو الناسخ، إلا ترتيب المصحف ليس على ترتيب
النزول، فالآية الناسخة نزلت بعد المنسوخة، وإن كانت قد
وضعت قبلها.
على أن من العلماء من قال: إنها ليست منسوخة، وإنما خص من
الحول بعضه فجعل عدة واجبة على المرأة، وبقي البعض وصية
لها إن شاءت مكثت ولها المتعة من تركة زوجها، وإن شاءت
خرجت وسقط حقها في المتعة.
وقد أخرج ذلك البخاري "4531" وابن جرير الطبري عن مجاهد،
إلا أن الجمهور على أنها منسوخة: انظر: فتح القدير
للشوكاني "1/ 258".
2- نسخ الوصية للوالدين بآية المواريث. وأمثلة كثيرة لا
تخفى على أهل العلم، وكلها تدل على وقوع النسخ، والوقوع
دليل على الجواز وزيادة.
ج / 1 ص -230-
فصل: [في وجوه النسخ في القرآن]
يجوز نسخ الآية دون حكمها، ونسخ حكمها دون تلاوتها،
ونسخهما معًا.
وأحال قوم نسخ اللفظ؛ فإن اللفظ إنما نزل ليتلى، ويثاب
عليه، فكيف يرفع؟
ومنع آخرون نسخ الحكم دون التلاوة، لأنها دليل عليه، فكيف
يرفع المدلول مع بقاء الدليل؟
قلنا: هو متصور عقلًا، وواقع:
أما التصور: فإن التلاوة، وكتابتها في القرآن، وانعقاد
الصلاة بها، من أحكامها، وكل حكم فهو قابل للنسخ.
وأما تعلقها بالمكلف في الإيجاب وغيره: فهو حكم -أيضًا-
فيقبل النسخ1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حاصل ذلك: أن التلاوة، والكتابة في المصحف، وانعقاد
الصلاة بها، كل ذلك حكم من أحكام اللفظ، وكل حكم منها قابل
للنسخ، والتلاوة حكم من هذه الأحكام، فيقبل النسخ كغيره من
الأحكام.
قال الطوفي: "اللفظ والحكم عبادتان متفاصلان، أي تنفصل
إحداهما في التعبد بها عن الأخرى فعلًا، فجاز نسخ إحداهما
دون الأخرى، كسائر العبادات المتفاصلة.
وبيان تفاصل اللفظ والمعنى: هو أن اللفظ متعبّد بتلاوته،
والحكم متعبد بامتثاله، وهذا هو مرادنا بتفاصلهما، لا أن
إحداهما يمكن انفصاله عن الآخر حسًّا" شرح المختصر "2/
273".
ج / 1 ص -231-
وأما
الدليل على وقوعه:
فقد نسخ حكم قوله تعالى:
{وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ...}1 وبقيت تلاوتها2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة من الآية: 184.
2 وذلك أنهم كانوا في صدر الإسلام مخيرين بين أن يصوموا،
وبين أن يفطروا، ويطعموا مسكينًا عن كل يوم، فنسخ ذلك
التخيير بتعيين الصوم للقادر عليه بقوله تعالى:
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ...} وبقيت الرخصة في حق العاجز عن الصوم، لكبر، أو مرض، أو حمل، أو
رضاع.
روى ابن جرير الطبري "2752" وأبو داود "8/ 23" والبيهقي
"4/ 230" عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان الشيخ
الكبير والعجوز الكبيرة وهما يطيقان الصوم، رخّص لهما أن
يفطرا إن شاءا، ويطعما لكل يوم مسكينًا، ثم نسخ بعد ذلك
بقوله تعالى:
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ
مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ...} وثبت ذلك للشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة إذا كانا لا يطيقان الصوم،
وللحبلى والمرضع إذا خافتا، وإسناده صحيح.
قال الشوكاني:
"وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية، هل هي محكمة أو
منسوخة، فقيل: إنها منسوخة، وإنما كانت رخصة عند ابتداء
فرض الصيام، لأنه شق عليهم، فكان من أطعم كل يوم مسكينًا
ترك الصوم، وهو يطيقه، ثم نسخ ذلك، وهذا قول الجمهور.
وروي عن بعض أهل العلم أنها لم تنسخ، وأنها رخصة للشيوخ،
والعجائز خاصة إذا كانوا لا يطيقون الصيام إلا بمشقة، وهذا
يناسب قراءة التشديد، أي: يكلفونه كما مر. "فتح القدير 1/
198".
وقراءة التشديد التي أشار إليها، هي قراءة شاذة رويت عن
بعض الصحابة، "يُطَوِّقُونَهُ" بفتح الطاء مخففة، وتشديد
الواو مبنيًا للمفعول، بمعنى يكلّفونه فلا يطيقونه: انظر:
زاد المسير "1/ 186".
ج / 1 ص -232-
وكذلك
الوصية للوالدين والأقربين1.
وقد تظاهرت الأخبار بنسخ آية الرجم، وحكمها باق2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الوصية للوالدين والأقربين في صدر الإسلام واجبة، لقوله
تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ
خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}
[البقرة: 180] وقد اختلف في هذه الآية: هل هي منسوخة أو
محكمة، وإذا كانت منسوخة، فهل هي منسوخة بآية المواريث، أو
بالحديث "لا وصية لوارث" قال الشوكاني في فتح القدير "1/
195":
"وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية، هل هي محكمة أو
منسوخة؟
فذهب جماعة إلى أنها محكمة، قالوا: وهي وإن كانت عامة
فمعناها الخصوص، والمراد بها من الوالدين: من لا يرث
كالأبوين الكافرين، ومن هو في الرق، ومن الأقربين من عدا
الورثة منهم.
قال: ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن
الوصية للوالدين اللذين لا يرثان والأقرباء الذين لا يرثون
جائزة.
وقال كثير من أهل العلم: إنها منسوخة بآية المواريث مع
قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا وصية لوارث" وهو حديث صححه
بعض أهل الحديث وروي من غير وجه.
وقال بعض أهل العلم: إنه نسخ الوجوب وبقي الندب".
2 روى البخاري في كتاب المحاربين، باب رجم الحبلى من
الزنا، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال عمر: "لقد خشيت
أن يطول بالناس، زمان حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب
الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، ألا وإن الرجم حق على
من زنى وقد أحصن، إذا قامت البينة، أو كان الحمل أو
الاعتراف".
قال الحافظ ابن حجر في الفتح "12/ 142": وقد أخرجه
الإسماعيلي من رواية جعفر الفرياني عن علي بن عبد الله شيخ
البخاري وفيه: فقال بعد قوله: "أو الاعتراف": "وقد
قرأناها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما -ألبتة- وقد
رجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجمنا بعده" وقد جاءت
هذه الزيادة في الموطأ "2/ 824" عن سعيد بن المسيب قال:
"لما صدر عمر من الحج وقدم المدينة =
ج / 1 ص -233-
..............................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= خطب الناس فقال: أيها الناس، قد سنت لكم السنن، وفرضت
لكم الفرائض وتُركتم على الواضحة.... ثم قال: إياكم أن
تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل: لا نجد حدّين في كتاب
الله، قد رجم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجمنا،
والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب الله
لكتبتها بيدي: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة"
قال مالك: الشيخ والشيخة: الثيب والثيبة.
وللحديث رويات أخرى متعددة عند مسلم، وأبي داود، والترمذي،
وابن ماجه، والدارمي وغيرهم.
وأخرجه أحمد في المسند "5/ 183" عن كثير بن الصلت، قال:
كان ابن العاص وزيد بن ثابت يكتبان المصاحف، فمروا على هذه
الآية: فقال زيد: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
يقول: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة" فقال عمر:
لما نزلت هذه الآية أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
فقلت: أكتبها؟ فكأنه كره ذلك، فقال عمر: ألا ترى أن الشيخ
إذا لم يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى وقد أحصن رجم؟
قال الحافظ ابن حجر -تعليقًا على هذا الحديث-: "فيستفاد من
هذا الحديث السبب في نسخ تلاوتها، لكون العمل على غير
الظاهر من عمومها". انظر: فتح الباري "12/ 142".
هذا في الثيب، أما البكر، فقد نسخ حكمه بما جاء في سورة
النور وهو قوله تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِائَةَ جَلْدَة}.
ومع صحة الأحاديث السابقة إلا أن أبا جعفر النحاس يرى أن
الحكم بالنسبة للبكر نسخ بآية النور، وبالنسبة للثيب فهو
ثابت بالسنة الصحيحة، وليس من قبيل القرآن المنسوخ
التلاوة، حيث قال: "وإسناد الحديث صحيح، إلا أنه ليس حكمه
حكم القرآن الذي نقله جماعة عن جماعة، ولكنه سنة ثابتة،
وقد يقول الإنسان: كنت أقرأ كذا، لغير القرآن، والدليل على
هذا أنه قال: "ولولا أن أكره أن يقال: زاد عمر في القرآن
لزدته" الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس ص8.
ورجح أبو الحسين البصري ما قاله أبو جعفر النحاس فقال:
"ويحتمل أن =
ج / 1 ص -234-
وقولهم: كيف ترفع التلاوة1؟
قلنا:
لا يمتنع أن يكون المقصود الحكم دون التلاوة، لكن أنزل
بلفظ معين.
وقولهم: كيف يرفع المدلول مع بقاء الدليل2؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يكون ذلك مما أنزل وحيًا ولم يكن ثابتًا في المصحف"
المعتمد "1/ 418".
والسنة التي يشير إليها أبو جعفر النحاس هي: ما روي من
حديث عبادة بن الصامت -رضى الله عنه- أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قال:
"خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلًا، البكر بالبكر جلد مائة
وتغريب عام، والثيب بالثيب الرجم". رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم.
قال الطوفي:
"قلنا هذا مقرر لحكم تلك الآية، ومعرّف أنه لم ينسخ، ويضعف
هذا بوجهين:
أحدهما: أن حمل الحديث على التأسيس، وإثبات الرجم ابتداء،
أولى من حمله على تأكيد حكم الآية المنسوخة.
الوجه الثاني: أن الحديث ورد مبينًا للسبيل المذكور في
قوله تعالى:
{حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
سَبِيلًا}
[النساء: 15] فدل على أنه غير متعلق بآية الرجم، بل هو إما
مستقل بإثبات الرجم، أو مبين للسبيل في الآية الأخرى". شرح
مختصر الروضة "2/ 277".
وبذلك يكون الطوفي مع الذين يرون ثبوت الحكم بالسنة وليس
بالآية المنسوخة، وإن لم يصرح بذلك.
1 وهم المانعون لنسخ التلاوة مع بقاء الحكم.
2 وهم المانعون من نسخ الحكم وبقاء التلاوة.
وقد أجاب المصنف عن ذلك: بأن اللفظ إنما كان دليلًا على
الحكم قبل النسخ، أما بعد النسخ فلم يعد دليلًا، والدليل
إنما هو النسخ، فلا يلزم على ذلك ما قلتموه: من أنه كيف
يرفع المدلول ويبقى الدليل؟
ج / 1 ص -235-
قلنا:
إنما يكون دليلًا عند انفكاكه عما يرفع حكمه، والناسخ مزيل
لحكمه، فلا يبقى دليلًا والله أعلم.
