شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه ط العلمية

الركن الثالث: في الإجماع
الأول: في أركان الإجماع
...
الركن الثالث: في الإجماع
وهو الاتفاق المجتهدين من أمة محمد عليه الصلاة والسلام في عصر على حكم شرعي.
فالبحث هنا في أمور الأول في ركنه وهو الاتفاق والعزيمة فيه أن يثبت ذلك إما بالتكلم منهم أو بعملهم به والرخصة أن يتكلم البعض أو يعمل به ويسكت الباقي بعد بلوغ ذلك إليهم ومضي مدة التأمل وعند البعض لا يثبت بالسكوت لأن عمر رضي الله عنه شاور الصحابة في مال فضل عنده وعلي رضي الله عنه ساكت حتى سأله فروى حديثاً في قسمة الفضل وشاورهم في إسقاط الجنين فأشاروا بأن لا غرم عليك وعلي رضي الله عنه ساكت فلما سأله قال أرى عليك الغرم فلم يكن يسكت سكوته تسليماً وقد يكون للتأمل وغيره.
ـــــــ
مائة وثوب ومائة وشاة, لنا أن حذف المعطوف عليه في العدد متعارف للخفة نحو بعت بمائة وعشرة دراهم, ونظائرها فيحمل على ذلك فيما هو مقدر بخلاف العبد والثوب على أنهما لا يثبتان في الذمة". فقوله فيحمل على ذلك أي: حذف المعطوف عليه فالحاصل أنه إذا ذكر بعد المائة عدد مضاف نحو مائة, وثلاثة أثواب فإن الأخير بيان المائة بالاتفاق فإن كان بعد المائة شيء من المقدرات كالدرهم والدينار والقفيز نجعله بيانا للمائة قياسا على العدد, والجامع كونهما مقدرين, فإذا قال له علي مائة ودرهم قلنا المائة من الدراهم قياسا على قوله علي مائة وثلاثة أثواب أما إذا كان بعد المائة شيء مما هو غير مقدر كالعبد والثوب كقوله له علي مائة وثوب ومائة وعبد لا نجعله بيانا للمائة والله أعلم.
"الركن الثالث: في الإجماع, وهو اتفاق المجتهدين من أمة محمد عليه الصلاة والسلام في عصر على حكم شرعي" بعض العلماء قيدوا الإجماع بالحكم الشرعي, وبعضهم قالوا على أمر حتى يعم الحكم الشرعي وغيره. واعلم أن الأحكام إما دينية, وإما غير دينية كالحكم بأن السقمونيا
.........................................................
قوله: "كالمولى يسكت حين يرى عبده يبيع ويشتري يكون إذنا" فإن قيل يحتمل أن يكون سكوته لفرط الغيظ, وعدم الالتفات بناء على أن العبد محجور شرعا قلت: يترجح جانب الرضا بدلالة العرف, والعادة في أن من لا يرضى بتصرف العبد يظهر النهي ويرد عليه, والأظهر أن هذا القسم مندرج في القسم الثاني أعني: ثبوت البيان بدلالة حال المتكلم.
قوله: "وعند الشافعي رحمه الله تعالى المائة مجملة" يعني: أن عطف الدرهم عليها ليس بيانا وتفسيرا لها; لأن مبنى العطف على التغاير ومبنى التفسير على الاتحاد.
قوله: "لنا" استدل على كون المعطوف بيانا للمعطوف عليه في مثل له علي مائة ودرهم بأن حذف المعطوف عليه أي: حذف تمييزه وتفسيره متعارف في العدد إذا عطف عليه عدد مفسر مثل مائة وثلاثة أثواب حتى إن ذكره يستهجن في العربية فيعد تكرارا, فصورة عطف غير العدد أيضا يحمل على ذلك أي: على حذف مفسر المعطوف عليه بقرينة المعطوف فيما إذا كان المعطوف مقدرا بالعدد مثل مائة ودرهم أو بالوزن مثل مائة وقفيز حنطة لمشابهته العدد. بخلاف نحو له علي مائة

(2/88)


مسهل فإن وقع الاتفاق على مثل هذا أو لم يقع فهما سواء حتى إن أنكره أحد لا يكون كفرا بل يكون جهلا بهذا الحكم سواء وقع الاتفاق أو لم يقع, أما الأحكام الدينية فإما أن تكون شرعية, أو غير شرعية. والمراد بالحكم الشرعي ما ذكرت في أول الكتاب أنه ما لا يدرك لولا خطاب الشارع وما ليس كذلك فإدراكه إما بالحس أو بالعقل, وكل واحد منهما يفيد اليقين فإن كان ذلك الأمر أمرا حسيا ماضيا فالإجماع عليه يكون إخبارا فلا يكون من قسم الإجماع المخصوص بأمة محمد عليه الصلاة والسلام. ولا يشترط له الاجتهاد بل يكون من قبيل الإخبارات, وإن كان أمرا حسيا مستقبلا كأمور الآخرة وأشراط الساعة مثلا فمعرفته لا يمكن إلا بالنقل عن مخبر صادق يوقف على المغيبات كالنبي عليه الصلاة والسلام مثلا فإجماعهم على ذلك من حيث إنه إجماع على ذلك الأمر المستقبل لا يعتبر; لأنهم لا يعلمون الغيب لكن يعتبر من حيث إنه منقول عمن يوقف على الغيب فرجع إلى الأمر الأول, وهو أن يكون محسوسا ماضيا, وإن كان أمرا يدرك بالعقل فالعقل يفيد اليقين, فالدليل هو العقل لا الإجماع بخلاف الشرعيات فإن مستند الإجماع لا يكون قطعيا ثم الإجماع يفيدها قطعية.
"فالبحث هنا في أمور: الأول: في ركنه, وهو الاتفاق, والعزيمة فيه أن يثبت ذلك إما بالتكلم منهم أو بعملهم به, والرخصة أن يتكلم البعض أو يعمل به, ويسكت الباقي بعد بلوغ ذلك إليهم ومضي مدة التأمل, وعند البعض لا يثبت بالسكوت; لأن عمر رضي الله عنه شاور
.........................................................
وعبد أو ثوب فإن الثاني لا يكون بيانا للأول; لأنه لا يشبه العدد حتى يصلح قياسه على مثل له علي مائة وثلاثة دراهم مع مانع آخر وهو أن تفسير المائة بالعبد أو الثوب لا يلائم لفظ علي; لأن موجبه الثبوت في الذمة, ومثل العبد والثوب لا يثبت في الذمة إلا في السلم للضرورة فلا يرتكب إلا فيما صرح به كالمعطوف دون المعطوف عليه مع أنه لا يكثر كثرة العدد حتى يستحق التخفيف, فإن قيل: القياس ليس بمستقيم; لأن المفسر في مثل مائة وثلاثة دراهم هو مميز المعطوف أعني: المضاف إليه لا نفس المعطوف على ما زعمتم في مائة ودرهم قلنا ممنوع بل المفسر هو المعطوف بمعنى أن المعطوف عليه يكون من جنس المعطوف درهما كان أو دينارا أو غيرهما. وقد يجاب بأنه قياس في اللغة, وإن أريد ابتناء الحكم على القياس الشرعي لم يكن من قبيل البيان, وأيضا لا نسلم أن العلة هو كون المعطوف من قبيل المقدرات بل كون العطف مقتضيا للشركة فيما يتوقف عليه المعطوف, والمعطوف عليه كالجزاء, والشرط فكذا التفسير في مائة وثلاثة أثواب بخلاف مائة ودرهم إذ لا إبهام في المعطوف فلا احتياج إلى التفسير.
قوله: "الركن الثالث في الإجماع" هو في اللغة العزم يقال: أجمع فلان على كذا أي: عزم, والاتفاق يقال أجمع القوم على كذا أي: اتفقوا, وفي الاصطلاح: اتفاق المجتهدين من أمة محمد عليه الصلاة والسلام في عصر على حكم شرعي, والمراد بالاتفاق الاشتراك في الاعتقاد أو القول أو الفعل, وقيد بالمجتهدين إذ لا عبرة باتفاق العوام, وعرف فاللام الاستغراق احترازا عن اتفاق بعض مجتهدي عصر, واحترز بقوله من أمة محمد عليه الصلاة والسلام عن اتفاق مجتهدي الشرائع

(2/89)


