ج / 2 ص -389-
باب: في ترتيب الأدلة ومعرفة الترجيح2
يجب على المجتهد في كل مسألة أن ينظر أول شيء
إلى الإجماع: فإن وجده لم يحتجْ إلى النظر في
سواه.
ولو خالفه كتاب أو سنة علم أن ذلك منسوخ، أو
متأول؛ لكون الإجماع دليلًا قاطعًا، لا يقبل
نسخًا ولا تأويلًا2.
ثم ينظر في الكتاب والسنة المتواترة، وهما على
رتبة واحدة؛ لأن كل واحد منهما دليل قاطع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الطوفي: "اعلم أن هذا من موضوع نظر
المجتهد وضروراته؛ لأن الأدلة الشرعية متفاوتة
في مراتب القوة، فيحتاج المجتهد إلى معرفة ما
يقدم منها وما يؤخر، لئلا يأخذ بالأضعف منها
مع وجود الأقوى، فيكون كالمتيمم مع وجود
الماء.
وقد يعرض للأدلة التعارض والتكافؤ، فتصير بذلك
كالمعدومة، فيحتاج إلى إظهار بعضها بالترجيح
ليعمل بها، وإلا تعطلت الأدلة والأحكام. فهذا
الباب مما يتوقف عليه الاجتهاد توقف الشيء على
جزئه أو شرطه". شرح مختصر الروضة "3/ 673".
2 فالإجماع مقدم على سائر الأدلة لوجهين:
أحدهما: كونه قاطعًا معصومًا من الخطأ بشهادة
المعصوم بذلك وهو الرسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم-كما تقدم في باب الإجماع.
ج / 2 ص -390-
ولا يتصور التعارض في القواطع، إلا أن يكون أحدهما منسوخًا.
ولا يتصور أن يتعارض علم وظن؛ لأن ما علم كيف
يظن خلافه؟! وظن خلافه شك، فكيف يشك فيما
يعلم؟!
ثم ينظر في أخبار الآحاد:
فإن عارض خبر خاصٌّ عمومَ كتاب أو سنة
متواترة: فقد ذكرنا ما يجب تقديمه منها1.
ثم ينظر -بعد ذلك- في قياس النصوص:
فإن تعارض قياسان أو خبران، أو عمومان: طلب
الترجيح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ثانيهما: أنه لا يقبل النسخ والتأويل، بخلاف
باقي الأدلة، وقد سبق الكلام في أن الإجماع لا
يقبل النسخ في بابه.
وأما كونه لا يقبل التأويل: فإن التأويل لا
يلحق إلا ما كانت دلالته ظاهرة، والإجماع
قاطع، فصار كالنصوص في مدلولها لا تقبل
التأويل. انظر: شرح الطوفي "3/ 675".
1 في مسألة تعارض الخاص مع العام.
فصل: [تعريف
التعارض]
واعلم أن التعارض: هو التناقض1.
ولا يجوز ذلك في خبرين؛ لأن خبر الله –تعالى–
ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم-لا يكون كذبًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل: "الناقض" وهو خطأ مطبعي، والتعارض
في اللغة التمانع، ومنه: تعارض البينات؛ لأن
كل واحدة تعترض الأخرى وتمنع نفوذها.
انظر: تاج العروس "8/ 73" المفردات للراغب
الأصفهاني "1/ 391".
وأما التعارض في الاصطلاح: فله تعريفات كثيرة،
من أوضحها: تعريف الزركشي بأنه: "تقابل
الدليلين على سبيل الممانعة". البحر المحيط
"6/ 109". وانظر في تعريفه: حاشية البناني على
شرح المحلي على جمع الجوامع "2/ 359"، نهاية
السول "4/ 433"، شرح الكوكب المنير "4/ 605".
ج / 2 ص -391-
فإن وجد ذلك في حكمين:
فإما أن يكون أحدهما كذبًا من الراوي.
