روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل

ج / 2 ص -333-       باب: [كتاب الاجتهاد]
فصل: في حكم المجتهد
اعلم أن الاجتهاد في اللغة: بذل المجهود، واستفراغ الوسع في فعل1. ولا يستعمل إلا فيما فيه جهد، يقال: اجتهد في حمل الرحى، ولا يقال: اجتهد في حمل خردلة.
وهو في عرف الفقهاء: مخصوص ببذل المجهود في العلم بأحكام الشرع2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الاجتهاد في اللغة: مشتق من مادة "جهد" بضم الجيم، بمعنى بذلك الجهد، وهو الطاقة، أو بفتح الجيم، بمعنى تحمل الجهد وهو المشقة. فالاجتهاد في اللغة بذل الجهد واستفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور الشاقة، سواء أكان في الأمور الحسية، كالمشي والعمل، أو في الأمور المعنوية، كاستخراج حكم أو نظرية عقلية أو شرعية أو لغوية. انظر: لسان العرب مادة "جهد" والمصباح المنير.
2 هذا تعريف للاجتهاد باعتباره مصدرًا دالًّا على الحدث، وهو فعل المجتهد، وعلى ذلك جمهور العلماء، وهو الذي ذكره الغزالي في المستصفى.
ومنهم من عرفه بالمعنى الاسمي، أي: باعتباره وصفًا للمجتهد نفسه، فقالوا في =

 

ج / 2 ص -334-       والاجتهاد التام: أن يبذل الوسع في الطلب إلى أن يحس من نفسه بالعجز عن مزيد طلب1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= تعريفة: "هو ملكة يقتدر بها على استنبط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية". انظر: الإحكام للآمدي "3/ 204".
1 أشار المصنف بذلك إلى أن الاجتهاد قسمان: ناقص: وهو النظر المطلق في تعرّف الأحكام الشرعية، وتختلف مراتبه بحسب الأحوال.
وتام: وهو استفراغ القوة النظرية حتى يحس الناظر من نفسه العجز عن مزيد طلب. كما قال المصنف.

فصل: [شروط المجتهد].
وشروط المجتهد:
إحاطته بمدارك الأحكام المثمرة لها، وهي: الأصول التي فصلناها: الكتاب والسنة، والإجماع، واستصحاب الحال، والقياس التابع لها، وما يعتبر في الحكم في الجملة، وتقديم ما يجب تقديمه منها.
فأما العدالة:
فليست شرطًا لكونه مجتهدًا، بل متى كان عالًما بما ذكرناه: فله أن يأخذ باجتهاد نفسه، لكنها شرط لجواز الاعتماد على قوله، فمن ليس عدلًا لا تقبل فتياه.
والواجب عليه في معرفة الكتاب:
معرفة ما يتعلق منه بالأحكام وهي: قدر خمسمائة آيةٍ2. ولا يشترط حفظها، بل علمه بمواقعها حتى يطلب الآية المحتاج إليها وقت حاجته.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= تعريفة: "هو ملكة يقتدر بها على استنبط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية". انظر: الإحكام للآمدي "3/ 204".
1 أشار المصنف بذلك إلى أن الاجتهاد قسمان: ناقص: وهو النظر المطلق في تعرّف الأحكام الشرعية، وتختلف مراتبه بحسب الأحوال.
وتام: وهو استفراغ القوة النظرية حتى يحس الناظر من نفسه العجز عن مزيد طلب. كما قال المصنف.
2 قال الشيخ الطوفي: "والصحيح أن هذا التقدير غير معتبر، وأن مقدار أدلة الأحكام في ذلك غير منحصر؛ فإن أحكام الشرع كما تستنبط من الأوامر =

 

ج / 2 ص -335-       والمشترط في معرفة السنة:
معرفة أحاديث الأحكام، وهي وإن كانت كثيرة فهي محصورة1.
ولا بد من معرفة الناسخ والمنسوخ من الكتاب والسنة، ويكفيه أن يعرف أن المستدل به في هذه الحادثة غير منسوخ2.
ويحتاج أن يعرف الحديث الذي يعتمد عليه فيها أنه صحيح غير ضعيف، إما بمعرفة رواته وعدالتهم، وإما بأخذه من الكتب الصحيحة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والنواهي، كذلك تستنبط من الأقاصيص والمواعظ ونحوها، فقلَّ أن يوجد في القرآن الكريم آية إلا ويستنبط منها شيء من الأحكام...." ثم قال: "وكأن هؤلاء الذين حصروها في خمسمائة آية إنما نظروا إلى ما قصد منه بيان الأحكام دون ما استفيدت منه ولم يقصد به بيانها" شرح المختصر "3/ 577 – 578".
1 أي: محصورة في كتب السنة، كالصحيحين وبقية السنن الستة وغيرها كثير، بالإضافة إلى الكتب التي اعتنت بأحاديث الأحكام بصفة خاصة مثل: الأحكام الكبرى لمحب الدين الطبري المتوفى سنة 694هـ وكتاب المنتقي من الأخبار في الأحكام للإمام العلامة مجد الدين عبد السلام بن عبد الله الحزاني المعروف بابن تيمية المتوفى سنة 652هـ.
2 لأن المنسوخ بطل حكمه، وأصبح الحكم للناسخ، ومن هنا تظهر أهمية معرفة الناسخ والمنسوخ. روى عن على – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أنه رأي قاصًّا يقصُّ في مسجد الكوفة وهو يخلط الأمر بالنهي، والإباحة بالحظر، فقال له: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟ قال: لا. قال: هلكت وأهلكت، ثم قال له: أبو من أنت؟ قال: أبو يحيى. قال: أنت "أبو اعرفوني"، ثم أخذ أذنه ففتلها، وقال له: لا تقص في مسجدنا بعد.
قال الطوفي- بعد أن حكى هذه القصة: "ولا يشترط أن يعرف جميع الأحاديث المنسوخة من الناسخة، بل يكفيه أن يعرف أن دليل هذا الحكم غير منسوخ، على أن الإحاطة بمعرفة ذلك أيسر من غيره؛ لقلة المنسوخ بالنسبة إلى المحكم من الكتاب والسنة"، شرح المختصر "3/ 580".

 

ج / 2 ص -336-       التي ارتضى الأئمة رواتها1.
وأما الإجماع:
فيحتاج إلى معرفة مواقعه، ويكفيه أن يعرف أن المسألة التي يفتي فيها هل هي من المجمع عليه، أم من المختلف فيهن أم هي حادثة؟ ويعلم استصحاب الحال على ما ذكرناه في بابه.
ويحتاج إلى معرفة نصب الأدلة وشروطها2
ومعرفة شيء من النحو واللغة، يتيسر به فهم خطاب العرب، وهو: ما يميز به بين صريح الكلام، وظاهره، ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه ومقيده، ونصه وفحواه ولحنه ومفهومه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة ذلك: أنه يشترط في المجتهد- مع معرفته بأحاديث الأحكام – معرفة صحة الحديث، إما بالاجتهاد فيه إذا كانت لديه الأهلية والقوة في علم الحديث بحيث يستطيع معرفة طريق الحديث الذي ثبت به، ومن رواية أي البلاد هو، ويعلم عدالة رواته وضبطهم.
وبالجملة: يعلم من حاله وجود شروط قبول الحديث، وانتفاء موانعه، وموجبات ردّه. هذا إن كان مجتهدًا في علم الحديث.
أما إن كان دون ذلك، فيكفيه نقل الحديث من الكتب الصحاح التي ارتضى الأئمة رواتها، كالصحيحين، وسنن أبي داود ونحوها من الكتب الصحيحة. انظر: شرح الطوفي "3/ 579-580".
2 أي: يشترط في المجتهد: أن يعرف تقرير الأدلة، وما يتحقق به نصب الدليل، ووجه دلالته على المطلوب، ولذلك: اشترط بعض العلماء معرفة علماء علم المنطق، كالإمام الغزالي وسماه "معيار العلوم"، وتبعه على ذلك الإمام الرازي وغيره؛ إذ به تتحقق معرفة نصب الأدلة، وتقرير مقدماتها، ووجه إنتاجها... إلخ.

 

ج / 2 ص -337-       ولا يلزمه من ذلك: إلا القدر الذي يتعلق به الكتاب والسنة، ويستولي به على مواقع الخطاب، ودرك دقائق المقاصد فيه.
فأما تفاريع الفقه: فلا حاجة إليها؛ لأنها مما ولَّدها المجتهدون بعد حيازة منصب الاجتهاد، فكيف يكون شرطًا لما تقدم وجوده عليها؟!1
[تجزؤ الاجتهاد]
فليس من شرط الاجتهاد في مسألة: بلوغ رتبة الاجتهاد في جميع المسائل، بل متى علم أدلة المسألة الواحدة، وطرق النظر فيها: فهو مجتهد فيها، وإن جهل حكم غيرها.
فمن نظر في مسألة "المشرّكة"2: يكفيه أن يكون فقيه النفس عارفًا بالفرائض: أصولها ومعانيها، وإن جهل الأخبار الواردة في تحريم المسكرات، والنكاح بلا ولي؛ إذ لا استمداد لنظر هذه المسألة منها، فلا تضر الغفلة عنها3.
ولا يضره- أيضًا- قصوره عن علم "النحو" الذي يعرفه به قوله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المصنف يرى أن معرفة الفروع الفقهية ليست شرطًا للاجتهاد؛ لأنها هي الثمرة التي يتوصل إليها المجتهد، فكيف تكون شرطًا؟! وعلى ذلك جمهور العلماء.
بينما ذهب بعض العلماء إلى اشتراط ذلك، ولا يؤدي ذلك إلى الدور كما يقول الجمهور، وإنما هي لازمة للمجتهد ليطبق عليها القواعد التي يتوصل إليها، وخاصة في مواضع الاختلاف وأسبابها.
2 وهي مسألة تشريك عمر بين الإخوة الأشقاء والإخوة لأم في الميراث. تقدم الحديث عنها.
3 ما قاله المصنف هو مذهب الجمهور. وذهب بعض العلماء كالإمام أبي حنيفة وغيره إلى أن العالم لا يقال له: مجتهد إلا إذا أحاط بأدلة الفقه جميعها. انظر: إرشاد الفحول "2/ 310 وما بعدها" تحقيق الدكتور شعبان إسماعيل.

 

ج / 2 ص -338-       -تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} وقس عليه كل مسألة.
ألا ترى أن الصحابة- رَضِيَ اللَّهُ عنهم- والأئمة من بعدهم قد كانوا يتوقفون في مسائل.
وسئل مالك عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين: "لا أدري"2. ولم يكن توَقُّفُه في تلك المسائل مخرجًا له عن درجة الاجتهاد. والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة [من الآية: 6] ومعنى ذلك: أن الباء ترد المعان كثيرة: منها الإلصاق، وقيل: إنها زائدة، وقيل: للتبعيض.
وقد نقل عن علماء اللغة إنكار مجيئها للتبعيض.
قال الطوفي: "والمأخذ الجيد في تبعيض مسح الرأس غير هذا، وهو من وجهين:
أحدهما: أن الباء استعملت في اللغة تارة بمعنى الإلصاق، نحو: أمسكت الجبل بيدي، أي: ألصقتها به، وتارة للتبعيض، وإن لم تكن موضوعة له، نحو: مسحت برأس اليتيم، ومسحت يدي بالمنديل، وأخذت بثبوت الرجل وبركابه. ولما استعملت في المعنيين بقيت في الآية مترددة بينهما، فكانت مجملة، فاقتصر في مسح الرأس على مطلق الاسم؛ لأنه المتيقن وما عداه مشكوك فيه، فلا يجب بالشك". شرح المختصر "2/ 635".
2 انظر الانتقاء لابن عبد البر ص38، وجامع بيان العلم وفضله ص356.

مسألة: [في جواز التعبد بالقياس والاجتهاد في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-]
ويجوز التعبد بالقياس والاجتهاد في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-للغائب.
فأما الحاضر: فيجوز له ذلك بإذن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-.
وأكثر الشافعية يجوزون ذلك بغير اشتراط.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة المائدة [من الآية: 6] ومعنى ذلك: أن الباء ترد المعان كثيرة: منها الإلصاق، وقيل: إنها زائدة، وقيل: للتبعيض.
وقد نقل عن علماء اللغة إنكار مجيئها للتبعيض.
قال الطوفي: "والمأخذ الجيد في تبعيض مسح الرأس غير هذا، وهو من وجهين:
أحدهما: أن الباء استعملت في اللغة تارة بمعنى الإلصاق، نحو: أمسكت الجبل بيدي، أي: ألصقتها به، وتارة للتبعيض، وإن لم تكن موضوعة له، نحو: مسحت برأس اليتيم، ومسحت يدي بالمنديل، وأخذت بثبوت الرجل وبركابه. ولما استعملت في المعنيين بقيت في الآية مترددة بينهما، فكانت مجملة، فاقتصر في مسح الرأس على مطلق الاسم؛ لأنه المتيقن وما عداه مشكوك فيه، فلا يجب بالشك". شرح المختصر "2/ 635".
2 انظر الانتقاء لابن عبد البر ص38، وجامع بيان العلم وفضله ص356.