ولنا أن شرط التكلم من الكل متعسر غير معتاد والمعتاد أن يتولى الكبار الفتوى ويسلم سائرهم ولما كان الحكم عنده مخالفاً فالسكوت حرام والصحابة لا يتهمون بذلك وأما سكوت علي رضي الله عنه فيمكن حمله على أن ما أفتوا به من إمساك المال وعدم الغرم عليه كان الحسن إلا أن تعجيل أداء الصدقة والتزم الغرم صيانة عن
ـــــــ
الصحابة في مال فضل عنده وعلي رضي الله عنه ساكت حتى سأله فروى حديثا في قسمة الفضل" لما شاور عمر رضي الله تعالى عنه الصحابة في ذلك أشار بعض الصحابة بتأخير القسمة والإمساك إلى وقت الحاجة وعلي رضي الله عنه ساكت حتى سأله فقال أرى أن يقسم بين المسلمين وروى في ذلك حديثا فعمل عمر بذلك ولم يجعل سكوته دليل الموافقة حتى شافهه وجوز علي رضي الله عنه السكوت مع أن الحق عنده خلافهم. "وشاورهم في إسقاط الجنين فأشاروا بأن لا غرم عليك وعلي رضي الله عنه ساكت فلما سأله قال أرى عليك الغرم فلم يكن سكوته تسليما" روي أن عمر رضي الله عنه ضرب امرأة لجناية فأسقطت الجنين فشاور الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا لا غرم عليك فإنك مؤدب وما أردت إلا الخير وعلي رضي الله عنه ساكت فلما سأله قال أرى عليك الغرم; ولأنه قد يكون للمهابة كما قيل لابن عباس رضي الله تعالى عنه ما منعك أن تخبر عمر بقولك في العول فقال ردته, وذكر الإمام سراج الملة والدين رحمه الله تعالى في شرحه
.........................................................
السالفة, وقوله: "في عصر حال من المجتهدين" معناه زمان ما, قل أو كثر. وفائدته الاحتراز عما يرد على من ترك هذا القيد من لزوم عدم انعقاد الإجماع إلى آخر الزمان إذ لا يتحقق اتفاق جميع المجتهدين إلا حينئذ ولا يخفى أن من تركه إنما تركه لوضوحه لكن التصريح به أنسب بالتعريفات, وأطلق ابن الحاجب وغيره الأمر ليعم الشرعي وغيره حتى يجب اتباع إجماع آراء المجتهدين في أمر الحروب ونحوها, ويرد عليه أن تارك الاتباع إن أثم فهو أمر شرعي, وإلا فلا معنى للوجوب والمصنف رحمه الله تعالى خصه بالشرع زعما منه أنه لا فائدة للإجماع في الأمور الدنيوية, والدينية الغير الشرعية وفيما ذكره من البيان نظر; لأن العقلي قد يكون ظنيا فبالإجماع يصير قطعيا كما في تفضيل الصحابة رضي الله عنهم, وكثير من الاعتقاديات, وأيضا الحسي الاستقبالي قد يكون مما لم يصرح به المخبر الصادق بل استنبطه المجتهدون من نصوصه فيفيد الإجماع قطعيته.
قوله: "فالبحث هنا في أمور" ركنه, وأهله وشرطه, وحكمه, وسببه أعني: السند, والناقل وعلى هذا كان المناسب أن يقول الأول ركنه إلا أنه أراد بالبحث المعنى الجنسي فكأنه قال, والأبحاث هاهنا في أمور فبهذا الاعتبار صح قوله الأول في ركنه.
قوله: "ضرب امرأة لجناية" روي أن امرأة غاب عنها زوجها فبلغ عمر أنها تجالس الرجال وتحدثهم فأشخص إليها ليمنعها من ذلك فأملصت من هيبته أي: أزلفت الجنين وأسقطته.
قوله: "وقد يكون" أي: سكوت المجتهد للتأمل وغيره كاعتقاد حقيقة اجتهاد كل مجتهد أو كون القائل أكبر سنا منه أو أعظم قدرا أو أوفر علما أو استقرار الخلاف حتى لو حضر مجتهد

(2/90)


القيل والقال ورعاية لحسن الثناء والعدل كان أحسن وبعد التسليم فالسكوت بشرط الصيانة عن الفوت جائز وذلك إلى آخر المجلس تعظيماً للفتيا وحديث الدرة غير صحيح لأن الخلاف والمناظرة بينهم في مسألة العول أشهر من أن تخفى على عمر رضي الله عنه وكان عمر ألين للحق وإن صح فيحمل على أنه اعتذر عن الكف عن المناظرة معه لا عن بيان مذهبه ولما شرطنا مضي مدة التأمل لم ترد الشبهة التي ذكرت مسألة إذا اختلفت الصحابة في قولين يكون إجماعاً على نفي قول ثالث عندنا وأما في غير الصحابة فكذا عند بعض مشايخنا وبعضهم خصوا ذلك بالصحابة رضي الله عنهم إذ لا يجوز أن يظن بهم الجهل أصلاً
ـــــــ
للفرائض أن العول ثابت على قول عامة الصحابة رضي الله تعالى عنهم باطل عند ابن عباس. وهو يدخل النقص على البنات وبنات الابن, والأخوات لأب وأم أو لأب مثاله تركت زوجا وأما وأختا لأب وأم فعند العامة المسألة من ستة وتعول إلى الثمانية وعند ابن عباس رضي الله عنه للزوج النصف ثلاثة, وللأم الثلث اثنان وللأخت الباقي, وهذه أول حادثة وقعت في نوبة عمر رضي الله تعالى عنه فأشار العباس رضي الله عنه إلى أن يقسم المال على سهامهم فقبلوا منه, ولم ينكره أحد. وكان ابن عباس صبيا فلما بلغ خالف وقال من شاء باهلته إن الذي أحصى رمل عالج عددا لم يجعل في المال نصفين وثلثا, فقيل: هلا قلت ذلك في عهد عمر رضي الله عنه قال: كنت صبيا وكان عمر رضي الله تعالى عنه رجلا مهيبا فهبته. "وقد يكون للتأمل وغيره" أي: يكون السكوت للتأمل وغيره من الأسباب المانعة للإظهار.
"ولنا أن شرط التكلم من الكل متعسر غير معتاد والمعتاد أن يتولى الكبار الفتوى
.........................................................
والحنفية والشافعية رحمهم الله تعالى لو تكلم أحدهم بما يوافق مذهبه, وسكت الآخرون لم يكن إجماعا ولا يحصل سكوتهم على الرضا لتقرر الخلاف ثم لا يخفى أن اشتراط مضي مدة التأمل إنما يدفع احتمال كون السكوت للتأمل. ولا يدفع احتمال كونه لتصويب المجتهدين أو استقرار الخلاف أو نحو ذلك أو علم أن مثل هذا الإجماع يسمى الإجماع السكوتي لا يكون جاحده كافرا, وإن كان هو من الأدلة القطعية بمنزلة العام من النصوص.
قوله: "بالعيوب الخمسة" هي الجذام, والبرص, والجنون في أحد الزوجين, والجب, والعنة في الزوج, والرتق, والقرن في الزوجة.
قوله: "فشمول العدم" هو في حكم الغسل أن لا يجب غسل المخرج ولا غسل أعضاء الوضوء وشمول الوجود أن يجب غسلهما جميعا, وفي حكم النقض شمول الوجود أن تنتقض الطهارة بكل من خروج الخارج من غير السبيلين وبمس المرأة, وشمول العدم أن لا ينتقض بشيء منهما.

(2/91)


الثاني: في أهلية من ينعقد به الإجماع
...
وأما الثاني: ففي أهلية من ينقد به الإجماع
وهي لكل مجتهد ليس فيه ولا بدعة فإن الفسق فيه التهمة ويسقط العدالة وصاحب البدعة يدعو الناس إليه وليس هو من الأمة على الإطلاق وسقطت العدالة بالتعصب أو السفه وكذا المجون.
ـــــــ
ويسلم سائرهم, ولما كان الحكم عنده مخالفا فالسكوت حرام والصحابة لا يتهمون بذلك. وأما سكوت علي رضي الله عنه فيمكن حمله على أن ما أفتوا به من إمساك المال" أي: مال فضل عنده, "وعدم الغرم عليه" أي: في مسألة الإسقاط. "كان حسنا إلا أن تعجيل أداء الصدقة, والتزام الغرم صيانة عن القيل والقال ورعاية لحسن الثناء والعدل كان أحسن وبعد التسليم" أي: بعد تسليم ما أفتوا به لم يكن حسنا وكان خطأ. "فالسكوت بشرط الصيانة عن الفوت جائز وذلك إلى آخر المجلس تعظيما للفتيا وحديث الدرة غير صحيح; لأن الخلاف والمناظرة بينهم في مسألة العول أشهر من أن تخفى على عمر رضي الله تعالى عنه وكان عمر ألين للحق, وإن صح فيحمل على أنه اعتذر عن الكف عن المناظرة معه لا عن بيان مذهبه" فإن الواجب عليه أن يبين مذهبه وما هو حق عنده لئلا يكون شيطانا أخرس; لسكوته عن الحق. لكن المناظرة غير واجبة عليه وكان ابن عباس رضي الله عنهما إنما اعتذر عن الكف عن المناظرة التي لم تكن واجبة عليه. "ولما شرطنا مضي مدة التأمل لم ترد الشبهة التي ذكرت", وهي أن السكوت قد يكون للتأمل وغيره.
"مسألة: إذا اختلفت الصحابة في قولين يكون إجماعا على نفي قول ثالث عندنا وأما في غير الصحابة فكذا عند بعض مشايخنا, وبعضهم خصوا ذلك بالصحابة رضي الله عنهم إذ لا يجوز أن يظن بهم الجهل أصلا" نظيره أنهم اختلفوا في عدة حامل توفي عنها زوجها فعند البعض تعتد بأبعد الأجلين, وعند البعض بوضع الحمل فالاكتفاء بالأشهر قبل وضع الحمل قول ثالث لم يقل به أحد. واختلفوا في الجد مع الإخوة فعند البعض كل المال للجد, وعند البعض المقاسمة فحرمان الجد قول ثالث لم يقل به أحد, واختلفوا في علة الربا فعندنا العلة هي القدر مع الجنس, وعند الشافعي رحمه الله تعالى الطعم مع الجنس, وعند مالك رحمه الله تعالى الطعم والادخار مع الجنس فالقول بأن العلة غير ذلك لم يقل به أحد. واختلفوا في الزوج مع الأبوين والزوجة مع الأبوين فعند البعض للأم ثلث الكل في المسألتين, وعند البعض ثلث الباقي بعد فرض أحد الزوجين في المسألتين فالقول بثلث الكل في إحداهما وثلث الباقي في الأخرى قول ثالث لم يقل به أحد. واختلفوا في فسخ النكاح بالعيوب الخمسة فعند البعض لا فسخ في شيء منها, وعند البعض حق الفسخ ثابت في كل منها فالفسخ في البعض دون البعض قول ثالث لم يقل به أحد, ويعبر عن هذا بعدم القائل بالفصل. واختلفوا في الخارج من غير السبيلين فعند البعض غسل المخرج فقط واجب, وعند البعض غسل الأعضاء الأربعة واجب فقط فشمول العدم أو شمول الوجود قول ثالث لم يقل به أحد. وأيضا الخروج من غير السبيلين ناقض عندنا لا مس المرأة وعند الشافعي رحمه الله تعالى المس ناقض لا

(2/92)


