شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه ط العلمية الركن الرابع:
في القياس
مدخل
...
الركن الرابع: في القياس
وهو تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع بعلة متحدة لا تدرك
بمجرد اللغة.
ـــــــ
قطعيا إلا وأن يكون الدليل الدال عليه قطعيا فإخبارهم
الإجماع حجة قطعية إخبار بأن قد وصلوا إلى دليل دال على
أنه حجة قطعية إذ لولا ذلك لا يكون كلامهم إلا كاذبا,
والقائلون بهذا القول العلماء العاملون المجتهدون الكثيرون
غاية الكثرة بحيث لا يمكن تواطؤهم على الكذب, وذلك الدليل
لا يكون قياسا; لأنه لا يفيد القطعية عندهم ولا الإجماع
للدور بقي الدليل الذي هو الوحي فصار كأن كل واحد قال أنه
وصل إلي من الكتاب أو السنة ما يدل على أنه حجة قطعية,
وإذا قالوا هذا القول كان الدليل على أنه حجة وحيا
متواترا, على أن الإجماع الذي ندعي أنه حجة أخص الإجماعات
فإن قوما قالوا: إجماع أهل المدينة حجة وقوما قالوا: إجماع
العترة حجة, ونحن لا نكتفي بهذا بل نقول لا بد من اتفاق
جميع المجتهدين حتى يدخل فيهم العترة وأهل المدينة فأدلتهم
تدل على مطلوبنا والأحاديث كثيرة في هذا المطلوب كقوله
عليه السلام: "يد الله مع الجماعة" 1 وقوله عليه السلام:
"من خالف الجماعة قدر شبر فقد مات ميتة جاهلية" وقوله عليه
السلام: "عليكم بالسواد الأعظم" 2 فالغرض من هذا أن الأدلة
الدالة على أنه حجة قد وصلت إلى العلماء بحيث توجب العلم
اليقيني.
ثم الإجماع على مراتب: إجماع الصحابة ثم إجماع من بعدهم
فيما لم يرو فيه خلاف الصحابة ثم إجماعهم فيما روي خلافهم
فهذا إجماع مختلف فيه وفي مثل هذا الإجماع
.........................................................
على حجية الإجماع متواترة المعنى والمصنف رحمه الله تعالى
قد منع ذلك ثم لما كان هذا مظنة أن يقال: إن العلماء لم
يتفقوا على ذلك بحيث يمتنع تواطؤهم على الكذب; لأن منهم من
خالف, وزعم أن الحجة إنما هو إجماع أهل المدينة أو إجماع
العترة أجاب بأن ما ندعي كونه حجة أخص الإجماعات; لأنه
إجماع جميع المجتهدين في عصر فيدخل فيهم المجتهدون من أهل
المدينة, والعترة بخلاف إجماع أهل المدينة أو العترة فإنه
لا يستلزم إجماع الكل, وفيه نظر; لأنه قد لا يوجد في العصر
مجتهد من العترة أو لا يطلع عليه كما في القرن الثالث, وما
بعده فلا يكون أخص, ولا تدل أدلتهم على مطلوبنا; لأن
دليلهم هو اشتمال إجماع العترة على قول الإمام المعصوم بل
الجواب أن المراد اتفاق علماء السنة, والجماعة, وإلا فقد
خالف كثير من أهل الهوى, والبدع.
قوله: "ثم الإجماع على مراتب" فالأولى بمنزلة الآية والخبر
المتواتر يكفر جاحده. والثانية بمنزلة الخبر المشهور يضلل
جاحده. والثالثة: لا يضلل جاحده لما فيه من الاختلاف.
ـــــــ
1 رواه الترمذي في كتب الفتن باب 7. النسائي في كتاب
التحريم باب 6.
2 رواه ابن ماجه في كتاب الفتن باب 8. أحمد في مسنده
4/278.
(2/109)
يجوز التبديل
في عصر واحد, وفي عصرين والإجماع الذي ثبت ثم رجع واحد
منهم إجماع مختلف فيه أيضا.
وأما الخامس ففي السند والناقل يجوز أن يكون سند الإجماع
خبر الواحد أو القياس عندنا وعند البعض لا بد من قطعي قلنا
يكون الإجماع لغوا حينئذ وكونه حجة ليس من قبل دليل بل
لعينه كرامة لهذه الأمة, وأما الناقل فكما ذكرنا في نقل
السنة.
"الركن الرابع" في القياس, وهو "تعدية الحكم من الأصل إلى
الفرع بعلة متحدة لا تدرك بمجرد اللغة" أي: إثبات حكم مثل
حكم الأصل في الفرع, والمراد بالأصل المقيس عليه والفرع
المقيس, وقد قيل عليه إن التعدية توجب أن لا يبقى الحكم في
الأصل وهذا باطل; لأن التعدية في اصطلاح الفقهاء المعنى
الذي ذكرنا, وأيضا لا تشعر بعدم بقائه في الأصل بل تشعر
ببقائه في الأصل في وضعها اللغوي ألا يرى أن تعدية الفعل
هي أن لا يقتصر على التعلق بالفاعل بل يتعلق بالمفعول أيضا
كما هو متعلق بالفاعل. فالمراد هنا أن لا يقتصر ذلك النوع
من الحكم على الأصل بل يثبت في الفرع أيضا, ولا حاجة إلى
أن يقال تعدية الحكم المتحد; لأن التعدية لا تمكن إلا وأن
يكون الحكم متحدا من حيث النوع, وإنما الاختلاف يكون
باعتبار المحل. وقوله لا تدرك بمجرد اللغة احتراز عن دلالة
النص, وذكر هذا القيد واجب لاتفاق العلماء على الفرق بين
دلالة النص والقياس.
.........................................................
قوله: "وفي مثل هذا الإجماع يجوز التبديل" ذهب فخر الإسلام
رحمه الله تعالى إلى أنه يجوز نسخ الإجماع بالإجماع, وإن
كان قطعيا حتى لو أجمع الصحابة على حكم ثم أجمعوا على
خلافه جاز, والمختار عند الجمهور هو التفصيل على ما أشار
إليه المصنف رحمه الله تعالى وهو أن الإجماع القطعي المتفق
عليه لا يجوز تبديله وهو المراد بما سبق من أن الإجماع لا
ينسخ ولا ينسخ به, والمختلف فيه يجوز تبديله كما إذا أجمع
القرن الثاني على حكم يروى فيه خلاف من الصحابة ثم أجمعوا
بأنفسهم, أو أجمع من بعدهم على خلافه فإنه يجوز لجواز أن
تنتهي مدة الحكم الثابت بالإجماع فيوفق الله تعالى أهل
الإجماع للإجماع على خلافه. وما يقال إن انقطاع الوحي يوجب
امتناع النسخ فمختص بما يتوقف على الوحي, والإجماع ليس
كذلك والمصنف رحمه الله تعالى قد تحاشى عن إطلاق لفظ النسخ
إلى لفظ التبديل محافظة على ظاهر كلام القوم على أن
الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به.
قوله: "وأما الخامس ففي السند والناقل" جمعهما في بحث
واحد; لأنهما سبب. فالأول سبب ثبوت الإجماع. والثاني سبب
ظهوره, والجمهور على أنه لا يجوز الإجماع إلا عن سند من
دليل أو أمارة; لأن عدم السند يستلزم الخطأ إذ الحكم في
الدين بلا دليل خطأ ويمتنع إجماع الأمة على الخطأ, وأيضا
اتفاق الكل من غير داع يستحيل عادة كالإجماع على أكل طعام
واحد. وفائدة الإجماع بعد وجود السند سقوط البحث, وحرمة
المخالفة, وصيرورة الحكم قطعيا ثم اختلفوا في السند فذهب
الجمهور إلى أنه يجوز أن يكون قياسا, وأنه وقع كالإجماع
على خلافة أبي بكر قياسا على إمامته في الصلاة حتى قيل
رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر ديننا أفلا نرضاه
لأمر دنيانا. وذهب الشيعة وداود الظاهري ومحمد بن جرير
الطبري إلى المنع من ذلك. وأما جواز كونه خبر واحد
(2/110)
بعض أصحابنا
جعلوا العلة ركن القياس والتعدية حكمه فالقياس تبين أن
العلة في الأصل هذا ليثبت الحكم في الفرع وهو يفيد غلبة
الظن بأن الحكم هذا إلا أنه مثبت له ابتداء.
ـــــــ
"وبعض أصحابنا جعلوا العلة ركن القياس والتعدية حكمه
فالقياس تبيين أن العلة في الأصل هذا ليثبت الحكم في
الفرع". ذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن العلة ركن
القياس والتعدية حكمه فالركن ما يتقوم به الشيء والحكم هو
الأثر الثابت بالشيء, والمراد أن الشيء الذي يتقوم به
ويتحقق به القياس هو العلة أي: العلم بالعلة ثم التعدية هي
أثر القياس, فالقياس هو تبيين أن العلة في الأصل هذا الشيء
ليثبت الحكم في الفرع فإثبات الحكم في الفرع وهو التعدية
نتيجة القياس والغرض منه. وإنما قلنا ليثبت الحكم في الفرع
حتى لو علل بالعلة القاصرة كما هو مذهب الشافعي رحمه الله
لا يكون هذا التعليل قياسا, وهذا أحسن من جعل القياس
تعدية, وإثباتا للحكم في الفرع; لأن إثبات الحكم في الفرع
معلل
.........................................................
فمتفق عليه كذا في عامة الكتب وقد وقع في الميزان, وأصول
شمس الأئمة أن المذكورين خالفوا في الظني قياسا كان أو خبر
واحد ولم يجوزوا الإجماع إلا على قطعي; لأنه قطعي فلا
يبتنى إلا على قطعي; لأن الظن لا يفيد القطع. وجوابه أن
كون الإجماع حجة ليس مبنيا على دليل أي: سنده بل هو حجة
لذاته كرامة لهذه الأمة, واستدامة لأحكام الشرع, والدليل
على بطلان مذهبهم أنه لو اشترط كون السند قطعيا لوقع
الإجماع لغوا ضرورة ثبوت الحكم قطعا بالدليل القطعي. فإن
قيل هذا يقتضي أن لا يجوز الإجماع عن قطعي أصلا لوقوعه
لغوا. قلنا المراد أنه لو اشترط كون السند قطعيا لكان
الإجماع الذي هو أحد الأدلة لغوا بمعنى أنه لا يثبت حكما
ولا يوجب أمرا مقصودا في شيء من الصور إذ التأكيد ليس
بمقصود أصلي بخلاف ما إذا لم يشترط, فإن السند إذا كان
ظنيا فهو يفيد إثبات الحكم بطريق القطع, وإذا كان قطعيا
فهو يفيد التأكيد كما في النصوص المتعاضدة على حكم واحد,
فلا يكون لغوا بين الأدلة, وعلم أنه لا معنى للنزاع في
جواز كون السند قطعيا; لأنه إن أريد أنه لا يقع اتفاق
مجتهدي عصر على حكم ثابت بدليل قطعي فظاهر البطلان, وكذا
إن أريد أنه لا يسمى إجماعا; لأن الحد صادق عليه, وإن أريد
أنه لا يثبت الحكم فلا يتصور فيه نزاع; لأن إثبات الثابت
محال.
قوله: "وأما الناقل" نقل الإجماع إلينا قد يكون بالتواتر
فيفيد القطع وقد يكون بالشهرة فيقرب منه وقد يكون بخبر
الواحد فيفيد الظن, ويوجب العمل لوجوب اتباع الظن بالدلائل
المذكورة. قال الإمام الغزالي: وجوب العمل بخبر الواحد ثبت
إجماعا وذلك فيما نقل عن النبي عليه الصلاة والسلام, وأما
فيما نقل عن الأمة من الإجماع فلم يدل على وجوب العمل به
نص, ولا إجماع, ولم يثبت صحة القياس في إثبات أصول الشريعة
هذا هو الأظهر ولسنا نقطع ببطلان من يتمسك به في حق العمل,
واستدل بأن نقل الظني مع تخلل الواسطة بين الناقل والنبي
عليه الصلاة والسلام يوجب العمل فنقل القطع أولى, وأجيب
بأن خبر الواحد إنما يكون ظنيا بواسطة شبهة في
(2/111)
بالقياس,
والعلة لا بد وأن تكون خارجة عن المعلول, وعلة إثبات الحكم
في الفرع ليست إلا الحكم بالمساواة بين الأصل والفرع في
العلة لتثبت المساواة بينهما في الحكم.
"وهو يفيد غلبة الظن بأن الحكم هذا إلا أنه مثبت له
ابتداء" أي: القياس يفيد غلبة ظننا بأن حكم الله في صورة
الفرع هذا فما ذكرنا من إثبات الحكم, فالمراد به هذا
المعنى لا أن القياس مثبت للحكم ابتداء; لأن مثبت الحكم هو
الله تعالى, وهذا ما قالوا: إن القياس مظهر للحكم لا مثبت.
.........................................................
الناقل, وإلا فهو في الأصل قطعي كالإجماع بل أولى إذ لا
شبهة لأحد في أن الخبر المسموع عن النبي عليه الصلاة
والسلام حجة قطعا.
قوله: "الركن الرابع في القياس" هو في اللغة: التقدير
والمساواة يقال قست النعل بالنعل أي: قدرتها بها وفلان لا
يقاس بفلان أي: لا يساوى وقد تعدى بعلى بتضمين معنى
الابتناء كقولهم قاس الشيء على الشيء, وفي الشرع: مساواة
الفرع للأصل في علة حكمه, وذلك أنه من أدلة الأحكام فلا بد
من حكم مطلوب به, وله محل ضرورة, والمقصود إثبات ذلك الحكم
في ذلك المحل لثبوته في محل آخر يقاس هذا به, فكان هذا
فرعا وذلك أصلا لاحتياجه إليه, وابتنائه عليه, ولا يمكن
ذلك في كل شيئين بل إذا كان بينهما أمر مشترك يوجب
الاشتراك في الحكم, ويسمى علة الحكم ولا بد من ثبوت مثلها
في الفرع إذ ثبوت عينها فيه محال; لأن المعنى الشخصي لا
يقوم بمحلين, وبذلك يحصل الظن مثل الحكم في الفرع وهو
المطلوب. وقد وقع في عبارة القوم أنه تعدية الحكم من الأصل
إلى الفرع بعلة متحدة واعترض عليه بأنه منقوض بدلالة النص
بأنه لا معنى لتعدية الحكم لاستحالة الانتقال على الأوصاف
ولو سلم فيلزم عدم بقاء الحكم في الأصل لانتقاله عنه, ولو
سلم فالثابت في الفرع لا يكون حكم الأصل بل مثله ضرورة
تعدد الأوصاف بتعدد المحال فالمصنف رحمه الله تعالى زاد
تقييد العلة بما لا يدرك بمجرد اللغة احترازا عن دلالة
النص وفسر تعدية حكم الأصل بإثبات حكم مثل حكم الأصل في
الفرع, وبهذا خرج الجواب عن الاعتراضات المذكورة إلا أنه
تعرض لبعضها على التفصيل على ما سيشير إليه.
قوله: "والمراد بالأصل المقيس عليه" فإن قلت تفسير الأصل
والفرع بالمقيس عليه, والمقيس يستلزم الدور لتوقف معرفتهما
على معرفة القياس قلت ليس هذا تفسيرا للأصل والفرع بل
بيانا لما صدقا عليه أي: المراد بالأصل المحل الذي يسمى
مقيسا عليه لا نفس الحكم, ولا دليله على ما وقع عليه
اصطلاح البعض, وكذا في الفرع مثلا إذا قسنا الذرة على البر
في حرمة الربا فالأصل هو البر, والفرع هو الذرة لابتنائها
عليه في الحكم, لا يقال فيخرج عن التعريف قياس المعدوم على
المعدوم; لأن الأصل ما يبتنى عليه غيره, والفرع ما يبتنى
على غيره, والمعدوم ليس بشيء; لأننا نقول لفظه ما عبارة
عما هو أعم من الموجود, والمعدوم أعني: المعلوم ولو سلم
فالوجود في الذهن كاف في الشيئية.
قوله: "بل تشعر ببقائه في الأصل" فيه بحث; لأن معنى
التعدية في اللغة جعل الشيء متجاوزا عن الشيء ومتباعدا
عنه, ولا يخفى أن التعدية في اصطلاح التصريف مجاز أو
منقول, وأنه لا حاجة
(2/112)
وأصحاب الظواهر
نفوه فبعضهم على أن العبرة للعقل أصلاً وبعضهم على أن لا
عبرة في الشرعيات لهم قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ
الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} وقوله
ـــــــ
"وأصحاب الظواهر نفوه فبعضهم على أن لا عبرة للعقل أصلا,
وبعضهم على أن لا
.........................................................
إلى هذا الاعتذار بعد تفسير التعدية بإثبات مثل الحكم على
ما سبق, ولا إلى الاعتذار عن ترك قيد المتحد بأنه لا يمكن
تعدية الحكم إلا إذا كان متحدا بالنوع وذلك; لأنه مبني على
أن تكون التعدية حقيقة هاهنا, وهذا باطل إذ لا يتصور
التعدية في الأحكام, والانتقال على الأوصاف.
قوله: "وبعض أصحابنا" ذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن
ركن القياس ما جعل علما على حكم النص مما اشتمل عليه النص,
وجعل الفرع نظيرا له في حكمه; لوجوده فيه وقال: أما الحكم
الثابت بتعليل النصوص فتعدية حكم النص إلى ما لا نص فيه
ليثبت فيه بغالب الرأي على احتمال الخطأ وهذا صريح في أن
العلة ركن والتعدية حكم, وفيه إشارة إلى أن القياس هو
التعليل أي: تبيين أن العلة في الأصل هذا ليثبت الحكم في
الفرع فذهب المصنف رحمه الله تعالى إلى أن مراده أن العلم
بالعلة ركن القياس أي: ما يتقوم به ويتحصل. وهذا يحتمل
وجهين: أحدهما: أن يراد بالركن نفس ماهية الشيء على ما
أشار إليه في الميزان من أن ركن القياس هو الوصف الصالح
المؤثر, وما سواه مما يتوقف عليه إثبات الحكم شرائط لا
أركان. وثانيهما: وهو الأظهر أن يراد بالركن جزء الشيء على
ما ذهب إليه بعض المحققين من أن أركان القياس أربعة:
الأصل, والفرع وحكم الأصل, والوصف الجامع. وأما حكم الفرع
فثمرة القياس لتوقفه عليه لكن لا يخفى أنه لا حاجة على هذا
التقدير إلى ما ذكره من أن المراد بالعلة العلم بالعلة;
لأن نفس هذه الأمور الأربعة مما يتوقف عليه تحقق القياس
ووجوده في نفسه فإن قيل: قد ذكر فخر الإسلام رحمه الله
تعالى أن من جملة شروط القياس تعدي الحكم الشرعي الثابت
بالنص بعينه إلى فرع هو نظيره, ولا نص فيه وشرط الشيء
متقدم عليه فكيف يكون أثرا له؟ أجيب بأن المراد أن يكون
التعدية حكم القياس, وأثره شرط أو أن التعدية شرط للعلم
بصحة القياس لا للقياس نفسه.
قوله: "وهذا أحسن من جعل القياس تعدية" هذا ظاهر على
تفسيره التعدية بإثبات الحكم في الفرع إذ يصح أن يقال دليل
إثبات حرمة الربا في الذرة هو القياس ولا يصح أن يقال هو
إثبات حرمة الربا فيه.
قوله: "لأن مثبت الحكم هو الله تعالى" غير واف بالمقصود;
لأنه ينبغي على هذا التقدير أن يجعل شيء من الأدلة مثبتا
للحكم بل يجعل مظهرا على ما ذهب إليه المحققون من أن مرجع
الكل إلى الكلام النفسي والأوجه ما سبق من أن حكم الفرع
يثبت بالنص أو الإجماع الوارد في الأصل, والقياس بيان
لعموم الحكم في الفرع وعدم اختصاصه بالأصل, وهذا أوضح ثم
الأظهر أن تفسر التعدية بالإبانة والإظهار على ما ذكره
الشيخ أبو منصور رحمه الله تعالى أن القياس إبانة مثل حكم
أحد المذكورين بمثل علته في الآخر.
قوله: "وأصحاب الظواهر نفوه" أي: القياس بمعنى أنه ليس
للعقل حمل النظير على النظير في
(2/113)
تعالى: {وَلا
رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} وقوله
عليه السلام: "فقاسوا ما لم يكن بما قد كان فضلوا وأضلوا"
ولأن العمل بالأصل ممكن وقد دعينا إليه قال الله تعالى:
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} ولأن
الحكم حق الشارع، وهو قادر على البيان القطعي فلم يجز
إثباته بما فيه شبهة، وهو تصرف في حقه تعالى؛ ولأنه طاعة
الله تعالى ولا مدخل للعقل في دركها بخلاف أمر الحرب وقيم
المتلفات ونحوهما فإن العمل بالأصل لا
ـــــــ
عبرة له في الشرعيات لهم قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا
عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} " ولما
كان الكتاب تبيانا لكل شيء يكون كل الأحكام مستفادة من
الكتاب, والقياس إنما يكون حجة فيما لا يوجد في الكتاب.
"وقوله تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي
كِتَابٍ مُبِينٍ} " إن كان المراد بالكتاب اللوح المحفوظ
فلا تمسك لهم حينئذ, وإن كان المراد القرآن فالتمسك به كما
.........................................................
الأحكام الشرعية ولا في غيرها من العقليات والأصول
الدينية, وإليه ذهب بعض الخوارج أو بمعنى أنه ليس للعقل
ذلك في الأحكام الشرعية خاصة إما لامتناعه عقلا, وإليه ذهب
بعض الشيعة والنظام, وإما لامتناعه سمعا, وإليه ذهب داود
الأصفهاني رحمه الله تعالى, والمذكور في الكتاب أدلة
المذهب الأخير, ولم يتعرض للأولين; لأنا قاطعون بأن الشارع
لو قال: إذا وجدت مساواة فرع لأصل في علة حكمه, فأثبت فيه
مثل حكمه, واعمل به لم يلزم منه محال لا لنفسه ولا لغيره,
ثم اختلف القائلون بعدم امتناع القياس فقيل هو واجب عقلا
لئلا تخلو الوقائع عن الأحكام إذ النص لا يفي بالحوادث
الغير المتناهية. وجوابه: أن أجناس الأحكام, وكلياتها
متناهية يجوز التنصيص عليها بالعمومات, والجمهور على أنه
جائز ثم اختلفوا فذهب النهرواني والقاشاني إلى أنه ليس
بواقع, والجمهور على أنه واقع ثم اختلفوا في ثبوته. فقيل:
بالعقل. وقيل: بالسمع ثم اختلف القائلون بالسمع فقيل بدليل
ظني, وقيل قطعي وبه يشعر كلام المصنف رحمه الله حيث استدل
عليه بدلالة نص الكتاب وبالسنة المشهورة وبالإجماع.
قوله: "المراد بالكتاب اللوح" عن ابن عباس رضي الله عنه هو
لوح من درة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض وعرضه ما بين
المشرق والمغرب وعند الحكماء هو العقل الفعال المنتقش
بصورة الكائنات على ما هي عليه منه تنطبع العلوم في عقول
الناس, وقيل: هو علم الله تعالى. وعلى هذا لا استدلال ولو
كان المراد بالكتاب المبين هو القرآن فلا استدلال أيضا على
القراءة المشهورة; لأن قوله تعالى: {وَلا حَبَّةٍ فِي
ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} الآية
مجرور معطوف على ورقة في قوله تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ
وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا} أي: ما يسقط من رطب ولا يابس
وفسره ابن عباس رضي الله تعالى عنه بمنبت وغير منبت ولا
معنى حينئذ للتعميم المراد في مثل قولهم ما ترك فلان من
رطب ولا يابس إلا جمعه نعم لو حمل قراءة الرفع على
الابتداء دون العطف على محل من ورقة لكان فيه تمسك يحتاج
إلى ما ذكر من الجواب. وهو أن كل شيء فرض فهو كائن في
القرآن معنى, وإن لم يكن فيه لفظا على ما ذكر في قوله
تعالى: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} فحكم المقيس مذكور فيه
معنى, وهو لا ينافي كون القياس مظهرا
(2/114)
يمكن هنا، وهي
من حقوق العباد وهي تدرك بالحس أو العقل أو بالسفر أو
بمحاذاة الكواكب ونحوهما، والاعتبار محمول على الاتعاظ
بالقرون الخالية وقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي
الْأَمْرِ} محمول على الحرب ولنا قوله تعالى:
{فَاعْتَبِرُوا} فيدل على الاتعاظ عبارة وعلى القياس إشارة
سلمنا أن الاعتبار
ـــــــ
ذكرنا في قوله تعالى: {تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ}. "وقوله
عليه السلام: "فقاسوا ما لم يكن بما قد كان فضلوا وأضلوا""
لفظ الحديث هكذا "لم يزل أمر بني إسرائيل مستقيما حتى كثرت
فيهم أولاد السبايا فقاسوا" إلخ. "ولأن العمل بالأصل ممكن
وقد دعينا إليه قال الله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا
أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً}" أي: دعينا إلى العمل بالأصل,
وهو الإباحة, والبراءة الأصلية, وإنما دعينا إليه بقوله
تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ
مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ
مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} الآية, وكل ما لا يوجد في
كتاب الله تعالى محرما لا يكون محرما بل يكون باقيا على
الإباحة الأصلية. "ولأن الحكم حق الشارع, وهو قادر على
البيان القطعي فلم يجز إثباته بما فيه شبهة, وهو تصرف"
الضمير يرجع إلى الإثبات أي: إثبات الحكم المذكور. "في حقه
تعالى; ولأنه طاعة الله تعالى" أي: الحكم الشرعي طاعة
الله, والمراد بالحكم هنا المحكوم به. "ولا مدخل للعقل في
دركها" كالمقدرات مثل أعداد الركعات, وسائر المقادير
الشرعية التي لا مدخل للعقل في دركها. "بخلاف أمر الحرب
وقيم المتلفات ونحوهما فإن العمل بالأصل لا يمكن هنا, وهي
من حقوق العباد وهي تدرك بالحس أو العقل" فقوله بخلاف أمر
الحرب جواب عن سؤال مقدر هو أن هذه الأشياء يصح فيها
القياس والعمل بالرأي اتفاقا فصح ثبوت بعض الأحكام بالقياس
فأجاب بالفرق المذكور. "وكذا أمر القبلة" أي: يدرك بالحس
أو العقل أو بالسفر أو بمحاذاة الكواكب ونحوهما,
"والاعتبار محمول على الاتعاظ بالقرون الخالية" اعلم أن
النص
.........................................................
على أنه لو صح تمسك لزوم أن لا يكون غير القرآن حجة فإن
قيل الكل في القرآن إلا أنه لا يعلمه إلا النبي عليه
الصلاة والسلام أو أهل الإجماع قلنا فليكن فيه حكم القياس
ويعرفه المجتهد.
قوله: "أولاد السبايا" جمع سبية بمعنى مسبية يعني: أنهم
اتخذوا الجواري سريات فولدن لهم أولادا غير نجباء.
قوله: "فلم يجز إثباته بما فيه شبهة" احتراز عن الإجماع إذ
لا شبهة فيه, وأما خبر الواحد فهو بيان من جهة الشارع قطعي
في الأصل, وإنما تمكنت الشبهة في طريق الانتقال إلينا,
وهذا يخالف حقوق العبادة فإنها تثبت بما فيه شبهة
كالشهادات; لعجزهم عن الإثبات بقطعي.
قوله: "بخلاف أمر الحرب" حاصله أنا نمنع العمل بالرأي
والقياس فيما يمكن فيه العمل بالأصل ويكون من حقوق الله
تعالى ولا تكون مدركة بالحس ولا بالعقل إذ لو أدرك به صار
قطعيا.
(2/115)
هو الاتعاظ لكن
يثبت القياس دلالة وطريقها في النص ذكره الله تعالى هلاك
قوم بناء على سبب، وهو اغترارهم بالقوة والشوكة ثم أمر
بالاعتبار ليكف عن مثل ذلك السبب لئلا يترتب عليه مثل ذلك
الجزاء.
ـــــــ
التمسك به للقائسين هو قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا
أُولِي الْأَبْصَارِ} والمراد بالاعتبار الاتعاظ بالقرون
الخالية يدل عليه سياق الآية. "وقوله تعالى:
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} محمول على الحرب" أي: إن
تمسك بها أحد على صحة العمل بالرأي في الأحكام الشرعية
نقول إنه محمول على أمر الحرب. "ولنا قوله تعالى:
{فَاعْتَبِرُوا} " الآية فإن الاعتبار رد الشيء إلى نظيره
والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب واللفظ عام يشمل
الاتعاظ, وكل ما هو رد الشيء إلى نظيره أي: الحكم على
الشيء بما هو ثابت لنظيره, واشتقاقه من العبور والتركيب
يدل على التجاوز والتعدي. "فيدل على الاتعاظ عبارة وعلى
القياس إشارة"; لأن الاتعاظ يكون ثابتا بطريق المنطوق مع
أن سياق الكلام له, والقياس يكون ثابتا بطريق المنطوق من
غير أن يكون سياق الكلام له. "سلمنا أن الاعتبار هو
الاتعاظ لكن يثبت القياس دلالة" أي: ما ذكرنا أنه يدل على
القياس إشارة كان على تقدير أن المراد بالاعتبار رد الشيء
إلى نظيره فالآن نسلم أن المراد بالاعتبار الاتعاظ, ومع
ذلك يدل على القياس بطريق دلالة النص التي تسمى فحوى
الخطاب. "وطريقها" أي: طريق دلالة النص في هذه أن الصورة
"في النص ذكره الله تعالى هلاك قوم بناء على سبب, وهو
اغترارهم بالقوة والشوكة ثم أمر بالاعتبار ليكف عن مثل ذلك
السبب لئلا يترتب عليه مثل ذلك الجزاء",
.........................................................
قوله: "ولنا قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي
الْأَبْصَارِ} " فإن الاعتبار رد الشيء إلى نظيره بأن يحكم
عليه بحكمه ومنه سمي الأصل الذي يرد إليه النظائر عبرة
وهذا يشمل الاتعاظ والقياس العقلي والشرعي ولا شك أن سوق
الآية للاتعاظ فيدل عليه عبارة وعلى القياس إشارة فإن قيل:
الاعتبار هو الاتعاظ, وحقيقته تتبع الشيء بالتأمل على ما
يشهد به الاستعمال, ونقل أئمة اللغة وقد يستعمل في القياس
في الأمور العقلية كما يقال في إثبات الصانع اعتبر بالدار
وهل يمكن حدوثها بغير صانع فما ظنك بالعالم, ولا يفهم أحد
من مثل اعتبر قس الذرة بالحنطة قلنا لو سلم فيدل على ثبوت
القياس الشرعي بطريق دلالة النص على ما يشعر به فاء
التعليل الدالة على أن القصة المذكورة قبل الأمر بالاعتبار
علة لوجوب الاتعاظ بناء على أن العلم بوجود السبب يوجب
الحكم بوجود المسبب وهو معنى القياس الشرعي. وفيه نظر; لأن
الفاء بل صريح الشرط والجزاء لا يقتضي العلية التامة حتى
يلزم أن يكون علة وجوب الاتعاظ. هذه القصة السابقة, غاية
ما في الباب أن يكون لها دخل في ذلك, وهذا لا يدل على أن
كل من علم وجود السبب يجب عليه الحكم بوجود المسبب على أن
ما ذكره من التحقيق مما يشك فيه الأفراد من العلماء فكيف
يجعل من دلالة النص, وقد سبق أنه
(2/116)
فالحاصل أن
العلم بالعلة يوجب العلم بحكمه، فكذا في الأحكام الشرعية
من غير تفاوت، وهذا المعنى يفهم منه من غير اجتهاد فيكون
دلالة نص لا قياسا حتى لا يكون إثبات القياس بالقياس قوله:
عليه الصلاة والسلام: "الحنطة بالحنطة" بالنصب أي: بيعوا
الحنطة، ولما كان الأمر للإيجاب، والبيع مباح يصرف إلى
قوله: "مثلا بمثل" فتكون هذه الحالة شرطا والمراد بالمثل
القدر؛ لأنه روي أيضا "كيلا بكيل" ثم قال عليه الصلاة
ـــــــ
فالحاصل أن العلم بالعلة يوجب العلم بحكمه, فكذا في
الأحكام الشرعية من غير تفاوت, وهذا المعنى يفهم منه من
غير اجتهاد فيكون دلالة نص لا قياسا حتى لا يكون إثبات
القياس بالقياس قال الله تعالى في سورة الحشر {هُوَ
الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا
ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ
مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ
اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ
بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا
أُولِي الْأَبْصَارِ} فعلى تقدير أن يكون المراد بالاعتبار
الاتعاظ معناه اجتنبوا عن مثل هذا السبب; لأنكم إن أتيتم
بمثله يترتب على فعلكم مثل ذلك الجزاء فلما أدخل فاء
التعليل على قوله: {فَاعْتَبِرُوا} جعل القصة المذكورة علة
لوجوب الاتعاظ. وإنما تكون علة لوجوب الاتعاظ باعتبار قضية
كلية, وهي أن كل من علم بوجود السبب يجب الحكم عليه بوجود
المسبب حتى لو لم تقدر هذه القضية الكلية لا يصدق التعليل;
لأن التعليل إنما يكون صادقا إذا كان الحكم الكلي صادقا
فيكون حينئذ هذا الحكم الجزئي صادقا فإذا ثبتت القضية
الكلية ثبت وجوب القياس في الأحكام الشرعية, وهذا المعنى
يفهم من لفظ الفاء, وهي للتعليل فيكون مفهوما بطريق اللغة
فيكون دلالة نصا لا قياسا فلا يلزم الدور, وهو إثبات
القياس بالقياس, ودلالة النص مقبولة اتفاقا. وإنما الخلاف
في القياس الذي يعرف فيه العلة استنباطا واجتهادا "ونظيره"
أي: نظير القياس, وإنما أورد هذا النظير هنا; لأنه لما ذكر
أن القياس في الأحكام الشرعية اعتبار حسب الاعتبار في
الأمور التي يتعظ بها أراد أن يبين كيفية الاعتبار في
القياس, وكيفية استنباط العلة. "قوله: عليه الصلاة
.........................................................