 

ج / 2 ص -339-       وأنكر قوم التعبد بالقياس في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-؛ لأنه يمكن الحكم بالوحي الصريح، فكيف يردهم إلى الظن؟
وقال آخرون: يجوز للغائب، ولا يجوز للحاضر1.
ولنا:
قصة معاذ حين قال: "أجتهد رأيي": فصوّبه2.
وقال لعمرو بن العاص3: "احكم" في بعض القضايا، فقال: "أجتهد وأنت حاضر؟!" فقال:
"نعم، إن أصبت فلك أجران، وإن أخطأت فلك أجر"4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة المسألة: أن في الاجتهاد في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-عدة مذاهب:
أحدها: جواز ذلك للغائب أما الحاضر فلا بد فيه من إذن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.
ثانيهما: جوازه للغائب وللحاضر بدون إذن منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.
ثالثها: منعه مطلقًا للغائب والحاضر، وهو منقول عن بعض الشافعية وبعض المعتزلة.
رابعًا: التوقف. ولم يذكره المصنف. انظر: شرح الطوفي "3/ 589".
2 تقدم تخريجه.
3 هو: عمرو بن العاص بن وائل السهمي القرشي أحد أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-أسلم عام خيبر سنة سبع من الهجرة، كان من دهاة العرب، وهو الذي فتح مصر في عهد عمر بن الخطاب. توفيى سنة 43هـ. انظر: تاريخ الإسلام للذهبي "2/ 235-240"، الأعلام "5/ 248-249".
4 أخرجه أحمد في المسند "4/ 205"، والحاكم في المستدرك "4/ 88"، والدارقطني في سننه "4/ 203" ولفظه: أن رجلين اختصما إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-فقال لعمرو: "اقض بينهما" فقال: أقضي بينهما وأنت حاضر يا رسول الله؟! قال:
"نعم، إنك إن أصبت فلك عشرة أجور، وإن اجتهدت فاخطأت فلك أجر".

 

ج / 2 ص -340-       وقال لعقبة بن عامر1 ولرجل من الصحابة: "اجتهد فإن أصبتما فلكما عشر حسنات، وإن أخطأتما فلكما حسنة"3.
وفوض الحكم في بني قريظة إلى سعد بن معاذ4، فحكم، وصوّبه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: عقبة بن عامر بن عبس بن مالك الجهني، صحابي جليل روى الكثير من الأحاديث، وكان من القراء وأحد الذين جمعوا القرآن. توفيى سنة 58هـ الإصابة "4/ 520"، حلية الأولياء "2/ 8".
2 في الأصل "ولرجلين"، والمثبت من المستصفى، وهو الذي يتفق مع السياق.
3 أخرجه الدارقطني عن عقبة بن عامر، ولم يذكر معه رجلًا آخر، ولفظه في مجمع الزوائد "4/ 195" عن عقبة بن عامر الجهني- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قال: جئت إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-وعنده خصمان يختصمان، فقال:
"اقض بينهما" فقلت: بأبي وأمي أنت أولى بذلك مني: فقال: "اقض بينهما" فقلت: على ماذا؟ فقال: "اجتهد فإن أصبت فلك عشر حسنات، وإن لم تصب فلك حسنة" ثم قال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه حفص بن سليمان الأسدي، وهو متروك.
4 هو: سعد بن معاذ بن النعمان الأنصاري الأشهلي، سيد الأوس، أسلم على يد مصعب بن عمير قبل الهجرة، شهد بدرًا وأحدًا، وقريظة، والخندق، توفى – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- شهيدًا من جرح أصابه في غزوة الخندق. فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: "اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ" انظر: الإصابة "3/ 87"، أسد الغابة "2/ 373".
5 روى البخاري ومسلم وأحمد عن أبي سعيد الخدري: أن أهل قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأرسل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- إلى سعد، فأتاه على حمار، فلما دنا قريبًا من المسجد قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:
"قوموا إلى سيدكم، أو خيركم" فقعد عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فقال له: "إن هؤلاء نزلوا على حكمك" فقال: فإني أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبي ذراريهم فقال: "لقد حكمت بما حكم به الملك".
وفي رواية
"قضيت بحكم الله عَزَّ وَجَلََََّّّّ". انظر: فتح الباري "6/ 165"، صحيح مسلم "3/ 1388، 1389"، مسند الإمام أحمد "3/ 22".

 

ج / 2 ص -341-       ولأنه ليس في التعبد به استحالة في ذاته، ولا يفضي إلى محال، ولا مفسدة. ولا يبعد أن يعلم الله – تعالى- لطفًا فيه يقتضي أن يناط به صلاح العباد بتعبدهم بالاجتهاد، لعلمه أنه لو نصَّ لهم على قاطع: لعصوا، كما ردّهم في قاعدة الربا إلى الاستنباط من الأعيان الستة، مع إمكان التنصيص على كل مكيل وموزون، أو مطعوم.
وكان الصحابة- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم – يروي بعضهم عن بعض، مع إمكان مراجعة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-.
كيف ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-قد تُعُبِّد بالقضاء بالشهود والحكم بالظاهر، حتى قال:
"إنكم لتختصمون إليَّ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي على نحو ما أسمع"1؟!.
وكان يمكن نزول الوحي بالحق الصريح في كل واقعة.
وإمكان النص لا يجعل النص موجودًا. والله- سبحانه وتعالى- أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم بلفظ: "إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إليَّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعضٍ فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها، أو ليتركها". انظر: صحيح البخاري بحاشية السندي "4/ 163"، صحيح مسلم بشرح النووي "4/ 12"، سنن أبي داود "2/ 205"، سنن ابن ماجة "2/ 777"، مشكاة المصابيح "2/ 342".

فصل: [في تعبد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-بالاجتهاد]
ويجوز أن يكون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- متعبَّدًا بالاجتهاد فيما لا نص فيه
وأنكر ذلك قوم؛ لأنه قادر على استكشاف الحكم بالوحي الصريح.

 

ج / 2 ص -342-       ولأن قوله نص قاطع، والظن يتطرق إليه احتمال الخطأ، فهما متضادان1.
ولنا:
أنه ليس بمحال في ذاته، ولا يفضي إلى محال ولا مفسدة.
ولأن الاجتهاد طريق لأمته، وقد ذكرنا أنه يشاركهم فيما ثبت لهم من الأحكام2.
وقولهم: "هو قادر على الاستكشاف".
قلنا: فإذا استكشف: فقيل له: حكمنا عليك أن تجتهد، فهل له أن ينازع الله – تعالى – فيه؟!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الطوفي في شرحه "3/ 593-594": "اعلم أن ما فيه نص إلهي لا يجوز للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أن يجتهد فيه بخلاف النص شرعًا، لقوله عزل وجل:
{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الأنعام: 106].
أما ما لا نصَّ فيه، فهل متعبد بالاجتهاد فيه أم لا؟ فالمذاهب فيه أربعة:
أحدها: الإثبات، وهو مذهب أحمد، والقاضي أبي يوسف.
والثاني: النفي، وهو قول أبي على الجبائي وابنه أبي هاشم.
والثالث: الإثبات في الحروب والآراء، دون الأحكام الشرعية.
والرابع: تجويزه من غير قطع به. حكاه الآمدي عن الشافعي في رسالته.
قال: وبه قال بعض الشافعية، والقاضي عبد الجبار، وأبو الحسين البصري.
والتحقيق أن الكلام في جواز ذلك ووقوعه، والأصح جوازه؛ إذ لا يلزم منه محال، ولا أحسب أحدًا ينازع في الجواز عقلًا، إنما ينازع من ينازع فيه شرعًا، وأما الوقوع: فحكى الغزالي فيه أقوالًا، ثالثها الوقف واختاره.
وقال القرافي: توقف أكثر المحققين في الكل، واختار الآمدي الجواز والوقوع، وذكر القوافي أن الشافعي وأبا يوسف قالا بالوقوع".
2 إلا ما ثبت اختصاصه به -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-

 

ج / 2 ص -343-       وقولهم: "إن قوله نص".
قلناك إذا قيل له: ظنك علامة الحكمن فهو يستيقن الظن والحكم جميعا، فلا يحتمل الخطأ.
ومنع هذا "القدرية"1 وقالوا: إن وافق الصلاح في البعض، فيمتنع أن يوافق الجميع.
وهو باطل؛ لأنه لا يبعد أن يلقي الله – تعالى- في اجتهاد رسوله ما فيه صلاح عباده.
وأما وقوع ذلك:
فاختلف أصحابنا فيه.
واختلف أصحاب الشافعي فيه أيضًا.
وأنكره أكثر المتكلمين2:
لقول الله تعالى:
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}.
ولأنه لو كان مأمورًا به لأجاب عن كل واقعة، ولما انتظر الوحي، ولنقل ذلك واستفاض.
ولأنه كان يختلف اجتهاده فيتهم بسبب تغيُّر الرأي4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم التعريف بهم.
2 تقدم قريبًا بيان خلاصة هذه المذاهب نقلًا عن شرح الطوفي.
3 سورة النجم [الآية: 3].
4 العبارة هكذا في الأصل وهي غير واضحة. وعبارة الغزالي: "الثالث: أنه لو كان، لكان ينبغي أن يختلف اجتهاده ويتغير، فيتهم بسبب تغير الرأي".
المستصفى "4/ 27". ومعناها: أنه لو وقع منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- اجتهاد أنه يحصل فيه تغير واختلاف في الرأي في بعض الأمور فيتهم – -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بسبب ذلك.

 

ج / 2 ص -344-       ولنا:
قوله تعالى:
{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}1. وهو عام.
ولأنه عوتب في أساري بدر، ولو حكم بالنص: لما عوتب2.
ولما قال- في مكة:
"لا يُخْتَلى خَلَالها" قال العباس3: إلا الإذخر. فقال: "إلّا الإذخَرَ"4.
ولما سئل عن الحج: ألعامنا هو أم للأبد؟ فقال: للأبد، ولو قلت لعامنا لوجب"5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الحشر [من الآية: 2].
2 أما وقد عوتب -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في أخذ الفداء، فهذا يدل على أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قد اجتهد، والآيات في ذلك صريحة. قال الله تعالى:
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} إلى أن قال- سبحانه: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 67، 68].
3 هو: العباس بن عبد المطلب- عم الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- تقدمت ترجمته.
4 عن ابن عباس أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-قال:
"إن الله – عَزَّ وَجَلََََّّّّ- حرّم مكة، فلم تحلّ لأحد كان قبلي، ولا تحلّ لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، لا يُخْتَلَى خَلَاها، ولا يعضد شجرها، ولا ينفّر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمعرّف" فقال العباس: إلا الإذخَر لصاغتنا وقبورنا. قال: "إلا الإذخَر" أخرجه الإمام أحمد في مسنده حديث رقم "2279"، والبخاري "1349" "1833"، "2090"، والطبراني "11957" والبيهقي "5/ 195".
ومعنى
"خلالها" الخلا: نبات رقيق ما دام رطبًا، ومعنى "لا يُختَلى": لا يقطع، و"لا يعضد" أي: لا يقطع. و"الإذخر": حشيشة معروفة طيبة الريح توجد بالحجاز. كما قال الحافظ في هدى الساري ص76.
5 أخرجه الإمام أحمد في مسنده "1/ 352، 370، 371" وأبو داود "1721" والنسائي "5/ 111" وابن ماجة "2886" من حديث ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- وفي رواية "لوجبت" أي: الكلمة أو الحجة كل عام.