وأما عامة الناس ففيما لا يحتاج إلى الرأي كنقل القرآن وأمهات الشرائع داخلون في الإجماع كالمجتهدين وفيما يحتاج لا عبرة بهم وبعض الناس خصوا الإجماع بالصحابة لأنهم هو الأصول في أمور الدين والبعض بعترة الرسول عليه
ـــــــ
الخروج فشمول الوجود أو شمول العدم ثالث لم يقل به أحد.
"وقال بعض المتأخرين: الحق هو التفصيل", وهو أن القول الثالث إن استلزم إبطال ما أجمعوا عليه لم يجز إحداثه, وإلا جاز مثال الأول الصورتان الأوليان فإن الاكتفاء بالأشهر قبل الوضع منتف بالإجماع إما; لأن الواجب أبعد الأجلين, وإما; لأن الواجب وضع الحمل فهذا يسمى إجماعا مركبا, فما به الاشتراك, وهو عدم الاكتفاء بالأشهر مجمع عليه, وفي الجد مع الإخوة اتفاق الفريقين واقع على عدم حرمان الجد, ومثال الثاني الأمثلة الأخيرة فإنه ليس في كل صورة إلا مخالفة مذهب واحد لا مخالفة الإجماع ولو كان مثل هذا مردودا يلزم أن كل مجتهد وافق صحابيا, أو مجتهدا في مسألة يلزمه أن يوافقه في جميع المسائل, وهذا باطل إجماعا. فإن عند ابن مسعود رحمه الله تعالى الحامل المتوفى عنها زوجها عدتها بوضع الحمل وأبو حنيفة رحمه الله تعالى وافقه في ذلك ولم يوافقه في أن المحروم يحجب حجب النقصان عنده ولم يقل أحد بأن المجموع المركب من كون عدتها بوضع الحمل مع انتفاء الحجب منتف إجماعا, أما عند ابن مسعود رحمه الله تعالى فلثبوت الثاني, وأما عند غيره فلانتفاء الأول ومثل هذا كثير فإن المجتهدين رحمهم الله تعالى وافقوا بعض الصحابة في مسألة مع أنهم خالفوا ذلك البعض في مسألة أخرى, أقول التمسك بالإجماع المركب وبعدم القائل بالفصل مشهور في المناظرات, وإبطاله على الوجه الذي نقلته عن بعض المتأخرين ليس بحق. بل الحق في ذلك والله أعلم أنه إن كان الغرض إلزام الخصم يكون مقبولا في هذا الغرض كما يقال في الوجوب في الحلي أن الوجوب في الضمار لا يخلو من أن يكون ثابتا أو لا فإن كان ثابتا في الضمار يكون ثابتا في الحلي قياسا, وإن لم يكن ثابتا في الضمار يكون ثابتا في الحلي إذ لو لم يثبت في الحلي يلزم العدم في الضمار مع العدم في الحلي, وهذا منتف إجماعا فهذا لا يفيد حقية الوجوب في الحلي لكن يفيد نفي ما قاله الشافعي رحمه الله تعالى فإنه لو لم يثبت الوجوب في الحلي يلزم العدمان, وهو منتف عند الشافعي رحمه الله تعالى.
.........................................................
قوله: "وقال بعض المتأخرين" ذكر الآمدي في الأحكام أن المختار في هذه المسألة إنما هو التفصيل, وهو أن القول الثالث إن كان يرفع ما اتفق عليه القولان فهو ممتنع لما فيه من مخالفة الإجماع, وإلا فلا إذ ليس فيه خرق الإجماع حيث وافق كلا من القولين من وجه, وإن خالفه من وجه وبين كثيرا من أمثلة القسمين ثم قال: فإن قيل: كل من القولين غير قائل بالتفصيل فهو قول لم يقل به قائل فيكون باطلا قلنا عدم القول به لا يوجب بطلان القول به, وإلا لما جاز الحكم في واقعة

(2/93)


الصلاة والسلام لطهارتهم عن الرجس والبعض بأهل المدينة إلا أن هذه الأمور زائدة على الأهلية وما يدل على كونه حجة لا يوجب الاختصاص بشيء من هذا، وعند البعض لا يشترط اتفاق الكل بل الأكثر كاف لقوله عليه السلام: "عليكم بالسواد الأعظم". وعندنا يشترط لأن الحجة إجماع الأمة فما بقي أحد من أهله لا يكون إجماعاً، وربما كان اختلاف الصحابة والمخالف واحد في مقابلة الجمع الكثير والسواد الأعظم عامة المسلمين ممن هو أمة مطلقة. والمراد بالأمة المطلقة أهل السنة والجماعة وهم الذين طريقتهم طريقة الرسول عليه السلام وأصحابه دون البدع.
ـــــــ
أما إن لم يكن الغرض إلزام الخصم بل إظهار ما هو الحق, فاعلم أن التفصيل الذي اختاره بعض المتأخرين, وهو أن القول الثالث استلزم إبطال ما أجمعوا عليه لم يجز إحداثه كلام غير مفيد; لأنه لا خفاء في أن القول الثالث إن استلزم إبطال ما أجمعوا عليه كان مردودا, والخصم يسلم هذا المعنى لكن يدعي أن القول الثالث مستلزم لإبطال ما أجمعوا عليه في جميع الصور إما في مسألة واحدة كما في مسألة العدة وحرمان الجد وإما في مجموع المسألتين ففي مسألة الزوج أو الزوجة مع الأبوين أحد الشمولين ثابت, وهو ثلث الكل في كليهما, أو ثلث الباقي في كليهما فالقول بثلث الكل في أحدهما دون الآخر مخالف للإجماع, وكذا في الفسخ بالعيوب, وفي مسألة الخارج من غير السبيلين إحدى الطهارتين
.........................................................
متجددة لم يسبق فيها قول لأحد, فإن قيل: قد اتفق القولان على نفي التفصيل فالقول بالتفصيل خرق للإجماع قلنا ممنوع فإن عدم القول بالتفصيل أعم من القول بعدم التفصيل, والأعم لا يستلزم الأخص نعم لو صرح القولان بنفي التفصيل لما جاز القول به فإن قيل ففي التفصيل تخطئة كل من الفريقين في بعض ما ذهب إليه هي تخطئة للأمة فيمتنع. قلنا: الممتنع تخطئة الأمة فيما اتفقوا عليه لا تخطئة كل بعض فيما لا اتفاق عليه, فعلم أن عدم القول بالفصل, وإن اشتهر في المناظرات لكنه ليس مما وقع الاتفاق على قبوله. وإنما يقبل حيث يصلح إلزاما للخصم بأن يلزم من التفصيل بطلان مذهبه.
ثم التفصيل الذي اختاره صاحب الأحكام ومن تبعه أصل كلي يفيد معرفة أحكام الجزئيات إذ لا يخفى على الناظر المتأمل أن القول الثالث هل يشتمل على رفع ما اتفق عليه القولان السابقان أم لا ليس على الأصولي التعرض لتفاصيل الجزئيات. وما ادعاه الخصم من أن القول الثالث مستلزم لبطلان الإجماع في جميع الصور غير معتد به; لأنه ادعاء باطل; لأنا لا نسلم ثبوت أحد الشمولين بالإجماع في مسألة الزوج أو الزوجة مع الأبوين كيف وقد يصدق أنه لا شيء من الشمولين بمجمع عليه لما فيه من مخالفة البعض؟ ولهذا أحدث التابعون قولا ثالثا فقال ابن سيرين بثلث الكل في زوج, وأبوين دون زوجة, وأبوين. وقال تابعي آخر بالعكس, وكذا في العيوب الخمسة ليس شمول الوجود, ولا شمول العدم بمجمع عليه, وكذا في البواقي مثلا لا إجماع على وجوب غسل المخرج

(2/94)


واجبة إجماعا فالقول بأن لا شيء منها واجب مبطل للإجماع, وكذا في الحلي والضمار وكذا القول بأن العدة المذكورة بوضع الحمل مع انتفاء الحجب المذكور مبطل للإجماع, فالشأن في تمييز صورة يلزم فيها بطلان الإجماع عن صورة لا يلزم فيها ذلك فلا بد من ضابط, وهو أن القولين إن كانا يشتركان في أمر هو في الحقيقة واحد, وهو من الأحكام الشرعية فحينئذ يكون القول الثالث مستلزما لإبطال الإجماع, وإلا فلا فعند ذلك نقول: إن المختلف فيه إما حكم متعلق بمحل واحد, أو حكم متعلق بأكثر من محل واحد. أما الأول فكمسألة العدة والجد مع الإخوة فإن القولين يشتركان في أن العدة لا تنقضي بالأشهر وحدها, وأن الجد لا يحرم وكل منهما أمر واحد, وهو حكم شرعي
.........................................................
لمخالفة أبي حنيفة رحمه الله تعالى, ولا على وجوب غسل أعضاء الوضوء لمخالفة الشافعي. رحمه الله تعالى وإذا صدق أنه لا شيء ولا واحد من الطهارتين مما يجب إجماعا فكيف يصدق أن إحداهما واجبة إجماعا؟ غاية ما في الأمر أنه ركبت مغلظة بحسب التعبير عن الأمرين بمفهوم يشملها على سبيل البدل, ويكون تعلق الحكم به في كل من القولين باعتبار فرد آخر, وظاهر أنه لا يلزم منه الإجماع على الحكم في شيء من الإفراد بخلاف مسألة العدة, والجد مع الإخوة لاتفاق الفريقين على عدم جواز الاكتفاء بالأشهر قبل الوضع, وعلى عدم جواز حرمان الجد. وأما مسألة علة الربا فلا يخفى أن القول الثالث إن كان قولا بعدم اعتبار الجنس في العلية كان مخالفا للإجماع, وإلا فلا إذ لم يقع اتفاق الأقوال الثلاثة إلا على اعتبار الجنس في العلية.
قوله: "أما عند ابن مسعود رحمه الله تعالى" داخل في حيز قوله لم يقل به أحد يعني لا قائل بأن المجموع المركب من كون عدة الحامل بوضع الحمل ومن انتفاء حجب المحروم منتف بإجماع ابن مسعود رحمه الله تعالى وغيره أما عنده فلأن الجزء الثاني أعني: انتفاء الحجب منتف; لأن الحجب ثابت, وأما عند غيره فلأن الجزء الأول أعني: كون العدة بوضع الحمل منتف لكونها بعد الأجلين, والمركب ينتفي بانتفاء أحد جزأيه.
قوله: "في الضمار" هو المال الغائب الذي لا يرجى فإن رجي فليس بضمار, وقيل هو ما لا ينتفع به من الأموال.
قوله: "فلا بد من ضابط" تقرير كلامه أن القولين السابقين إن اشتركا في أمر واحد هو حكم شرعي فإحداث القول الثالث يكون إبطالا للإجماع, وإن لم يشتركا في ذلك بأن لا يكون المشترك فيه واحدا بالحقيقة أو كان واحدا لكن لا يكون حكما شرعيا فإحداث القول الثالث لا يكون إبطالا للإجماع وعند تقرير هذا الضابط لا بد من النظر في أن أي موضع يشترك فيه القولان في حكم واحد شرعي وأي موضع لا يشتركان فيه في ذلك فنقول المختلف فيه بين القولين الأولين قد يكون حكما شرعيا متعلقا بمحل واحد, وقد يكون حكما متعلقا بأكثر من محل واحد. أما الأول وهو أن يكون حكما متعلقا بمحل واحد فالقولان فيه قد يظهر اشتراكهما في حكم واحد شرعي فيبطل الثالث كما في مسألة العدة, والجد مع الإخوة, وقد يظهر عدم اشتراكهما في ذلك كما في مسألة الربا فلا