يجب أن يكون مما يعرفه كل من يعرف اللغة, وقد يقال: إنه لا
عموم في الآية, ولو سلم فقد خص منه ما ينتفي فيه شرائط
القياس وما تعارضت فيه الأقيسة, وصيغة الأمر تحتمل الوجوب
وغيره, والمرة والتكرار والخطاب مع الحاضرين فقط والتقييد
ببعض الأحوال والأزمنة فكيف يثبت بذلك وجوب العمل لكل
مجتهد بكل قياس صحيح في كل زمان؟. وجوابه أن اعتبروا في
معنى افعلوا الاعتبار وهو عام وتخصيص البعض بالفعل لا يقدح
في كونه قطعيا, وعلى تقدير عدم العموم فالإطلاق كاف ولفظ
{أُولِي الْأَبْصَارِ} يعم المجتهدين بلا نزاع ولا عبرة
بباقي الاحتمالات, وإلا لما صح التمسك بشيء من النصوص.
(2/117)
والسلام:
"والفضل ربا" أي: الفضل على القدر بأنه فضل خال عن عوض
فحكم النص وجوب المساواة ثم الحرمة بناء على فوتها والداعي
إلى هذا الحكم القدر والجنس إذ بهما يثبت المساواة صورة
ومعنى، فإذا وجدنا هذه العلة في سائر المكيلات والموزونات
اعتبرناها بالحنطة، وأيضا حديث معاذ رضي الله عنه وقد
روينا ما هو قياس عنه عليه الصلاة والسلام وعمل الصحابة
ومناظرتهم فيه أشهر من أن يخفى.
ـــــــ
والسلام: "الحنطة بالحنطة" بالنصب أي: بيعوا الحنطة, ولما
كان الأمر للإيجاب, والبيع مباح يصرف إلى قوله: "مثلا
بمثل" " أي: يصرف الإيجاب إلى قوله: "مثلا بمثل" كما في
قوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} يصرف الإيجاب إلى
القبض حتى يصير القبض شرطا للرهن. "فتكون هذه الحالة شرطا
والمراد بالمثل القدر; لأنه روي أيضا: "كيلا بكيل" ثم قال
عليه الصلاة والسلام: "والفضل ربا" أي: الفضل على القدر
بأنه فضل خال عن عوض فحكم النص وجوب المساواة ثم الحرمة
بناء على فوتها والداعي إلى هذا الحكم القدر والجنس إذ
بهما يثبت المساواة صورة ومعنى, فإذا وجدنا هذه العلة في
سائر المكيلات والموزونات اعتبرناها بالحنطة, وأيضا حديث
معاذ رضي الله عنه" عطف على قوله فاعتبروا وحديثه أن النبي
عليه الصلاة والسلام لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: "بم
تقضي؟" قال: بما في كتاب
.........................................................
قوله: "ولما كان الأمر للإيجاب" الظاهر: أن الأمر للإباحة,
والتقييد بالصفة المذكورة للدلالة على أنه لا يجوز بيع
الحنطة عند انتفائها لكنه لما لم يقل بمفهوم الصفة فلم
يمكنه أن يجعل جواز البيع عند انتفاء الصفة منتفيا بحكم
الأصل إذ الأصل هو الجواز لزمه المصير إلى أن الأمر
للإيجاب باعتبار الوصف بمعنى أن بيع الحنطة مباح إلا أن
رعاية المماثلة فيه واجبة كما أن أخذ الرهن جائز والقبض
فيه واجب. فإن قلت معنى كون الأمر للإيجاب أن المأمور به
واجب, وهذا لا يستقيم فيما نحن فيه إذ لا وجوب لبيع الحنطة
بوصف المماثلة, ولا لأخذ الرهن بوصف القبض قلت مراده أن
الأمر منصرف إلى رعاية الوصف وهي واجبة كأن قيل: إذا بعتم
الحنطة فراعوا المماثلة, وإذا أخذتم الرهن فاقبضوا.
قوله: "وأيضا حديث معاذ" فإنه مشهور يثبت به الأصول فإن
قلت الاجتهاد قد يكون بغير القياس المتنازع فيه كالاستنباط
من النصوص الخفية الدلالة أو الحكم بالبراءة الأصلية أو
القياس المنصوص العلة, ولو سلم فلا دلالة على الجواز لغير
معاذ رضي الله تعالى عنه قلت: الاستنباط بالنصوص مما يوجد
في الكتاب والسنة, وكذا البراءة أصلية على تقدير تسليم
احتياجها للاجتهاد لقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا
أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية. فبقي القياس وهو مطلق
ولو اقتصر على منصوص العلة لما سكت الشارع لبقاء كثير من
الأحكام وهي التي تبتنى على قياس غير منصوص العلة وجواز
ذلك لمعاذ رضي الله عنه إنما كان باعتبار اجتهاده فثبت في
غيره بدلالة النص, وقد قال عليه السلام: "حكمي على الواحد
حكمي على الجماعة".
(2/118)
ويكون الكتاب
تبيانا بمعناه؛ لأن التبيان يتعلق بالمعنى، والبيان باللفظ
وأما قوله تعالى: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} الآية. وفي
ذلك تعظيم شأن الكتاب، والعمل لفظا ومعنى والعمل بالأصل
عمل بلا دليل و {قُلْ لا أَجِدُ} ليس أمرا به بل العمل
بالنص وهو {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً}
والظن كاف للعمل وهو تصرف في حقه تعالى بإذنه ولا يعمل به
فيما لا يدرك بالعقل.
ـــــــ
الله. قال: "فإن لم تجد في كتاب الله تعالى؟", قال: أقضي
بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: "فإن لم
تجد ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟", قال: أجتهد
برأيي. قال عليه السلام : "الحمد لله الذي وفق رسول رسوله
بما يرضى به رسوله". "وقد روينا ما هو قياس عنه عليه
الصلاة والسلام" في آخر ركن السنة, وهو قوله عليه السلام:
"أرأيت لو كان على أبيك دين؟" الحديث وحديث قبلة الصائم.
"وعمل الصحابة ومناظرتهم فيه" أي: في القياس "أشهر من أن
يخفى" ثم شرع في جواب الدلائل المذكورة على نفي القياس
فقال.
"ويكون الكتاب تبيانا بمعناه; لأن التبيان يتعلق بالمعنى,
والبيان باللفظ" ولما كان الثابت بالقياس ثابتا بمعنى النص
يكون النص دالا على حكم المقيس بطريق التبيان. "وأما قوله
تعالى
.........................................................
قوله: "وقد روينا" في آخر باب السنة أحاديث تدل على أنه
عليه السلام كان يقول في بعض الأحكام بالقياس وهي, وإن
كانت أخبار آحاد إلا أن جملة الأمر بلغت حد التواتر وهي
أنه عليه الصلاة والسلام كان يعمل بالقياس فيكون حجة ربما
يجعل وجه الاستدلال أنه عليه الصلاة والسلام كان يذكر بعض
الأحكام بعللها, ولو لم يجز إلحاق غير المنصوص بالمنصوص
عليه لما كانت لذكر العلل فائدة, وقد يجاب عنه بأن ذكر
الأحكام بعللها لا يوجب صحة العمل بالقياس بل فائدتها
معرفة الحكم والعلة معا فإنها أوقع في النفس, وأدخل في
القبول فلا يلزم أن يكون دليلا لصحة القياس.
قوله: "وعمل الصحابة" إشارة إلى دليل على حجية القياس
بوجهين: أحدهما: أنه ثبت بالتواتر عن جمع كثير من الصحابة
العمل بالقياس عند عدم النص, وإن كانت تفاصيل ذلك آحادا,
والعادة قاضية بأن مثل ذلك لا يكون إلا عن قاطع على كونه
حجة, وإن لم نعلمه بالتعيين, وثانيهما: أن عملهم بالقياس
ومباحثتهم فيه بترجيح البعض على البعض تكرر وشاع من غير
نكير, وهذا وفاق, وإجماع على حجية القياس وما نقل من ذم
الرأي عن عثمان وعلي وابن عمر وابن مسعود رضي الله تعالى
عنهم إنما كان في البعض لكونه في مقابلة النص أو لعدم
شرائط القياس, وشيوع الأقيسة الكثيرة بلا إنكار مقطوع به
مع الجزم بأن العمل كان بها لظهورها لا لخصوصياتها.
قوله: "لأن وجود الشيء أو عدمه في زمان لا يدل على بقائه"
فيه نظر; لأنا نقطع بكثير من الأحكام كوجود مكة ووجود
بغداد وعدم جبل من الياقوت وبحر من الزئبق مع أنه لا دليل
عليها إلا أن الأصل في الوجود هو الوجود حتى يظهر دليل
العدم, والأصل في المعدوم هو العدم حتى يظهر
(2/119)
فصل: في شرط القياس
...
فصل: في شرطه
كشهادة أن لا يكون حكم الأصل والأحكام المخصوصة بالنبي
عليه الصلاة والسلام كتحليل تسع زوجات وأن لا يكون معدولا
عن القياس وهو إما بأن لا يدركه العقل كأعداد الركعات، أو
يكون مستثنى عن سننه كأكل الناسي فإنه ينافي ركن الصوم
ـــــــ
{وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} الآية. فكل شيء يكون في كتاب
الله بعضه لفظا وبعضه معنى" فالحكم في المقيس عليه يكون
موجودا في الكتاب لفظا, والحكم في المقيس يكون موجودا فيه
معنى. "وفي ذلك تعظيم شأن الكتاب, والعمل لفظا ومعنى" أي:
في العمل بالقياس تعظيم شأن الكتاب واعتبار نظمه في المقيس
عليه, واعتبار معناه في المقيس. وأما منكرو القياس فإنهم
عملوا بنظم الكتاب فقط وأعرضوا عن اعتبار فحواه, وإخراج
الدرر المكنونة من بحار معناه وجهلوا أن للقرآن ظهرا
وبطنا, وأن لكل حد مطلعا وقد وفق الله تعالى العلماء
الراسخين العارفين دقائق التأويل لكشف قناع الأستار عن
جمال معاني التنزيل, وإنكاره عليه الصلاة والسلام لقياس
بني إسرائيل بناء على جهلهم وتعصبهم لا يقدح في قياسنا
"والعمل بالأصل" أي: في الاستصحاب "عمل بلا دليل"; لأن
وجود الشيء أي: عدمه في زمان لا يدل على بقائه, فإن
الممكنات توجد بعد العدم وتعدم بعد الوجود. "و {قُلْ لا
أَجِدُ} ليس أمرا به" أي: بالعمل بالأصل "بل العمل بالنص"
أي: بل هو أمر بالعمل بالنص "وهو {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً} " فكل ما لم يوجد حرمته فيما أوحي إلى
النبي عليه الصلاة والسلام يكون حلالا بقوله: {خَلَقَ
لَكُمْ} الآية, ونحن نقول أيضا بأنه لا يجوز لنا أن نحرم
شيئا مما في الأرض بطريق
.........................................................
دليل الوجود وبالجملة الحكم بالبراءة الأصلية شائع, فيما
بين العلماء بحيث لا يصح إنكاره على ما سبق في مفهوم الشرط
والصفة.
قوله: "فصل" في شرائط القياس عبارة فخر الإسلام رضي الله
عنه في الشرط الأول أن لا يكون الأصل مخصوصا بحكمه بنص آخر
أي: لا يكون المقيس عليه منفردا بحكمه بسبب نص آخر دال على
الاختصاص, وذلك كما اختص خزيمة من بين الناس بقبول شهادته
وحده, يقال خص زيد بالذكر إذا ذكر هو دون غيره, وفي عبارة
الفقهاء خص النبي عليه الصلاة والسلام بكذا وكذا وفي
الكشاف {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} معناه نخصك بالعبادة لا نعبد
غيرك. وأما استعمال الباء في المقصور عليه فقليل كما في
قولهم في ما زيد إلا قائم أنه لتخصيص زيد بالقيام لكنه مما
يتبادر إليه الوهم كثيرا حتى إنه يحمل الاستعمال الشائع
على القلب فلذا غير المصنف رحمه الله تعالى عبارة فخر
الإسلام رضي الله عنه إلى قوله أن لا يكون حكم الأصل
مخصوصا به كاختصاص قبول شهادة الواحد بخزيمة لقوله عليه
الصلاة والسلام: "من شهد له خزيمة فحسبه" وذلك أنه شهد
للنبي عليه الصلاة والسلام أنه أدى الأعرابي ثمن ناقته أو
أنه باع ناقته على اختلاف الروايتين. وذلك التخصيص ثبت
بطريق الكرامة أو باعتبار أنه فهم من بين الحاضرين جواز
الشهادة للرسول عليه الصلاة والسلام بناء على أن خبره
بمنزلة المعاينة.
(2/120)
وكتقوم المنافع
في الإجارة لأنه يعتمد الإحراز، والإحراز يعتمد البقاء ولا
بقاء للأعراض وأن يكون المعدى حكما شرعيا ثابتا بأحد
الأصول الثلاثة من غير تغيير إلى
ـــــــ
القياس فإنه قياس في مقابلة النص. "والظن كاف للعمل" جواب
عن قوله فلم يجز إثباته بما فيه شبهة "وهو تصرف في حقه
تعالى بإذنه ولا يعمل به" أي: بالقياس "فيما لا يدرك
بالعقل", وهو جواب عن قوله ولا مدخل للعقل في دركها.
"فصل في شرطه" أي: شرط القياس. اعلم أن للقياس أربعة شرائط
أولها: "أن لا يكون حكم الأصل" أي: المقيس عليه "مخصوصا
به" أي: بالأصل بنص آخر "كشهادة" خزيمة "والأحكام المخصوصة
بالنبي عليه الصلاة والسلام كتحليل تسع زوجات وأن لا يكون"
أي: حكم الأصل "معدولا عن القياس" هذا هو الشرط الثاني
"وهو إما بأن لا يدركه العقل كأعداد الركعات, أو يكون
مستثنى عن سننه كأكل الناسي فإنه ينافي ركن الصوم" أي:
العدول عن القياس بأحد الأمرين إما بأن لا يدرك العقل حكم
الأصل أي: لا يدرك علته وحكمته كأعداد الركعات أو يكون حكم
الأصل مستثنى عن سنن القياس أي: على طريقته المسلوكة,
وقاعدته المستمرة كأكل الناسي فإنه مستثنى عن سنن القياس,
وهو تحقق الفطر من كل ما دخل في الجوف, وإذا كان مستثنى عن
سننه لا يصح القياس عليه فلا يصح قياس الأكل خطأ على الأكل
ناسيا.
"وكتقوم المنافع في الإجارة" فإنه مستثنى عن سنن القياس
"لأنه" أي: التقوم "يعتمد الإحراز, والإحراز يعتمد البقاء
ولا بقاء للأعراض". وإن منع استحالة بقاء الأعراض فمثل هذه
الأعراض أي: المنافع لا شك في استحالة بقائها فالقياس
يقتضي عدم تقوم كل ما لا يبقى فإذا كان تقومها مستثنى عن
سنن القياس لا يقاس تقوم المنافع في الغصب على تقومها في
الإجارة. "وأن يكون المعدى حكما شرعيا" هذا هو الشرط
الثالث, وهو واحد مقيد بقيود كثيرة, وهي هذه "ثابتا بأحد
الأصول الثلاثة" أي: الكتاب والسنة والإجماع "من غير تغيير
إلى فرع" متعلق بالمعدى "هو نظيره" أي: الفرع يكون نظيرا
للأصل في الحكم "ولا نص فيه" أي: في
.........................................................
قوله: "وأن لا يكون إلخ" أي: معدولا به; لأنه من العدول
وهو لازم ولا يبعد أن يجعل من العدل وهو الصرف فيكون
معتديا.
قوله: "فإنه ينفي ركن الصوم" فإن قيل فكيف صح قياس الوقاع
ناسيا على الآكل في عدم فساد الصوم قلنا لم يثبت ذلك
بالقياس بل بدلالة النص للعلم بأن بقاء صوم الناسي في
الأكل إنما كان باعتبار أنه غير جان لا باعتبار خصوصية
الأكل.
قوله: "وكتقوم المنافع" جعله من أمثلة المعدول عن سنن
القياس; لأن القياس عدم تقوم المعدوم إذ القيمة تنبئ عن
التعادل, ولا تعادل بين ما يبقى, وبين ما لا يبقى لكنه ثبت
في الإجارة بقوله تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وقوله
تعالى إخبارا: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ
(2/121)
فرع هو نظيره
ولا نص فيه فلا تثبت اللغة بالقياس كالخمر وضع لشراب مخصوص
بمعنى، وهو المخامرة فلا يطلق على سائر الأشربة لأنه إن
أطلق مجازا فلا نزاع فيه لكن لا يحمل عليه مع إرادة
الحقيقة، وإن أطلق حقيقة فلا بد من وضع العرب، وكذا الزنا
على اللواطة ولا يقال الذمي أهل للطلاق فيكون أهلا للظهار
كالمسلم لأن الحكم في الأصل حرمة تنتهي بالكفارة وفي الذمي
حرمة لا تنتهي بها لعدم صحة
ـــــــ
الفرع والمراد نص دال على الحكم المعدى أو عدمه لا مطلق
النص "فلا تثبت اللغة بالقياس" هذا تفريع قوله حكما شرعيا
وإنما لا تثبت اللغة بالقياس لما بينا في الحقيقة والمجاز
أن في الوضع قد لا يراعى المعنى كوضع الفرس والإبل
ونحوهما, وقد يراعى المعنى كما في القارورة والخمر لكن
رعاية المعنى إنما هي للوضع لا لصحة الإطلاق حتى لا تطلق
القارورة على الدن لقرار الماء فيه, فرعاية المعنى لأولوية
وضع هذا اللفظ لهذا المعنى من بين سائر الألفاظ. "كالخمر
وضع لشراب مخصوص بمعنى, وهو المخامرة فلا يطلق على سائر
الأشربة لأنه إن أطلق مجازا فلا نزاع فيه لكن لا يحمل عليه
مع إرادة الحقيقة, وإن أطلق حقيقة فلا بد من وضع العرب,
وكذا الزنا على اللواطة ولا يقال الذمي أهل
.........................................................
حِجَجٍ} وقوله عليه الصلاة والسلام: "أعطوا الأجير حقه قبل
أن يجف عرقه" 1.
وجعله فخر الإسلام رضي الله عنه من أمثلة كون الأصل مخصوصا
بحكمه, وهو أيضا مستقيم بل التحقيق أن الشرط الثاني يغني
عن الأول لكونه من أقسامه على ما ذكره الآمدي في الأحكام
من أن المعدول به عن سنن القياس ضربان: أحدهما: ما لا يعقل
معناه, وهو إما أن يكون مستثنى من قاعدة عامة كقبول شهادة
خزيمة وحده أو لا يكون كذلك بل يكون مبتدأ به كأعداد
الركعات, ونصب الزكوات ومقادير الحدود والكفارات.
وثانيهما: ما شرع ابتداء ولا نظير له فلا يجري فيه القياس
لعدم النظير سواء عقل معناه كرخص السفر أو لا كضرب الدية
على العاقلة.
قوله: "وأن يكون المعدى" فيه إشعار بأنه يشترط أن لا يكون
حكم الأصل منسوخا إذ لا تعدية لما ليس بثابت.
قوله: "بأحد الأصول الثلاثة" إشارة إلى أن حكم الأصل لا
يجوز أن يكون ثابتا بالقياس; لأنه إن اتحدت العلة في
القياسين, فذكر الواسطة ضائع, وإن لم تتحد بطل أحد
القياسين لابتنائه على غير العلة التي اعتبرها الشرع في
الحكم مثلا إذا قيس الذرة على الحنطة في حرمة الربا بعلة
الكيل والجنس ثم أريد قياس شيء آخر على الذرة, فإن وجدت
فيه العلة أعني: الكيل والجنس كان ذكر الذرة ضائعا ولزم
قياسه على الحنطة, وإن لم توجد لم يصح قياسه على الذرة
لانتفاء علة الحكم.
قوله: "من غير تغيير" أي: لا يغير في الفرع حكم الأصل من
إطلاقه أو تقييده أو غير ذلك مما
ـــــــ
1 رواه ابن ماجه في كتاب الرهون باب 4 .
(2/122)
الكفارة عنه؛
لعدم أهليته لها. وكذا تعليل الربا بالطعم فإنه يوجب في
العدديات حرمة مطلقة، وهي في الأصل مقيدة بعدم التساوي.
ـــــــ
للطلاق فيكون أهلا للظهار كالمسلم" هذا تفريع قوله من غير
تغيير "لأن الحكم في الأصل" وهو المسلم "حرمة تنتهي
بالكفارة وفي الذمي حرمة لا تنتهي بها لعدم صحة الكفارة
عنه; لعدم أهليته لها. وكذا تعليل الربا بالطعم فإنه يوجب
في العدديات حرمة مطلقة, وهي في الأصل مقيدة بعدم التساوي"
حتى لو روعي التساوي لا تبقى الحرمة في الأصل, وهو الحنطة
والشعير والتمر والملح, ولا يمكن رعاية التساوي في
العدديات; لأن التساوي في الأصل إنما هو بالكيل, والعدديات
ليست بمكيلة والتساوي بالعدد غير معتبر شرعا. "ولا يصح
قياس الخطأ على النسيان في عدم الإفطار" هذا تفريع قوله
إلى فرع هو نظيره. "لأنه ليس نظيره; لأن عذره دون عذر
النسيان ولا يصح إن كان في الفرع نص" هذا بيان تفريع قوله
ولا نص فيه. "لأنه إن كان موافقا للنص فلا حاجة إليه, وإن
كان مخالفا له يبطل" والضمائر في قوله إن كان وفي قوله فلا
حاجة إليه, وفي قوله يبطل ترجع إلى القياس "وأن لا يغير"
أي: القياس "حكم النص" هذا هو الشرط الرابع "فلا يصح شرطية
التمليك في طعام الكفارة قياسا على الكسوة; لأنها تغير حكم
قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ} وكذا شرط الإيمان في كفارة اليمين قياسا على
كفارة القتل يخالف إطلاق النص, وكذا السلم الحال قياسا على
المؤجل يخالف قوله عليه الصلاة والسلام: "إلى أجل معلوم"
وأيضا لم" يعده أي: الشافعي
.................................................
يتعلق بنفس الحكم, وإنما يقع التغيير باعتبار المحل
وباعتبار صيرورته ظنيا في الفرع.
قوله: "إلا فرع" متعلق بمحذوف أي: وأن يكون المعدى حكما
موصوفا بما ذكر معدى إلى فرع هو نظيره, ولا يستقيم تعلقه
بالمعدى المذكور. أما لفظا فللفصل بالأجنبي, وأما معنى
فلأنه لا يفيد اشتراط كون الفرع نظير الأصل, والاشتراط كون
الأصل حكما موصوفا بما ذكر في جميع الصور; لأن معناه حينئذ
أنه يشترط أن يكون الحكم المعدى إلى فرع هو نظيره حكما
شرعيا ثابتا بأحد الأصول الثلاثة.
قوله: "فلا تثبت اللغة بالقياس" يعني: إذا وضع لفظ لمسمى
مخصوص باعتبار معنى يوجد في غيره لا يصح لنا أن نطلق ذلك
اللفظ على ذلك الغير حقيقة سواء كان الوضع لغويا أو شرعيا
أو عرفيا, وذلك كإطلاق الخمر على العقار من المسكرات. احتج
المخالف بالدوران, والإلحاق بالقياس الشرعي, وأجيب بأنه
يشترط في الدوران صلوح العلية وهو ممنوع هاهنا فإن علة
إطلاق اللفظ على المعنى حقيقة هو الوضع لا غير, وبأن
العمدة في حجية القياس الشرعي هو الإجماع ولا إجماع هاهنا
ويرد على المتمسكين بقوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا
أُولِي الْأَبْصَارِ} على ما حققه المصنف رحمه الله تعالى
من دلالة النص. وجوابه إنا لا نسلم أن رعاية المعنى سبب
للإطلاق بل هي سبب للوضع وترجيح الاسم على الغير على ما
سبق ولا نزاع في صحة الإطلاق مجازا عند
(2/123)
ولا يصح قياس
الخطأ على النسيان في عدم الإفطار لأنه ليس نظيره؛ لأن
عذره دون عذر النسيان ولا يصح إن كان في الفرع نص لأنه إن
كان موافقا للنص فلا حاجة إليه، وإن كان مخالفا له يبطل
وأن لا يغير حكم النص فلا يصح شرطية التمليك في طعام
الكفارة قياسا على الكسوة؛ لأنها تغير حكم قوله تعالى:
{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} وكذا شرط
الإيمان في كفارة اليمين قياسا على كفارة القتل يخالف
إطلاق
ـــــــ
رحمه الله تعالى "كما هو في الأصل" فهذا بيان أن في قياس
جواز السلم الحال على المؤجل فسادين: أحدهما: أنه مغير
للنص. والثاني: أن الحكم لم يعد كما هو في المقيس عليه بل
عدي بنوع تغيير وقد بينا في الشرط الثالث بطلان هذا "إذ في
الأصل جعل الأجل خلفا عن وجود المعقود عليه ليمكن تحصيله
فيه, وهنا أسقط فإن قيل: أنتم غيرتم أيضا قوله عليه الصلاة
والسلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء بسواء" فإنه
يعم القليل والكثير فخصصتم القليل" من هذا النص العام
فجوزتم بيع القليل بالقليل مع عدم التساوي "بالتعليل
بالقدر" أي: قلتم إن علة الربا هي القدر والجنس, والقدر
أي: الكيل غير موجود في بيع الحفنة بالحفنتين فلا يجري فيه
الربا فهذا التعليل مغير للنص.
.........................................................
وجود العلاقة على ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى من
استعمال ألفاظ الطلاق في العتاق وبالعكس لاشتمالهما على
إزالة الملك. وما ذكره من وجوب الحد على اللائط قياسا على
الزاني فإنما هو بقياس في الشرع دون اللغة, أو هو قول
بدلالة النص, وكذا إيجاب الحد بغير الخمر من المسكرات وقد
توهم بعضهم أن أمثال ذلك قول بجريان القياس في اللغة وليس
كذلك وهاهنا بحث, وهو أن اشتراط كون حكم الأصل شرعيا إما
أن يكون في مطلق القياس, وهو باطل; لأن قياس السماء على
البيت في الحدوث بجامع التأليف وقياس كثير من الأغذية على
العسل في الحرارة بجامع الحلاوة. وأمثال ذلك مما ليست
بأقيسة شرعية لا يتوقف على كون حكم الأصل شرعيا وهو ظاهر,
وأما أن يكون في القياس الشرعي, وحينئذ لا معنى لتفريع عدم
جريان القياس في اللغة على ذلك وهو أيضا ظاهر, والتحقيق أن
هذا شرط للقياس الشرعي على معنى أنه يشترط فيه كون حكم
الأصل حكما شرعيا إذ لو كان حسيا أو لغويا لم يجز; لأن
المطلوب إثبات حكم شرعي للمساواة في علة, ولا يتصور إلا
بذلك فلو قال: النبيذ شراب مشتد فيوجب الحد كما يوجب
الإسكار أو كما يسمى خمرا كان باطلا من القول خارجا عن
الانتظام, وهذا مبني على أن القياس لا يجري في اللغة ولا
في العقليات من الصفات, والأفعال. وفائدته تظهر فيما إذا
قاس النفي بالنفي فإذا لم يكن المقتضي ثابتا في الأصل كان
نفيا أصليا, والنفي الأصلي لا يقاس عليه النفي الطارئ وهو
حكم شرعي, ولا النفي الأصلي لثبوته بدون القياس وبالإجماع
وقد يذكر في كثير من المسائل, ولذلك يقول المناظر لا بد من
بيان المقتضي في الأصل, وما ذلك إلا ليكون النفي حكما
شرعيا وقد سبق نبذ من ذلك في فصل المطلق والمقيد.
(2/124)
النص، وكذا
السلم الحال قياسا على المؤجل يخالف قوله عليه الصلاة
والسلام إلى أجل معلوم وأيضا لم يعده كما هو في الأصل إذ
في الأصل جعل الأجل خلفا عن وجود المعقود عليه ليمكن
تحصيله فيه، وهنا أسقط فإن قيل: أنتم غيرتم أيضا قوله عليه
الصلاة والسلام: "لا تبيعوا الطعام بالطعام إلا سواء
بسواء" فإنه يعم القليل والكثير فخصصتم القليل بالتعليل
بالقدر.
وكذا في دفع القيم في الزكاة وفي صرفها إلى صنف واحد
بالتعليل بالحاجة
ـــــــ
"وكذا في دفع القيم في الزكاة" أي: غيرتم النص, وهو قوله
عليه الصلاة والسلام: "في خمس من الإبل السائمة شاة" وغيره
مما يدل على دفع عين ذلك الشيء دون القيمة "وفي
.........................................................
قوله: "لكن لا يحمل" أي: لفظ الخمر على سائر الأشربة مجازا
عند إرادة معناه الحقيقي في ذلك الإطلاق لئلا يلزم الجمع
بين الحقيقة والمجاز اللهم إلا أن يطلق مجازا على شراب
يخامر العقل فيشمل العقار وغيره بطريق عموم المجاز.
قوله: "وهي في الأصل مقيدة بعدم التساوي" يعني: أن الحكم
في الأصل حرمة تنتهي بالتساوي بالكيل فإن قيل قد أثبت
الحرمة في بيع المقلي بغيره وبيع الدقيق بالحنطة مع أنها
لا تنتهي بالكيل. قلنا بطلان الانتهاء بالكيل إنما جاء من
صنع العبد وهو القلي, والطحن لا بإثبات الشرع, والشرع إنما
أثبتها متناهية بالمساواة كيلا أعني: قبل القلي والطحن.
قوله: "والتساوي بالعدد غير معتبر شرعا" قيل عليه: أن
التساوي بالوزن معتبر شرعا وهو كاف في انتهاء الحرمة.
قوله; "لأن عذره" أي: عذر الخطأ دون عذر النسيان لإمكان
الاحتراز عن الخطأ بالتثبت والاحتياط بخلاف النسيان فإنه
سماوي محض جبل عليه الإنسان.
قوله: "لأنه إن كان موافقا للنص فلا حاجة إليه" اعترض عليه
بأن عدم الاحتياج إلى القياس لا ينافي صحته والاستدلال به
قصدا إلى تعاضد الأدلة كالإجماع عن قاطع, وإلى هذا ذهب
كثير من المشايخ, وكثر في كتب الفروع الاستدلال في مسألة
واحدة بالنص, والإجماع, والقياس.
قوله: "وإن كان قياسا مخالفا له يبطل" كقياس القتل العمد
على الخطأ, واليمين الغموس على المنعقدة في إيجاب الكفارة
فإنه مخالف لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "خمس من
الكبائر لا كفارة فيهن" وعد منها الغموس وقتل النفس بغير
حق1.
قوله: "وأن لا يغير حكم النص" فالإطعام هو جعل الغير طاعما
سواء كان على وجه الإباحة
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الأيمان باب 16. الترمذي في كتاب
تفسير سورة 4 باب 6. النسائي في كتاب التحريم باب 3.
الدارمي في كتاب الديات باب 9. أحمد في مسنده 2/201 3/495.
(2/125)
وفي جواز غير
لفظ تكبيرة الافتتاح وفي إزالة الخبث بغير الماء قلنا
المراد التسوية
ـــــــ
صرفها إلى صنف واحد" أي: غيرتم النص الدال على صرفها إلى
جميع الأصناف, وهو قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ
لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الآية "بالتعليل بالحاجة"
أي: قلتم: إن العلة وجوب دفع الحاجة عن الفقير, وهذا
المعنى موجود في دفع القيم بل أكمل; لأن الدراهم والدنانير
خلقتا لتحصيل جميع الأشياء التي تمس بها الحاجة إلى دفع
عين الواجب تندفع الحاجة الواحدة, وربما لا يحتاج الفقير
إلى ذلك الشيء بل يحتاج إلى غيره وقد قلتم: عد الأصناف
لبيان مواقع الحاجة والعلة هي دفع الحاجة فيجوز الصرف إلى
صنف واحد توجد فيه الحاجة, فالتعليل بالحاجة في الصورتين
مغير لحكم النص. "وفي جواز غير لفظ تكبيرة الافتتاح" أي:
غيرتم النص, وهو قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}
بالتعليل بأن المراد تعظيم الله تعالى فيجوز بأي لفظ كان
نحو الله أجل ونحوه "وفي إزالة الخبث بغير الماء" أي:
غيرتم النص, وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "الماء طهور"
وقوله عليه الصلاة والسلام: "حتيه واقرصيه ثم اغسليه
بالماء". "قلنا المراد التسوية بالكيل, وهي لا تتصور إلا
في الكثير"; لأن المراد التسوية الشرعية في قوله عليه
الصلاة والسلام إلا سواء بسواء, والتسوية المعتبرة شرعا في
المطعومات التسوية بالكيل, وهي لا تتصور إلا في الكثير فلا
نسلم أنه يعم القليل, والكثير كما يقال لا تقتل حيوانا إلا
بالسكين, فإن معناه لا تقتل حيوانا من شأنه أن يقتل
بالسكين إلا بالسكين فقتل حيوان لا يقتل بالسكين كالقملة
والبرغوث لا يدخل تحت النهي. "وإنما كان تغييرا إذا كان
الأصل واجبا لعينه, وليس كذلك فإن الصدقة حلت مع وسخها
ضرورة دفع الحاجة, وهي مختلفة فلا بد من جواز دفع القيم"
أي: إنما كان التعليل في
.........................................................