ج / 1 ص -236-
وقد
اعتاص1 هذا على2 القدرية2 حتى تعَسَّفوا3 في تأويله من ستة
أوجه:
أحدها: أنه كان منامًا.
الثاني: أنه لم يؤمر بالذبح، وإنما كُلِّف العزم على
الفعل؛ لامتحان سرِّه في صبره.
الثالث: أنه لم ينسخ، لكن قلب الله عنقه نحاسا، فانقطع
التكليف عنه لتعذره.
الرابع: أن المأمور به: الاضطجاع، ومقدمات الذبح، بدليل
{قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا}.
الخامس: أنه ذبح امتثالًا، فالتأم الجرح واندمل، بدليل
الآية4.
السادس: أنه إنما أخبر أنه يؤمر به في المستقبل، فإن لفظه
لفظ الاستقبال لا لفظ الماضي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جاء في المصباح المنير "2/ 438": "اعتاص: صعب، فهو عويص،
وكلام عويص: يعسر فهم معناه".
2 فرقة من المعتزلة سموا بذلك، لأنهم يقولون: إن الله
-تعالى- غير خالق لأفعال الناس، ولا لشيء من أعمال
الحيوانات، وأن الناس هم الذين يقدرون أعمالهم، ولذلك
سماهم العلماء بالقدرية. انظر في هذه الفرقة وآرائها:
الفرق بين الفرق ص94.
3 أي: تكلفوا في تأويله.
4 أي قوله تعالى:
{قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا}.
ج / 1 ص -237-
والجواب من وجهين:
أحدهما: يعم جميع ما ذكروه1.
والثاني: أنا نفرد لكل وجه مما ذكروه بجواب:
أما الأول2: فلو صح شيء من ذلك: لم يحتج إلى فداء، ولم يكن
بلاءً مبينًا في حقه.
والجواب الثاني2:
أما قولهم: "كان منامًا لا أصل له".
قلنا: منامات الأنبياء -عليهم السلام- وحي4، وكانوا يعرفون
الله -تعالى- به.
ولو كان منامًا لا أصل له: لم يجز له قصد الذبح، والتل
للجبين. ويدل على فساده: قول ولده -عليه السلام-:
{افْعَلْ مَا تُؤْمَر} ولو
لم يؤمر: كان ذلك كذبًا.
والثاني: فاسد لوجهين:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أن الجواب الأول يعم جميع الأوجه التي ذكروها.
2 وهو الجواب الذي يعم جميع ما تقدم.
3 وهو التفصيلي.
4 روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة -رضي الله عنها-
قالت: "أول ما ابتدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من
النبوة الرؤيا الصادقة، كان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق
الصبح".
قال الطوفي: "إن رؤيا آحاد الأمم جزء من ستة وأربعين جزءًا
من النبوة على ما شهدت به السنن الصحيحة، فرؤيا الأنبياء
أولى أن تكون نبوة".
ج / 1 ص -238-
أحدهما: أنه سماه ذبحًا بقوله
{إِنِّي أَرَى
فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}
والعزم لا يسمى ذبحًا.
والآخر1: أن العزم لا يجب ما لم يعتقد وجوب المعزوم عليه،
ولو لم يكن المعزوم عليه واجبًا، كان إبراهيم -عليه
السلام- أحق بمعرفته من القدَرية.
والثالث: لا يصح عندهم؛ لأنه إذا علم الله أنه يقلب عنقه
حديدًا، يكون آمرًا بما يعلم امتناعه2.
والرابع: فاسد؛ لكونه لا يسمى ذبحًا.
والخامس: فاسد؛ إذ لو صح كان من آياته الظاهرة، فلا يترك
نقله، ولم ينقل، وإنما هو اختراع من القدرية3.
ومعنى قوله:
{قَدْ
صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} أي: عملت عمل "مصدق بالرؤيا"4. والتصديق غير التحقيق والعمل5.
وقولهم: "إنه أخبر أنه يؤمر به في المستقبل"6 فاسد؛ إذ لو
أراد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي الوجه الثاني من رده على الوجه الثاني للمعتزلة.
2 معناه: أن ذلك لا يصح على حسب أصول المعتزلة، لأن الأمر
بالمشروط لا يصح عندهم، فإذا علم الله أنه سيقلب عنقه
حديدًا، يكون آمرًا بما يعلم امتناعه، فلا يحتاج إلى
الفداء، ولا يكون بلاء في حقه -عليه السلام-.
3 قال الغزالي في توضيح هذا الرد: "وأما الخامس: وهو أنه
فعل والتأم: فهو محال؛ لأن الفداء كيف يحتاج إليه بعد
الالتئام، ولو صح ذلك لاشتهر، وكان ذلك من آياته الظاهرة،
ولم ينقل ذلك قط، وإنما هو اختراع من القدرية".
4 ما بين القوسين من المستصفى، وهي في الأصل: "صدق".
5 لفظ "والعمل" من المستصفى لتمام المعنى.
6 وهذا هو الوجه السادس، وإن لم يعنون له.
ج / 1 ص -239-
ذلك:
لوجد الأمر به في المستقبل؛ كيلا يكون خلفًا في الكلام.
وإنما عبر بالمستقبل عن الماضي، كما قال:
{إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَان}1، و{إِنِّي
أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا}2.
أي: قد رأيت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة يوسف من الآية: 43.
2 سورة يوسف من الآية: 36.
قال الطوفي -ردًّا على هذا الوجه-: "قلنا: الجواب من
وجهين:
أحدهما: لا نسلم أن المراد به المستقبل، بل معنى قوله:
{مَا تُؤْمَرُ}
افعل ما أمرت به، وضعا للمضارع موضع الماضي، وهو كثير في
اللغة.
الوجه الثاني: أن معنى قوله:
{افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ}
أي: ما تؤمر به في الحال، استصحابًا لحال الأمر الماضى.
وبيان ذلك: أن كل مأمور بفعل، فالأمر به متوجه إليه ما لم
يفعله، استصحابًا لحال الأمر في آخر الوقت، فإبراهيم -عليه
السلام- لما أمر في الليل بذبح ولده، ثم أصبح فأخبر ولده
بذلك، فهو في حال إخباره ولده مأمور بما أمر به في الليل،
بذبح ولده، لأن الأمر لم يسقط عنه بعد، فأمره بالذبح في
الماضي مستصحب إلى حال إخباره ولده، وقوله:
{مَا
تُؤْمَرُ} أي: ما أنت مأمور به في الحال، بناء على استصحاب الأمر الماضي،
والفعل المضارع يصلح للحال والاستقبال، وهو في الحال أظهر.
وإذا حملنا قوله:
{افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} على
الحال، عملًا بظاهر لفظه، وبما ذكرناه من دليلنا، فلا
استقبال فيه، وحينئذ يبطل قولكم: "إنه أخبر أنه سيؤمر
بذبحه في المستقبل".
ثم قال: ولو صح ما ذكرتموه من أن المراد به: سيؤمر بذبحه
في المستقبل، إلا أنه أُمر به في الماضي، لما احتاج إلى
الفداء؛ لأن الفداء يكون عن ترك مأمور وعلى قولكم: هو إلى
الآن لم يؤمر بشيء، فضلًا عن أن يكون قد أُمر وترك،
وأيضًا: لو صح ذلك لأمر به في المستقبل، لئلا يقع الخلف في
خبر المعصوم، فلما لم يقع، دل على بطلان ما تأولوه" شرح
مختصر الروضة "2/ 287، 288".
ج / 1 ص -240-
وقال
الشاعر1:
وإذا تكونُ كريهةً أُدْعَى لَها
وَإذَا يُحاس الحيسُ يُدعى جُندب
وقولهم: "إنه يفضي إلى
أن يكون الشيء مأمورًا منهيًّا" فلا يمتنع أن يكون مأمورا
من وجه، منهيا عنه من وجه آخر، كما يؤمر بالصلاة مع
الطهارة وينهى عنها مع الحدث.
كذا ههنا: يجوز أن يجعل بقاء حكمه شرطا في الأمر، فيقال:
"افعل ما آمرك به، إن لم يزل حكم أمرنا عنك بالنهي".
فإن قيل:
فإذا علم الله -سبحانه- أنه سيُنهى عنه: فما معنى أمره
بالشرط الذي يعلم انتفاءه قطعًا؟
قلنا: يصح إذا كان عاقبة الأمر ملتبسة على المأمور،
لامتحانه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الشاعر هو: ضمرة بن ضمر بن جابر النهشلي، من بني دارم،
شاعر جاهلي، من الشجعان الرؤساء، كان يقال له: "شقة بن
ضمرة" فسماه النعمان "ضمرة" الأعلام "3/ 311".
والبيت من قصيدة له يشكو فيها من أهله أنهم يقدمون عليه
أخًا له يسمى "جندبًا" مع أنه كان أبرّ بهم منه.
والحيس: تمر ينزع نواه ويدق مع أقط ويعجنان بالسمن، ثم
يدلك باليد حتى يبقى كالثريد، وربما جعل معه سويق، وهو
مصدر في الأصل، يقال: حاس الرجل حيسًا، من باب باع، إذا
اتخذ ذلك. المصباح المنير "1/ 159".
ومعنى البيت: أنه إذا ألم بهم مكروه دعوا ضمرة لينقذهم
منه، فإذا جاء موعد الطعام والأكل: دعوا أخاه جندبًا.
ومحل الشاهد من البيت: أنه عبر بالمستقبل عن الماضي.
ج / 1 ص -241-
بالعزم، والاشتغال بالاستعداد المانع له من أنواع اللهو
والفساد، وربما يكون فيه لطيفة واستصلاح لخلقه.
ولهذا جوّزوا الوعد والوعيد بالشرط من العالم بعاقبة
الأمور فقالوا: يجوز أن يَعِدَ الله -سبحانه- على الطاعة
ثوابًا بشرط عدم ما يحبطها، وعلى المعصية عقابا بشرط عدم
ما يكفرها من التوبة، والله -سبحانه- عالم بعاقبة أمره.
جواب ثان:
أنه يجوز أن يكون الشيء مأمورًا منهيًّا في حالين؛ إذ ليس
المأمور حسنًا في عينه لوصف هو عليه قبل الأمر به، ولا
المأمور مرادًا ليتناقض ذلك.
وقولهم: "إن الكلام قديم، فيكون أمرًا بالشيء ونهيًا عنه
في حال واحد".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة هذا الرد من وجهين:
الوجه الأول: أن المعتزلة ينكرون ثبوت الأمر بالشرط، مع
أنهم يجوّزون الوعد بالشرط من العالم بعواقب الأمور
فقالوا: يجوز أن يعد الله -تعالى- بالثواب على الطاعة بشرط
عدم وجود ما يحبطها كالردة، كما يجوز أن يوعد بالعقاب على
المعصية بشرط عدم وجود ما يكفرها من التوبة، مع أن الله
-تعالى- عالم بعاقبة أمر من يموت على الردة أو التوبة.