(2/95)


الثالث: في شروط الإجماع
...
وأما الثالث ففي شروطه
انقراض العصر ليس شرط عندنا، وعند الشافعي رحمه الله تعالى يشترط أن يموتوا على ذلك الإجماع لاحتمال رجوع بعضهم، ولنا أنه تحقق الإجماع فلا يعتبر توهم رجوع البعض حتى لو رجع لا يعتبر عندنا، مسألة شرط البعض كونه في مسألة غير مجتهد فيها في زمن الصحابة فجعلوا الخلاف المتقدم مانعاً من الإجماع تضليل بعض الصحابة والمختار عدم اشتراطه لأن المعتبر اتفاق أهل العصر وقد وجد ودليله كان دليلاً لكنه لم يبق كما إذا نزل نص بعد العمل بالقياس فلا يلزم التضليل الذي ذكر.
ـــــــ
يبطل الثالث, وقد يكونان بحيث يمكن أن يخرج منهما اشتراك في حكم واحد شرعي وافتراق بين أمرين, وحينئذ إن كان الافتراق مما حكم به الشرع كما في مسألة ذات الزوجين فإن القولين يشتركان في إثبات نسب الولد من أحدهما. وفي أن الثبوت من أحدهما ينافي الثبوت من الآخر بحكم الشرع, فإحداث القول الثالث باطل سواء كان قولا بشمول الوجود أعني: ثبوت النسب منهما جميعا أو بشمول العدم أعني: عدم ثبوته من واحد منهما أصلا, وإن لم يكن الافتراق مما حكم به الشرع كما في مسألة الخارج من غير السبيلين حيث اتفق القولان على وجوب التطهير أعني الوضوء أو غسل المخرج, وعلى الافتراق أعني كون الواجب أحدهما فقط لكن لم يحكم الشرع بأن وجوب أحدهما ينافي وجوب الآخر فالقول الثالث إن كان قولا بشمول العدم أعني: عدم وجوب شيء منهما كان باطلا ومبطلا للإجماع السابق. وإن كان قولا بشمول الوجود أعني: وجوبهما جميعا لم يكن باطلا لعدم استلزامه إبطال الإجماع, ولزم من هذا أن الحكم بأنه إذا اشترك القولان في حكم واحد شرعي كان القول الثالث مستلزما لإبطال الإجماع ليس على إطلاقه. وأما الثاني وهو أن يكون الحكم المختلف فيه حكما متعلقا بأكثر من محل واحد فاختلاف القولين إنما يتصور بثلاثة أوجه:
الأول: أن يكون أحدهما قائلا بثبوت الحكم في صورة معينة, وعدم ثبوته في الصورة الأخرى, والآخر قائلا بالعكس كقول أبي حنيفة رحمه الله بالانتقاض بالخروج من غير السبيلين لا بمس المرأة وقول الشافعي رحمه الله تعالى بالانتقاض بالمس دون الخروج, فالقول بالانتقاض بكل منهما أو بعدم الانتقاض بشيء منهما لا يكون إبطالا لحكم شرعي مجمع عليه.
الثاني: أن يكون أحدهما قائلا بالثبوت في الصورتين وهو معنى شمول الوجود, والآخر بالعدم فيهما, وهو معنى شمول العدم فإن اتفق الشمولان على حكم واحد شرعي كتسوية الأب, والجد في الولاية كان القول بالافتراق مبطلا للإجماع, وإلا فلا كالقول بجواز الفسخ ببعض العيوب دون البعض.
الثالث: أن يكون أحدهما قائلا بالثبوت في إحدى الصورتين بعينها والعدم في الأخرى, والآخر قائلا بالثبوت في كلتا الصورتين فيكون اتفاقا على الثبوت في صورة بعينها, أو بالعدم فيهما فيكون اتفاقا على العدم فلا صورة بعينها فيكون القول الثالث إبطالا للمجمع عليه كمسألة الصلاة

(2/96)


الرابع: في حكم الإجماع
...
وأما الرابع ففي حكمه
وهو أن يثبت الحكم يقيناً حتى يكفر جاحده لقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} فإن قيل الوعيد متعلق بالمجموع وهو المشاقة والإتباع قلنا: بل بكل وإلا يكن في ضمه إلى المشاقة فائدة.
ـــــــ
وأما مسألة الربا فعلته القدر مع الجنس, أو الطعم مع الجنس لا يشتركان في أمر واحد هو حكم شرعي ولو جعل مفهوم أحد الأمرين أو أحد الأمور أمرا واحدا فذلك ليس بأمر هو في الحقيقة واحد بل واحد اعتباري, ولو كان أمرا واحدا فليس حكما شرعيا بخلاف مسألة الخارج من غير السبيلين فإن الواجب أحد الغسلين. إما الوضوء أو غسل المخرج فهما يشتركان في أمر واحد, وهو حكم شرعي, وهو وجوب التطهير, فالتطهير واجب بالإجماع فذلك التطهير الواجب هو الوضوء عندنا, وغسل المخرج عند الشافعي رحمه الله تعالى فالقول بأن لا شيء من التطهير بواجب خلاف الإجماع. أما القول بأن كل واحد واجب لا يكون مخالفا للإجماع ولو قيل الافتراق ثابت بالإجماع فشمول الوجود مخالف للإجماع فنقول الافتراق هنا ليس حكما شرعيا أي: لم يحكم الشرع بأن المنافاة ثابتة بينهما حتى يلزم من عدم أحدهما وجود الآخر بخلاف ما إذا كان الافتراق حكما شرعيا كما إذا أخبرت امرأة أن زوجها الغائب مات فتزوجت, وولدت فجاء الزوج الأول فعندنا يثبت نسب الولد من الزوج الأول, وعند الشافعي رحمه الله تعالى من الأخير فثبوته من كليهما, أو عدم الثبوت من أحدهما منتف إجماعا ففي هذه الصورة الافتراق حكم شرعي, وأما الثاني فإما أن يكون الثابت عند البعض الوجود في صورة مع العدم في الأخرى, وعند البعض عكس ذلك كمسألة الخروج والمس, فالقول بأن كلا منهما ناقض أو ليس شيء منهما ناقضا لا يكون خلاف الإجماع, فإن القول بانتقاض كل منهما مخالف لقول أبي حنيفة رحمه الله تعالى في مسألة المس, ولقول الشافعي رحمه الله تعالى في مسألة الخروج وليس في
.........................................................
في الكعبة نفلا وفرضا ويجعل هذه المسألة, ومسألة مساواة الأب والجد من القسم الثاني يتبين أن ليس المراد بالأول أن يشترك القولان في حكم واحد شرعي, وبالثاني أن لا يشتركا فيه. وأما مسألة بيع الملاقيح, والبيع بالشرط فلا يخفى عليك أنها خارجة عن المبحث, فإن بطلان بيع الملاقيح مسألة مجمع عليها, والبيع بالشرط مسألة مختلف فيها لا تعلق لإحداهما بالأخرى. والمبحث هو أنه إذا سبق في مسألة اختلاف على قولين, فإحداث قول ثالث هل يكون إبطالا للإجماع أم لا.
قوله: "وأما مسألة الربا" أحد القولين فيها علية القدر مع الجنس, والآخر الطعم مع الجنس أو الادخار مع الجنس, وهما لا يشتركان في واحد حقيقي هو حكم شرعي, فإن مفهوم أحد الأمرين واحد بحسب الاعتبار بل بحسب العبارة دون الحقيقة, ومع ذلك فليست العلية حكما شرعيا لا يدرك لولا خطاب الشارع بل قد يستنبط نعم يمكن أن يقال إن القولين اتفقا على أنه لا ربا في غير الجنس, وهذا حكم شرعي فالقول بعدم دخول الجنس في العلية رفع لذلك.