 

ج / 2 ص -345-       ولما نزل ببدر للحرب قال له الحباب1: إن كان بوحي: فسمعًا وطاعة، وإن كان باجتهاد: فليس هذا هو الرأي. قال: "بل باجتهاد" ورحل2.
ولما أراد صلح الأحزاب على شطر نخل في المدينة، وكتب بعض الكتاب ذلك، جاء سعد بن معاذ3، وسعد بن عبادة4، فقالا له: مثل مقالة الحباب، قال: "بل هو رأي رأيته لكم". فقالا: ليس ذاك برأي، فرجع إلى قولهما، ونقض رأيه5.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: الحباب بن المنذر بن الجموح، الأنصاري الخزرجي، شهد مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بدرًا والمشاهد كلها، وكان يقال له: ذا الرأي. توفي في خلافة عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بالمدينة المنورة. انظر: الإصابة "1/ 316"، أسد الغابة "1/ 436".
2 المصنف حكى القصة بالمعنى. ولفظها- كما جاء في كتب السيرة – وسار رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-حتى نزل أدنى ماء من مياه بدر..... فأتاه الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح فقال: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل منزلًا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال -عليه الصلاة والسلام: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل، فانهض بنا حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ونغوِّر ما وراءه من القُلُب "جمع قليب وهي: البئر العادية القديمة" ثم نبني عليه حوضًا فنملأه فنشرب ولا يشربون. فاستحسن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-هذا الرأي وفعله". رواه الحاكم في المستدرك "3/ 427"، وانظر: السيرة النبوية لابن هشام "1/ 620".
3 تقدمت ترجمته.
4 هو: سعد بن عبادة من دليم الخزرجي الأنصاري، سيد الخزرج، ونقيب بني ساعدة، وصاحب راية الأنصار في المشاهد كلها، شهد بدرًا وما بعدها، ومناقبه كثيرة جدًّا، خرج على الشام فمات بحوران سنة 15هـ، وقيل: سنة 16هـ. الإصابة "2/ 30".
5 تروي كتب السيرة أن سبب ذلك هو تألب المشركين واستعدادهم لمهاجمة =

 

ج / 2 ص -346-       ولأن داود وسليمان -عليهما السلام- حكَما بالاجتهاد، بدليل قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}. ولو حكما بالنص: لم يخص سليمان بالتفهيم، ولو لم يكن الحكم بالاجتهاد جائزًا، لما مدحهما الله – تعالى- بقوله: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}.
وأما انتظار الوحي2:
فلعله حيث لم ينقدح له اجتهاد، أو حكم لا يدخله الاجتهاد.
وأما الاستفاضة:
فلعله لم يطلع عليه الناس3.
وأما التهمة بتغير الرأي:
فلا تعويل عليه؛ فقد اتهم بسبب النسخ ولم يبطله 4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المسلمين بالمدينة فأراد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- أن يحول بينهم وبين المسلمين، فعزم على أن يصالح "غطفان" على ثلث ثمار المدينة، وبعد أن كتب الصلح مع عيينة بن حص، وقبل أن يوقعه استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فأشارا عليه بعدم ذلك، فأمر بمحو الصحيفة. رواه البزار والطبراني في الكبير، وانظر: السيرة النبوية لابن هشام "2/ 223"، مجمع الزوائد "6/ 132".
1 سورة الأنبياء من الآية: "79".
2 بدأ المصنف يرد على أدلة المخالفين وأوّلها: أنه كان ينتظر الوحي... إلخ، فأجاب: بأنه كان ينتظر الوحي عند تعارض مدارك الأحكام، ومسالك الاجتهاد، واستبهام وجه الحق والصواب، أما حين يظهر له ذلك فإنه كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يجتهد، هذا إذا كان الحكم اجتهاديًّا، أو كان لا يجتهد إذا كان الحكم لا يدخل تحت دائرة الاجتهاد.
3 هذا ردٌّ على دليلهم الثاني، وهو قولهم: "لو اجتهد لنقل ذلك واستفاض". فأجاب المصنف: بأنّا لا نسلم أن من ضرورة وقوع الاجتهاد نقله، فضلًا عن استفاضته؛ فهناك العديد من القضايا وقعت ولم تنقل، كما لا نسلم أن ذلك لم ينتشر، بل هي مستفيضة ومشهورة. انظر في ذلك: شرح الطوفي "3/ 600".
4 هذا هو الرد على الدليل الثالث، وهو: "أنه لو اجتهد لاختلف اجتهاده فيتهم". =

 

ج / 2 ص -347-       وعورض بأنه لو لم يتعبد بالاجتهاد: لفاته ثواب المجتهدين1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وخلاصة الردّ: عدم التسليم بأنه لو اجتهد لاختلف اجتهاده؛ لأنه معصوم، ومؤيد بالوحي الإلهي، فلو أخطأ لصحح له الوحي. على أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قد اتهم في النسخ من قبل السفهاء من الكفار بأنه يفعل اليوم أمرًا ثم ينهى عنه غدًا، ولم يؤدِ ذلك إلى بطلان النسخ.
1 قوله "وعورض...." أي: عورض كلام المانعين. والواقع أن هذا من تكملة أدلة الجمهور على وقوع الاجتهاد منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فكان الأولى ذكره قبل الرد على المخالفين.

فصل: [في خطأ المجتهد وإصابته]
الحق في قول واحد من المجتهدين، ومن عداه مخطئ، سواء كان في فروع الدين، أو أصوله2.
لكنه إن كان في فروع الدين، مما ليس فيه دليل قاطع -من نص أو إجماع- فهو معذور غير آثم، وله أجر على اجتهاده.
وبه قال بعض الحنفية والشافعية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وخلاصة الردّ: عدم التسليم بأنه لو اجتهد لاختلف اجتهاده؛ لأنه معصوم، ومؤيد بالوحي الإلهي، فلو أخطأ لصحح له الوحي. على أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قد اتهم في النسخ من قبل السفهاء من الكفار بأنه يفعل اليوم أمرًا ثم ينهى عنه غدًا، ولم يؤدِ ذلك إلى بطلان النسخ.
1 قوله "وعورض...." أي: عورض كلام المانعين. والواقع أن هذا من تكملة أدلة الجمهور على وقوع الاجتهاد منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فكان الأولى ذكره قبل الرد على المخالفين.
2 ينبغي أن نقرر أولًا: أن الأمور التي يجري فيها الاجتهاد إما أن تكون قطعية أو ظنية: فإن كانت قطعية فالمخطئ فيها آثم بلا خلاف؛ لأن الحقَّ فيها واحد؛ فمن أصابه فهو المحق، ومن أخطأه فهو المبطل، سواء أكان مدرك ذلك عقليًّا محضًا، كحدوث العالم، ووجود الصانع- جل وعلا- أو شرعيًّا مستندًا إلى ثبوت أمر عقلي، كعذاب القبر، والصراط، والميزان. انظر: الإحكام للآمدي "4/ 178"، شرح الكوكب المنير "4/ 488" والخلاف بين العلماء إنما هو في الأمور الظنية، كما هو واضح.

 

ج / 2 ص -348-       وقال بعض المتكلمين: كل مجتهد "في الظنيات" مصيب، وليس على الحق دليل مطلوب.
واختلف فيه عن أبي حنيفة والشافعي.
وزعم بعض من يرى تصويب كل مجتهد: أن دليل هذه المسألة قطعي2.
وفَرَضَ 3 الكلام في طرفين.
أحدهما: مسألة فيها نص فينظر:
فإن كان مقدورًا عليه، فقصّر المجتهد- في طلبه: فهو مخطئ آثم؛ لتقصيره.
وإن لم يكن مقدورًا عليه لبعد المسافة، وتأخير المبلّغ: فليس بحكم في حقه.
بدليل أن الله- تعالى- لما أمر جبريل أن يخبر محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- بتحويل القبلة إلى الكعبة، فصلَّى قبل إخبار جبريل إياه لم يكن مخطئًا4.
ولما بُلِّغ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-وأهل قباء يصلون إلى بيت المقدس لم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ما بين القوسين من المستصفى "4/ 48".
2 يقصد بذلك الإمام الغزالي، حيث نقل كلامه من أول قوله: "وفَرَضَ الكلام..." إلى قوله: "بخلاف أدلة العقول؛ فإنها لا تختلف"، والغريب أنه لم يصرح باسمه- كما قلنا في مقدمة الكتاب- مع أنه يختصر كلامه، أو يستبدل عبارته بعبارة مرادفة لها!
3 أي: الغزالي.
4 عبارة الغزالي: "أنه لو صلَّى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-إلى بيت المقدس، بعد أن أمر الله – تعالى- جبريل أن ينزل إلى محمد – عليه السلام- ويخبره بتحويل القبلة، فلا يكون النبي مخطئًا؛ لأن خطاب استقبال الكعبة- بعد – لم يبلغه".

 

ج / 2 ص -349-       يبلغهم: لم يكونوا مخطئين.
ولو بلغ أهل قباء فاستمر أهل مكة على الصلاة إلى أن بلغهم: لم يكونوا مخطئين.
وإذا ثبت هذا فيما فيه نصُّ: ففيما لا نصَّ فيه أولى.
ولا يخلو: إما أن تكون الإصابة ممكنة، أو محالًا. ولا تكليف بالمحال. ومن أمر بممكن، فتركه، أثم وعصى؛ إذ يستحيل أن يكون مأمورًا ولم يعص ولم يأثم بالمخالفة؛ لمناقضة ذلك للإيجاب.
وزعم: أن هذا تقسيم قاطع يرفع الخلاف مع كل مصنف.
ثم قال1: الظنيات لا دليل فيها؛ فإن الأمارات الظنية ليست أدلة لأعيانها، بل تختلف بالإضافات من دليل يفيد الظن لزيد، ولا يفيده لعمرو، مع إحاطته به.
بل ربما يفيد الظن لشخص واحد في حالة دون حالة.
بل قد يقوم في حق شخص واحد في حالة واحدة دليلان متعارضان، ولا يتصور في القطعية تعارض.
ولذلك ذهب أبو بكر الصديق – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إلى التسوية في العطاء، وعمر إلى التفضيل2، وكل واحد منهما كشف لصاحبه دليله وأطلعه عليه، فغلب على ظن كل واحد منهما ما صار إليه، وكان مغلّبًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الغزالي- أيضًا- وهذا هو الطرف الثاني، وإن كان الغزالي لم يعنون له في المستصفى.
2 رُوي عن أبي بكر- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أنه قال: "إنما أسلموا لله، وأجورهم عليه، وإنما الدنيا بلاغ" أما عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فقال: "لا أجعل من ترك داره وماله وهاجر إلى الله ورسوله كمن أسلم كرهًا" تقدم تخريج ذلك في فصل إثبات القياس على منكريه.

 

ج / 2 ص -350-       على ظنه دون صاحبه؛ لاختلاف أحوالهما.
فمن خُلِقَ خِلْقَتُهما1 يميل ميلهما، ويصير إلى ما صارا إليه في الاختلاف، ولكن اختلاف الأخلاق والأحوال والممارسة يوجب اختلاف الظنون.
فمن مارس الكلام: ناسب طبعه أنواعًا من الأدلة يتحرك بها ظنه، لا يناسب ذلك طبع من مارس الفقه.
ومن غلب عليه الغضب: مالت نفسه إلى ما فيه "شهامة وانتقام"2.
ومن رقَّ طبعه: مال إلى الرفق والمساهلة.
بخلاف أدلة العقول؛ فإنها لا تختلف.
وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الإثم غير محطوط في الفروع3، بل فيها حقّ معين4 عليه دليل قاطع؛ لأن العقل قاطع بالنفي الأصلي، إلا ما استثناه دليل سمعي قاطع.
وإنما استقام لهم هذا؛ لإنكارهم القياس وخبر الواحد.
وبما أنكروا الحكم بالعموم والظاهر5.
وزعم الجاحظ6: أن مخالف ملة الإسلام إذا نظر، فعجز عن درك الحقِّ: فهو معذور غير آثم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فسرهما الغزالي- بعد ذلك – فقال: "ومن خلقه الله خلقة عمر وعلى حالته وسجيته...."
2 في جميع النسخ: "السياسة والانتقام" والمثبت من المستصفى وهو المناسب.
3 وكذلك الأصول من باب أولى، كما قال الطوفي في شرحه "3/ 603".
4 في الأصل "يتعين" والمثبت من المستصفى.
5 بعدها في المستصفى: "المحتمل".
6 هو: عمرو بن بحر بن محبوب، أبو عثمان، المعروف بالجاحظ، العالم =

 

ج / 2 ص -351-       وقال عبيد الله بن الحسن العنبري1: كل مجتهد مصيب في الأصول والفروع جميعًا.
وهذه كلها أقاويل باطلة.
أما الذي ذهب إليه الجاحظ:
فباطل يقينًا، وكفر بالله- تعالى- وردٌّ عليه وعلى رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فإنا نعلم – قطعًا – أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتِّباعه، وذمهم على إصرارهم.
ونقاتل جميعهم، ونقتل البالغ منهم.
ونعلم: أن المعاند العارف مما يقل، وإنما الأكثر مقلدة، اعتقدوا دين آبائهم تقليدًا، ولم يعرفوا معجزة الرسول وصدقه.
والآيات الدالّة في القرآن على هذا كثيرة:
كقوله تعالى:
{ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} {وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المشهور، صاحب التصانيف في كل فنٍّ، وإليه تنسب فرقة الجاحظية من المعتزلة، من مؤلفاته: "البيان والتبيين" و"الحيوان". توفي بالبصرة سنة 255هـ انظر: وفيات الأعيان "3/ 140" بغية الوعاة "2/ 228".
1 هو: عبيد الله بن الحسن بن الحسين العنبري بن تميم، فقيه محدث، ولي القضاء بالبصرة، ولد سنة 105هـ وتوفي سنة 168هـ انظر: تاريخ بغداد "10/ 306"، الأعلام "4/ 346".
2 سورة ص، من الآية: "27".
3 سورة فصلت، الآية: "23".
4 سورة البقرة، من الآية: "78".
5 سورة المجادلة، من الآية: "18" وتمامها:
{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ}.