أو التمليك فاشتراط التمليك قياسا على الكسوة تغيير لحكم
النص, وكذا تقييد رقبة الكفارة بالمؤمنة تغيير للإطلاق
المفهوم من النص, وهذا الكلام ظاهر في أن المراد تغيير حكم
نص في الجملة سواء كان هذا النص في حكم الأصل أو غيره فإن
قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ
مَسَاكِينَ} وقوله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}, ليس
لبيان حكم الأصل بل حكم الفرع فعلى هذا لا حاجة إلى هذا
القيد; لأن اشتراط عدم النص في الفرع مغن عنه; لأن معناه
عدم نص دال على الحكم المعدى أو عدمه وهاهنا النص دال على
عدم الحكم المعدى في الفرع; لأن الإطلاق يدل على إجزاء
مجرد الإطعام على سبيل الإباحة, وعلى إجزاء الرقبة
الكافرة, وأنه لا يشترط التمليك والإيمان, وقد يقال يجوز
أن يغير القياس حكم نص لا يدل على ثبوت الحكم في الفرع ولا
على عدمه. وفيه نظر; لأنه محال على ذلك التقدير وعبر فخر
الإسلام رحمه الله تعالى عن هذا الشرط بأن يبقى الحكم في
الأصل على ما كان قبله ثم قال: وإنما اشترط ذلك; لأن تغيير
حكم النص في نفسه بالرأي باطل ثم مثل بهذه الأمثلة وغيرها
قصدا إلى أن فيها تغيير النص بالرأي ففهم الشارحون أنها
أمثلة لعدم بقاء حكم النص المعلل على ما كان قبل التعليل,
فاعترضوا بأن المغير في هذه الأمثلة إنما هو في حكم النص
في الفرع لا في الأصل.
(2/126)
بالكيل، وهي لا
تتصور إلا في الكثير وإنما كان تغييرا إذا كان الأصل واجبا
لعينه، وليس كذلك فإن الصدقة حلت مع وسخها ضرورة دفع
الحاجة، وهي مختلفة فلا بد من جواز دفع القيم.
ـــــــ
دفع القيم تغييرا للنص إذا كان الأصل وهو الشاة مثلا واجبا
للفقير لعينه وليس كذلك, فإن الزكاة عبادة محضة لا حق
للعباد فيها, وإنما هي حق الله تعالى لكن سقط حقه في صورة
ذلك الواجب بإذنه بدلالة النص; لأنه تعالى وعد أرزاق
الفقراء بقوله: {إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ثم أوجب
على الأغنياء مالا مسمى ثم أمر بأداء تلك المواعيد وهي
الأرزاق المختلفة من ذلك المسمى, ولا يمكن ذلك الأداء إلا
بالاستبدال فيكون متضمنا للأمر بالاستبدال كالسلطان يعد
مواعيد مختلفة, ثم يأمر بعض وكلائه بأدائها من مال معين
عنده يكون إذنا بالاستبدال. فكذا هاهنا مثبت هناك حكمان
جواز الاستبدال, وصلاحية عين الشاة
.........................................................
قوله: "وكذا السلم الحال" في الحديث: "من أراد منكم أن
يسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم" 1
وجوز الشافعي رحمه الله تعالى السلم الحال قياسا على
المؤجل بجامع دفع الحرج بإحضار المبيع مكان العقد, ورد هذا
القياس بوجهين: أحدهما: أن النص يدل على عدم مشروعية السلم
الحال بحكم مفهوم الغاية اتفاقا أو إلزاما ولا عبرة
بالقياس المغير لحكم النص إلا أن مخالفة المفهوم سيما في
خبر الواحد غير قادحة في صحة القياس عند الشافعي رحمه الله
تعالى وثانيهما: أن محل البيع يجب أن يكون مملوكا مقدور
التسليم, والمسلم فيه ليس كذلك لكونه غير موجود إلا أن
الشرع رخص فيه بإقامة ما هو سبب القدرة على التسليم وهو
الأجل مقام حقيقة القدرة, وجعله خلفا عنها, فحكم الأصل
أعني: السلم المؤجل يشتمل على جعل الأجل المعلوم خلفا عن
وجود المسلم فيه وعن القدرة عليه, وفي قياس السلم الحال
عليه تغيير لهذا الحكم; لأنه ليس فيه جعل الأجل خلفا عن
الوجود وقد سبق أن من شرط القياس تعدية الحكم من غير
تغيير. وقد يقال: إن معنى إقامة الخلف مقام الأصل هو جعل
الخلف كأنه هو الأصل فباعتبار حقيقة الأصل يكون تحقيقا
لذلك لا تغييرا أو يكون أولى بالجواز لكونه مصيرا إلى
الأصل دون الخلف وعدولا عما هو خلاف مقتضى العقد أعني
الأجل, وربما يجاب بأن إقدامه على عقد السلم دليل على أن
ما عنده مستحق لحاجة أخرى فيكون بمنزلة العدم كالماء
المستحق للشرب في جواز التيمم. وفيه نظر إذ ربما يكون لدفع
الحرج في إحضار المبيع ولغيره من الأغراض فلا تتعين الحاجة
الضرورية.
قوله: "وإنما كان تغييرا" وجه السؤال أنكم جوزتم دفع قيمة
الواجب في الزكاة قياسا على العين بعلة دفع حاجة الفقير
وفي هذا التعليل تغيير لحكم النص الدال على وجوب عين
الشاة, وحاصل الجواب أن تغيير هذا النص ليس بالتعليل بل
بدلالة النصوص الواردة في ضمان أرزاق
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب السلم باب 1، 2، 3، 7. مسلم في
كتاب المساقاة حديث 128. أبو داود في كتاب البيوع باب 55.
الترمذي في متاب البيوع 18. النسائي في كتاب البيوع باب
63. ابن ماجه في كتاب التجارات باب 59. الدارمي في كتاب
البيوع باب 45.
(2/127)
لأن تكون
مصروفة إلى الفقير, فالحكم الأول يثبت بدلالة النص. وأما
الحكم الثاني المستفاد من قوله عليه الصلاة والسلام: "في
خمس من الإبل السائمة شاة" فقد عللناه بالحاجة فإن الصدقة
مع وسخها حلت لهذه الأمة لأجل الحاجة بعد أن لم تكن في
الأمم الماضية فإذا كانت عين الشاة صالحة للصرف إلى الفقير
للحاجة تكون قيمتها صالحة أيضا بهذه العلة فالتعليل وقع في
هذا الحكم, وليس فيه تغيير النص بل يكون التغيير في الحكم
الأول وهو ثابت بالنص لا بالتعليل فيكون تغيير النص بالنص
مجتمعا مع التعليل في حكم آخر ليس فيه تغيير النص, وهذا
معنى قول فخر الإسلام رحمه الله فصار التغيير مجامعا
للتعليل بالنص لا بالتعليل وقد قال أيضا فصار صلاح الصرف
إلى الفقير بعد الوقوع لله بابتداء اليد ليصير مصروفا إلى
الفقير بدوام يده حكما شرعيا في الشاة فعللناه بالتقويم
وعديناه إلى سائر الأموال معناه أن الصدقة تقع لله تعالى
بابتداء يد الفقير. قال عليه الصلاة والسلام: "الصدقة تقع
في كف الرحمن قبل أن تقع في كف الفقير". ففي حال ابتداء يد
الفقير تقع لله تعالى, وفي حال بقاء يد الفقير تصير
للفقير, فقوله صلاح الصرف أي: صلاح المحل, وهو عين الشاة
مثلا للصرف إلى الفقير, وقوله ليصير مصروفا علة غائية
للصلاح أي: صلاحية الشاة للصرف إلى الفقير ليصير مصروفا
إليه بدوام يده فقوله إلى الفقير يتعلق بالصرف, وبابتداء
اليد يتعلق بالوقوع, وليصير يتعلق بالصلاح, وبدوام يده
يتعلق
.........................................................
العباد, وإيجاب الزكاة في أموال الأغنياء, وصرفها إلى
الفقراء, وذلك أن الزكاة عبادة, والعبادة خالص حق الله
تعالى فلا تجب للفقراء ابتداء. وإنما تصرف إليهم إيفاء
لحقوقهم, وإنجازا لعدة أرزاقهم ولا خفاء في أن حوائجهم
مختلفة لا تندفع بنفس الشاة مثلا, وإنما تندفع بمطلق
المالية فلما أمر الله تعالى بالصرف إليهم مع أن حقهم في
مطلق المالية دل ذلك على جواز الاستبدال, وإلغاء اسم الشاة
بإذن الله تعالى لا بالتعليل. واعلم أن ذكر اسم الشاة إنما
هو لكونها أيسر على من وجبت عليه الزكاة; لأن الإيتاء من
جنس النصاب أسهل ويده إليه أوصل; ولكونها معيارا لمقدار
الواجب إذ بها تعرف القيمة.
فإن قيل: إذا ثبت وجوب الشاة بعبارة النص, وجواز الاستبدال
بدلالته فما معنى التعليل بالحاجة؟ أجيب بأن التعليل إنما
وقع بحكم آخر وهو كون الشاة صالحة للصرف إلى الفقير, وهذا
ليس بحكم ثابت بأصل الخلقة حتى يمتنع تعليله بل حكم شرعي
ثابت بالنص الدال على وجوب الشاة; لأن المراد به صلاحية
حدثت بعدما كانت باطلة في الأمم السالفة باعتبار كون
الصدقة من الأوساخ ولهذا كان تقبل القرابين بالإحراق,
وأيضا محال التصرفات إنما تعرف شرعا كصلاحية الخل محلا
للبيع دون الخمر. ولما كان هذا حكما شرعيا عللناه بالحاجة
أي: بحاجة الفقير إلى الشاة أو بكونها دافعة لحاجته لنعدي
الحكم إلى قيمة الشاة, ونجعلها صالحة للصرف إلى الفقير;
لأن الحاجة إلى القيمة أشد وهي للحاجة أدفع فصار الحاصل أن
هاهنا حكما هو وجوب الشاة, وآخر هو جواز الاستبدال. وثالثا
هو صلاحية الشاة للصرف إلى الفقير, والتعليل إنما وقع في
هذا الحكم أي: صلاحية الشاة للصرف وليس فيه أي: في هذا
الحكم تغيير بل تغيير النص الدال على وجوب
(2/128)
وذكر الأصناف
لعد المصارف والتكبير لتعظيم الله تعالى فأداء القيمة،
وذكر لفظ آخر يكونان في معنى المنصوص واستعمال الماء
لإزالة النجاسة فيجوز بكل ما يصلح
ـــــــ
بقوله مصروفا, وقوله حكما شرعيا خبر صار فهذا الحكم هو
الحكم الثاني المذكور وفي قوله إن الصدقة واقعة في
الابتداء لله, وفي البقاء مصروف إلى الفقير بيان أن الصدقة
ليست في الابتداء حق الفقير حتى يلزم تغيير حقه من غير
إذنه, وهذه المسألة مع هذه العبارة من مشكلات كتب أصحابنا
في الأصول.
"وذكر الأصناف لعد المصارف" فإن قوله تعالى: {إِنَّمَا
الصَّدَقَاتُ} الآية ذكروا أن
.........................................................
الشاة إنما يكون بالنص أي: بدلالة النص الآمر بإيفاء حق
الفقير وهذا التغيير مقارن للتعليل في حكم آخر هو صلاحية
الشاة للصرف إلى الفقير وليس فيه أي: في ذلك الحكم الآخر
تغيير النص أصلا إذ لا نص يدل على عدم صلاحية الشاة للصرف
إلى الفقير فصار التغيير مع التعليل لا بالتعليل. والممتنع
هو التغيير بالتعليل لا معه فقوله بالنص خبر صار, ومجامعا
حال أو هو خبر صار وبالنص خبر بعد خبر فعلى ما ذكره المصنف
رحمه الله تعالى صار الأصل هو الشاة, والفرع القيمة,
والحكم الصلاحية, والعلة الحاجة ولما كان هذا مخالفا لظاهر
عبارة فخر الإسلام رحمه الله تعالى حيث جعل الفرع هو سائر
الأموال, والعلة والتقوم أوردها وشرحها تنبيها على أن
العلة قد تعتبر من جانب المصرف وهي الحاجة, وقد تعتبر من
جانب الواجب, وهي التقوم, وأن المستبدل به يجوز أن يعتبر
بنفس القيمة وحينئذ لا معنى للتعليل بالتقوم. وأن يعتبر
ماله القيمة فتعلل بالتقوم والمقصود واحد, وهو صلاح صرف
الشاة وغيرها.
فإن قلت كما أن النص الدال على وجوب الشاة دل على صلاحها
للصرف كذلك النص الدال على جواز الاستبدال دال على صلاح
غير الشاة للصرف فلا حاجة إلى التعليل قلت لا معنى لجواز
الاستبدال إلا سقوط اعتبار اسم الشاة وجواز إيفاء حق
الفقير من كل ما يصلح للصرف إليه, وهذا لا يدل على صلاحية
القيمة وكل متقوم للصرف بعدما كانت هذه الصلاحية باطلة في
الأمم السالفة بخلاف إيجاب الشاة بعينها فإن معناه الأمر
بصرفها إلى الفقير. وهذا تنصيص على الصلاحية فلا بد من
إثبات كون القيمة أو كل متقوم صالحا للصرف وذلك بالتعليل
مع ما فيه من الإشعار بأن الاستبدال إنما يجوز بما يعتد به
في دفع الحاجة حتى لو أسكن الفقير داره مدة بنية الزكاة لم
يجزه فالحاصل أن الصدقة تقع لله تعالى ابتداء وللفقير بقاء
فلا بد من ثبوتها حقا لله تعالى أولا ومن صلوحها للصرف إلى
الفقير ثانيا ففي الشاة مثلا ثبت كلا الأمرين بالنص, وفي
القيمة ثبت الأول بدلالة النص, والثاني بالتعليل والقياس
على الشاة, وقد اعترض على ثبوت جواز الاستبدال بدلالة النص
بأنه إنما يلزم لو لم يكن في جنس الواجب ما يصلح لإيفاء حق
الفقراء وقضاء حوائجهم وهو الدراهم والدنانير المخلوقة
ثمنا للأشياء على الإطلاق ووسيلة إلى الأرزاق.
قوله: "وذكر الأصناف" وجه السؤال إنكم جوزتم صرف الزكاة
إلى صنف واحد قياسا على صرفها إلى الكل بعلة الحاجة, وفي
هذا التعليل تغيير للنص الدال على كون الزكاة حقا لجميع
(2/129)
لها وإنما لا
يزول الحدث بسائر المائعات لكونه غير معقول في الأصل، وهو
الماء بخلاف الخبث فإن إزالته معقولة ولا يضر أن يلزمها
أمر غير معقول دفعا للحرج، وهو أن لا يتنجس كل ما يصل
إليه؛ ولأن الماء مطهر طبعا فيزول به كلاهما وغيره كالخل
مثلا قالع يزول به الخبث لا الحدث، فإن قيل لما كان إزالة
الحدث غير معقولة وجبت النية كالتيمم قلنا يأتي الجواب في
فصل المناقضة.
ـــــــ
اللام للعاقبة لا للتمليك, وإنما يلزم تغيير النص لو كان
اللام للتملك فيلزم حينئذ دفع ملك شخص إلى شخص آخر, وإنما
قلنا: إن اللام ليست للتمليك; لأن الصدقات والفقراء لا
يمكن أن يراد بهما الجميع لما عرفت أن حرف التعريف إذا دخل
على الجميع تبطل الجمعية ويراد به الجنس. وأيضا في هذا
الموضع لو أريد الجمع لكان المراد جمعا مستغرقا فمعناه أن
جميع الصدقات لجميع الفقراء والمساكين, وهذا غير مراد
إجماعا إذ ليس في وسع أحد أن يوزع جميع الصدقات على جميع
الفقراء بحيث لا يحرم واحد على أنه إن أريد هذا يبطل مذهب
الشافعي رحمه الله تعالى, وإذا لم يكن الجمع مرادا كان
المراد الجنس فيراد أن جنس الصدقة لجنس الفقير والمسكين من
غير أن يراد الإفراد فتكون اللام للعاقبة لا للتمليك الذي
يوجب التوزيع على الأفراد فيكون لعد المصارف. "والتكبير
لتعظيم الله تعالى فأداء القيمة, وذكر لفظ آخر يكونان في
معنى المنصوص" اعلم أن بعض العلماء فرقوا بين الكبرياء
.........................................................
الأصناف. والجواب أن استحقاق الكل إنما يلزم لو كان اللام
للتمليك, وليس كذلك لما مر من أن الزكاة خالص حق الله
تعالى ابتداء, وإنما تصير للفقراء بقاء بدوام اليد فتكون
اللام للعاقبة دون التمليك, وإنما أحال ذلك على غيره; لأن
كون اللام للعاقبة مجاز بعيد لا يصار إليه إلا عند ظهور
القرائن, وقد أمكن على حمل اللام الاختصاص والدلالة على أن
المصارف إنما هي هذه الأصناف لا غير بمعنى أنه لا يجوز
الصرف إلى غيرهم, وأنهم هم الصالحون للصرف إليهم سواء صرف
أو لم يصرف فبالصرف إلى البعض لا يتغير كون الكل مصارف.
وإنما يلزم التغيير لو كان اللام للتمليك فيفيد أن الزكاة
ملك لجميع الأصناف فيكون صرفها إلى البعض صرف ملك الشخص
إلى غيره ثم تقرير المصنف رحمه الله تعالى لا يخلو عن ضعف;
لأنه قد سبق أن بطلان الجمعية وثبوت الحمل على الجنسية
إنما يكون عند تعذر الاستغراق فلا معنى لتعليل عدم إمكان
أن يراد بالفقراء الجميع ببطلان الجمعية أولا وبتعذر
الاستغراق ثانيا ففي العبارة تسامح, وأيضا المطلوب هاهنا
جواز الصرف إلى بعض الأصناف وهذا لا يتفاوت بكون الفقراء
للجمعية أو للجنسية فلا مدخل لما ذكره من أن الفقراء للجنس
في إثبات كون اللام للعاقبة دون التمليك لجواز أن يلتزم
الخصم بطلان الجمعية للجنس, ويدعي كون الزكاة ملكا للأجناس
المذكورة فلا مدفع له إلا ما ذكرنا.
قوله: "على أنه إن أريد هذا" أي: توزيع جميع الصدقات على
جميع الفقراء يلزم بطلان مذهب الشافعي رحمه الله تعالى;
لأنه لا يقول بوجوب الصرف إلى جميع أفراد كل صنف بل إلى
جمع منها.
فإن قلت إذا كان للاستغراق كان المعنى كل صدقة لكل فقير,
وهذا أظهر بطلانا فلم عدل إلى
(2/130)
والعظمة فإنه
جاء عن الأحاديث الإلهية "الكبرياء ردائي والعظمة إزاري" 1
فالكبرياء صفة هي لله تعالى بمنزلة الرداء للإنسان,
والعظمة بمنزلة الإزار فالأول أدل على الظهور, والثاني على
البطون فلا يكون الله أعظم وأجل بمعنى أكبر لكنا نقول قوله
تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} لا يراد به قل الله أكبر;
لأنه لو قيل وربك قل الله أكبر لا يفيد معنى فمعناه وربك
فعظم أي: قل أو افعل ما فيه تعظيم الله, والفرق الذي ذكروا
بين الكبرياء والعظمة لا يفيد; لأنه ليس في وسع العبد
إثبات ذلك المعنى بل في وسعه ذكر الله بالتعظيم والإجلال,
وإثبات المعنى المشترك بين التكبير والتعظيم والإجلال على
أنه ليس لبعض صفات الله تعالى مزية على البعض لا سيما إذا
كانت من جنس واحد فإذا كان المقصود التعظيم فكل لفظ فيه
التعظيم يكون في معنى الله أكبر. وقوله فأداء القيمة راجع
إلى مسألة دفع القيم, وإنما ذكره هاهنا; لأن فيه وفي مسألة
التكبير معنى مشتركا, وهو كونهما في معنى المنصوص فلذلك
جمعهما في سلك واحد. "واستعمال الماء لإزالة النجاسة فيجوز
بكل ما يصلح لها" اعلم أنه إن أورد الإشكال على قوله
تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}
وقوله عليه السلام: "الماء طهور" فغير وارد; لأنه لا يدل
على أن غير الماء ليس بطهور, وإن أورد
.........................................................
توزيع الجمع على الجمع قلت; لأنه ربما يدعي أن معنى
الاستغراق الشمول والإحاطة بمعنى المجموع فإن مقابلة الجمع
بالجمع تقتضي انقسام الآحاد إلى الآحاد فأبطل ذلك أيضا
وسكت عما هو ظاهر البطلان.
قوله: "واستعمال الماء لإزالة النجاسة" يعني: أن المقصود
هو إزالة النجاسة لا الاستعمال بدليل جواز الاقتصار على
قطع موضع النجاسة أو حرقه,, وكون الماء آلة صالحة للإزالة
حكم شرعي معلل بكونه مزيلا فيعدى إلى كل مائع يشاركه في
ذلك, وكونه مزيلا يتضمن أمرين: طهارة المحل, وعدم تنجس
الآلة بالملاقاة, وإلا لما وجدت والإزالة بل الزيادة, فإن
قيل بل الحكم بطهارة المحل لخاصية في الماء إذ لو كان
لإزالته لوجب أن يشاركه جميع المائعات المزيلة في رفع
الحدث. قلنا الحكم بالطهارة عن الحدث بمعنى زوال المانع
الشرعي ليس بمعقول إذ العضو طاهر لا ينجس به شيء, ومن شرط
القياس كون المعنى معقولا قيل, ولو سلم أنه معقول فالماء
يوجد مباحا لا يبالى بخبثه ولا يلحق به حرج بخلاف سائر
المائعات. وفيه نظر أما أولا فلأنه لا عبرة بالفرق بعد
تحقق العلة وهي الإزالة, وأما ثانيا فلأنه منقوض برفع
الخبث فإن قلت قد ذكر في بحث المناقضة أن التطهير بالماء
معقول وفي الهداية أن غير المعقول هو الاقتصار على الأعضاء
الأربعة, وأما إزالة الحدث فمعقول. قلت يأتي جوابه في بحث
المناقضة وذكر فخر الإسلام رحمه الله أن الماء مطهر بطبعه
لم يحدث فيه معنى لا يعقل فلا يحتاج في صيرورته مطهرا إلى
النية بخلاف التراب فإنه ملوث
ـــــــ
1 رواه أبو داود في كتاب اللباس باب 25. مسلم في كتاب البر
حديث 136.
رواه الترمذي في كتاب الصوم باب 10. ابن ماجه في كتاب
الصوم باب 25. أبو داود في كتاب الطهارة في كتاب الوضوء
باب 105.
(2/131)
فصل: في تعريف العلة
...
فصل: العلة
قيل المعرف ويشكل بالعلامة وقيل: المؤثر، وهي في الحقيقة
ليست
ـــــــ
على قوله عليه الصلاة والسلام: "حتيه واقرصيه ثم اغسليه
بالماء" فوارد. والجواب أن استعمال الماء ليس مقصودا
بالذات; لأن من ألقى الثوب النجس أو قطع موضع النجاسة
بالمقراض سقط عنه استعمال الماء, ولو كان استعماله مقصودا
بالذات لم يسقط بدون العذر لكن الواجب إزالة العين النجسة.
"وإنما لا يزول الحدث" بسائر المائعات لكونه غير معقول في
الأصل, وهو الماء بخلاف الخبث فإن إزالته معقولة ولا يضر
أن يلزمها أمر غير معقول دفعا للحرج, وهو أن لا يتنجس كل
ما يصل إليه; ولأن الماء مطهر طبعا فيزول به كلاهما وغيره
كالخل مثلا قالع يزول به الخبث لا الحدث, فإن قيل لما كان
إزالة الحدث غير معقولة وجبت النية كالتيمم قلنا يأتي
الجواب في فصل المناقضة.
"فصل: العلة قيل المعرف ويشكل بالعلامة" اختلفوا في تعريف
العلة فقال البعض هي
.........................................................
إلا أن الشرع جعله مطهرا عند إرادة الصلاة, فيفتقر إلى
النية فإن قيل هب أن قلع الخبث وإزالته بالماء معقول إلا
أنه يتضمن أمرا غير معقول, وهو عدم تنجس الماء بأول
الملاقاة قلت لا بأس بذلك بعد كون المعنى معقولا لأنه
ملتزم لضرورة دفع الحرج.
قوله: "وهو أن لا يتنجس كل ما يصل إليه" لنفي الشمول لا
لشمول النفي.
قوله: "ولأن الماء مطهر طبعا" تعليل لمعقولية إزالة الماء
للخبث, وذلك لفرط لطافته وقوة إزالته وسرعة نفوذه, وسهولة
خروجه فيزول به الحدث والخبث جميعا بخلاف سائر المائعات
فإنه مطهر باعتبار القلع والإزالة فيزول به الخبث لابتنائه
على الرفع, والقلع دون الحدث; لعدم معقوليته ثبوتا وزوالا.
قوله: "ويشكل بالعلامة" وهي ما يعرف به وجود الحكم من غير
أن يتعلق به وجوده ولا وجوبه كالأذان للصلاة, والإحصان
للرجم يعني: أن تعريف العلة بالمعرف للحكم ليس بمانع لدخول
العلاقة فيه قيل ولا جامع لخروج المستنبطة عنه; لأنها عرفت
بالحكم; لأن معرفة علية الوصف متأخرة عن طلب عليته
المتأخرة عن معرفة الحكم فلو عرف الحكم بها لكان العلم بها
سابقا على معرفة الحكم فيلزم الدور. وجوابه أن المعرف
للعلة المتقدم عليها هو حكم الأصل, والمعرف بالعلة المتأخر
عنها هو حكم الفرع فلا دور, فإن قيل هما مثلان فيشتركان في
الماهية ولوازمها قلنا لا ينافي كون أحدهما أجلى من الآخر
بعارض.
قوله: "بل في الوجوب الحادث" لقائل أن يقول الوجوب الحادث
على ما زعمتم أثر للخطاب القديم وثابت به فكيف يكون أثرا
لشيء آخر, وهو فعل حادث كالقتل مثلا, وجوابه ما أشار إليه
من أن معنى تأثير الخطاب القديم فيه أنه حكم بترتبه على
العلة وثبوته عقيبها, وعلى هذا لا يبعد أن يراد بالحكم
الخطاب القديم, ويكون معنى تأثير العلة تأثيرها في تعلق
الخطاب بأفعال العباد.
(2/132)
بمؤثرة إلا أن
يقال بالنسبة إلينا فإن الأحكام تضاف إلى الأسباب في حقنا.
ـــــــ
المعرف أي: ما يكون دالا على وجود الحكم وقالوا العلل
الشرعية كلها معرفات; لأنها ليست في الحقيقة بمؤثرة بل
المؤثر هو الله تعالى قلنا تدخل العلامة في تعريف العلة,
ولا يبقى الفرق بينهما لكن الفرق ثابت; لأن الأحكام
بالنسبة إلينا مضافة إلى العلل كالملك إلى الشراء والقصاص
إلى القتل, وليست الأحكام مضافة إلى العلامات كالرجم إلى
الإحصان فلا بد من الفرق بين العلة والعلامة. "وقيل:
المؤثر, وهي في الحقيقة ليست بمؤثرة" اعلم أن البعض عرفوا
العلة بالمؤثر, والمراد بالمؤثر ما به وجود الشيء كالشمس
للضوء والنار للإحراق, والبعض أبطلوا تعريف العلة بالمؤثر
بأنها في الحقيقة ليست بمؤثرة بل العلل الشرعية كلها
معرفات; لأن الحكم قديم فلا يؤثر فيه الحادث. والجواب عن
هذا أنا قد ذكرنا أن الحكم المصطلح هو أثر حكم الله القديم
فإن إيجاب الله قديم, والوجوب حادث فالمراد من المؤثر في
الحكم ليس أنه مؤثر في الإيجاب القديم بل في الوجوب الحادث
بمعنى أن الله تعالى رتب بالإيجاب القديم الوجوب على أمر
حادث كالدلوك مثلا فالمراد بكونه مؤثرا أن الله تعالى حكم
بوجوب ذلك الأثر بذلك الأمر كالقصاص بالقتل والإحراق
بالنار ولا فرق في هذا بين العلل العقلية والشرعية فكل من
جعل العلل العقلية مؤثرة بذواتها يجعل العلل الشرعية كذلك,
وهم المعتزلة فكما أن النار علة للاحتراق عندهم بالذات بلا
خلق الله تعالى الاحتراق; فإن القتل العمد بغير حق علة
لوجوب القصاص أيضا عقلا. وكل من جعل العلة العقلية مؤثرة
بمعنى أنه جرت العادة الإلهية بخلق الأثر عقيب ذلك الشيء
فيخلق الاحتراق عقيب مماسة النار لا أنها مؤثرة بذاتها
بجعل العلل الشرعية كذلك بأنه تعالى حكم أنه كلما وجد ذلك
الشيء يوجد عقيبه الوجوب حسب وجود الاحتراق عقيب مماسة
النار فإن المتولدات بخلق الله تعالى عند أهل السنة
والجماعة على ما عرف في علم الكلام. "إلا أن يقال بالنسبة
إلينا فإن الأحكام تضاف إلى الأسباب في حقنا" فإنا مبتلون
بنسبة الأحكام إلى الأسباب الظاهرة فيجب القصاص بالقتل,
وإن كان في الحقيقة المقتول ميت بأجله ففي ظاهر الشرع
الأحكام مضافة إلى الأسباب فهذا معنى كونها مؤثرة.
.........................................................
قوله: "وكل من جعل العلل العقلية مؤثرة بذواتها يجعل العلل
الشرعية كذلك" فإن قلت كون الوقت موجدا لوجوب الصلاة
والقتل لوجوب القصاص ونحو ذلك مما لا يذهب إليه عاقل; لأن
هذه أعراض وأفعال لا يتصور منها إيجاد وتأثير. قلت: معنى
تأثيرها بذواتها أن العقل يحكم بوجوب القصاص بمجرد القتل
العمد العدوان من غير توقف على إيجاب من موجب, وكذا في كل
ما تحقق عندهم أنه علة.
(2/133)
وقيل: الباعث
لا على سبيل الإيجاب أي: المشتمل على حكمة مقصودة للشارع
في شرعه الحكم من جلب نفع أو دفع ضر وكون العلة هكذا تسمى
مناسبة والحكمة المجردة لا تعتبر في كل فرد لخفائها، وعدم
انضباطها بل في الجنس فيضاف الحكم إلى وصف ظاهر منضبط يدور
معها أو يغلب وجودها عنده كالسفر مع المشقة.
ـــــــ
"وقيل: الباعث لا على سبيل الإيجاب" بعض الناس عرفوا العلة
بالباعث يعني: ما يكون باعثا للشارع على شرع الحكم كما في
قولك جئتك لإكرامك; الإكرام باعث على المجيء والقتل العمد
باعث للشارع على شرع القصاص صيانة للنفوس وقوله لا على
سبيل الإيجاب احتراز عن مذهب المعتزلة فإن العلة توجب على
الله تعالى شرع الحكم عندهم على ما عرف أن الأصلح للعباد
واجب على الله تعالى عندهم "أي: المشتمل على حكمة مقصودة
للشارع في شرعه الحكم" هذا تفسير الباعث لا على سبيل
الإيجاب, فإن المراد من الحكمة المصلحة, والمراد من كونه
مشتملا على الحكمة أن ترتب الحكم على هذه العلة محصل
للحكمة, فإن العلة لوجوب القصاص القتل العمد العدوان ولا
يتصور اشتماله على الحكمة إلا بهذا المعنى "من جلب نفع"
أي: إلى العباد "أو دفع ضر" أي: عن العباد. وهذا مبني على
أن أفعال الله تعالى معللة بمصالح العباد عندنا مع أن
الأصلح لا يكون واجبا عليه خلافا
.........................................................
قوله: "كلما وجد ذلك الشيء يوجد عقيبه الوجوب" فإن قلت
كثير من العلل الشرعية مما كانت متحققة قبل ورود الشرع من
غير أن يوجد عقيبها الوجوب كالوقت مثلا قلت معنى كلامه أن
كل شيء جعله الشارع علة لحكم فمعنى ذلك أنه حكم بأنه كلما
يوجد ذلك الشيء بشرائطه يوجد الحكم عقيبه بإيجاب الله
تعالى فقيل ورود الشرع لا حكم بالعلية فلا وجوب عقيب وجود
ذلك الشيء.