فإذا جاز ذلك عندكم فلا معنى للاعتراض.
الوجه الثاني: ما تقدم أكثر من مرة، من أنه لا مانع أن
يكون الشيء مأمورًا به في وقت، ومنهيًّا عنه في وقت آخر.
وقوله: "إذ ليس المأمور حسنًا في عينه الخ" إشارة إلى ما
يعتقده المعتزلة من أن حسن الأشياء وقبحها ذاتي لا ينفك
عنها، وهذا التفسير هو الذي يترتب عليه التناقض، أما أهل
السنة: فيرون أن حسن الأشياء وقبحها تابع لصفات قائمة
بالمأمور، وليست ذاتية.
ج / 1 ص -242-
قلنا:
يتصور الامتحان به إذا سمعه المكلف في وقتين، ولذلك
اشترطنا التراخي في النسخ، ولو سمعهما في وقت واحد لم يجز.
فأما جبريل: فيجوز أن يسمعهما في وقت واحد، ويؤمر بتبليغ
الأمة في وقتين1؛ فيأمرهم بمسالمة الكفار مطلقًا،
وباستقبال بيت المقدس، ثم ينهاهم عنه بعد ذلك. والله
سبحانه أعلم.
فصل: [هل الزيادة على النص نسخ؟]
والزيادة على النص ليست بنسخ2.
وهي على ثلاث مراتب:
أحدهما: أن لا تتعلق الزيادة بالمزيد عليه، كما إذا أوجب
الصلاة، ثم أوجب الصوم.
فلا نعلم فيه خلافًا، لأن النسخ: رفع الحكم وتبديله، ولم
يتغير حكم المزيد عليه، بل بقي وجوبه وإجزاؤه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لأنه -عليه السلام- ليس داخلًا في التكليف، بل هو مكلف
بالتبليغ فقط.
2 معنى كلام المصنف: أن الزيادة على النص ليست بنسخ في
جميع المراتب التي سيذكرها، وأن النوع الأول -على ما
سيأتي- ليس فيه خلاف، والمرتبتان الأخيرتان فيهما خلاف،
إلا أن المصنف حسم المسألة -من وجهة نظره- مبدئيًّا....
قال الطوفي -مبينًا محل الاتفاق ومحل الخلاف-: "الزيادة
على النص إما أن لا تتعلق بحكم النص أصلًا، أو تتعلق به،
فإن لم تتعلق به، فليست نسخًا له إجماعًا، وذلك كزيادة
إيجاب الصوم، بعد إيجاب الصلاة، فإنه ليس نسخًا لإيجاب
الصلاة بالإجماع.
ج / 1 ص -243-
الرتبة
الثانية:
أن تتعلق الزيادة بالمزيد عليه تعلّقًا ما، على وجه لا
يكون شرطًا فيه، كزيادة التغريب على الجلد في الحد1،
وعشرين سوطًا على الثمانين في حد القذف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وإن تعلقت الزيادة بحكم النص المزيد عليه، فتلك الزيادة
إما جزء له، أو شرط، أو لا جزء ولا شرط:
مثال كونها جزءًا له: زيادة ركعة في الصبح، أو عشرين سوطًا
في حد القذف، فتصير الصبح ثلاث ركعات، والركعة الثالثة جزء
منها، وحد القذف مائة سوط، والعشرون الزائدة جزء منها.
ومثال كونها شرطًا: نية الطهارة، هي شرط لها، وقد زيدت
بالحديث والاستدلال على باقي آية الوضوء من أفعاله، بناء
على أن النية ليست مستفادة من الآية، على خلاف فيه.
ومثال كون الزيادة لا جزءًا ولا شرطًا: التغريب على الجلد
في زنى البكر، إذ الجلد لا يتوقف على التغريب توقف الكل
على جزئه، ولا توقف المشروط على شرطه، وليس شيء من ذلك
نسخًا عندنا، خلافًا للحنفية.
وحكى الآمدي عن القاضي عبد الجبار، والغزالي، في المثالين،
أنهما وافقا الحنفية في أنه نسخ". شرح المختصر "2/
291-292".
1 يقصد بذلك: حد الزاني غير المحصن، فإن قوله تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِائَةَ جَلْدَةٍ...}
يفيد أن هذا هو الحد فقط، ثم زيد على هذا النص تغريب عام
بما رواه مسلم: في كتاب الحدود، باب حد الزنا، وأبو داود،
والترمذي، وابن ماجه، والدارمي، وأحمد في مسنده "3/ 476"
من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- مرفوعًا أن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "خذوا عني، خذوا عني، قد
جعل الله لهن سبيلًا: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام،
والثيب بالثيب جلد مائة والرجم".
أما زيادة عشرين سوطًا في حد القذف، فهو مثال افتراضي
كمثال زيادة ركعة في صلاة الصبح. =
ج / 1 ص -244-
فذهب
أبو حنيفة إلى أنه نسخ؛ لأن الجلد كان هو: الحد كاملًا،
يجوز الاقتصار عليه، ويتعلق به التفسيق، ورد الشهادة، وقد
ارتفعت هذه الأحكام بالزيادة.
ولنا:
أن النسخ: هو رفع حكم الخطاب، وحكم الخطاب بالحد: وجوبه
وإجزاؤه على نفسه، وهو باق، وإنما انضم إليه الأمر بشيء
آخر فوجب الإتيان به، فأشبه الأمر بالصيام بعد الصلاة.
فأما صفة الكمال: فليس هو حكمًا مقصودًا شرعيًّا، بل
المقصود: الوجوب والإجزاء، وهما باقيان.
ولهذا لو أوجب الشرع الصلاة -فقط- كانت كلية ما أوجبه الله
وكماله، فإذا أوجب الصوم، خرجت الصلاة عن كونها كلية1
الواجب، وليس بنسخ اتفاقا2.
وأما الاقتصار عليه: فليس هو مستفادا من منطوق اللفظ؛ لأن
وجوب الحد لا ينفي وجوب غيره.
وإنما يستفاد من المفهوم، ولا يقولون به3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قال الشيخ ابن قدامة في المغني "12/ 386": "وحد القذف
ثمانون، إذا كان القاذف حرًّا، للآية، والإجماع، رجلًا كان
أو امرأة...".
1 في الأصل: "كل" وما أثبتناه من المستصفى.
2 خلاصة هذا الدليل: أن النسخ عبارة عن: رفع الحكم الثابت
بالخطاب، والحكم ههنا باق لم يرتفع، وإنما زيد عليه شيء
آخر، والزيادة عليه لا تقتضي رفعه، فثبت أن الزيادة ليست
نسخًا، انظر: شرح المختصر "2/ 292".
3 هذا رد لقول الحنفية: إن الجلد كان هو الحد فقط، فيجوز
الاقتصار عليه.
فأجاب المصنف: بأن دعواكم هذه ليست مستفادة من منطوق
اللفظ، وإنما هو =
ج / 1 ص -245-
ثم رفع
المفهوم كتخصيص العموم، فإنه رفع بعض مقتضى اللفظ، فيجوز
بخبر الواحد.
ثم إنما يستقيم هذا: أن لو ثبت حكم المفهوم واستقر، ثم ورد
التغريب بعده، ولا سبيل إلى معرفته، بل لعلة وردتنا
بالإسقاط المفهوم متصلًا به أو قريبًا منه1.
وأما التفسيق، ورد الشهادة، فإنما يتعلق بالقذف، لا بالحد.
ثم لو سلّم بتعلقه بالحد: فهو تابع غير مقصود، فصار كحل
النكاح بعد العدة، ثم تصرف الشرع في العدة بردها من حول
إلى أربعة أشهر وعشر، ليس تصرفًا في حل النكاح، بل في نفس
العدة2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مستفادة من المفهوم، وأنتم لا تقولون به، فإنكم لا
تعتبرون دلالة المفهوم حجة.
1 هذا رد آخر من المصنف على عدم تسليم المدعي، حاصله: أن
ما ذكره الحنفية من أن الحد كان الجلد فقط، والتغريب زيادة
عليه فكانت نسخًا، قولهم هذا غير مستقيم؛ إلا إذا علم أن
الحكم كان قد استقر وثبت، ثم جاءت الزيادة بعد ذلك، لأنه
من المتفق عليه بيننا وبينهم أن من شرط النسخ أن يتأخر
الناسخ عن المنسوخ، وهنا لم يتحقق هذا الشرط، لاحتمال أن
يكون التغريب جاء بيانًا من الرسول -صلى الله عليه وسلم-
مقارنًا للآية، أو بعدها بقليل، وهذا يجعله خارجًا عن
النسخ.
2 توضيح ذلك: أن الحنفية قالوا -في دليلهم السابق-: "إن
الجلد قبل زيادة التغريب كان حدًّا كاملًا مستقلًّا بعقوبة
الزاني، يتعلق به أن المحدود صار فاسقًا لا تقبل شهادته،
وبعد زيادة التغريب لم يبقَ حدًّا تامًّا مستقلًّا صالحًا
لتعلق الأحكام به، بل جزءًا أولًا للحد، والتغريب جزءًا
ثانيًا له، فارتفعت الأحكام التي أنيطت بالجزء الأول
واستقرت بتمام الجزئين، وهذا هو معنى النسخ.
فأجاب المصنف عن ذلك: بأن التفسيق ورد الشهادة لا يتعلقان
بالحد، وإنما بالقذف، ومع التسليم بذلك، فهما تابعان وليسا
مقصودين أصليين، شأنهما شأن حل النكاح بعد عدة الوفاة.
ج / 1 ص -246-
فإن
قيل: قوله تعالى:
{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم}1 يقتضي أن لا يحكم بأقل منهما، والحكم بشاهد ويمين2 نسخ له.
قلنا: هذا إنما استفيد من مفهوم اللفظ، وقد أجبنا عنه3.
الرتبة الثالثة:
أن تتعلق الزيادة بالمزيد عليه تعلق الشرط بالمشروط، بحيث
يكون المزيد عليه وعدمه واحدًا، كزيادة النية في الطهارة،
وركعة في الصلاة فذهب بعض من وافق في الرتبة الثانية إلى
أن الزيادة ههنا نسخ؛ إذ كان حكم المزيد عليه: الإجزاء
والصحة، وقد ارتفع4.
وليس بصحيح؛ لأن النسخ: رفع حكم الخطاب بمجموعه، والخطاب
اقتضى: الوجوب والإجزاء، والوجوب باقٍ بحاله، وإنما ارتفع
الإجزاء، وهو بعض ما اقتضى اللفظ، فهو كرفع المفهوم،
وتخصيص العموم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة من الآية: 282.
2 يشير إلى الحديث الذي رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- أن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "قضى بيمن وشاهد". أخرجه
مسلم: كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد، وأبو
داود: كتاب الأقضية، باب القضاء باليمين والشاهد وابن
ماجه: كتاب الأحكام، باب القضاء بالشاهد واليمين،
والشافعي: كتاب القضاء والشهادات، باب القضاء باليمين مع
الشاهد.
