شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه ط العلمية

أصول الفقه
مدخل
تعريف الأصل
...
أصول الفقه
الأصل ما يبتني عليه غيره وتعريفه بالمحتاج إليه لا يطرد لأنه لا يطلق على الفاعل والصورة والغاية والشروط.
ـــــــ
ويجعله خالصا لوجهه الكريم إنه هو البر الرحيم أصول الفقه أي هذا أصول الفقه أو أصول الفقه ما هي فنعرفها أولا باعتبار الإضافة وثانيا باعتبار أنه لقب لعلم مخصوص أما تعريفها باعتبار الإضافة فيحتاج إلى تعريف المضاف والمضاف إليه فقال "الأصل ما يبتنى عليه غيره" فالابتناء شامل للابتناء الحسي وهو ظاهر والابتناء العقلي وهو ترتب الحكم على دليله "وتعريفه بالمحتاج إليه لا يطرد" وقد عرفه الإمام في المحصول بهذا، واعلم أن التعريف، إما حقيقي كتعريف الماهيات الحقيقية، وإما اسمي كتعريف الماهيات الاعتبارية كما إذا ركبنا شيئا من أمور هي أجزاؤه باعتبار تركيبنا، ثم وضعنا لهذا المركب اسما كالأصل والفقه والجنس والنوع ونحوها فالتعريف الاسمي هو تبيين أن هذا الاسم لأي شيء وضع "وشرط لكلا التعريفين الطرد" أي كل ما صدق عليه الحد صدق عليه المحدود "والعكس" أي كل ما صدق ما عليه المحدود صدق عليه الحد فإذا قيل في تعريف الإنسان: إنه حيوان ماش لا يطرد ولو قيل حيوان إن كان بالفعل لا ينعكس "ولا شك أن تعريف الأصل تعريف اسمي" أي بيان أن لفظ الأصل لأي شيء وضع فالتعريف الذي ذكر في المحصول لا يطرد "لأنه" أي الأصل "لا يطلق على الفاعل" أي العلة الفاعلية "والصورة" أي العلة الصورية "والغاية" أي العلة الغائبة "والشروط" كأدوات الصناعة مثلا فعلم أن هذا التعريف صادق على هذه الأشياء لكونها محتاجا إليها والمحدود لا يصدق عليها؛ لأن شيئا من هذه الأشياء لا يسمى أصلا فلا يصح هذا التعريف الاسمي.
.........................................................
منه والجواب عن الأول أن الإعجاز ليس إلا في كلام الله تعالى ومعنى كونه أبلغ من جميع ما عداه أنه أبلغ من كل ما هو غير كلام الله تعالى محققا ومقدرا حتى لا يمكن الإتيان للغير بمثله وعن الثاني أن الإعجاز سواء كان في الطرف الأعلى أو فيما يقرب منه متحد باعتبار أنه حد من الكلام هو أبلغ مما عداه بمعنى أنه لا يمكن للغير معارضته والإتيان بمثله بخلاف سحر الكلام فإنه ليس له حد يضبطه.
قوله: "أصول الفقه" الكتاب مرتب على مقدمة وقسمين؛ لأن المذكور فيه إما مقاصد الفن أو لا الثاني المقدمة والأول إما أن يكون البحث فيه عن الأدلة، وهو القسم الأول عن الأحكام، وهو القسم الثاني، إذ لا يبحث في هذا الفن عن غيرهما والقسم الأول مبني على أربعة أركان الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وهو مذيل ببابي الترجيح والاجتهاد والثاني على ثلاثة أبواب في الحكم والمحكوم به والمحكوم عليه وستعرف بيان الانحصار والمقدمة مسوقة لتعريف العلم وتحقيق موضوعه؛ لأن من حق الطالب للكثرة المضبوطة بجهة واحدة أن يعرفها بتلك الجهة ليأمن من

(1/15)


تعريف الفقه
...
والفقه: معرفة النفس ما لها وما عليها ويزاد عملا لتخرج الاعتقاديات والوجدانيات فيخرج الكلام والتصوف ومن لم يرد أراد الشمول.
ـــــــ
"والفقه معرفة النفس ما لها وما عليها ويزاد عملا ليخرج الاعتقاديات والوجدانيات فيخرج الكلام والتصوف ومن لم يزد أراد الشمول" هذا التعريف منقول عن أبي حنيفة فالمعرفة إدراك الجزئيات عن دليل فخرج التقليد وقوله ما لها وما عليها يمكن أن يراد به ما تنتفع به النفس وما تتضرر به في الآخرة كما في قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]، فإن أريد بهما الثواب والعقاب فاعلم أن ما يأتي به المكلف، إما واجب أو مندوب أو مباح أو مكروه كراهة تنزيه أو مكروه كراهة تحريم أو حرام فهذه ستة، ثم لكل واحد طرفان طرف الفعل وطرف الترك يعني عدم الفعل فصارت اثني عشر ففعل الواجب والمندوب مما يثاب عليه وفعل الحرام والمكروه تحريما وترك الواجب مما يعاقب عليه والباقي لا يثاب، ولا يعاقب عليه فلا يدخل في شيء من القسمين.
.........................................................
فوات المقصود والاشتغال بغيره وكل علم هو كثرة مضبوطة بتعريفه الذي به يتميز عند الطالب وموضوعه الذي به يمتاز في نفسه عن سائر العلوم فحين تشوفت نفس السامع إلى التعريف ليتميز العلم عنده قال المصنف هذا الذي أذكره أصول الفقه إغناء للسامع عن السؤال وقال عن لسانه أصول الفقه ما هي، ثم أخذ في تعريفه وأصول الفقه لقب لهذا الفن منقول عن مركب إضافي فله بكل اعتبار تعريف قدم بعضهم التعريف اللقبي نظرا إلى أن المعنى العلمي هو المقصود في الإعلام وأنه من الإضافي بمنزلة البسيط من المركب والمصنف قدم الإضافي نظرا إلى أن المنقول عنه مقدم وإلى أن الفقه مأخوذ في التعريف اللقبي، فإن قدم تفسيره أمكن ذكره في اللقبي كما قال المصنف هو العلم بالقواعد التي يتوصل بها الفقه وإلا احتيج إلى إيراد تفسيره تارة في اللقبي وتارة في الإضافي كما في أصول ابن الحاجب ولما كان أصول الفقه عند قصد المعنى الإضافي جمعا وعند قصد المعنى اللقبي مفردا كعبد الله قال فنعرفها أولا باعتبار الإضافة بتأنيث الضمير، وقال فالآن نعرفه باعتبار أنه لقب لعلم مخصوص بتذكيره واللقب علم يشعر بمدح أو ذم وأصول الفقه علم لهذا الفن مشعر بكونه مبنى الفقه الذي به نظام المعاش ونجاة المعاد، وذلك مدح.
قوله: "أما تعريفها باعتبار الإضافة فيحتاج إلى تعريف المضاف" ، وهو الأصول. "والمضاف إليه"، وهو الفقه؛ لأن تعريف المركب يحتاج إلى تعريف مفرداته الغير البينة ضرورة توقف معرفة الكل على معرفة أجزائه ويحتاج إلى تعريف الإضافة أيضا؛ لأنها بمنزلة الجزء الصوري إلا أنهم لم يتعرضوا له للعلم بأن معنى إضافة المشتق وما في معناه اختصاص المضاف إليه باعتبار مفهوم المضاف مثلا دليل المسألة ما يختص بها باعتبار كونه دليلا عليها فأصل الفقه ما يختص به من حيث إنه مبني له ومستند إليه فالأصول جمع أصل، وهو في اللغة ما يبنى عليه الشيء من حيث إنه يبتنى عليه وبهذا القيد خرج أدلة الفقه مثلا من حيث تبتنى على علم التوحيد فإنها بهذا الاعتبار فروع لا أصول وقيد الحيثية لا بد منه في تعريف الإضافيات إلا أنه كثيرا ما يحذف لشهرة أمره. ثم

(1/16)


وإن أريد بالنفع عدم العقاب وبالضرر العقاب ففعل الحرام والمكروه تحريما وترك الواجب يكون من القسم الثاني أي مما يعاقب عليه والتسعة الباقية تكون من الأول أي مما لا يعاقب عليه وإن أريد بالنفع الثواب وبالضرر عدم الثواب ففعل الواجب والمندوب مما يثاب عليه، ثم العشرة الباقية مما لا يثاب عليه عليها ويمكن أن يراد بما لها وما عليها ما يجوز لها وما يجب عليها ففعل ما سوى الحرام والمكروه تحريما وترك ما سوى الواجب مما يجوز لها وفعل الواجب وترك الحرام والمكروه تحريما مما يجب عليها بقي فعل الحرام والمكروه تحريما وترك الواجب خارجين عن القسمين ويمكن أن يراد بما لها وما عليها ما يجوز لها وما يحرم عليها فيشملان جميع الأصناف.
إذا عرفت هذا فالحمل على وجه لا يكون بين القسمين واسطة أولى، ثم ما لها وما عليها يتناول الاعتقاديات كوجوب الإيمان ونحوه والوجدانيات أي الأخلاق الباطنة والملكات النفسانية والعمليات كالصلاة والصوم والبيع ونحوها فمعرفة ما لها وما عليها من الاعتقاديات هي علم الكلام ومعرفة ما لها وما عليها من الوجدانيات هي علم الأخلاق والتصوف كالزهد والصبر والرضا وحضور القلب في الصلاة ونحو ذلك، ومعرفة ما لها وما عليها من العمليات هي الفقه المصطلح، فإن أردت بالفقه هذا المصطلح زدت عملا على قوله ما لها وما عليها وإن أردت ما يشمل الأقسام الثلاثة لم تزد وأبو حنيفة رحمه الله إنما لم يزد عملا؛ لأنه أراد الشمول أي أطلق الفقه على العلم بما لها وعليها سواء كان من الاعتقاديات أو الوجدانيات أو العمليات، ثم سمى الكلام فقها أكبر.
.........................................................
نقل الأصل في العرف إلى معان أخر، مثل الراجح والقاعدة الكلية والدليل فذهب بعضهم إلى أن المراد هاهنا الدليل وأشار المصنف إلى أن النقل خلاف الأصل ولا ضرورة في العدول إليه؛ لأن الابتناء كما يشمل الحسي كابتناء السقف على الجدران وابتناء أعالي الجدران على أساسه وأغصان الشجر على دوحته كذلك يشمل الابتناء العقلي كابتناء الحكم على دليله فهاهنا يحمل على المعنى اللغوي وبالإضافة إلى الفقه الذي هو معنى عقلي يعلم أن الابتناء هاهنا عقلي فيكون أصول الفقه ما يبنى هو عليه ويستند إليه لا معنى بمستند العلم ومبتناه إلا دليله وبهذا يندفع ما يقال إن المعنى العرفي أعني الدليل مراد قطعا فأي حاجة إلى جعله بالمعنى اللغوي الشامل للمقصود وغيره. فإن قلت: ابتناء الشيء على الشيء إضافة بينهما، وهو أمر عقلي قطعا قلت: أراد بالابتناء الحسي كون الشيئين محسوسين وحينئذ يدخل فيه مثل ابتناء السقف على الجدار وابتناء المشتق على المشتق منه كالفعل على المصدر أو أراد ما هو المعتبر في العرف من أن ابتناء السقف على الجدار بمعنى كونه مبتنيا عليه وموضوعا فوقه مما يدرك بالحس وحينئذ يخرج مثل ابتناء الفعل على المصدر من الحسي ولا يدخل في العقلي بتفسيره والحق أن ترتب الحكم على دليله لا يصلح تفسيرا للابتناء العقلي، وإنما هو مثال له للقطع بأن ابتناء المجاز على الحقيقة والأحكام الجزئية على القواعد الكلية والمعلولات على عللها والأفعال على المصادر وما أشبه ذلك ابتناء عقلي.

(1/17)


تعريف العلم
...
وقيل: العلم بالأحكام الشرعية العلمية من أدلتها التفصيلة.
ـــــــ
"وقيل العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية" فالعلم جنس، والباقي فصل فقوله بالأحكام يمكن أن يراد بالحكم هاهنا إسناد أمر إلى آخر ويمكن أن يراد
..............................................................
قوله: "واعلم أن التعريف إما حقيقي" الماهية إما أن يكون لها تحقق وثبوت مع قطع النظر عن اعتبار العقل أو لا الأولى الماهية الحقيقية أي الثابتة في نفس الأمر ولا بد فيها من احتياج بعض الأجزاء إلى البعض إذا كانت مركبة والثانية الماهية الاعتبارية أي الكائنة بحسب اعتبار العقل كما إذا اعتبر الواضع عدة أمور فوضع بإزائها اسما من غير احتياج الأمور بعضها إلى بعض كالأصل الموضوع بإزاء الشيء ووصف ابتناء الغير عليه والفقه الموضوع بإزاء المسائل المخصوصة والجنس الموضوع بإزاء الكلي المقول على الكثرة المختلفة الحقيقة والنوع الموضوع بإزاء الكلي المقول على الكثرة المتفقة الحقيقة في جواب ما هو والتمثيل بالمركبة من عدة أمور لا ينافي كون بعض الماهيات الاعتبارية بسائط على أن الحق أنها إنما يقال لها الأمور الاعتبارية لا الماهيات الاعتبارية إذا تمهد هذا فنقول ما يتعقله الواضع ليضع بإزائه اسما إما أن يكون له ماهية حقيقة أو لا وعلى الأول إما أن يكون متعقله نفس حقيقة ذلك الشيء أو وجودها واعتبارات منه فتعريف الماهية الحقيقية لمسمى الاسم من حيث إنها ماهية حقيقة تعريف حقيقي يفيد تصور الماهية في الذهن بالذاتيات كلها أو بعضها أو بالعرضيات أو بالمركب منهما وتعريف مفهوم الاسم وما تعقله الواضع فوضع الاسم بإزائه تعريف اسمي يفيد تبيين ما وضع الاسم بإزائه بلفظ أشهر كقولنا الغضنفر الأسد أو بلفظ يشتمل على تفصيل ما دل عليه الاسم إجمالا كقولنا الأصل ما يبتنى عليه غيره فتعريف المعلومات لا يكون إلا اسميا، إذ لا حقائق لها، بل مفهومات وتعريف الموجودات قد يكون اسميا وقد يكون حقيقيا، إذ لها مفهومات وحقائق. فإن قلت: ظاهر عبارته مشعر بأن تعريف الماهيات الحقيقية حقيقي ألبتة كما أن تعريف الماهيات الاعتبارية اسمي ألبتة قلت: في العدول عن ظاهر العبارة سعة إلا أن التحقيق أن الماهية الحقيقية قد تؤخذ من حيث إنها حقيقة مسمى الاسم وماهيته الثابتة في نفس الأمر وتعريفها بهذا الاعتبار حقيقي ألبتة؛ لأنه جواب ل "ما" التي لطلب الحقيقة وهي متأخرة عن "هل" البسيطة الطالبة لوجود الشيء المتأخرة عن "ما" التي لطلب تفسير الاسم وبيان مفهومه وقد تؤخذ من حيث إنها مفهوم الاسم ومتعقل الواضع عند وضع الاسم وتعريفا بهذا الاعتبار اسمي ألبتة؛ لأنه جواب عن "ما" التي لطلب مفهوم الاسم ومتعقل الواضع فهذا التعريف قد يكون نفس حقيقة ذلك الشيء بأن يكون متعقل الواضع نفس الحقيقة وقد يكون غيرها ولهذا صرحوا بأنه قد يتحد التعريف الاسمي والحقيقي إلا أنه قبل العلم بوجود الشيء يكون اسميا وبعد العلم بوجوده ينقلب حقيقيا مثلا تعريف المثلث في مبادئ الهندسة بشكل يحيط به ثلاثة أضلاع تعريف اسمي وبعد الدلالة على وجوده يصير هو بعينه تعريفا حقيقيا.
قوله: "وشرط لكلا التعريفين" أي الحقيقي والاسمي الطرد والعكس أما الطرد فهو صدق المحدود على ما صدق عليه الحد مطردا كليا أي كلما صدق عليه الحد صدق عليه المحدود، وهو معنى قولهم كلما وجد الحد وجد المحدود فبالاطراد يصير الحد مانعا عن دخول غير المحدود.