قوله: "إلا أن يقال بالنسبة إلينا" يعني: أن الموجب
للأحكام هو الله تعالى إلا أن الإيجاب لما كان غيبا عنا
ونحن عاجزون عن دركها شرع العلل موجبات للأحكام في حق
العمل ونسب الوجوب إليها فيما بين العباد.
قوله: "فمن أنكر التعليل فقد أنكر النبوة"; لأن تعليل بعثة
النبي عليه الصلاة والسلام باهتداء الخلق لازم لها, وكذا
تعليل إظهار المعجزات على يد النبي عليه الصلاة والسلام
بتصديق الخلق, وإنكار اللازم إنكار للملزوم لانتفاء
الملزوم بانتفاء اللازم.
قوله: "والوصف المناسب ما يجلب نفعا أو يدفع ضررا" قريب
مما ذكره الإمام في المحصول أنه الوصف الذي يفضي إلى ما
يجلب للإنسان نفعا أو يدفع عنه ضررا وفسر النفع باللذة أو
ما يكون طريقا إليها, والضرر بالألم أو ما يكون طريقا
إليه. وقد يفسر المناسب بالوصف اللائم لأفعال
(2/134)
للمعتزلة, وما
أبعد عن الحق قول من قال: إنها غير معللة بها فإن بعثة
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لاهتداء الخلق, وإظهار
المعجزات لتصديقهم فمن أنكر التعليل فقد أنكر النبوة وقوله
تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ} وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} وأمثال ذلك كثيرة في القرآن, ودالة
على ما قلنا, وأيضا لو لم يفعل لغرض أصلا يلزم العبث.
ودليلهم أنه إن فعل لغرض فإن لم يكن حصول ذلك الغرض أولى
به من عدمه امتنع منه فعله, وإن كان أولى به كان مستكملا
به فيكون ناقصا في ذاته, وقد قيل عليه: إنه إنما يكون
مستكملا به لو كان الغرض راجعا إليه, وهنا راجع إلى العبد
وأجابوا عن ذلك أن تحصيل مصلحة العبد, وعدمه إن استويا
بالنسبة إليه لا يكون غرضا وداعيا له إلى الفعل; لأنه
حينئذ يلزم الترجيح من غير مرجح, وإن لم يستويا بالنسبة
إليه يكون فعله أولى فيلزم الاستكمال, أقول: هذا الجواب
غير مرضي; لأنا لا نسلم أنه إن استويا بالنسبة إليه لا
يكون غرضا وداعيا, ولا نسلم أن الترجيح من غير مرجح. لم لا
يجوز أن تكون الأولوية بالنسبة إلى العباد مرجحا. "وكون
العلة هكذا تسمى مناسبة" أي: كونها بحيث تجلب النفع إلى
العباد وتدفع الضرر عنهم يسمى مناسبة, والوصف المناسب ما
يجلب نفعا أو يدفع ضررا وقد قال القاضي الإمام أبو زيد
الوصف المناسب ما لو عرض
.........................................................
العقلاء في العادات, الأولى قول من يجعل الأحكام الثابتة
بالنصوص متعلقة بالحكم والمصالح. والثاني: قول من يأبى ذلك
وقال القاضي الإمام أبو زيد: المناسب ما لو عرض على العقول
تلقته بالقبول يعني: إذا عرض على العقل أن هذا الحكم إنما
شرع لأجل هذه المصلحة يكون ذلك الحكم موصلا إلى تلك
المصلحة عقلا وتكون تلك المصلحة أمرا مقصودا عقلا ولا يخفى
أن ما ذهب إليه الجمهور من أن القتل العمد العدوان وصف
مناسب لوجوب القصاص, والإسكار لحرمة الخمر ونحو ذلك على ما
صرح به في التقسيم المذكور لا يستقيم على هذه التفاسير إذ
ليس القتل مثلا مما يجلب نفعا أو يدفع ضررا ولا هو ملائم
لأفعال العقلاء ولا هو مقصود من وجوب القصاص. فلذا قال
المصنف رحمه الله تعالى وقد ذكروا أن المناسب إما حقيقي,
وإما إقناعي, وأحاله على الغير لما أنه لا يستقيم على
تفسير المصنف رحمه الله بل على التفسير الذي ذكره الآمدي
في الأحكام وهو أن المناسب عبارة عن وصف ظاهر منضبط يلزم
من ترتب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصودا من
شرع ذلك الحكم سواء كان المقصود جلب منفعة أو دفع مفسدة
فإنه يلزم من ترتب وجوب القصاص على القتل, حصول ما هو
مقصود من شرعية القصاص, وهو بقاء النفوس على ما يشير إليه
قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}. ويمكن أن
يفسر ما ذكره أبو زيد بهذا المعنى أي: المناسب هو الذي إذا
عرض على العقل أن يلزم من ترتب الحكم عليه حصول ما هو
المقصود منه يقبله, وإنما عدل عنه الآمدي; لأنه إنما يصلح
للناظر لا للمناظر إذ ربما يقول الخصم هذا مما لا يتلقاه
عقلي بالقبول فلا يكون مناسبا بالنسبة إلي, وليس الاحتجاج
بقبول الغير علي أولى من العكس ويمكن أن يقال المراد عامة
العقول ولذا ذكره بلفظ الجمع.
(2/135)
على العقول
تلقته بالقبول وقد ذكروا أن المناسب إما حقيقي وإما
إقناعي, فالحقيقي إما لمصلحة دينية كرياضة النفس وتهذيب
الأخلاق فالوصف المناسب كالدلوك وشهود الشهر, والحكم وجوب
الصلاة والصوم. والحكمة رياضة النفس وقهرها, أو دنيوية وهي
إما ضرورية, وهي خمسة حفظ النفس, والمال والنسب, والدين,
والعقل فهذه الخمسة هي الحكمة والمصلحة في شرعية القصاص
والضمان وحد الزنا والجهاد وحرمة المسكرات, والوصف المناسب
هو القتل العمد العدوان والسرقة والغصب مثلا والزنا وحربية
الكافر والإسكار, وإما محتاج إليها كما في تزويج الصغيرة
فالوصف المناسب هو الصغر, والحكم شرعية التزويج والحكمة
والمصلحة كون المولية تحت الكفء, وهذه المصلحة ليست ضرورية
لكنها في محل الحاجة; لأنه يمكن أن يفوت الكفء لا إلى بدل.
وإما أن لا تكون ضرورية ولا محتاجا إليها بل للتحسين كحرمة
القاذورات فإنها حرمت لنجاستها وعلو منصب الآدمي فلا يحسن
تناولها, والإقناعي ما يتوهم أنه مناسب ثم إذا تؤمل يظهر
خلافه كنجاسة الخمر لبطلان بيعها فمن حيث إنها نجسة تناسب
الإدلال, والبيع يقتضي الإعزاز لكن معنى النجاسة كونها
مانعة من صحة الصلاة, وهذا لا يناسب بطلان البيع.
.........................................................
قوله: "الأصل في النصوص عدم التعليل" اختلفوا في ذلك على
أربعة مذاهب فقيل: الأصل عدم التعليل حتى يقوم دليل
التعليل وقيل: الأصل التعليل بكل وصف صالح لإضافة الحكم
إليه حتى يوجد مانع عن البعض وقيل الأصل التعليل بوصف لكن
لا بد من دليل يميزه من بين الأوصاف, ونسب ذلك إلى الشافعي
رحمه الله تعالى وقد اشتهر فيما بين أصحابه أن الأصل في
الأحكام هو التعبد دون التعليل. والمختار: أن الأصل في
النصوص التعليل, وأنه لا بد من دليل يميز الوصف الذي هو
علة ومع ذلك لا بد قبل التعليل والتمييز من دليل يدل على
هذا النص الذي يراد استخراج علته معلل في الجملة; لأن
الظاهر, وهو أن الأصل في النصوص التعليل إنما يصلح للدفع
دون الإلزام وفي المذهب الثالث لا حاجة إلى ذلك بل يكفي أن
الأصل في النصوص التعليل.
وجه الأول أن النص موجب للحكم بصيغته لا بعلته إذ العلل
الشرعية ليست من مدلولات النص, وبالتعليل ينتقل الحكم من
الصيغة إلى العلة التي هي من الصيغة بمنزلة المجاز من
الحقيقة فلا يصار إليه إلا بدليل, وأيضا التعليل إما بجميع
الأوصاف وهو محال; لأن المقصود هو التعدية, ويمتنع وجود
جميع أوصاف الأصل في الفرع ضرورة التغاير والتمايز في
الجملة, وإما بالبعض وهو أيضا باطل; لأن كل وصف عينه
المجتهد محتمل للعلية وعدمها, والحكم لا يثبت بالاحتمال
فلا بد من دليل يرجح البعض. فإن قيل هاهنا قسم آخر هو
التعليل بكل وصف قلنا إما أن يراد كل وصف على الإطلاق
فيستلزم تعدية الحكم إلى جميع المحال إذ ما من شيئين إلا
وبينهما مشاركة ما في وصف ما, أو يراد كل وصف صالح للعلية,
وإضافة الحكم فيفضي إلى التناقض أي: التعدية وعدمها; لأن
بعض الأوصاف متعد وبعضها قاصر على ما سيجيء; فلذا لم يتعرض
هاهنا لهذا القسم.
(2/136)
وهنا أبحاث:
الأول الأصل في النصوص عدم التعليل لأن النص موجب بصيغته
لا بالعلة؛ ولأن التعليل بكل الأوصاف محال، وبالبعض محتمل،
وعند البعض هي معللة بكل وصف إلا لمانع؛ لأن كل وصف صالح
لهذا والنص مظهر للحكم والعلة داعية والتعليل لإثبات الحكم
في الفرع وعند الشافعي رحمه الله تعالى معللة لكن لا بد من
ـــــــ
"والحكمة المجردة لا تعتبر في كل فرد لخفائها, وعدم
انضباطها بل في الجنس فيضاف الحكم إلى وصف ظاهر منضبط يدور
معها" أي: يدور الوصف مع الحكمة. "أو يغلب وجودها" أي:
وجود الحكمة "عنده" أي: عند الوصف والمراد أن ترتب الحكم
على الوصف يكون محصلا للحكمة دائما, وفي الأغلب "كالسفر مع
المشقة" أي: ليس المراد أن المشقة هي الحكمة بل الحكمة هي
دفع الضرر ودفع الضرر إنما يتحقق في صورة وجود الضرر ووجود
الضرر لا يتحقق إلا أن تكون المشقة موجودة ثم المشقة غالبة
الوجود في السفر فترتب الحكم وهو الرخصة على الوصف وهو
السفر يكون محصلا للحكمة التي هي دفع الضرر في الأغلب.
"وهنا أبحاث: الأول الأصل في النصوص عدم التعليل" عند
البعض إلا بدليل كما قال عليه الصلاة والسلام: "الهرة ليست
بنجسة; لأنها من الطوافين والطوافات عليكم" 1 فتعليله عليه
الصلاة والسلام دل على أن هذا النص معلل, وأن عدم نجاستها
معلل بالطواف "لأن النص موجب بصيغته لا بالعلة; ولأن
التعليل بكل الأوصاف محال, وبالبعض محتمل, وعند البعض هي
معللة بكل وصف إلا لمانع; لأن كل وصف صالح لهذا" أي:
للتعليل. "والنص مظهر للحكم والعلة داعية" جواب عن قوله أن
النص موجب للحكم بصيغته إلا بالعلة أي: نعم أن النص موجب
للحكم بمعنى أنه مظهر للحكم بصيغته لا أنه داع بل الداعي
إلى الحكم هو العلة. "والتعليل لإثبات الحكم في الفرع"
جواب آخر عن قوله: أن النص موجب بصيغته أي: نعم أن النص
موجب للحكم بصيغته في الأصل لا في الفرع بل في الفرع موجب
للحكم بسبب العلة, ونحن إنما نعلل لإثبات الحكم في الفرع
لا في الأصل. "وعند الشافعي رحمه الله تعالى معللة لكن لا
بد من دليل مميز; لأن بعض الأوصاف متعد, وبعضها قاصر فلو
علل بكل وصف يلزم التعدية وعدمها وعندنا لا بد مع ذلك" أي:
مع ما قاله الشافعي رحمه الله تعالى "من الدليل على أن
النص معلل في الجملة لاحتمال أن يكون من النصوص الغير
المعللة نظيره في حديث الربا أن قوله عليه الصلاة والسلام:
"يدا بيد" يوجب التعيين. وذلك من باب الربا أيضا; لأنه لما
شرط تعيين أحد البدلين احترازا عن بيع الدين بالدين" فإنه
عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الكالئ بالكالئ "شرط تعيين
الآخر احترازا عن شبهة الفضل"
ـــــــ
1 رواه الترمذي في كتاب الطهارة باب 69 . الموطأ في كتاب
الطهارة حديث 13. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 32.
(2/137)
دليل مميز؛ لأن
بعض الأوصاف متعد، وبعضها قاصر فلو علل بكل وصف يلزم
التعدية وعدمها وعندنا لا بد مع ذلك من الدليل على أن النص
معلل في الجملة لاحتمال أن يكون من النصوص الغير المعللة
نظيره في حديث الربا أن قوله عليه الصلاة والسلام: "يدا
بيد" يوجب التعيين. وذلك من باب الربا أيضا؛ لأنه لما شرط
تعيين أحد البدلين احترازا عن بيع الدين بالدين شرط تعيين
الآخر احترازا عن شبهة الفضل وقد وجدنا هذا الحكم متعديا
حتى لا يجوز بيع الحنطة بعينها بشعير بغير عينه إجماعا،
وشرط الشافعي رحمه الله تعالى التقابض في بيع الطعام
بالطعام فإذا وجدناه معللا في ربا النسيئة نعلله في ربا
الفضل أيضا؛ لأنه أثبت منه.
الثاني: يجوز أن تكون العلة وصفا لازما كالثمنية للزكاة في
المضروب عندنا حتى تجب الزكاة في الحلي وللربا عنده وعارضا
كالكيل للربا وجليا وخفيا على ما
ـــــــ
فإن للنقد مزية على النسيئة. "وقد وجدنا هذا الحكم متعديا
حتى لا يجوز بيع الحنطة بعينها بشعير بغير عينه إجماعا,
وشرط الشافعي رحمه الله تعالى التقابض في بيع الطعام
بالطعام فإذا وجدناه معللا في ربا النسيئة نعلله في ربا
الفضل أيضا; لأنه أثبت منه"; لأن الربا هو الفضل الخالي من
العوض, وهو موجود حقيقة في ربا الفضل كبيع قفيز من الحنطة
بقفيزين منها. أما الربا في النسيئة, وهو بيع الحنطة
بعينها بشعير بغير عينه نسيئة فشبهة الفضل قائمة لا حقيقة
الفضل هذا ما قالوا. واعلم أن اشتراط هذا الشرط, وهو كون
هذا النص معللا في الجملة في غاية الصعوبة; لأن التعليل إن
توقف على تعليل آخر فالتعليل الموقوف عليه إن توقف على
تعليل آخر يلزم التسلسل, وإن لم يتوقف يثبت أن بعض
التعليلات لم يتوقف على هذا, ويمكن أن يجاب عن هذا بأنا
لما شرطنا في العلة التأثير, وهو أن يثبت بالنص أو الإجماع
اعتبار الشارع جنس هذا الوصف أو نوعه في جنس هذا الحكم أو
نوعه لا يثبت التأثير إلا وأن يثبت كون هذا النص من النصوص
المعللة; لأنه كلما ثبت اعتبار الشارع جنس هذا الوصف أو
نوعه في جنس هذا الحكم أو نوعه ثبت أن هذا النص من النصوص
المعللة.
"الثاني: يجوز أن تكون العلة وصفا لازما كالثمنية للزكاة
في المضروب عندنا" فإن الذهب والفضة خلقا ثمنا, وهذا الوصف
لا ينفك عنهما أصلا "حتى تجب الزكاة في الحلي وللربا عنده
وعارضا كالكيل للربا" فإن الكيل ليس بلازم حسا للحنطة,
والشعير فإنهما قد يباعان وزنا "وجليا وخفيا على ما يأتي
واسما" أي: اسم جنس "كقوله عليه الصلاة والسلام في
المستحاضة أنه "دم عرق انفجر", وهذا اسم مع وصف عارض" الدم
اسم جنس والانفجار وصف عارض, "وحكما كقوله عليه الصلاة
والسلام: "أرأيت لو كان على أبيك دين؟" " قاس النبي
.........................................................
ووجه الثاني أن الأدلة قائمة على حجية القياس من غير تفرقة
بين نص ونص, فيكون التعليل هو الأصل, ولا يمكن بالكل ولا
بالبعض دون البعض لما مر فتعين التعليل بكل وصف إلا أن
يقوم مانع كمخالفة نص أو إجماع أو معارضة أوصاف.
(2/138)
يأتي واسما
كقوله عليه الصلاة والسلام في المستحاضة أنه دم عرق انفجر،
وهذا اسم مع وصف عارض وحكما كقوله عليه الصلاة والسلام:
"أرأيت لو كان على أبيك دين؟" وكقولنا في المدبر أنه مملوك
تعلق عتقه بمطلق موت المولى فلا يباع كأم الولد ومركبا
كالكيل والجنس وغير مركب، وهذا ظاهر ومنصوصة وغير منصوصة
كما يأتي. مسألة ولا يجوز التعليل بالعلة القاصرة عندنا
لأن الحكم في الأصل ثابت بالنص.
ـــــــ
عليه الصلاة والسلام إجزاء قضاء الحج عن الأب على إجزاء
قضاء دين العباد عن الأب والعلة كونهما دينا, وهو حكم
شرعي; لأن الدين لزوم حق في الذمة. "وكقولنا في المدبر أنه
مملوك تعلق عتقه بمطلق موت المولى فلا يباع كأم الولد" فيه
قياس عدم جواز بيع المدبر على عدم جواز بيع أم الولد
والعلة كونهما مملوكين تعلق عتقهما بمطلق موت المولى, وهذا
حكم شرعي وإنما قال بمطلق موت المولى احترازا عن المدبر
المقيد كقوله إن مت في هذا المرض فأنت حر "ومركبا كالكيل
والجنس وغير مركب, وهذا ظاهر ومنصوصة وغير منصوصة كما
يأتي".
"مسألة ولا يجوز التعليل بالعلة القاصرة عندنا" وعند
الشافعي رحمه الله تعالى يجوز فإنه جعل علة الربا في الذهب
والفضة الثمنية فهي مقتصرة على الذهب والفضة غير متعدية
عنهما إذ غير الحجرين لم يخلق ثمنا. والخلاف فيما إذا كانت
العلة مستنبطة أما إذا كانت منصوصة فيجوز عليتها اتفاقا
"لأن الحكم في الأصل ثابت بالنص" سواء كان معقول المعنى أو
لا
.........................................................
ووجه الثالث أنه لا يمكن التعليل بجميع الأوصاف لما مر ولا
بكل واحد; لأن منها ما هو قاصر يوجب حجر القياس وقصر الحكم
على الأصل, ومنها ما هو متعد يوجب التعدية إلى الفرع, وهذا
تناقض فتعين البعض, وأيضا اختلاف الصحابة في الفروع
لاختلافهم في العلة يدل على إجماعهم على أن علة الحكم هو
البعض دون المجموع أو كل واحد, والبعض محتمل فلا بد له من
مميز, واحتياج التعيين والتمييز إلى الدليل لا ينافي كون
الأصل هو التعليل, وبهذا يخرج الجواب عن الدليل الثاني على
القول الأول فلهذا اقتصر المصنف رحمه الله تعالى على جواب
الدليل الأول.
ووجه الرابع ظاهر ولقائل أن يقول لا نسلم التعليل بالقاصرة
يوجب عدم التعدية بل غايته أنه لا يوجب التعدية, ولا يدل
إلا على ثبوت الحكم في المنصوص فعلى تقدير التعليل بكل وصف
ثبت التعدية بالمتعدية, وتكون القاصرة لتأكيد الثبوت في
الأصل ويدل على ذلك ما ادعيتم من أن نص الربا في النقدين
معلل عند الشافعية رحمهم الله تعالى بالثمنية مع تعدي وجوب
التعيين إلى المطعوم.
قوله: "نظيره" أي: نظير الأصل المذكور في قوله عليه
السلام: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة
(2/139)
وإنما يجوز
التعليل للاعتبار إذ ليس للعبد بيان علية أحكام الله تعالى
وما قالوا أن فائدة التعليل لا تنحصر في هذا وفائدته أن
يصير الحكم أقرب إلى القبول ليس بشيء إذ الفائدة الفقهية
ليست إلا إثبات الحكم، فإن قيل التعدية موقوفة على التعليل
فتوقفه عليها دور. قلنا: يتوقف على علمه بأن الوصف حاصل في
الغير.
ـــــــ
"وإنما يجوز التعليل للاعتبار إذ ليس للعبد بيان علية
أحكام الله تعالى وما قالوا أن فائدة التعليل لا تنحصر في
هذا" أي: في الاعتبار. "وفائدته أن يصير الحكم أقرب إلى
القبول ليس بشيء إذ الفائدة الفقهية ليست إلا إثبات الحكم,
فإن قيل التعدية موقوفة على التعليل فتوقفه عليها دور.
قلنا: يتوقف على علمه بأن الوصف حاصل في الغير" أي:
التعليل لا يتوقف على التعدية بل يتوقف التعليل على العلم
بأن هذا الوصف حاصل في غير مورد النص. واعلم أن كثيرا من
العلماء قد تحيروا في هذه المسألة واستبعدوا مذهب أبي
حنيفة رحمه الله تعالى فيها توهما منهم أن الحق أن يتفكروا
أولا في استنباط العلة أن العلة في الأصل ما هي فإذا حصل
غلبة الظن بالعلة, فإن كانت متعدية من الأصل أي: حاصلة في
غير صورة الأصل يتعدى
.........................................................
مثلا بمثل يدا بيد" 1 أن قوله عليه الصلاة والسلام: "يدا
بيد" يوجب التعيين; لأن اليد آلة التعيين كالإشارة,
والإحضار وذلك من باب الربا أيضا أي: وجوب التعيين من باب
منع الربا, والاحتراز عنه كوجوب المماثلة; لأنه لما شرط في
مطلق البيع تعيين أحد البدلين احترازا عن بيع الدين بالدين
شرط في باب الصرف تعيين البدلين جميعا احترازا عن شبهة
الفضل الذي هو ربا. كما شرط المماثلة في القدر احترازا عن
حقيقة الفضل وقد وجدنا وجوب التعيين متعديا عن بيع النقدين
إلى غيره حتى وجب التعيين في بيع الحنطة بالشعير حيث لم
يجز بيع حنطة بعينها بشعير لا بعينه مع الحلول وذكر
الأوصاف, وحتى شرط الشافعي رحمه الله تعالى التقابض في
المجلس في بيع الطعام بالطعام سواء اتحد الجنس أو اختلف
ليحصل التعيين فثبت بإجماعهم على تعدية وجوب التعيين إلى
غير النقدين أن نص الربا معلل في حق وجوب التعيين إذ لا
تعدية بدون التعليل, فيجب أن يكون معللا في حق وجوب
المماثلة بطريق دلالة الإجماع حتى يتعدى إلى سائر
الموزونات; لأن ربا الفضل وهو مبنى تعدية وجوب المماثلة
أشد ثبوتا وتحققا من ربا النسيئة وهو مبنى تعدية وجوب
التعيين; لأن فيه شبهة الفضل باعتبار مزية النقد على
النسيئة, وحقيقة الشيء أولى بالثبوت من شبهته.
والحاصل أن تعليل هذا النص في ربا النسيئة دليل على كونه
معللا في ربا الفضل, وكونه معللا في ربا النسيئة مستند إلى
الإجماع أو النص, وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إنما
الربا في
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 8 / 81 / 84. مسلم في
كتاب المساقاة حديث 76، 81 _ 83.
أبو داود في كتاب البيوع باب 8، 81، 84. مسلم في كتاب
المساقاة حديث 76 / 81 – 83.
أبو داود في كتاب البيوع باب 12، 17. الترمذي في كتاب
البيوع باب 21. النسائي في كتاب البيع باب 42 – 44. ابن
ماجه في كتاب التجارات باب 48، 56. الدارمي في كتاب
المقدمة باب 40. أحمد في مسنده 1/200، 201 3/97.
(2/140)
الحكم, وإلا
فلا بل يقتصر الحكم على مورد النص, أو مورد الإجماع فيقتصر
الحكم. أما توقف التعليل على التعدية أو على العلم بأن
العلة حاصلة في غير الأصل فلا معنى له, فأقول هذه المسألة
مبنية على اشتراط التأثير عند أبي حنيفة رحمه الله وعلى
الاكتفاء بالإخالة عند الشافعي رحمه الله ومعنى التأثير
اعتبر الشارع جنس الوصف أو نوعه في جنس الحكم أو نوعه فإن
كان الوصف مقتصرا على مورد النص غير حاصل في صورة أخرى لا
يحصل غلبة الظن بالعلة أصلا; لأن نوع العلة أو جنسها لما
لم يوجد في صورة أخرى لا يدرى أن الشارع اعتبره أو لم
يعتبره. وعند الشافعي رحمه الله لما كان مجرد الإخالة
كافيا يحصل الوقوف على العلة مع الاقتصار على مورد النص
فحاصله الخلاف أنه إذا كان الوصف مقتصرا على مورد النص أو
الإجماع يمتنع الوقوف بطريق الاستنباط على كونه علة عندنا
خلافا له, فهذا الذي ذكرنا من مبنى الخلاف أفاد عدم صحة
التعليل بالوصف القاصر عندنا وصحته عنده, وثمرة الخلاف أنه
إذا وجد في مورد النص وصفان قاصر ومتعد, وغلب
.........................................................
النسيئة" 1, وأن النبي عليه الصلاة والسلام: "نهى عن بيع
الربا, والريبة", والمراد بالريبة شبهة الربا وفي بيع
النقد بالنسيئة شبهة الربا. فالدليل على كون النص معللا في
الجملة قد يكون نصا أو إجماعا, وقد يكون تعليلا آخر وينتهي
بالآخرة إلى نص أو إجماع قطعا للتسلسل, وليس في كلامهم ما
يوهم أن كل تعليل يتوقف على تعليل آخر حتى يتوهم ورود
الإشكال الذي أورده المصنف رحمه الله تعالى من لزوم
التسلسل أو استغناء بعض التعليلات عن كون النص معللا.
وتقرير جوابه أنا نشترط في العلة التأثير أي: اعتبار
الشارع جنسه أو نوعه في جنس الحكم أو نوعه فكلما ثبت عليه
الوصف ثبت تأثيره, وكلما ثبت تأثيره ثبت كون النص معللا في
الجملة ضرورة أنه اعتبر علة لنوع الحكم المستفاد منه, أو
لجنسه وعلة الجنس علة للنوع, وربما يقال إن استخراج العلة
واعتبار كونها مؤثرة أو غير مؤثرة موقوف على كون النص
معللا فإثبات ذلك به دور.
قوله: "هذا ما قالوا" إنما قال ذلك لما توهم من ورود
الإشكال; ولأن إثبات التعليل في ربا النسيئة كاف وكون النص
من النصوص المعللة في الجملة, ولا حاجة إلى باقي المقدمات;
ولأن وجوب التعيين والمماثلة في الأشياء الستة قد ثبت
بالنص الوارد فيها, وقد سبق أن من شرط التعليل, والتعدية
عدم النص في الفرع, ويمكن أن يجاب بأنه مبني على مذهب من
لا يشترط ذلك على أنه لا مناقشة في المثال ويكفي فيه الفرض
والتقدير.
قوله: "الثاني" إشارة إلى نفي شرائط اعتبرها بعضهم في
العلة, وهي أن تكون وصفا لازما جليا منصوصا عليه ليس بمركب
ولا حكم شرعي حتى لا يجوز التعليل بالعارض; لأن انفكاكه
يوجب انتفاء الحكم. والجواب أن المعتبر صلاحية المحل
للاتصاف به ولا بالخفي كرضا المتعاقدين في
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب البيوع باب 79. مسلم في كتاب
المساقاة حديث 101، 102، 104. النسائي في كتاب البيوع باب
50. ابن ماجه في كتاب التجارات باب 49. الدارمي في كتاب
البيوع باب 42. أحمد في مسنده 5/200، 202، 204.
(2/141)
على ظن المجتهد
أن القاصر علة هل يمنع التعليل بالمتعدي أم لا؟ فعنده
يمنع, وعندنا لا فإنه لا اعتبار لغلبة الظن بعلية الوصف
القاصر فإنها مجرد وهم لا غلبة ظن فلا تعارض غلبة الظن
بغلبة الوصف المتعدي المؤثر. كما أن توهم أن لخصوصية الأصل
تأثيرا في الحكم فهذا المعنى لا يمنع التعليل بالوصف
المتعدي المؤثر فكذا هاهنا إلا إذا كان الوصف القاصر يثبت
عليته بالنص كقوله عليه الصلاة والسلام: "حرمت الخمر
لعينها" فحينئذ يثبت عليته, ويكون مانعا من علية وصف آخر
فإن قيل تعليلكم بالثمنية للزكاة في المضروب تعليل بالوصف
القاصر قلنا: لا بل متعد إلى الحلي فإن قيل: تعديته إلى
الحلي لا تدل على كونه وصفا مؤثرا وقد جعلتم هذه المسألة
مبنية على التأثير. قلنا معنى قولنا: أن الثمنية علة
للزكاة في المضروب هو أن كون الذهب والفضة خلقا ثمنين دليل
على أنهما غير مصروفين إلى الحاجة الأصلية بل هما من أموال
التجارة خلقة فيكونان من المال النامي, وتأثير المال
النامي في وجوب الزكاة عرف شرعا فمعنى كون الثمنية علة
للزكاة أن الثمنية من جزئيات كون المال ناميا فتكون علة
مؤثرة باعتبار أن الشارع اعتبر جنسه في حكم وجوب الزكاة,
فالعلة في الحقيقة النماء لا الثمنية
.........................................................
ثبوت حكم البيع وجوابه يأتي في فصل الاستحسان وهو أن الخفي
قد يكون أقوى, والاعتبار بالقوة أولى, ولا بغير المنصوص
لما سيأتي مع جوابه ولا بالمركب من وصفين فصاعدا, وإلا
لكانت العلة صفة زائدة على المجموع ضرورة أنا نعقل
المجموع, ونجهل كونه علة بناء على الذهول أو الحاجة إلى
النظر, والمجهول غير المعلوم واللازم وهو كون العلة صفة
المجموع باطل; لأن صفة الكل إن لم تقم بشيء من الأجزاء لم
تكن صفة له, وإن قامت فإما بكل جزء فيكون كل جزء علة,
والمقدر خلافه وإما بجزء واحد فيكون هو العلة, ولا مدخل
لسائر الأجزاء وإما بالمجموع من حيث هو المجموع, وحينئذ إن
لم يكن له جهة واحدة فظاهر وإن كانت ينقل الكلام إليها
وإلى كيفية قيامها بالمجموع ويتسلسل. والجواب أنه لا معنى
لكون الوصف علة إلا قضاء الشارع بثبوت الحكم عندها رعاية
لمصلحة, وليس ذلك صفة له بل جعله الشارع متعلقا به, ولو
سلم فالعلية وجهة, الوحدة من الاعتبارات متى ينقطع التسلسل
فيها بانقطاع الاعتبار ولا يجوز التعليل بحكم شرعي; لأنه
إما متقدم بالزمان على ما فرض معلولا فيلزم تخلف المعلول,
أو متأخر فيلزم تقدم المعلول أو مقارن فيلزم التحكم إذ ليس
أحدهما أولى بالعلية. والجواب أن تأثير العلل الشرعية ليس
بمعنى الإيجاد والتحصيل حتى يمتنع التقدم أو التخلف, ولو
سلم فيجوز أن يكون أحد الحكمين صالحا للعلية من غير عكس أو
يكون الثابت بالدليل عليه أحدهما دون الآخر فلا يلزم
التحكم فظهر بطلان الأدلة على اشتراط الشروط المذكورة وقد
ثبت بالأدلة السابقة حجية القياس وصحة التعليل من غير فصل
بين اللازم والعارض أو الجلي والخفي إلى غير ذلك فثبت
المطلوب, والمراد بكون العلة اسم جنس أن يتعلق الحكم
بمعناه القائم بنفسه مثل كون الخارج من المستحاضة دم عرق
منفجر لا أن يتعلق بنفس الاسم المختلف باختلاف اللغات.