3 وهو أن الحنفية لا يرون حجية دلالة المفهوم.
4 ظاهر العبارة أن بعض العلماء الذين يرون أن الزيادة على
النص ليست نسخًا في المرتبة الثانية انضموا في المرتبة
الثالثة إلى الحنفية فقالوا: إنها تعتبر نسخًا، ولذلك جاء
في بعض النسخ "فذهب بعض الشافعية إلى أن الزيادة ههنا
نسخ".
ويؤيد هذا التفسير قول المصنف -بعد ذلك-: "ثم لا يصح هذا
من أصحاب الشافعي؛ فإنهم اشترطوا النية للطهارة، والطهارة
للطواف بالسنة، وأصلها ثابت بالكتاب".
ج / 1 ص -247-
ثم
إنما يستقيم أن لو ثبت الإجزاء واستقر، ثم وردت الزيادة
بعده ولم يثبت.
بل ثبوت الزيادة بالقياس المقارن للفظ، أو لخبر يحتمل أن
يكون متصلًا بيانًا للشرط، فلا معنى لدعوى استقراره
بالتحكم1.
ثم لا يصح هذا من أصحاب الشافعي؛ فإنهم اشترطوا النية
للطهارة2، والطهارة للطواف3 بالسنة، وأصلها ثابت بالكتاب.
فإن قيل:
فالطهارة المنْوية غير الطهارة بلا نية، وإنما هي نوع آخر،
فاشتراط النية يوجب رفع الأولى بالكلية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة ذلك: أن دعوى النسخ تستقيم أن لو ثبت الحكم
واستقر، ثم جاءت الزيادة متأخرة عنه، لأن من شروط النسخ
تأخر الناسخ عن المنسوخ، وهذا غير مسلم، فإن الزيادة إما
أن تكون ثابتة بقياس مقارن لنزول اللفظ، أو بخبر متصل به
-أيضًا- فدعوى استقرار الحكم تحكم لا دليل عليه.
2 للحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري: في باب كيف كان بدء
الوحي، وفي كتاب العتق، باب الخطأ والنسيان في العتاق
والطلاق، وفي كتاب الإيمان، باب النية في الإيمان، عن عمر
بن الخطاب -رضي الله عنه- مرفوعًا، أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- قال:
"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى..".
كذلك أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب قوله -صلى الله عليه
وسلم-:
"إنما الأعمال بالنية" وأبو داود وابن ماجه والترمذي والنسائي وغيرهم.
3 للحديث الذي أخرجه البيهقي والحاكم وابن حبان والدارمي
عن ابن عباس مرفوعًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
"الطواف بالبيت صلاة، إلا أن الله أباح فيه الكلام"
وفي رواية:
"الطواف حول البيت مثل الصلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن
تكلم فيه فلا يتكلمن إلا بخير" وله طرق أخرى كثيرة.
انظر: فيض القدير "4/ 293"، التلخيص الحبير "1/ 129".
ج / 1 ص -248-
قلنا:
هذا باطل؛ فإنها لو كانت غيرها: لوجب أن لا تصح الطهارة
المنوية، عند من لا يوجب النية؛ لكونها غير مأمور بها1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة ذلك: أن المنسوخ هل يشترط أن يكون مقصودًا بالرفع
أو لا؟
فإن اشترط أن يكون مقصودًا، لم يكن رفع استقلال المزيد
عليه بالحكم نسخًا، لأنه حاصل بالاقتضاء الضروري.
وإن لم يشترط ذلك، بل يكفي في المنسوخ أن يكون مرتفعًا
بالقصد أو الاقتضاء الضروري، كان رفع الاستقلال نسخًا.
انظر: نزهة الخاطر العاطر "1/ 214".
فصل: [في نسخ جزء العبادة أو شرطها]
ونسخ جزء العبادة المتصل بها، أو شرطها، ليس بنسخ لجملتها.
وقال المخالفون في المرتبة الثانية من الزيادة: هو نسخ1،
لأن الركعات الأربع غير الركعتين وزيادة، بدليل: ما لو أتى
بصلاة الصبح أربعًا فإنها لا تصح.
ولأن الركعتين كانتا لا تجزئان، فصارتا مجزئتين، وهذا
تغيير وتبديل.
وليس بصحيح؛ لأن الرفع والإزالة إنما يتناول الجزء والشرط
خاصة، وما سوى ذلك باق بحالة، فهو كالصلاة، كانت إلى بيت
المقدس، ثم نسخ ذلك إلى الكعبة فلم يكن نسخًا للصلاة.
وقولهم: "هي غيرها" قد سبق جوابه2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جاء في شرح الكوكب المنير "3/ 584" بيان لهؤلاء
المخالفين حيث قال: "وعن بعض المتكلمين والغزالي، وحكى عن
الحنفية: أنه نسخ لأصل العبادة".
2 وهو قوله في الرد على المخالفين في الرتبة الثالثة:
"وليس بصحيح؛ لأن النسخ =
ج / 1 ص -249-
وإنما
لا تصح الصبح إذا صلاها أربعًا؛ لإخلاله بالسلام والتشهد
في موضعه.
وقولهم: "كانت مجزئة" معناه: أن وجودها كعدمها، وهذا حكم
عقلي ليس من الشرع، والنسخ: رفع ما ثبت بالشرع.
وكذلك وجوب العبادة مزيل لحكم العقل في براءة الذمة، وليس
بنسخ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رفع حكم الخطاب بمجموعه.." ومعناه: أن الرفع إنما تناول
الجزء والشرط فقط، وما سوى ذلك من العبادة باق على حاله،
فهو من باب التخصيص وليس من النسخ.
فصل: [في جواز نسخ العبادة إلى غير بدل]
يجوز نسخ العبادة إلى غير بدل1.
وقيل: لا يجوز2، لقوله تعالى:
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا....}3.
ولنا أنه متصور عقلًا، وقد قام دليله شرعًا:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو رأي الجمهور.
2 وهو مروي عن أكثر المعتزلة، وبعض أهل الظاهر، كما أنه
رأي الإمام الشافعي، حيث قال في الرسالة ص109: "وليس ينسخ
فرض أبدًا، إلا أثبت مكانه فرض، كما نسخت قبلة بيت المقدس،
فأثبت مكانها الكعبة".
3 سورة البقرة من الآية: 106.
ج / 1 ص -250-
أما
العقل:
فإن حقيقة النسخ: الرفع والإزالة، ويمكن الرفع من غير بدل.
ولا يمتنع أن يعلم الله -تعالى- المصلحة في رفع الحكم،
وردّهم إلى ما كان من الحكم الأصلي1.
وأما الشرع:
فإن الله -سبحانه- نسخ النهي عن ادّخار لحوم الأضاحي2،
وتقديم الصدقة أمام المناجاة3 إلى غير بدل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وضح ذلك الشيخ الطوفي -رحمه الله تعالى- فقال: "لنا:
الرفع لا يستلزم البدل إلى آخره. هذا دليل الجواز وهو من
وجهين:
أحدهما: أن النسخ رفع الحكم، والرفع لا يستلزم البدل، بل
يمكن وجوده بدون بدل، واعتبر ذلك بالمحسوسات، فإنه ليس من
ضرورة رفع الحجر من مكانه أنه يضع مكانه غيره، بل ذلك على
الجواز، وكذلك وقع النسخ في الشريعة، تارة إلى البدل،
وتارة لا إلى بدل.
وأيضًا: لا يمتنع أن يعلم الله تعالى مصلحة المكلف في نسخ
الحكم عنه لا إلى بدل، ورده إلى ما قبل الشرع من إباحة أو
حظر أو وقف على ما سبق من الخلاف.. "شرح المختصر "2/
296-297".
2 النهي عن ادّخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث روي عن عائشة
وعلي وغيرهما مرفوعًا بألفاظ متقاربة، أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- قال:
"كنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحي، فكلوا وادّخروا ما شئتم" وهو حديث
صحيح أخرجه البخاري في صحيحه حديث "5423"، "5438"، "5570"،
"6687"، ومسلم "1971" وأبو داود "3812" والترمذي "1511"
والنسائي "7/ 235" ومالك في الموطأ "2/ 484" وأحمد في
المسند "6/ 51" وانظر: فيض القدير "5/ 45 وما بعدها".
3 جاء في كتاب التفسير عن ابن عباس وقتادة: أن قوما من
شباب المؤمنين كثرت =
ج / 1 ص -251-
فأما
الآية: فإنها وردت في التلاوة، وليس للحكم فيه ذكر.
على أنه يجوز أن يكون رفعها خيرًا منها في الوقت الثاني؛
لكونها لو وجدت فيه كانت مفسدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مناجاتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- في غير حاجة، إلا
لتظهر منزلتهم، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
سمْحًا لا يرد أحدًا، فنزل قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ
فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً...} [المجادلة: 12] ثم نسخ ذلك بالآية التي بعدها.
روى الحاكم في المستدرك "2/ 481، 482" عن علي -رضي الله
عنه- قال: "إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا
يعمل بها أحد بعدي، آية النجوى... قال: كان عندي دينار،
فبعته بعشرة دراهم، فناجيت النبي -صلى الله عليه وسلم-
فكنت كلما ناجيت النبي -صلى الله عليه وسلم- قدمت بين يدي
نجواي دراهمًا، ثم نسخت، فلم يعمل بها أحد، فنزلت:
{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ
صَدَقَاتٍ...}
الآية.
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
انظر: الدر المنثور "6/ 158" تفسير ابن كثير "4/ 327".
فصل: [في النسخ
بالأخف والأثقل]
يجوز النسخ بالأخف والأثقل1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا أطلق المصنف الكلام في المسألة، لكن ينبغي تحديد
محل النزاع، وقد بينه الأصفهاني في بيان المختصر "2/ 523"
فقال: "القائلون بجواز النسخ اتفقوا على جواز النسخ ببدل
أخف، مثل: نسخ تحريم الأكل بعد النوم في ليلة رمضان، ببدل
حله، وهو الأخف.
وببدل مساو، مثل: نسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس، بوجوب
التوجه إلى الكعبة.
واختلفوا في جواز النسخ ببدل أثقل:
فذهب الجمهور إلى جوازه، وذهب بعض الشافعية إلى عدم
جوازه".
ج / 1 ص -252-
وأنكر
بعض أهل الظاهر جواز النسخ بالأثقل1، لقوله تعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ...}2.
وقال:
{الْآنَ
خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُم...}3،
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ...}4.
ولأن الله -تعالى- رءوف، فلا يليق به التثقيل والتشديد5.
ولنا:
أنه لا يمتنع لذاته.
ولا يمتنع أن تكون المصلحة في التدريج والترقي من الأخف
إلى الأثقل، كما في ابتداء التكليف6.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: الإحكام لابن حزم "4/ 466".
2 سورة البقرة من الآية: 185.
3 سورة الأنفال من الآية: 66.
4 سورة النساء من الآية: 28.
5 هذا هو الدليل الثاني للمانعين خلاصته: أن النسخ إلى
الأثقل تشديد على المكلف، وذلك لا يليق برأفة الله -عز
وجل- ورحمته، لأن شأنه التسهيل على خلقه، لا التشديد
عليهم.