(1/18)


الحكم المصطلح، وهو خطاب الله تعالى المتعلق إلخ، فإن أريد الأول يخرج العلم بالذوات والصفات التي ليست بأحكام عن الحد أي يخرج التصورات ويبقي التصديقات وبالشرعية يخرج العلم بالأحكام العقلية والحسية كالعلم بأن العالم محدث والنار محرقة وإن أريد الثاني فقوله بالأحكام يكون احترازا عن علم ما سوى خطاب الله تعالى المتعلق إلى آخره فالحكم بهذا التفسير قسمان شرعي أي خطاب الله تعالى بما يتوقف على الشرع وغير شرعي أي خطاب الله تعالى بما لا يتوقف على الشرع كوجوب الإيمان بالله تعالى ووجوب تصديق النبي عليه السلام ونحوهما مما لا يتوقف على الشرع لتوقف الشرع عليه.
ثم الشرعي، إما نظري، وإما عملي فقوله العملية يخرج العلم بالأحكام الشرعية النظرية كالعلم بأن الإجماع حجة وقوله من أدلتها أي العلم الحاصل للشخص الموصوف به من أدلتها المخصوصة بها وهي الأدلة الأربعة، وهذا القيد يخرج التقليد؛ لأن المقلد وإن كان قول المجتهد دليلا له لكنه ليس من تلك الأدلة المخصوصة وقوله التفصيلية يخرج الإجمالية كالمقتضي والنافي، وقد زاد ابن الحاجب على هذا قوله بالاستدلال، ولا شك أنه مكرر. ولما عرف الفقه بالعلم بالأحكام الشرعية وجب تعريف الحكم وتعريف الشرعية فقال:
.........................................................
وأما العكس فأخذه بعضهم من عكس الطرد بحسب متفاهم العرف، وهو جعل المحمول موضوعا مع رعاية الكمية بعينها كما يقال كل إنسان ضاحك وبالعكس أي كل ضاحك إنسان وكل إنسان حيوان ولا عكس أي ليس كل حيوان إنسانا فلهذا قال في العكس إن كل ما صدق عليه المحدود صدق عليه الحد عكسا لقولنا كل ما صدق عليه الحد صدق عليه المحدود فصار حاصل الطرد حكما كليا بالمحدود على الحد والعكس حكما كليا بالحد على المحدود وبعضهم أخذه من أن عكس الإثبات نفي ففسره بأنه كلما انتفى الحد انتفى المحدود أي كلما لم يصدق عليه الحد لم يصدق عليه المحدود فصار العكس حكما كليا بما ليس بمحدود على ما ليس بحد والحاصل واحد، وهو أن يكون الحد جامعا لأفراد المحدود كلها.
قوله: "ولا شك أن تعريف الأصل اسمي"؛ لأنه تبيين أن لفظ الأصل في اللغة موضوع للمركب الاعتباري الذي هو الشيء مع وصف ابتناء الغير عليه أو احتياج الغير إليه، وهذا لا دخل له في بيان فساد التعريف، إذ عدم الاطراد مفسد له اسميا كان أو غيره ففي الجملة تعريف الأصل بالمحتاج إليه غير مطرد، إذ لا يصدق أن كل محتاج إليه أصل؛ لأن ما يحتاج إليه الشيء إما داخل فيه أو خارج عنه والأول إما أن يكون وجود الشيء معه بالقوة، وهو المادة كالخشب للسرير أو بالفعل، وهو الصورة كالهيئة السريرية له. والثاني إن كان ما منه الشيء فهو الفاعل كالنجار للسرير، وإن كان ما لأجله الشيء فهو الغاية كالجلوس على السرير وإلا فهو الشرط كآلات النجار وقابلية الخشب ونحو ذلك فهذه أقسام خمسة للمحتاج إليه لا يطلق لفظ الأصل لغة إلا على واحد منها هو المادة كما يقال أصل هذا السرير خشب كذا والأربعة الباقية يصدق على كل واحد منها أنه محتاج إليه

(1/19)


ولا يصدق عليه أنه أصل فلا يكون التعريف مطردا مانعا وهاهنا بحث من وجوه أحدها منع اشتراط الطرد في مطلق التعريف لا سيما في الاسمي فإن كتب اللغة مشحونة بتفسير الألفاظ بما هو أعم من مفهوماتها وقد صرح المحققون بأن التعريفات الناقصة يجوز أن تكون أعم بحيث لا يفيد الامتياز إلا عن بعض ما عدا المحدود وأن الغرض من تفسير الشيء قد يكون تميزه عن شيء معين فيكتفى بما يفيد الامتياز عنه كما إذا قصد التمييز بين الأصل والفروع فيفسر الأول بالمحتاج إليه والثاني بالمحتاج وثانيها منع عدم صدق الأصل على الفاعل كيف والفعل مترتب عليه ومستند إليه ولا معنى للابتناء إلا ذلك. وثالثها أن كلامه في باب المجاز عند بيان جريان الأصالة والتبعية من الجانبين يدل على أن كل محتاج إليه فهو أصل. ورابعها أنا إذا قلنا الفكر ترتيب أمور معلومة فلا شك أن الأمور المعلومة مادة للفكر وأصل له مع أن ابتناء الفكر عليها ليس حسيا، وهو ظاهر ولا عقليا بتفسير المصنف، وهو ترتب الحكم على دليله.
قوله: "والفقه" نقل للمضاف تعريفين مقبولا ومزيفا وللمضاف إليه تعريفين صرح بتزييف أحدهما دون الآخر، ثم ذكر من عنده تعريفا ثالثا فالأول: معرفة النفس ما لها وما عليها يجوز أن يريد بالنفس العبد نفسه؛ لأن أكثر الأحكام متعلقة بأعمال البدن وأن يريد النفس الإنسانية، إذ بها الأفعال ومعها الخطاب، وإنما البدن آلة وفسر المعرفة بإدراك الجزئيات عن دليل والقيد الأخير مما لا دلالة عليه أصلا لا لغة ولا اصطلاحا وذهب في قوله ما لها وما عليها إلى ما يقال إن اللام للانتفاع وعلى للتضرر وقيدهما بالأخروي احترازا عما تنتفيه النفس أو تتضرر في الدنيا من اللذات والآلام والمشعر بهذا التقيد شهرة أن الفقه من العلوم الدينية فذكر على هذا التقدير ثلاثة معان، ثم ذكر معنيين آخرين فصارت المعاني المحتملة خمسة: ثلاثة منها تشمل جميع أقسام ما يأتي به المكلف واثنان لا تشملها كلها والأقسام اثنا عشر؛ لأن ما يأتي به المكلف إن تساوى فعله وتركه فمباح وإلا، فإن كان فعله أولى فمع المنع عن الترك واجب وبدونه مندوب، وإن كان تركه أولى فمع المنع عن الفعل بدليل قطعي حرام وبدليل ظني مكروه كراهة التحريم وبدون المنع عن الفعل مكروه كراهة التنزيه هذا على رأي محمد رحمه الله، وهو المناسب هاهنا؛ لأن المصنف جعل المكروه تنزيها مما يجوز فعله والمكروه تحريما مما لا يجوز فعله، بل يجب تركه كالحرام، وهذا لا يصح على رأيهما، وهو أن ما يكون تركه أولى من فعله فهو مع المنع عن الفعل حرام وبدونه مكروه كراهة التنزيه إن كان إلى الحل أقرب بمعنى أنه لا يعاقب فاعله لكن يثاب تاركه أدنى ثواب وكراهة التحريم إن كان إلى الحرام أقرب بمعنى أن فاعله مستحق محذورا دون العقوبة بالنار كحرمان الشفاعة، ثم المراد بالواجب ما يشمل الفرض أيضا؛ لأن استعماله بهذا المعنى شائع عندهم كقولهم الزكاة واجبة والحج واجب بخلاف إطلاق الحرام على المكروه تحريما. والمراد بالمندوب ما يشمل السنة والنقل فصارت الأقسام ستة ولكل منها طرفا فعل أي إيقاع على ما هو المعنى المصدري وترك أي عدم فعل فتصير اثني عشر والمراد بما يأتي به المكلف الفعل بمعنى الحاصل من المصدر كالهيئة التي تسمى صلاة والحالة التي تسمى صوما ونحو ذلك مما هو أثر صادر عن المكلف وطرف فعله إيقاعا وطرف تركه عدم إيقاعه والأمور المذكورة من الواجب والحرام وغيرهما، وإن كانت في الحقيقة من صفات فعل المكلف خاصة إلا أنها قد تطلق على عدم الفعل

(1/20)


أيضا فيقال عدم مباشرة الواجب حرام وعدم مباشرة الحرام واجب، وهو المراد هاهنا، وإنما فسر الترك بعدم الفعل ليصير قسما آخر، إذ لو أريد به كف النفس لكان ترك الحرام مثلا فعل الواجب بعينه، فإن قلت: أي حاجة إلى اعتبار الفعل والترك وجعل الأقسام اثني عشر وهلا اقتصر على الستة بأن يراد بالواجب مثلا أهم من الفعل والترك قلت؛ لأنه إذا قال الواجب يدخل فيما يثاب عليه لم يصح ذلك في الواجب بمعنى عدم فعل الحرام فلا بد من التفصيل المذكور، ثم لا يخفى أن المراد أن عدم الإتيان بالواجب يستحق العقاب إلا أنه قد لا يعاقب لعفو من الله تعالى أو سهو من العبد أو نحو ذلك وباقي كلامه واضح إلا أن فيه مباحث.
الأول: أنه جعل ترك الحرام مما لا يثاب عليه ولا يعاقب واعترض عليه بأنه واجب والواجب يثاب عليه، وفي التنزيل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41] وجوابه أن المثاب عليه فعل الواجب لا عدم مباشرة الحرام وإلا لكان لكل أحد في كل لحظة مثوبات كثيرة بحسب كل حرام لا يصدر عنه ونهي النفس كفها عن الحرام، وهو من قبيل فعل الواجب ولا نزاع في أن ترك الحرام بمعنى كف النفس عنه عند تهيؤ الأسباب وميلان النفس إليه مما يثاب عليه. والثاني أن المراد بالجواز في الوجه الرابع عدم منع الفعل والترك على ما يناسب الإمكان الخاص ليقابل الوجوب، وفي الخامس عدم منع الفعل على ما يناسب الإمكان العام ليقابل الحرمة، فإن قلت: إن أريد بالجواز عدم منع الفعل والترك لم يصح قوله ففعل ما سوى الحرام والمكروه تحريما وترك ما سوى الواجب مما يجوز لها؛ لأن ما سوى الحرام والمكروه تحريما يشمل الواجب مع أنه لا يجوز بهذا المعنى وكذا ترك ما سوى الواجب يشمل ترك الحرام والمكروه تحريما مع أنه لا يجوز قلت: هذا مخصوص بقرينة التصريح بدخوله فيما يجب عليها. والثالث أن ما يحرم عليها في الوجه الخامس بمعنى المنع عن الفعل يشمل الحرام والمكروه تحريما والرابع أن ليس المراد بمعرفة ما لها وما عليها تصورهما ولا التصديق بثبوتهما لظهور أن ليس الفقه عبارة عن تصور الصلاة وغيرها ولا عن التصديق بوجودها في نفس الأمر، بل المراد معرفة أحكامها من الوجوب وغيره كالتصديق بأن هذا واجب وذاك حرام وإليه أشار بقوله كوجوب الإيمان فأحكام الوجدانيات من الوجوب ونحوه تدرك بالدليل وثبوتها في نفس الأمر بالوجدان كما في العمليات بعرف وجوب الصلاة بالدليل ووجودها بالحس، ثم لا يخفى أن اعتراضه على التعريف الثاني بأنه لا يجوز أن يراد بالأحكام كلها ولا بعضها المعين ولا المبهم وارد هاهنا فيما لها وما عليها مع أن إطلاق اللفظ المحتمل للمعاني المتعددة مع عدم تعين المراد غير مستحسن في التعريفات.
قوله: "وقيل العلم" عرف أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى الفقه بأنه "العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية", وبيان ذلك أن متعلق العلم إما حكم أو غيره والحكم إما مأخوذ من الشرع أو لا والمأخوذ من الشرع إما أن يتعلق بكيفية العمل أو لا والعمل إما أن يكون العلم به حاصلا من دليله التفصيلي الذي نيط به الحكم أو لا فالعلم المتعلق بجميع الأحكام الشرعية العملية الحاصل من أدلتها التفصيلية هو الفقه وخرج العلم بغير الأحكام من الذوات والصفات والعلم بالأحكام الغير المأخوذة من الشرع كالأحكام المأخوذة من العقل كالعلم بأن العالم

(1/21)


تعريف الحكم
...
والحكم :
قيل خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير وقد زاد البعض أو الوضع ليدخل الحكم بالسببية والشرطية ونحوهما وبعضهم قد
ـــــــ
"والحكم قيل خطاب الله تعالى" هذا التعريف منقول عن الأشعري فقوله خطاب الله تعالى يشمل جميع الخطابات. وقوله "المتعلق بأفعال المكلفين" يخرج ما ليس كذلك فبقي
.........................................................
حادث أو من الحس كالعلم بأن النار محرقة أو من الوضع والاصطلاح كالعلم بأن الفاعل مرفوع وخرج العلم بالأحكام الشرعية النظرية وتسمى اعتقادية وأصلية ككون الإجماع حجة والإيمان واجبا وخرج أيضا علم الله تعالى وعلم جبريل والرسول عليهما الصلاة والسلام وكذا علم المقلد؛ لأنه لم يحصل من الأدلة التفصيلية.
قوله: "يمكن أن يراد بالحكم" الحكم يطلق في العرف على إسناد أمر إلى آخر أي نسبته إليه بالإيجاب أو السلب، وفي اصطلاح الأصول على خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير، وفي اصطلاح المنطق على إدراك أن النسبة واقعة أو ليست بواقعة ويسمى تصديقا، وهو ليس بمراد هاهنا؛ لأنه علم والفقه ليس علما بالعلوم الشرعية والمحققون على أن الثاني أيضا ليس بمراد وإلا لكان ذكر الشرعية والعملية تكرارا، بل المراد النسبة التامة بين الأمرين التي العلم بها تصديق وبغيرها تصور وإلى هذا أشار بقوله يخرج التصورات ويبقى التصديقات فيكون الفقه عبارة عن التصديق بالقضايا الشرعية المتعلقة بكيفية العمل تصديقا حاصلا من الأدلة التفصيلية التي نصبت في الشرع على تلك القضايا وفوائد القيود ظاهرة على هذا التقدير والمصنف جوز أن يراد بالحكم هاهنا مصطلح الأصول فاحتاج إلى تكلف في تبيين فوائد القيود وتعسف في تقدير مراد القوم فذهب إلى أن المراد بالشرعي ما يتوقف على الشرع ولا يدرك لولا خطاب الشارع والأحكام منها ما هو خطاب بما يتوقف على الشرع كوجوب الصلاة والصوم ومنها ما هو خطاب بما لا يتوقف عليه كوجوب الإيمان بالله تعالى ووجوب تصديق النبي عليه السلام؛ لأن ثبوت الشرع موقوف على الإيمان بوجود الباري تعالى وعلمه وقدرته وكلامه وعلى التصديق بنبوة النبي عليه السلام بدلالة معجزاته فلو توقف شيء من هذه الأحكام على الشرع لزم الدور فالتقييد بالشرعية يخرج هذه الأحكام؛ لأنها ليست شرعية بمعنى التوقف على الشرع، وإنما قال الخطاب بما يتوقف أو لا يتوقف؛ لأن الحكم المفسر بالخطاب قديم عندهم فكيف يتوقف على الشرع ولقائل أن يمنع توقف الشرع على وجوب الإيمان ونحوه سواء أريد بالشرع خطاب الله تعالى أو شريعة النبي عليه السلام وتوقف التصديق بثبوت شرع النبي عليه السلام على الإيمان بالله تعالى وصفاته وعلى التصديق بنبوة النبي عليه السلام ودلالة معجزاته لا يقتضي توقفه على وجوب الإيمان والتصديق ولا على العلم بوجوبهما غايته أنه يتوقف على نفس الإيمان والتصديق، وهو غير مفيد ولا مناف لتوقف وجوب الإيمان ونحوه على الشرع كما هو المذهب عندهم من أن لا وجوب إلا بالسمع.
قوله: "ثم الشرعي" أي المتوقف على الشرع إما نظري لا يتعلق بكيفية عمل وإما عملي