أو يمكن الجمع بينهما بالتنزيل على حالين، أو
في زمانين.
أو يكون أحدهما منسوخًا.
فإن لم يمكن الجمع، ولا معرفة النسخ: رجحنا1،
فأخذنا الأقوى في أنفسنا.
[وجوه الترجيح في الأخبار]
ويحصل الترجيح في الأخبار من ثلاثة أوجه:
الأول: يتعلق بالسند:
وذلك أمور خمسة:
أحدها: كثرة الرواة، فإن ما كان رواته أكثر
كان أقوى في النفس، وأبعد من الغلط أو السهو؛
فإن خبر كل واحد يفيد ظنًّا على انفراده، فإن
انضم أحدهما إلى الآخر كان أقوى وآكد منه لو
كان منفردًا، ولهذا ينتهي إلى التواتر بحيث
يصير ضروريًّا قاطعًا لا يشك فيه.
وبهذا قال الشافعي2.
وقال بعض الحنفية: لا يرجح به 3؛ لأنه خبر
يتعلق به الحكم، فلم يترجح بالكثرة، كالشهادة
والفتوى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الترجيح في اللغة: مأخوذ من رجح بمعنى: زاد،
يقال: رجح الشيء يرجح رجوحًا إذا مال وثقلت
كفته.
وأما في الاصطلاح: فله تعريفات كثيرة منها:
تعريف الزركشي أنه: "بيان اختصاص الدليل بمزيد
قوة عن مقابله ليعمل به"، البحر الحيط "6/
130".
2 انظر: البرهان "2/ 1143، 1162"، الإحكام
للآمدي "4/ 241".
3 يراجع: كشف الأسرار "4/ 78"، التوضيح على
التنقيح "3/ 59".
ج / 2 ص -392-
قلنا:
الأصل ما ذكرناه1 بدليل أمور ثلاثة:
أحدها: ما ذكرناه من غلبة الظن، وتقديم الراجح
متعين، لأنه أقرب إلى الصحة.
ولذلك إذا غلب على الظن كون الفرع أشبه بأحد
الأصلين وجب اتباعه.
الثاني: أن الصحابة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم-
كانوا يرجحون بكثرة العدد. ولذلك قوّى النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم-خبر ذي
اليدين بموافقة أبي بكر وعمر -رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُما-2.
وأبو بكر قوّى خبر المغيرة في ميراث الجدة
بموافقة محمد بن مسلمة3. وقوّى عمر خبر
المغيرة -أيضًا- في دية الجنين بموافقة محمد
بن مسلمة4. وقوّى خبر أبي موسى في الاستئذان
بموافقة أبي سعيد5. وقوّى ابن عمر خبر أبي
هريرة في: "من شَهِد جنازة" بموافقة عائشة6.
إلى غير ذلك مما يكثر، فيكون إجماعًا منهم.
الثالث أن هذا عادة الناس في حراثتهم
وتجاراتهم، وسلوك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو أنه يرجح بكثرة الرواة.
2 تقدم تخريجه.
3 تقدم تخريجه.
4 سبق للمصنف أن نقل هذا الخبر في خبر الواحد
أن عمر -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: "أذكِّرُ
الله امرءًا سمع من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم- في الجنين؟ فقام حمل بن
مالك بن النابغة. وقال: كنت بين جاريتين لي،
فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها،
فقضى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم- في الجنين بغرة. فقال عمر: لو لم
نسمع هذا لقضينا بغيره". وسبق تخريجه في محله.
أما هذه الرواية فلم أطلع عليها.
5 سبق تخريجه.
6 عن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال:
قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم- "من شَهِد الجنازة =
ج / 2 ص -393-
الطريق؛ فإنهم عند تعارض الأسباب المخوفة يميلون إلى الأقوى. فأما
الشهادة1: فلم يرجحوا فيها، وسببها: أن باب
الشهادة مبنٌّي على التعبد.