(2/97)


شيء منهما مخالفة الإجماع ولو جعل الحكمان حكما واحدا كما يقال الانتقاض في الخروج مع عدمه في المس قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعكسه قول الشافعي رحمه الله تعالى فهما لا يشتركان في أمر واحد, ولو جعل أحد الافتراقين مشتركا فقد مر أنه ليس حكما شرعيا, ولو قيل: يشتركان في حكم شرعي, وهو عدم جواز الصلاة فإن من احتجم ومس المرأة لا تجوز صلاته بالإجماع. أما عندنا فللاحتجام, وأما عنده فللمس فالذي يخطر ببالي أن لا يقال: إن هذه الصلاة باطلة إجماعا; لأن الحكم عندنا أنها لا تجوز للاحتجام, والحكم عند الشافعي رحمه الله تعالى أنها لا تجوز للمس وكل من الحكمين منفصل عن الآخر لا تعلق لأحدهما بالآخر. فيمكن أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى يكون مخطئا في الخروج مصيبا في المس, والشافعي رحمه الله تعالى يكون مخطئا في المس مصيبا في الخروج إذ ليس من ضرورة كونه مخطئا في أحدهما أن يكون مخطئا في الآخر, وإما أن يكون الثابت عند البعض الوجود في الصورتين وعند البعض العدم في الصورتين ويسمى هذا عدم القائل بالفصل.
وأما الإجماع المركب فأعم من هذا كمسألة الزوج مع الأبوين, والزوجة مع الأبوين, ومسألة الفسخ بالعيوب, فإن الثابت شمول الوجود, أو شمول العدم فيجب أن ينظر أن شمول الوجود وشمول العدم إن كانا مشتركين في حكم واحد شرعي, فحينئذ يكون الافتراق إبطالا للإجماع نظيره أنه ليس للأب والجد إجبار البكر البالغة على النكاح عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى لكل واحد منهما ولاية الإجبار فالقول بولاية الأب دون الجد خلاف
.........................................................
قوله: "فالتطهير واجب بالإجماع" قد عرفت أنه يصدق لا شيء من التطهيرين بمجمع على وجوبه أما غسل المخرج فلمخالفة أبي حنيفة رحمه الله تعالى, وأما غسل الأعضاء فلمخالفة الشافعي رحمه الله تعالى فلا يصدق أن أحدهما واجب بالإجماع.
قوله: "ولو جعل الحكمان" يعني: لو اعتبر التركيب بين الحكمين في كل من القولين ليصير حكما واحدا بأن يقال الانتقاض بالخروج مع عدم الانتقاض بالمس حكم واحد لأبي حنيفة رحمه الله تعالى, والانتقاض بالمس مع عدم الانتقاض بالخروج حكم واحد للشافعي رحمه الله تعالى فهذان لا يشتركان في أمر واحد وقع الاتفاق عليه حتى تكون مخالفته إبطالا للإجماع, فإن قيل قد اتفقا على أحد الافتراقين أعني: انتقاض الخروج دون المس أو بالعكس. فالجواب ما مر من أنه مع كونه واحدا اعتباريا ليس بحكم شرعي, فإن قيل ينبغي أن يكون القول بشمول العدم مبطلا للإجماع على حكم شرعي هو بطلان صلاة من احتجم ومس. فالجواب أن بطلانها ليس بمجمع عليه, وإنما قال فالذي يخطر ببالي; لأن الظاهر أنه لا خلاف في بطلان الصلاة, وإنما الخلاف في جهة البطلان فالحكمان متحدان لا تغاير بينهما أصلا, وإنما التغاير في العلة.
قوله: "وأما الإجماع المركب فأعم من هذا" أي: مما يسمى عدم القائل بالفصل; لأنه يشمل ما إذا كان أحدهما قائلا بالثبوت في إحدى الصورتين فقط, والآخر بالثبوت فيهما أو بالعدم فيهما.

(2/98)


ـــــــ
الإجماع; لأن شمول الوجود, وشمول العدم يشتركان في حكم شرعي, وهو وجوب المساواة فإن الجد كالأب شرعا عند عدم الأب فالمساواة بينهما حكم شرعي بخلاف الزوج مع الأبوين والزوجة مع الأبوين فإن مساواة الزوج والزوجة في أن للأم ثلث الكل, أو ثلث الباقي لم يعهد حكما شرعيا, فكذا في العيوب الخمسة المساواة بينهما لم تعهد حكما شرعيا. وأما أن يكون الثابت عند البعض الوجود في أحدهما مع العدم في الأخرى, وعند البعض الوجود في كليهما أو العدم في كليهما كجواز النفل دون الفرض في الكعبة عند الشافعي رحمه الله تعالى وجوازيهما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فجواز النفل متفق عليه فالقول بعدم جوازهما أو جواز الفرض دون النفل خلاف الإجماع وكبيع الملاقيح والبيع بشرط فإن الثاني يفيد الملك عند أبي حنيفة رحمه الله دون الأول, وعند الشافعي رحمه الله تعالى كل واحد منهما لا يفيد الملك فالملاقيح متفق عليها فالقول بإفادتهما الملك أو إفادة الملاقيح لا البيع بالشرط خلاف الإجماع, وهذا غاية التحقيق في هذه المسألة.
"وأما الثاني ففي أهلية من ينعقد به الإجماع, وهي لكل مجتهد ليس فيه فسق ولا بدعة فإن الفسق فيه يورث التهمة, ويسقط العدالة, وصاحب البدعة يدعو الناس إليها وليس هو من الأمة على الإطلاق, وسقطت العدالة بالتعصب أو السفه وكذا المجون" اعلم أن البدعة لا تخلو من أحد الأمرين إما تعصب, وإما سفه; لأنه إن كان وافر العقل عالما بقبح ما يعتقده, ومع ذلك يعاند الحق ويكابره فهو المتعصب, وإن لم يكن وافر العقل كان سفيها إذ السفه خفة, واضطراب يحمله على فعل مخالف للعقل لقلة التأمل وأما المجون فهو عدم المبالاة فالمفتي الماجن هو الذي يعلم الناس الحيل.
"وأما عامة الناس ففيما لا يحتاج إلى الرأي كنقل القرآن, وأمهات الشرائع داخلون في الإجماع كالمجتهدين وفيما يحتاج لا عبرة بهم" اعلم أن الإجماع على نوعين أحدهما: إجماع يفيد قطعية الحكم أي: سند الإجماع لا يكون موجبا للقطع بل الإجماع يفيد القطعية. والثاني: إجماع لا يفيد قطعية الحكم بأن يكون سند الإجماع موجبا للقطع ثم الإجماع يفيد زيادة توكيد, فنقل القرآن وأمهات الشرائع من هذا القبيل. والإجماع الأول لا ينعقد ما بقي مخالف واحد, وذلك المخالف أو مخالف آخر في عهد آخر لا يكفر بالمخالفة, وأما
.........................................................
قوله: "وليس هو" أي: صاحب البدعة الذي يدعو الناس إليها ليس من الأمة على الإطلاق; لأنه وإن كان من أهل القبلة فهو من أمة الدعوة دون المتابعة كالكفار, ومطلق الاسم لأمة المتابعة المشهود لها بالعصمة. قال شمس الأئمة صاحب البدعة إن لم يكن يدعو إليها ولكنه مشهور بها فقيل لا يعتد بقوله فيما يضل فيه, وأما فيما سواه فيعتد به, والأصح أنه إن كان مظهرا لها فلا يعتد بقوله أصلا, وإلا فالحكم كما ذكر.
قوله: "بالتعصب" هو عدم قبول الحق عند ظهور الدليل بناء على ميل إلى جانب.

(2/99)


وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} الآية. والخيرية توجب الحقية فيما اجتمعوا لأنه لو لم يكن حقاً كان ضلالاً لقوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ } ولا شك أن الأمة الضالين لا يكونون خير الأمم على أنه قد وصفهم بقوله تعالى: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فإذا اجتمعوا على الأمر بشيء يكون ذلك الشيء
ـــــــ
الإجماع الثاني فليس كذلك فإن الحكم قطعي بدونه فليس المراد أنه لو لم يوافق جميع العوام لم ينعقد الإجماع حتى لا يكفر الجاحد بل لا يمكن لأحد من الخواص والعوام المخالفة حتى لو خالف أحد يكفر. "وبعض الناس خصوا الإجماع بالصحابة; لأنهم هم الأصول في أمور الدين والبعض بعترة الرسول عليه الصلاة والسلام لطهارتهم عن الرجس والبعض بأهل المدينة" لقوله عليه الصلاة والسلام: "إن المدينة طيبة تنفي خبثها" 1, وإن الخطأ خبث. "إلا أن هذه الأمور زائدة على الأهلية, وما يدل على كونه حجة لا يوجب الاختصاص بشيء من هذا, وعند البعض لا يشترط اتفاق الكل بل الأكثر كاف لقوله عليه السلام: "عليكم بالسواد الأعظم" " وعندنا يشترط; لأن الحجة إجماع الأمة فما بقي أحد من أهله لا يكون إجماعا وربما كان اختلاف الصحابة والمخالف واحد في مقابلة الجمع الكثير والسواد الأعظم عامة المسلمين ممن هو أمة مطلقة, والمراد بالأمة المطلقة أهل السنة والجماعة, وهم الذين طريقتهم طريقة الرسول عليه السلام وأصحابه دون أهل البدع.
"وأما الثالث ففي شروطه انقراض العصر ليس شرطا عندنا وعند الشافعي رحمه
.........................................................
قوله: "لا يكفر بالمخالفة" يعني: في صورة عدم تمام الإجماع بناء على بقاء مخالف واحد.
قوله: "انقراض العصر" عبارة عن موت جميع من هو من أهل الاجتهاد في وقت نزول الحادثة بعد اتفاقهم على حكم فيها, وفائدة ذلك جواز الرجوع قبل الانقراض لا دخول من سيحدث.
وقيل: جواز الرجوع, ودخول من أدرك عصرهم من المجتهدين في إجماعهم أيضا, وعند القائلين بالاشتراط ينعقد الإجماع لكن لا يبقى حجة بعد الرجوع وقيل لا ينعقد مع احتمال الرجوع.
قوله: "فجعلوا الخلاف المتقدم مانعا" يعني: إذا لم يكن على طريق البحث عن المأخذ كما هو دأب المناظرة بل على أن يعتقد كل حقية ما ذهب إليه, وعليه عامة أهل الحديث, والشافعية وقد صح عن محمد رحمه الله تعالى أنه لا يكون مانعا ونقل عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى ما يشعر بالمنع وذلك كبيع أمهات الأولاد كان مختلفا بين الصحابة فأجمع التابعون على أنه لا يجوز فلو قضى به قاض لا ينفذ عند محمد رحمه الله تعالى وروى الكرخي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا ينقض فقيل: هذا مبني على أن الإجماع لم ينعقد, وقيل: على أن فيه شبهة حيث ذهب كثير من العلماء إلى أنه ليس بإجماع.
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب فضائل المدينة باب 2، 10. مسلم في كتاب البر حديث 53. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 3. الموطأ في كتاب المدينة حديث 4، 5.