 

ج / 2 ص -352-       مُهْتَدُونَ} {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِه ِ...}2.
وفي الجملة: ذم المكذبين لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-مما لا ينحصر في الكتاب والسنة.
وقول العنبري: "كل مجتهد مصيب".
إن أراد: أنهم لم يؤمروا إلا بما هم عليه: فهو كقول الجاحظ.
وإن أراد: أن ما اعتقده فهو على اعتقاده: فمحال؛ إذ كيف يكون قِدَمُ العالم وحدوثه حقًّا، وتصديق الرسول وتكذيبه، ووجود الشيء ونفيه وهذه أمور ذاتية، لا تتبع الاعتقاد، بل الاعتقاد يتبعها؟!.
فهذا شر من مذهب الجاحظ، بل شر من مذهب السوفسطائية3:
فإنهم نفوا حقائق الأشياء، وهذا أثبتها، وجعلها تابعة للمعتقدات.
وقد قيل: إنما أراد4 اختلاف المسلمين.
وهو5 باطل كيفما كان؛ إذ كيف يكون القرآن قديمًا مخلوقًا، والرؤية محالًا ممكنًا وهذا محالٌ؟!6.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الزخرف، من الآية: "37".
2 سورة الكهف، من الآيتين: "104، 105".
3 تقدم التعريف بهم.
4 أي: العنبري.
5 أي: تفسير قول العنبري: بأن المراد به: اختلاف المسلمين.
6 معنى هذا: أن المعتذرين عن العنبري بأنه يقصد: اختلاف المسلمين، قولهم هذا مردود؛ فإن المعتزلة قالوا: القرآن مخلوق، والسلف الصالح وأهل الحديث قالوا: هو قديم، فكيف يتصور على زعمه أن يكون قديمًا وحديثًا؟! وكيف يتصور =

 

ج / 2 ص -353-       والدليل على أن الحق في جهة واحدة1: الكتاب، والسنة، والإجماع، والمعنى2.
أما الكتاب:
فقول الله – تعالى-
{وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ، فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}3.
فلو استويا في إصابة الحكم: لم يكن لتخصيص سليمان بالفهم معنى. وهو يدلُّ على فساد مذهب من قال: "الإثم غير محطوط عن المخطئ"، فإن الله- تعالى- مدح كلا منهما وأثنى عليه بقوله:
{وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}4.
فإن قيل: فيكف يجوز أن ينسب الخطأ إلى داود وهو نبيٌّ؟! ومن أين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= اجتماع الممكن والمحال، إذ أن السلف يقولون: إن رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة داخلة في الممكن، والمعتزلة قالوا: هي من المحال. انظر: نزهة المخاطر "2/ 420".
1 بدأ المصنف يورد الأدلة على أن الحق في قول واحد بعينهن ومن عداه مخطئ.....
2 المراد بالمعنى: الدليل العقلي.
3 سورة الأنبياء، من الآيتين: "78، 79".
4 قال الطوفي: موضحًا ذلك: "ولولا أن الحق في جهة بعينها، لما خصَّ سليمان بالتفهيم؛ إذ كان يكون ترجيحًا بلا مرجح، ولولا سقوط الإثم عن المخطئ، لما مدح داود عليه السلام بقوله – عَزَّ وَجَلََََّّّّ:
{وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} لأن المخطئ لا يمدح، فدلّ هذا على أن الحق في قول مجتهد معيّن، وأن المخطئ في الفروع غير آثم". شرح المختصر "3/ 605".

 

ج / 2 ص -354-       لكم أنه حكم باجتهاده، وقد علمتم الاختلاف في جواز ذلك1؟!.
ثم لو كان مخطئًا: كيف يمدح المخطئ وهو يستحق الذم؟!
ثم يحتمل: أنهما كانا مصيبين فنزل الوحي بموافقة أحدهما
قلنا:
يجوز وقوع الخطأ منهم، لكن لا يقرّون عليه، وقد ذكرنا ذلك فيما مضى.
وإذا تُصُوِّر وقوع الصغائر منهم: فكيف يمتنع وجود خطأ لا مأثمَ فيه، وصاحبه مثاب مأجور؟!
ولولا ذلك: ما عوتب نبينا- عليه السلام – على الحكم في أسارى بدر، ولا في الإذن في التخلف عن غزوة تبوك فقال- تعالى:
{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ....}2.
وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:
"إنكم لتختصمون إليَّ، ولعلّ بعضَكم أن يكون ألحنَ بحجته من بعضٍ، وإنما أقضي على نحو ما أسمعُ، فمن قضيت له بشيء من حقِّ أخيه فلا يأخذْهُ؛ فإنما أقْطعُ له قطعةً من النار"3.
فبين أنه يقضي للرجل بشيء من حقِّ أخيه.
قولهم: "من أين لكم أنه حكم بالاجتهاد؟!"
قلنا:
الآية دليل عليه؛ فإنه لو حكم بنص: لما اختصَّ سليمان بالفهم دونه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في مسألة جواز تعبّد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-بالاجتهاد فيما لا نص فيه.
2 سورة التوبة من الآية "43".
3 تقدم تخريج الحديث.

 

ج / 2 ص -355-       وقولهم: "إن النص نزل بموافقة سليمان".
قلنا:
لو كان ما حكم به داود – عليه السلام- صوابًا وهو الحق، فتغير الحكم بنزول النص: لا يمنع أن يكون فهمهما وقت الحكم، ولا يوجب اختصاص "سليمان" بالإصابة، كما لو تغير بالنسخ.
وأما السنة:
فما تقدم من الخبر، فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-أخبر بأنه يقضي للإنسان بحق أخيه.
ولو كان يأثم بذلك: لم يفعله النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.
ولو كان ما قضي به هو الحكم عند الله – تعالى- لما قال:
"قضيت له بشيء من حق أخيه" ولا قال: "إنما أقطع له قطعة من النار".
ولأن الحكم عند الله تعالى- لا يختلف باختلاف لحن1 المتخاصمين، أو تساويهما.
وروي أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- كان إذا بعث جيشًا أوصاهم فقال:
"إذا حاصرتم حصنًا أو مدينة، فطلبوا منكم أن تنزلوهم على حكم الله فلا تنزلوهم على حكم الله؛ فإنكم لا تدرون ما يحكم الله فيهم"2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اللَّحَن- بفتحتين: الفطنة، وهو سرعة الفهم، وفلان ألحن من فلان، أي: أسبق فهمًا منه. والمراد منه هنا: أن بعضكم قد يكون أعرف بالحجة وأفطن لها من غيره. انظر: المصباح المنير مادة "لحن".
2 أخرجه مسلم: كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث، ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها، وأبو داود: كتاب الجهاد باب في دعاء المشركين، والترمذي: كتاب السير، باب ما جاء في وصيته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في القتال، وابن ماجة: كتاب الجهاد، باب وصية الإمام، من حديث سليمان بن بريدة الأسلمي.

 

ج / 2 ص -356-       وروى ابن عمر وعمرو بن العاص وأبو هريرة، وغيرهم: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر".
هذا لفظ رواية عمرو. أخرجه مسلم1.
وهو حديث تلقته الأمة بالقبول.
وهو صريح في: أنه يحكم باجتهاده فيخطئ ويؤجر دون أجر المصيب.
فإن قيل: المراد به: أنه أخطأ مطلوبه، دون ما كلّفه، كخطأ الحاكم، ردّ المال إلى مستحقيه2، مع إصابته حكم الله عليه، وهو اتباع موجب ظنه. وخطأ المجتهد جهة القبلة مع أن فرضه جهة يظن أن مطلوبه فيها. وهذا يتحقق في كل مسألة فيها نص، أو اجتهاد يتعلق بتحقيق المناط، كأروش الجنايات، وقدر كفاية القريب؛ فإن فيها حقيقة معينة عند الله، وإن لم يكلف المجتهد طلبها3.
قلنا:
فإذا سلم هذا: ارتفع النزاع، فإننا لا نقول: إن المجتهد يُكلَّف إصابة الحكم، وإنما لكل مسألة حكم معين يعلمه الله، كلف المجتهد طلبه، فإن اجتهد فأصابه فله أجران، وإن أخطأه فله أجر على اجتهاده،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في كتاب الأقضية، باب أجر الحاكم إذا اجتهد وأخطأ، والبخاري: كتاب الاعتصام: باب أجر الحكام إذا اجتهد فأصاب وأخطأ، وأبو داود: كتاب الأقضية، باب في القاضي يخطئ.
2 عبارة الغزالي في المستصفى "4/ 76": "فإن الحاكم يطلب ردّ المال إلى مستحقه وقد يخطئ ذلك، فيكون مخطئًا فيما طلبه، مصيبًا فيما هو حكم الله – تعالى- عليه".
3 في الأصل "طلبه" والمثبت من المستصفى "4/ 77".

 

ج / 2 ص -357-       وهو مخطئ، وإثم الخطأ محطوط عنه.
كما في مسألة القبلة؛" فإن المصيب لجهة الكعبة عند اختلاف المجتهدين واحد، ومن عداه مخطئ يقينًا، يمكن أن يبين له خطأه، فيلزمه إعادة الصلاة عند قوم، ولا يلزمه عند آخرين، لا لكونه مصيبًا لها، بل سقط عنه التوجه إليها، لعجزه عنها.
وهكذا كون حق زيد عند عمرو، إذا اختلف فيه مجتهدان، فالمصيب أحدهما، والآخر مخطئ؛ إذ لا يمكن كون ذمة عمرو مشغولة بريئة.
وتخصيص ذلك بما فيه نص خلاف موجب العموم، وهو باطل- أيضًا- فإن القياس [في] معنى النص، ونحن نتعرف بالبحث المعني الذي قصده النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- فهو كالنص.
وأما الإجماع:
فإن الصحابة- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم – اشتهر عنهم في وقائع لا تحصى: إطلاق الخطأ على المجتهدين.
من ذلك: قول أبي بكر- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: في الكلالة: "أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان"1.
وعن ابن مسعود في قصة "برْوع" مثل ذلك2.
وقال عمر – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لكاتبه: "اكتب: هذا ما رآه عمر، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمن عمر"3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تقدم تخريج الأثر.
2 تقدم تخريجه.
3 جاء في سنن البيهقي "10/ 116": أن عمر رأى رأيًا، فكتب الكاتب: هذا ما =

 

ج / 2 ص -358-       وقال- في قضية قضاها: "والله، ما يدري عمر أصاب أم أخطأ" ذكره الإمام أحمد في رواية بكر بن محمد1 عن أبيه.
وقال علي لعمر- في المرأة التي أرسل إليها فأجهضت ذا بطنها، وقد استشار عثمان وعبد الرحمن، فقالا: "لا شيء عليك، إنما أنت مؤدب"- فقال علي: "إن يكونا قد اجتهدا: فقد أخطآ، وإن يكونا ما اجتهد فقد غشّاك، عليك الدية". فرجع عمر إلى رأيه2.
وقال علي- في إحراق الخوارج3:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أرى اللهُ أميرَ المؤمنين. فانتهره عمر، وقال: اكتب: هذا ما رأى عمر؛ فإن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمن عمر.
1 هو: بكر بن محمد النسائي البغدادي، روى عن أبيه عن الإمام أحمد – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – مسائل كثيرة، وكان الإمام أحمد يقدمه ويكرمه. انظر: طبقات الحنابلة "1/ 119، 120".
2 تقدم تخريج الأثر.
3 هكذا في الأصل، والذي في صحيح البخاري: أن الذين أحرقهم علي هم الزنادقة. روى البخارى: باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم حديث "6922" عن عكرمة قال: "أُتِيَ علي– رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابنعباس، فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: لا تعذبوا بعذاب النار، ولقتلتهم لقول رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:
"من بدل دينه فاقتلوه".
وحكى ابن حجر في الفتح روايات أخرى في الذين حرقوا: فقيل: إنهم أناس كانوا يعبدون الأصنام سرًّا. وقيل: إنهم جماعة ارتدوا عن الإسلام، فدعاهم إلى الإسلام، فأبوا، فأُتِيَ بهم فضرب أعناقهم ورماهم في حفرة، ثم ألقى عليهم الحطب فأحرقهم. وزعم أبو المظفر الإسفراييني في "الملل والنحل" أنهم طائفة من الروافض ادّعوا فيه الإلهية، وهم من السبائية أتباع عبد الله بن سبأ الذي كان يهوديًّا، ثم أظهر الإسلام وابتدع هذه المقالة.