(1/22)


عرف الحكم الشرعي بهذا والفقهاء يطلقونه على ما ثبت بالخطاب كالوجوب والحرمة مجازا كالخلق على المخلوق يرد عليه أن الحكم المصطلح بين ما ثبت بالخطاب لا هو
ـــــــ
في الحد نحو: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] مع أنه ليس بحكم فقال "بالاقتضاء" أي الطلب وهو إما طلب الفعل جازما كالإيجاب أو غير جازم كالندب وأما
.........................................................
يتعلق بها فالتقييد بالعملية لإخراج النظرية يكون الإجماع حجة، وهذا إنما يصح على التقدير الثاني لو كان الحكم المصطلح شاملا للنظري، وفيه كلام سيجيء.
قوله: "أي العلم الحاصل" قد يتوهم أن قوله من أدلتها متعلق بالأحكام وحينئذ لا يخرج علم المقلد؛ لأنه علم بالأحكام الحاصلة عن أدلتها التفصيلية، وإن لم يكن علم المقلد حاصلا عن الأدلة فدفع ذلك متعلق بالعلم لا بالأحكام إذ الحاصل من الدليل هو العلم بالشيء لا الشيء نفسه على أنه إذا أريد بالحكم الخطاب فهو قديم لا يحصل من شيء، ومعنى حصول العلم من الدليل أنه ينظر في الدليل فيعلم منه الحكم فعلم المقلد، وإن كان مستندا إلى قول المجتهد المستند إلى علمه المستند إلى دليل الحكم لكنه لم يحصل من النظر في الدليل وقيد الأدلة بالتفصيلية؛ لأن العلم بوجوب الشيء لوجود المقتضي أو بعدم وجوده لوجود النافي ليس من الفقه.
قوله: "ولا شك أنه مكرر" ذهب ابن الحاجب إلى أن حصول العلم بالأحكام عن الأدلة قد يكون بطريق الضرورة كعلم جبريل والرسول عليهما السلام وقد يكون بطريق الاستدلال أو الاستنباط كعلم المجتهد والأول لا يسمى فقها اصطلاحا فلا بد من زيادة قيد الاستدلال أو الاستنباط احترازا عنه والمصنف توهم أنه احتراز عن علم المقلد فجزم بأنه مكرر لخروجه بقوله من أدلتها التفصيلية، فإن قيل حصول العلم عن الدليل مشعر بالاستدلال، إذ لا معنى لذلك إلا أن يكون العلم مأخوذا عن الدليل فيخرج علم جبريل والرسول عليهما السلام أيضا قلنا لو سلم فذكر الاستدلال للتصريح بما علم التزاما أو لدفع الوهم أو للبيان دون الاحتراز ومثله شائع في التعريفات.
قوله: "ولما عرف الفقه" المذكور في كتب الشافعية أن خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين تعريف للحكم الشرعي المتعارف بين الأصوليين لا للحكم المأخوذ في تعريف الفقه والمصنف ذهب إلى أنه تعريف له وأن الشرعي قيد زائد على خطاب الله تعالى وأن كونه تعريفا للحكم الشرعي إنما هو رأي بعض الأشاعرة كل ذلك لعدم تصفحه كتبهم فنقول عرف بعض الأشاعرة الحكم الشرعي بخطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين والخطاب في اللغة توجيه الكلام نحو الغير للإفهام، ثم نقل إلى ما يقع به التخاطب، وهو هاهنا الكلام النفسي الأزلي ومن ذهب إلى أن الكلام لا يسمى في الأزل خطابا فسر الخطاب بالكلام الموجه للإفهام أو الكلام المقصود منه إفهام من هو متهيئ لفهمه، ومعنى تعلقه بأفعال المكلفين تعلقه بفعل من أفعالهم وإلا لم يوجد حكم أصلا، إذ لا خطاب يتعلق بجميع الأفعال فدخل في الحد خواص النبي عليه السلام كإباحة ما فوق الأربع من النساء وخرج خطاب الله المتعلق بأحوال ذاته وصفاته

(1/23)


وأيضا يخرج منه ما يتعلق بفعل الصبي فينبغي أن يقال بأفعال العباد ويخرج منه ما ثبت بالقياس إلا أن يقال يدرك بالقياس أن الخطاب ورد بهذا لا أنه ثبت بالقياس وأيضا يخرج نحو آمنوا وفاعتبروا ويقع التكرار بين العملية وبين المتعلق بأفعال
ـــــــ
طلب الترك جازما كالتحريم أو غير جازم كالكراهة "أو التخيير" أي الإباحة "وقد زاد البعض أو الوضع ليدخل الحكم بالسببية والشرطية ونحوهما" اعلم أن الخطاب نوعان، إما تكليفي، وهو المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير، وإما وضعي، وهو الخطاب بأن هذا سبب
.........................................................
وتنزيهاته وغير ذلك مما ليس بفعل المكلف لا يقال إضافة الخطاب إلى الله تعالى تدل على أن لا حكم إلا خطابه تعالى وقد وجب طاعة النبي عليه السلام وأولي الأمر والسيد فخطابهم أيضا حكم؛ لأنا نقول إنما وجبت طاعتهم بإيجاب الله تعالى إياها فلا حكم إلا حكمه تعالى، ثم اعترض على هذا التعريف بأنه غير مانع؛ لأنه يدخل فيه القصص المبينة لأحوال المكلفين وأفعالهم والأخبار المتعلقة بأعمالهم كقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] مع أنها ليست أحكاما فزيد على التعريف قيد يخصصه ويخرج ما دخل فيه من غير أفراد المحدود، وهو قولهم بالاقتضاء أو التخيير، فإن تعلق الخطاب بالأفعال في القصص والإخبار عن الأعمال ليس تعلق الاقتضاء أو التخيير، إذ معنى التخيير إباحة الفعل والترك للمكلف، ومعنى الاقتضاء طلب الفعل منه مع المنع عن الترك، وهو الإيجاب أو بدونه، وهو الندب أو طلب الترك مع المنع عن الفعل، وهو التحريم أو بدونه، وهو الكراهة وقد يجاب بأنه لا حاجة إلى زيادة قولهم بالاقتضاء أو التخيير؛ لأن قيد الحيثية مراد والمعنى خطاب الله المتعلق بفعل المكلف من حيث هو فعل المكلف وليس تعلق الخطاب بالأفعال في صور النقض من حيث إنها أفعال المكلفين، وهو ظاهر.
قوله: "وقد زاد البعض" اعترضت المعتزلة على هذا التعريف بثلاثة أوجه الأول أن الخطاب عندكم قديم والحكم حادث لكونه متصفا بالحصول بعد العدم كقولنا حلت المرأة بعد ما لم تكن حلالا ولكونه معللا بالحادث كقولنا حلت بالنكاح وحرمت بالطلاق الثاني أنه يشتمل على كلمة أو، وهو للتشكيك والترديد فينا في التعريف والتحديد. الثالث أنه غير جامع للأحكام الوضعية مثل سببية الدلوك لوجوب الصلاة وشرطية الطهارة لها ومانعية النجاسة عنها والمصنف أهمل في تفسير الخطاب الوضعي ذكر المانعية فأجابت الأشاعرة عن الأول بمنع اتصاف الحكم بالحصول بعد العدم، بل المتصف بذلك هو التعلق والمعنى تعلق الحل بها بعد ما لم يكن متعلقا وبمنع تعليل الحكم بالحادث بمعنى تأثير الحادث فيه، بل معناه كون الحادث أمارة عليه ومعرفا له، إذ العلل الشرعية أمارات ومعرفات لا موجبات ومؤثرات والحادث يصلح أمارة ومعرفا للقديم كالعالم للصانع وعن الثاني بأن أو هاهنا لتقسيم المحدود وتفصيله؛ لأنه نوعان نوع له تعلق الاقتضاء ونوع له تعلق التخيير فلا يمكن جمعهما في حد واحد بدون التفصيل. وأما الثالث فالتزمه بعضهم وزاد في التعريف قيدا يعمه ويجعله شاملا للحكم الوضعي فقال بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع أي وضع الشارع وجعله وأجاب بعضهم بأنا لا نسلم أن خطاب الوضع حكم ونحن لا نسميه حكما، وإن اصطلح غيرنا على تسميته حكما فلا مشاحة معه وعليه تغيير التعريف، ولو سلم

(1/24)


المكلفين إلا أن يقال نعني بالأفعال ما يعم فعل الجوارح وفعل القلب وبالعملية ما يختص بالجوارح.
ـــــــ
ذلك أو شرطه كالدلوك سبب للصلاة والطهارة شرط فلما ذكر أحد النوعين، وهو التكليفي وجب ذكر النوع الآخر، وهو الوضعي والبعض لم يذكر الوضعي؛ لأنه داخل في الاقتضاء أو التخيير؛ لأن المعنى من كون الدلوك سببا للصلاة أنه إذا وجد الدلوك وجبت الصلاة حينئذ والوجوب من باب الاقتضاء لكن الحق هو الأول؛ لأن المفهوم من الحكم الوضعي تعلق شيء بشيء آخر، والمفهوم من الحكم التكليفي ليس هذا ولزوم أحدهما للآخر في صورة لا يدل على اتحادهما نوعا "وبعضهم قد عرف الحكم الشرعي بهذا" أي بعض المتأخرين من متابعي الأشعري قالوا الحكم الشرعي خطاب الله تعالى "فالحكم على هذا إسناد أمر إلى آخر والفقهاء يطلقونه على ما ثبت بالخطاب كالوجوب والحرمة مجازا" بطريق إطلاق اسم المصدر على المفعول "كالخلق على المخلوق" لكن لما شاع فيه صار منقولا اصطلاحيا، وهو حقيقة اصطلاحية "يرد عليه" أي على تعريف الحكم، وهو خطاب الله تعالى إلخ "إن الحكم المصطلح بين" الفقهاء "ما ثبت بالخطاب لا هو" أي لا الخطاب فلا يكون ما ذكر تعريفا للحكم المصطلح بين الفقهاء، وهو المقصود بالتعريف هنا
.........................................................
فلا نسلم خروجها عن الحد فإن مرادنا من الاقتضاء والتخيير أعم من التصريح والضمني وخطاب الوضع من قبيل الضمني، إذ معنى سببية الدلوك وجوب الصلاة عنده، ومعنى شرطية الطهارة وجوبها في الصلاة أو حرمة الصلاة بدونها، ومعنى مانعية النجاسة حرمة الصلاة معها أو وجوب إزالتها حالة الصلاة وكذا في جميع الأسباب والشروط والموانع وذهب المصنف أن الحق زيادة القيد؛ لأن الخطاب نوعان تكليفي ووضعي فلما ذكر أحدهما وجب ذكر الآخر ولا وجه لجعل الوضع داخلا في الاقتضاء أو التخيير أي في التكليفي؛ لأنهما مفهومان متغايران ولزوم أحدهما للآخر في بعض الصور لا يدل على اتحادهما وأنت خبير بأنه لا توجيه لهذا الكلام أصلا أما أولا فلأن الخصم يمنع كون الخطاب الوضعي حكما ويصطلح على تسمية بعض أقسام الخطاب حكما دون البعض فكيف يجب عليه ذكر الوضعي في تعريف الحكم، بل كيف يصح. وأما ثانيا فلأنه يمنع كونه خارجا عن التعريف ويجعل الخطاب التكليفي أعم منه شاملا له فأي ضرر له في تغاير مفهوميهما، بل كيف يتحد مفهوم العام والخاص على أن قوله المفهوم من الخطاب الوضعي تعلق شيء بشيء فيه تسامح؟ والمعنى أن المفهوم منه الخطاب بتعلق شيء بشيء لكونه شرطا له أو سببا أو مانعا.
قوله: "وبعضهم عرف" ذكر في بعض المختصرات أن الحكم خطاب الله تعالى إشارة إلى الحكم الشرعي المعهود وصرح في كثير من الكتب بأن الحكم الشرعي خطاب الله تعالى فتوهم المصنف أن هذا تعريف للحكم عند البعض وللحكم الشرعي عند البعض ولا خلاف لأحد من الأشاعرة في أن هذا التعريف للحكم الشرعي قال المصنف إذا كان تعريفا للحكم فمعنى الشرعي

(1/25)


تعريف الشرعية
...
والشرعية :
ما لا تدرك لولا خطاب الشارع فيدخل في حد الفقه حسن كل فعل وقبحه عند نفاة كونهما عقليين ولا يزاد عليه التي لا يعلم كونها من الدين ضرورة لإخراج مثل الصلاة والصوم فإنهما منه وليس المراد بالأحكام بعضها وإن قل بل هو
ـــــــ
"وأيضا يخرج منه ما يتعلق بفعل الصبي" كجواز بيعه وصحة إسلامه وصلاته وكونها مندوبة ونحو ذلك فإنه ليس بمتعلق بأفعال المكلفين مع أنه حكم، فإن قيل هو حكم باعتبار تعلقه بفعل وليه قلنا هذا في الإسلام والصلاة لا يصح. وأما في غير الإسلام والصلاة فإن تعلق الحق بماله أو بذمته حكم شرعي، ثم أداء الولي حكم آخر مترتب على الأول لا عينه وسيجيء في باب الحكم الأحكام المتعلقة بأفعاله، فينبغي أن يقال بأفعال العباد ويخرج منه ما ثبت بالقياس إذ لا خطاب هنا، "إلا أن يقال" اعلم أن المصادر قد تقع ظرفا، نحو "آتيك طلوع الفجر", أي وقت طلوعه فقوله: "إلا أن يقال هذا القبيل", فإنه استثناء
.........................................................
ما يتوقف على الشرع ليكون قيدا مفيدا مخرجا لوجوب الإيمان ونحوه وإذا كان تعريفا للحكم الشرعي فمعنى الشرعي ما ورد به خطاب الشرع لا ما يتوقف على الشرع وإلا لكان الحد أعم من المحدود لتناوله مثل وجوب الإيمان مع أن المحدود لا يتناوله حينئذ لعدم توقفه على الشرع.
قوله: "فالحكم على هذا" أي على تقدير أن يكون خطاب الله إلخ تعريفا للحكم الشرعي إسناد أمر إلى آخر لا خطاب الله تعالى المتعلق بفعل المكلف وإلا لكان ذكر الشرعية مكررا لما سبق من أن الشرع على هذا التقدير ما ورد به خطاب الشرع لا ما يتوقف على الشرع، فإن قيل فيدخل في الأحكام الشرعية مثل وجوب الإيمان من أنه ليس من الفقه قلنا يخرج بقيد العملية.
قوله: "والفقهاء" يريد أن الحكم في اصطلاح الفقهاء حقيقة فيما ثبت بالخطاب من الوجوب والحرمة ونحوهما، وهو مجاز لغوي حيث أطلق المصدر أعني الحكم على المفعول أعني المحكوم به.
قوله: "يرد عليه" إشارة إلى اعتراضات على تعريف الحكم مع الجواب عن البعض الأول أن المقصود تعريف الحكم المصطلح بين الفقهاء، وهو ما ثبت بالخطاب كالوجوب والحرمة وغيرهما مما هو من صفات فعل المكلف لا نفس الخطاب الذي هو من صفات الله تعالى، وهذا مما أورد في كتب الشافعية وأجيب عنه بوجوه: الأول أنه كما أريد بالحكم ما حكم به أريد بالخطاب ما خوطب به للقرينة العقلية على أن الوجوب ليس نفس كلام الله الثاني أن الحكم هو الإيجاب والتحريم ونحوهما وإطلاقه على الوجوب والحرمة تسامح الثالث، وهو للعلامة المحقق عضد الملة والدين أن الحكم نفس خطاب الله تعالى فالإيجاب هو نفس قوله افعل وليس للفعل منه صفة حقيقية فإن القول ليس لمتعلقه منه صفة لتعلقه بالمعدوم، وهو إذا نسب إلى الحاكم يسمى إيجابا وإذا نسب إلى ما فيه الحكم وهو الفعل يسمى وجوبا وهما متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار فلذلك تراهم يجعلون أقسام الحكم الوجوب والحرمة مرة والإيجاب والتحريم