والدليل الأول: النصوص الدالة على التخفيف والتيسير، وهي:
الآيات التي أوردها المصنف.
6 بدأ المصنف يستدل لمذهب الجمهور، وقد أورد دليلين،
أحدهما: دليل عقلي، والثاني دليل شرعي بوقوع مثل ذلك في
صور كثيرة سيذكرها.
وخلاصة الدليل الأول: أن امتناع ذلك إما أن يكون عقلًا أو
شرعًا، فإن كان شرعًا فسيأتي الرد عليه من الوقوع في كثير
من الأحكام الشرعية، والوقوع دليل الجواز وزيادة.
وأما إن كان عقلًا، فلا يمتنع لذاته، لأنه لو قدر وقوعه لم
يلزم منه محال =
ج / 1 ص -253-
وقد
نسخ التخيير بين الفدية والصيام، بتعين الصيام1، وجواز
تأخير الصلاة حالة الخوف إلى وجوب الإتيان بها2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= لذاته بدليل أنه قد وقع -كما سيأتي- ولم يلزم منه، فدل
على أنه لا يمتنع لذاته، أي لكونه نسخًا من الأخف إلى
الأثقل، وإنما قلنا: أنه لا يمتنع؛ لأنه يتضمن مصلحة
عظيمة، وهي: تدرج المكلف من الأخف إلى الأثقل، فيسهل عليه
الامتثال، والتدرج في التشريع من أهم الخصائص التي تميز
بها التشريع الإسلامي، لأن الناس لو أخذوا بالأحكام دفعة
واحدة لأدى ذلك إلى نفرتهم من الإسلام، خاصة في الأمور
التي ألفوها وشبوا عليها.
فالحاصل: أن النسخ من الأخف إلى الأثقل، لا يعتبر مستحيلًا
لذاته، ولا لغيره. فضلًا عن الأدلة الشرعية التي وقعت، وهي
خير دليل على ذلك -كما سيأتي-.
1 التخيير بين الفدية والصيام كان ثابتًا بقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ...} [البقرة: 184] وقد نسخ ذلك بقوله تعالى:
{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]. وقد قدم الكلام على الآثار الواردة في ذلك.
2 جاء في تفسير ابن كثير "1/ 519" "أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- أخر صلاة الظهر والعصر يوم الأحزاب فصلاهما بعد
الغروب، ثم صلى بعدهما المغرب والعشاء".
كما روى البخاري ومسلم وغيرهما أن النبي -صلى الله عليه
وسلم- لما رجع من الأحزاب قال:
"لا يصلين أحد
العصر إلا في بني قريظة" فأدرك
بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها،
وقال بعضهم: بلى نصلي، لم يرد ذلك منا، فذكر ذلك للنبي
-صلى الله عليه وسلم- فلم يعنف واحدًا منهم. انظر: نيل
الأوطار "3/ 368" طبعة الحلبي.
فلما نزل قوله تعالى:
{فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا...} [البقرة: 239] نسخ تأخير الصلاة، وصلوا على أي حال، ثم جاء بيان
كيفية الخوف في قوله تعالى:
{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ
فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ
وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا
فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ
وَأَسْلِحَتَهُمْ}
[النساء: 102].
ج / 1 ص -254-
وحرم
الخمر1، ونكاح المتعة، والحمر الأهلية2.
وأمر الصحابة بترك القتال والإعراض عنه، ثم نسخ بإيجاب
الجهاد3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تحريم الخمر أخذ أطوارًا متعددة حتى حرم تحريمًا
نهائيًّا، بقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
[المائدة: 90] وإن كان بعض العلماء يرى أن التدرج في
التشريع لا يعتبر نسخًا.
2 النهي عن النكاح صحت فيه الأحاديث براويات مخلتفة، منها:
ما أخرجه مسلم: باب نكاح المتعة وبيان أنه أبيح، وأبو
داود: كتاب النكاح، باب نكاح المتعة، والنسائي: كتاب
النكاح، باب تحريم المتعة، وأحمد في المسند "3/ 404، 405"
وابن ماجه: كتاب النكاح، باب في نكاح المتعة، أن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- قال:
"يا أيها الناس، إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع، ألا وإن الله قد حرمها
إلى يوم القيامة".
وأخرج مالك في الموطأ: كتاب النكاح، باب في نكاح المتعة،
عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر
الأهلية.
كما أخرجه البخاري: في باب غزوة خيبر، من كتاب المغازي،
وفي باب نهي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نكاح
المتعة آخرًا، من كتاب النكاح، وفي باب لحوم الحمر
الإنسية، من كتاب الذبائح، ومسلم، في باب نكاح المتعة، وفي
باب تحريم أكل لحم الحمر الإنسية من كتاب الصيد، والترمذي:
باب ما جاء في تحريم نكاح المتعة، والنسائي: كتاب النكاح،
باب تحريم المتعة، وفي باب: تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية،
من كتاب الصيد.
كما رواه ابن ماجه، والدارمي، وأحمد في المسند "1/ 79".
3 معناه: أن القتال كان ممنوعًا منه في أول الإسلام بآيات
كثيرة منها: قوله تعالى:
{فَأَعْرِضْ
عَنْهُمْ...} [النساء: 81]
{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ...}
[النساء: 13]،
{فَاعْفُوا
وَاصْفَحُوا} [البقرة: 109] ثم نسخ ذلك بمشروعية القتال ونزل في ذلك =
ج / 1 ص -255-
والآيات التي احتجوا بها وردت في صور خاصة أريد بها
التخفيف، وليس فيه منع إرادة التثقيل1.
وقولهم: "إن الله رءوف" فلا يمنع من التكليف بالأثقل، كما
في التكليف ابتداء، وتسليط المرض والفقر وأنواع العذاب
لمصالح يعلمها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قوله تعالى:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا...} [التوبة: 14] وقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التحريم: 9] ومثل ذلك كثير، ولا شك أن وجوب القتال أثقل من تركه،
ولذلك يقول -جل شأنه-
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ...} [البقرة: 216].
1 بدأ المصنف يرد على الأدلة التي استدل بها المخالفون،
فبين أن الآيات التي وردت في التيسير والتخفيف في صور خاصة
تقتضي ذلك، وليست عامة حتى يحتج بها في منع النسخ إلى
الأثقل:
فقوله تعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْر}
وردت في سياق تخفيف الصوم عن المريض والمسافر، فاللام في
"اليسر" و"العسر" وإن كانت محتملة للعموم والاستغراق، إلا
أنها محمولة على المعهود، وهو اليسر الحاصل بالإفطار
للمريض، والمسافر، والعسر الحاصل لهما بالصوم في حالة
المرض والسفر.
وقوله تعالى:
{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ...} وردت في سياق نكاح الأمة لمن لم يجد صداق الحرة، فلا تصلح أن تكون
دليلًا على ما ذكرتم.
كما رد على قولهم: "إن الله تعالى رءوف بعباده، فلا يليق
به التشديد" فقال: كونه -سبحانه- رءوفًا بعباده لا يمنع من
التكليف بالأثقل، فإن ذلك منقوض بابتداء التكليف، فإنه
تشديد، لمصالح العباد، وكذلك وقوع المرض، والفقر، وأنواع
الآلام، والمؤذيات على الخلق، كل ذلك تشديد، لكنه وقع،
لمصالح لا يعلمها إلا الله تعالى.
ج / 1 ص -256-
فصل: [في حكم من لم يبلغه النسخ]
إذا نزل الناسخ، فهل يكون نسخًا في حق من لم يبلغه؟
قال القاضي: ظاهر كلام أحمد -رحمه الله- أنه لا يكون
نسخًا؛ لأن أهل قباء بلغهم نسخ الصلاة، إلى بيت المقدس وهم
في الصلاة فاعتدوا بما مضى من صلاتهم1.
وقال أبو الخطاب: يتخرج أن يكون نسخا؛ بناء على قوله2 في
الوكيل: "ينعزل بعزل الموكل وإن لم يعلم"؛ لأن النسخ بنزول
الناسخ، لا بالعلم، إذ العلم لا تأثير له إلا في نفي
العذر، ولا يمتنع وجوب القضاء على المعذور كالحائض،
والنائم.
والقبلة يسقط استقبالها في حق المعذور، فلهذا لم يجب على
أهل قباء الإعادة3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قصة تحويل القبلة: أخرجها البخاري في كتاب الصلاة، باب
التوجه نحو القبلة حيث كان، ومسلم: كتاب المساجد، ومواضع
الصلاة، باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة، من حديث
البراء بن عازب وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهم جميعًا-
ولفظ ابن عمر قال: "بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ
جاءهم آت فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد أنزل
عليه الليلة، وقد أمر أن يستقبل الكعبة، وكانت وجوههم إلى
الشام، فاستداروا إلى الكعبة".
2 أي: على قول الإمام أحمد في انعزال الوكيل، إلا أنه
-رحمه الله تعالى- رويت عنه رواية أخرى أنه لا ينعزل،
وتصرفاته نافذة، كما في المغني "7/ 234" ويرد على هذا
التنظير: أن مسألة الوكيل فرع فقهي، فلا يكون أصلًا يقاس
عليه، لأنه يلزم عليه الدور، حيث يكون الفرع متوقفًا على
الأصل، والأصل متوقفًا على الفرع.
3 هذا رد من أبي الخطاب على أصحاب المذهب الأول.
ج / 1 ص -257-
وقال
من نصر الأول1: النسخ بالناسخ، لكن العلم شرط؛ لأن الناسخ
خطاب، ولا يكون خطابًا في حق من لم يبلغه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا جواب عن دليل ابن الخطاب.
فصل: [في وجوه
النسخ بين القرآن والسنّة]
يجوز نسخ القرآن بالقرآن.
والسنة المتواترة بمثلها.
والآحاد بالآحاد2.
والسنة بالقرآن، كما نسخ التوجه إلى بيت المقدس3 وتحريم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا جواب عن دليل ابن الخطاب.
2 خلاصة ذلك: أن نسخ القرآن بالقرآن، والسنة المتواترة
بالسنة المتواترة، والآحاد بالآحاد، هذه الوجوه الثلاثة لا
خلاف في وقوعها؛ لوجود التماثل بينها، فجاز أن يرفع بعضه
ببعض.
أما نسخ السنة بالقرآن: فالجمهور من العلماء على جوازه،
خلافًا للإمام الشافعي فعنه في المسألة روايتان.
قال الآمدي في الإحكام "3/ 146": "هو جائز عقلًا، وواقع
سمعًا عند الأكثر من الأشاعرة والمعتزلة والفقهاء، وممتنع
في أحد قولي الشافعي".
3 بيانه: أن التوجه إلى بيت المقدس كان ثابتًا بالسنة،
فنسخ ذلك بقوله تعالى:
{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ...} [البقرة: 144] والوقوع دليل على الجواز وزيادة.