 

ج / 2 ص -359-         لقد عثرت عثرة لا تنجبر     سوف أليسُ1 بعدها أو أستمر

..............................         وأجمع الرأي الشتيت المنتشر2

وقال ابن عباس: "ألا يتقي الله زيد؛ يجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أب الأب أبًا"3.
وقال: "من شاء باهلته في العول"4.
وقالت عائشة: "أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-إلا أن يتوب"5.
وهذا اتفاق منهم على أن المجتهد يخطئ.
فإن قيل6: لعلهم نسبوا الخطأ إليه، لتقصيره في النظر، أو لكونه من غير أهل الاجتهاد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ورُوي أنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بعد أن أحرقهم قال:
إني إذا رأيت أمرًا منكرًا
أوقدت ناري ودعوت قنبرًا
انظر: فتح الباري "12/ 331" طبعة دار الكتب العلمية.
1 جاء في تاج العروس مادة "ألس": "يقال: تلايس الرجل إذا حسن خلقه، وكان حمولًا، وتلايس عنه: أغمض"، ومعناه هنا: أني سوف أتحمل كل ما يفعله هؤلاء وأغمض العين عن القذى، أو أستمر على عقابهم حتى أجمع الرأي المتشتت المنتشر. نزهة الخاطر "2/ 424".
2 والشطر الأول: أرفع منذيلي ما كنت أجرُّ.
والبيتان نسبتهما إلى الإمام علي -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الطبري في تاريخه "4/ 437" إلا أن صدر البيت الأول عنده: إني عجزت عجزة لا أعتذر....
3 تقدم تخريجه.
4 في الأصل "القول" وهو خطأ مطبعيٌّ. وخلاف ابن عباس في العول تقدم توضيحه في فصل: حكم الإجماع بقول الأكثر.
5 تقدم تخريج هذا الأثر في فصل: حكم الإجماع بقول الأكثر.
3 القائل: هو الإمام الغزالي في المستصفى "4/ 81": ونصُّ عبارته: "وإنما ينتفي" =

 

ج / 2 ص -360-       أو يكون القائل لذلك يذهب مذهب من يرى التخطئة1.
قلنا:
أما الأول: فجهل قبيح، وخطأ صريح، كيف يستحل مسلم: أن "أن يقول: إن"2 الخلفاء الراشدين، والأئمة المجتهدين ومن سمينا معهم من البحر: ابن عباس، والأمين: عبد الرحمن بن عوف، وفقيه الصحابة وأفرضهم وقارئهم: زيد بن ثابت ليسوا من أهل الاجتهاد؟!
وإذا لم يكونوا من أهل الاجتهاد: فمن الذي يبلغ درجتهم؟!
ولا يكاد يتجاسر على هذا القول من له في الإسلام نصيب.
ونسبته لهم -أنهم قصّروا في الاجتهاد- إساءة ظنٍّ بهم، مع تصريحهم بخلافه، فإن عليًّا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: "إن يكونا قد اجتهدا فقد أخطآ" وتوقف ابن مسعود في قصة "برْوع" شهرًا. وهذا في القبح قريب من الذي قبله؛ لكونه نسب هؤلاء الأئمة إلى الحكم بالجهل والهوى، وارتكاب ما لا يحل، ليصحح به قوله الفاسد، فلا ينبغي أن يلتفت إلى هذا.
وقولهم: "يذهب مذهب من يرى التخطئة".
فكذلك هو، لكن هو إجماع منهم، فلا تحل مخالفته.
وأما المعنى: فوجوه:
أحدها: أن مذهب من يقول بالتصويب3 محالٌ في نفسه؛ لأنه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الخطأ: متى صدر الاجتهاد من أهله، وتم في نفسه، ووضع في محله، ولم يقع مخالفًا لدليل قاطع، ثم مع ذلك كله يثبت اسم الخطأ بالإضافة إلى ما طلب، لا إلى ما وجب".
1 أي: يذهب مذهب من يرى أن المصيب واحد، ومن عداه مخطئ.
2 ما بين القوسين من نسخة الدكتور عبد الكريم النملة – حفظه الله.
3 أي: أن كل مجتهد مصيب.

 

ج / 2 ص -361-       يؤدي إلى الجمع بين النقيضين، وهو: أن يكون يسير النبيذ حرامًا حلالًا، والنكاح بلا وليٍّ صحيحًا فاسدًا، ودم المسلم- إذا قتل الذمي- مهدرًا معصومًا، وذمة المحيل- إذا امتنع المحتال من قبول الحوالة على المليء- بريئة مشغولة؛ إذ ليس في المسألة حكم معين.
وقول كل واحد من المجتهدين حقٌّ وصواب مع تنافيهما.
قال بعض أهل العلم: هذا المذهب أوَّله سفسطة، وآخره زندقة؛ لأنه في الابتداء: يجعل الشيء ونقيضه حقًّا، وبالآخرة يخير المجتهدين بين النقيضين عند تعارض الدليلين، ويختار من المذاهب أطيبها.
قالوا: لا يستحيل كون الشيء حلالًا وحرامًا في حقّ شخصين، والحكم ليس وصفًا للعين.
فلا يتناقض أن يحل لزيد ما حرم على عمرو، كالمنكوحة، حلال لزوجها، حرام على غيره، وهذا ظاهر.
بل لا يمتنع في حق شخص واحد مع اختلاف الأحوال كالصلاة واجبة في حق المحدث، إذا ظن أنه متطهر، حرام إذا علم بحدثه.
وركوب البحر: مباح لمن غلب على ظنه السلامة، حرام على الجبان الذي يغلب على ظنه العطب1.
والجواب2:
أنه يؤدي إلى الجمع بين النقيضين في حق شخص واحد؛ فإن المجتهد لا يَقْصُرُ الحكم على نفسه، بل يحكم بأن يسير النبيذ حرام على كل واحد، والآخر يقضي بإباحته في حق الكل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جاء في المصباح المنبر "عَطِبَ": عطبًا من باب تَعِبَ: هلك.
2 أي على كون الحكم وصفًا لأفعال المكلفين، وإثبات كونه وصفًا للأعيان.

 

ج / 2 ص -362-       فكيف يكون حرامًا على الكل، مباحًا لهم؟!
أم كيف تكون المنكوحة بلا وليٍّ مباحة لزوجها، حرامًا عليه؟!
ثم لو لم يكن محالًا في نفسه، لكنه يؤدي إلى المحال في بعض الصور: فإنه إذا تعارض عند المجتهد دليلان، فيتخير بين الشيء ونقيضه.
ولو نكح مجتهد امرأة بلا وليٍّ، ثم نكحها آخر يرى بطلان الأول، فكيف تكون مباحة للزوجين؟
المسلك الثاني1:
لو كان كل مجتهد مصيبًا: جاز لكل واحد من المجتهدين في القبلة أن يقتدي كل واحد منهما بصاحبه؛ لأن كل واحد منهما مصيب، وصلاته صحيحة، فلِمَ لا يقتدي بمن صلاته صحيحة في نفسه؟!2
ثم يجب أن يُطوى بساط المناظرات في الفروع، لكون كل واحد منهم مصيبًا لا فائدة في نقله عن ما هو عليه، ولا تعريفه ما عليه خصمه.
المسلك الثالث:
أن المجتهد يكلف الاجتهاد بلا خلاف، والاجتهاد: طلب يستدعي مطلوبًا لا محالة، فإن لم يكن للحادثة حكم: فما الذي يطلب؟ فمن يعلم – يقينًا- أن زيدًا ليس بجاهل ولا عالم، هل يتصور أن يطلب الظن بعلمه؟!
ومن يعتقد أن النبيذ ليس بحلال ولا حرام، كيف يطلب أحدهما؟! فإن قالوا: إن المجتهد لا يطلب حكم الله – تعالى- بل إنما يطلب غلبة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: الوجه الثاني من قوله- قبل ذلك- "والمعنى من وجوه".
2 أي: في نفس المجتهد المؤتم؛ حيث يعتقد أن كل مجتهد مصيبٌ، على فرض صحة هذا المذهب.

 

ج / 2 ص -363-       الظن، فيكون حكمه، ما غلب على ظنه.
كمن يريد ركوب البحر فقيل له: إن غلب على ظنك الهلاك: حرم عليك الركوب، وإن غلب على ظنك السلامة: أُبِيْحَ لك الركوب، وقبل الظن لا حكم لله – تعالى- عليك سوى اجتهادك في تتبع ظنك.
فالحكم يتجدد1 بالظن، ويوجد بعده.
ولو شهد عند قاض شاهدان، فحكم الله – تعالى – عليه يترتب عليه ظنه:
إن غلب عليه الصدق: وجب قبوله.
وإن غلب على ظنه الكذب: لم يجب قبوله.
قلنا:
قولهم: "إنما يطلب غلبة2 ا لظن".
فالظن- أيضًا- لا يكون إلا لشيء مظنون، ومن يقطع بانتفاء الحكم كيف يتصور أن يظن وجوده؟!؛ فإن الظن لا يتصور إلا لموجود، والموجود يتتبع الظن، فيؤدي إلى الدور.
وراكب البحر لا يطلب الحكم، إنما يطلب تعرّف الهلاك أو السلامة، وهذا أمر يمكن تعرّفه.
والحاكم إنما يطلب الصدق أو الكذب، وهذا غير الحكم الذي يلزمه، بخلاف ما نحن فيه؛ فإن المطلوب: هو الحكم الذي يعلم أنه لا وجود له، فكيف يتصور طلبه له؟!
ثم إذا علمنا أنه لا حكم لله- تعالى- في الحادثة، فلِمَ يجب الاجتهاد؟!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عبارة المستصفى: "يتبع".
2 في الأصل: "عليه" والمثبت من نسخة الدكتور النملة.

 

ج / 2 ص -364-       فإننا إذا علمنا بالعقل قبل ورود الشرع: انتفاء الواجبات، وسقوط الحرج عن الحركات والسكنات، فيجب أن يطلق في الأشياء من غير اجتهاد، والعامِّي الذي لا اجتهاد له لا يؤاخذ على فعل من الأفعال؛ فإن الحكم إنما يحدث بالاجتهاد، وهو لا اجتهاد له، فلا حكم عليه إذًا، ولا خطاب في حقه، وهذا فاحش.
وقولهم: "إن النص إذا لم يقدر عليه المجتهد لا يكون حكمًا في حقه": ممنوع، بل الحكم بنزول النص إلى الخلق، بلغهم أو لم يبلغهم.
فلو وقف الحكم على سماع الخطاب، وبلوغ النص: لم يكن على العامّي حكم في أكثر المسائل؛ لكونه لم يبلغه النص، ولكان المجتهد إذا امتنع من الاجتهاد لا حكم عليه لتلك الحادثة، ولا يجب عليه قضاء ما ترك من العبادات والواجبات، ولا يكون مخطئًا إلا بترك الاجتهاد لا غير.
أما النص إذا نزل به "جبريل" فقد قال أبو الخطاب: يكون نسخًا، وإن لم يعلم به المنسوخ عنه1.
وإنما اعتدّ أهل قباء بما مضى من صلاتهم؛ لأن القبلة يعذر فيها بالعذر2.
جواب ثانٍ:
أن هذا فرض في مسألة لا يتوهم أن لها دليلًا يطلب، وإنما الخطأ فيما نصب الله – تعالى- عليه دليلًا، وأوجب على المكلف طلبه، ثم يحتاج إلى بيان تصور ذلك، وإمكان خلو بعض المسائل من الدليل، وهو باطل؛ إذ لا خلاف في وجوب الاجتهاد في الحادثة، وتعرّف حكمها،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 التمهيد "2/ 395".
2 هذا جواب سؤال مقدر تقديره: يرد على قولكم: إذا نزل جبريل بالنص يكون =

 

ج / 2 ص -365-       والشرع قد نصب عليها: إما دليلًا قاطعًا، أو ظنيًّا.
قولهم: "إن الأدلة الظنية ليست أدلة لأعيانها بدليل: اختلاف الإضافات".
قلنا:
هذا باطل، فإنّا قد بينّا في كل مسألة دليلًا، وذكرنا وجه دلالته. ولو لم يكن فيها أدلة: لاستوى1 المجتهد والعامّي.
ولجاز للعامّي الحكم بظنه، لمساواته المجتهد في عدم الدليل.
وهل الفرق بينهما إلا معرفة الأدلة، ونظره في صحيحها وسقيمها2؟!
ونبوّ3 بعض الطباع عن قبول الدليل لا يخرجه عن دلالته؛ فإن كثيرًا من العقليات يختلف فيها الناس مع اعتقادهم أنها قاطعة.
ولا ينكر أن منها ما تضعف دلالته، ويخفى وجهه، ويوجد معارض له، فتشتبه على المجتهد، وتختلف فيه الآراء.
ومنها: ما يظهر ويتبين خطأ مخالفيه، وكلها أدلة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= نسخًا، وإن لم يعلم به المنسوخ عنه: أن أهل قباء اعتدّوا بما مضى من صلاتهم، ولم يستأنفوها، ولو عدوا النزول نسخًا لاستأنفوها.
فأجاب المصنف: أن القبلة يعذر فيها بالعذر، فهي خارجة عما ذهبنا إليه، ومعنى: يعذر فيها بالعذر، أي: يقبل فيها العذر، انظر: نزهة الخاطر "2/ 429".
1 في الأصل "لا يستوي" والمثبت من الدكتور النملة.
2 أي: نظر المجتهد في الأدلة وتمييز بين ما يصلح منها وما لا يصلح
3 جاء في المصباح المنير مادة "نبا": "نبا الطبع عن الشيء: نفر ولم يقبله".

 

ج / 2 ص -366-       ولأن الظن إذا لم يكن دليلًا: فبِمَ عرفتم أنه ليس بدليل1؟
ويلزم من انتفاء ذلك: انتفاء الدليل على أنه ليس بدليل!.
وقولهم: "إنه لا يخلو إما أن يكون مكلفًا بممكن، أو بغير ممكن".
قلنا:
لا يكلف إلا ما يمكن.
ولا نقول: إنه يكلف الإصابة في محل التعذر، بل يكلف طلب الصواب، والحكم بالحق الذي هو حكم الله.
فإن أصابه: فله أجر اجتهاده، وأجر إصابته.
وإن أخطأ: فله ثواب اجتهاده، والخطأ محطوط عنه. والله – تعالى- أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معناه: أنه يلزم من انتفاء كون الظن دليلًا: الدليل على أن الظن ليس بدليل، وذلك الانتفاء لا يحصل إلا بالظن، وذلك دور. انظر: نزهة الخاطر "2/ 430".