(1/26)


العلم بكل الأحكام الشرعية العملية التي قد ظهر نزول الوحي بها والتي انعقد الإجماع عليها من أدلتها مع ملكة الاستنباط الصحيح منها.
ـــــــ
مفرغ من قوله ويخرج منه ما ثبت بالقياس أي جميع الأوقات إلا وقت قوله في جواب الإشكال "يدرك بالقياس أن الخطاب ورد بهذا إلا أنه ثبت بالقياس" فإن القياس مظهر للحكم لا مثبت فاندفع الإشكال "وأيضا يخرج نحو آمنوا وفاعتبروا" أي من الحد مع أنها حكم فالمراد بالإيمان هنا التصديق فوجوب التصديق حكم مع أنه ليس من الأفعال إذ المراد
.........................................................
أخرى وتارة الوجوب والتحريم كما في أصول ابن الحاجب الثاني أنه غير منعكس لخروج الأحكام المتعلقة بأفعال الصبيان فالأولى أن يقال المتعلق بأفعال العباد وقد أجيب عن ذلك في كتبهم بأن الأحكام التي يتوهم تعلقها بفعل الصبي إنما هي متعلقة بفعل الولي مثلا يجب عليه أداء الحقوق من مال الصبي ورده المصنف أولا بأنه لا يصح في جواز بيعه وصحة إسلامه وصلاته وكونها مندوبة وثانيا بأن تعلق الحق بمال الصبي أو ذمته حكم شرعي وأداء الولي حكم آخر مترتب عليه، وهذا السؤال لا يتأتى على مذهب من عرف الحكم بهذا التعريف فإنهم مصرحون بأن لا حكم بالنسبة إلى الصبي إلا وجوب أداء الحق من ماله، وذلك على الولي، ثم لا يخفى أن تعلق الحكم بماله أو ذمته لا يدخل في تعريف الحكم، وإن أقيم العباد مقام المكلفين لانتفاء التعلق بالأفعال بأن الصحة والفساد ليسا من الأحكام الشرعية؛ لأن كون المأتي به موافقا لما ورد به الشرع أو مخالفا أمر يعرف بالعقل ككون الشخص مصليا أو تاركا للصلاة، ومعنى جواز البيع صحته، ومعنى كون صلاته مندوبة أن الولي مأمور بأن يحرضه على الصلاة ويأمره بها لقوله عليه السلام: "مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع" 1 الثالث أن التعريف غير متناول للحكم الثابت بالقياس لعدم خطاب الله تعالى وأجاب بأن القياس مظهر للحكم لا مثبت ولا يخفى عليك أن السؤال وارد فيما ثبت بالسنة والإجماع أيضا والجواب أن كلا منهما كاشف عن خطاب الله ومعرف له، وهذا معنى كونها أدلة الأحكام الرابع أنه غير شامل للأحكام المتعلقة بأفعال القلب، مثل وجوب الإيمان أي التصديق ووجوب الاعتبار أي القياس؛ لأن الظاهر من الأفعال أفعال الجوارح. الخامس أنه لما أخذ في تعريف الحكم المتعلق بفعل المكلف اختص بالعمليات وخرجت النظريات بناء على اختصاص الفعل بالجوارح فيكون ذكر العملية في تعريف الفقه مكررا وأجاب عنهما بأن المراد بالفعل ما يعم القلب والجوارح وبالعمل ما يخص الجوارح فلا يخرج مثل وجوب الإيمان والاعتبار عن تعريف الحكم ولا يكون ذكر العملية مكررا لإفادته خروج ما لا يتعلق بفعل الجوارح عن تعريف الفقه ولقائل أن يقول إذا حمل الحكم في تعريف الفقه على المصطلح فذكر العملية مكرر قطعا؛ لأن مثل وجوب الإيمان خارج بقيد الشرعية على ما مر ومثل كون الإجماع حجة غير داخل في الحكم المصطلح لخروجه بقيد الاقتضاء أو التخيير لا يقال معنى كون السنة والإجماع والقياس حججا وجوب العمل بمقتضاها فيدخل في الاقتضاء الضمني؛ لأنا نقول فحينئذ لا يخرج بقيد العملية،
ـــــــ
1 رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب 026أحمد في مسنده "2/180،187"

(1/27)


بالأفعال المذكورة أفعال الجوارح ووجوب الاعتبار أي القياس حكم مع أنه ليس من أفعال الجوارح. "ويقع التكرار بين العملية وبين المتعلق بأفعال المكلفين"؛ لأنه قال في حد الفقه العلم بالأحكام الشرعية العملية والحكم خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين فيكون حد الفقه العلم بخطابات الله تعالى المتعلقة بأفعال المكلفين الشرعية العملية فيقع التكرار "إلا أن يقال نعني بالأفعال ما يعم فعل الجوارح وفعل القلب وبالعملية ما يختص بالجوارح" فاندفع بهذه العناية التكرار وخرج جواب الإشكال المتقدم، وهو قوله يخرج نحو آمنوا وفاعتبروا؛ لأنهما من أفعال القلب. "والشرعية ما لا تدرك لولا خطاب الشارع" سواء كان الخطاب واردا في عين هذا الحكم أو واردا في صورة يحتاج إليها هذا الحكم كالمسائل القياسية فتكون أحكامها شرعية إذ لولا خطاب الشارع في المقيس عليه لا يدرك الحكم في المقيس "فيدخل في حد الفقه حسن كل فعل وقبحه عند نفاة كونهما عقليين" اعلم أن عندنا وعند جمهور المعتزلة حسن بعض الأفعال وقبحها يدركان عقلا وبعضها لا بل يتوقف على
.........................................................
ويلزم أن يكون العلم به من الفقه ويمكن أن يقال إن التقييد بالعملية يقيد إخراج مثل جواز الإجماع ووجوب القياس، وهو حكم شرعي.
قوله: "والشرعية ما لا يدرك لولا خطاب الشارع" بنفس الحكم أو بأصله المقيس هو عليه فيخرج عنها وجوب الإيمان ويدخل مثل كون الإجماع أو القياس حجة على تقدير أن يكون حكما، وإنما لم يفسر الشرعية بما ورد به خطاب الشرع؛ لأن التقدير أن الحكم مفسر بخطاب الله تعالى إلى آخره وحينئذ يكون تقييده بالشرع تكرارا أو عند الأشاعرة ما ورد به خطاب الشرع في قوله ما لا يدرك لولا خطاب الشرع، إذ لا مجال للعقل في درك الأحكام فلو كان خطاب الله تعالى إلى آخره تعريفا للحكم على ما زعم المصنف لا للحكم الشرعي لكان ذكر الشرعي تكرارا ألبتة أي تفسير فسر.
قوله: "فيدخل" يريد أن تعريف الفقه على رأي الأشاعرة شامل للعلم عن دليل بحسن الجود والتواضع أي وجوبهما أو ندبهما وقبح البخل والتكبر أي حرمتهما أو كراهتهما وما أشبه ذلك؛ لأنها أحكام لا تدرك لولا خطاب الشرع على رأيهم مع أن العلم بها من علم الأخلاق لا من علم الفقه وأقول إنما يلزم ذلك لو كانت هذه الأحكام عملية بالمعنى المذكور، وهو ممنوع. كيف والأمور المذكورة أخلاق ملكات نفسانية جعل المصنف العلم بحسنها وقبحها من علم الأخلاق وقد صرح فيما سبق بأنه يزاد عملا على معرفة النفس ما لها وما عليها ليخرج علم الأخلاق وبأن معرفة ما لها وما عليها من الوجدانيات أي الأخلاق الباطنية والملكات النفسانية علم الأخلاق، ومن العمليات علم الفقه فكأنه نسي ما ذكره ثمة أو ذهل عن قيد العملية هاهنا.
قوله: "ولا يراد عليه" المصطلح بين الشافعية أن العلم بالأحكام إنما يسمى فقها إذا كان حصوله بطريق النظر والاستدلال حتى أن العلم بوجوب الصلاة والصوم ونحو ذلك مما اشتهر كونه من الدين بالضرورة بحيث يعلمه المتدين وغيره لا يعد من الفقه اصطلاحا ولهذا يذكرون قيد

(1/28)


خطاب الشارع فالأول لا يكون من الفقه، بل هو علم الأخلاق والثاني هو الفقه وحد الفقه يكون صحيحا جامعا مانعا على هذا المذهب. وأما عند الأشعري وأتباعه فحسن كل فعل وقبحه شرعي فيكونان من الفقه مع أن حسن التواضع والجود ونحوهما وقبح أضدادهما لا يعدان من الفقه المصطلح عند أحد فيدخل في حد الفقه المصطلح ما ليس منه فلا يكون هذا تعريفا صحيحا للفقه المصطلح على مذهب الأشعري. "ولا يزاد عليه" أي على حد الفقه المصطلح "التي لا يعلم كونها من الدين ضرورة لإخراج مثل الصلاة والصوم فإنهما منه وليس المراد بالأحكام بعضها وإن قل" اعلم أن هذا القيد ذكر في المحصول ليخرج مثل الصلاة والصوم وأمثالهما إذ لو لم يخرج لكان الشخص العالم بوجوبهما فقيها وليس كذلك فأقول هذا القيد ضائع؛ لأنا لا نسلم أنه لو لم يخرج لكان الشخص العالم بوجوبهما فقيها؛ لأن المراد بالأحكام ليس بعضها وإن قل فإن الشخص العالم بمائة مسألة من أدلتها سواء يعلم كونها من الدين ضرورة أو لا يعلم كالمسائل الغريبة التي في كتاب الرهن ونحوه لا يسمى فقيها فالعلم بوجوب الصلاة والصوم من الفقه مع أن العالم بذلك وحده لا يسمى فقيها كالعلم بمائة مسألة غريبة فإنه من الفقه لكن العالم بها وحدها ليس بفقيه فلا معنى لإخراجهما منه بذلك العذر الفاسد.
ثم اعلم أنه لا يراد بالأحكام الكل؛ لأن الحوادث لا تكاد تتناهى، ولا ضابط يجمع أحكامها، ولا يراد كل واحد لوجود لا أدري، ولا بعض له نسبة معينة بالكل كالنصف أو
.........................................................
الاكتساب والاستدلال فالإمام قيد في المحصول الأحكام بالتي لا يعلم كونها من الدين بالضرورة، وقال هو احتراز عن العلم بوجوب الصلاة والصوم فإنه لا يسمى فقها بمعنى أنه لا يدخل في مسمى الفقه ولا يعد منه على ما صرح به في قيد العملية لا بمعنى أنه لو لم يحترز عنه لزم أن يكون العالم بمجرد وجوبهما فقيها على ما فهمه المصنف فاعترض بمنع لزوم ذلك بناء على أن الفقيه من له الفقه والفقه ليس علما ببعض الأحكام، وإن قل حتى يكون العالم بمسألة أو مسألتين فقيها، بل العالم بمائة مسألة غريبة استدلالية وحدها لا يسمى فقيها، ثم إذا كان اصطلاحهم على أن العلم بضروريات الدين ليس من الفقه فلا بد من إخراجها عن تعريفهم الفقه فلا يكون القيد المخرج لها ضائعا ولا القول بكونها من الفقه صحيحا عندهم ولا الاصطلاح على ذلك صالحا للاعتراض عليهم.
قوله: "ثم اعلم أنه لا يراد بالأحكام" اعتراض على تعريف الفقه بأن المراد بالأحكام إما الكل أي المجموع، وإما كل واحد، وإما بعض له نسبة معينة إلى الكل كالنصف أو الأكثر كالثلثين مثلا، وإما البعض مطلقا، وإن قل والأقسام بأسرها باطلة، أما الأول فلأن الحوادث، وإن كانت متناهية في نفسها بانقضاء دار التكليف إلا أنها لكثرتها وعدم انقطاعها ما دامت الدنيا غير داخلة تحت حصر الحاصرين وضبط المجتهدين، وهو المعني بقوله لا تكاد تتناهى فلا يعلم أحكامها جزئيا فجزئيا لعدم إحاطة البشر بذلك ولا كليا تفصيليا؛ لأنه لا ضابط يجمعها لاختلاف الحوادث اختلافا لا يدخل

(1/29)