(2/100)


معروفاً وإذا نهوا عن الشيء يكون ذلك الشيء منكراً فيكون إجماعهم حجة. وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ} والوساطة العدالة ومنه قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تجتمع أمتي على الضلالة", وقوله عليه السلام: "ما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن".
ـــــــ
الله تعالى يشترط أن يموتوا على ذلك الإجماع لاحتمال رجوع بعضهم ولنا أنه تحقق الإجماع فلا يعتبر توهم رجوع البعض حتى لو رجع لا يعتبر عندنا. مسألة شرط البعض كونه في مسألة غير مجتهد فيها في زمن الصحابة فجعلوا الخلاف المتقدم مانعا من الإجماع المتأخر; لأن ذلك المخالف إنما اعتبر خلافه لدليله لا لعينه, ودليله باق; ولأن في تصحيح هذا الإجماع تضليل بعض الصحابة والمختار عدم اشتراطه; لأن المعتبر اتفاق أهل العصر وقد وجد ودليله كان دليلا لكنه لم يبق كما إذا نزل نص بعد العمل بالقياس فلا يلزم التضليل الذي ذكر". اعلم أن الضلال إما أن يكون بالنظر إلى الدليل أي: لا يكون الدليل مقرونا بشرائطه, وإما أن يكون بالنظر إلى الحكم لا بالنظر إلى الدليل أن يكون الدليل مقرونا بشرائطه, ومع ذلك لا يكون موصلا إلى الحكم الذي هو حق عند الله فإن أراد بتضليل الصحابة المعنى الأول فلا نسلم لزومه; لأن الصحابة إذا اختلفوا وأقام كل واحد منهم الدليل مقرونا بشرائطه لا يكون واحد منهم ضالا ولا مخطئا بالنظر إلى الدليل ثم إذا انعقد الإجماع بعدهم على أحد الطرفين فدليل المخالف لم يبق الآن دليلا; لأنه حدث دليل أقوى, وهو الإجماع لكن الإجماع لم يدل على أن الدليل لم يكن قبل ذلك مقرونا بشرائطه فلا يكون تضليلا بالنظر إلى الدليل, وإن أراد المعنى الثاني فلا نسلم أن تضليل بعض الصحابة بالنظر إلى الحكم ممتنع بل تضليل كلهم بالنظر إلى الحكم ممتنع, فإنه إذا وقع الاختلاف بينهم فإصابة الحق لا تعدوهم ومع ذلك لا شك أن أحدهم مخطئ نظرا إلى الحكم; لأن الحق عند الله واحد عندنا. فالحاصل أنهم إن أرادوا بالتضليل التضليل بالنسبة إلى الدليل فالتضليل غير لازم; لأن دليلهم كان دليلا في ذلك الزمان لكنه لم يبق دليلا في زمان حدوث الإجماع, وإن أرادوا التضليل بالنسبة إلى الواقع فلا نسلم امتناعه; لأن المجتهد يخطئ ويصيب فإذا وقع الخلاف في مسألة فلا شك أن أحدهما بالنسبة إلى الواقع, وإلى علم الله تعالى مخطئ وضال.
.........................................................
قوله: "لكنه لم يبق" أي: لم يبق دليلا يعتد به ويعمل به وعبارة فخر الإسلام رحمه الله تعالى أنه نسخ واعترض عليه بأنه لا نسخ بعد انقطاع الوحي, وأجيب بجوازه فيما يثبت بالاجتهاد على معنى أنه لما انتهى ذلك الحكم بانتهاء المصلحة وفق الله تعالى أئمة المجتهدين رحمهم الله تعالى للاتفاق على القول الآخر, ورفع الخلاف, وإن لم يعرفوا مدة الحكم, وتبدل المصلحة.

(2/101)


"وأما الرابع ففي حكمه, وهو أن يثبت الحكم يقينا حتى يكفر جاحده لقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} فإن قيل الوعيد متعلق بالمجموع, وهو المشاقة والاتباع قلنا بل بكل واحد, وإلا لم يكن في ضمه إلى المشاقة فائدة" أول الآية {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} أي: نجعله واليا لما تولى من الضلالة. ووجه الاستدلال أنه جمع بين مشاقة الرسول, واتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد ولا شك أن مشاقة الرسول وحدها تستوجب الوعيد فلولا أن الاتباع المذكور حرام لم يكن في ضمه إلى المشاقة فائدة, فكان الكلام حينئذ ركيكا كما لو قال ومن يشاقق الرسول ويأكل الخبز, وإذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراما, ولا شك أن اتباع سبيل من السبل واجب لقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} الآية فيكون الواجب اتباع سبيل المؤمنين, ثم سبيل المؤمنين لا يمكن أن يكون عين ما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام; لأنه إذا كان كذلك فاتباع غيره يكون مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام ويكون المعطوف أي: الاتباع عين المعطوف عليه, وهو المشاقة,
.........................................................
قوله: "وهو أن يثبت الحكم" أي: الحكم الشرعي إذ الحكم الدنيوي لا يثبت يقينا; لأن الإجماع لا يكون فوق صريح قول الرسول عليه الصلاة والسلام وهو ليس بحجة في مصالح الدنيا لقوله عليه الصلاة والسلام في قصة التلقيح: "أنتم أعلم بأمور دنياكم" وربما كان يترك رأيه في الحروب بمراجعة الصحابة وقيل: يثبت الحكم مطلقا لكن في الدنيوي تجوز مخالفته بعد تبدل المصلحة, وأما الحكم الشرعي المجمع عليه فإن كان إجماعه ظنيا لا يكفر جاحده, وإن كان قطعيا فقيل: يكفر وقيل: لا يكفر, والحق أن نحو العبادات الخمس مما علم بالضرورة كونه من الدين يكفر جاحده اتفاقا. وإنما الخلاف في غيره وسيأتي فيه تفصيل واستدل على إفادة الإجماع بثبوت الحكم يقينا بوجوه من الكتاب, والسنة منها قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} وجه الاستدلال أنه تعالى أوعد باتباع غير سبيل المؤمنين بضمه إلى مشاقة الرسول التي هي كفر فيحرم إذ لا يضم مباح إلى حرام في الوعيد, وإذا حرم اتباع غير سبيلهم يلزم اتباع سبيلهم إذ لا مخرج عنهما; لأن ترك الاتباع غير سبيلهم فيدخل في اتباع غير سبيلهم, والإجماع سبيلهم فيلزم اتباعه. فإن قيل لفظ الغير مفرد لا يفيد العموم فلا يلزم حرمة اتباع كل ما يغاير سبيل المؤمنين بل يجوز أن يكون غير سبيل المؤمنين هو الكفر والتكذيب قلنا بل هو عام بالإضافة إلى الجنس بدليل صحة الاستثناء قطعا, ولو سلم فيكفي الإطلاق فإن قيل: السبيل حقيقة في الطريق الذي يمشي فيه, وهو غير مراد اتفاقا, وليس حمله على الطريق الذي اتفق عليه الأمة من قول أو فعل أو اعتقاد أولى من حمله على الدليل الذي اتبعوه قلنا: اتباع غير الدليل إن كان هو القياس داخل في مشاقة الرسول أي: مخالفة حكمه إذ القياس أيضا مستند إلى نص وحينئذ يلزم التكرار.
فإن قيل لو عم لزم اتباع المباحات, وإسناد الحكم إلى الدليل الذي أسند المؤمنون إجماعهم إليه قلنا خص ذلك للقطع بأنه لا يلزم المتابعة في المباح. وأن الاتباع هو الإتيان بمثل فعل الغير

(2/102)


ولا يمكن أيضا أن يكون سبيل المؤمنين أحكاما لا يدخل فيها ما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام إذ لو كان كذلك لكان ما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام غير سبيل المؤمنين فيكون اتباعه داخلا في الوعيد فيكون سبيل المؤمنين مجموعا مركبا مما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام ومن غيره فهذا الغير يكون واجب الاتباع, فإن شرط لكونه واجب الاتباع اتفاق الأمة حصل المطلوب, وإن لم يشرط فمع عدم الاتفاق إذا كان واجب الاتباع فمع تحقق الاتفاق أولى أن يكون واجب الاتباع. فإن قيل إن كان سبيل المؤمنين مركبا مما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام ومن غيره فما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام يكون غير سبيل المؤمنين فاتباعه يكون داخلا في الوعيد قلنا لا يكون غير سبيل المؤمنين; لأن جزء الشيء لا يصدق عليه أنه غيره كما لا يصدق عليه أنه عينه; لأن من له عشرة دراهم فقط يصدق أن يقول ليس لي غير عشرة دراهم مع أنه يملك أجزاء العشرة. واعلم أن هذا الاستدلال على أن الإجماع حجة ليس بقوي; لأنه يمكن أن يكون ما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام عين سبيل المؤمنين مع أنه لا يكون المعطوف عين المعطوف عليه; لأن مفهوم مشاقة الرسول عليه الصلاة والسلام غير مفهوم اتباع غير سبيل المؤمنين فهذه الغيرية كافية لصحة
.........................................................
لكونه فعل الغير لا لكونه مما ساق إليه الدليل مثلا إيمان المؤمنين بالله تعالى ونبوة موسى عليه الصلاة والسلام لا يعد اتباعا لليهود وذلك كما خص المؤمنون بالمجتهدين الموجودين في عصر فإن قيل يجوز أن يراد سبيل المؤمنين في متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام, أو مناصرته والاقتداء به, أو فيما صاروا به مؤمنين, وهو الإيمان به كيف وقد نزلت الآية في طعمة بن تصحاب حين سرق درعا وارتد ولحق بالمشركين. أجيب بأن العبرة للعمومات والإطلاقات دون خصوصيات الأسباب والاحتمالات, والثابت بالنصوص ما دلت عليه ظواهرها ولم يصرف عنه قرينة, وقد يقال: إن التمسك بالظواهر, ووجوب العمل بها إنما ثبت بالإجماع ولولاه لوجب العمل بالدلائل المانعة عن اتباع الظن, واعترض المصنف رحمه الله تعالى بأنه يجوز أن يكون سبيل المؤمنين ما أتى به الرسول عليه الصلاة والسلام ويكفي في صحة العطف تغاير المفهومين, وجوابه أنا لا نمنع ذلك من جهة أنه لا يصح العطف بل من جهة أن سبيل المؤمنين عام لا مخصص له بما ثبت إتيان الرسول عليه الصلاة والسلام مع أن حمل الكلام على الفائدة الجديدة أولى من حمله على التكرار, وتغاير المفهومين لا يدفع التكرار كما في قولنا اتبعوا القرآن, وكتاب الله تعالى, والتنزيل ونحو ذلك.
قوله "ولا يمكن أيضا أن يكون سبيل المؤمنين أحكاما لا يدخل فيها ما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام" هذا مما لا حاجة إليه في الاستدلال إذ على تقدير كونه غير ما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام لا يدخل اتباع ما أتى به النبي عليه الصلاة والسلام في الوعيد; لأن عطف اتباع غير سبيل المؤمنين على مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام, وإلحاق الوعيد بهما قرينة ظاهرة على أن اتباع ما أتى به وامتثال أوامره لا يدخل في الوعيد, وإن كان غير سبيل المؤمنين وعلى هذا لا حاجة إلى ما التزمه من أن جزء الشيء ليس غيره مع أنه أمر اتفق على بطلانه جمهور المتمسكين بهذه الآية على حجية الإجماع.