ولهذا لو شهد بلفظ الإخبار دون الشهادة لم
يقبل، ولا تقبل شهادة مائة امرأة على باقة
بقل.
الثاني2: أن يكون أحد الراويين معروفًا بزيادة
التيقظ وقلة الغلط، فالثقة بروايته أكثر.
الثالث: أن يكون أورع وأتقى، فيكون أشد تحرزًا
من الكذب، وأبعد من رواية ما يشك فيه.
الرابع: أن يكون راوي أحدهما صاحب الواقعة،
فقول "ميمونة"3: "تزوجني النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- ونحن حلالان"4
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= حتى يصلي عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى
تدفن فله قيراطان: قيل: وما القيراطان؟ قال:
مثل الجبلين العظيمين" متفق عليه.
زاد مسلم: "حتى يوضع في اللحد".
وللبخاري -من حديث أبي هريرة -أيضًا- "من تبع
جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا، وكان معها حتى
يصلي عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع بقيراطين
كل قيراط مثل جبل أحد". انظر: صحيح البخاري:
كتاب الجنائز: باب فضل الصلاة على الجنازة
واتباعها.
1 بدأ المصنف يناقش أدلة بعض الحنفية
المتقدمة.
2 من الأمور التي يرجح بها عن طريق السند.
3 هي: ميمونة بنت الحارث بن حزن الهلالية،
كانت تسمى "برة" فسماها النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم- "ميمونة" وهي آخر امرأة
تزوجها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم-. توفيت -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا-
سنة 61هـ. انظر: الإصابة "8/ 126".
4 أخرجه مسلم: كتاب النكاح، باب تحريم نكاح
المحرم، وأبو داود: كتاب =
ج / 2 ص -394-
يُقَدَّم على رواية "ابن عباس": "نكحها وهو محرم"1.
الخامس: أن يكون أحدهما باشر القصة، كرواية
أبي رافع 2: "تزوج النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم- ميمونة وهو حلال، وكنت
السفير بينهما"3، مع رواية "ابن عباس" التي
ذكرناها، فإن المباشر أحق بالمعرفة من
الأجنبي.
ولذلك قدم الصحابة أخبار أزواج النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- في صحة صوم من
أصبح جنبًا، وفي وجوب الغسل من التقاء
الختانين بدون الإنزال على خبر من روى خلاف
ذلك.
الوجه الثاني4: الترجيح لأمر يعود إلى المتن
بأمور:
منها: أن يشهد القرآن والسنة أو الإجماع بوجوب
العمل على وفق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المناسك، باب المحرم يتزوج، والترمذي: أبواب
الحج، باب ما جاء في الرخصة في ذلك، وابن
ماجة: كتاب النكاح، باب: المحرم يتزوج.
1 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب المحصر
وجزاء الصيد، باب تزويج المحرم، وباب عمرة
القضاء من كتاب المغازي، ومسلم: كتاب النكاح،
باب تحريم نكاح المحرم، قال المصنف في كتابه:
"المغني" جـ5 ص163، 164: "وميمونة أعلم
بنفسها، وأبو رافع صاحب القصة، وهو السفير
فيها، فهما أعلم بذلك من ابن عباس وأولى
بالتقديم لو كان ابن عباس كبيرًا، فكيف وقد
كان صغيرًا لا يعرف حقائق الأمور، ولا يقف
عليها، وقد أنكر عليه هذا القول؟!".
2 اسمه أسلم أو إبراهيم، كان مولًى للعباس بن
عبد المطلب، فوهبه للنبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم -فأعتقه -عليه الصلاة
والسلام- حينما بشره بإسلام العباس، وأسلم أبو
رافع قبل بدر ولم يشهدها، ثم شهد ما بعدها من
المشاهد، زوجة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم- مولاته سلمى. توفى في آخر خلافة
عثمان، "الإصابة 7/ 65".