الأكثر للجهل به، ولا التهيؤ للكل إذ التهيؤ البعيد قد يوجد لغير الفقيه والقريب مجهول غير منضبط، ولا يراد أنه يكون بحيث يعلم بالاجتهاد حكم كل واحد؛ لأن العلماء المجتهدين لم يتيسر لهم علم بعض الأحكام مدة حياتهم كأبي حنيفة رحمه الله تعالى لم يدر الدهر
.........................................................
تحت الضبط فلا يكون أحد فقيها. وأما الثاني فلأن بعض من هو فقيه بالإجماع قد لا يعرف بعض الأحكام كمالك سئل عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين لا أدري. وأما الثالث فلأن الكل مجهول الكمية والجهل بكمية الكل يستلزم الجهل بكمية الكسور المضافة إليه من النصف وغيره ضرورة وبهذا يظهر أنه لا يصح أن يراد أكثر الأحكام؛ لأنه عبارة عما فوق النصف، وهو أيضا مجهول. وأما الرابع فلأنه يستلزم أن يكون العالم بمسألة أو مسألتين من الدليل فقيها وليس كذلك اصطلاحا، وهذا مذكور فيما سبق فلم يصرح به هاهنا، بل أشار إليه بلفظ: "ثم" أي بعدما لا يراد البعض، وإن قل لإيراد الكل إلى آخره وهاهنا بحث، وهو أن من الأحكام ما يصح حمله على الكل دون كل واحد كقولنا كل القوم يرفع هذا الحجر لا كل واحد منهم ومنها ما هو بالعكس كقولنا كل واحد من الناس يكفيه هذا الطعام لا كل الناس ومنها ما لا يختلف كقولنا ضربت كل القوم أو كل واحد منهم ومعرفة الأحكام من هذا القبيل، إذ معرفة جميع الأحكام معرفة كل حكم وبالعكس، وإن التزم المصنف أن معرفة جميع الأحكام أعم من معرفة كل واحد أو البعض فقط فعدم تناهي الحوادث لا ينافي ذلك والظاهر أنه قصد بالكل مجموع الأحكام الماضية والآتية وبكل واحد ما يقع ويدخل في الوجود على التفصيل ويلتفت إليه ذهن المجتهدين حيث علل عدم إرادة الأول بلا تناهي الحوادث والثاني بثبوت لا أدري ولما أجاب ابن الحاجب بأن المراد بالأحكام المجموع، ومعنى العلم بها التهيؤ لذلك رده المصنف بأن التهيؤ البعيد حاصل لغير الفقيه، والقريب غير مضبوط، إذ لا يعرف أن أي قدر من الاستعداد يقال له التهيؤ القريب ولما فسر التهيؤ بكون الشخص بحيث يعلم بالاجتهاد حكم كل واحد من الحوادث لاستجماعه المأخذ والأسباب والشرائط التي يتمكن بها من تحصيلها ويكفيه الرجوع إليها في معرفة الأحكام رده المصنف بأربعة أوجه يمكن الجواب عنها بأنا لا نسلم أن عدم تيسر معرفة بعض الأحكام لبعض الفقهاء أو الخطأ في الاجتهاد ينافي التهيؤ بالمعنى المذكور لجواز أن يكون ذلك لتعارض الأدلة أو وجود الموانع أو معارضة الوهم العقلي أو مشاكلة الحق الباطل ونحو ذلك ولا نسلم أن شيئا من الأحكام التي لم يرد بها نص ولا إجماع يكون بحيث لا مساغ فيه للاجتهاد ويدل عليه حديث معاذ رضي الله عنه حيث اعتمد الاجتهاد برأيه فيما لا يجد فيه النص ولم يقل النبي عليه السلام، فإن لم يكن محل للاجتهاد ولا نسلم أن لا دلالة للفظ العلم على التهيؤ المخصوص فإن معناه ملكة يقتدر بها على إدراك جزئيات الأحكام، وإطلاق العلم عليها شائع ذائع في العرف كقولهم في تعريف العلوم علم كذا وكذا فإن المحققين على أن المراد به هذه الملكة ويقال لها أيضا الصناعة لا نفس الإدراك وكقولهم: وجه الشبه بين العلم والحياة كونهما جهتي الإدراك.
قوله: "بل هو العلم" تعريف مخترع للفقه بحيث تنضبط معلوماته والتقييد بكل الأحكام يخرج به البعض إلا أنه يدل على أنه إذا ظهر نزول الوحي بحكم أو بحكمين فالعالم به مع الملكة المذكورة

(1/30)


وللخطأ في الاجتهاد ولأن حكم بعض الحوادث ربما يكون مما ليس للاجتهاد فيه مساغ وأيضا لا يليق في الحدود أن يذكر العلم ويراد به تهيؤ مخصوص إذ لا دلالة للفظ عليه أصلا وإذا عرفت هذا فلا بد أن يكون الفقه علما بجملة متناهية مضبوطة فلهذا قال: "بل هو العلم بكل الأحكام الشرعية العملية التي قد ظهر نزول الوحي بها والتي انعقد الإجماع عليها من أدلتها مع ملكة الاستنباط الصحيح منها" فالمعتبر أن يعلم في أي وقت كان جميع ما قد ظهر نزول الوحي به في ذلك الوقت فالصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا فقهاء في وقت نزول بعض الأحكام بعده، ثم ما لم يظهر نزول الوحي به قد لا يعلمه الفقيه والصحابة رضي الله عنهم لعربيتهم كانوا عالمين بما ذكر ولم يطلق الفقيه إلا على المستنبطين منهم وعلم المسائل الإجماعية يشترط إلا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدم الإجماع في زمنه
.........................................................
لا يسمى فقيها وإذا علم ثلاثة أحكام يسمى فقيها وقيد نزول الوحي بالظهور احترازا عما نزل به الوحي ولم يبلغ بعد فليس من شرط الفقيه معرفته.
قوله: "مع ملكة الاستنباط" أي العلم بما ذكر بشرط كونه مقرونا بملكة استنباط الفروع القياسية من تلك الأحكام أو استنباط الأحكام من أدلتها حتى إن العلم بالحكم بمجرد سماع النص للعلم باللغة من غير اقتدار على النظر والاستدلال لا يعد من الفقه والأول أوجه.
قوله: "لا المسائل القياسية" أي لا يشترط في الفقيه العلم بالمسائل القياسية؛ لأنها نتيجة الفقاهة والاجتهاد لكونها فروعا مستنبطة بالاجتهاد فيتوقف العلم بها على كون الشخص فقيها فلو توقفت الفقاهة عليها لزم الدور، فإن قيل هذا إنما يستقيم في أول القائسين. وأما من بعده فيجوز أن يشترط فيه العلم بالمسائل القياسية التي استنبطها المجتهد الأول من غير لزوم دور قلنا لا يجوز للمجتهد التقليد، بل يجب عليه أن يعرف المسائل القياسية باجتهاده فلو اشترط العلم بها لزم الدور نعم يشترط أن يعرف أقوال المجتهدين في المسائل القياسية لئلا يقع في مخالفة الإجماع، فإن قيل المسائل القياسية مما ظهر نزول الوحي بها، إذ القياس مظهر لا مثبت فيشترط للمجتهد الأخير العلم بها قلنا نزول الوحي بها إنما ظهر للمجتهد السابق لا في الواقع ولا عند المجتهد الثاني وليس له تقليد الأول فلا يشترط له معرفته ويمكن أن يراد ما ظهر نزول الوحي به لا يتوسط القياس، ثم هاهنا أبحاث الأول أن المقصود تعريف الفقه المصطلح بين القوم، وهو عندهم اسم لعلم مخصوص معين كسائر العلوم وعلى ما ذكره المصنف هو اسم لمفهوم كلي يتبدل بحسب الأيام والأعصار فيوما يكون علما بجملة من الأحكام ويوما بأكثر وأكثر وهكذا يتزايد إلى انقراض زمن النبي عليه السلام، ثم أخذ يتزايد بحسب الأعصار وانعقاد الإجماعات وأيضا ينتقص بحسب النواسخ والإجماع على خلاف أخبار الآحاد. الثاني أن التعريف لا يصدق على فقه الصحابة في زمن النبي عليه السلام لعدم الإجماع في زمانه وكأنه أراد أنه العلم بما ظهر نزول الوحي به فقط إن لم يكن إجماع وبه وبما انعقد عليه الإجماع إن كان ومثله في التعريفات بعيد. الثالث أنه يلزم أن يكون العلم بالأحكام القياسية خارجا عن الفقه، وذلك عندهم معظم مسائل الفقه اللهم إلا أن يقال إنه فقه بالنسبة إلى من أدى إليه اجتهاده، إذ قد ظهر عليه نزول الوحي به وحينئذ

(1/31)


لا المسائل القياسية للدور، بل يشرط ملكة الاستنباط الصحيح هو أن يكون مقرونا بشرائطه وما قيل: إن الفقه ظني فلم أطلق العلم عليه فجوابه أولا أنه مقطوع به فإن الجملة التي ذكرنا أنها فقه وهي ما قد ظهر نزول الوحي به وما انعقد الإجماع عليه قطعية. وثانيا: أن العلم يطلق على الظنيات كما يطلق على القطعيات كالطب ونحوه، وثالثا أن الشارع لما اعتبر غلبة الظن في الأحكام صار كأنه قال كلما غلب ظن المجتهد بالحكم يثبت الحكم فكلما وجد غلبة ظن المجتهد يكون ثبوت الحكم مقطوعا به فهذا الجواب على مذهب من يقول إن كل مجتهد مصيب يكون صحيحا، وأما عند من لا يقول به فيراد بقوله كلما غلب ظن المجتهد يثبت الحكم أنه يجب عليه العمل أو يثبت الحكم بالنظر إلى الدليل وإن لم يثبت في علم الله تعالى
.........................................................
يكون الفقه بالنسبة إلى كل مجتهد شيئا آخر. الرابع أنه إن أريد بظهور نزول الوحي لظهور في الجملة فكثير من فقهاء الصحابة لم يعرفوا كثيرا من الأحكام التي ظهر نزول الوحي بها على بعض الصحابة كما رجعوا في كثير من الوقائع إلى عائشة رضي الله تعالى عنها ولم يقدح ذلك في فقاهتهم، وإن أريد الظهور على الأعم الأغلب فهو غير مضبوط لكثرة الرواة وتفرقهم في الأسفار والأشغال ولو سلم فيلزم أن لا يكون العلم بالحكم الذي يرويه الآحاد من الفقه حتى يصير شائعا ظاهرا على الأكثر فيصير فقها وبالجملة هذا التعريف لا يخلو عن الإشكال والاختلال.
قوله: "فجوابه أولا" مشعر بأن ما أظهر القياس نزول الوحي به فهو خارج عن الفقه للقطع بأنه ظني، ثم ما ورد به النص أو الإجماع أيضا إنما يكون قطعيا إذا كان ثبوتهما أيضا قطعيا القطع بأن الأحكام الثابتة بأخبار الآحاد ظنية.
قوله: "وثالثا" هو الذي ذكر في المحصول وغيره أن الحكم مقطوع والظن في طريقه وتقريره أنه لما دل الإجماع على وجوب العمل بالظن وكثرت أخبار الآحاد في ذلك حتى صارت متواترة المعنى، وهذا معنى اعتبار الشارع غلبة الظن في الأحكام صار ذلك بمنزلة نص قطعي من الشارع على أن كل حكم يغلب على ظن المجتهد فهو ثابت في علم الله فيكون ثبوت الحكم المظنون قطعيا فيصح إطلاق العلم على إدراكه هذا على تقدير تصويب كل مجتهد، فإن قيل المظنون ما يحتمل النقيض والمعلوم ما لا يحتمله فيتنافيان قلنا يكون مظنونا فيصير معلوما بملاحظة هذا القياس، وهو أنه قد علم كونه مظنونا للمجتهد وكل ما علم كونه مظنونا للمجتهد على كونه ثابتا في نفس الأمر قطعا بناء على تصويب كل مجتهد. وأما على تقدير أن المصيب واحد فكأنه ثبت نص قطعي على أن كل حكم غلب على ظن المجتهد فهو واجب العمل أو ثابت بالنظر إلى الدليل، وإن لم يكن ثابتا في علم الله تعالى فيكون وجوب العمل به أو ثبوته بالنظر إلى الدليل قطعيا لكن يلزم على الأول أن يكون الفقه عبارة عن العلم بوجوب العمل بالأحكام وعلى الثاني أن يكون الثابت بالنظر إلى الدليل الظني، وإن لم يعلم ثبوته في الواقع قطعيا وأنت تعلم أن الثابت القطعي ما لا يحتمل عدم الثبوت في الواقع وغاية ما أمكن في هذا المقام ما ذكره بعض المحققين في شرح المنهاج، وهو أن الحكم المظنون للمجتهد يجب العمل به قطعا للدليل القاطع وكل حكم يجب العمل به قطعا

(1/32)


وأصول الفقه الكتاب والسنة والإجماع والقياس وإن كان ذا فرعا للثلاثة إذ العلة فيه مستنبطة من مواردها
ـــــــ
"وأصول الفقه الكتاب والسنة والإجماع والقياس وإن كان ذا فرعا للثلاثة" لما ذكر أن أصول الفقه ما يبتنى عليه الفقه أراد أن يبين أن ما يبتنى عليه الفقه أي شيء هو؟ فقال هو هذه الأربعة؛ فالثلاثة الأول أصول مطلقة؛ لأن كل واحد منها مثبت للحكم أما القياس فهو أصل من وجه؛ لأنه أصل بالنسبة إلى الحكم وفرع من وجه؛ لأنه فرع بالنسبة إلى الثلاثة الأول "إذ العلة" فيه مستنبطة من مواردها فيكون الحكم الثابت بالقياس ثابتا بتلك الأدلة وأيضا هو ليس بمثبت، بل هو مظهر. أما نظير القياس المستنبط من الكتاب فكقياس حرمة اللوطة على حرمة الوطء في حالة الحيض الثابتة بقوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222] والعلة هي الأذى وأما المستنبط من السنة فكقياس حرمة قفيز من الجص بقفيزين على حرمة قفيز من الحنطة بقفيزين الثابتة بقوله عليه السلام: "الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا" وأما المستنبط من الإجماع فأوردوا لنظيره قياس الوطء الحرام على الحلال في حرمة المصاهرة يعني قياس حرمة وطء أم المزنية على
.........................................................
علم قطعا أنه حكم لله تعالى وإلا لم يجب العمل به وكل ما علم قطعا أنه حكم الله تعالى فهو معلوم قطعا فكل ما يجب العمل به معلوم قطعا فالحكم المظنون للمجتهد معلوم قطعا فالفقه علم قطعي والظن وسيلة إليه وحله أنا لا نسلم أن كل حكم يجب العمل به قطعا علم قطعا أنه حكم الله تعالى لم لا يجوز أن يجب العمل قطعا بمن يظن أنه حكم الله فقوله وإلا لم يجب العمل به عين النزاع، وإن بنى ذلك على أن كل ما هو مظنون المجتهد فهو حكم الله تعالى قطعا كما هو رأي البعض يكون ذكر وجوب العمل ضائعا لا معنى له أصلا.
قوله: "وأصول الفقه" ما سبق كان بيان مفهوم أصول الفقه، وهذا بيان ما صدق عليه هذا المفهوم من الأنواع المنحصرة بحكم الاستقراء في الأربعة ووجه ضبطه أن الدليل الشرعي إما وحي أو غيره والوحي إن كان متلوا فالكتاب وإلا فالسنة وغير الوحي إن كان قول كل الأمة في عصر فالإجماع وإلا فالقياس أو أن الدليل إما أن يصل من الرسول عليه السلام أو لا والأول إن تعلق بنظمه الإعجاز فالكتاب وإلا فالسنة والثاني إن اشترط عصمة من صدر عنه فالإجماع وإلا فالقياس. وأما شرائع من قبلنا والتعامل وقول الصحابي ونحو ذلك فراجعة إلى الأربعة وكذا المعقول نوع استدلال بأحدها وإلا فلا دخل للرأي في إثبات الأحكام وما جعله بعضهم نوعا خامسا من الأدلة وسماه الاستدلال فحاصله يرجع إلى التمسك بمعقول النص أو الإجماع صرح بذلك في الأحكام، ثم الثلاثة الأول أصول مطلقة لكونها أدلة مستقلة مثبتة للأحكام والقياس أصل من وجه لاستناد الحكم إليه ظاهرا دون وجه لكونه فرعا للثلاثة لابتنائه على علة مستنبطة من موارد الكتاب والسنة والإجماع فالحكم بالتحقيق مستند إليها وأثر القياس في إظهار الحكم وتغيير وصفه من الخصوص إلى العموم ومن هنا يقال أصول الفقه ثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع،

(1/33)