فصل: [في تعارض الأدلة]
إذا تعارض دليلان عند المجتهد، ولم يترجح أحدهما: وجب عليه التوقف، ولم يكن له الحكم بأحدهما، ولا التخيير فيهما.
وبه قال أكثر الحنفية، وأكثر الشافعية.
وقال بعضهم وبعض الحنفية: يكون المجتهد مخيرًا في الأخذ بأيهما شاء؛ لأنه لا يخلو:
إما أن يعمل بالدليلين
أو يسقطهما.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 معناه: أنه يلزم من انتفاء كون الظن دليلًا: الدليل على أن الظن ليس بدليل، وذلك الانتفاء لا يحصل إلا بالظن، وذلك دور. انظر: نزهة الخاطر "2/ 430".

 

ج / 2 ص -367-       أو يتحكم بتعيين أحدهما.
أو يتخير فيهما.
لا سبيل إلى الجمع بينهما، عملًا وإسقاطًا؛ لأنه متناقض، ولا إلى التوقف إلى غير غاية، فإن فيه تعطيلًا، وربما لم يقبل الحكم التأخير.
ولا سبيل إلى التحكم.
لم يبق إلا التخيير، والتخيير بين الحكمين مما ورد به الشرع في العامّي، إذا أفتاه مجتهدان، وفي خصال الكفارة1، والتوجه إلى أي جدران الكعبة شاء لمن دخلها.
والتخيير في زكاة مائتين من الإبل بين الحقاق وبنات اللبون 2. وأمثال ذلك.
فإن قلتم: التخيير بين التحريم ونقيضه، والإيجاب وعكسه، يرفع التحريم والإيجاب.
قلنا:
إنما يناقض الإيجاب: جواز الترك مطلقًا، أما جوازه بشرط فلا،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فإنه مخير بين العتق والإطعام والكسوة. قال الله تعالى:
{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ...} [المائدة: 89].
2 أي: أن المزكي إذا كان عنده مائتان من الإبل، خُيّر بين أن يخرج عنها أربع حقاق، أو خمس بنات لبون؛ لأنه قد وجد لديه مقتضي إخراج بنات اللبون والحقاق، فإنه في كل أربعين بنت لون، وفي كل خمسين حقة. وبنت اللبون: ما لها سنتان، سُميت بذلك لأن أمها وضعت- غالبًا- فأصبحت ذات لبن، والحقة: ما لها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة، سُميت بذلك لأنها استحق أن تركب ويحمل عليها، ويطرقها الفحل.

 

ج / 2 ص -368-       بدليل الواجب الموسع، يجوز تركه بشرط1.
والركعتان الأخيرتان في الرباعية من المسافر، يجوز تركهما بشرط قصد القصر. كذا هاهنا: يجوز ترك الواجب بشرط قصد الدليل المسقط له.
وإذا سمع قوله:
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}2: حرم عليه الجمع "بين المملوكتين"3، وإنما يجوز له الجمع إذا قصد الدليل الثاني، وهو قوله: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ...} 4 كما قال عثمان: "أحلتهما آية وحرمتهما آية".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو: الإتيان به في الوقت الموسع، وهو الذي قال عنه في فصل تقسيم الواجب: "وفعل يعاقب على تركه بالإضافة إلى مجموع الوقت، ولا يعاقب بالإضافة إلى بعض أجزاء الوقت".
2 سورة النساء من الآية: "23".
3 ما بين القوسين من المستصفى "4/ 118" وعليه يتوقف صحة المعنى.
4 سورة النساء، من الآية: "24" ولفظ المؤمنون:
{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} آية: "6" ومثلها في المعارج آية: "30" وفي جميع الطبعات: "أو ما ملكت أيمانكم" وهو خطأ يجب أن يتنبه له.
ومحل الشاهد: أن قوله تعالى:
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} يقتضي تحريم الجمع بين الأختين بملك اليمين؛ لأنها لم تفرق بين الأختين في الزواج وملك اليمين. وقوله تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يقتضي إباحة الجمع بين الأختين بملك اليمين؛ حيث لم تفرق الآية بين الأختين وغيرهما. وهذا معنى قول "عثمان"- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أحلتهما آية وحرمتهما آية"، تقدم تخريجه.

 

ج / 2 ص -369-       ولنا:
أن التخيير: جمع بين النقيضين، واطّراح لكلا الدليلين، وكلاهما باطل.
أما بيان اطّراح الدليلين: فإذا تعارض الموجَب والمحرَّم فيصير على التخيير المطلق، وهو حكم ثالث غير الدليلين معًا، فيكون اطّراحًا لهما، وتركًا لموجبهما.
وأما الجمع بين النقيضين: فإن المباح نقيض المحرَّم، فإذا تعارض المبيح والمحرِّم، فخيرناه بين كونه محرَّمًا يأثم بفعله، وبين كونه مباحًا لا إثم على فاعله: كان جمعًا بينهما، وذلك محال.
ولأن في التخيير بين الموجِب والمبيح رفعًا للإيجاب، فيصير عملًا بالدليل المبيح عينًا، وهو تحكم، قد سلموا بطلانه1.
قولهم2: "إنما جاز بشرط القصد".
قلنا:
فقبل أن يقصد العمل بأحدهما: ما حكمه؟
إن قلتم: حكمه الوجوب والإباحة معًا، والتحريم والحل معًا، فقد جمعتم بين النقيضين.
وإن قلتم: حكمه التخيير، فقد نفيتم الوجوب قبل القصد، واطّرحتم دليله، وأثبتم حكم الإباحة من غير شرط.
وإن قلتم: لا حكم له قبل القصد، وإنما يصير له بالقصد حكم.
فهذا إثبات حكم بمجرد الشهوة، والاختيار من غير دليل؛ فإن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حيث قالوا في دليلهم السابق: "ولا سبيل إلى التحكم، لم يبق إلا التخيير".
2 بدأ المصنف يناقش أدلة المذهب الثاني.

 

ج / 2 ص -370-       الدليلين وجدا، فلم يثبت لهما حكم، وثبت بمجرد شهوته وقصده بلا دليل، وهذا باطل.
قولهم: "إن التوقف لا سبيل إليه".
قلنا:
نلزمك ما إذا لم يجد المجتهد دليلًا في المسألة، والعامّي إذا لم يجد مفتيًا، فماذا يصنع؟
وهل ثَمَّ طريق إلا التوقف في المسألة؟
ثم لا نسلم تصور خلوِّ المسألة عن دليل؛ فإن الله تعالى – كلّفنا حكمه، ولا سبيل إليه إلا بدليل.
فلو لم يجعل له دليلًا كان تكليفًا لِمَا لا يطاق.
فعند ذلك إذا تعارض دليلان، وتعذر الترجيح أسقطهما، وعدل إلى غيرهما، كالحاكم إذا تعارضت عنده بينتان.
أما العامّي:
فقد قيل: يجتهد في أعيان المفتين، فيقلد أعلمهما وأدينهما. وهو ظاهر قول الخرقي1؛ لأنه قال في الأعمى إذا كان مع مجتهدَيْن في القبلة، قلّد أوثقهما في نفسه2.
وقيل3: يخير فيهما.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد، أبو القاسم الخرقي، من فقهاء الطبقة الثالثة الحنابلة، صاحب كتاب "المختصر في الفقه" توفي بدمشق سنة 334هـ.
طبقات الحنابلة "2/ 75-76".
2 انظر: المختصر مع المغني "2/ 109".
3 وهذا هو الرأي الثاني في العامّي "إذا أفتاه مجتهدان.

 

ج / 2 ص -371-       والفرق بينهما1: أن العامّي ليس عليه دليل، ولا هو متعبد باتباع موجب ظنه.
بخلاف المجتهد؛ فإنه متعبد بذلك، ومع التعارض لا ظنّ له، فيجب عليه التوقف.
ولهذا لا يحتاج العامّي إلى الترجيح بين المفتين على هذا الوجه، ولا يلزمه العمل بالراجح، بخلاف المجتهد.
ولا ينكر التخيير في الشرع2، لكن التخيير بين النقيضين ليس له في الشرع مجال، وهو في نفسه محال. والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: بين العامّي والمجتهد.
2 مثل التخيير في كفارة اليمين بين الإطعام والكسوة والعتق، وبين إخراج أربع حقاق، أو خمس بنات لبون في مائتين من الإبل، كما تقدم.

فصل: [هل للمجتهد أن يقول قولين في مسألة واحدة]
وليس للمجتهد أن يقول في المسألة قولين في حالٍ واحدة، في قول عامّة الفقهاء.
وقال ذلك الشافعي في مواضع1.
منها: قال في المسترسل من اللحية قولان:
أحدهما: يجب غسله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1روي أن ذلك وقع منه -رضي الله عنه– في ستة عشر أو سبعة عشر مسألة. انظر: نهاية السول للإسنوي "3/ 184".

 

ج / 2 ص -372-       والآخر: لا يجب1.
فقيل عنه: لعله تكافأ عنده الدليلان، فقال بهما على التخيير. أو علم الحق في أحدهما لا بعينه فقال ذلك، لينظر فيهما، فاخترمه الموت، أو نبه أصحابه على طريق الاجتهاد.
ولا يصح شيء من ذلك؛ فإن القولين لا يخلو:
إما أن يكونا صحيحين، أو فاسدين.
أو أحدهما صحيح، والآخر فاسد.
فإن كانا فاسدين: فالقول بهما حرام.
وإن كانا صحيحين، وهما ضدان: فكيف يجتمع ضدان؟!
وإن كان أحدهما فاسدًا، لم يخلُ:
إما أن يعلم فساد الفاسد، أولا يعلمه.
فإن علمه، فكيف يقول قولًا فاسدًا؟! أم كيف يلبّس2 على الأمة بقول يحرم القول به؟!
وإن اشتبه عليه الصحيح بالفاسد، لم يكن عالمًا بحكم المسألة، ولا قول له فيها أصلًا، فكيف يكون له قولان؟!.
قولهم: "تكافأ عنده دليلان". قد أبطلناه3.
ثم لو صح، فحكمه التخيير، وهو قول واحد.
وقولهم: "إنه علم الحق في أحدهما لا بعينه".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: الأم "1/ 25" طبعة دار المعرفة – لبنان.
2 في المصباح المنير مادة "لبس": "ولبست الأمر لبسًا- من باب ضرب- خلطته، وفي التنزيل
{وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9]. والتشديد مبالغة".
3 في قوله- سابقًا: "وإن كانا صحيحين وهما ضدان، فكيف يجتمع ضدان؟!".

 

ج / 2 ص -373-       قد بينا أن ما كان كذلك لم يكن له في المسألة قول أصلًا. ثم كان ينبغي أن ينبه على ذلك، ويقول:
لي في المسألة نظر" أو يقول: "الحق في أحد هذين القولين".
إما إطلاقه فلا وجه له.
وهذا هو الجواب عن الآخر1.
أما ما يحكى عن غيره من الأئمة من الروايتين، فإنما يكون ذلك في حالتين، لاختلاف الاجتهاد، والرجوع عما رأى إلى غيره "ثم إن علمنا المتأخر عملنا به وألغينا المتقدم، وإن لم نعلم"2 المتقدم منهما، فيكونان كالخبرين المتعارضين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو قولهم: "إنه قال ذلك لينبه أصحابه على طريق الاجتهاد". ومعناه: أنه كان يجب عليه أن يبين ولا يطلق.
2 ما بين القوسين زيادة من ط الدكتور عبد العزيز السعيد- حفظه الله – ص "376" وهو وإن لم يذكر مصدر هذه الزيادة، إلا أن هذا موافق لما قاله القاضي أبو يعلى في العدة "5/ 1616 – 1617" حيث قال: "قيل: الروايتان لم يقلهما أحمد في حالٍ واحدةٍ، فيؤدي ذلك إلى أن يكون الشيء الواحد حلالًا حرامًا، وإنما قال ذلك في وقتين مختلفينن رجع عن الأول منهما. ولو علمنا المتأخر منهما صرنا إليه، وجعلناه رجوعًا عن الأول، فلما لم نعرف المتقدم من المتأخر، جعلنا الحكم فيها مختلفًا؛ لأنه ليس تقديم أحدهما أولى من تأخيره".

فصل: [المجتهد لا يقلد غيره]
اتفقوا على أن المجتهد إذا اجتهد فغلب على ظنه الحكم، لم يجزْ له تقليد غيره.