قوله: "لأن الحكم في الأصل ثابت بالنص" إشارة إلى الجواب
عن استدلال الخصم, وهو أن
(2/142)
مسألة ولا يجوز
التعليل بعلة اختلف في وجودها في الفرع أو في الأصل كقوله
في الأخ أنه شخص يصح التكفير بإعتاقه فلا يعتق إذا ملكه
كابن العم فإنه إن أراد عتقه إذا ملكه لا يفيده وإن أراد
إعتاقه بعدما ملكه فلا نسلم ذلك في الأخ وكقوله إن تزوجت
زينب فكذا تعليق فلا يصح بلا نكاح. كما لو قال زينب التي
أتزوجها طالق؛ لأنا نمنع وجود التعلق في الأصل، أو ثبت
الحكم في الأصل بالإجماع مع الاختلاف في العلة كقوله في
قتل الحر بالعبد إنه عبد فلا يقتل بالحر كالمكاتب فنقول
العلة في الأصل جهالة المستحق لا كونه عبدا. مسألة: ولا
يجوز التعليل بوصف يقع به الفرق كقوله مكاتب فلا يصح
التكفير بإعتاقه كما إذا أدى بعض البدل فنقول أداء بعض
البدل عوض مانع. الثالث: تعرف العلة بأمور أولها النص إما
صريحا كقوله تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ
ـــــــ
"مسألة ولا يجوز التعليل بعلة اختلف في وجودها في الفرع أو
في الأصل كقوله في الأخ أنه شخص يصح التكفير بإعتاقه فلا
يعتق إذا ملكه كابن العم فإنه إن أراد عتقه إذا ملكه لا
يفيده"; لأن هذا الوصف غير موجود في ابن العم "وإن أراد
إعتاقه بعدما ملكه فلا نسلم ذلك في الأخ وكقوله إن تزوجت
زينب فكذا تعليق فلا يصح بلا نكاح. كما لو قال زينب التي
أتزوجها طالق; لأنا نمنع وجود التعلق في الأصل, أو ثبت
الحكم في الأصل بالإجماع مع الاختلاف في العلة كقوله في
قتل الحر بالعبد إنه عبد فلا يقتل بالحر كالمكاتب" أي:
مكاتب قتل وله مال يفي ببدل الكتاب وله وارث غير سيده
"فنقول العلة في الأصل جهالة المستحق لا كونه عبدا. مسألة:
ولا يجوز التعليل بوصف يقع به الفرق كقوله مكاتب فلا يصح
التكفير بإعتاقه كما إذا أدى بعض البدل فنقول أداء بعض
البدل عوض مانع".
"الثالث: تعرف العلة
.........................................................
النص إذا كان معقولا فالحكم ثابت العلة دون النص; لأنه لا
معنى للعلة إلا ما ثبت به الشيء ولا شيء هاهنا يثبت بها
سوى الحكم, ولذا يعدى إلى الفرع بأن يقال ثبت في الأصل
بالعلة, وهي موجودة في الفرع فيثبت فيه أيضا وعدم التعدي
لا يصلح مانعا للإجماع على جواز العلة القاصرة المنصوصة
فأجاب بأن الحكم في الأصل ثابت بالنص سواء كان معقول
المعنى, أو لم يكن علل أو لم يعلل فيعد التعليل لو أضيف
إلى العلة لزم بطلان النص فالمثبت للحكم هو النص. ومعنى
علية الوصف كونه باعثا للشارع على شرع الحكم, وإنما جازت
التعدية إلى الفرع لما في التعليل من تعميم النص وشموله
للفرع, وبيان كونه مثبتا لحكم الفرع وقيل: حكم الأصل مضاف
إلى النص في نفسه, وإلى العلة في حق الفرع وهذا القدر من
الاشتراك كاف في القياس.
قوله: "وإنما يجوز التعليل" احتجاج على امتناع التعليل
بالعلة القاصرة أي: وإنما جاز التعليل بغير المنصوصة; لأن
الشارع لما أمر بالاعتبار المبني على التعليل مع ندرة
العلة المنصوصة كان ذلك إذنا لبيان علية الأحكام; لأجل
القياس فيبقى بيان العلية بالقاصرة على الامتناع حتى يرد
بها نص الشارع.
(2/143)
دُولَةً} وقوله
تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وقوله تعالى: {فَبِمَا
رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} وغيرها من ألفاظ التعليل أو إيماء
بأن يترتب الحكم على الوصف بالفاء في أيهما كان نحو قوله
تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا} وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تقربوه
طيبا فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا" والحق أن هذا صريح وكذا
في لفظ الراوي نحو زنى ماعز فرجم أو
ـــــــ
بأمور أولها النص إما صريحا كقوله تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ
دُولَةً} " يقال صار الفيء دولة بينهم يتداولونه بأن يكون
مرة لهذا ومرة لذلك "وقوله تعالى: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}
وقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} وغيرها من
ألفاظ التعليل أو إيماء بأن يترتب الحكم على الوصف بالفاء
في أيهما كان نحو قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وقوله عليه
الصلاة والسلام: "لا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة
ملبيا" والحق أن هذا صريح" لأن الفاء في مثل هذه الصورة
للتعليل فصار كاللام فمعناه لأنه يحشر "وكذا في لفظ الراوي
نحو زنى ماعز فرجم أو يترتب الحكم
.........................................................
قوله: "إذ الفائدة الفقهية ليست إلا إثبات الحكم" لقائل أن
يقول إن أريد بالفائدة الفقهية ما يكون له تعلق بالفقه
ونسبة إليه فلا نسلم انحصارها في إثبات الحكم لجواز أن
يكون سرعة الإذعان, وزيادة الاطمئنان بالأحكام, والاطلاع
على حكمة الشارع في شرعيتها. وإن أريد المسألة الفقهية فلا
نسلم أن التعليل لا يكون إلا لأجلها; لجواز أن يكون لفائدة
أخرى متعلقة بالشرع فلا يلزم العبث, وقد يقال: إن دليل
الشرع لا بد من أن يوجب علما أو عملا, والتعليل بالقاصرة
لا يوجب العلم, وهو ظاهر ولا العمل لأنه واجب بالنص,
والاطلاع على الحكمة من باب العلم فلا يعتبر في حقه التعلل
المفيد للظن. وجوابه: أن التعليل بالقاصرة ليس من الأدلة
الشرعية ولو سلم فيفيد الظن بالحكمة, والمصلحة وهو يوجب
سرعة الإذعان وشدة الاطمئنان, وأيضا منقوض بالتعليل بالعلة
القاصرة المنصوصة بنص ظني. واعلم أنه لا معنى للنزاع في
التعليل بالعلة القاصرة الغير المنصوصة; لأنه إن أريد عدم
الجزم بذلك فلا نزاع, وإن أريد عدم الظن فبعدما غلب على
رأي المجتهد عليه الوصف القاصر, وترجح عنده ذلك بأمارة
معتبرة في استنباط العلل لم يصح نفي الظن ذهابا إلى أنه
مجرد وهم على ما زعم المصنف رحمه الله تعالى, وأما عند عدم
رجحان ذلك أو عند تعارض القاصر والمتعدي فلا نزاع في أن
العلة هو الوصف المتعدي.
قوله: "فإن قيل" تقرير السؤال لو كانت صحة التعليل موقوفة
على تعدية العلة لم تكن تعديتها موقوفة على صحتها لامتناع
الدور, واللازم منتف للاتفاق على توقف التعدية على ثبوت
العلية الموقوف على صحتها وتقرير الجواب أن الموقوف على
التعليل هو التعدية بمعنى إثبات حكم مثل حكم الأصل في
الفرع, والتعليل موقوف على التعدية بمعنى العلم بوجود
الوصف في غير مورد النص فلا دور, وقد يجاب بأنه دور معية
لا دور تقدم إذ العلة لا تكون إلا متعدية لا أن كونها
متعدية يثبت أولا ثم تكون علة.
قوله: "هذه المسألة مبنية على اشتراط التأثير" فيه نظر;
لأن اقتصار الوصف على مورد النص وعدم حصوله في صورة أخرى
مع عدم النص على علية الوصف لذلك الحكم لا ينافي وجود جنس
(2/144)
يترتب الحكم
على المشتق نحو: أكرم العالم أو يقع جوابا نحو: واقعت
امرأتي في نهار رمضان فقال: "أعتق رقبة" أو يكون بحيث لو
لم يكن علة لم يفد نحو: " إنها من الطوافين"
ـــــــ
على المشتق نحو: أكرم العالم أو يقع جوابا نحو: واقعت
امرأتي في نهار رمضان فقال: "أعتق رقبة" أو يكون بحيث لو
لم يكن علة لم يفد نحو: "إنها من الطوافين" والحق أن هذا
صريح" إذ كلمة إن إذا وقعت بين الجملتين تكون لتعليل
الأولى بالثانية كقوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي
إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} ونظائره كثيرة
فإما أن تكون إن في مثل هذا الكلام للتعليل أو يكون تقديره
لأن والحذف غير الإيماء "ونحو: "أرأيت لو كان على أبيك
دين؟" الحديث أو يفرق في الحكم بين شيئين بحسب وصف مع
ذكرهما نحو: "للفارس سهمان
.........................................................
الوصف في صورة أخرى واعتبار الشارع إياه جنس الحكم بأن
يثبت ذلك بنص أو إجماع.
قوله: "ويكون مانعا من علية وصف آخر" قيل: علية لا تزاحم
في العلل فيجوز أن يثبت بالنص أو غيره للحكم علة قاصرة,
وأخرى متعدية, ويتعدى الحكم باعتبار المتعدية دون القاصرة.
قوله: "وإن أراد إعتاقه" يعني: إن أراد أنه يصير ملكا له
ثم يقع عن الكفارة بإعتاق قصدي واقع بعد الملك فلا نسلم
وجود هذا الوصف في الفرع أعني: الأخ بل هو يعتق بمجرد
الملك.
قوله: "أو ثبت" عطف على اختلف أي: لا يجوز التعليل بعلة
اختلف في عليتها مع الإجماع على ثبوت الحكم في الأصل
كالاختلاف في أن علة عدم قتل الحر بالمكاتب هو كونه عبدا
أو الجهل بأن مستحق استيفاء القصاص هو السيد أو غيره من
الورثة بناء على عدم العلم بأنه هل يفي ببدل الكتابة أم
لا؟
قوله: "أداء بعض البدل عوض", والعوض مانع من جواز التكفير,
وهو موجود في الأصل دون الفرع. فإن قلت هذا ليس من قبيل
التعليل بوصف يقع به الفرق إذ أداء بعض البدل لا يوجد في
الفرع, وهو المكاتب الذي لم يؤد شيئا فكيف يجعل علة؟ قلت
معنى الكلام أنه لا يجوز التعليل بعلة مع وصف يقع به الفرق
فالباء في قوله بوصف ليست صلة للتعليل بل هي باء المصاحبة
وحينئذ لا إشكال.
قوله: "الثالث" لا شك أن كون الوصف الجامع علة حكم خبري
غير ضروري, فلا بد في إثباته من دليل وله مسالك صحيحة,
ومسالك يتوهم صحتها فلا بد من التعرض لهما ولما يتعلق بكل
منهما, والمسالك الصحيحة ثلاثة: النص والإجماع والمناسبة
ثم النص إما صريح وهو ما دل بوضعه وإما إيماء وهو أن يلزم
من مدلول اللفظ, فالصريح له مراتب: منها ما صرح فيه
بالعلية مثل العلة كذا أو لأجل كذا أو كي يكون كذا, ومنها
ما ورد فيه حرف ظاهر في التعليل مثل لكذا أو بكذا وإن كان
كذا فإن هذه الحروف قد تجيء لغير العلية كلام العاقبة و
"باء" المصاحبة و "إن" المستعملة في مجرد الشرط
والاستصحاب, ومنها ما دخل فيه الفاء في كلام الشارع أما في
(2/145)
والحق أن هذا
صريح ونحو: "أرأيت لو كان على أبيك دين؟" الحديث أو يفرق
في الحكم بين شيئين بحسب وصف مع ذكرهما نحو: للفارس سهمان
وللراجل سهم بحسب وصف الفروسية وضدها أو ذكر أحدهما نحو:
"القاتل لا يرث" أو يفرق بينهما بطريق الاستثناء نحو:
{إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} أو بطريق الغاية نحو: حتى يطهرن
أو بطريق الشرط نحو: "مثلا بمثل فإن اختلف الجنسان فبيعوا
كيف شئتم".
ـــــــ
وللراجل سهم" فإنه فرق في هذا الحكم بين الفارس والراجل
"بحسب وصف الفروسية وضدها" فقوله مع ذكرهما إما أن يرجع
الضمير إلى الحكمين باعتبار أنه ذكر الفرق بين الشيئين في
الحكم ففهم الحكمان فيرجع الضمير إليهما أو يرجع الضمير
إلى الشيئين "أو ذكر أحدهما" أي أحد الحكمين أو أحد
الشيئين "نحو: "القاتل لا يرث" " فإن تخصيص القاتل بالمنع
من الإرث مع سابقة الإرث يشعر بأن علة المنع القتل "أو
يفرق بينهما بطريق الاستثناء نحو: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ}
" قال الله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً
فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} والعفو
يكون علة لسقوط المفروض "أو بطريق الغاية نحو: {حَتَّى
يَطْهُرْنَ} أو بطريق الشرط نحو: "مثلا بمثل فإن اختلف
الجنسان فبيعوا كيف شئتم" " فاختلاف الجنس يكون علة لجواز
البيع
.........................................................
الوصف مثل "زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم يحشرون وأوداجهم
تشخب دما" وأما في الحكم نحو {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} والحكمة فيه أن الفاء للترتيب
والباعث مقدم في التعقل متأخر في الخارج فيجوز دخول الفاء
على كل منهما ملاحظة للاعتبارين, وهذا دون ما قبله; لأن
الفاء للتعقيب ودلالته على العلية استدلالية, ومنها ما دخل
فيه الفاء في لفظ الراوي مثل سها فسجد وزنى ماعز فرجم وهذا
دون ما قبله لاحتمال الغلط إلا أنه لا ينفي الظهور, وأما
الإيماء فهو أن يقرن بالحكم ما لو لم يكن هو أو نظيره
التعليل لكان بعيدا فيحمل على التعليل دفعا للاستبعاد كما
في قصة الأعرابي فإن غرضه من ذكر المواقعة بيان حكمها وذكر
الحكم جواب له ليحصل غرضه لئلا يلزم إخلاء السؤال عن
الجواب وتأخير البيان عن وقت الحاجة فيكون السؤال مقدرا في
الجواب كأنه قال واقعت فكفر وهذا يفيد أن الوقاع علة
للإعتاق إلا أن الفاء ليست محققة ليكون صريحا بل مقدرة
فيكون إيماء مع احتمال عدم قصد الجواب كما يقال العبد طلعت
الشمس فيقول السيد اسقني ماء وكحديث الخثعمية فإنها سألت
النبي صلى الله عليه وسلم عن دين الله تعالى فذكر نظيره
وهو دين الآدمي فنبه على كونه علة للنفع وإلا لزم العبث.
والإيماء له أيضا مراتب كذا ذكره ابن الحاجب وفيه تصريح
بأن مثل قوله عليه الصلاة والسلام: "فإنه يحشر ملبيا" من
قبيل التصريح على ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى دون
الإيماء على ما وقع في المحصول, وأما كلمة إن بدون الفاء
مثل إنها من الطوافين فالمذكور في أكثر الكتب
(2/146)
واعلم أن في
هذه المواضع إن سلم العلية لكن بعد تلك العلل لا يمكن بها
القياس أصلا نحو: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} لأن
السرقة إن كانت علة فكلما وجدت يثبت الحكم القطعي نصا لا
قياسا، وكذا في زنى ماعز ونحوه فاستخرجه وأيضا النص يدل
على ترتب الحكم على تلك القضية في "واقعت امرأتي" ونحوها
لا على كونها مناطا
ـــــــ
"واعلم أن في هذه المواضع إن سلم العلية" إنما قال إن سلم
العلية; لأن العلية في بعض هذه المواضع غير مسلمة نحو:
واقعت امرأتي لأنه وإن نسب الحكم إلى المواقعة لكن يمكن أن
تكون العلة شيئا يشمل علية المواقعة كهتك حرمة الصوم مثلا
"لكن بعد تلك العلل لا يمكن بها القياس أصلا نحو: السارق
والسارقة لأن السرقة إن كانت علة فكلما وجدت يثبت الحكم
القطعي نصا لا قياسا, وكذا في زنى ماعز ونحوه فاستخرجه
وأيضا النص يدل على ترتب الحكم على تلك القضية في "واقعت
امرأتي" ونحوها لا على كونها مناطا فإنه يمكن أن يكون هتك
حرمة الصوم وأيضا الغاية والاستثناء لا يدلان على العلية
وثانيها الإجماع كإجماعهم على أن الصغر علة لثبوت الولاية
عليه في المال. وثالثها
.........................................................
أنها من قبيل الصريح لما ذكره الشيخ عبد القاهر أنها في
مثل هذه المواقع تقع موقع الفاء وتغني غناءها وجعلها بعضهم
من قبيل الإيماء نظرا إلى أنها لم توضع للتعليل وإنما وقعت
في هذه المواقع لتقوية الجملة التي يطلبها المخاطب ويتردد
فيها ويسأل عنها, ودلالة الجواب على العلية إيماء لا صريح
وبالجملة كلمة إن مع الفاء أو بدونها قد تورد في أمثلة
الصريح, وقد تورد في أمثلة الإيماء ويعتذر عنه بأنه صريح
باعتبار أن والفاء وإيماء باعتبار ترتب الحكم على الوصف,
وأما ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى في تعليله أن من
احتمال كونها على حذف اللام فبعيد; لأنه إنما يكون في أن
بالفتح.
"قوله واعلم أن في هذه المواضع" فيه سوء ترتيب; لأنه كان
ينبغي أن يقدم المنع ثم يتكلم على تقدير التسليم ثم
المتمسكون بمسلك الإيماء لا يدعون أنه يدل على العلية قطعا
حتى يكون احتمال أن تكون العلة شيئا آخر فادحا في كلامهم
بل يدعون فيه الظن وظهور العلية دفعا للاستبعاد, والغاية
والاستثناء وغيرهما سواء في ذلك, وأما التعليل بالعلة
القاصرة التي لا يمكن بها القياس فجائز اتفاقا في المنصوصة
أي التي يدل عليها النص صريحا أو إيماء مثل {أَقِمِ
الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} {وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} "والقاتل لا
يرث" 1 "وللفارس سهمان" 2 فمقصودهم بيان وجوه دلالة النص
على العلية سواء أمكن بها القياس أو لم يمكن.
ـــــــ
1 رواه أبو داود في كتاب الديات باب 18. الدارمي في كتاب
الفرائض باب 41. أحمد في مسنده 1/49.
2 رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 51. مسلم في كتاب
الجهاد حديث 57. أبو داود في كتاب الجهاد حديث 57. أبو
داود في كتاب الجهاد باب 143.
(2/147)
فإنه يمكن أن
يكون هتك حرمة الصوم وأيضا الغاية والاستثناء لا يدلان على
العلية وثانيها الإجماع كإجماعهم على أن الصغر علة لثبوت
الولاية عليه في المال. وثالثها المناسبة وشرطها الملاءمة
وهي أن تكون على وفق العلل الشرعية وأظن أن المراد منه أن
الشرع اعتبر جنس هذا الوصف في جنس هذا الحكم ويكفي الجنس
البعيد هنا
ـــــــ
المناسبة وشرطها الملاءمة وهي أن تكون على وفق العلل
الشرعية وأظن أن المراد منه أن الشرع اعتبر جنس هذا الوصف
في جنس هذا الحكم ويكفي الجنس البعيد هنا بعد أن يكون أخص
من كونه متضمنا لمصلحة فإن هذا مرسل لا يقبل اتفاقا" وكلمة
هذا إشارة إلى كونه متضمنا لمصلحة "لكن كلما كان الجنس
أقرب كان القياس أقوى" الاستدراك يتعلق بقوله ويكفي الجنس
البعيد هنا "والملائم كالصغر فإنه علة لثبوت الولاية عليه
لما فيه من العجز وهذا يوافق تعليل الرسول عليه الصلاة
والسلام لطهارة سؤر الهرة بالطواف لما فيه من
.........................................................
قوله: "وثالثها المناسبة" وهي كون الوصف بحيث يكون ترتب
الحكم عليه متضمنا لجلب نفع أو دفع ضرر معتبر في الشرع كما
يقال الصوم شرع لكسر القوة الحيوانية فإنه نفع بحسب الشرع
وإن كان ضررا بحسب الطب. وقد اضطرب كلام القوم في بحث
المناسبة وأقسامها وما يتعلق بها وللمصنف رحمه الله تعالى
في تحقيق هذا المقام تعليق أورد فيه غاية ما أدى إليه نظره
فنحن نورده ونزيد عليه نبذا من كلام القوم يطلعك على
اختلاف كلمتهم في هذا المقام عسى أن تفوز في أثنائه
بالمرام.
فالمذكور في كلام فخر الإسلام رحمه الله تعالى ومن تبعه أن
جمهور العلماء على أن الوصف لا يصير علة بمجرد الاطراد بل
لا بد لذلك من معنى يعقل بأن يكون صالحا للحكم ثم يكون
معدلا بمنزلة الشاهد فلا بد من اعتبار صلاحه للشهادة
بالعقل والبلوغ والحرية والإسلام ثم اعتبار عدالته
بالاجتناب عن محظورات الدين فكذا لا بد لجعل الوصف علة من
صلاحه للحكم بوجوب الملاءمة ومن عدالته بوجود التأثير
فالتعليل لا يقبل ما لم يقم الدليل على كون الوصف ملائما,
وبعد الملاءمة لا يجب العمل به إلا بعد كونه مؤثرا عندنا
ومخيلا عند أصحاب الشافعي رحمه الله تعالى فالملاءمة شرط
لجواز العمل بالعلل والتأثير, أو الإخالة شرط لوجوب العمل
دون الجواز حتى لو عمل بها قبل ظهور التأثير نفذ ولم
ينفسخ, ومعنى الملاءمة الموافقة والمناسبة للحكم بأن يصح
إضافة الحكم إليه, ولا يكون نائبا عنه كإضافة ثبوت الفرقة
في إسلام أحد الزوجين إلى إباء الآخر عن الإسلام; لأنه
يناسبه لا إلى وصف الإسلام; لأنه ناب عنه; لأن الإسلام عرف
عاصما للحقوق لا قاطعا لها, وهذا معنى قولهم: الملاءمة أن
يكون الوصف على وفق ما جاء من السلف فإنهم كانوا يعللون
بالأوصاف الملائمة للأحكام لا النائية عنها فظهر من هذا أن
معنى الملاءمة هو المناسبة وأنها تقابل الطرد أعني وجود
الحكم عند وجود الوصف من غير اشتراط ملاءمة أو تأثير أو
وجوده عند وجوده وعدمه عند عدمه على اختلاف الرأيين.
والمذكور في أصل الشافعية أن المناسبة هو كون الوصف بحيث
يجلب للإنسان نفعا أو يدفع
(2/148)
بعد أن يكون
أخص من كونه متضمنا لمصلحة فإن هذا مرسل لا يقبل اتفاقا
لكن كلما كان الجنس أقرب كان القياس أقوى والملائم كالصغر
فإنه علة لثبوت الولاية عليه لما فيه من العجز وهذا يوافق
تعليل الرسول عليه الصلاة والسلام لطهارة سؤر الهرة
بالطواف لما فيه من الضرورة.
ـــــــ
الضرورة" فإن العلة في أحد الصورتين العجز وفي الأخرى
الطواف فالعلتان وإن اختلفتا لكنهما مندرجتان تحت جنس واحد
وهو الضرورة والحكم في إحدى الصورتين الولاية وفي الأخرى
الطهارة وهما مختلفان لكنهما مندرجان تحت جنس واحد وهو
الحكم الذي يندفع به الضرورة فالحاصل أن الشرع اعتبر
الضرورة في إثبات حكم يندفع به الضرورة أي اعتبر الضرورة
في حق الرخص
.........................................................
عنه ضررا وهو كون الوصف على منهاج المصالح بحيث لو أضيف
الحكم إليه انتظم كالإسكار لحرمة الخمر بخلاف كونها مائعا
يقذف بالزبد ويحفظ في الدن, وأن من المناسب ملائما وغير
ملائم, فخلط المصنف رحمه الله تعالى كلام الفريقين وذهب
إلى أن المناسب ما يكون متضمنا لمصلحة اعتبرها الشرع كحفظ
النفس والمال والدين والنسب والعقل وغير ذلك مما سبق ذكره,
والملاءمة شرط زائد على ذلك فلا بد أن يفسر بما يغايرها
ويكون أخص منها, وقد فسرها القوم بكون الوصف على وفق العلل
الشرعية, وظن المصنف رحمه الله تعالى أن المراد منه اعتبار
الشارع جنس هذا الوصف في جنس هذا الحكم, فالمراد الجنس
الذي هو أخص من كونه متضمنا لمصلحة اعتبرها الشرع كمصلحة
حفظ النفس مثلا فالمراد أنه يجب أن يكون أخص من مصلحة حفظ
النفس وكذا من مصلحة حفظ الدين إلى غير ذلك, ولا يكفي كونه
أخص من المتضمن لمصلحة ما; لأن المتضمن لمصلحة حفظ النفس
أخص من المتضمن لمصلحة ما وليس بملائم, حتى لو قيل شرع هذا
الحكم لمصلحة حفظ النفس لم يصح;; لأنه تعليل بالمناسب دون
الملائم ومجرد حفظ النفس قد لا يكون مصلحة كما في الجهاد
بل لا بد من خصوصية اعتبرها الشارع ثم الجنس الذي اعتبره
الشارع في جنس الحكم قد يكون قريبا لا واسطة بينه وبين نوع
الوصف, وقد يكون بينهما واسطة أو أكثر وهذا متصاعد إلى أن
يبلغ الجنس الذي هو أعم من الكل وأخص من المتضمن لحفظ
مصلحة النفس مثلا, وكلما كان الجنس أقرب إلى الوصف أي أقل
واسطة وأشد خصوصية كان القياس أقوى وبالقبول أحرى لكونه
بالتأثير أنسب وإلى اعتبار الشرع أقرب.
قال الآمدي في الأحكام: إن لكل من الوصف والحكم أجناسا
عالية وقريبة ومتوسطة فالجنس العالي للحكم الخاص هو الحكم
وأخص منه الوجوب مثلا ثم العبادة ثم الصلاة ثم المكتوبة,
والجنس العالي للوصف الخاص كونه وصفا تناط الأحكام به وأخص
منه المناسب ثم المصلحة الضرورية ثم حفظ النفس وهكذا, ولا
شك أن الظن الحاصل باعتبار خصوص الوصف في خصوص الحكم لكثرة
ما به الاشتراك أقوى من الظن الحاصل من اعتبار العموم في
العموم, فما كان الاشتراك فيه بالجنس السافل فهو أغلب على
الظن, وما كان بالعالي فهو أبعد وما كان
(2/149)
وكما يقال قليل
النبيذ يحرم كقليل الخمر والعلة أن قليله يدعو إلى كثيرة
والشرع اعتبر جنس هذا في الخلوة مع الجماع وكذا حمل حد
الشرب على حد القذف وإذا وجدت الملاءمة يصح العمل ولا يجب
عندنا بل يجب إذا كانت مؤثرة فالملاءمة
ـــــــ
"وكما يقال قليل النبيذ يحرم كقليل الخمر والعلة أن قليله
يدعو إلى كثيره والشرع اعتبر جنس هذا في الخلوة مع الجماع
وكذا حمل حد الشرب على حد القذف" فإن الشرع اعتبر إقامة
السبب الداعي مقام المدعو إليه في الخلوة مع الجماع فإن
فيه إقامة الداعي مقام المدعو إليه وقد قال علي كرم الله
وجهه في حد الشرب إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى
وحد المفترين ثمانون "وإذا وجدت الملاءمة يصح العمل ولا
يجب عندنا بل يجب إذا كانت مؤثرة فالملاءمة كأهلية الشهادة
والتأثير كالعدالة وعند بعض الشافعية
.........................................................
بالمتوسط فمتوسط على الترتيب في الصعود والنزول. ثم قال:
إن من القياس مؤثرا تكون علته منصوصة أو مجمعا عليها أو
أثر عين الوصف في عين الحكم أو في جنسه أو جنسه في عين
الحكم, ومنه ملائما أثر جنس الوصف في جنس الحكم كما سبق
تحقيقه وما ذكره المصنف رحمه الله تعالى من المراد
بالملائم كأنه يناسب هذا الاصطلاح لولا إطلاق الجنس هاهنا,
ثم قال: ومن الناس من جعل ما أثر عينه في عين الحكم مؤثرا
وما سواه من الأقسام الثلاثة ملائما وقال أيضا: الملائم ما
أثر عين الوصف في عين الحكم كما أثر جنس الوصف في جنس
الحكم والمذكور من كلام المحققين من شارحي أصول ابن الحاجب
أن الملائم هو المناسب الذي لم يثبت اعتباره بنص أو إجماع
بل يترتب الحكم على وفقه فقط ومع ذلك ثبت بنص أو إجماع
اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في جنس الحكم, وأيضا
الملائم هو المرسل الذي لم يعلم إلغاؤه بل علم اعتبار عينه
في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم أو جنسه في جنس الحكم,
والمراد بالمرسل ما لم يعتبر لا بنص, ولا بإجماع, ولا
بترتب الحكم على وفقه. فإن قلت كيف يتصور اعتبار العين في
الجنس أو الجنس في العين أو الجنس في الجنس فيما لم يعتبر
شرعا أصلا؟ وهل هذا إلا تهافت؟ قلت: معنى الاعتبار شرعا
عند الإطلاق هو اعتبار عين الوصف في عين الحكم وعلى هذا لا
إشكال, وبالجملة لا يوجد في كلام الفريقين ما يوافق
التفسير الذي ظنه المصنف رحمه الله تعالى.
قوله: "والملائم كالصغر" في ثبوت ولاية النكاح فإن الشارع
اعتبر جنس ذلك الوصف وهو الضرورة في جنس ولاية النكاح وهو
الحكم الذي يندفع به الضرورة واعترض المصنف رحمه الله
تعالى بأنه يجب في الملائم أن يكون جنس الوصف أخص من مطلق
الضرورة بل من ضرورة حفظ النفس ونحوه أيضا فالأولى أن يقال
الحاجة ماسة إلى تطهير الأعضاء عن النجاسة بالماء وإلى
تطهير العرض عن النسبة إلى الفاحشة بالنكاح, ونجاسة سؤر
الطوافين مانع يتعذر الاحتراز عنه من تطهير العضو كالصغر
عن تطهير العرض, فالوصف الشامل للصورتين دفع الحرج المانع
عن التطهير المحتاج إليه, والحكم الذي هو جنس الطهارة
والولاية هو الحكم الذي يندفع به الحرج المذكور.
(2/150)
كأهلية الشهادة
والتأثير كالعدالة وعند بعض الشافعية يجب العمل بالملائم
بشرط شهادة الأصل وعند البعض بمجرد كونه مخيلا وهذا يسمى
بالمصالح المرسلة.
ـــــــ
يجب العمل بالملائم بشرط شهادة الأصل" وهي أن يكون للحكم
أصل معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه "وعند البعض
بمجرد كونه مخيلا" أي يقع في الخاطر أن هذا الوصف علة لذلك
الحكم "وهذا يسمى بالمصالح المرسلة" أي الأوصاف التي تعرف
عليتها بمجرد كونه مخيلا تسمى بالمصالح المرسلة
.........................................................
قوله: "وعند بعض الشافعية" يعني أن القائلين بوجوب العمل
بالملائم فرقتان.
فرقة توجب العمل بالملائم بشرط شهادة الأصول بمعنى أن
يقابل بقوانين الشرع فيطابقها سالما عن المناقضة أعني
إبطال نفسه بأثر أو نص أو إجماع أو إيراد تخلف الحكم عن
الوصف في صورة أخرى وعن المعارضة أعني إيراد وصف يوجب خلاف
ما أوجبه ذلك الوصف من غير تعرض لنفس الوصف كما يقال لا
تجب الزكاة في نفس ذكور الخيل فلا تجب في إناثها بشهادة
الأصول على التسوية بين الذكور والإناث, وأدنى ما يكفي في
ذلك أصلان وذلك; لأن المناسب بمنزلة الشاهد, والعرض على
الأصول تزكية بمنزلة العرض على المزكين وأما العرض على
جميع الأصول كما ذهب إليه البعض فلا يخفى أنه متعذر أو
متعسر والمصنف رحمه الله تعالى فسر شهادة الأصل بأن يكون
للحكم أصل معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه.
وفرقة توجب العمل بالملائم بمجرد كونه مخيلا أي موقعا في
القلب خيال العلية والصحة والأوصاف التي تعرف عليتها بمجرد
الإخالة تسمى بالمصالح المرسلة. والمذكور في أصول الشافعية
أن المناسب هو المخيل ومعناه تعيين العلة في الأصل بمجرد
إبداء المناسبة بينها وبين الحكم من ذات الأصل لا بنص, ولا
بغيره ثم قالوا والمناسب ينقسم إلى مؤثر وملائم وغريب
ومرسل; لأنه إما معتبر شرعا أو لا أما المعتبر فإما أن
يثبت اعتباره بنص أو إجماع وهو المؤثر أو لا بل يترتب
الحكم على وفقه فقط فذلك لا يخلو إما أن يثبت بنص أو إجماع
اعتبار عينه في جنس الحكم أو اعتبار جنسه في عين الحكم
واعتبار جنسه في جنس الحكم أو لا, فإن ثبت فهو الملائم وإن
لم يثبت فهو الغريب وأما غير المعتبر لا بنص, ولا بإجماع,
ولا بترتب الحكم على وفقه فهو المرسل, وينقسم إلى ما علم
إلغاؤه وإلى ما لم يعلم إلغاؤه, والثاني ينقسم إلى ملائم
قد علم اعتبار عينه في جنس الحكم أو جنسه في عين الحكم أو
في جنسه وإلى ما لم يعلم منه ذلك وهو الغريب فإن كان غريبا
أو علم إلغاؤه فمردود اتفاقا وإن كان ملائما فقد صرح إمام
الحرمين والإمام الغزالي رحمهما الله بقبوله وشرط الغزالي
في قبوله شروطا ثلاثة أن تكون ضرورية لا حاجية وقطعية لا
ظنية وكلية لا جزئية أي مختصة بشخص, ففتح القلعة ليس في
محل الضرورة, وخوف الاستيلاء من غير قطع لا يجوز الرمي
لكونه ظنيا, وإلقاء بعض أهل السفينة لنجاة البعض لا يجوز;
لأن المصلحة جزئية فالملائم كعين الصغر المعتبر في جنس
الولاية إجماعا وكجنس الحرج المعتبر في عين رخصة الجمع
وكجنس الجناية العمد العدوان المعتبر في جنس
(2/151)
وتقبل عند
الغزالي رحمه الله تعالى إذا كانت المصلحة ضرورية قطعية
كلية كتترس الكفار بأسارى المسلمين.