والسنة التي يشير إليها المصنف: هي ما جاء في صحيح البخاري
"1/ 82" حاشية السندي، ومسلم "1/ 374" تحقيق محمد فؤاد عبد
الباقي عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- "أن رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا،
أو سبعة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبلة البيت،
وإنه صلى =
ج / 1 ص -258-
المباشرة في ليالي رمضان1، وجواز تأخير الصلاة حالة الخوف
بالقرآن، وهو في السنّة1.
فأما نسخ القرآن بالسنة المتواترة:
فقال أحمد -رحمه الله-: لا ينسخ القرآن إلا قرآن يجيء
بعده3 قال القاضي: ظاهره أنه منع منه عقلًا وشرعًا4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أول صلة صلاها: صلاة العصر، وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن
كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون، فقال: أشهد
بالله لقد صليت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- قِبَل مكة،
فداروا كما هم قِبَل البيت..".
وروي مثله عن ابن عباس -رضي الله عنهما- "تفسير ابن كثير
1/ 180".
1 روى البخاري عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- قال: لما
نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان
رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله -تعالى-:
{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ
فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ
بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ
وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ
الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ...} [البقرة: 187] انظر: صحيح البخاري بحاشية السندي "1/ 103" أحكام
القرآن للجصاص "1/ 226"، فتح القدير للشوكاني "1/ 187".
2 فقد صح عنه -صلى الله عليه- أنه قال يوم الخندق، وقد أخر
الصلاة:
"حشا الله قبورهم نارًا". حديث صحيح أخرجه البخاري "1/ 168" بحاشية السندي، ومسلم "1/ 437".
وقد تقدم الكلام على مشروعية صلاة الخوف وعدم تأخير الصلاة
أثناء القتال.
3 وهو المنقول عن الإمام الشافعي في الرسالة ص106 وما
بعدها، كما أنه رأي أكثر الشافعية، وأكثر الظاهرية على ما
في الإحكام للآمدي "3/ 153" وانظر: شرح مختصر الطوفي "2/
320".
4 عبارة أبي يعلى في العدة "3/ 788": "لا يجوز نسخ القرآن
بالسنة شرعًا، ولم يوجد ذلك، نص عليه أحمد -رحمه الله- في
رواية الفضل بن زياد، وأبي الحارث، وقد سئل: هل تنسخ السنة
القرآن، فقال: لا ينسخ القرآن إلا قرآن =
ج / 1 ص -259-
وقال
أبو الخطاب وبعض الشافعية: يجوز ذلك1؛ لأن الكل من عند
الله، ولم يعتبر التجانس.
والعقل لا يحيله؛ فإن الناسخ -في الحقيقة- هو الله
-سبحانه- على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- بوحي غير
نظم القرآن.
وإن جوزنا له النسخ بالاجتهاد2، فالإذن في الاجتهاد من
الله -تعالى-.
وقد نسخت الوصية للوالدين والأقربين بقوله:
"لا وصية لوارث"3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يجيء بعده، والسنة تفسر القرآن، وبهذا قال الشافعي".
1 ونص عبارته في التمهيد "2/ 369": "فأما نسخ القرآن
بالسنة المتواترة: فقال شيخنا: لا يجوز ذلك شرعًا، ويجوز
عقلًا، إلا أن أحمد قال في رواية الفضل بن زياد وأبي
الحارث: لا ينسخ القرآن إلا قرآن يجيء بعده، والسنة تفسر
القرآن، فظاهره أنه منع من نسخه شرعًا وعقلًا وبه قال
الشافعي.
وقال أكثر الفقهاء، والحنفية، والمالكية، وعامة المتكلمين:
يجوز ذلك وهو الأقوى عندي.
وقد قال أحمد في رواية صالح فيما خرجه في الحبس: "بعث الله
نبيه وأنزل عليه كتابه، وجعل رسوله الدال على ما أراد من
ظاهره وباطنه، وخاصه وعامه، وناسخه ومنسوخه" وهذا يدل على
أنه ينسخه بقوله، إلا أن قوله ذلك لا يكون إلا صادرًا عن
الوحي، فيعلم به أن الله -تعالى- الناسخ على لسان نبيه".
وبذلك يظهر أن النقل عن الإمام أحمد مختلف، وعنه روايتان
في المسألة، والذي يرجحه أبو الخطاب الجواز، حيث قال: "وهو
الأقوى عندي" واعتبر أن الكل وحي من عند الله تعالى، وإن
كان القرآن وحيًا باللفظ والمعنى، والسنة وحيًا بالمعنى
دون اللفظ.
2 الضمير في "له" للنبي -صلى الله عليه وسلم- ومعناه: أن
ما كان منه -صلى الله عليه وسلم- عن اجتهاد فهو من الله
-تعالى- لأن الله قد أذن له فيه.
3 الوصية للوالدين والأقربين كانت واجبة بقوله تعالى في
سورة البقرة آية: 180: =
ج / 1 ص -260-
ونسخ
إمساك الزانية في البيوت1 بقوله: "قد جعل الله لهن سبيلًا
البكر بالبكر مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب الجلد
والرجم"2.
ولنا3: قول الله -تعالى-:
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِنْهَا}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{كُتِبَ
عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ
خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} وقد تقدم الكلام عليها وعلى الناسخ لها في فصل وجوه النسخ في
القرآن.
وأما حديث "لا وصية لوارث" فهو حديث صحيح روي من عدة طرق
مشهورة، جاء في بعضها:
"إن الله قد
أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث"
أخرجه أبو داود في كتاب الوصايا، باب ما جاء في الوصية
للوارث عن أبي أمامة الباهلي، والترمذي: كتاب الوصايا، باب
ما جاء لا وصية لوارث، كما أخرجه عن عمرو بن خارجة: ثم
قال: حديث حسن صحيح.
كما أخرجه ابن ماجه من حديث أبي أمامة وعمرو بن خارجة
أيضًا، وأخرجه النسائي عن عمرو بن خارجة.
وللحديث -كما قلت- طرق أخرى كثيرة، وهو وإن كان حديث آحاد،
إلا أن الأمة مجمعة على العمل به كما في الأحكام للآمدي
"3/ 217".
1 وهو قوله تعالى في سورة النساء الآية 15:
{وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ
فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ
شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى
يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
سَبِيلًا}.
2 الحديث أخرجه مسلم: كتاب الحدود، باب حد الزنا، وأبو
داود: كتاب الحدود، باب في الرجم، والترمذي: كتاب الحدود
باب في الرجم على الثيب، وابن ماجه: كتاب الحدود، باب حد
الزنا، وأحمد في المسند "3/ 476"، والشافعي: كتاب الحدود،
باب رجم الزاني المحصن وجلد البكر وتغريبه، من حديث عبادة
بن الصامت مرفوعًا وأوله: "خذوا عني، خذوا عني..." إلى آخر الحديث.
3 بدأ المصنف يورد الأدلة على أن السنة لا تنسخ القرآن.
ج / 1 ص -261-
أَوْ مِثْلِهَا..}
والسنة لا تساوي القرآن، ولا تكون خيرًا منه.
وقد روى الدارقطني2 في سننه عن جابر3 أن النبي -صلى الله
عليه وسلم- قال: "القرآن ينسخ حديثي، وحديثي لا ينسخ
القرآن"4.
ولأنه لا يجوز نسخ تلاوة القرآن وألفاظه بالسنة، فكذلك
حكمه5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة البقرة من الآية: 106.
2 هو: الإمام الحافظ: علي بن عمر بن أحمد بن مهدي أبو
الحسن البغدادي، روى عن البغوي وغيره، كما روى عنه الحاكم
وأبو حامد الإسفراييني، من مؤلفاته "السنن" و"العلل" ولد
سنة 306هـ وتوفي سنة 385هـ. "تذكرة الحفاظ 3/ 558، شذرات
الذهب 3/ 116".
3 هو: الصحابي الجليل: جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام
بن كعب الأنصاري السلمي، كان من علماء الصحابة، وشهد معظم
المشاهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- توفي سنة 70هـ
وقيل: سنة 77هـ. "الإصابة 1/ 434".
4 أخرجه الدارقطني في نوادره "4/ 145". قال الذهبي عنه:
"إنه موضوع، آفته جبرون بن واقد "أحد رواته" فإنه متهم
وليس بثقة، فكيف يكزن خبره نصًّا في المسألة.
كما أن فيه محمد بن داود القنطري، وهو متهم أيضًا.
انظر: "الميزان للذهبي 1/ 388".
قال الطوفي: "وأما الحديث فلا تقوم الحجة بمثله ههنا؛ لأنه
أصل كبير، ومثله لا يخفى في العادة، لتوفر الدواعي على نقل
ما كان كذلك عادة، فلو ثبت لاشتهر، ثم لم يخالفه أحد من
العلماء لشهرته ودلالته.
سلمنا صحته، لكنه ليس نصًّا في محل النزاع، بل هو ظاهر؛
لأن لفظه عام، ودلالة العام ظاهرة، لا قاطعة، فيحمل على أن
خبر الواحد لا ينسخ القرآن، يبقى المتواتر، لا دليل على
المنع فيه من ذلك" شرح المختصر "2/ 322-323".
5 خلاصة ذلك: أن المصنف استدل على عدم جواز نسخ القرآن
بالسنة بثلاثة أدلة، أحدها: الآية، وثانيها: الحديث،
وثالثها: أن السنة لا تنسخ لفظ القرآن، وهو =
ج / 1 ص -262-
وأما
الوصية: فإنها نسخت بآية المواريث، قاله ابن عمر1، وابن
عباس2. وقد أشار النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا
بقوله:
"إن الله
قد أعطى كل ذي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= متفق عليه، فكذلك لا تنسخ حكمه؛ لاشتراك لفظ القرآن
وحكمه في القوة والتعظيم وصيانته عن أن يرفع بما هو دونه.
وأجاب المجوزون عن الآية: بأن المراد: نأت بخير منها في
الحكم ومصلحته، والسنة تساوى القرآن في ذلك؛ إذ المصلحة
الثابتة بالسنة قد تكون أضعاف المصلحة الثابتة بالقرآن،
إما في عظم الأجر، بناء على نسخ الأخف بالأثقل، أو في
تخفيف التكليف، بناء على نسخ الأثقل بالأخف. "شرح مختصر
الروضة 2/ 322".
قال الغزالي في المستصفى "2/ 104": "ليس المراد: الإتيان
بقرآن آخر خير منها؛ لأن القرآن لا يوصف بكون بعضه خيرًا
من البعض.... بل معناه: أن يأتي بعمل خير من ذلك العمل،
لكونه أخف منه، أو لكونه أجزل ثوابًا".
وقد تقدم الرد على الاستدلال وما فيه.
وأما قولهم: "السنة لا تنسخ لفظ القرآن، فكذلك لا تنسخ
حكمه".
فجوابه: أن هناك فرقًا بين لفظ القرآن وبين حكمه، إذ إن
لفظ القرآن معجز، والسنة ليست معجزة، فلا تقوم مقامه في
الإعجاز، فلا تقوى على نسخ لفظه، أما الحكم: فالمراد منه
تكليف الخلق به، والسنة تقوم مقامه في ذلك.