تعريف علم أصول الفقه
...
وعلم أصول الفقه:
العلم بالقواعد التي يتوصل بها إليه على وجه التحقيق فيبحث فيه عن أحوال الأدلة المذكورة وما يتعلق بها ويلحق به البحث عما يثبت بهذه الأدلة، وهو الحكم وعما يتعلق به فنضع الكتاب على قسمين القسم الأول في الأدلة الشرعية وهي على أربعة أركان.
ـــــــ
حرمة وطء أم أمته التي وطئها والحرمة في المقيس عليه ثابتة إجماعا، ولا نص فيه، بل النص ورد في أمهات النساء من غير اشتراط الوطء. ولما عرف أصول الفقه باعتبار الإضافة فالآن يعرفه باعتبار أنه لقب لعلم مخصوص فيقول. "وعلم أصول الفقه العلم بالقواعد التي يتوصل بها إليه على وجه التحقيق" أي العلم بالقضايا الكلية التي يتوصل بها إلى الفقه توصلا قريبا
.........................................................
والأصل الرابع القياس المستنبط من هذه الأصول الثلاثة واعترض بوجوه الأول أنه لا معنى للأصل المطلق إلا ما يبتنى عليه غيره سواء كان فرعا لشيء آخر أو لم يكن ولهذا صح إطلاقه على الأب، وإن كان فرعا الثاني أن السبب القريب للشيء مع أنه مسبب عن البعيد أولى بإطلاق اسم السبب عليه من البعيد، وإن لم يكن مسببا عن شيء آخر. الثالث أن أولوية بعض الأقسام في معنى المقسم لازمة في كل قسمة فيلزم أن بفرد القسم الضعيف فيقال مثلا الكلمة قسمان اسم وفعل والقسم الثالث هو الحرف الرابع أن تغيير الحكم من الخصوص إلى العموم لا يمكن إلا بتقديره في صورة أخرى، وهو معنى الأصالة المطلقة. الخامس أن الإجماع أيضا يفتقر إلى السند فينبغي أن لا يكون أصلا مطلقا.
والجواب عن الأول؛ إنا لا ندعي أن لعدم الفرعية دخلا في مفهوم الأصل، بل إن الأصل مقول بالتشكيك وإن الأصل الذي يستقل في معنى الأصالة وابتناء الفرع عليه كالكتاب مثلا أقوى من الأصل الذي يبتنى في ذلك المعنى على شيء آخر بحيث يكون فرعه في الحقيقة مبتنيا على ذلك الشيء كالقياس والأضعف غير داخل في الأصل المطلق بمعنى الكامل في الأصالة، وهذا بين. وأما الأب فإنما يبتنى على أبيه في الوجود لا في الأبوة، والأصالة للولد فلا يكون مما ذكرنا في شيء وعن الثاني أن السبب القريب هو المؤثر في فرعه والمفضي إليه وأثر البعيد إنما هو في الواسطة التي هي السبب القريب لا في فرعه فبالضرورة يكون أولى وأقوى من البعيد في معنى السببية والأصالة لذلك الفرع، وفيما نحن فيه القياس ليس بمثبت لحكم الفرع فضلا عن أن يكون قريبا ليكون أولى بالأصالة، بل هو مظهر لاستناد حكم الفرع إلى النص أو الإجماع وعن الثالث أنا لا نسلم لزوم أولوية بعض الأقسام في كل تقسيم وكيف يتصور ذلك في تقسيم الماهيات الحقيقية إلى أنواعها وأفرادها كتقسيم الحيوان إلى الإنسان وغيره ولو سلم لزوم ذلك في كل قسمة فلا نسلم لزوم الإشارة إلى ذلك والتنبيه عليه غاية ما في الباب أنه يجوز عن الرابع أنه إن أريد بالتقدير التقرير بحسب الواقع حتى يكون القياس هو الذي يقرر الحكم ويثبته في صورة الفرع فلا نسلم امتناع التغيير بدونه، وإن أريد التقرير بحسب علمنا فهو لا يقتضي إسناد الحكم حقيقة إلى القياس ليكون أصلا له كاملا وعن الخامس بعد تسليم ما ذكر أن الإجماع إنما يحتاج إلى السند في تحققه لا في نفس الدلالة على الحكم فإن المستدل به لا يفتقر إلى ملاحظة السند والالتفات إليه بخلاف القياس

(1/34)


وإنما قلنا توصلا قريبا احترازا عن المبادئ كالعربية والكلام وإنما قلنا على وجه التحقيق احترازا عن علم الخلاف والجدل فإنه وإن اشتمل على القواعد الموصلة إلى مسائل الفقه لكن لا على وجه التحقيق، بل الغرض منه إلزام الخصم وذلك كقواعدهم المذكورة في الإشارة والمقدمة ونحوهما لتبتنى عليها النكت الخلافية "ونعني بالقضايا الكلية المذكورة ما يكون إحدى مقدمتي الدليل على مسائل الفقه" أي إذا استدللت على حكم مسائل الفقه بالشكل الأول فكبرى الشكل الأول هي تلك القضايا الكلية كقولنا هذا الحكم ثابت؛ لأنه حكم يدل على ثبوته القياس وكل حكم يدل على ثبوته القياس فهو ثابت وإذا استدللت على مسائل الفقه بالملازمات الكلية مع وجود الملزوم فالملازمات الكلية هي تلك القضايا كقولنا هذا الحكم ثابت؛ لأنه كلما دل القياس على ثبوت هذا الحكم يكون هذا الحكم ثابتا لكن القياس دل على ثبوت هذا الحكم فيكون ثابتا.
واعلم أنه يمكن أن لا يكون هذه القضية الكلية بعينها مذكورة في مسائل أصول الفقه
.........................................................
فإن الاستدلال به لا يمكن بدون اعتبار أحد الأصول الثلاثة والعلة المستنبطة منها وقد يجاب بأن الإجماع يثبت أمرا زائدا على ما يثبته السند، وهو قطعية الحكم بخلاف القياس فإنه لا يفيد زيادة، بل ربما يورثه نقصانا بأن يكون حكم الأصل قطعيا وحكمه ظني.
قوله: "وعلى الفقه" بعد ما تقرر أن أصول الفقه لقب للعلم المخصوص لا حاجة إلى إضافة العلم إليه إلا أن يقصد زيادة بيان وتوضيح كشجر الأراك والقاعدة حكم كلي ينطبق على جزئياته ليتعرف أحكامها منه كقولنا كل حكم دل عليه القياس فهو ثابت والتوصل القريب مستفاد من الباء السببية الظاهرة في السبب القريب ومن إطلاق التوصل إلى الفقه، إذ في البعيد يتوصل إلى الواسطة ومنها إلى الفقه فيخرج العلم بقواعد العربية والكلام؛ لأنها من مبادئ أصول الفقه والتوصل بهما إلى الفقه ليس بقريب، إذ يتوصل بقواعد العربية إلى معرفة كيفية دلالة الألفاظ على مدلولاتها الوضعية وبواسطة ذلك يقتدر على استنباط الأحكام من الكتاب والسنة وكذلك يتوصل بقواعد الكلام إلى ثبوت الكتاب والسنة ووجوب صدقهما ليتوصل بذلك إلى الفقه والتحقيق في هذا المقام أن الإنسان لم يخلق عبثا ولم يترك سدى، بل تعلق بكل من أعمال حكم من قبل الشارع منوط بدليل يخصه ليستنبط منه عند الحاجة ويقاس على ذلك الحكم ما يناسبه لتعذر الإحاطة بجميع الجزئيات فحصلت قضايا موضوعاتها أفعال المكلفين ومحمولاتها أحكام الشارع على التفصيل فسمي العلم بها الحاصل من تلك الأدلة فقها، ثم نظروا في تفاصيل تلك الأدلة والأحكام وعمومها فوجدوا الأدلة راجعة إلى الكتاب والسنة والإجماع والقياس والأحكام راجعة إلى الوجوب والندب والحرمة والكراهة والإباحة وتأملوا في كيفية الاستدلال بتلك الأدلة على تلك الأحكام إجمالا من غير نظر إلى تفاصيلهما إلا على طريق المثال فحصل لهم قضايا كلية متعلقة بكيفية الاستدلال بتلك الأدلة على تلك الأحكام إجمالا وبيان طرقه وشرائطه ليتوصل بكل من تلك القضايا إلى استنباط كثير من تلك الأحكام الجزئية عن أدلتها التفصيلية فضبطوها ودونوها وأضافوا إليها من اللواحق والمتممات وبيان الاختلافات ما يليق بها وسموا العلم بها أصول الفقه فصارت عبارة عن العلم

(1/35)


لكن تكون مندرجة في قضية كلية هي مذكورة في مسائل أصول الفقه كقولنا كلما دل القياس على الوجوب في صورة النزاع يثبت الوجوب فيها فإن هذه الملازمة مندرجة تحت هذه الملازمة وهي كلما دل القياس على ثبوت كل حكم هذا شأنه يثبت هذا الحكم والوجوب من جزئيات ذلك الحكم فكأنه قيل كلما دل القياس على الوجوب يثبت
.........................................................
بالقواعد التي يتوصل بها إلى الفقه ولفظ القواعد مشعر بقيد الإجمال وزاد المصنف قيد التحقيق احترازا عن علم الخلاف ولقائل أن يمنع كون قواعده مما يتوصل به إلى الفقه توصلا قريبا، بل إنما يتوصل بها إلى محافظة الحكم المستنبط أو مدافعته ونسبته إلى الفقه وغيره على السوية فإن الجدلي إما مجيب يحفظ وضعا، وإما معترض يهدم وضعا إلا أن الفقهاء أكثروا فيه من مسائل الفقه وبنوا نكاته عليها حتى توهم أن له اختصاصا بالفقه.
قوله: "ونعني بالقضايا الكلية" اعلم أن المركب التام المحتمل للصدق والكذب يسمى من حيث اشتماله على الحكم قضية ومن حيث احتماله الصدق والكذب خبرا ومن حيث إفادته الحكم إخبارا ومن حيث كونه جزءا من الدليل مقدمة ومن حيث إنه يطلب بالدليل مطلوبا ومن حيث يحصل من الدليل نتيجة ومن حيث يقع في العلم ويسأل عنه مسألة فالذات واحدة واختلاف العبارات باختلاف الاعتبارات والمحكوم عليه في القضية يسمى موضوعا والمحكوم به محمولا وموضوع المطلوب يسمى أصغر ومحموله أكبر والدليل يتألف لا محالة من مقدمتين تشتمل إحداهما على الأصغر وتسمى الصغرى والأخرى على الأكبر وتسمى الكبرى وكلتاهما مشتمل على أمر متكرر فيهما يسمى الأوسط، والأوسط إما محمول في الصغرى موضوع في الكبرى ويسمى الدليل بهذا الاعتبار الشكل الأول أو بالعكس ويسمى الشكل الرابع أو محمول فيهما ويسمى الشكل الثاني أو موضوع فيهما ويسمى الشكل الثالث مثلا إذا قلنا الحج واجب؛ لأنه مأمور الشارع وكل ما هو مأمور الشارع فهو واجب فالحج الأصغر والواجب الأكبر والمأمور الأوسط وقولنا الحج مأمور الشارع هي الصغرى وقولنا وكل ما هو مأمور الشارع فهو واجب هي الكبرى والدليل المذكور من الشكل الأول فالقواعد التي يتوصل بها إلى الفقه هي القضايا الكلية التي تقع كبرى لصغرى سهلة الحصول عند الاستدلال على مسائل الفقه بالشكل الأول كما في المثال المذكور وضم القواعد الكلية إلى الصغرى السهلة الحصول ليخرج المطلوب الفقهي من القوة إلى الفعل هو معنى التوصل بها إلى الفقه لكن تحصيل القاعدة الكلية يتوقف على البحث عن أحوال الأدلة والأحكام وبيان شرائطهما وقيودهما المعتبرة في كلية القاعدة فالمباحث المتعلقة بذلك هي مطالب أصول الفقه وتندرج كلها تحت العلم بالقاعدة على ما شرحه المصنف بما لا مزيد عليه.
قوله: "ويكون القياس قد أدى إليه رأي مجتهد" يعني يشترط ذلك فيما سبق فيه اجتهاد الآراء ليحترز به عن مخالفة الإجماع أما إذا لم يسبق في المسألة اجتهاد أو سبق اجتهاد مجتهد واحد فقط فلا خفاء في جواز الاجتهاد على خلافه.
قوله: "ولا يبعد أن يقال" الظاهر إنه بعيد لم يذهب إليه أحد والمتعرضون لمباحث التقليد في كتبهم مصرحون بأن البحث عنه إنما وقع من جهة كونه في مقابلة الاجتهاد لا من جهة أنه من أصول الفقه.

(1/36)


الوجوب وكلما دل القياس على الجواز يثبت الجوار فالملازمة التي هي إحدى مقدمتي الدليل تكون من مسائل أصول الفقه بطريق التضمن، ثم اعلم أن كل دليل من الأدلة الشرعية إنما يثبت به الحكم إذا كان مشتملا على شرائط تذكر في موضعها، ولا يكون الدليل منسوخا، ولا يكون له معارض مساو أو راجح. ويكون القياس قد أدى إليه رأي مجتهد حتى لو خالف إجماع المجتهدين يكون باطلا فالقضية المذكورة سواء جعلناها كبرى أو ملازمة إنما تصدق كلية إذا اشتملت على هذه القيود فالعلم بالمباحث المتعلقة بهذه القيود يكون علما
.........................................................
قوله: "ولا يقال إلى الفقه"؛ لأن المقلد يتوصل بقواعده إلى مسائل الفقه لا إلى الفقه الذي هو العلم بالأحكام عن أدلتها الأربعة؛ لأن علمه بها ليس عن أدلتها الأربعة.
قوله: "يبحث في هذا العلم عن الأدلة الشرعية والأحكام" يعني عن أحوالهما عن حذف المضاف، إذ لا يبحث في العلم عن نفس الموضوع، بل عن أحواله وعوارضه إلا أن حذف هذا المضاف شائع في عبارة القوم.
قوله: "فموضوع هذا العلم" المراد بموضوع العلم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية والمراد بالعرض هاهنا المحمول على الشيء الخارج عنه وبالعرض الذاتي ما يكون منشؤه الذات بأن يلحق الشيء لذاته كالإدراك للإنسان أو بواسطة أمر يساويه كالضحك للإنسان بواسطة تعجبه أو بواسطة أمر أعم منه داخل فيه كالتحرك للإنسان بواسطة كونه حيوانا والمراد بالبحث عن الأعراض الذاتية حملها على موضوع العلم كقولنا الكتاب يثبت الحكم قطعا أو على أنواعه كقولنا الأمر يفيد الوجوب أو على أعراضه الذاتية كقولنا العام يفيد القطع أو على أنواع أعراضه الذاتية كقولنا العام الذي خص منه البعض يفيد الظن وجميع مباحث أصول الفقه راجعة إلى إثبات الأعراض الذاتية للأدلة والأحكام من حيث إثبات الأدلة للأحكام وثبوت أحكام بالأدلة بمعنى أن جميع محمولات مسائل هذا الفن هو الإثبات والثبوت وما له نفع ودخل في ذلك فيكون موضوعه الأدلة الأحكام من حيث إثبات الأدلة للأحكام وثبوت الأحكام بالأدلة، فإن قلت فما بالهم يجعلون من مسائل الأصول إثبات الإجماع والقياس للأحكام ويجعلون منها إثبات الكتاب والسنة لذلك قلت؛ لأن المقصود بالنظر في الفن هي الكسبيات المفقرة إلى الدليل وكون الكتاب والسنة حجة بمنزلة البديهي في نظر الأصول لتقرره في الكلام وشهرته بين الأنام بخلاف الإجماع والقياس ولهذا تعرضوا لما ليس إثباته للحكم بينا كالقراءة الشاذة وخبر الواحد.
قوله: "وأما الثالث" يعني العوارض الذاتية التي لا تكون مبحوثا عنها في هذا العلم ولا دخل لها في لحوق ما هي مبحوث عنها من القسمين يعني قسمي العوارض التي للأدلة والعوارض التي للأحكام، وذلك كالإمكان والقدم والحدوث والبساطة والتركيب وكون الدليل جملة اسمية أو فعلية ثلاثية مفرداته أو رباعية معربة أو مبنية إلى غير ذلك مما لا دخل له في الإثبات والثبوت فلا يبحث عنها في الأصول، وهذا كما أن النجار ينظر في الخشب من جهة صلابته ورخاوته ورقته وغلظه واعوجاجه واستقامته ونحو ذلك مما يتعلق بصناعته لا من جهة إمكانه وحدوثه وتركبه وبساطته ونحو ذلك.