3 أخرجه الترمذي في أبواب الحج، باب ما جاء في
كراهية تزويج المحرم، والدارمي: كتاب المناسك،
باب في تزويج المحرم، والبيهقي: كتاب الحج،
باب: المحرم لا ينكح ولا ينكح، والإمام أحمد
في المسند "6/ 392، 393".
4 من الوجوه الثلاثة في ترجيح الأخبار.
ج / 2 ص -395-
الخبر، أو يعضده قياس، أو يعمل به الخلفاء، أو يوافقه قول صحابي
كموافقة خبر التغليس1 قوله تعالى:
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}.
الثاني: أن يختلف في وقت أحد الخبرين على
الراوي، والآخر يتفق على رفعه.
الثالث: أن يكون راوي أحدهما قد نقل عنه
خلافه، فتتعارض روايتاه، ويبقى الآخر سليمًا
عن التعارض، فيكون أولى.
الرابع: أن يكون أحدهما مرسلًا والآخر متصلًا،
فالمتصل أولى؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الغلس -بفتحتين- ظلام آخر الليل، وغلّس في
الصلاة: صلاها بغلس، والمصنف يريد أن يقول:
رجح العلماء الخبر الوارد بالتغليس في صلاة
الفجر على الخبر الوارد بالإسفار وهو:
الإضاءة، لأن خبر التغليس يوافقه قوله تعالى:
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُم ْ...} [آل عمران، من الآية: 133]
أما خبر التغليس: فهو ما روته عائشة -رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُا- قالت: "كان نساء المؤمنات
يشهدن مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم- صلاة الفجر متلفعات بمروطهن، ثم
ينقلبن إلى بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن
أحد من الناس". وفي رواية: "كان رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- يصلي
الصبح، فتنصرف النساء متلفعات بمروطهن ما
يعرفن من الغلس" أخرجه البخاري: كتاب الصلاة،
باب كم تصلي المرأة في الثياب، وفي كتاب
المواقيت، باب وقت الفجر، وباب انتظار الناس
قيام الإمام العالم، وباب سرعة انصراف الناس
من الصبح وقلة مقامهم في المسجد كما أخرجه
مسلم: كتاب المساجد، باب استحباب التبكير
بالصبح.
وأما خبر الإسفار: فهو ما رواه رافع بن خديج
قال: "سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم- يقول: "أسفروا بالفجر؛
فإنه أعظم للأجر" أخرجه الترمذي: في أبواب
الصلاة، باب ما جاء في الإسفار بالفجر، وأبو
داود: كتاب الصلاة، باب في وقت الصبح
والنسائي: باب الإسفار من كتاب المواقيت
والإمام أحمد في المسند "3/ 465، 4/ 140، 142،
143".
ج / 2 ص -396-
لأنه متفق على صحته، وذلك مختلف فيه.
وأما الترجيح لأمر من خارج1:
فكترجيح أحد الخبرين بكونه ناقلًا عن حكم
الأصل، مثل الموجب للعبادة أولى من النافي
لها؛ لأن النافي جاء على مقتضى العقل، والآخر
متأخر عنه، فكان كالناسخ له.
وكذلك رواية الإثبات مقدمة على رواية النفي؛
لأن المثبت معه زيادة علم خفيت على صاحبه2.
قال القاضي: وإذا تعارض الحاظر والمبيح: قدم
الحاظر؛ لأنه الأحوط. وقيل: لا يرجح بذلك3.
ولا يرجح المسقط للحد على الموجب له، ولا
الموجب للحرية على المقتضي للرق؛ لأن ذلك لا
يوجب تفاوتًا في صدق الراوي فيما ينقله من لفظ
الإيجاب والإسقاط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو الوجه الثالث من وجوه الترجيح بين
الأخبار.