قال الطوفي -رحمه الله- مبينًا السبب في هذا الخلاف:
"تلخيص مأخذ النزاع في المسألة: أن بين القرآن ومتواتر
السنة جامعًا وفارقًا:
فالجامع بينهما: ما ذكرناه من إفادة العلم، وكونهما من عند
الله -تعالى-.
والفارق: إعجاز لفظ القرآن، والتعبد بتلاوته، بخلاف السنة،
فمن لاحظ الجامع، أجاز النسخ، ومن لاحظ الفارق منعه" شرح
المختصر "2/ 323".
1 هو: عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، صحابي جليل، هاجر
إلى المدينة وعمره عشر سنوات، كان من أهل العلم والورع
والعبادة، وكان شديد الاتباع لآثار رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وهو أحد الستة المكثرين من الرواية. توفي بمكة
سنة 73هـ على الراجح. انظر: "الإصابة 2/ 347، تذكرة الحفاظ
1/ 37".
2 تقدمت ترجمته.
ج / 1 ص -263-
حق حقه،
فلا وصية لوارث" وأما الآية الآخرى: فإن الله -سبحانه- أمر بإمساكهن إلى غاية يجعل
لهن سبيلًا، فبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الله جعل
لهن السبيل. وليس ذلك بنسخ. والله أعلم.
فصل: [في حكم
نسخ القرآن ومتواتر السنة بالآحاد]
فأما نسخ القرآن، والمتواتر من السنة، بأخبار الآحاد: فهو
جائز عقلًا؛ إذ لا يمتنع أن يقول الشارع: تعبدناكم بالنسخ
بخبر الواحد.
وغير جائز شرعًا1.
وقال قوم من أهل الظاهر: يجوز2.
وقالت طائفة: يجوز في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا
يجوز بعده3؛ لأن أهل قباء قبلوا خبر الواحد في نسخ القبلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهذا هو رأي جمهور العلماء.
وقد نقل الغزالي في المستصفى "2/ 107" عدم جواز نسخ القرآن
بالمتواتر والآحاد عن الخوارج.
2 انظر: الإحكام لابن حزم "4/ 617".
3 وهو الذي رجحه الغزالي حيث قال: "المختار: جواز ذلك
عقلًا لو تعبّد به، ووقوعه سمعًا في زمان رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- بدليل: قصة قباء".
وحكاه الشوكاني عن بعض العلماء: كأبي بكر الباقلاني، وأبي
الوليد الباجي، والقرطبي، انظر: إرشاد الفحول "2/ 79"
والعجب من العلماء الذين قالوا بهذا الرأي، كيف غاب عنهم
أنه لا نسخ بعد عصر النبوة، والأعجب منه ما ذهب إليه
الظاهرية من جوازه مطلقًا مع ما اتفق عليه الجميع من أن
الإجماع لا ينسخ، ولا ينسخ به، لأن الإجماع لا يكون إلا
بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؟! =
ج / 1 ص -264-
وكان
النبي -صلى الله عليه وسلم- يبعث آحاد الصحابة إلى أطراف
دار الإسلام، فينقلون الناسخ والمنسوخ.
ولأنه يجوز التخصيص به، فجاز النسخ به كالمتواتر.
ولنا: إجماع الصحابة -رضي الله عنهم- على أن القرآن
والمتواتر لا يرفع بخبر الواحد، فلا ذاهب إلى تجويزه، حتى
قال عمر -رضي الله عنه-: "لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا
لقول امرأة: لا ندري أصدقت أم كذبت"1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ومن الغريب أن "الطوفي" يميل إلى مذهب الظاهرية وينصره،
ويورد العديد من الأدلة على ذلك، مع أنه قال -بعد ذلك- في
المسألة السابعة: "الحكم الثابت بالإجماع لا ينسخ، أي: لا
يكون منسوخًا.
وتقريره، أن النسخ لا يكون إلا في عهد النبوة، والإجماع لا
يكون إلا بعد عهد النبوة، ويلزم من ذلك أن حكم الإجماع لا
ينسخ.
أما أن النسخ لا يكون إلا في عهد النبوة؛ فلأن النسخ رفع
للحكم، وإبطال له وتغيير، وذلك إنما يكون في عهد النبوة،
لأنه زمن الوحي الرافع للأحكام، وبعد انقراض عهد النبوة
يستقر الشرع، فلا يجوز تغيير شيء منه، ولا يبقى إلا اتباع
ما انقرض عليه عصر النبوة" شرح المختصر "2/ 330-331".
1 أخرجه مسلم: كتاب الطلاق، باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة
لها، والترمذي: كتاب الطلاق، باب ما جاء في المطلقة ثلاثًا
لا نفقة لها ولا سكنى، وأحمد في المسند "6/ 415" عن فاطمة
بنت قيس أنها قالت: طلقني زوجي ثلاثًا فلم يجعل لي رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- سكنى ولا نفقة، فلما بلغ ذلك
عمر بن الخطاب قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول
امرأة، لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى والنفقة، قال الله
عز وجل
{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}
[سورة الطلاق: 1].
ج / 1 ص -265-
فصل: [الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به]
فأما الإجماع: فلا ينسخ:
لأنه لا يكون إلا بعد انقراض زمن النص، والنسخ لا يكون إلا
بنص.
ولا ينسخ بالإجماع:
لأن النسخ إنما يكون لنص، والإجماع لا ينعقد على خلافه،
لكونه معصومًا عن الخطأ، وهذا يفضي إلى إجماعهم على
الخطأ2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما قاله المصنف من أن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به، هو
مذهب جمهور العلماء، وهو الحق الذي ينبغي عدم التعويل على
غيره، وقد نقل الآمدي عن بعض المعتزلة، وعيسى بن أبان من
الحنفية أنهم أجازوا النسخ بالإجماع، كما نقل عن بعض
العلماء القول بنسخ الحكم الثابت بالإجماع. انظر الإحكام
"3/ 160-161".
2 خلاصة الاستدلال على أن الإجماع لا ينسخ: أن النسخ لا
يكون إلا في عهد النبوة، والإجماع لا يكون إلا بعد عهد
النبوة، فيلزم من ذلك: أن حكم الإجماع لا ينسخ، لأن النسخ
لا يكون إلا بنص.
وأما الاستدلال على أن الإجماع لا ينسخ به: فلأن الإجماع
لو كان ناسخًا، لكان دليل الحكم المنسوخ إما نصًّا، أو
إجماعًا، أو قياسًا، فإن كان نصًّا، فالإجماع الناسخ لا بد
له من مستند، وإلا كان خطأ، وذلك المستند هو الناسخ، لا
نفس الإجماع.
وإن كان دليل الحكم المنسوخ إجماعًا، فلو نسخ بالإجماع،
لزم تعارض الإجماعين، فأحدهما باطل، فلا نسخ.
وإن كان دليل الحكم المنسوخ قياسًا، فهو إما غير صحيح، فلا
عبرة به، فلا نسخ، وإن كان صحيحًا، فالإجماع الناسخ، إن
استند إلى نص، فالنص هو =
ج / 1 ص -266-
فإن
قيل:
فيجوز أن يكونوا ظفروا بنص كان خفيًّا هو أقوى من النص
الأول، أو ناسخ له.
قلنا: فيضاف النسخ إلى النص الذي أجمعوا عليه لا إلى
الإجماع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الناسخ، والإجماع دل عليه كما سبق.
انظر: الإحكام للآمدي "3/ 161" وشرح مختصر الروضة "2/
331-332".
فصل: [في نسخ
القياس والنسخ به]
ما ثبت بالقياس:
إن كان منصوصًا على علته: فهو كالنص، ينسخ وينسخ به. وما
لم يكن منصوصًا على علته: فلا ينسخ، ولا ينسخ به، على
اختلاف مراتبه.
وشذت طائفة فقالت: ما جاز التخصيص به: جاز النسخ به.
وهو منقوض بدليل العقل، وبالإجماع، وبخبر الواحد.
والتخصيص بجميع ذلك جائز دون النسخ فكيف يتساويان؟
والتخصيص بيان، والنسخ رفع، والبيان تقرير، والرفع إبطال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المصنف اختصر الكلام في هذه المسألة ولم يبين مذاهب
العلماء فيها، والذي في المستصفى "2/ 109": "لا يجوز نسخ
النص القاطع المتواتر بالقياس المعلوم بالظن والاجتهاد،
على اختلاف مراتبه، جليًّا كان أو خفيًّا. هذا ما قطع به
الجمهور.
ج / 1 ص -267-
..................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= إلا شذوذ منهم قالوا: ما جاز التخصيص به جاز النسخ به
وهو منقوض.... الخ".
ثم قال: وقال بعض أصحاب الشافعي: يجوز النسخ بالقياس
الجلي، ونحن نقول: لفظ الجلي مبهم، فإن أرادوا المقطوع به،
فهو صحيح. وأما المظنون فلا" ا. هـ.
وقد وضح الطوفي وجه عدم جواز النسخ فقال:
"الحكم الثابت بالقياس: إما أن يكون منصوص العلة، أو لا.
كالنص، ينسخ وينسخ به، أي: يكون ناسخًا ومنسوخًا، كما أن
النص كذلك؛ لأن القياس لا بد وأن يستند إلى نص، فإذا كانت
علة القياس منصوصًا عليها في ذلك النص، صار حكم القياس
منصوصًا عليه بواسطة القياس، فيكون نصًّا يصح أن يكون
ناسخًا ومنسوخًا.
مثال ذلك: لو قال الشارع: حَرَّمْت الخمر المتخذ من العنب؛
لكونه مسكرًا فإذا قسنا عليه نبيذ التمر المسكر في
التحريم، كان تحريم هذا النبيذ حكمًا منصوصًا على علته،
حتى كأنه قال: حرّمت نبييذ التمر المسكر، فلو فرض أن الشرع
قال: أبحت نبيذ الذرة المسكر، جاز أن يكون تحريم نبيذ
التمر المسكر، المستفاد من القياس، ناسخًا لذلك، إذا ثبت
تأخره عن إباحة نبيذ الذرة، ومنسوخًا بإباحة نبيذ الذرة
إذا ثبت تقدم تحريم نبيذ التمر، وذلك لأن تحريم نبيذ
التمر، وإباحة نبيذ الذرة حكمان متضادان مع اتحاد علتهما،
وهي الإسكار، فكان المتأخر منهما ناسخًا للمتقدم، كما لو
قال: أبحت الخمر، ثم قال: حرمتها، أو بالعكس.