(1/37)


بالقضية الكلية التي هي إحدى مقدمتي الدليل على مسائل الفقه فتكون تلك المباحث من مسائل أصول الفقه وقولنا يتوصل بها إليه. الظاهر أن هذا يختص بالمجتهد فإن المبحوث عنه في هذا العلم قواعد يتوصل المجتهد بها إلى الفقه فإن المتوصل إلى الفقه ليس إلا المجتهد فإن الفقه هو العلم بالأحكام من الأدلة التي ليس دليل المقلد منها فلهذا لم تذكر
.........................................................
قوله: "أن يذكر مباحث الحكم بعد مباحث الأدلة"؛ لأن الدليل مقدم بالذات والبحث عنه أهم في فن الأصول.
قوله: "كما أن موضوع المنطق التصورات والتصديقات"؛ لأنه يبحث عن أحوال التصور من حيث إنه حد أو رسم فيوصل إلى تصور ومن حيث إنه جنس أو فصل أو خاصة فيركب منها حد أو رسم وعن أحوال التصديق من حيث إنه حجة توصل إلى تصديق ومن حيث إنه قضية أو عكس قضية أو نقيض فيؤلف منها حجة وبالجملة جميع مباحثه راجعة إلى الإيصال وما له دخل في الإيصال وقد يقع البحث عن أحوال التصور الموصل إليه بأنه إن كان بسيطا لا يحد، وإن كان مركبا من الجنس والفصل يحد، وإن كان له خاصة لازمة بينة يرسم وإلا فلا ويمكن أن يجعل ذلك راجعا إلى البحث عن أحوال التصور من حيث إنه الموصل بأن يقال: معناه أن الحد يوصل إلى المركب دون البسيط فيكون من المسائل.
قوله: "لكن الصحيح" ذهب صاحب الأحكام إلى أن موضوع أصول الفقه هو الأدلة الأربعة ولا يبحث فيه عن أحوال الأحكام، بل إنما يحتاج إلى تصورها ليتمكن من إثباتها ونفيها لكن الصحيح أن موضوعه الأدلة والأحكام؛ لأنا رجعنا الأدلة بالتعميم إلى الأربعة والأحكام إلى الخمسة ونظرنا في المباحث المتعلقة بكيفية إثبات الأدلة للأحكام إجمالا فوجدنا بعضها راجعة إلى أحوال الأدلة وبعضها إلى أحوال الأحكام كما ذكره المصنف في تحصيل القضية الكلية التي يتوصل بها إلى الفقه فجعل أحدهما من المقاصد والآخر من اللواحق تحكم غاية ما في الباب أن مباحث الأدلة أكثر وأهم لكنه لا يقتضي الأصالة والاستقلال.
قوله: "فإن أريد بالحكم" هذا كلام لا حاصل له؛ لأن الأدلة الشرعية معرفات وأمارات ولو سلم أنها أدلة حقيقية فلا معنى للدليل إلا ما يفيد العلم بثبوت الشيء أو انتفائه، غاية ما في الباب أن العلم يؤخذ بمعنى الإدراك الجازم أو الراجح ليعم القطعي والظني فيصح في جميع الأدلة، وهذا لا يتفاوت بقدم الحكم وحدوثه وقد اضطر إلى ذلك آخر الأمر وليس معنى الدليل ما يفيد نفس الثبوت كما هو شأن العلل الخارجية، وإن جعلنا الحكم حادثا على ما يشعر به كلامه.
قوله: "واعلم إلخ" هذه ثلاثة مباحث في الموضوع أوردها مخالفا لجمهور المحققين يتعجب منها الناظر فيها الواقف على كلام القوم في هذا المقام الأول أن إطلاق القول بجواز تعدد الموضوع، وإن كان فوق الاثنين غير صحيح بل التحقيق أن المبحوث عنه في العلم إما أن يكون إضافة بين الشيئين أو لا وعلى الأول إما أن تكون العوارض التي لها دخل في المبحوث عنه بعضها ناشئا عن أحد المضافين وبعضها ناشئا عن المضاف الآخر أو لا، فإن كان كذلك فموضوع العلم كلا

(1/38)


مباحث التقليد والاستفتاء في كتبنا ولا يبعد أن يقال إنه يعم المجتهد والمقلد والأدلة الأربعة إنما يتوصل بها المجتهد لا المقلد فأما المقلد فالدليل عنده قول المجتهد فالمقلد يقول هذا الحكم واقع عندي؛ لأنه أدى إليه رأي أبي حنيفة رحمه الله وكل ما أدى إليه رأيه فهو واقع عندي فالقضية الثانية من أصول الفقه أيضا فلهذا ذكر بعض العلماء في كتب الأصول مباحث التقليد والاستفتاء
.........................................................
المضافين كما وقع البحث في الأصول عن إثبات الأدلة للأحكام والأحوال التي لها دخل في ذلك بعضها ناشئ عن الدليل كالعموم والاشتراك والتواتر وبعضها عن الحكم ككونه عبادة أو عقوبة فموضوعه الأدلة والأحكام جميعا. وأما إذا لم يكن المبحوث عنه إضافة كما في الفقه الباحث عن وجوب فعل المكلف وحرمته وغير ذلك أو كان إضافة لكن لا دخل للأحوال الناشئة عن أحد المضافين في المبحوث عنه كما في المنطق الباحث عن إيصال تصور أو تصديق إلى تصور أو تصديق ولا دخل لأحوال التصور والتصديق الموصل إليه في ذلك على ما قرره المصنف فيما سبق فالموضوع لا يكون إلا واحدا؛ لأن اختلاف الموضوع يوجب اختلاف المسائل الموجب لاختلاف العلم ضرورة أن العلم إنما يختلف باختلاف المعلومات وهي المسائل، وفيه نظر؛ لأنه إن أريد باختلاف المسائل مجرد تكثرها فلا نسلم أنه يوجب اختلاف العلم وظاهر أن مسائل العلم الواحد كثيرة ألبتة، وإن أريد عدم تناسبها فلا نسلم أن مجرد تكثر الموضوعات يوجب ذلك، وإنما يلزم ذلك لو لم تكن الموضوعات الكثيرة متناسبة والقوم صرحوا بأن الأشياء الكثيرة إنما تكون موضوعا لعلم واحد بشرط تناسبها ووجه التناسب اشتراكها في دان كالخط والسطح والجسم التعليمي للهندسة فإنها تتشارك في جنسها، وهو المقدار أعني الكم المتصل القار الذات أو في عرضي كبدن الإنسان وأجزائه والأغذية والأدوية والأركان والأمزجة وغير ذلك إذا جعلت موضوعات الطب فإنها تتشارك في كونها منسوبة إلى الصحة التي هي الغاية في ذلك العلم فعلم أنهم لم يهملوا رعاية معنى يوجب الوحدة وأن ليس لأحد أن يصطلح على أن الفقه والهندسة علم واحد موضوعه فعل المكلف والمقدار أنه فيما أورد من المثالين مناقض نفسه؛ لأن موضوع الأصول ثم أشياء كثيرة، إذ محمولات مسائله ليست أعراضا ذاتية لمفهوم الدليل، بل للكتاب والسنة والإجماع والقياس على الانفراد أو التشارك بين اثنين أو أكثر، وكذا التصور والتصديق في المنطق.
قوله: "ومنها أنه قد يذكر الحيثية" المبحث الثاني في تحقيق الحيثية المذكورة في الموضوع حيث يقال موضوع هذا العلم هو ذلك الشيء من حيث كذا ولفظ حيث موضوع للمكان استعير لجهة الشيء واعتباره يقال الموجود من حيث إنه موجود أي من هذه الجهة وبهذا الاعتبار فالحيثية المذكورة في الموضوع قد لا تكون من الأعراض المبحوث عنها في العلم كقولهم موضوع العلم الإلهي الباحث عن أحوال الموجودات المجردة هو الموجود من حيث إنه موجود بمعنى أنه يبحث عن العوارض التي تلحق الموجود من حيث إنه موجود لا من حيث إنه جوهر أو عرض أو جسم أو مجرد، وذلك كالعلية والمعلولية والوجوب والإمكان والقدم والحدوث ونحو ذلك ولا يبحث فيه عن حيثية الوجود، إذ لا معنى لإثباتها للموجود وقد تكون من الأعراض المبحوث عنها

(1/39)


فعلى هذا علم أصول الفقه هو العلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى مسائل الفقه، ولا يقال إلى الفقه؛ لأن الفقه هو العلم بالأحكام من الأدلة وقولنا على وجه التحقيق لا ينافي هذا المعنى فإن تحقيق المقلد أن يقلد مجتهدا يعتقد ذلك المقلد حقيقة رأي ذلك المجتهد هذا الذي ذكرنا إنما هو بالنظر إلى الدليل وأما بالنظر إلى المدلول فإن القضية
.........................................................
في العلم كقولهم: موضوع علم الطب بدن الإنسان من حيث يصح ويمرض وموضوع العلم الطبيعي الجسم من حيث يتحرك ويسكن والصحة والمرض من الأعراض المبحوث عنها في الطب وكذا الحركة والسكون في الطبيعي فذهب المصنف إلى أن الحيثية في القسم الأول جزء من الموضوع، وفي الثاني بيان للأعراض الذاتية المبحوث عنها في العلم، إذ لو كانت جزءا من الموضوع كما في القسم الأول لما صح أن يبحث عنها في العلم وتجعل من محمولات مسائله، إذ لا يبحث في العلم عن أجزاء الموضوع، بل عن أعراضه الذاتية ولقائل أن يقول لا نسلم أنها في الأول جزء من الموضوع، بل قيد لموضوعيته بمعنى أن البحث يكون عن الأعراض التي تلحقه من تلك الحيثية وبذلك الاعتبار وعلى هذا لو جعلنا الحيثية في القسم الثاني أيضا قيدا للموضوع على ما هو ظاهر كلام القوم لا بيانا للأعراض الذاتية على ما ذهب إليه المصنف لم يكن البحث عنها في العلم بحثا عن أجزاء الموضوع ولم يلزمنا ما لزم المصنف من تشارك العلمين في موضوع واحد بالذات والاعتبار نعم يرد الإشكال المشهور، وهو أنه يجب أن لا تكون الحيثية من الأعراض المبحوث عنها في العلم ضرورة أنها ليست مما تعرض للموضوع من جهة نفسها وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه ضرورة أن ما به يعرض الشيء للشيء لا بد وأن يتقدم على العارض مثلا ليست الصحة والمرض مما يعرض لبدن الإنسان من حيث يصح ويمرض ولا الحركة والسكون مما يعرض للجسم من حيث يتحرك ويسكن، والمشهور في جوابه أن المراد من حيث إمكان الصحة والمرض والحركة والسكون والاستعداد لذلك، وهذا ليس من الأعراض والمبحوث عنها في العلم والتحقيق أن الموضوع لما كان عبارة عن المبحوث في العلم عن أعراضه الذاتية قيد بالحيثية على معنى أن البحث عن العوارض يكون باعتبار الحيثية وبالنظر إليها أي يلاحظ في جميع المباحث هذا المعنى الكلي لا على معنى أن جميع العوارض المبحوث عنها يكون لحوقها للموضوع بواسطة هذه الحيثية البتة.
قوله: "ومنها أن المشهور" المبحث الثالث في جواز تشارك العلوم المختلفة في موضوع واحد بالذات والاعتبار وكما خالف القوم في جواز تعدد الموضوع لعلم واحد كذلك خالفهم في امتناع اتحاد الموضوع لعلوم متعددة وادعى جوازه، بل وقوعه أما الجواز فلأنه يصح أن يكون لشيء واحد أعراض ذاتية متنوعة أي مختلفة بالنوع يبحث في علم عن بعض أنواعها، وفي علم آخر عن بعض آخر فيتمايز العلمان بالأعراض المبحوث عنها، وإن اتحد الموضوع، وذلك؛ لأن اتحاد العلم واختلافه إنما هو بحسب المعلومات أعني المسائل وكما تتحد المسائل باتحاد موضوعاتها بأن يرجع الجميع إلى موضوع العلم وتختلف باختلافها كذلك تتحد باتحاد محمولاتها بأن يرجع الجميع إلى نوع من الأعراض الذاتية للموضوع وتختلف باختلافها فكما اعتبر اختلاف العموم باختلاف الموضوعات يجوز أن يعتبر باختلاف المحمولات بأن يؤخذ موضوع واحد بالذات والاعتبار ويجعل البحث عن

(1/40)


المذكورة إنما يمكن إثباتها كلية إذا عرف أنواع الحكم وأن أي نوع من الأحكام يثبت بأي نوع من الأدلة بخصوصية ناشئة من الحكم ككون هذا الشيء علة لذلك فإن هذا الحكم لا يمكن إثباته بالقياس، ثم المباحث المتعلقة بالمحكوم به، وهو فعل المكلف ككونه عبادة أو عقوبة ونحو ذلك مما يندرج في كليلة تلك القضية فإن الأحكام تختلف باختلاف أفعال المكلفين فإن العقوبات لا يمكن إثباتها بالقياس، ثم المباحث المتعلقة بالمحكوم عليه، وهو المكلف ومعرفة الأهلية والعوارض التي تعرض على الأهلية سماوية ومكتسبة مندرجة تحت تلك القضية الكلية أيضا لاختلاف الأحكام باختلاف المحكوم عليه بالنظر إلى وجود العوارض وعدمها فيكون تركيب الدليل على إثبات مسائل الفقه بالشكل الأول هكذا هذا الحكم ثابت؛ لأنه حكم هذا شأنه متعلق بفعل هذا شأنه، وهذا الفعل صادر من مكلف هذا شأنه ولم توجد العوارض المانعة من ثبوت هذا الحكم ويدل على ثبوت هذا الحكم قياس هذا شأنه.
هذا هو الصغرى، ثم الكبرى قولنا وكل حكم موصوف بالصفات المذكورة يدل على ثبوته القياس الموصوف فهو ثابت فهذه القضية الأخيرة من مسائل أصول الفقه وبطريق الملازمة هكذا كلما وجد قياس موصوف بهذه الصفات دال على حكم موصوف بهذه الصفات يثبت ذلك الحكم لكنه وجد القياس الموصوف إلخ فعلم أن جميع المباحث المتقدمة مندرجة تحت تلك القضية الكلية المذكورة التي هي إحدى مقدمتي الدليل على مسائل الفقه، فهذا هو معنى التوصل القريب المذكور وإذا علم أن جميع مسائل الأصول راجعة إلى قولنا كل حكم كذا يدل على ثبوته دليل كذا فهو ثابت أو كلما وجد دليل كذا دال على حكم كذا يثبت ذلك الحكم على أنه يبحث في هذا العلم عن الأدلة الشرعية لأحكام الكليتين من حيث إن الأولى مثبتة للثانية والثانية ثابتة بالأولى والمباحث التي ترجع إلى أن الأولى مثبتة للثانية والثانية ثابتة بالأولى بعضها ناشئة عن الأدلة وبعضها ناشئة عن الأحكام فموضوع هذا العلم الأدلة الشرعية والأحكام إذ يبحث فيه عن العوارض الذاتية للأدلة الشرعية وهي إثباتها الحكم وعن العوارض الذاتية للأحكام وهي ثبوتها بتلك الأدلة. "فيبحث فيه عن أحوال الأدلة المذكورة وما يتعلق بها" الفاء في قوله فيبحث متعلق بحد هذا العلم أي إذا كان حد أصول الفقه هذا يجب أن يبحث فيه عن أحوال الأدلة والأحكام ومتعلقاتهم والمراد بالأحوال العوارض الذاتية وما يتعلق بها عطف على الأدلة والضمير في قوله بها يرجع إلى الأدلة وما يتعلق بها هو الأدلة المختلف فيها كاستصحاب الحال والاستحسان وأدلة المقلد والمستفتي وأيضا ما يتعلق بالأدلة الأربعة مما له مدخل في
.........................................................
بعض أعراضه الذاتية علما وعن البعض الآخر علما آخر فيكونان علمين متشاركين في الموضوع متمايزين في المحمول. وأما الوقوع فلأنهم جعلوا أجسام العالم وهي البسائط موضوع علم الهيئة من حيث الشكل وموضوع علم السماء والعالم من حيث الطبيعية والحيثية فيهما بيان الأعراض