 

ج / 2 ص -374-       وعلى أن العامّي له تقليد المجتهد.
فأما المتمكن من الاجتهاد في بعض المسائل، ولا يقدر على الاجتهاد في البعض إلا بتحصيل علم على سبيل الابتداء، كالنحو في مسألة نحوية، وعلم صفات الرجال في مسألة خبرية، فالأشبه: أنه كالعامّي فيما لم يُحصّل علمُه؛ فإنه كما يمكنه تحصيله، فالعامّي يمكنه ذلك مع المشقة التي تلحقه.
إنما المجتهد الذي صارت العلوم عنده حاصلة بالقوة القريبة من الفعل، من غير حاجة إلى تعب كثير بحيث لو بحث عن المسألة، ونظر في الأدلة استقل بها، ولم يفتقر إلى تعلُّمٍ من غيره.
فهذا المتجهد هل يجوز له تقليد غيره.
قال أصحابنا: ليس له تقليد مجتهد آخر، مع ضيق الوقت، ولا سعته، لا فيما يخصه، ولا فيما يفتي به.
لكن يجوز له أن ينقل للمستفتي مذهب الأئمة، كأحمد والشافعي، ولا يفتي مِنْ عند نفسه بتقليد غيره؛ لأن تقليدَ مَنْ لا تثبت عصمته، ولا تعلم إصابته: حكمٌ شرعيٌّ لا يثبت إلا بنص، أو قياس، ولا نص ولا قياس؛ إذ المنصوص عليه العامّي مع المجتهد، وليس ما اختلفنا فيه مثله؛ فإن العامّي عاجز عن تحصيل العلم والظن بنفسه، والمجتهد قادر، فلا يكون في معناه.
فإن قيل: هو لا يقدر على غير الظن، وظن غيره كظنه.
قلنا:
مع هذا إذا حصل ظنه: لم يجزْ له اتباع ظن غيره، فكان ظنه أصلًا، وظن غيره بدلًا، فلا يجوز إثباته إلا بالدليل.
ولأنه إذا لم يجزْ له العدول إليه مع وجود المبدل، لم يجزْ مع

 

ج / 2 ص -375-       القدرة عليه، كسائر الأبدال والمبدلات.
فإن قيل: "لا نسلم عدم النص في المسألة، بل فيها نصوص: كقوله تعالى:
{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}1. وهذا لا يعلم هذه المسألة.
وقوله:
{... أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}2.
قلنا:
المراد بالأولى: أمر العامّة بسؤال العلماء؛ إذ ينبغي أن يتميز السائل عن المسؤول، فالعالم مسؤول غير سائل، ولا يخرج عن العلماء بكون المسألة غير حاضرة في ذهنه إذا كان متمكنًا من معرفتها من غير تعلُّمٍ من غيره.
الثاني3:
يحتمل أن يكون معناه: اسألوا لتعلموا، أي: سلوا عن الدليل ليحصل العلم، كما يقال: "كُلْ لتشبع" و"اشرب لتروي" والمراد بـ
{أُولِي الْأَمْرِ}: الولاة، لوجوب طاعاتهم؛ إذ لا يجب على المجتهد طاعة المجتهد.
وإن كان المراد به العلماء، فالطاعة على العوامّ.
ثم هو معارض بعمومات أخرى أقوى مما ذكروه، يمكن التمسك بها في المسألة:
كقوله تعالى:
{فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}4، وقوله تعالى:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل، من الآية: "43"، والأنبياء، من الآية: "7".
2 سورة النساء، من الآية: "59".
3 أي: المعنى الثاني الذي يمكن أن يؤخذ من قوله تعالى:
{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ}.
4 سورة الحشر، من الآية: "2".

 

ج / 2 ص -376-       {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}1، وقوله سبحانه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}2 وقوله سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}3.
وهذا أمر بالتدبر والاستنباط، والخطاب مع العلماء.
ثم لا فرق بين المماثل والأعلم؛ فإن الواجب أن ينظر إن وافق اجتهاده الأعلم: فذاك.
وإن خالفه فمن أين ينفع كونه أعلم وقد صار مزيفًا؟!4 عنده، وظنه عنده أقوى من ظن غيره، وله الأخذ بظن نفسه اتفاقًا، ولم يلزمه الأخذ بقول غيره؟! وإن كان أعلم، فينبغي أن لا يجوز تقليده.
فإن قيل: فلم ينقل عن طلحة والزبير ونظرائهما نظر في الأحكام، مع ظهور الخلاف، فالأظهر أنهم أخذوا بقول غيرهم.
قلنا:
كانوا لا يفتون، اكتفاءً بغيرهم، وأما علمهم لنفوسهم: لم يكن إلا بما عرفوه، فإن أشكل عليهم شاوروا غيرهم، لتعرّف الدليل، لا للتقليد، والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النساء، من الآية: "83".
2 سورة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- من الآية: "24".
3 سورة النساء، من الآية: "59".
4 أصل التزييف: تمييز الرائج من الزائف، وهو الرديء، ثم استعمل في الرد والإبطال. تاج العروس مادة "زيف".

 

ج / 2 ص -377-       فصل: [إذا نصّ المجتهد على حكم لعلة في مسألة فهو مذهبه في كل ما توجد فيه هذه العلة]
إذا نص المجتهد على حكم في مسألة لعلة بيّنها توجد في مسائل سوى المنصوص عليه: فمذهبه في تلك المسائل كمذهبه في المسألة المعللة؛ لأنه يعتقد الحكم تابعًا للعلة، ما لم يمنع منها مانع.
فإن لم يبين العلة: لم يجعل ذلك الحكم مذهبه في مسألة أخرى. وإن أشبهتها شبهًا يجوز خفاء مثله على بعض المجتهدين.
فإنا لا ندري لعلها لو خطرت له: لم يَصِرْ فيها إلى ذلك الحكم. ولأن ذلك إثبات مذهب بالقياس.
ولذلك افترقا في منصوص الشارع: فما1 نصَّ على علته كان كالنص، يُنسخ وينسخ به، وما لم ينص على علته: لم ينسخ ولم ينسخ به.
ولو نص المجتهد- على مسألتين متشابهتين بحكمين مختلفين: لم ينقل حكم إحداهما إلى الأخرى؛ ليكون له في المسألتين روايتان؛ لأنّا إذا لم نجعل مذهبه في المنصوص عليه مذهبًا في المسكوت عنه، فالطريق الأولى: أن لا نجعله مذهبًا له فيما نُصّ على خلافه.
ولأنه إنما يضاف إلى الإنسان مذهب في المسألة، بنصه، أو دلالة تجري مجرى نصه، ولم يوجد أحدهما.
وإن وجد منه نوع دلالة على الأخرى، لكن قد نص فيها على خلاف تلك الدلالة، فالدلالة2 الضعيفة لا تقاوم النص الصريح.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل "فيما" والمثبت من ط الدكتور عبد العزيز السعيد.
2 في الأصل "والدلالة" والمثبت من ط الدكتور السعيد.

 

ج / 2 ص -378-       فإن نص في مسألة واحدة على حكمين مختلفين، ولم يعلم تقدم أحدهما: اجتهدنا في أشبههما بأصوله، وأقواهما في الدلالة فجعلناها له مذهبًا، وكنا شاكِّين في الأخرى. وإن علمنا الآخرة: فهي المذهب؛ لأنه لا يجوز أن يجمع بين قولين مختلفين- على ما بينا1- فيكون نصه الأخير رجوعًا عن رأيه الأول، فلا يبقى مذهبًا له، كما لو صرح بالرجوع.
وقال بعض أصحابنا: يكون الأول مذهبًا له؛ لأنه لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد.
ولا يصح2.
فإنهم إن أرادوا أن لا يترك ما أداه إليه اجتهاده الأول باجتهاده الثاني، فهو باطل يقينًا؛ فإنّا نعلم أن المجتهد في القبلة إذا تغير اجتهاده: ترك الجهة التي كان مستقبلًا لها، وتوجه على غيرها، والمفتي إذا أفتى في مسألة بحكم، ثم تغير اجتهاده: لم يجزْ أن يفتي فيها بذلك الحكم3، وكذلك الحاكم.
وإن أرادوا: أن الحكم الذي حكم به على شخص لا ينقضه، أو ما أداه من الصلوات لا يعيده: فليس هذا نظيرًا لمسألتنا.
إنما الخلاف فيما إذا تغير اجتهاده، هل يبقى الأول مذهبًا له أم لا، وقد بينا أنه لا يبقى4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: في فصل: ليس للمجتهد أن يقول في المسألة قولين.
2 أي: لا يصح هذا القول: وبذلك يكون المصنف قد رجح المذهب الأول، وسوف يدلل على ذلك فيما يأتي.
3 أي: الأول.
4 في فصل: ليس للمجتهد أن يقول في المسألة قولين.

 

ج / 2 ص -379-       ثم يبطل ما ذكروه بما [لو] صرح بالرجوع عن القول الأول، فكيف يجعل مذهبًا له مع قوله: "رجعت عنه، واعتقدت بطلانه"؟! فلا بد من نقض الاجتهاد بالاجتهاد.
وعند ذلك ينبه على أن المجتهد لو تزوج امرأة خالعها ثلاثًا1 وهو يرى أن الخلع فسخ، ثم تغير اجتهاده، واعتقد أن الخلع طلاق، لزمه تسريحها، ولم يجزْ له إمساكها على خلاف اعتقاده.
فإن حكم بصحة ذلك النكاح حاكم، ثم تغير اجتهاده، لم يفرق بين الزوجين، لمصلحة الحكم، فإنه لو نقض الاجتهاد بالاجتهاد. لنقض النقض، وتسلسل، واضطربت الأحكام، ولم يوثق بها.
أما إذا نكح المقلد بفتوى مجتهد، ثم تغير اجتهاد المجتهد: فهل يجب على المقلد تسريح زوجته؟
الظاهر: أنه لا يجب؛ لأن عمله بفتياه جري مجرى حكم الحاكم، فلا ينقض ذلك، كما لا ينقض ما حكم به الحاكم2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لفظ "ثلاث" ليس في أصلنا. وأثبتناه من ط الدكتور النملة.
2 قال الطوفي- ملخصا ذلك: "وحاصل ما ذكر: أن اجتهاد المجتهد إما أن يتجرد عن الحكم والفتوى، أو لا يتجرد. فإن تجرد عنهما: وجب نقضه بالاجتهاد المخالف له بعده. وإن اقترن به حكم: لم ينقض، واستؤنف العمل بالاجتهاد الثاني.
وإن اقترن به الفتيا، والعمل بها: احتمل أن لا ينقض ما عمل بها مطلقًا في النكاح، وغيره تنزيلًا للعمل بها منزلة حكم الحاكم، واحتمل أن ينقض ما سوى النكاح، كما فرض في المختصر، فرقًا بينه وبين غيره بما عرف من خواصّه، وتشوق الشرع إلى تكثيره". شرح المختصر "3/ 649".

 

ج / 2 ص -380-       فصل: في التقليد
التقليد في اللغة: وضع الشيء في العنق مع الإحاطة به.
ويسمى ذلك قلادة، والجمع قلائد1.
قال الله تعالى:
{... وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ}2.
ومنه قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في الخيل: "لا تقلِّدوها الأوتار"3.
قال الشاعر4:

قلدوها تمائمًا            خوف واش وحاسد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: معجم مقاييس اللغة "5/ 19"، القاموس المحيط "1/ 329".
2 سورة المائدة، من الآية: "2".
3 هذا الحديث روي بطرق مختلفة، منها: ما رواه الإمام أحمد في المسند "3/ 352" عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم:
"الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وأهلها معانون عليها، وامسحوا نواصيها، وادعوا لها بالبركة، وقلِّدوها، ولا تقلِّدوها الأوتار".
وأخرجه بهذا اللفظ الطحاوي في مشكل الآثار حديث رقم "323" والطبراني في الأوسط، وأبو داود حديث "2553"، والنسائي "6/ 218" كما أخرجه مالك والبخاري ومسلم وأبو داود بروايات أخرى. انظر: مجمع الزوائد للهيثمي "5/ 259"، شرح السنة للبغوي حديث رقم "2639".
والأوتار: جمع وتر، وهو القوس. وقد اختلف العلماء في المراد من الحديث:
فقيل: إنهم كانوا يقلدون الخيل والإبل أوتار القسي حتى لا تصاب بالعين، فأمروا بقطعها للإعلام بأنها لا ترد من قدر الله شيئًا. وقيل: إنما نهوا عن ذلك لئلا تختنق الدابة عند شدة الركض. انظر: شرح السنة "5/ 529".
4 لم أقفْ على القائل.

 

ج / 2 ص -381-       ثم يستعمل في تفويض الأمر إلى الشخص استعارة، كأنه ربط الأمر بعنقه. كما قال لقيط الإيادي1:
وقلِّدا أمركم لله دركم
رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعًا.
وهو في عرف الفقهاء.
قبول قول الغير من غير حجة، أخذًا من هذا المعنى2، فلا يسمى الأخذ بقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- والإجماع تقليدًا؛ لأن ذلك هو الحجة في نفسه.
قال أبو الخطاب: العلوم على ضربين:
منها ما لا يسوغ التقليد فيه وهو: معرفة الله ووحدانيته، وصحة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: لقيط بن يعمر بن خارجة الإيادي، شاعر جاهلي من أهل الحيرة، كان يحسن الفارسية، اتصل بكسرى فكان من كتابه والمطلعين على أسرار دولته. توفي نحو 250 قبل الهجرة. انظر: الأغاني "2/ 23"، الأعلام "6/ 109". والبيت من قصيدة له مطلعها:
سلام في الصحيفة من لقيط
إلى من بالجزيرة من إياد
ومعنى "رحب الذراع" كناية عن القوى المقتدر على الأمور. ومعنى "مضطلعًا" الاضطلاع من الضلاعة، وهي: قوة احتمال الأثقال من الاضطلاع. انظر: ديوان لقيط الإيادي ص47 تحقيق الدكتور عبد المعين خان ط مؤسسة الرسالة.
2 أي: المعنى اللغوي، فكأن المقلد يطوّق المجتهد، ويجعل ما يأخذه عن طوقًا في عنقه، أخذًا من قوله تعالى:
{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِه ِ....} [الإسراء: من الآية: 13].
ويشير إلى ذلك- أيضًا – ما أخرجه ابن ماجة عن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-قال:
"من أفتى بفتيا غير ثبت" أي غير صواب" فإنما إثمه على من أفتاه" انظر: شرح الطوفي "3/ 652"، نزهة الخاطر العاطر "2/ 450".