وأما إن لم يكن الحكم الثابت بالقياس منصوصًا على علته، لم
يجز أن يكون ناسخًا ولا منسوخًا، لأن العلة إذا لم تكن
منصوصة، فهي مستنبطة، واستنباطها هو باجتهاد المجتهد،
واجتهاد المجتهد عرضة للخطأ، فلا يقوى على رفع الحكم
الشرعي، بخلاف النص على العلة، فإنه حكم الشارع المعصوم من
الخطأ، فهو يقوى على ذلك. =
ج / 1 ص -268-
فصل: [في نسخ التنبيه والنسخ به]
والتنبيه ينسخ، وينسخ به1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فإذا قسنا الذرة على البر والشعير، في تحريم التفاصل،
بجامع الكيل، بناء على أنه العلة فيهما، ثم قال الشارع:
أبحت التفاضل في السمسم، لم يجز لنا أن نجعل الإباحة في
السمسم ناسخة للتحريم في الذرة ولا التحريم في الذرة
ناسخًا للإباحة في السمسم؛ لأن النسخ لا بد فيه من تضاد
الناسخ والمنسوخ، ونحن لا نعلم أن إباحة التفاضل في
السمسم، وتحريمها في الذرة متضادان، لجواز عدم اختلاف
العلة فيهما، أو كون الحكم في أحدهما، أو في البر والشعير
غير معلل، فينتفي التضاد، فينتفي النسخ" ثم بين بطلان قياس
النسخ على التخصيص فقال:
"إن النسخ إبطال للحكم؛ لأنه رفع له، والتخصيص تقرير وبيان
له، لأنه عبارة عن بيان المراد من اللفظ، فإذا بان المراد
منه، واستقر الحكم عليه، ورفع الحكم وتقريره متناقضان،
فيمتنع استواؤهما، حتى يقال: إن ما جاز التخصيص به، جاز
النسخ به، لأن ذلك يصير كقولنا: ما جاز أن يبين الحكم
ويقرره، جاز أن يرفعه ويبطله، وهو باطل؛ لأنه ترتيب لحكمين
متناقضين على علة واحدة" شرح مختصر الروضة "2/ 333-335".
1 المقصود بالتنبيه هنا: مفهوم الموافقة؛ لأن اللفظ إما أن
يدل على الحكم بمنطوقه، وإما أن يدل عليه بمفهومه، وتسمى
دلالة المفهوم.
والمفهوم: إما أن يكون حكمه موافقًا لحكم المنطوق، ويسمى
بمفهوم الموافقة، أو فحوى الخطاب، أو تنبيه الخطاب.
وأن كان حكمه مخالفًا لحكم المنطوق، سمي بمفهوم المخالفة،
أو دليل الخطاب، أو لحن الخطاب.
وقد اتفق الأصوليون على جواز نسخ حكم المنطوق والمفهوم
الموافق دفعة واحدة، لما بينهما من التلازم.
لكن اختلفوا في نسخ أحدهما مع بقاء الآخر على أربعة أقوال:
=
ج / 1 ص -269-
لأنه
يفهم من اللفظ، فهو كالمنطوق وأوضح منه.
ومنع منه بعض الشافعية وقالوا: هو قياس جلي.
وليس بصحيح؛ وإنما هو مفهوم الخطاب.
ولأنه يجري مجرى النطق في الدلالة، فلا يضر تسميته قياسًا.
وإذا نسخ الحكم في المنطوق: بطل الحكم في المفهوم، وفيما
يثبت بعلته أو بدليل خطابه.
وأنكر ذلك بعض الحنفية؛ لأنه نسخ بالقياس1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الأول: لا يجوز نسخ أحدهما بدون نسخ الآخر، فلا ينسخ
المنطوق ويبقى المفهوم، ولا ينسخ المفهوم، ويبقى المنطوق،
بل نسخ أحدهما يستلزم نسخ الآخر.
القول الثاني: أنه يجوز نسخ أحدهما مع بقاء الآخر.
القول الثالث: أن نسخ المفهوم يستلزم نسخ المنطوق، وأما
نسخ المنطوق فلا يستلزم نسخ المفهوم، وهو مختار ابن
الحاجب.
القول الرابع: إن جعل مفهوم الموافقة من باب القياس الجلي،
كان نسخ أصله نسخًا له، وإن جعل من باب الدلالة اللفظية،
فلا يلزم من نسخ أحدهما نسخ الآخر، بل يجوز نسخ المنطوق
وبقاء المفهوم، كما يجوز نسخ المفهوم وبقاء المنطوق.
وهو مختار الآمدي.
انظر: مختصر ابن الحاجب ص119، الإحكام للآمدي "3/ 152"
تيسير التحرير "3/ 215".
وقول المصنف: "ومنع منه بعض الشافعية الخ": هو مبني على
الخلاف في التنبيه، أو مفهوم الموافقة، هل هو قياس جلي،
كما يقول الشافعية، أو دلالته لفظية.
1 المصنف يرجح أن نسخ الحكم الثابت بالمنطوق نسخ للمفهوم،
ثم نقل عن =
ج / 1 ص -270-
وليس
بصحيح؛ لأن هذه فروع تابعة لأصل، فإذا سقط حكم الأصل: سقط
حكم الفرع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بعض الحنفية أنهم خالفوا في ذلك، وقالوا: يختص النسخ
بالمنطوق وحده، وما خرج عن محل النطق فهو حكم مستقل لا
يلزم من نسخه نسخه.
ورد عليهم المصنف: بأنه إذا سقط حكم الأصل، سقط حكم الفرع،
لأنه تابع له.
قال الطوفي.
"معنى هذا الكلام: أن المنطوق -وهو مدلول اللفظ بالمطابقة
أو التضمن- إذا نسخ، بطل حكم ما تفرع عليه من مفهومه،
ومعلوله، ودليل خطابه، لأنها توابع له، وإذا بطل المتبوع،
بطل التابع، وإذا انتفى الأصل، انتفى فرعه" شرح المختصر
"2/ 337".
فصل: فيما يعرف
به النسخ
اعلم أن ذلك لا يعرف بدليل العقل، ولا بقياس: بل بمجرد
النقل، وذلك من طرق1:
أحدها: أن يكون في اللفظ: كقوله -صلى الله عليه وسلم-:
"كنت نهيتكم عن زيارة القبور"2، "كنت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معنى ذلك: أن النسخ إما رفع للحكم الشرعي المتأخر، أو
بيان مدة انتهائه وكلاهما لا طريق للعقل إلى معرفته، ولو
كان للعقل طريق إلى معرفة النسخ بدون النقل، لكان له طريق
إلى معرفة ثبوت الأحكام ابتداء بدون النقل، وليس كذلك.
وإذا ثبت أن العقل لا مجال له في معرفة الناسخ، فلم يبق
إلا النقل، وله طرق كثيرة، سيأتي ذكرها.
2 هذا جزء من حديث روي عن بريدة -رضي الله عنه- بلفظ:
"كنت نهتيكم عن زيارة القبور، فقد أُذن لمحمد في زيارة قبر أمه،
فزوروها، فإنها تذكر الآخرة"
أخرجه مسلم: كتاب الجنائز، باب استئذان النبي -صلى الله
عليه وسلم- ربه عز وجل في زيارة =
ج / 1 ص -271-
رخصت
لكم في جلود الميتة فلا تنتفعوا بها"1.
الثاني: أن يذكر الراوي تاريخ سماعه فيقول: سمعت عام
الفتح، ويكون المنسوخ معلومًا بقدمه.
الثالث: أن تجمع الأمة على أن هذا الحكم منسوخ وأن ناسخه
متأخر.
الرابع: أن ينقل الراوي الناسخ والمنسوخ، فيقول: "رخص لنا
في المتعة فمكثنا ثلاثًا، ثم نهانا عنها"2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قبر أمه حديث "977" وأبو داود: كتاب الجنائز، باب في
زيارة القبور والترمذي: كتاب الجنائز، باب الرخصة في زيارة
القبور، وقال: حديث حسن صحيح.
كما أخرجه الإمام أحمد في المسند "5/ 350، 356، 357، 359،
361" بلفظ
"نهيتكم عن زيارة القبور فزورها".
1 هذا الحديث روي من عدة طرق: فقد أخرجه أبو داود: كتاب
اللباس، باب من روى أن لا ينتفع بإهاب الميتة، والترمذي:
كتاب اللباس، باب ما جاء في جلود الميتة إذا دبغت،
والنسائي: كتاب الفرع، باب ما يدبغ به جلود الميتة، وابن
ماجه: كتاب اللباس، باب من قال: لا ينتفع من الميتة بإهاب
ولا عصب، وأحمد في المسند "4/ 310".
كما أخرجه البيهقي "1/ 25، 26" والطحاوي "1/ 468" عن عبد
الله بن عكيم قال: حدثني أشياخ جهينة قالوا أتانا كتاب من
رسول الله -صلى الله عيله وسلم- أو قرئ إلينا كتاب رسول
الله -صلى الله عليه وسلم-: "أن لا تنتفعوا من الميتة
بشيء".
وللحديث -كما قلت- روايات عدة تراجع في: نصب الراية "1/
120 وما بعدها" وتلخيص الحبير "1/ 46 وما بعدها".
2 تقدم تخريج حديث المتعة قريبًا، وهذه الرواية "رخص
لنا..." أخرجها مسلم حديث "1405" من حديث سلمة بن الأكوع،
قال: "رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام أوطاس في
المتعة ثلاثًا، ثم نهى عنها".
ج / 1 ص -272-
الخامس: أن يكون راوي أحد الخبرين أسلم في آخر حياة النبي
-صلى الله عليه وسلم- والآخر لم يصحب النبي -صلى الله عليه
وسلم- إلا في أول الإسلام.
كرواية طلق بن علي الحنفي1، وأبي هريرة2 في الوضوء من مس
الفرج والله تعالى أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: طلق بن علي بن طلق بن عمرو السحيمي الحنفي اليمامي،
صحابي جليل روى عنه ابنه قيس، وعبد الرحمن بن علي بن
شيبان.
انظر في ترجمته: "الاستعياب 2/ 776".
روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
"..... هل هو إلا بضعة منك".
أخرجه عنه أبو داود: كتاب الطهارة، باب الرخصة في ذلك، أي:
في ترك الوضوء من مس الذكر.
كما أخرجه الترمذي: كتاب الطهارة، باب ما جاء في ترك
الوضوء من مس الذكر وقال فيه: "هذا الحديث أحسن شيء روي في
هذا الباب"، والنسائي كتاب الطهارة، باب ترك الوضوء من
ذلك.
كذلك أخرجه ابن ماجه، والبيهقي، وأحمد في المسند،
والدارقطني وغيرهم.
وقد ضعف الحديث الإمام الشافعي، والبيهقي، وأبو حاتم،
والدارقطني، وابن الجوزي. انظر: تلخيص الحبير "1/ 125"
والفتح الرباني "2/ 88 وما بعدها".
2 هو: عبد الرحمن بن صخر الدوسي، صاحب رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- قدم المدينة سنة سبع وأسلم، وشهد خيبر، وكني
بأبي هريرة، لأنه وجد هرة فحملها في كمه، ولزم رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- رغبة في العلم وطلب الحديث، حتى دعا
له -صلى الله عليه وسلم- بالحفظ، روى عنه أكثر من ثمانمائة
رجل، توفي بالمدينة سنة 57هـ. انظر: الاستيعاب "4/ 202"،
الإصابة "4/ 202".
وقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- أنه قال:
"ومن أفضى بيده إلى ذكره، ليس دونه ستر، فقد وجب عليه الوضوء". = |