ـــــــ
"وتقبل عند الغزالي رحمه الله تعالى" أي المصالح المرسلة
فاعلم أن الوصف المرسل نوعان نوع لا يقبل اتفاقا وهو الذي
اعتبر الشرع جنسه الأبعد وهو كونه متضمنا لمصلحة في إثبات
الحكم ونوع يقبل عند الغزالي وهو أن الشرع اعتبر جنسه
البعيد الذي هو أقرب من ذلك الجنس الأبعد "إذا كانت
المصلحة ضرورية قطعية كلية كتترس الكفار بأسارى المسلمين"
فإنه لم يوجد اعتبار الشارع الجنس القريب لهذا الوصف في
الجنس القريب لهذا الحكم إذ لم يعهد في الشرع إباحة قتل
المسلم بغير حق
.........................................................
القصاص والغريب كما يعارض بنقيض مقصود الفار فيحكم بإرث
زوجته قياسا على القاتل حيث عورض بنقيض مقصوده وهو الإرث
فحكم بعدم إرثه, فهذا له وجه مناسبة. وفي ترتيب الحكم عليه
تحصيل مصلحة هي نهيه عن الفعل الحرام لكن لم يشهد له أصل
بالاعتبار بنص أو إجماع وما علم إلغاؤه كتعيين إيجاب الصوم
في الكفارة على من يسهل عليه الإعتاق كالملك فإنه مناسب
لتحصيل مصلحة الزجر لكن علم عدم اعتبار الشارع له.
قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى من المصالح ما شهد
الشرع باعتباره وهي أصل في القياس وحجة, ومنها ما شهد
ببطلانه كتعيين الصوم في كفارة الملك وهو باطل, ومنها ما
لم يشهد له لا بالاعتبار, ولا بالإبطال وهذا في محل النظر,
والمراد بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع من المحافظة
على الخمسة الضرورية فكل ما يتضمن حفظ هذه الخمسة
الضرورية, وكل ما يقويها فهي مصلحة ودفعها مفسدة وإذا
أطلقنا المعنى المخيل أو المناسب في باب القياس أردنا به
هذا الجنس والمصالح الحاجية أو التحسينية لا يجوز الحكم
بمجردها ما لم تعضد بشهادة الأصول; لأنه يجري مجرى وضع
الشرع بالرأي وإذا اعتضد بأصل فهو قياس, وأما المصلحة
الضرورية فلا بعد في أن يؤدي إليها رأي مجتهد وإن لم يشهد
له أصل معين كما في مسألة التترس فإنا نعلم قطعا بأدلة
خارجة عن الحصر أن تقليل القتل مقصود للشارع كمنعه بالكلية
لكن قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له أصل معين, ونحن إنما
نجوزه عند القطع أو ظن قريب من القطع وبهذا الاعتبار نخصص
هذا الحكم من العمومات الواردة في المنع عن القتل بغير حق
لما نعلم قطعا أن الشرع يؤثر الحكم الكلي على الجزئي, وأن
حفظ أهل الإسلام أهم من حفظ دم مسلم واحد.
وهذا وإن سميناه مصلحة مرسلة لكنها راجعة إلى الأصول
الأربعة; لأن مرجع المصلحة إلى حفظ مقاصد الشرع المعلومة
بالكتاب والسنة والإجماع, ولأن كون هذه المعاني عرفت لا
بدليل واحد بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة
وقرائن الأحوال وتفاريق الأمارات سميناه مصلحة مرسلة لا
قياسا; إذ القياس أصل معين وقال بعد ما قسم المناسب إلى
مؤثر وملائم وغريب إن المعنى المناسب أربعة أقسام: ملائم
يشهد له أصل معين فيقبل قطعا, ومناسب لا يلائم ولا يشهد له
أصل معين فلا يقبل قطعا كحرمان القاتل لو لم يرد فيه نص
معارض له بنقيض
(2/152)
والتأثير عندنا
أن يثبت بنص أو إجماع اعتبار نوعه أو جنسه في نوعه أو جنسه
والمراد بالجنس هنا الجنس القريب كالسكر في الحرمة وكقوله
عليه الصلاة والسلام: "أرأيت لو تمضمضت" الحديث هذا نظير
اعتبار الجنس في النوع فإن للجنس وهو عدم دخول شيء اعتبارا
في عدم
ـــــــ
لكن وجد اعتبار الضرورة في الرخص في استباحة المحرمات.
واعلم أنه قيد المصلحة بكونها ضرورية قطعية كلية كما لو
تترس الكفار بجمع من المسلمين ونعلم أنا لو تركناهم
استولوا على المسلمين وقتلوهم ولو رمينا الترس يخلص أكثر
المسلمين فتكون المصلحة ضرورية; لأن صيانة الدين وصيانة
نفوس عامة المسلمين داعية إلى جواز الرمي إلى الترس وتكون
قطعية; لأن حصول المصلحة وهي صيانة الدين ونفوس عامة
المسلمين برمي الترس تكون قطعية لا ظنية كحصول المصلحة في
رخص السفر فإن السفر مظنة المشقة وتكون كلية; لأن استخلاص
عامة المسلمين مصلحة كلية فخرج بقيد الضرورة ما لو تترس
الكافرون في قلعة بمسلم لا يحل رمي الترس وبالقطعية ما لم
نعلم تسلطهم إن تركنا رمي الترس وبالكلية ما إذا لم تكن
المصلحة كلية كما إذا كانت جماعة في سفينة وثقلت السفينة
فإن طرحنا البعض في البحر نجا الباقون لا يجوز طرحهم; لأن
المصلحة غير كلية; لأنه على تقدير ترك الطرح لا تهلك إلا
جماعة مخصوصة وفي التترس لو تركنا الرمي لقتلوا كافة
المسلمين مع الأسارى.
"والتأثير عندنا أن يثبت بنص أو إجماع اعتبار نوعه أو جنسه
في نوعه أو جنسه" أي نوع
.........................................................
قصده, ومناسب يشهد له أصل معين لكن لا يلائم فهو في محل
الاجتهاد, وملائم لا يشهد له أصل معين وهو الاستدلال
المرسل وهو أيضا في محل الاجتهاد.
قوله: "لكن وجد اعتبار الضرورة في الرخص وفي استباحة
المحرمات" أورد المصنف رحمه الله تعالى عليه الاعتراض
السابق وهو أن هذا اعتبار للجنس الأبعد وهو غير كاف في
الملاءمة فالأولى أن يقال اعتبر الشرع حصول النفع الكثير
في تحمل الضرر اليسير وجميع التكاليف الشرعية مبنية على
ذلك.
قوله: "والتأثير عندنا" إنما قال عندنا; لأنه عند أصحاب
الشافعي رحمه الله تعالى أخص من ذلك وهو أن يثبت بنص أو
إجماع اعتبار عين الوصف في عين ذلك الحكم ولذا قال الإمام
الغزالي رحمه الله تعالى: المؤثر مقبول باتفاق القايسين,
وقصر أبو زيد الدبوسي القياس عليه لكنه أورد للمؤثر أمثلة
عرف بها أنه من قبيل الملائم لكنه سماه أيضا مؤثرا فالقياس
ينقسم باعتبار عين العلة وجنسها وعين الحكم وجنسه أربعة
أقسام: الأول أن يظهر تأثير عين الوصف في عين الحكم وهو
الذي يقال إنه في معنى الأصل وهو المقطوع به الذي ربما يقر
به منكرو القياس إذ لا فرق إلا بتعدد المحل. الثاني أن
يظهر تأثير عينه في جنس الحكم. الثالث أن يظهر تأثير جنسه
في عينه وهو
(2/153)
فساد الصوم
وكقياس الولاية على الثيب الصغيرة وعلى البكر الصغيرة
بالصغر ولنوعه اعتبار في جنس الولاية لثبوتها في المال على
الثيب الصغيرة وكطهارة سؤر الهرة فإن لجنس الضرورة اعتبارا
في جنس التخفيف وقد يتركب بعض الأربعة مع
ـــــــ
الوصف أو جنسه "في نوع الحكم أو جنسه" "والمراد بالجنس هنا
الجنس القريب كالسكر في الحرمة" هذا نظير اعتبار النوع في
النوع "وكقوله عليه الصلاة والسلام: "أرأيت لو تمضمضت"
الحديث هذا نظير اعتبار الجنس في النوع" "فإن للجنس وهو
عدم دخول شيء اعتبارا في عدم فساد الصوم وكقياس الولاية
على الثيب الصغيرة وعلى البكر الصغيرة بالصغر" هذا نظير
اعتبار النوع في الجنس "ولنوعه اعتبار في جنس الولاية
لثبوتها في المال على الثيب الصغيرة
.........................................................
الذي خصصناه باسم الملائم وخصصنا اسم المؤثر بما يظهر
تأثير عينه. الرابع أن يظهر تأثير الجنس في الجنس وهو الذي
سميناه المناسب الغريب.
ثم للجنسية مراتب عموما وخصوصا فمن أجل ذلك تتفاوت درجات
الظن والأعلى مقدم على الأسفل والأقرب مقدم على الأبعد في
الجنسية فالمصنف رحمه الله تعالى أخذ من كلامهم تفسير
المؤثر وقيد الجنس بالقريب ليتميز عن الملائم على ما سبق
وأورد بدل العين النوع لئلا يتوهم أن المراد هو الوصف,
والحكم مع خصوصية المحل كالسكر المخصوص بالخمر والحرمة
المخصوصة بها فيوهم أن للخصوصية مدخلا في العلية فالمراد
بالوصف الوصف الذي يجعل علة لا مطلق الوصف, وكذا المراد
بالحكم الحكم المطلوب بالقياس لا مطلق الحكم; لأن جميع
الأوصاف والأحكام حتى الأجناس أنواع لمطلق الوصف والحكم
فلا يبقى فرق بين علية السكر للحرمة وعلية الضرورة للتخفيف
فإضافة النوع إلى الوصف والحكم بمعنى من البيانية أي النوع
الذي هو الوصف أو الحكم المطلوب فهو نوع لمطلق الوصف
والحكم, وقد بين بالإضافة إلى الوصف المخصوص والحكم
المطلوب احترازا عن الأنواع العالية والمتوسطة التي وقع
التعبير عنها بلفظ الجنس, وأما إضافة الجنس إلى الوصف
والحكم فهي بمعنى اللام على أن المراد بهما الوصف المعين
والحكم المطلوب كما في حالة إضافة النوع, والمراد بالجنس
ما هو أعم من ذلك الوصف أو الحكم مثلا عجز الإنسان عن
الإتيان بما يحتاج إليه وصف هو علة لحكم فيه تخفيف للنصوص
الدالة على عدم الحرج والضرر فعجز الصبي الغير العاقل نوع
وعجز المجنون نوع آخر, وجنسهما العجز بسبب عدم العقل,
وفوقه الجنس الذي هو العجز بسبب ضعف القوي أعم من الظاهرة
والباطنة على ما يشمل المريض, وفوقه الجنس الذي هو العجز
الناشئ من الفاعل بدون اختياره على ما يشمل المحبوس, وفوقه
الجنس الذي هو العجز الناشئ من الفاعل على ما يشمل المسافر
أيضا, وفوقه مطلق العجز الشامل لما ينشأ عن الفاعل وعن محل
الفعل وعن الخارج وهكذا في جانب الحكم فليعتبر مثل ذلك في
جميع الأوصاف والأحكام وإلا فتحقيق الأنواع والأجناس
بأقسامها مما يعسر في الماهيات الحقيقية فضلا عن
الاعتباريات.
فالحاصل أن الوصف المؤثر هو الذي ثبت بنص أو إجماع علية
ذلك النوع من الوصف لذلك النوع من الحكم كالعجز بسبب عدم
العقل لسقوط ما يحتاج إلى النية أو علية جنس ذلك الوصف
(2/154)
بعض فاستخرجه
قد سمى البعض أول الأربعة غريبا والثلاثة ملائمة ثم لا
يخلو من
ـــــــ
وكطهارة سؤر الهرة" نظير اعتبار الجنس في الجنس "فإن لجنس
الضرورة اعتبارا في جنس التخفيف وقد يتركب بعض الأربعة مع
بعض فاستخرجه" كالصغر مثلا فإن لنوعه اعتبارا في جنس
الولاية ولجنسه اعتبارا في جنسها فإن جنسه العجز والولاية
ثابتة على العاجز كالمجنون مثلا وقس عليه البواقي والمركب
ينقسم بالتقسيم العقلي أحد عشر قسما واحد منها مركب من
الأربعة وأربعة منها مركبة من ثلاثة وستة مركبة من اثنين
ولا شك أن المركب من أربعة أقوى الجميع ثم المركب من ثلاثة
ثم المركب من اثنين ثم ما لا يكون مركبا "قد سمى البعض أول
الأربعة غريبا والثلاثة ملائمة ثم لا يخلو من أن يكون له
أصل
.........................................................
لنوع ذلك الحكم كعدم دخول شيء في الجوف لعدم فساد الصوم أو
علية ذلك النوع من الوصف لجنس ذلك الحكم كما في سقوط
الزكاة عمن لا عقل له فإن العجز بواسطة عدم العقل مؤثر في
سقوط ما يحتاج إلى النية وهو جنس لسقوط الزكاة أو علية جنس
الوصف لجنس الحكم كما في سقوط الزكاة عن الصبي بتأثير
العجز بسبب عدم العقل في سقوط ما يحتاج إلى النية, وأما
أمثلة المتن ففي بعضها نظر لما سيأتي من أن السكر والصغر
من قبيل المركب, ولما سبق من أن المراد هاهنا الجنس القريب
والضرورة للطواف ليست كذلك بل قد عرفت أنه ليس بملائم فضلا
عن المؤثر.
قوله: "وقد يتركب بعض الأربعة" لا خفاء في أن أقسام المفرد
أربعة حاصلة من ضرب الاثنين في الاثنين; لأن المعتبر في
جانب الوصف هو النوع أو الجنس, وكذا في جانب الحكم وحينئذ
يلزم انحصار المركب في أحد عشر; لأن التركيب إما ثنائي أو
ثلاثي أو رباعي أما الرباعي فواحد لا غير, وأما الثلاثي
فأربعة; لأنه إنما يصير ثلاثيا بنقصان واحد من الرباعي
وذلك الواحد إما أن يكون اعتبار النوع في النوع أو في
الجنس أو اعتبار الجنس في النوع أو في الجنس, وأما الثنائي
فستة; لأن كل واحد من الأقسام الأربعة للأفراد ويتركب مع
كل من الثلاثة الباقية ويصير اثنا عشر حاصلة من ضرب
الأربعة في الثلاثة فيسقط ستة بموجب التكرار, أو نقول
اعتبار النوع في النوع إما أن يتركب مع اعتبار الجنس في
النوع أو مع اعتبار النوع في الجنس أو مع اعتبار الجنس في
الجنس ثم اعتبار الجنس في النوع إما أن يتركب مع اعتبار
النوع في الجنس أو مع اعتبار الجنس في الجنس ثم اعتبار
النوع في الجنس يتركب مع اعتبار الجنس في الجنس فإن قلت
اعتبار النوع يستلزم اعتبار الجنس ضرورة أنه لا وجود للنوع
بدون الجنس فلا يتصور الإفراد إلا في اعتبار الجنس في
الجنس, وأما اعتبار النوع في النوع فيستلزم التركيب
الرباعي ألبتة, واعتبار النوع في الجنس أو عكسه يستلزم
التركيب الثنائي. قلت المراد الاعتبار قصدا لا ضمنا حتى إن
الرباعي ما يكون كل من الاعتبارات الأربعة مقصودا على حدة
فالمركب من الأربعة كالسكر فإنه مؤثر في الحرمة, وكذا جنسه
الذي هو إيقاع العداوة والبغضاء مؤثر في الحرمة ثم السكر
يؤثر في وجوب الزاجر أعم من أن يكون أخرويا كالحرمة أو
دنيويا كالحد ثم لما كان السكر مظنة للقذف صار المعنى
المشترك بينهما وهو إيقاع العداوة والبغضاء مؤثرا في وجوب
الزاجر.
(2/155)
أن يكون له أصل
معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه ويسمى شهادة
الأصل وهي أعم من أولى الأربعة مطلقا وبينها وبين أخيري
الأربعة عموم وخصوص من وجه.
ـــــــ
معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه ويسمى شهادة
الأصل وهي أعم من أولى الأربعة مطلقا" أي شهادة الأصل أعم
من اعتبار نوع الوصف في نوع الحكم ومن اعتبار جنس الوصف في
نوع الحكم; لأنه كلما وجد اعتبار نوع الوصف أو جنسه في نوع
الحكم فقد وجد للحكم أصل معين من نوعه يوجد فيه جنس الوصف
أو نوعه لكن لا يلزم أنه كلما وجد له أصل معين من نوعه
يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه فقد وجد اعتبار نوع
.........................................................
وأما المركب من الثلاثة فالمركب مما سوى اعتبار النوع في
النوع كالتيمم عند خوف فوت صلاة العيد فإن الجنس وهو العجز
الحكمي بحسب المحل يحتاج إليه شرعا مؤثر في الجنس أي في
سقوط الاحتياج في النوع لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا
مَاءً فَتَيَمَّمُوا} إقامة لأحد العناصر مقام الآخر فإن
التراب مطهر في بعض الأحوال بحسب نشف النجاسات وأيضا عدم
وجدان الماء وهو النوع مؤثر في الجنس وهو عدم وجوب
استعماله لكن النوع وهو خوف الفوت لا يؤثر في النوع أي في
التيمم من حيث إنه تيمم, والمركب مما سوى اعتبار الجنس في
النوع كما في التيمم إذا لم يجد إلا ماء يحتاج إلى شربه
فإن العجز الحكمي بحسب المحل عن استعمال ما يحتاج إليه
شرعا مؤثر في سقوط الاحتياج فهذا تأثير الجنس في الجنس ثم
النوع مؤثر في النوع لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً}
على ما ذكرنا وأيضا عدم وجدان الماء وهو النوع مؤثر في
الجنس أي في عدم استعماله دفعا للهلاك لكن الجنس غير مؤثر
في النوع; لأن العجز المذكور لا يؤثر في التيمم من حيث هو
التيمم والمركب مما سوى اعتبار النوع في الجنس كالحيض في
حرمة القربان فهذا تأثير النوع في النوع, وجنسه وهو الأذى
علة أيضا لحرمة القربان ولجنسه وهو وجوب الاعتزال والمركب
مما سوى اعتبار الجنس في الجنس يقال الحيض علة لحرمة
الصلاة فهذا تأثير النوع في النوع, وأيضا علة للجنس وهو
حرمة القراءة أعم من أن يكون في الصلاة أو خارجها ولجنسه
وهو الخروج من السبيلين تأثير في حرمة الصلاة لكن ليس له
تأثير في الجنس وهو حرمة القراءة مطلقا.
وأما المركب من الاثنين فالمركب من اعتبار النوع في النوع
مع الجنس في النوع كما في طهارة سؤر الهرة فإن الطواف علة
للطهارة لقوله عليه الصلاة والسلام: "إنها من الطوافين"
وجنسه هو مخالطة نجاسة يشق الاحتراز عنها علة للطهارة
كآبار الفلوات والمركب من اعتبار النوع في النوع مع النوع
في الجنس كإفطار المريض فإنه مؤثر في الجنس وهو التخفيف في
العبادة, وكذا في الإفطار بسبب الضرر, والمركب من اعتبار
النوع في النوع مع الجنس في الجنس كولاية النكاح في
المجنون جنونا مطبقا فإنه من حيث إنه عجز بسبب عدم العقل
مؤثر في مطلق الولاية, ثم من حيث إنه عجز دائمي بسبب عدم
العقل علة لولاية النكاح للحاجة بخلاف الصغر فإنه من حيث
إنه صغر لا يوجب هذه الولاية. والمركب من اعتبار الجنس في
النوع مع الجنس في الجنس كالولاية في مال
(2/156)
الوصف أو جنسه
في نوع الحكم "وبينها وبين أخيري الأربعة عموم وخصوص من
وجه" أي قد يوجد شهادة الأصل بدون واحد من أخيري الأربعة
وقد يوجد واحد من أخيري الأربعة بدون شهادة الأصل وقد
يوجدان معا
.........................................................
الصغير فإن العجز لعدم العقل مؤثر في مطلق الولاية ثم هو
مؤثر في الولاية في المال للحاجة إلى بقاء النفس, والمركب
من اعتبار الجنس في النوع مع النوع في الجنس كخروج النجاسة
فإنه مؤثر في وجوب الوضوء ثم خروجها من غير السبيلين كما
في اليد وهي آلة التطهير مؤثر في وجوب إزالتها والمركب من
اعتبار النوع في الجنس مع الجنس في الجنس كما في عدم الصوم
على الصبي والمجنون, فإن العجز لعدم العقل مؤثر في سقوط
العبادة للاحتياج إلى النية ثم الجنس وهو العجز لخلل في
القوى مؤثر في سقوط العبادة كذا ذكره المصنف رحمه الله
تعالى.
قوله: "ولا شك أن المركب من أربعة أقوى الجميع" يعني أن
قوة الوصف إنما هي بحسب التأثير والتأثير بحسب اعتبار
الشارع وكلما كثر الاعتبار قوي الآثار فيكون المركب أقوى
من البسيط, والمركب من أجزاء أكثر أقوى من المركب من أجزاء
أقل وأنت خبير بأنه إنما يستقيم فيما سوى اعتبار النوع في
النوع أنه أقوى الكل لكونه بمنزلة النص حتى يكاد يقر به
منكرو القياس إذ لا فرق إلا بتعدد المحل فالمركب من غيره
لا يكون أقوى منه.
قوله: "وقد سمى البعض" ذكر في بعض أصول الشافعية رحمهم
الله تعالى أن المناسب الغريب ما يؤثر نوعه في نوع الحكم
ولم يؤثر جنسه في جنسه كالطعم في الربا فإن نوع الطعم وهو
الاقتيات مؤثر في ربوية البر ولم يؤثر جنس الطعم في ربوية
سائر المطعومات كالخضراوات والملائم هو الأقسام الثلاثة
الباقية.
قوله: "ثم لا يخلو" أي الحكم بعد التعليل لا يخلو من أن
يكون مقرونا بشهادة الأصل أو لا يكون ففي الكلام حذف
والمراد بشهادة الأصل أن يكون للحكم المعلل أصل معين من
نوعه يوجد فيه جنس الوصف أو نوعه وإنما قلنا المراد أنه لا
يخلو من أن يكون له أصل أو لا يكون لما ذكر أن كلا من
اعتبار النوع في الجنس واعتبار الجنس في الجنس قد يوجد
بدون شهادة الأصل, فصار الحاصل أن كلا من اعتبار النوع في
النوع واعتبار الجنس في النوع يستلزم شهادة الأصل وهو معنى
العموم والخصوص المطلق, وأما اعتبار النوع في الجنس أو
الجنس في الجنس فلا يستلزم شهادة الأصل بل قد يجتمعان, وقد
يفترقان وهذا معنى العموم والخصوص من وجه فالتعليل بالوصف
الذي اعتبر نوعه أو جنسه في نوع الحكم يكون قياسا لا
محالة; لأن الحكم المعلل مقيس, والأصل الشاهد مقيس عليه,
وكذا التعليل بالوصف الذي اعتبر نوعه في جنس الحكم أو جنسه
في جنسه إذا كان مع شهادة الأصل, وأما إذا كان بدونها فهو
تعليل مشروع مقبول بالاتفاق لكن عند بعضهم يسمى قياسا وعند
بعضهم يكون استدلالا بعلة مستنبطة بالرأي بمنزلة ما قال
الشافعي رحمه الله تعالى: إن التعليل بالعلة المتعدية يكون
قياسا وبالعلة القاصرة لا يكون قياسا بل يكون بيان علة
شرعية للحكم, وقال شمس الأئمة رحمه الله تعالى: الأصح عندي
أنه قياس على كل حال فإن مثل هذا الوصف يكون له أصل في
الشرع لا محالة ولكن يستغنى عن ذكره لوضوحه وربما لا يقع
(2/157)
فالتعليل بهما
بدون الشهادة حجة ويسمى عند البعض تعليلا لا قياسا وعند
البعض هو قياس أيضا وإذا وجد شهادة الأصل بدون التأثير لا
يكون حجة عندنا ويسمى غريبا أيضا.
ـــــــ
"فالتعليل بهما بدون الشهادة حجة ويسمى عند البعض تعليلا
لا قياسا وعند البعض هو قياس أيضا وإذا وجد شهادة الأصل
بدون التأثير لا يكون حجة عندنا ويسمى غريبا أيضا" اعلم أن
التعليل بأولى الأربعة لا يكون إلا مع شهادة الأصل لما
قلنا إنها أعم فيكون التعليل بكل منهما قياسا اتفاقا
والتعليل بأخيري الأربعة إذا وجد مع شهادة الأصل يكون
قياسا اتفاقا وإذا وجد بدون شهادة الأصل فعند البعض قياس
وعند البعض لا ويسمى تعليلا لكنه مقبول اتفاقا وإنما
الخلاف في تسميته قياسا وشهادة الأصل قد توجد بدون
الأولين; لأنها أعم من كل منهما مطلقا وقد توجد بدون أخيري
الأربعة; لأنها أعم من كل منهما من وجه فإذا وجدت بدون
التأثير لا يقبل عندنا ويسمى غريبا أي يسمى الوصف الذي
يوجد في صورة يوجد فيها نوع الحكم من غير تأثير غريبا
فالغريب نوعان أحدهما مقبول وهو الوصف
.........................................................
الاستغناء عنه فيذكر فعلى هذا لا يكون الخلاف في مجرد
تسميته قياسا على ما ذهب إليه المصنف رحمه الله تعالى بل
عند البعض يكون التعليل بالوصف المؤثر مستلزما لشهادة
الأصل لكنه قد يذكر, وقد لا يذكر وحينئذ يصح أن يحمل قوله
ثم لا يخلو من أن يكون له أصل معين على ظاهره.
قوله: "وإذا وجد شهادة الأصل بدون التأثير" يعني أن شهادة
الأصل قد توجد بدون كل من الأنواع الأربعة للتأثير وحينئذ
يسمى الوصف غريبا لعدم تأثيره فلا يقبل عندنا أي لا يجب
قبوله; لأن شرط وجوب القبول هو التأثير أو المراد أنه لا
يقبل ما لم يكن ملائما فإن قلت الملائم يجب أن يعتبر جنسه
في جنس الحكم فهو أحد الأنواع الأربعة فالغريب لا يكون
ملائما قلت أحد الأنواع هو اعتبار الجنس القريب في الجنس
القريب على ما مر في تفسير المؤثر. والمعتبر في الملائم هو
الجنس البعيد فالغريب بمعنى غير المؤثر يجوز أن يكون
ملائما فظهر أن اسم الغريب يطلق على نوعين من الوصف أحدهما
اعتبر نوعه في نوع الحكم على ما سبق من أن البعض يسمي أول
الأربعة غريبا والثلاثة الباقية ملائمة وهو مقبول
بالاتفاق, وثانيهما ما يوجد جنسه أو نوعه في نوع ذلك الحكم
لكن لا يعلم اعتباره, ولا إلغاؤه في نظر الشارع وهو مردود
إذا لم يكن ملائما خلافا لأصحاب الطرد, وأشار المصنف رحمه
الله تعالى في أثناء كلامه إلى إثبات شهادة الأصل بدون
التأثير بأنها قد توجد بدون الأولين يعني اعتبار النوع أو
الجنس في النوع لكونها أعم منها مطلقا وبدون الأخيرين يعني
اعتبار النوع في الجنس أو الجنس في الجنس لكونها أعم منهما
من وجه فتوجد بدون التأثير في الجملة لانحصاره في الأنواع
الأربعة وما يتركب منها وفيه نظر; لأن التحقق بدون كل واحد
من الأربعة لا يستلزم جواز التحقق بدون المجموع فيجوز أن
يكون أعم من الأولين باعتبار أن يوجد في الأخيرين وبالعكس
فبمجرد ذلك لا يلزم أن يوجد بدون التأثير.
(2/158)
وإنما اعتبرنا
التأثير؛ لأنه أمر شرعي فيعتبر فيه اعتبار الشارع ولأن
العلل المنقولة ليست إلا مؤثرة كقوله عليه الصلاة والسلام:
"إنها من الطوافين والطوافات عليكم" وقوله في المستحاضة:
"إنه دم عرق انفجر" ولانفجار الدم من العرق وهو النجاسة
تأثير في وجوب الطهارة وفي عدم كونه حيضا وفي كونه مرضا
لازما فيكون له تأثير في
ـــــــ
الذي اعتبر نوعه في نوع الحكم والثاني مردود وهو الوصف
الذي يوجد جنسه أو نوعه في نوع ذلك الحكم لكن لا نعلم أن
الشارع اعتبر هذا الوصف أو لا.
"وإنما اعتبرنا التأثير; لأنه" أي القياس "أمر شرعي فيعتبر
فيه" أي في القياس "اعتبار الشارع" وهو أن يكون القياس
بوصف اعتبره الشارع أو اعتبر جنسه "ولأن العلل المنقولة
ليست إلا مؤثرة كقوله عليه الصلاة والسلام: "إنها من
الطوافين والطوافات عليكم" وقوله في المستحاضة: "إنه دم
عرق انفجر" ولانفجار الدم من العرق وهو النجاسة تأثير في
وجوب الطهارة وفي عدم كونه حيضا وفي كونه مرضا لازما فيكون
له تأثير في التخفيف وقوله عليه
.........................................................
قوله: "وإنما اعتبرنا التأثير" في العلة لوجوب العمل
بالقياس لوجهين: أحدهما أن القياس أمر شرعي فلا بد فيه من
اعتبار الشارع. وثانيهما أن الأقيسة المنقولة عن الصحابة
والتابعين رضي الله تعالى عنهم كلها مبنية على العلل
المؤثرة. وأجيب عن الأول أن يكون القياس أمرا شرعيا لا
يقتضي إلا أن يكون له أصل في الشرع, وأما لزوم أن يثبت بنص
أو إجماع اعتبار الشارع نوع الوصف أو جنسه القريب في نوع
الحكم أو جنسه القريب على ما فسرتم به التأثير فممنوع, ولم
لا يكفي الجنس البعيد وحصول الظن بوجوه أخر من مسالك
العلة؟ كيف وقد جوزتم العمل بغير المؤثر أيضا وعن الثاني
بأنه لا يدل إلا على أن الأقيسة المنقولة كلها مبنية على
علل معقولة مناسبة, وليس النزاع في ذلك بل في التأثير
بالمعنى المذكور, ولا يخفى أن في كثير من الأقيسة المنقولة
قد اعتبرت الأجناس البعيدة ولم يثبت اعتبار الوصف بنص أو
إجماع بل بوجوه أخر. والظاهر أن مرادهم بالتأثير في هذا
المقام ما يقابل الطرد فمعناه أن يكون الوصف مناسبا ملائما
لإضافة الحكم إليه سواء كان مؤثرا بالمعنى الذي ذكره
المصنف رحمه الله تعالى أو لا وحينئذ يتم الاستدلال وهذا
ظاهر من النظر في كلامهم في هذا المقام ومن تقريرهم
التأثير في الأمثلة المذكورة, ففي قوله عليه الصلاة
والسلام: "إنها من الطوافين" لجنس الطوف وهو الضرورة له
أثر في الشرع في التخفيف وإثبات الطهارة ورفع النجاسة كمن
أكل الميتة في المخمصة فإنه لا يجب عليه غسل اليد والفم
للضرورة.
وأيضا لما كانت الهرة من الطوافين لم يمكن الاحتراز عن
سؤرها إلا بحرج عظيم فسقط اعتبار النجاسة دفعا للحرج كما
في حل الميتة في قوله عليه الصلاة والسلام: "إنها دم عرق
انفجر" 1
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الحيض باب 8. مسلم في كتاب الحيض
حديث 62، 63. أبو داود في كتاب الطهارة باب 107. ابن ماجه
في كتاب الطهارة باب 115 / 116. الموطأ في كتاب الطهارة /
حديث 104. أحمد في مسنده 6/82، 187، 194.
(2/159)
التخفيف وقوله
عليه الصلاة والسلام: "أرأيت لو تمضمضت بماء" الحديث
وغيرها من أقيسة الرسول عليه السلام والصحابة رضي الله
تعالى عنهم وعلى هذا قلنا مسح الرأس مسح فلا يسن تثليثه
كمسح الخف؛ لأن كونه مسحا مؤثر في التخفيف حتى لم
ـــــــ
الصلاة والسلام: "أرأيت لو تمضمضت بماء" الحديث وغيرها من
أقيسة الرسول عليه السلام والصحابة رضي الله تعالى عنهم
وعلى هذا قلنا مسح الرأس مسح فلا يسن تثليثه كمسح الخف;
لأن كونه مسحا مؤثر في التخفيف حتى لم يستوعب محله وأما
قوله ركن فيسن تثليثه
.........................................................