2 قال الطوفي: "إن نفي النافي إن استند إلى
عدم العلم، كقوله: لم أعلم أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- صلّى
بالبيت، ولم أعلم أن فلانًا قتل فلانًا، لم
يلتفت إليه، وكان إثبات المثبت للصلاة، وقتل
فلان مقدمًا لما سبق، وإن استند نفي النافي
إلى علم بالعدم كقول الراوي: أعلم أن رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- لم
يصلِّ بالبيت؛ لأني كنت معه فيه، ولم يغب عن
نظري طرفة عين فيه، ولم أره صلّى فيه، أو قال:
أخبرني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم- أنه لم يصلِّ فيه، أو قال: أعلم أن
فلانًا لم يقتل زيدًا؛ لأني رأيت زيدًا حيًّا
بعد موت فلان، أو بعد الزمن الذي أخبر الجارح
أنه قتله فيه. فهذا يقبل؛ لاستناده إلى مَدْرك
علمي، ويستوي هو وإثبات المثبت، فيتعارضان،
ويطلب المرجح من خارج". شرح المختصر "3/ 701".
3 أي: أنهما يتساويان، فيحتاج إلى مرجح خارجي.
ج / 2 ص -397-
وأما الترجيح بأمر خارج: فبأمور:
منها: أن يشهد القرآن أو السنة أو الإجماع
بوجوب العمل على وفق الخبر، أو يعضده قياس، أو
يعمل به الخلفاء، أو يوافقه قول صحابي،
كموافقة خبر التغليس قوله تعالى:
{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ}.
الثاني: أن يختلف في وقف أحد الخبرين على
الراوي، والآخر متفق على رفعه.
الثالث: أن يكون راوي أحدهما قد نُقل عنه
خلافه، فتتعارض روايتاه، ويبقى الآخر سليمًا
عن التعارض، فيكون أولى.
الرابع: أن يكون أحدهما مرسلًا والآخر متصلًا،
فالمتصل أولى؛ لأنه متفق عليه، وذلك مختلف
فيه1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذه الأمور الأربعة تقدمت بعينها في الترجيح
لأمر يعود إلى المتن، فلعلها مكررة من النساخ.
فصل: في ترجيح
المعاني
قال أصحابنا: ترجح العلة بما يرج به الخبر1:
من موافقتنا لدليل آخر من كتاب أو سنة، أو قول
صحابي، أو خبر مرسل، أو بكون إحداهما ناقلة عن
الأصل، كما قلنا في الخبر. فأما إن كانت
إحداهما حاظرة والأخرى مبيحة، أو كانت إحداهما
مسقطة للحد، أو موجبة للعتق، ففي الترجيح بذلك
اختلاف2:
فرجح به قوم، احتياطًا للحظر ونفي الحد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يريد: أن ما تقدم من وجه ترجيح الأخبار
يجري مثله في ترجيح العلة.
2 وذلك أن العلل مستفادة من النصوص، فتتبعها
في الخلاف.
ج / 2 ص -398-
ولأن الخطأ في نفي هذه الأحكام أسهل من الخطأ في إثباتها.
ومنع آخرون الترجيح بذلك، من حيث إنهما حكمان
شرعيان فيستويان1.
ولأن سائر العلل لا ترجح بأحكامها، فكذا
هاهنا.
ورجح قوم العلة بخفة حكمها؛ لأن الشريعة
خفيفة. وآخرون بالعكس؛ لأن الحق ثقيل.
وهي ترجيحات ضعيفة.
فإن كانت إحدى العلتين حكمًا، والأخرى وصفًا
حسيًّا، ككونه قوتًا أو مسكرًا2.
فاختار القاضي ترجيح الحسية3.
ومال أبو الخطاب إلى ترجيح الحكمية4؛ لأن
الحسية كانت موجودة قبل الحكم، فلا يلازمها
حكمها، والحكم أشد مطابقة للحكم.
ورجح القاضي: بأن الحسية كالعلة العقلية،
والعقلية قطعية، فهي أولى مما يوجب الظن5.