(1/41)


كونها مثبتة للحكم كالبحث عن الاجتهاد ونحوه. واعلم أن العوارض الذاتية للأدلة ثلاثة أقسام منها العوارض الذاتية المبحوث عنها وهي كونها مثبتة للأحكام ومنها ما ليست بمبحوث عنها لكن لها مدخل في لحوق ما هي مبحوث عنها ككونها عامة أو مشتركة أو خبر واحد وأمثال ذلك ومنها ما ليس كذلك ككونه ثلاثيا أو رباعيا قديما أو حادثا أو غيرها فالقسم الأول يقع محمولات في القضايا التي هي مسائل هذا العلم والقسم الثاني يقع أوصافا وقيودا لموضوع تلك القضايا كقولنا الخبر الذي يرويه واحد يوجب غلبة الظن بالحكم، وقد يقع موضوعا لتلك القضايا كقولنا العام يوجب الحكم قطعا، وقد يقع محمولا فيها، نحو النكرة في موضوع النفي عامة.
وكذلك الأعراض الذاتية للحكم ثلاثة أقسام أيضا الأول ما يكون مبحوثا عنه، وهو كون الحكم ثابتا بالأدلة المذكورة، والثاني ما يكون له مدخل في لحوق ما هو مبحوث عنه ككونه متعلقا بفعل البالغ أو بفعل الصبي ونحوه. والثالث ما لا يكون كذلك فالأول يكون محمولا في القضايا التي هي مسائل هذا العلم والثاني أوصافا وقيودا لموضوع تلك القضايا، وقد يقع موضوعا وقد يقع محمولا كقولنا الحكم المتعلق بالعبادة يثبت بخبر الواحد ونحو العقوبة لا تثبت بالقياس ونحو زكاة الصبي عبادة. وأما الثالث من كلا القسمين بمعزل عن هذا العلم وعن مسائله. "ويلحق به البحث عما يثبت بهذه الأدلة، وهو الحكم وعما يتعلق به" الضمير المجرور في قوله ويلحق به راجع إلى البحث المدلول في قوله فيبحث عما يثبت أي عن أحوال ما يثبت وقوله عما يتعلق به أي بالحكم، وهو الحاكم والمحكوم به والمحكوم عليه.
واعلم أن قوله ويلحق به يحتمل أمرين أحدهما أن يراد به أن يذكر مباحث الحكم بعد مباحث الأدلة على أن موضوع هذا العلم الأدلة والأحكام. والثاني أن موضوع هذا العلم الأدلة فقط وإنما يبحث عن الأحكام على أنه من لواحق هذا العلم فإن أصول الفقه هي أدلة الفقه، ثم أريد به العلم بالأدلة من حيث إنها مثبتة للحكم فالمباحث الناشئة عن الحكم وما يتعلق به خارجة عن هذا العلم وهي مسائل قليلة تذكر على أنها لواحق وتوابع لمسائل هذا العلم كما أن موضوع المنطق التصورات والتصديقات من حيث إنها موصلة إلى تصور وتصديق فمعظم مسائل المنطق راجع إلى أحوال الموصل وإن كان يبحث فيه على سبيل الندرة عن أحوال التصور الموصل إليه كالبحث عن الماهيات أنها قابلة للحد فهذا البحث يذكر على طريق التبعية فكذا هنا وفي بعض كتب الأصول لم يعد مباحث الحكم من مباحث هذا العلم لكن الصحيح هو الاحتمال الأول وقوله وهو الحكم، فإن أريد بالحكم
.........................................................
الذاتية المبحوث عنها لأجزاء الموضوع وإلا لما وقع البحث عنها في العلمين فموضوع كل منهما أجسام العالم على الإطلاق إلا أن البحث في الهيئة عن أشكالها، وفي السماء والعالم عن طبائعها

(1/42)


الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين، وهو قديم فالمراد بثبوته بالأدلة الأربعة ثبوت علمنا به بتلك الأدلة وإن أريد بالحكم أثر الخطاب كالوجوب والحرمة فثبوته ببعض الأدلة الأربعة صحيح وبالبعض لا كالقياس مثلا؛ لأن القياس غير مثبت للوجوب، بل مثبت غلبة ظنه بالوجوب كما قيل: إن القياس مظهر لا مثبت فيكون المراد بالإثبات إثبات غلبة الظن وإن نوقش في ذلك بأن اللفظ الواحد لا يراد به المعنى الحقيقي والمجازي معا فنقول نريد في الجميع إثبات العلم لنا أو غلبة الظن لنا.
واعلم أني لما وقعت في مباحث الموضوع والمسائل أردت أن أسمعك بعض مباحثها التي لا يستغني المحصل عنها وإن كان لا يليق بهذا الفن منها أنهم قد ذكروا أن العلم الواحد قد يكون له أكثر من موضوع واحد كالطب فإنه يبحث فيه عن أحوال بدن الإنسان وعن الأدوية ونحوها، وهذا غير صحيح والتحقيق فيه أن المبحوث عنه في العلم إن كان إضافة شيء إلى آخر كما أن في أصول الفقه يبحث عن إثبات الأدلة للحكم وفي المنطق يبحث فيه عن إيصال تصور أو تصديق، إلى تصور أو تصديق وقد يكون بعض العوارض التي لها مدخل في المبحوث عنه ناشئة عن أحد المضافين وبعضها عن الآخر فموضوع هذا العلم كلا المضافين وإن لم يكن المبحوث عنه الإضافة لا يكون موضوع العلم الواحد أشياء كثيرة؛ لأن اتحاد العلم واختلافه إنما هو باتحاد المعلومات أي المسائل واختلافها فاختلاف الموضوع يوجب اختلاف العلم وإن أريد بالعلم لواحد ما وقع الاصطلاح على أنه علم واحد من غير رعاية معنى يوجب الوحدة فلا اعتبار به على أن لكل واحد أن يصطلح حينئذ على أن الفقه والهندسة علم واحد وموضوعه شيئان فعل المكلف والمقدار وما أوردوا من النظير، وهو بدن الإنسان والأدوية فجوابه أن البحث في الأدوية إنما هو من حيث إن بدن الإنسان يصح ببعضها ويمرض ببعضها فالموضوع في الجميع بدن الإنسان.
ومنها أنه قد يذكر الحيثية أحدهما أن الشيء مع تلك الحيثية موضوع كما يقال
.........................................................
فهما علمان مختلفان باختلاف محمولات المسائل مع اتحاد الموضوع وعلم السماء والعالم علم تعرف فيه أحوال الأجسام التي هي أركان العالم وهي السماوات وما فيها والعناصر الأربعة وطبائعها وحركاتها ومواضعها وتعريف الحكمة في صنعها وتنضيدها، وهو من أقسام العلم الطبيعي الباحث عن أحوال الأجسام من حيث التغير وموضوعه الجسم المحسوس من حيث هو معروض للتغير في الأحوال والثبات فيها ويبحث فيه عما يعرض له من حيث هو كذلك كذا ذكره أبو علي ولا يخفى أن الحيثية في الطبيعي مبحوث عنها وقد صرح بأنها قيد للعروض وهاهنا نظر.
أما أولا فلأن هذا مبني على ما ذكر من كون الحيثية تارة جزءا من الموضوع وأخرى بيانا للمبحوث عنها وقد عرفت ما فيه، أما ثانيا فإنهم لما حاولوا معرفة أحوال الأعيان الموجودات وضعوا الحقائق أنواعا وأجناسا وبحثوا عما أحاطوا به من أعراضه الذاتية فحصلت لهم مسائل

(1/43)


الموجود من حيث إنه موجود موضوع للعلم الإلهي فيبحث فيه عن الأعراض الذاتية التي تلحقه من حيث إنه موجود كالوحدة والكثرة ونحوهما، ولا يبحث فيه عن تلك الحيثية؛ لأن الموضوع ما يبحث عن أعراضه لا ما يبحث عنه أو عن أجزائه وثانيهما أن الحيثية تكون بيانا للأعراض الذاتية المبحوث عنها فإنه يمكن أن يكون للشيء أعراض ذاتية متنوعة وإنما يبحث في علم عن نوع منها فالحيثية بيان ذلك النوع فقولهم موضوع الطب بدن الإنسان من حيث إنه يصح ويمرض وموضوع الهيئة أجسام العالم من حيث إن لها شكلا يراد به المعنى الثاني لا الأول إذ في الطب يبحث عن الصحة والمرض وفي الهيئة عن الشكل فلو كان المراد هو الأول يجب أن يبحث في الطب والهيئة عن أعراض لاحقة لأجل الحيثيتين ولا يبحث عن الحيثيتين والواقع خلاف ذلك.
ومنها أن المشهور أن الشيء الواحد لا يكون موضوعا للعلمين أقول هذا غير ممتنع، بل واقع فإن الشيء الواحد يكون له أعراض متنوعة ففي كل علم يبحث عن بعض منها كما ذكرناه.
وإنما قلنا إن الشيء الواحد يكون له أعراض متنوعة فإن الواحد الحقيقي يوصف
.........................................................
كثيرة متحدة في كونها بحثا عن أحوال ذلك الموضوع، وإن اختلفت محمولاتها فجعلوها بهذا الاعتبار علما واحدا يفرد بالتدوين والتسمية وجوزوا لكل أحد أن يضيف إليه ما يطلع عليه من أحوال ذلك الموضوع فإن المعتبر في العلم هو البحث عن جميع ما تحيط به الطاقة الإنسانية من الأعراض الذاتية للموضوع فلا معنى للعلم الواحد إلا أن يوضع شيء أو أشياء متناسبة فنبحث عن جميع عوارضه الذاتية ونطلبها ولا معنى لتمايز العلوم إلا أن هذا ينظر في أحوال شيء وذاك في أحوال شيء آخر مغاير له بالذات أو بالاعتبار بأن يؤخذ في أحد العلمين مطلقا، وفي الآخر بالبرهان مقيدا أو يؤخذ في كل منهما مقيدا بقيد آخر وتلك الأحوال مجهولة مطلوبة والموضوع معلوم بين الوجود فهو الصالح سببا للتمايز. وأما ثالثا فلأنه ما من علم إلا ويشتمل موضوعه على أعراض ذاتية متنوعة فلكل أحد أن يجعله علوما متعددة بهذا الاعتبار مثلا يجعل البحث عن فعل المكلف من حيث الوجوب علما ومن حيث الحرمة علما آخر إلى غير ذلك فيكون الفقه علوما متعددة موضوعها فعل المكلف فلا ينضبط الاتحاد والاختلاف وتحقيق هذه المباحث في كتاب البرهان من منطق الشفاء.
قوله: "وإنما قلنا" استدل على ثبوت الأعراض الذاتية المتنوعة لشيء واحد بأن الواحد الحقيقي الذي لا كثرة في ذاته بوجه من الوجوه يتصف بصفات كثيرة، وإن كان بعضها حقيقيا كالقدرة وبعضها إضافيا كالخلق وبعضها سلبيا كالتجرد عن المادة والمتصف بصفات كثيرة متصف بأعراض ذاتية متنوعة ضرورة أنه لا شيء من تلك الصفات لاحقا له لجزئه لعدم الجزء له ولا المباين لامتناع احتياج الواحد الحقيقي في صفاته إلى أمر منفصل وكان ينبغي أن يتعرض لهذا أيضا وحينئذ إما أن يكون لحقوق كل منها لصفة أخرى فيلزم التسلسل في المبادئ أعني الصفات

(1/44)


بصفات كثيرة، ولا يضر أن يكون بعضها حقيقة وبعضها إضافية وبعضها سلبية، ولا شيء منها يلحقه لجزئه لعدم الجزء له فلحوق بعضها لا بد أن يكون لذاته قطعا للتسلسل في المبدأ فلحوق البعض الآخر إن كان لذاته فهو المطلوب وإن كان لغيره نتكلم في ذلك الغير حتى ينتهي إلى ذاته قطعا للتسلسل في المبدأ.
ولأنه يلزم استكماله من غيره إذا ثبت ذلك يمكن أن يكون الشيء الواحد موضوع علمين ويكون تميزهما بحسب الأعراض المبحوث عنها وذلك؛ لأن اتحاد العلمين واختلافهما بحسب اتحاد المعلومات واختلافها والمعلومات هي المسائل فكما أن المسائل تتحد وتختلف بحسب موضوعاتها وهي راجعة إلى موضوع العلم فكذلك تتحد المسائل وتختلف بحسب محمولاتها وهي راجعة إلى تلك الأعراض وإن أريد أن الاصطلاح جرى بأن الموضوع معتبر في ذلك لا المحمول فحينئذ لا مشاحة في ذلك على أن قولهم: إن موضوع الهيئة هي أجسام العالم من حيث إنها شكل وموضوع علم السماء والعالم من الطبيعي أجسام العالم من حيث إنها طبيعية قول بأن موضوعهما واحد لكن اختلافهما باختلاف المحمول؛ لأن الحيثية فيهما بيان المبحوث عنه لا أنها جزء الموضوع وإلا يلزم أن لا يبحث فيهما عن هاتين الحيثيتين، بل عما يلحقهما لهاتين الحيثيتين والواقع خلاف ذلك، والله أعلم
.........................................................
التي كل منها مبدأ لصفة أخرى، وهو محال لبرهان المذكورة في الكلام أو يكون بعضها لذاته فيثبت عرض ذاتي وحينئذ فالبعض الآخر لا يجوز أن يكون لجزئه لما مر فهو إما لذاته فيثبت عرض ذاتي آخر، وهو المطلوب أو لغيره ولا يجوز أن يكون الغير مباينا لما مر، بل يكون صفة من صفاته ولا بد أن ينتهي إلى ما يكون لحوقه لذاته وإلا لزم التسلسل في المبادئ، فإن قيل يجوز أن ينتهي إلى العرض الذاتي الأول فلا يلزم تعدد الأعراض الذاتية ولو سلم فاللازم تعددها، وهو غير مطلوب والمطلوب تنوعها، وهو غير لازم قلنا اللاحق بواسطة العرض الذاتي الأول أيضا عرض ذاتي فيلزم التعدد والصفات المتعددة في محل واحد متنوعة لا محالة ضرورة أن اختلاف أشخاص نوع واحد من الصفات إنما هو باختلاف المحل.
قوله: "ولأنه يلزم" عطف على مضمون الكلام السابق أي، وإن كان لغيره فهو باطل؛ لأنه يلزم استكمال الواحد الحقيقي في صفاته بالغير، وهو محال؛ لأنه يوجب النقصان في ذاته والاحتياج في كمالاته، وفيه نظر؛ لأنه إن أريد الاستكمال بالأمر المنفصل فظاهر أنه غير لازم لجواز أن يكون لحوق البعض الآخر لصفة، وإن أريد أعم من المنفصل والصفة فلا نسلم أن احتياج بعض الصفات إلى البعض يوجب النقصان في الذات كيف والخلق يتوقف على العلم والقدرة والإرادة ويمكن أن يجعل هذا مختصا بما يكون الغير منفصلا وما سبق مختصا بما يكون غير منفصل فيتم بمجموعهما المطلوب أعني إثبات عرض ذاتي آخر

(1/45)