لانفجار الدم ووصوله إلى موضع يجب تطهيره عنه وهو معنى
النجاسة أثر في وجوب طهارة وفي عدم كون انفجار الدم حيضا
وفي كونه مرضا لازما مؤثرا في التخفيف, أما في وجوب
الطهارة فلأن العبد لا يصلح للقيام بين يدي الرب إلا
طاهرا, وأما في عدم كونه حيضا فلأن الحيض دم ثبت عادة
راتبة في بنات آدم خلقها الله تعالى في أرحامهن وانفجار دم
العرق ليس كذلك فلا يكون حيضا موقعا في الحرج الموجب
لإسقاط الصلاة والوضوء, وأما في كونه مرضا فلأنه ليس في
وسعها إمساكه ورده فيكون له تأثير في التخفيف بأن يحكم مع
وجوده بقيام الطهارة في وقت الحاجة وهو وقت الصلاة للضرورة
إذ لو وجبت عليها الطهارة لكل حدث لبقيت مشغولة بالطهارة
أبدا ولم تفرغ للصلاة قطعا وفي قوله عليه الصلاة والسلام:
"أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك", لعدم قضاء
الشهوتين أثر في عدم انتقاض الصوم فكما أن المضمضة مقدمة
شهوة البطن وليست في معنى الأكل كذلك القبلة مقدمة شهوة
الفرج وليست في معنى الجماع لا صورة لعدم إيلاج فرج في
فرج, ولا معنى لعدم الإنزال ففي الأمثلة المذكورة ليس
التأثير بمعنى اعتبار النوع أو الجنس القريب.
قوله: "وغيرها" أي وكغير المذكورات من أقيسة النبي عليه
السلام وأقيسة الصحابة رضي الله تعالى عنهم كما قال النبي
عليه الصلاة والسلام في تحريم الصدقة على بني هاشم: "أرأيت
لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت شاربه؟" كذا أورده فخر
الإسلام رحمه الله تعالى وغاية تقريره أن هذا تعليل بمعنى
مؤثر وهو أن الصدقة مطهرة الأوزار والآثام فكانت وسخا
بمنزلة الماء المستعمل فكما أن الامتناع من شرب الماء
المستعمل أخذ بمعالي الأمور فكذلك حرمة الصدقة على بني
هاشم تعظيم لهم وإكرام واختصاص بمعالي الأمور, وكما اختلفت
الصحابة رضي الله عنهم في الجد مع الإخوة واحتج كل فريق
بتمثيل مشتمل على معنى مؤثر هو القرابة من الجانبين أو
الاتصال بالميت بطريق الجزئية فقال علي رضي الله تعالى عنه
إنما مثل الجد مع الإخوة مثل شجرة أنبتت غصنا ثم تفرع عن
الغصن فرعان فالقرب بين الفرعين أولى من القرب بين الفرعين
والأصل لأن الغصن بين الفرعين والأصل واسطة, ولا واسطة بين
الفرعين فهذا يقتضي رجحان الأخ على الجد إلا أن بين
الفرعين والأصل جزئية وبعضية ليست بين الفرعين نفسهما فكان
لكل منهما ترجيح فاستويا وقال زيد بن ثابت رضي الله تعالى
عنه مثل الجد مع الأخوين كمثل نهر ينشعب من واد ثم يتشعب
من هذا النهر جدول ومثل الأخوين كمثل نهرين ينشعبان من واد
فالقرب بين النهرين المتشعبين من الوادي أكثر من القرب بين
الوادي والجدول بواسطة النهر. وقال
(2/160)
يستوعب محله
وأما قوله ركن فيسن تثليثه كما في سائر الأركان فغير معقول
وكذا جعلنا الصغر علة للولاية بخلاف البكارة وأيضا قلنا
صوم رمضان متعين فلا يجب التعيين وقد ظهر تأثيره في
الودائع والمغصوب وفي النقل فإن فرض رمضان فيه كالنقل في
غيره.
وبعض العلماء احتجوا بالتقسيم فيه وهو أن يقول العلة إما
هذا أو هذا أو هذا
ـــــــ
كما في سائر الأركان فغير معقول وكذا جعلنا الصغر علة
للولاية بخلاف البكارة وأيضا قلنا صوم رمضان متعين فلا يجب
التعيين وقد ظهر تأثيره" أي تأثير المتعين في عدم التعيين
"في الودائع والمغصوب" فإن رد الوديعة والمغصوب واجب عليه
ولا يجب عليه رد وغير هذا ولما كان هذا الرد متعينا لا يجب
عليه تعيينه بأن يقول هذا الرد هو رد الوديعة فإن ردها
مطلقا يصرف إلى الواجب عليه وهو رد الوديعة "وفي النقل"
فإنه إذا نوى في غير رمضان صوما مطلقا ينصرف إلى النقل
لتعينه ففي رمضان ينصرف إلى صوم رمضان لتعينه "فإن فرض
رمضان فيه كالنقل في غيره.
وبعض العلماء احتجوا بالتقسيم فيه" أي على العلية في
القياس "وهو أن يقول العلة إما هذا أو هذا أو هذا
والأخيران باطلان فتعين الأول فإن لم يكن حاصرا لا يقبل
وإن كان
.........................................................
ابن عباس رضي الله تعالى عنه ألا يتقي الله زيد بن ثابت
يجعل ابن الابن ابنا, ولا يجعل أب الأب أبا اعتبر أحد طرفي
القرابة وهو طرف الأصالة بالطرف الآخر وهو الجزئية في
القرب.
قوله: "وعلى هذا" الأصل وهو اعتبار التأثير جزئيا في
أقيستنا في المسائل المختلف فيها فعللنا بالعلل المؤثرة
فإن للمسح أثرا في التخفيف فإنه أيسر من الغسل ويتأدى به
الفرض, ولا يشترط فيه استيعاب المحل كما في المغسولات
بخلاف الركنية فإنه لا أثر لها في التكرار وإبطال التخفيف
وكون التثليث سنة اللهم إلا أن يقال إن الركنية تنبئ عن
القوة والحصانة ووجوب الاحتياط فيناسب التكرار ليحصل
باليقين أو بظن قريب منه. وكذا الصغر مؤثر في إثبات
الولاية فإن ولاية النكاح لم تشرع إلا على وجه النظر
للمولى عليه باعتبار عجزه عن مباشرة النكاح بنفسه وذلك في
الصغر دون البكارة, وكذا تعيين الصوم الفرض في رمضان مؤثر
في إسقاط وجوب التعيين; لأن أصل النية في العبادات إنما هو
للتمييز بين العبادة والعادة, وتعيينها إنما هو للتمييز
بين الجهات المتزاحمة فحيث لا تزاحم لا حاجة إلى التعيين
بخلاف الفرضية; لأنه لا يعقل تأثيرها في إيجاب التعيين.
قوله: "وبعض العلماء" قد اشتهر فيما بين الأصوليين أن من
مسالك العلة السبر والتقسيم وهو حصر الأوصاف الموجودة في
الأصل الصالحة للعلية في عدد, ثم إبطال علية بعضها لتثبت
علية الباقي فيكون هناك مقامان أحدهما بيان الحصر ويكفي في
ذلك أن يقول بحثت فلم أجد سوى هذه
(2/161)
والأخيران
باطلان فتعين الأول فإن لم يكن حاصرا لا يقبل وإن كان
حاصرا بأن يثبت عدم علية الغير بالإجماع مثلا بعدما ثبت
تعليل هذا النص يقبل كإجماعهم على أن علة الولاية، إما
الصغر أو البكارة فهذا إجماع على نفي ما عداهما وبتنقيح
المناط وهو أن يبين عدم علية الفارق ليثبت علية المشترك
وعلماؤنا رحمهم الله لم يتعرضوا لهذين فإنه على تقدير
قبولهما يكون مرجعهما إلى النص أو الإجماع أو المناسبة
وبالدوران
ـــــــ
حاصرا بأن يثبت عدم علية الغير" أي غير هذه الأشياء التي
ردد فيها "بالإجماع مثلا" إنما قال مثلا; لأنه يمكن أن
يثبت عدم علية الغير بالنص "بعدما ثبت تعليل هذا النص يقبل
كإجماعهم على أن علة الولاية, إما الصغر أو البكارة فهذا
إجماع على نفي ما عداهما وبتنقيح المناط وهو أن يبين عدم
علية الفارق ليثبت علية المشترك" الفارق هو الوصف الذي
يوجد في الأصل دون الفرع والمشترك هو الوصف الذي يوجد
فيهما "وعلماؤنا رحمهم الله لم يتعرضوا لهذين فإنه على
تقدير قبولهما يكون مرجعهما إلى النص أو الإجماع أو
المناسبة
.........................................................
الأوصاف ويصدق; لأن عدالته وتدينه مما يغلب ظن عدم غيره إذ
لو وجد لما خفي عليه أو; لأن الأصل عدم الغير وحينئذ
للمعترض أن يبين وصفا آخر وعلى المستدل أن يبطل عليته وإلا
لما ثبت الحصر فيما أحصاه فيلزم انقطاعه. وثانيهما إبطال
علية بعض الأوصاف ويكفي في ذلك أيضا الظن وذلك بوجوه:
الأول وجود الحكم بدونه في صورة فلو استقل بالعلية لانتفى
الحكم بانتفائه. الثاني كون الوصف مما علم إلغاؤه في الشرع
إما مطلقا كاختلاف بالطول والقصر أو بالنسبة إلى الحكم
المبحوث فيه كالاختلاف بالذكورة والأنوثة في العتق. الثالث
عدم ظهور المناسبة فيكفي للمستدل أن يقول بحثت فلم أجد له
مناسبة, ولا يحتاج إلى إثبات ظهور عدم المناسبة; لأن
التقدير أنه عدل أخبر عما لا طريق إلى معرفته إلا خبره
وحينئذ للمعترض أن يدعي ذلك في الوصف الذي يدعي المستدل
أنه علة يحتاج إلى الترجيح.
والمتمسكون بالسبر والتقسيم لا يشترطون إثبات التعليل في
كل نص بل يكفي عندهم أن الأصل في النصوص التعليل وأن
الأحكام مبنية على الحكم والمصالح إما وجوبا كما هو مذهب
المعتزلة وإما تفضيلا كما هو مذهب غيرهم ولو سلم عدم
الكلية فالتعليل هو الغالب في الأحكام وإلحاق الفرد بالأعم
الأغلب هو الظاهر, ولا يشترطون في بيان الحصر إثبات عدم
الغير بنص أو إجماع لحصول الظن بدون ذلك على ما بيناه,
وأما على ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى فيكون هذا من
المسالك القطعية بمنزلة النص والإجماع ويكون مرجعه إليهما,
وكذا الكلام في تنقيح المناط. قال ابن الحاجب إن الإخالة
هي المناسبة وهي المسمى بتخريج المناط أي تنقيح ما علق
الشارع الحكم به ومآله إلى التقسيم بأنه لا بد للحكم من
علة وهي إما الوصف الفارق أو المشترك لكن الفارق ملغى
فيتعين المشترك فيثبت الحكم لثبوت علته وذكر الإمام
الغزالي رحمه الله تعالى أن النظر والاجتهاد في مناط الحكم
أي علته إما أن يكون في تحقيقه أو تنقيحه أو تخريجه, أما
تحقيق المناط فهو النظر والاجتهاد في معرفة وجود العلة في
آحاد الصور بعد معرفتها بنص أو
(2/162)
وهو باطل عندنا
ففسره بعضهم بأنه وجود الحكم في كل صور وجود الوصف وزاد
بعضهم العدم عند العدم وشرط بعضهم قياس النص في الحالين
ولا حكم له نظيره أن المرء إذا قام إلى الصلاة وهو متوضئ
لا يجب عليه الوضوء وإذا قعد وهو محدث يجب فعلم أن الوجوب
دائر مع الحدث.
ـــــــ
وبالدوران وهو باطل عندنا ففسره بعضهم بأنه وجود الحكم في
كل صور وجود الوصف وزاد بعضهم العدم عند العدم وشرط بعضهم
قياس النص في الحالين" أي في حال وجود الوصف وعدمه "ولا
حكم له نظيره أن المرء إذا قام إلى الصلاة وهو متوضئ لا
يجب عليه الوضوء وإذا قعد وهو محدث يجب فعلم أن الوجوب
دائر مع الحدث" فإنا قد وجدنا وجوب الوضوء دائرا مع الحدث
وجودا وعدما, والنص موجود في الحالين أي حال وجود الحدث
وحال عدمه ولا حكم له; لأن النص يوجب أنه كلما وجد القيام
إلى الصلاة وجب الوضوء وكلما لم يوجد لم يجب أما عند
القائلين بالمفهوم فظاهر وأما عندنا فلأن
.........................................................
إجماع أو استنباط, ولا يعرف خلاف في صحة الاحتجاج به إذا
كانت العلة معلومة بنص أو إجماع, وأما تنقيح المناط فهو
النظر في تعيين ما دل النص على كونه علة من غير تعيين
بخلاف الأوصاف التي لا مدخل لها في الاعتبار كما بين في
قصة الأعرابي أنه لا مدخل في وجوب الكفارة لكونه ذلك الشخص
أو من الأعراب إلى غير ذلك حتى يتعين وطء المكلف الصائم في
نهار رمضان عامدا.
وهذا النوع وإن أقر به أكثر منكري القياس فهو دون الأول,
وأما تخريج المناط فهو النظر في إثبات علة الحكم الذي دل
النص أو الإجماع عليه دون علته كالنظر في إثبات كون السكر
علة لحرمة الخمر وهذا في الرتبة دون النوعين الأولين ولهذا
أنكره كثير من الناس.
قوله: "بالدوران" احتج بعض الأصوليين على علية الوصف
بدوران الحكم معه أي ترتبه عليه وجودا ويسمى الطرد وبعضهم
وجودا وعدما ويسمى الطرد والعكس كالتحريم مع السكر فإن
الخمر يحرم إذا كان مسكرا وتزول حرمته إذا زال إسكاره
بصيرورته خلا وشرط البعض وجود النص في حالتي وجود الواصف
وعدمه, والحال أنه لا حكم له أي للنص وذلك لدفع احتمال
إضافة الحكم إلى الاسم وتعين إضافته إلى معنى الوصف فإن
الحرمة تثبت للعصير إذا اشتد ويسمى خمرا وتزول عند زوال
الشدة والاسم, فإذا كان الاسم قائما في الحالين ودار الحكم
مع الوصف زال شبهة علية الاسم وتعين علية الوصف وإلا لما
تخلف الحكم عن النص.
قوله: "لكن جعل هذا الحكم حكم النص مجازا" جواب عما يقال
إن هذا الاشتراط لا يصح عند من لا يقول بمفهوم المخالفة إذ
لا يكون النص قائما عند الوصف المنصوص عليه, ولا يكون له
حينئذ موجب لا نفيا, ولا إثباتا, ولا يتناول أصلا مثلا إذا
لم يقم إلى الصلاة بل قعد لم يتناوله النص إلا عند
القائلين بمفهوم الشرط, وأما عند غيرهم فيكون عدم وجوب
الوضوء مبنيا على عدم دليل الوجود فيجعل من حكم النص
المذكور بطريق المجاز حيث عبر بعدم الوجوب المستند إلى
النص عن مطلق عدم الوجوب.
(2/163)
وقوله عليه
الصلاة والسلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان" فإنه يحل
القضاء وهو غضبان عند فراغ القلب ولا يحل عند شغله بغير
الغضب، لهم أن علل الشرع أمارات
ـــــــ
الأصل هو العدم على ما مر في مفهوم المخالفة وموجب النص
غير ثابت في الحالين أما حال عدم الحدث فإن ظاهر النص يوجب
أنه إذا وجد القيام مع عدم الحدث يجب الوضوء وهذا غير ثابت
وأما حال وجود الحدث فلأنه ينبغي أنه إذا لم يقم إلى
الصلاة مع وجود الحدث لا يجب الوضوء أما عند القائلين
بالمفهوم فلأن هذا الحكم هو مدلول النص وأما عندنا فلأن
عدم وجوب الوضوء, وإن كان بناء على العدم الأصلي لكن جعل
هذا الحكم حكم النص مجازا فعلم بهذا علية الحدث إذ لولا
ذلك لما تخلف الحكم عن النص أصلا.
"قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"
فإنه يحل القضاء وهو غضبان عند فراغ القلب ولا يحل عند
شغله بغير الغضب, لهم أن علل الشرع أمارات فلا
.........................................................
قوله: "فإنه يحل القضاء وهو غضبان" يعني أن النص قائم في
حال الغضب بدون شغل القلب مع عدم حكمه الذي هو حرمة القضاء
عند الغضب وأيضا النص قائم في حال عدم الغضب وشغل القلب
بنحو جوع أو عطش مع عدم حكمه الذي هو إباحة القضاء عند عدم
الغضب إما بطريق مفهوم المخالفة أو الإباحة الأصلية أو
بالنصوص المطلقة في القضاء ويجعل من حكم النص المذكور
مجازا.
قوله: "والوجود عند الوجود" كان الأحسن أن يقول الوجود عند
الوجود والعدم عند العدم لا يدل على العلية لجواز أن يكون
ذلك بطريق اتفاق كلي أو تلازم تعاكس أو يكون المدار لازم
العلة أو شرطا مساويا لها فلا يقيد ظن العلية; لأنها
احتمال واحد وهذه الاحتمالات كثيرة, وقد يقال إذا وجد
الدوران مع غير مانع من العلية من معية كما في المتضايفين
أو تأخر كما في المعلول والعلة أو غيرهما كما في شرط
المساوي فالعادة قاضية بحصول الظن بل القطع بالعلية كما
إذا دعي إنسان باسم مغضب فغضب ثم ترك فلم يغضب وتكرر ذلك
مرة بعد أخرى علم بالضرورة أنه سبب الغضب حتى إن من لا
يتأتى منه النظر كالأطفال يعلمون ذلك ويتبعونه في الطرق
ويدعونه بذلك الاسم ويجاب عنه بأن النزاع إنما هو في حصول
الظن بمجرد الدوران وهو فيما ذكرتم من المثال ممنوع إذ
لولا انتفاء ظهور غير ذلك إما بأنه بحث عنه فلم يوجد,
وإما; لأن الأصل عدمه لما حصل الظن غايته أنه يفيد تقوية
الظن الحاصل من غيره وربما يقال إن هذا إنكار للضروري وقدح
في جميع التجريبيات فإن الأطفال يقطعون به من غير نظر
واستدلال بما ذكرتم وأهل النظر كالمجتمعين على ذلك حتى كاد
يجري مجرى المثل أن دوران الشيء مع الشيء آية كون المدار
علة للدائر ويجاب بأن الأحكام العقلية لا تختلف باختلاف
الأحوال بخلاف الأحكام الشرعية المبنية على المصالح فلا بد
في بيان عللها من مناسبة أو اعتبار من الشارع إذ في القول
بالطرد فتح لباب الجهل والتصرف في الشرع.
قوله: "ولا يشترط لها أيضا" زيادة تنبيه على بعد المناسبة
بين الدوران والعلية يعني أن الوجود
(2/164)
فلا حاجة إلى
معنى يعقل قلنا نعم في حقه تعالى أما في حق العباد فإنهم
مبتلون بنسبة الأحكام إلى العلل كنسبة الملك إلى البيع
والقصاص إلى القتل فإنه يجب القصاص مع أن المقتول ميت
بأجله فلا بد من التمييز بين العلل والشروط، والوجود عند
الوجود لا يدل على العلية؛ لأنه قد يقع اتفاقا وقد يقع في
العلامة ولا يشترط لها أيضا؛ لأن التخلف لمانع لا يقدح
فيها ثم العلة عين ذلك الوصف عند القائلين بتخصيصها، وذلك
الوصف مع عدم المانع عند من لا يقول به ولا يشترط العدم
عند العدم لأنه قد يوجد
ـــــــ
حاجة إلى معنى يعقل قلنا نعم في حقه تعالى أما في حق
العباد فإنهم مبتلون بنسبة الأحكام إلى العلل كنسبة الملك
إلى البيع والقصاص إلى القتل فإنه يجب القصاص مع أن
المقتول ميت بأجله فلا بد من التمييز بين العلل والشروط,
والوجود عند الوجود لا يدل على العلية; لأنه قد يقع اتفاقا
وقد يقع في العلامة ولا يشترط لها أيضا" أي لا يشترط
الوجود عند الوجود للعلية "; لأن التخلف لمانع لا يقدح
فيها ثم العلة عين ذلك الوصف عند القائلين بتخصيصها, وذلك
الوصف مع عدم المانع عند من لا يقول به" اعلم أن تخلف
الحكم عن العلة لمانع لا يقدح في العلية أما عند القائلين
بتخصيص العلة فلأن الشيء يمكن أن يكون علة والحكم تخلف عنه
لمانع وهذا التخلف لا يقدح في العلية وأما عند من لا يقول
بتخصيص العلة
.........................................................
عند الوجود والعدم عند العدم كما أنه ليس بملزوم للعلية
فكذلك ليس بلازم لها لجواز أن لا يوجد الحكم عند وجود
العلة الظاهرة بناء على مانع أو على عدم تمامها حقيقة وأن
لا ينعدم عند عدمها بناء على ثبوته بعلة أخرى كالحديث يثبت
بخروج النجاسة والنوم وغير ذلك وقد يقال في تقرير هذا
الكلام إن الوجود عند الوجود والعدم عند العدم لا يدل على
صحة العلية كما أن العدم عند الوجود والوجود عند العدم لا
يدل على فسادها اعتبارا لحالة الموافقة بحالة المخالفة في
الصحة والفساد.
قوله: "وقيام النص" إشارة إلى بطلان كلام الفريق الثالث
وذلك أن ما اشترطوا من قيام النص في الحالين من غير حكم
أمر لا يوجد إلا نادرا, ولا عبرة بالنادر في أحكام الشرع
فكيف يجعل أصلا فيما هو من أدلة الشرع بأن يبتنى عليه ثبوت
العلية على أن وجوده بطريق الندرة أيضا في محل النزاع فإنا
لا نسلم في المثالين المذكورين قيام النص في الحالين مع
عدم حكمه أما في الآية فلأنا لا نسلم قيام النص بدون الحكم
حال انتفاء الحدث وإنما يلزم ذلك لو لم يكن النص مقيدا
بالحدث ومقيدا لوجوب الوضوء بشرط وجود الحدث وبيانه من
وجهين أحدهما أن اشتراط الحدث في وجوب البدل وهو التيمم
بقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الْغَائِطِ} اشتراط له في وجوب الأصل وهو الوضوء إذ البدل
لا يفارق الأصل بسببه وإنما يفارقه بحاله بأن يجب في حال
لا يجب فيها الأصل.
وبالجملة لما رتب وجوب التيمم على وجود الحدث عند فقد
الماء فهم أن وجوب التوضؤ بالماء مرتب على الحدث, وثانيهما
أن العمل بظاهر النص متعذر لاقتضائه وجوب التوضؤ عند كل
(2/165)
بعلة أخرى
وقيام النص في الحالين ولا حكم له أمر لا يوجد إلا نادرا
فكيف يجعل أصلا في باب القياس وأيضا هو غير مسلم في آية
الوضوء؛ لأنه ثبت الحدث بالنص؛ لأن ذكره في الخلف ذكر في
الأصل ولأن المعنى إذا قمتم من مضاجعكم، والنوم دليل الحدث
ولما كان الماء مطهرا دل على قيام النجاسة فاكتفى فيه.
واختار في التيمم التصريح وأيضا فيه إيماء إلى أن الوضوء
عند عدم الحدث سنة لكونه ائتمارا لظاهر الأمر وعند الحدث
واجب بخلاف الغسل فإنه ليس بسنة لكل
ـــــــ
فإن العلة مجموع ذلك الوصف مع عدم المانع فالوصف يكون جزءا
للعلة فمعنى قولنا إن التخلف لمانع لا يقدح فيها أن التخلف
لمانع لا يقدح في كون الوصف جزءا للعلة "ولا يشترط العدم
عند العدم لأنه قد يوجد بعلة أخرى وقيام النص في الحالين
ولا حكم له أمر لا يوجد إلا نادرا فكيف يجعل أصلا في باب
القياس وأيضا هو غير مسلم في آية الوضوء; لأنه ثبت الحدث
بالنص; لأن ذكره في الخلف ذكر في الأصل ولأن المعنى إذا
قمتم من مضاجعكم, والنوم دليل الحدث ولما كان الماء مطهرا
دل على قيام النجاسة فاكتفى فيه" أي في الماء يعني في
إيجاب الوضوء "بدلالة النص" أي على وجود الحدث.
"واختار في التيمم التصريح" أي بوجود الحدث وهو قوله
تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ
.........................................................
قيام وفي كل ركعة فلا يتصور أداء الصلاة فلا بد من إضمار,
أي: إذا قمتم من مضاجعكم أو إذا أردتم القيام إلى الصلاة
محدثين, والقيام من المضجع كناية عن التنبه من النوم,
والنوم دليل الحدث فعلى الأول يكون ذكر الحدث بطريق دلالة
النص, وأما على الثاني فالظاهر أنه من قبيل المضمر وإطلاق
دلالة النص عليه إما لغوي بمعنى أنه يفهم من النص أو هو من
قبيل المشاكلة أو التغليب أو باعتبار أن القيام من المضجع
إنما يدل على النوم دلالة لا عبارة وهذا أنسب فإن قيل
للبدل حكم الأصل فكانت قضية الترتيب أن يصرح بالحدث في
وجوب الوضوء ويكتفى بالدلالة في وجوب التيمم فلما عكست
أجيب بوجهين:
الأول أن الماء مطهر بنفسه فإيجاب استعماله دل على وجود
النجاسة الحكمية المفتقرة إلى إزالتها بخلاف إيجاب استعمال
التراب فإنه ملوث لا يقتضي سابقة حدث فصرح معه بالحدث.
الثاني أن في ترك التصريح بالحدث في نص الوضوء إشارة إلى
أن الوضوء سنة عند كل صلاة وإن لم يكن محدثا نظرا إلى ظاهر
إطلاق الأمر وتحقيقه أنه قد علم بدلالة النص والإجماع عدم
وجوب الوضوء عند القيام إلى الصلاة بدون الحدث فيحمل على
الإيجاب عند الحدث عملا بحقيقة الأمر وعلى الندب عند عدم
الحدث عملا بظاهر إطلاقه وترك هذا الإيماء في الغسل; لأنه
لا يسن لكل صلاة بل للجمعة والعيدين فصرح معه بذكر الحدث
وهذا مبني على ما يعتبره البلغاء في
(2/166)
صلاة والغضب لا
يوجد بدون شغل القلب ولا يحل القضاء إلا بعد سكونه.
ـــــــ
مِنَ الْغَائِطِ} إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا} "وأيضا فيه
إيماء" أي في النص إشارة "إلى أن الوضوء عند عدم الحدث سنة
لكونه ائتمارا لظاهر الأمر وعند الحدث واجب بخلاف الغسل
فإنه ليس بسنة لكل صلاة" وهذا وجه آخر لترك التصريح بالحدث
في الوضوء والتصريح به في التيمم "والغضب لا يوجد بدون شغل
القلب ولا يحل القضاء إلا بعد سكونه" هذا منع لقوله: فإنه
يحل القضاء وهو غضبان عند فراغ القلب فما ذكر أن النص قائم
في الحالين ولا حكم له ممنوع أما حال وجود الوصف فإنه لا
يحل القضاء إلا بعد سكون النفس عن الغضب كما ذكر في المتن
وأما حال عدم الوصف وهو غير مذكور في المتن فعندنا لا
دلالة للنص على عدم الحكم عند عدم الوصف وكذا عند من يقول
بالمفهوم; لأن من شرائط مفهوم المخالفة أن لا يثبت التساوي
بين المنطوق والمسكوت وقد ذكرتم أن القضاء لا يحل عند شغل
القلب بغير الغضب فيثبت التساوي بين المنطوق والمسكوت فلم
يوجد شرط صحة مفهوم المخالفة فلا يكون النص حينئذ دالا على
عدم الحكم عند عدم الوصف فبطل قوله: إن النص قائم في
الحالين ولا حكم له.
.........................................................
تركيبهم من الرموز لا على أن يتناول الأمر للمحدث إيجابا
ولغيره ندبا; لأنه لا يراد من اللفظ معنياه المختلفان فإن
قلت مبنى هذه المباحث على أن سبب الوضوء هو الحدث, وقد
تقرر في موضعه أن سببه إرادة الصلاة لا الحدث. قلت هو مبني
على التقدير أي لو سلم أن العلة هي الحدث فهي لم تثبت
بالدوران على ما ذكرتم, وأما في الحديث فلأنا لا نسلم
انتفاء حكم النص وهو حرمة القضاء مع وجود الوصف وهو الغضب
وإنما يصح ذلك لو وجد الغضب بدون شغل القلب وهو ممنوع كيف
والغضبان صيغة مبالغة بمعنى الممتلئ غضبا على ما نقل عن
الزجاج فلا يتصور له فراغ القلب ما دام غضبان وبهذا يحصل
المقصود وهو منع قيام النص في الحالين مع عدم حكمه; لأن
الكل ينتفي بانتفاء البعض إلا أنه تعرض في الشرح لحال
العدم أيضا زيادة لتحقيق المقصود يعني أنا لا نسلم أن من
حكم هذا النص حل القضاء عند عدم الغضب وإنما يكون كذلك لو
تحقق شرائط مفهوم المخالفة وهو ممنوع.
(2/167)
فصل: لا يجوز التعليل لإثبات العلة كإحداث تصرف موجب للملك
وقولنا
ـــــــ
"فصل: لا يجوز التعليل لإثبات العلة كإحداث تصرف موجب
للملك" أي لا يجوز
.........................................................
قوله: "فصل" ذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن التعدية
حكم لازم للتعليل عندنا جائز عند الشافعي رحمه الله تعالى
فعندنا لا يجوز التعليل إلا لتعدية الحكم من المحل المنصوص
إلى محل آخر فيكون التعليل والقياس واحدا وعند الشافعي
رحمه الله تعالى يجوز لزيادة القبول وسرعة الوصول والاطلاع
على حكمة الشارع فيوجد التعليل بدون القياس, والكلام في
التعليل الغير
(2/167)
الجنس بانفراده
يحرم النساء بالنص وهو نهي عن الربا والريبة وكون الأكل
والشرب موجبا للكفارة بدلالة النص وكذا القصاص في القتل
بالمثقل عندهما وصفتها كإثبات السوم في الأنعام ولإثبات
الشرط أو صفته كالشهود في النكاح وككونهم رجالا أو
ـــــــ
بالقياس إحداث تصرف يكون علة لثبوت الملك "وقولنا الجنس
بانفراده يحرم النساء بالنص وهو نهي عن الربا والريبة"
جواب إشكال وهو أنكم أثبتم بالقياس شيئا هو علة لحرمة
النساء وهو الجنس بانفراده أي بدون الكيل والوزن فأجاب بأن
هذا النص وهو قول الراوي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن
الربا والريبة, والريبة: الشك والمراد بالريبة هنا شبهة
الربا وشبهة الربا ثابتة فيما إذا كان الجنس بانفراده
موجودا أو قد باع نسيئة; لأن للنقد مزية على النسيئة "وكون
الأكل والشرب موجبا للكفارة بدلالة النص وكذا القصاص في
القتل بالمثقل عندهما" أي ثابت بدلالة النص لا بالقياس
المستنبط فلا يرد حينئذ إشكال "وصفتها" بالجر أي لا يجوز
التعليل لإثبات صفة العلة "كإثبات السوم في الأنعام
ولإثبات الشرط أو صفته كالشهود في النكاح" هذا نظير إثبات
الشرط "وككونهم رجالا أو مختلطة" نظير إثبات صفة الشرط
"ولإثبات
.........................................................
المنصوص ثم جملة ما يقع التعليل لأجله أربعة: الأول إثبات
السبب أو وصفه. الثاني إثبات الشرط أو وصفه. الثالث إثبات
الحكم أو وصفه. الرابع تعدية حكم مشروع معلوم بصفته إلى
محل آخر يماثله في التعليل فالتعليل مختص بالتعدية لا يجوز
لأجل إثبات سبب أو صفته; لأنه إثبات الشرع بالرأي, ولا
لإثبات شرط لحكم شرعي أو صفته بحيث لا يثبت الحكم بدونه;
لأن هذا إبطال للحكم الشرعي ونسخ له بالرأي, ولا لإثبات
حكم أو صفته ابتداء; لأنه نصب أحكام الشرع بالرأي فلا يجوز
شيء من ذلك إلا إذا وجد له في الشريعة أصل صالح للتعليل
فيعلل ويتعدى حكمه إلى محل آخر سواء كان الحكم إثبات سبب
أو شرط أو وصفهما أو إثبات حكم آخر مثل الوجوب والحرمة
وغيرهما فصار الحاصل أن التعليل لإثبات العلة أو الشرط أو
الحكم ابتداء باطل بالاتفاق ولإثبات حكم شرعي مثل الوجوب
والحرمة بطريق التعدية من أصل موجود في الشرع ثابت بالنص
أو الإجماع جائز بالاتفاق. واختلفوا في التعليل لإثبات
السببية أو الشرطية بطريق التعدية من أصل ثابت في الشرع
بمعنى أنه إذا ثبت بنص أو إجماع كون الشيء سببا أو شرطا
لحكم شرعي فهل يجوز أن يجعل شيء آخر علة أو شرطا لذلك
الحكم قياسا على الشيء الأول عند تحقيق شرائط القياس مثل
أن تجعل اللواطة سببا لوجوب الحد قياسا على الزنا وتجعل
النية في الوضوء شرطا لصحة الصلاة قياسا على النية في
التيمم فذهب كثير من علماء المذهبين إلى امتناعه, وبعضهم
إلى جوازه وهو اختيار فخر الإسلام رحمه الله وأتباعه فلهذا
احتاجوا إلى التفصيل والإشارة إلى التسوية بين الحكم
والسبب والشرط في أنها تجوز أن تثبت بالتعليل إن وجد لها
أصل في الشرع وتمتنع إن لم يوجد.