ولأنها لا تفتقر إلى غيرها في الثبوت.
وقيل: هذا كله ترجيح ضعيف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سبق للمصنف توضيح ذلك.
2 كونه "قوتًا" مثال للعلة الحسية، وكونه
"مسكرًا" مثال للعلة الحكمية.
3 انظر: العدة "5/ 1531".
4 انظر: التمهيد "4/ 230".
5 هذا الدليل لمذهب القاضي أبي يعلى المتقدم؛
لأن حكاية مذهبه تقدمت قبل ذلك.
ج / 2 ص -399-
وذكر أبو الخطاب ترجيح العلة إذا كانت أقل أوصافًا، لمشابهتها
العلة العقلية.
ولأنها أجرى على الأصول1.
وترجيحها بكثرة فروعها وعمومها2.
ثم اختار3 التسوية، وأن هذين لا يرجح بهما؛
لأن العلتين سواء في إفادتهما حكمهما،
وسلامتهما من الفساد.
ومتى صحت لم يلتفت إلى كثرة فروعها، ولا كثرة
أوصافها.
ورجح العلة المنتزعة من الأصول على ما انتزع
من أصل واحد؛ لأن الأصول شواهد للصحة، وما
كثرت شواهده كان أقوى في إثارة غلبة الظن.
ورجح العلة المطردة المنعكسة على ما لا ينعكس؛
لأن الطرد والعكس دليل على الصحة ابتداء، لما
فيه من غلبة الظن، فلا أقل من أن يصلح
للترجيح.
ورجح العلة المتعدية على القاصرة، لكثرة
فائدتها.
ومنع ذلك قوم؛ لأن الفروع لا تبني على قوة في
ذات العلة، بل القاصرة أوفق للنص.
والأول أولى، فإنها متفق عليها، وهذه مختلف
فيها4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 انظر: التمهيد "4/ 235".
2 معناه: ترجيح العلة ذات الوصف الواحد على
العلة ذات الوصفين فأكثر؛ لأن ذلك الوصف
الواحد أكثر فروعًا؛ لأن ثبوت الحكم بها متوقف
على وصف واحد، وهذا يجعلها أكثر فروعًا مما
توقف على وصفين أو أكثر. انظر شرح الطوفي: "3/
722".
3 أي: أبو الخطاب، وكذا كل ما بعده نقله
المصنف عن أبي الخطاب.
4 قال الطوفي: "اعلم أن العلة القاصرة قد سبق
الخلاف فيها هل هي علة صحيحة =
ج / 2 ص -400-
ورجح ما كانت علته وصفًا على ما كانت علته اسمًا؛ لأنه متفق على
الوصف، مختلف في الاسم فالمتفق عليه أقوى1.
ورجح ما كانت علته إثباتًا على التعليل
بالنفي، لهذا المعنى أيضًا.
ورجح العلة المردودة2 إلى أصل قاسَ الشارعُ
عليه، كقياس الحج على الدَّين في أنه لا يسقط
بالموت، أولى من قياسهم على الصلاة، لتشبيه
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم- له
بالدين في حديث الخثعمية3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في نفسها أم لا؟ فإن قلنا: ليست صحيحة لم
تعارض المتعدية، فلا ترجيح، كغير المطردة مع
المطردة، وإن قلنا: هي صحيحة، فاجتمعت مع
المتعدية ففيه أقوال:
أحدها: أنهما سواء في الحكم لا رجحان لإحداهما
على الأخرى؛ لقيام الدليل على صحتها، كما تقدم
في موضعه.
الثاني: أن القاصرة أرجح، فتقدم لوجهين:
أحدهما: أنها مطابقة للنص في موردها -أي: لم
يجاوز تأثيرها موضع النص- بخلاف المتعدية
فإنها لم تطابق النص، بل زادت عليه، وما طابق
النص كان أولى.