(2/103)


العطف كقوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} مع أن طاعة الرسول عين إطاعة الله تعالى في الوجود الخارجي لقوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} لكنه غيره بحسب المفهوم. "وقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} الآية والخيرية توجب الحقية فيما اجتمعوا; لأنه لو لم يكن حقا كان ضلالا لقوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} ولا شك أن الأمة الضالين لا يكونون خير الأمم على أنه قد وصفهم بقوله تعالى: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} فإذا اجتمعوا على الأمر بشيء يكون ذلك الشيء معروفا, وإذا نهوا عن الشيء يكون ذلك الشيء منكرا, فيكون إجماعهم حجة وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ} " والوساطة العدالة ومنه قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} وكل الفضائل منحصرة في التوسط بين الإفراط والتفريط, فإن رءوس الفضائل الحكمة, والعفة والشجاعة, والعدالة فالحكمة نتيجة تكميل القوة العقلية, وهي متوسطة بين الجربزة والغباوة, فتوسطه أن تنتهي القوة العقلية إلى حد يمكن للعقل الوصول إليه, ولا يتجاوز عن الحد الذي وجب أن يتوقف عليه, ولا يتعمق فيما ليس من شأنه التعمق كالتفكر في المتشابهات, والتفتيش في مسألة القضاء, والقدر, والشروع بمجرد العقل في المبدأ والمعاد كما هو دأب الفلاسفة. والعفة هي نتيجة تهذيب القوة الشهوانية, وهي متوسطة بين الخلاعة والجمود. والشجاعة نتيجة تهذيب القوة الغضبية, وهي متوسطة بين التهور والجبن, وإنما يحمد فيها التوسط; لأن النفس الحيوانية هي مركب للروح الإنسانية فلا بد من توسطها لئلا
.........................................................
"قوله وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} " أثبت لمجموع الأمة العدالة وهي تقتضي الثبات على الحق, والطريق المستقيم; لأن العدالة الحقيقة الثابتة بتعديل الله تعالى تنافي الكذب والميل إلى جانب الباطل, ولا خفاء في أنها ليست ثابتة لكل واحد من الأمة فتعين المجموع, وأيضا الشاهد حقيقة هو المخبر بالصدق, واللفظ مطلق يتناول الشهادة في الدنيا, والآخرة فيجب أن يكون قول الأمة حقا وصدقا ليختارهم الحكيم الخبير للشهادة على الناس.
قوله: "وكل الفضائل منحصرة في التوسط" تقدير هذا الكلام أن الخالق تعالى وتقدس قد ركب في الإنسان ثلاث قوى. إحداها مبدأ إدراك الحقائق والسوق إلى النظر في العواقب والتمييز بين المصالح والمفاسد, ويعبر عنها بالقوة النطقية والعقلية, والنفس المطمئنة, والملكية. والثانية: مبدأ جذب المنافع وطلب الملاذ من المآكل والمشارب وغير ذلك وتسمى القوة الشهوانية والبهيمية, والنفس الأمارة. والثالثة: مبدأ الإقدام على الأهوال والشوق إلى التسلط والترفع وهي القوة الغضبية والسبعية, والنفس اللوامة وتحدث من اعتدال الحركة للأولى الحكمة, وللثانية العفة, وللثالثة الشجاعة, فأمهات الفضائل هي هذه الثلاثة وما سوى ذلك إنما هو من تفريعاتها وتركيباتها, وكل منها محتوش بطرفي إفراط وتفريط هما رذيلتان. أما الحكمة فهي معرفة الحقائق على ما هي عليه بقدر الاستطاعة, وهي العلم النافع المعبر عنه بمعرفة النفس ما لها وما عليها المشار إليه بقوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}, وإفراطها الجربزة وهي استعمال الفكر

(2/104)


تضعف عن السير ولا تجمح بل تنقاد للروح, ثم التوسط في هذا المجموع أي: الحكمة والعفة والشجاعة هي العدالة فلهذا فسر الوساطة بالعدالة فالعدالة تقتضي الرسوخ على الصراط المستقيم, وتنفي الزيغ عن سواء السبيل. "وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تجتمع أمتي على الضلالة" وقوله عليه السلام: "ما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن" " هذه هي الأدلة المشهورة على أن الإجماع حجة فقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ} فقد عرفت ما عليه.
وأما غيره من الآيات فدلالته على أن اتفاق مجتهدي عصر واحد حجة ليست بقوية وما ذكر من أخبار الآحاد فبلوغ مجموعها إلى حد التواتر غير معلوم والإجماع دليل قاطع يكفر جاحده فيجب أن تكون الدلائل الدالة على أنه دليل قاطع قطعية الدلالة على هذا المدلول المطلوب فأنا أذكر ما سنح لخاطري فأقول القضايا المتفق عليها نوعان: أحدهما: ما اتفق عليه جميع الناس نحو العدل حسن, والظلم قبيح فهذا النوع يجب أن يكون يقينيا يضاهي المتواترات والمجربات; لأن الناس إذا اتفقوا على قضية فإن لم تكن ثابتة عندهم
.........................................................
فيما لا ينبغي كالمتشابهات وعلى وجه لا ينبغي كمخالفة الشرائع نعوذ بالله تعالى من علم لا ينفع, وتفريطها الغباوة التي هي تعطيل القوة الفكرية بالإرادة والوقوف عن اكتساب العلوم النافعة. وأما الشجاعة فهي انقياد السبعية للناطقية في الأمور ليكون إقدامها على حسب الروية من غير اضطراب في الأمور الهائلة حتى يكون فعلها جميلا, وصبرها محمودا, وإفراطها التهور أي: الإقدام على ما لا ينبغي, وتفريطها الجبن أي: الحذر عما لا ينبغي الحذر عنه, وأما العفة فهي انقياد البهيمية للناطقية ليكون تصرفاتها بحسب اقتضاء الناطقية ليسلم عن استعباد الهوى إياها واستخدام اللذات. وإفراطها الخلاعة, والفجور أي: الوقوع في ازدياد اللذات على ما يجب, وتفريطها الخمود أي: السكوت عن طلب اللذات بقدر ما رخص فيه العقل والشرع إيثارا لا خلقة فالأوساط فضائل, والأطراف رذائل, وإذا امتزجت الفضائل الثلاثة حصلت من امتزاجها حالة متشابهة هي العدالة, فبهذا الاعتبار عبر عن العدالة بالوساطة, وإليه أشير بقوله عليه الصلاة والسلام: "خير الأمور أوسطها", والحكمة في النفس البهيمية بقاء البدن الذي هو مركب النفس الناطقة لتصل بذلك إلى كمالها اللائق بها ومقصودها المتوجهة إليه. وفي السبعية كسر البهيمية وقهرها ودفع الفساد المتوقع من استيلائها, واشترط التوسط في أفعالهما لئلا تستبعد الناطقة في هواهما, وتصرفاتهما عن كمالها ومقصدها وقد مثل ذلك بفارس استردف سبعا وبهيمة للاصطياد فإن انقاد السبع, والبهيمة للفارس واستعملهما على ما ينبغي حصل مقصود الكل بوصول الفارس إلى الصيد, والسبع إلى الطعمة, والبهيمة إلى العلف, وإلا هلك الكل, فقوله: النفس الحيوانية أراد بها ما هو أعم من البهيمية والسبعية. وأما الكلام في أن هذه الثلاثة نفوس متعددة أم نفس واحدة مختلفة بالاعتبارات أم قوى, وكيفيات للنفس الإنسانية فموضعه علم آخر.
قوله: "وأما غيره من الآيات فدلالته على أن اتفاق مجتهدي عصر واحد حجة" قطعية ليست بقوية أما قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} الآية; فلأن الظاهر أن الخطاب

(2/105)