 

ج / 2 ص -382-       الرسالة1. ونحو ذلك؛ لأن المقلد في ذلك إما أن يجوز الخطأ على من يقلده، أو يحيله.
فإن أجازه فهو شاكٌّ في صحة مذهبه.
وإن أحاله: فبِمَ عرف استحالته، ولا دليل عليها؟
وإن قلده في أن أقواله حق، فبِمَ عرف صدقه؟
وإن قلد2 غيره في تصديقه، فبِمَ عرف صدق الآخر؟
وإن عوّل على سكون النفس في صدقه، فما الفرق بينه وبين سكون أنفس النصارى واليهود المقلدين؟
وما الفرق بين قول مقلده أنه صادق، وبين قول مخالفه؟
وأما التقليد في الفروع:
فهو جائز إجماعًا3.
فكانت الحجة فيه: الإجماع.
ولأن المجتهد في الفروع إما مصيب، وإما مخطئ مثاب غير مأثوم، بخلاف ما ذكرناه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إلى هنا انتهى كلام أبي الخطاب في التمهيد "4/ 396" وجاء بعدها: "وبه قال عامّة العلماء. وقال بعض الشافعية: يجوز للعامّي التقليد في ذلك".
2 في الأصل "قلده" والمثبت من ط الدكتور النملة.
3 كيف يدّعي الإجماع والقضية خلافية، وقد نقل المصنف نفسه بعد ذلك خلاف القدرية في المسألة؟!.
قال القرافي: "مذهب مالك وجمهور العلماء: وجوب الاجتهاد، وإبطال التقليد، وادّعى ابن حزم الإجماع على النهي عن التقليد". انظر: شرح تنقيح الفصول ص442، 443، وهو الذي رجحه الشوكاني في كتابيه: "إرشاد الفحول". و"القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد".

 

ج / 2 ص -383-       فلهذا جاز التقليد فيها، بل وجب على العامّي ذلك.
وذهب بعض القدرية إلى أن العامّة يلزمهم النظر في الدليل في الفروع أيضًا.
وهو باطل بإجماع الصحابة؛ فإنهم كانوا يفتون العامّة، ولا يأمرونهم بنيل درجة الاجتهاد، وذلك معلوم على الضرورة والتواتر من علمائهم وعوامّهم.
ولأن الإجماع منعقد على تكليف العامّي الأحكام، وتكليفه رتبة الاجتهاد يؤدي إلى انقطاع الحرث والنسل، وتعطيل الحرف والصنائع، فيؤدي إلى خراب الدنيا.
ثم ماذا يصنع العامّي إذا نزلت به حادثة إن لم يثبت لها حكم إلى أن يبلغ رتبة الاجتهاد، فإلى متى يصير مجتهدًا؟
ولعله لا يبلغ ذلك أبدًا، فتضيع الأحكام.
فلم يبقَ إلا سؤال العلماء، وقد أمر الله – تعالى – بسؤال العلماء في قوله تعالى:
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة النحل، من الآية: "43" والأنبياء، من الآية: "7" قال الشوكاني- ردًّا على الاستدلال بهذه الآية: ".... وليس بالمراد بما احتج به الموجبون للتقليد، والمجوزون له من قوله سبحانه:
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ} إلا السؤال عن حكم الله في المسألة، لا عن آراء الرجال، هذا على تسليم أنها واردة في عموم السؤال-كما زعموا- وليس الأمر كذلك، بل هي واردة في أمر خاصٍّ، وهو السؤال عن كون أنبياء الله رجالًا، كما يفيده أول الآية وآخرها، حيث قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ...}.
راجع: إرشاد الفحول جـ2 ص353 ومناقشتنا لما قاله الشوكاني في ذلك.

 

ج / 2 ص -384-       قال أبو الخطاب: "ولا يجوز التقليد في أركان الإسلام الخمس ونحوها، مما اشتهر، ونقل نقلًا متواترًا؛ لأن العامة شاركوا العلماء في ذلك، فلا وجه للتقليد"1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: التمهيد "4/ 398".

فصل: [فيمن يستفتيه العامّي]
ولا يستفتي العامّي إلا من غلب على ظنه أنه من أهل الاجتهاد، بما يراه من انتصابه للفتيا بمشهد من أعيان العلماء، وأخذ الناس عنه، وما يتلمحه من سمات الدين والستر، أو يخبره عدل عنه.
فأما من عرفه بالجهل: فلا يجوز أن ينقله اتفاقًا.
ومن جهل حاله.
فقد قيل: يجوز تقليده؛ لأن العادة أن من دخل بلدة يسأل عن مسألة لا يبحث عن عدالة من يستفتيه، ولا1 عن علمه2.
وإن منعتم السؤال عن علمه، فلا يمكن منع السؤال عن عدالته، وهو حجة لنا في الصورة الممنوعة3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل "إلا" والمثبت من ط الدكتور النملة.
3 هذا هو المذهب الأول، والمذهب الثاني: أنه لا يجوز تقليد مجهول الحال، وهو الذي رجحه المصنف، واستدلّ له بقوله: "قلنا...".
4 العبارة غير واضحة، ونصّ عبارة الغزالي في المستصفى "4/ 151": "فإن قيل: إذا لم يعرف عدالة المفتي، هل يلزمه البحث؟ إن قلتم: يلزمه البحث، فقد خالفتم العادة؛ لأن كل من دخل بلدة فيسأل عالم البلد، ولا يطلب حجة على عدالته، وإن جوزتم مع الجهل، فكذلك في العلم".

 

ج / 2 ص -385-       قلنا:
كل من وجب عليه قبول قول غيره، وجب معرفة حاله، فيجب على الأمة معرفة حال الرسول، بالنظر في معجزاته، ولا يصدّق كل مجهول يدّعي أنه رسول الله، ويجب على الحاكم معرفة الشاهد، وعلى العالم بالخبر معرفة حال رواته.
وفي الجملة: كيف يقلد من يجوز أن يكون أجهل من السائل؟
أما العادة من العامة: فليست دليلًا.
وإن سلمنا ذلك مع الجهل بعدالته: فلأن الظاهر من حال العالم العدالة، لا سيما إذا اشتهر بالفتيا.
ولا يمكن أن يقال: ظاهر الخلق نيل درجة الاجتهاد، لغلبة الجهل، وكون الناس عوامًّا، إلا الأفراد.
ولا يمكن أن يقال: العلماء فسقة إلا الآحاد، فافترقا1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عبارة الغزالي: ولا يمكن أن يقال: ظاهر حال الخلق العلم ونيل درجة التقوى، والجهل أغلب على الخلق؛ فالناس كلهم عوامّ إلا الأفراد في البلاد، ولا يمكن أن يقال: المجتهدون والعلماء كلهم فسقة إلا الأفراد، بل العلماء كلهم عدول إلا الآحاد" المستصفى "4/ 151".

فصل: [إذا تعدد المجتهدون فللمقلد سؤال من شاء]
وإذا كان في البلد مجتهدون فللمقلد مساءلة من شاء منهم. ولا يلزمه مراجعة الأعلم، كما نقل في زمن الصحابة؛ إذ سأل العامّة الفاضل والمفضول في أحوال العلماء.

 

ج / 2 ص -386-       وقيل: بل يلزمه سؤال الأفضل1.
وقد أومأ إليه الخرقي فقال: "إذا اختلف اجتهاد رجلين اتبع الأعمى أوثقهما في نفسه"2.
والأولى أولى؛ لما ذكرنا من الإجماع.
وقول الخرقي يحمل على ما إذا سألهما فاختلفا، وأفتاه كل واحد بخلاف قول صاحبه، فحينئذ يلزمه الأخذ بقول الأفضل في علمه ودينه.
وفيه وجه آخر: أنه يتخير، لما ذكرناه من الإجماع3.
ولأن العامّي لا يعلم الأفضل حقيقة، بل يغتر بالظواهر، وربما يقدم المفضول؛ فإن لمعرفة مراتب الفضل أدلة غامضة ليس دركها شأن العوامّ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وضحه الطوفي فقال: "يكفي المقلد سؤال بعض مجتهدي البلد، يعني: سؤال من شاء منهم، ولا يلزمه سؤال جميعهم، وفي وجوب تخير الأفضل، أي: هل يجب عليه أن يتخير أفضل المجتهدين فيستفتيه؟ فيه قولان:
ثم ساق أدلة القائلين بعدم وجوب تخير الأفضل فقال:
أحدهما: أن الصحابة أجمعوا على تسويغ سؤال مقلديهم الفاضل والمفضول، أي: أجمعوا على أن للمستفتي أن يقلد فاضلهم ومفضولهم، وذلك ينفي وجوب تخير الأفضل، وإلا كان إجماع الصحابة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم- خطأ، وهو باطل.
الوجه الثاني: أن الفضل قدر مشترك بين الفاضل والأفضل، فليكف في جواز التقليد، ولا عبرة بخاصية الأفضلية.
قلت: ولأن الناس متفاوتون في رتبة الفضائل فما من فاضل إلا وثَمَّ من هو أفضل منه بدليل قوله – عَزَّ وَجَلََََّّّّ:
{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: من الآية: 76]، فلو اعتبر الأفضل لانسد باب الاجتهاد". انظر: شرح المختصر "3/ 666-367".
2 انظر: المختصر مع المغني "2/ 109"
3 هذا تكرار لما تقدم.

 

ج / 2 ص -387-       ولو جاز ذلك:
جاز له النظر في المسألة ابتداءً.
ووجه القول الأول1:
أن أحد القولين خطأ، وقد تعارض عنده دليلان، فيلزمه الأخذ بأرجحهما، كالمجتهد يلزمه الأخذ بأرجح الدليلين المتعارضين2.
ولأن من اعتقد أن الصواب في أحد القولين لا ينبغي له أن يأخذ بالتشهي، وينتقي 3 من المذاهب أطيبها، ويتوسع، ويعرف الأفضل بالأخبار، وبإذعان المفضول له، وتقديمه له، وبأمارات تفيد غلبة الظن دون البحث عن نفس علمه، والعامّي أهل لذلك.
والإجماع محمول على ما إذا لم يسألهما؛ إذ لم ينقل إلا ذلك.
فأما إن استوى عنده المفتيان: جاز له الأخذ بقول من شاء منهما؛ لأنه ليس قول بعضهم أولى من البعض.
وقد رجح قوم القول الأشد؛ لأن الحق ثقيل.
ورجح الآخرون الأخف؛ لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-بعث بالحنيفية السمحة4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لزوم البحث عن الأفضل وسؤاله.
2 وضحه الشيخ الطوفي فقال: "احتج المثبت لوجوب تخير الأفضل بأن الظن الحاصل من قول الأفضل أغلب، فيكون واجبًا، أما الأولى فظاهرة، وأما الثانية: فبناء على أن الأصل اعتبار العلم، وإنما سقط في الشرعيات لتعذره، فوجب الظن الأقرب إلى العلم"، شرح مختصر الروضة "3/ 667".
3 في الأصل "ينتقد" والمثبت في المستصفى "4/ 154".
4 روى البخاري وأحمد وغيرهما أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-قال:
"بعثت بالحنيفية السمحة السهلة..." انظر: صحيح البخاري مع الفتح "1/ 86، 87" مسند الإمام أحمد "1/ 236، 5/ 226، 6/ 116، 233" فيض القدير "3/ 203".

 

ج / 2 ص -388-       وهما قولان متعارضنا فيسقطان1.
وقد روي عن أحمد- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- ما يدل على جواز تقليد المفضول؛ فإن الحسين بن بشار2 سأله عن مسألة في الطلاق فقال: "إن فعل حنث" فقال له: يا أبا عبد الله، إن أفتاني إنسان -يعني: لا يحنث- فقال: تعرف حلقة المدنيين؟ -حلقة بالرصافة– فقال: إن أفتوني به حل؟ قال نعم3.
وهذا يدل على التخيير بعد الفتيا. والله أعلم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: أن كلًّا من الأخذ بالأشد، والأخذ بالأخف متعارض مع الآخر فيتساقطان، ويرجع العامّي إلى الأخذ بقول من شاء.
2 هو: الحسين بن بشار المخرمي، من أصحاب الإمام أحمد -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الذين نقلوا عنه كثيرًا من المسائل. انظر: طبقات الحنابلة "1/ 142".
3 انظر: التمهيد لأبي الخطاب "4/ 403، 404".