الوجه الثاني: أمَْنُ صاحبها -أي المعلل بها-
من الخطأ؛ لأنه لا يحتاج إلى التعليل بها في
غير محل النص كالمتعدية، فربما أخطأ بالوقوع
في بعض مثارات الغلط في القياس، وما أُمِنَ
فيه من الخطأ أولى مما كان عرضة له.
القول الثالث: أن المتعدية أرجح، فتقدم؛ لكثرة
فوائدها، كالتعليل في الذهب الفضة بالوزن،
فيتعدى الحكم إلى كل موزون، كالحديد والنحاس
الصفر ونحوه، بخلاف التعليل بالثمنية أو
النقدية، فلا تتعداهما، فكان التعليل بالوزن
الذي هو وصف متعدٍّ لمحلِّ النقدين إلى غيرهما
أكثر فائدة من الثمنية القاصرة عليهما لا
تجاوزهما" شرح المختصر "3/ 720، 721".
1 لأن التعليل بالأوصاف متفق عليه، بخلاف
التعليل بالأسماء، فإنه محل خلاف، ولأنه أكثر
فائدة، كما تقدم في تقديم العلة المتعدية على
العلة القاصرة.
2 في الأصل "المردودة" وهو خطأ مطبعي.
3 تقدم تخريجه.
ج / 2 ص -401-
ومتى
كان أصل إحدى العلتين متفقًا عليه، والآخر مختلفًا فيه،
كانت المتفق على أصلها أولى، فإن قوة الأصل تؤكد قوة
العلة.
وكذلك ترجح كل علة قوى أصلها، مثل:
أن يكون أحدهما محتملًا للنسخ، والآخر لا يحتمل.
أو يثبت أحدهما بخبر متواتر، والآخر بآحاد.
أو أحدهما ثابتًا بروايات كثيرة، والآخر برواية واحدة.
أو أحدهما بنص صريح، والآخر بتقدير أو إضمار.
أو يكون أحدهما أصلًا بنفسه، والآخر أصلًا لآخر.
أو أحدهما اتفق على تعليله، والآخر اختلف فيه.
أو يكون دليل أحد الوصفين مكشوفًا1 معينًا، والآخر أجمعوا
على أنه بدليل، ولم يكن معينًا.
أو يكون أحدهما مغيرًا للنفي الأصلي، والآخر مبقيًا عليه،
فالمغير أولى؛ لأنه حكم شرعي، والآخر نفي للحكم على
الحقيقة.
وترجح العلة المؤثرة على الملائمة.
والملائمة على الغريب.
والمناسبة على الشبهية؛ لأنه أقوى في تغليب الظن2. والله
-سبحانه- أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: ظاهرًا.
2 سبق أن ذكر المصنف أن من اقسام العلة: ثبوتها
بالاستنباط، ومنه: إثباتها =
ج / 2 ص -402-
تم
الكتاب بحمد الله ومنّه وكرمه.
وصلَّى اللهُ على خير رسله: محمد وآله وصحبه وسلَّم
تسليمًا كثيرًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بالمناسبة، وأن المناسبة ثلاثة أنواع، أعلاها المؤثر،
يليه الملائم، ثم الغريب، فذكر -هنا- أن العلة المؤثرة
ترجح على الملائمة، والملائمة ترجح على الوصف الغريب، وأن
المناسبة بأنواعها الثلاثة تقدم على الوصف الشبهي؛ لأنها
أقوى في إفادة غلبة الظن.
وهذا آخر ما تيسر لنا كتابته من توضيحات على هذا الكتاب،
قصدنا بها مساعدة طلبة العلم على فهم الكتاب. وكان الفراغ
منها في عصر يوم الجمعة 17 من المحرم 1418هـ بتوقيت أم
القرى.
أسال الله -تعالى- أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع
به كل مشتغل بالعلم إنه جواد كريم.
وصلَّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم.
شعبان بن محمد اسماعيل |