فتواطؤهم على الكذب مما يحيله العقل إذ لولا ذلك يلزم القدح في المتواترات, وإن كانت ثابتة عندهم فحكم العقل بها إن لم يتوقف على السمع فإن كان حكما واجبا على تقدير تصور الطرفين في نفس الأمر بديهة, أو كسبا فهو المطلوب, وإن كان واجبا في اعتقادهم إلا أنه خطأ فوقوع الخطأ بحيث لم يتنبه عليه أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والحكماء والعلماء وغيرهم في الأزمنة المتطاولة يوجب أن لا اعتماد على العقل أصلا, وأيضا الحكم الضروري ليس معناه إلا أنه ما يقع في العقول, وإن لم يكن واجبا أصلا بل وقع اتفاقا والاتفاقي لا يكثر, ولولا ذلك للزم القدح في المجربات, وإن توقف على السمع فإن حكم العقل بوجوب على قبوله بأن يحكم بامتناع الكذب من قائله فهو المطلوب, وإن لم يحكم فاتفاق الجمهور على قبوله من غير وجوب باطل لما مر. فإن قلت لم لا يجوز أن واحدا من أهل الشوكة حكم به واتبعه متابعوه ثم بعد ذلك اتبعهم الناس كما نشاهده من الرسوم والعادات؟ قلت: كلامنا فيما يعتقده الناس أنه حسن أو قبيح عند الله فلا يرد ذلك على أن الأنبياء وأهل الحق لم يخافوا أن يعنتهم الناس على ترك الرسوم بل رفضوها وهم قد اعتقدوا ما نحن بصدده, وأيضا مثل ذلك الاحتمال يرد على المتواترات الماضية ولم يقدح فيها. والثاني: ما اتفق عليه المجتهدون من أمة محمد عليه الصلاة والسلام في عصر على أمر فهذا من خواص أمة محمد عليه الصلاة والسلام فإنه خاتم النبيين فلا وحي بعده, وقد قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}
.........................................................
للصحابة على ما يشعر به قوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً}, وأن الضلال في بعض الأحكام بناء على الخطأ في الاجتهاد بعد بذل الوسع لا ينافي كون المؤمنين العاملين بالشرائع الممتثلين للأوامر خير الأمم; ولأن المعروف والمنكر ليسا على العموم إذ رب منكر لم ينهوا عنه لعدم الاطلاع عليه; ولأن المعروف والمنكر بحسب الرأي, والاجتهاد لا يلزم أن يكونا كذلك في الواقع, وبعد تسليم جميع ذلك لا دلالة له قطعا على قطعية إجماع المجتهدين من عصر. وأما قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} الآية فلأن العدالة لا تنافي الخطأ في الاجتهاد إذ لا فسق فيه بل هو مأجور; ولأن المراد كونهم وسطا بالنسبة إلى سائر الأمم; ولأنه لا معنى لعدالة المجموع بعد القطع بعدم عدالة كل من الأحاد, وبعد التسليم لا دلالة على قطعية إجماع المجتهدين في عصر.
قوله: "وما ذكر من الأخبار" قد يستدل على حجية الإجماع بأن الأخبار في عصمة الأمة عن الخطأ مع اختلاف العبارات, وكون كل منها خبرا واحدا قد تظاهرت حتى صارت متواترة المعنى بمنزلة شجاعة علي رضي الله عنه وجود حاتم فأجاب بأن بلوغ مجموعها حد التواتر غير معلوم ولا يخفى أن مثل هذا يرد على كل ما ادعي تواتر معناه.

(2/106)


ولا شك أن الأحكام التي تثبت بصريح الوحي بالنسبة إلى الحوادث الواقعة قليلة غاية القلة فلو لم يعلم أحكام تلك الحوادث من الوحي الصريح وبقيت أحكامها مهملة لا يكون الدين كاملا فلا بد من أن يكون للمجتهدين ولاية استنباط أحكامها من الوحي, فإن استنبط المجتهدون في عصر حكما, واتفقوا عليه يجب على أهل ذلك العصر قبوله فاتفاقهم صار بينة على ذلك الحكم فلا يجوز بعد ذلك مخالفتهم لقوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} وقوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} وأيضا قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} الآية. يدل على وجوب اتباع كل قوم طائفته المتفقهة فإن اتفق الطوائف على حكم لم يوجد فيه وحي صريح وأمروا أقوامهم به يجب قبوله فاتفاقهم صار بينة على الحكم فلا يجوز المخالفة بعد ذلك; لما ذكرنا. وأيضا قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} فأولوا الأمر إن كانوا هم المجتهدين فإذا اتفقوا على أمر لم يوجد فيه صريح الوحي يجب إطاعتهم, وإن
.........................................................
قوله: "فأنا أذكر" قد ذكر المصنف رحمه الله مما سنح له قطعية الإجماع ستة أوجه. حاصل الأول: أن الله تعالى حكم بإكماله دين الإسلام, فيجب أن لا يكون شيء من أحكامه مهملا ولا شك أن كثيرا من الحوادث مما لم يبين بصريح الوحي, فيجب أن يكون مندرجا تحت الوحي بحيث لا يصل إليه كل أحد, وحينئذ إما أن لا يمكن للأمة استنباطه وهو باطل إذ لا فائدة في الإدراج أو يمكن لغير المجتهدين منهم خاصة, وهو باطل بالضرورة فتعين استنباطه للمجتهدين وحينئذ إما أن يستنبطه قطعا ويقينا كل مجتهد وهو أيضا باطل لما بينهم من الاختلاف, أو جميع المجتهدين إلى يوم القيامة, وهو أيضا باطل لعدم الفائدة فتعين استنباط جمع من جميع المجتهدين, ولا دلالة على تعيين عدد معين من الأعصار, فيجب أن يعتبر عصر واحد وحينئذ لا ترجيح للبعض على البعض فتعين اعتبار جميع المجتهدين في عصر واحد فيكون اتفاقهم بيانا للحكم وبينة عليه فيجب اتباعه للآيات الدالة على وجوب اتباع البينة هذا غاية تقرير هذا الكلام. ولقائل أن يقول: وجوب الاتباع لا يستلزم القطع, وأيضا ما ذكر لا يدل على حجية إجماع مجتهدي كل عصر لجواز أن يكون الحكم المندرج في الوحي مما يطلع عليه واحد أو جماعة من المجتهدين في عصر آخر قبله أو بعده, وأيضا إكمال الدين هو التنصيص على قواعد العقائد, والتوقيف على أصول الشرائع, وقوانين الاجتهاد لإدراج حكم كل حادثة في القرآن والمصنف رحمه الله تعالى جعل القضايا المتفق عليها نوعين: أحدهما: ما اتفق عليه جميع الناس. والثاني: ما اتفق عليه المجتهدون من أمة محمد عليه الصلاة والسلام في عصر, وظاهر أنها لا تنحصر في ذلك; لأن ما لم يتفق عليها جميع الناس بل بعضهم أقسام كثيرة لا يدخل تحت الحصر ثم ذكر في النوع الأول تطويلا وتفصيلا لا دخل له في المقصود إلا بيان أن ما اتفق عليه المجتهدون في عصر يجب على ذلك العصر قبوله كما أن المتفق عليها بين الجميع يجب قبولها, وثبوتها في نفس الأمر بمنزلة المتواترات والمجربات.

(2/107)


كانوا هم الحكام فإن لم يكونوا مجتهدين, ولم يعلموا الحكم المذكور يجب عليهم السؤال من أهل العلم والاجتهاد لقوله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فإذا سألوهم واتفقوا على الجواب يجب القبول, وإلا لم يكن في السؤال فائدة فيجب على الناس الإطاعة في ذلك العصر وكذا بعده لما مر وأيضا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} يدل على أنه لا يلقي في قلوب قوم هم العلماء المهديون خلاف الحق; لكونه ضلالا لقوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} وأيضا قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} يدل على أن النفس المزكاة يلهمها الله الخير لا الشر لا سيما عند الاجتماع, والنفس المزكاة هي المشرفة بالعلم والعمل.
وأيضا العلماء إذا قالوا: أن الإجماع حجة قطعية مع اتفاقهم على أن الحكم لا يكون
.........................................................
قوله: "وأيضا قوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ} " الآية لقائل أن يقول: هذا لا يفيد إلا كون ما اتفق عليه طوائف الفقهاء حجة على غير الفقهاء, والكلام في كونه حجة على المجتهدين حتى لا يسعهم مخالفته, وأيضا وجوب العمل لا يستلزم القطع, وكذا الكلام في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} على أنه لو صح ما ذكره لزم أن يكون قول مجتهد واحد في عصر لا مجتهد فيه غيره حجة قطعية لكونه بينة على الحكم في ذلك العصر.
قوله: "وأيضا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً} " الآية لقائل أن يقول: المراد عدم الإضلال بالإلجاء إلى الكفر بعد الهداية إلى الإيمان إذ كثيرا ما يقع الخطأ لجماعات العلماء, وأيضا هذا لا ينفي وقوع الضلال والذهاب إلى غير الحق من النفس أو من الشيطان, وإنما ينفي وقوع الإضلال من الله تعالى, وأيضا لو أجري على ظاهره لزم أن لا يخطأ جماعة من العلماء قط ولا دلالة على تعيين جميع المجتهدين في عصر.
قوله: "وأيضا قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} " الآية الواو للقسم, ومعنى تنكير نفس التكثير, وقيل: المراد نفس آدم عليه السلام ومعنى إلهام الفجور والتقوى إفهامها, وتعريف حالها والتمكين من الإتيان بهما, ومعنى تزكيتها إنماؤها بالعلم والعمل, ومعنى تدسيتها نقضها, وإخفاؤها بالجهالة والفسوق وليس معنى إلهام الفجور والتقوى أن يعلم كل خير وشر ولا اختصاص لذلك بالنفس المزكاة فكيف بجميع المجتهدين من أمة محمد عليه الصلاة والسلام في عصر. والعجب من المصنف رحمه الله تعالى كيف رد استدلالات القوم بأنها ليست قطعية الدلالة على كون الإجماع حجة قطعية, وأورد مما سنح له ما لا دلالة فيه على المطلوب بوجه من الوجوه, وإلحاق هذه الوجوه بالكتاب مما اتفق له في آخر عهده ولا يوجد في النسخ القديمة, وقد يقال: إن مراده الاستدلال بمجموع الآيات المذكورة لا بكل واحد وذلك مع أنه خلاف ظاهر كلامه ليس بمستقيم إذ لا دلالة للمجموع أيضا قطعا.
قوله: "وأيضا العلماء" استدلال جيد إلا أن حاصله راجع إلى ما سبق من أن الأحاديث الدالة

(2/108)