وقال صاحب الميزان لا معنى لقول من يقول إن القياس حجة في
إثبات الحكم دون إثبات السبب أو الشرط; لأنه إن أراد معرفة
علة الحكم بالرأي والاجتهاد فذلك جائز في الجميع; لأن
(2/168)
مختلطة ولإثبات
الحكم أو صفته كصوم بعض اليوم وكصفة الوتر؛ لأن فيه نصب
الشرع بالرأي فلا يجوز ابتداء أما إذا كان له أصل فيصح
كاشتراط التقابض في بيع الطعام بالطعام فإن له أصلا وهو
الصرف ولجوازه بدونه أصلا وهو بيع سائر السلع.
ـــــــ
الحكم أو صفته كصوم بعض اليوم" نظير إثبات الحكم "وكصفة
الوتر" نظير إثبات صفة الحكم "; لأن فيه نصب الشرع بالرأي
فلا يجوز ابتداء أما إذا كان له أصل فيصح كاشتراط التقابض
في بيع الطعام بالطعام" أي عند الشافعي رحمه الله "فإن له"
أي لاشتراط التقابض عند الشافعي رحمه الله "أصلا وهو الصرف
ولجوازه بدونه أصلا" أي لجواز البيع بدون التقابض عندنا
أصلا "وهو بيع سائر السلع" فالحاصل أن اشتراط التقابض عند
الشافعي رحمه الله وإن كان إثبات الشرط فإنه يوجد له أصل
وهو بيع الصرف وعدم اشتراطه عندنا كذلك يوجد له أصل وهو
بيع سائر السلع
.........................................................
المعرفة لا تختلف وإن أراد أن الجمع بين الأصل والفرع لا
يتصور إلا في الحكم دون السبب أو الشرط فممنوع بل يتصور في
الجميع وإن أراد أن القياس ليس بمثبت فمسلم والجميع سواء
في أنه لا يثبت فيه شيء بالقياس بل يعرف به السبب والشرط
كما يعرف به الحكم, واحتجاج الفريقين مذكور في أصول
الشافعية ومقصود هذا الفصل مشهور فيما بين القوم مسطور في
كتبهم.
قوله: "وقولنا الجنس قد توهم" ورود الإشكال بأنكم أثبتم
بالقياس علية مجرد الجنس لحرمة الربا وعلية الأكل والشرب
لوجوب الكفارة وعلية القتل بالمثقل لوجوب القصاص عند أبي
يوسف ومحمد رحمهما الله فأجاب بأنا لم نثبت ذلك بالقياس بل
بالنص عبارة في الأول ودلالة في الأخيرين على ما سبق في
بحث دلالة النص ولم يورد فخر الإسلام رحمه الله تعالى في
هذا المقام مسألة وجوب الكفارة بالأكل والشرب, ولا مسألة
وجوب القصاص بالقتل بالمثقل; لأن جعلهما من قبيل دلالة
النص دون القياس مبني على أن القياس لا يجري في الحدود
والكفارات لا على أنه لا يجري في الأسباب والشروط; لأن
مذهب فخر الإسلام رحمه الله أنه يصح إثبات السبب والشرط
بالرأي والقياس إذا وجد له أصل في الشرع وهاهنا الوقاع أصل
للأكل والشرب والقتل بالسيف أصل للقتل بالمثقل فكيف يتوهم
أن يورد هذا إشكالا على إثبات السبب بالتعليل فيما لا يوجد
له أصل وإنما وقع ذلك للمصنف رحمه الله من أصول ابن الحاجب
وذلك أنه اختار أنه لا يصح إثبات السبب بالقياس فأورد
القتل بالمثقل إشكالا فأجاب بأنا لا نبين سببية القتل
بالمثقل قياسا على سببية القتل بالسيف بل نبين أن السبب هو
القتل العمد العدوان سواء كان بالسيف أو بغيره فالسبب واحد
لا غير.
وأما مسألة حرمة الربا بالجنس فأوردها فخر الإسلام رحمه
الله مثالا لا إشكالا فقال أما تفسير القسم الأول أي بيان
إثبات الموجب فمثل قولهم في الجنس بانفراده إنه يحرم
النسيئة, وهذا خلاف وقع في الموجب للحكم فلم يصح إثباته,
ولا نفيه بالرأي إذ لا نجد أصلا نقيسه عليه بل
(2/169)
فالتعليل لا
يصح إلا للتعدية هذا ما قالوا والحق إثبات العلة أنه إن
ثبت أن عليتها لمعنى آخر يصلح للتعليل فكل شيء يوجد فيه
ذلك المعنى يحكم بعليته لكن لا يكون هذا إثبات العلة
بالقياس؛ لأن العلة في الحقيقة ذلك المعنى وإن لم يثبت ذلك
فلا؛ لأنه يكون تعليلا بالمرسل وهذا هو المختلف فيه.
ـــــــ
"فالتعليل لا يصح إلا للتعدية هذا ما قالوا" إنما قلت هذا;
لأني نقلت هذا الفصل عن أصول الإمام فخر الإسلام رحمه الله
ولم أدر ما مراده فإن أراد أن القياس لا يجري في هذه
الأشياء أصلا فهذا لا يصح, وقد قال في آخر الباب وإنما
أنكرنا هذه الجملة إذا لم يوجد له في الشريعة أصل يصح
تعليله وأما إذا وجد له فلا بأس به وإن أراد أنه لا يصح
التعليل في هذه الأمور إلا إذا كان لها أصل فلا معنى
لتخصيص هذه الأمور بهذا الحكم ولا فائدة في تفصيلها بل
يكفيه أن يقول لا يصح القياس إلا إذا كان له أصل وهذا
المعنى معلوم من تعريف القياس فإنه تعدية الحكم من الأصل
إلى الفرع بعلة متحدة "والحق إثبات العلة أنه إن ثبت أن
عليتها لمعنى آخر يصلح للتعليل فكل شيء يوجد فيه ذلك
المعنى يحكم بعليته لكن لا يكون هذا إثبات العلة بالقياس;
لأن العلة في الحقيقة ذلك المعنى وإن لم يثبت ذلك" فلا;
لأنه يكون تعليلا بالمرسل وهذا هو المختلف فيه.
.........................................................
يجب الكلام فيه بالنص عبارة أو إشارة أو دلالة أو اقتضاء
وذلك أنه ثبت بالنص والإجماع حرمة الفضل الخالي عن العوض,
وقد بينا أن العلة هي القدر والجنس ووجدنا حرمة الربا حكما
يستوي فيه شبهته بحقيقته لما روي أن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عن الربا والريبة وللإجماع على حرمة البيع مجازفة
كبيع صبرة حنطة بصبرة باعتبار تساويهما في رأي المتبايعين
ووجدنا في النسيئة شبهة الفضل وهي الحلول إذ النقد خير من
النسيئة وهذا وإن كان فضلا من جهة الوصف لكنه ثبت بصنع
العبد فاعتبر كما في بيع الحنطة المقلية بغير المقلية
لإمكان الاحتراز عنه بخلاف الفضل من جهة الجودة فإنه ثبت
بصنع الله تعالى فجعل عفو التعذر الاحتراز عنه ولما كانت
العلة هي القدر والجنس أخذ الجنس شبهة العلة من حيث إنه
شطر العلة فأثبتنا به شبهة الربا احتياطا فيثبت سببية
الجنس لحرمة النسيئة بدلالة النص الموجب لسببية القدر
والجنس لحرمة حقيقة القدر.
قوله: "والحق" في مسألة إثبات العلة أنه إن ثبت علية شيء
لحكم بناء على معنى صالح لتعليل ذلك الحكم به بأن يكون
مؤثرا أو ملائما فكل شيء يوجد فيه ذلك المعنى المؤثر أو
الملائم فهو علة لذلك الحكم بلا خلاف, ولا يكون هذا من
إثبات العلة بالقياس; لأن العلة بالحقيقة هو ذلك المعنى
المشترك بين الشيئين, وقد ثبت عليته بما هو من مسالك العلة
فتكون العلة واحدة تتعدد باعتبار المحل مثلا إذا ثبت أن
الوقاع علة لوجوب الكفارة بناء على أنه يوجد فيه هتك حرمة
صوم رمضان فقد ثبت أن العلة هي هتك الحرمة وهو موجود في
الأكل فيحكم بأنه علة لوجوب الكفارة, وإن لم يثبت أن علية
ذلك الشيء للحكم مبني على اشتماله على ذلك المعنى بل وجد
(2/170)
فصل: القياس جلي و خفي
...
فصل: القياس جلي وخفي
فالخفي يسمى بالاستحسان لكنه أعم من القياس الخفي وهو دليل
يقابل القياس الجلي الذي يسبق إليه الأفهام وهو حجة عندنا؛
لأن ثبوته بالدلائل التي هي حجة إجماعا ضمير وهو راجع إلى
الاستحسان وقد أنكر بعض
ـــــــ
"فصل: القياس جلي وخفي فالخفي يسمى بالاستحسان لكنه أعم من
القياس الخفي" فإن كل قياس خفي استحسان وليس كل استحسان
قياسا خفيا; لأن الاستحسان قد يطلق على غير القياس الخفي
أيضا كما ذكر في المتن لكن الغالب في كتب أصحابنا أنه إذا
ذكر الاستحسان أريد به القياس الخفي "وهو دليل يقابل
القياس الجلي الذي يسبق إليه الأفهام" هذا تفسير الاستحسان
وبعض الناس تحيروا في تعريفه, وتعريفه الصحيح هذا, وهو أنه
دليل يقع في مقابلة القياس الجلي.
وقوله الذي يسبق إليه الأفهام تفسير للقياس الجلي "وهو حجة
عندنا; لأن ثبوته بالدلائل التي هي حجة إجماعا ضمير وهو
راجع إلى الاستحسان" وقد أنكر بعض الناس العمل بالاستحسان
جهلا منهم فإن أنكروا هذه التسمية فلا مشاحة في الاصطلاحات
وإن أنكروه من حيث المعنى فباطل أيضا; لأنا نعني به دليلا
من الأدلة المتفق
.........................................................
مجرد مناسبة ذلك المعنى لعلية الحكم لم يصح الحكم بعلية
شيء آخر يوجد فيه ذلك المعنى المناسب قياسا على ما ثبت
عليته; لأنه تعليل بالمرسل إذ لم يثبت تأثير ذلك المعنى
المناسب, ولا ملائمته وهذا هو المختلف فيه من إثبات العلة
بالقياس فيجوز عند من يقول بصحة التعليل بالمرسل, ولا يجوز
عند من يشترط التأثير أو الملاءمة.
قوله: "فصل" في الاستحسان هو في اللغة عد الشيء حسنا, وقد
كثر فيه المدافعة والرد على المدافعين ومنشؤهما عدم تحقيق
مقصود الفريقين ومبنى الطعن من الجانبين على الجرأة وقلة
المبالاة فإن القائلين بالاستحسان يريدون به ما هو أحد
الأدلة الأربعة على ما سنبينه والقائلون بأن من استحسن فقد
شرع يريدون أن من أثبت حكما بأنه مستحسن عنده من غير دليل
من الشارع فهو الشارع لذلك الحكم حيث لم يأخذه من الشارع
والحق أنه لا يوجد في الاستحسان ما يصلح محلا للنزاع إذ
ليس النزاع في التسمية; لأنه اصطلاح وقد قال الله تعالى:
{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ
أَحْسَنَهُ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما رآه
المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن" 1 ونقل عن الأئمة إطلاق
الاستحسان في دخول الحمام وشرب الماء من يد السقاء ونحو
ذلك. وعن الشافعي رحمه الله أنه قال أستحسن في المتعة أن
تكون ثلاثين درهما وأستحسن ترك شيء للمكاتب من نجوم
الكتابة.
وأما من جهة المعنى فقد قيل هو دليل ينقدح في نفس المجتهد
يعسر عليه التعبير عنه فإن أريد بالانقداح الثبوت فلا نزاع
في أنه يجب عليه العمل به, ولا أثر لعجزه عن التعبير عنه
وإن أريد أنه وقع له شك فلا نزاع في بطلان العمل وقيل هو
العدول عن قياس إلى قياس أقوى وقيل:
ـــــــ
1 رواه أحمد في مسنده 1/379.
(2/171)
الناس العمل
بالاستحسان جهلا منهم فإن أنكروا هذه التسمية فلا مشاحة في
الاصطلاحات وإن أنكروه من حيث المعنى فباطل أيضا؛ لأنا
نعني به دليلا من الأدلة المتفق عليها يقع في مقابلة
القياس الجلي ويعمل به إذا كان أقوى من القيا؛ لأنه إما
بالأثر كالسلم والإجارة وبقاء الصوم في النسيان وإما
بالإجماع كالاستصناع وإما بالضرورة كطهارة الحياض والآبار
وإما بالقياس الخفي، وذكروا له قسمين: الأول ما قوي أثره
والثاني ما ظهر صحته وخفي فساده.
ـــــــ
عليها يقع في مقابلة القياس الجلي ويعمل به إذا كان أقوى
من القياس الجلي فلا معنى لإنكاره "لأنه إما بالأثر كالسلم
والإجارة وبقاء الصوم في النسيان وإما بالإجماع كالاستصناع
وإما بالضرورة كطهارة الحياض والآبار وإما بالقياس الخفي,
وذكروا له" أي للقياس الخفي "قسمين: الأول: ما قوي أثره"
أي تأثيره "والثاني: ما ظهر صحته وخفي فساده" أي إذا نظرنا
إليه بادئ النظر نرى صحته ثم إذا تأملنا حق التأمل علمنا
أنه فاسد
.........................................................
العدول إلى خلاف الظن لدليل أقوى, ولا نزال في قبول ذلك
وقيل تخصيص القياس بدليل أقوى منه فيرجع إلى تخصيص العلة
وقال الكرخي رحمه الله هو العدول في مسألة عن مثل ما حكم
به في نظائرها إلى خلافه بوجه هو أقوى ويدخل فيه التخصيص
والنسخ, وقال أبو الحسين البصري هو ترك وجه من وجوه
الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ بوجه هو أقوى منه وهو في
حكم الطارئ على الأول واحترز بقوله: غير شامل عن ترك
العموم إلى الخصوص وبقوله: وهو في حكم الطارئ عن القياس
فيما إذا قالوا لو تركنا الاستحسان بالقياس وأورد على هذه
التفاسير أن ترك الاستحسان بالقياس يكون عدولا عن الأقوى
إلى الأضعف وأجيب بأنه إنما يكون بانضمام معنى آخر إلى
القياس يصير به أقوى.
ولما اختلفت العبارات في تفسير الاستحسان مع أنه قد يطلق
لغة على ما يهواه الإنسان ويميل إليه وإن كان مستقبحا عند
الغير وكثر استعماله في مقابلة القياس على الإطلاق كان
إنكار العمل به عند الجهل بمعناه مستحسنا حتى يتبين المراد
منه إذ لا وجه لقبول العمل بما لا يعرف معناه وبعدما
استقرت الآراء على أنه اسم لدليل متفق عليه نصا كان أو
إجماعا أو قياسا خفيا إذا وقع في مقابلة قياس تسبق إليه
الأفهام حتى لا يطلق على نفس الدليل من غير مقابلة فهو حجة
عند الجميع من غير تصور خلاف ثم إنه غلب في اصطلاح الأصول
على القياس الخفي خاصة كما غلب اسم القياس على القياس
الجلي تمييزا بين القياسين, وأما في الفروع فإطلاق
الاستحسان على النص والإجماع عند وقوعهما في مقابلة القياس
الجلي شائع ويرد عليه أنه لا عبرة بالقياس في مقابلة النص
أو الإجماع بالاتفاق فكيف يصح التمسك به والجواب أنه لا
يتمسك به إلا عند عدم ظهور النص أو الإجماع.
قوله: "وذكروا له" قسمين الصحة تقارب الأثر والضعف يقارب
الفساد وبهذا الاعتبار
(2/172)
وللقياس قسمان
ما ضعف أثره وما ظهر فساده وخفي صحته فأول ذلك راجح على
أول هذا لأن المعتبر هو الأثر لا الظهور وثاني هذا على
ثاني ذلك فالأول كسؤر سباع الطير فإنه نجس قياسا على سؤر
سباع البهائم، طاهر استحسانا لأنها تشرب بمنقارها وهو عظم
كسجدة التلاوة تؤدى بالركوع قياما؛ لأنه تعالى جعل الركوع
مقام
ـــــــ
"وللقياس" أي للقياس الجلي "قسمان ما ضعف أثره وما ظهر
فساده وخفي صحته فأول ذلك راجح على أول هذا" أي القسم
الأول من الاستحسان وهو ما قوي أثره راجح على القسم الأول
من القياس الجلي وهو ما ضعف أثره واعلم أنا إذا ذكرنا
القياس نريد به القياس الجلي وإذا ذكرنا الاستحسان نريد به
القياس الخفي فلا تنس هذا الاصطلاح "لأن المعتبر هو الأثر
لا الظهور وثاني هذا على ثاني ذلك" أي القسم الثاني من
القياس وهو ما ظهر فساده وخفي صحته راجح على القسم الثاني
من الاستحسان وهو ما ظهر صحته وخفي فساده "فالأول" وهو أن
يقع القسم الأول من الاستحسان في مقابلة القسم الأول من
القياس كسؤر سباع الطير فإنه نجس قياسا على سؤر سباع
البهائم, طاهر استحسانا لأنها تشرب بمنقارها وهو عظم طاهر.
والثاني وهو أن يقع القسم الثاني من الاستحسان في مقابلة
القسم الثاني من القياس "كسجدة التلاوة تؤدى بالركوع
قياما; لأنه تعالى جعل الركوع مقام السجدة
.........................................................
يتحقق تقابل القسمين في كل من الاستحسان والقياس والمراد
بظهور الصحة في الاستحسان ظهورها بالنسبة إلى فساد الخفي
وهو لا ينافي خفاءها بالنسبة إلى ما يقابله من القياس
والمراد بخفاء الصحة في القياس الجلي خفاؤها بأن ينضم إلى
وجه القياس معنى دقيق يورثه قوة ورجحانا على وجه الاستحسان
ثم الصحيح أن معنى الرجحان هاهنا تعين العمل بالراجح وترك
العمل بالمرجوح, وظاهر كلام فخر الإسلام رحمه الله تعالى
أنه الأولوية حتى يجوز العمل بالمرجوح.
قوله: "فالأول" يعني أن سؤر سباع الطير من البازي والصقر
ونحوهما نجس قياسا على سؤر سباع البهائم كالفهد والذئب
لمخالطته باللعاب المتولد من لحم نجس. فإن اختيار المحققين
أن لحم سباع البهائم نجس لا يطهر بالزكاة; لأن الحرمة فيما
يصلح للغذاء إذا لم تكن للضرورة أو الاستخباث أو الاحترام
آية النجاسة إلا أنه لما اجتمع في السبع ما لا يؤكل وهو
طاهر كالجلد والعظم والعصب والشعر وما يؤكل وهو نجس كاللحم
والشحم أشبه دهنا ماتت فيه فأرة فجعل له حكم بين النجاسة
والطهارة الحقيقيتين بأن حرم أكله وتنجس لعابه لكن جاز
بيعه والانتفاع به ولم تجعل نجاسة سباع الطير أيضا بهذا
الطريق; لأن الروايات إنما وردت في سباع البهائم دون
الطيور فاحتيج فيها إلى القياس وهذا قياس ضعيف الأثر قليل
الصحة لقصور علة التنجس في الفرع أعني المخالطة, وقد قابله
استحسان قوي الأثر يقتضي طهارة سؤرها; لأنها تشرب بالمنقار
على سبيل الأخذ ثم الابتلاع والمنقار عظم طاهر; لأنه جاف
لا رطوبة فيه فلا يتنجس الماء بملاقاته فيكون سؤره طاهرا
كسؤر الآدمي والمأكول لانعدام العلة الموجبة للنجاسة وهي
الرطوبة النجسة في الآلة الشاربة إلا أنه يكره لما أن سباع
الطيور لا تحترز عن الميتة والنجاسة كالدجاجة المخلاة.
(2/173)
السجدة في
قوله: {وَخَرَّ رَاكِعاً} استحسانا؛ لأن الشرع أمر بالسجود
فلا تؤدى بالركوع كسجود الصلاة فعملنا بالصحة الباطنة في
القياس وهي أن السجود غير مقصود هنا وإنما الغرض ما يصلح
تواضعا مخالفة للمتكبرين. وكما إذا اختلفا في ذراع المسلم
فيه ففي القياس يتحالفان؛ لأنهما اختلفا في المستحق بعقد
السلم فيوجب التحالف وفي
ـــــــ
في قوله: {وَخَرَّ رَاكِعاً} استحسانا; لأن الشرع أمر
بالسجود فلا تؤدى بالركوع كسجود الصلاة فعملنا بالصحة
الباطنة في القياس وهي أن السجود غير مقصود هنا وإنما
الغرض ما يصلح تواضعا مخالفة للمتكبرين". واعلم أنهم جعلوا
في هذه المسألة كون السجود يؤدى بالركوع حكما ثابتا
بالقياس وعدمه حكما ثابتا بالاستحسان ولا أدري خصوصية
الأول بالقياس والثاني بالاستحسان فلهذا أوردت مثالا آخر
وهو قوله "وكما إذا اختلفا في ذراع المسلم فيه ففي القياس
يتحالفان; لأنهما اختلفا في المستحق بعقد السلم فيوجب
التحالف وفي الاستحسان لا; لأنهما ما اختلفا في أصل المبيع
بل في وصفه وذا لا يوجب التحالف لكن عملنا بالصحة الباطنة
للقياس وهي أن الاختلاف في الوصف هنا يوجب الاختلاف في
الأصل" اعلم أنه إذا اختلف المتعاقدان في ذراع المسلم فيه
ففي القياس يتحالفان وفي الاستحسان لا, وذلك لأنهما اختلفا
في المستحق بعقد السلم فيوجب التحالف كما في المبيع.
.........................................................
قوله: "والثاني" لما كان عدم تأدي المأمور به بالإتيان
بغير المأمور به أمرا جليا وعكسه أمرا خفيا اشتبه على
المصنف رحمه الله تعالى جهة جعل تأدي السجدة بالركوع قياسا
وعدم تأديها به استحسانا ونقل عنه في توجيه ذلك أنه إذا
جاز إقامة الركوع مقام السجدة ذكرا لما بينهما من المناسبة
أعني اشتمالها على التعظيم والانحناء فجاز إقامته مقامه
فعلا لتلك المناسبة وهذا أمر جلي تسبق إليه الأفهام فيكون
قياسا إلا أن الاستحسان أن لا يتأدى به كالسجدة الصلاتية
لا تتأدى بالركوع; لأن الأمر بالشيء يقتضي حسنه لذاته
فيكون مطلوبا لعينه فلا يتأدى بغيره وهذا قياس خفي بالنسبة
إلى الأول فيكون استحسانا, وفيه نظر إذ لا يخفى أن عدم
تأدي المأمور به بغيره قياسا على أركان الصلاة أظهر وأجلى
من تأديه به قياسا على جواز إقامة اسم الشيء مقام اسم
غيره.
والأقرب أن يقال لما اشتمل كل من الركوع والسجود على
التعظيم كان القياس فيما وجب بالتلاوة في الصلاة أن يتأدى
بالركوع كما يتأدى بالسجود لما بينهما من المناسبة الظاهرة
ولهذا صح التعبير عنه بالركوع في قوله تعالى: {وَخَرَّ
رَاكِعاً} أي سقط ساجدا فهذا قياس جلي فيه فساد ظاهر هو
العمل بالمجاز من غير تعذر الحقيقة, وصحة خفية هي أن سجدة
التلاوة لم تجب قربة مقصودة ولهذا لا تلزم بالنذر كالطهارة
وإنما المقصود هو التواضع ومخالفة المتكبرين وموافقة
المطيعين على قصد العبادة ولهذا اشترط الطهارة واستقبال
القبلة وهذا حاصل في الركوع في الصلاة إلا أن المأمور به
هو السجود وهو مغاير للركوع فينبغي أن لا ينوب الركوع عنه
كما لا ينوب عن السجدة الصلاتية مع قرب المناسبة بينهما
لكونهما من أركان الصلاة وموجبات التحريمة وكما لا ينوب
الركوع خارج الصلاة عن السجدة مع أنه لم يستحق بجهة أخرى
بخلاف الركوع في
(2/174)
الاستحسان لا؛
لأنهما ما اختلفا في أصل المبيع بل في وصفه وذا لا يوجب
التحالف لكن عملنا بالصحة الباطنة للقياس وهي أن الاختلاف
في الوصف هنا يوجب الاختلاف في الأصل.
وبالتقسيم العقلي ينقسم كل إلى ضعيف الأثر وقويه وعند
التعارض لا يرجع الاستحسان إلا في صورة واحدة وإلى صحيح
الظاهر والباطن وفاسدهما وصحيح
ـــــــ
فهذا قياس جلي يسبق إليه الأفهام ثم إذا نظرنا علمنا أنهما
ما اختلفا في أصل المبيع بل في وصفه; لأنهما اختلفا في
الذراع, والذراع وصف; لأن زيادة الذراع توجب جودة في الثوب
بخلاف الكيل والوزن وإذا كان الذراع وصفا والاختلاف في
الوصف لا يوجب التحالف فهذا المعنى أخفى من الأول فيكون
هذا استحسانا والأول قياسا هذا ما ذكروه. واعلم أنه لا
دليل على انحصار القياس والاستحسان في هذين القسمين وعلى
انحصار التعارض بينهما في هذين الوجهين فلهذا أوردت
الأقسام الممكنة عقلا وقلت:
"وبالتقسيم العقلي ينقسم كل إلى ضعيف الأثر وقويه وعند
التعارض لا يرجع الاستحسان إلا في صورة واحدة" وهي أن يكون
القياس ضعيف الأثر والاستحسان قوي الأثر أما في الصور
الثلاث الأخر فالقياس راجح على الاستحسان أما إذا كان
القياس قوي الأثر والاستحسان ضعيف الأثر فواضح وأما إذا
كانا قويين فالقياس يرجح لظهوره وأما إذا كانا ضعيفين فإما
أن يسقط أو يعمل بالقياس لظهوره فلهذا أوردت الحكم المتيقن
وهو أن الاستحسان لا يرجح على القياس في هذه الصور الثلاث
ويرجح في صورة واحدة "وإلى
.........................................................
الصلاة وهذا قياس خفي يسمى استحسانا وفيه أثر ظاهر هو
العمل بالحقيقة وعدم تأدية المأمور به لغيره وفساد خفي هو
جعل غير المقصود مساويا للمقصود فعملنا بالصحة الباطنة في
القياس وجعلنا سجدة التلاوة في الصلاة متأدية بالركوع
ساقطة به كما تسقط الطهارة للصلاة بالطهارة لغيرها بخلاف
الركوع خارج الصلاة; لأنه لم يشرع عبادة وبخلاف السجدة
الصلاتية فإنها مقصودة بنفسها كالركوع بدليل قوله تعالى:
{ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} .
قوله: "بالتقسيم العقلي ينقسم" القياس والاستحسان تارة
باعتبار القوة والضعف وتارة باعتبار الصحة والفساد أما
بالاعتبار الأول فإما أن يكونا قويي الأثر أو ضعيفي الأثر
أو القياس قويا والاستحسان ضعيفا أو بالعكس ففي الرابع
يترجح الاستحسان قطعا وفي الثلاثة الباقية يتيقن عدم ترجيح
الاستحسان, وأما ترجيح القياس ففي الأول والثالث متيقن لا
في الثاني فإنه يحتمل سقوط الاستحسان والقياس لضعفهما
وتسمية الاستحسان في جميع الأقسام تكون باعتبار خفائه إلا
أنه يشكل بما ذكره فخر الإسلام رحمه الله تعالى من أن
سمينا ما ضعف أثره قياسا وما قوي أثره استحسانا, وأما
بالاعتبار الثاني فإما أن يكون كل منهما صحيح الظاهر
والباطن أو فاسدهما أو صحيح الظاهر فاسد الباطن أو بالعكس
وفي الجميع يكون القياس جليا بمعنى سبق الأفهام إليه
(2/175)
الظاهر فاسد
الباطن والعكس فالأول من القياس يرجح على كل استحسان
وثانيه مردود بقي الأخيران فالأول من الاستحسان أي صحيح
الظاهر والباطن يرجح عليهما أي على قياس صحيح الظاهر فاسد
الباطن وعكسه، وثانيه مردود أي ثاني الاستحسان وهو فاسد
الظاهر والباطن بقي الأخيران أي من الاستحسان وهما صحيح
الظاهر فاسد الباطن وعكسه فالتعارض بينهما وبين أخيري
القياس إن وقع مع خلاف النوع فما ظهر فساده بادئ النظر لكن
إذا تؤمل تبين صحته أقوى مما كان على العكس.
ـــــــ
صحيح الظاهر والباطن وفاسدهما وصحيح الظاهر فاسد الباطن
والعكس فالأول من القياس يرجح على كل استحسان وثانيه مردود
بقي الأخيران فالأول من الاستحسان أي صحيح الظاهر والباطن
يرجح عليهما أي على قياس صحيح الظاهر فاسد الباطن وعكسه,
وثانيه مردود أي ثاني الاستحسان وهو فاسد الظاهر والباطن
بقي الأخيران أي من الاستحسان وهما صحيح الظاهر فاسد
الباطن وعكسه فالتعارض بينهما وبين أخيري القياس إن وقع مع
خلاف النوع فما ظهر فساده بادئ النظر لكن إذا تؤمل تبين
صحته أقوى مما كان على العكس" اعلم أن التعارض بين كل واحد
من هذين القسمين من الاستحسان أي صحيح الظاهر فاسد الباطن
وعكسه وبين كل واحد من أخيري القياس إن وقع مع اختلاف
النوع وهذا في
.........................................................
والاستحسان خفيا بالإضافة إليه ويقع التعارض على ستة عشر
وجها حاصلة من ضرب الأقسام الأربعة للقياس في الأقسام
الأربعة للاستحسان فالقياس الصحيح الظاهر والباطن يترجح
على جميع أقسام الاستحسان, والقياس الفاسد الظاهر والباطن
يكون مردودا بالنسبة إلى الكل فتبقى ثمانية أوجه حاصلة من
ضرب أقسام الاستحسان في أخيري القياس فالأول من الاستحسان
يرجح عليها لصحته ظاهرا وباطنا والثاني يرد مطلقا لفساده
ظاهرا وباطنا بقي أربعة أوجه حاصلة من ضرب أخيري الاستحسان
في أخيري القياس: الأول تعارض الاستحسان الصحيح الظاهر
الفاسد الباطن والقياس الفاسد الظاهر الصحيح الباطن
والثاني بالعكس والثالث تعارض استحسان صحيح الظاهر فاسد
الباطن وقياس كذلك والرابع تعارض استحسان صحيح الباطن فاسد
الظاهر وقياس كذلك وسمي اتفاق القياس والاستحسان في صحة
الظاهر وفساد الباطن باتحاد النوع واختلافهما في ذلك
باختلاف النوع وحكم برجحان الاستحسان في الوجه الثاني من
هذه الأربعة وبرجحان القياس في الثلاثة الباقية وادعى أن
الظاهر امتناع التعارض بين قياس واستحسان يتفقان في قوة
الأثر أو صحة الباطن سواء كان مع الاتفاق في صحة الظاهر أو
بدونه وبعد إقامة الدليل جزم بهذا الحكم, وقد علم من
الاستدلال ومن سوق الكلام بالآخرة أن قوله إذا كان
الاستحسان على صفة كان القياس على خلاف تلك الصفة مقيدا
بالقوة والصحة الباطنة إذ لا امتناع في أن تعارض قياس ضعيف
أو صحيح الظاهر فقط أو فاسد الظاهر والباطن أو الظاهر فقط
لاستحسان كذلك.
قوله: "بالمعنى المذكور" أي بمعنى أنه كلما وجد ذلك الوصف
مطلقا أو بلا مانع يوجد ذلك الحكم.
(2/176)
ومع اتحاده إن
أمكن فالقياس أولى وما ذكروا من حيث القوة والضعف فعند
التحقيق داخل في هذا التفصيل أيضا.
ـــــــ
صورتين: إحداهما أن يعارض صحيح الظاهر فاسد الباطن من
الاستحسان فاسد الظاهر صحيح الباطن من القياس وثانيتهما أن
يعارض فاسد الظاهر صحيح الباطن من الاستحسان صحيح الظاهر
فاسد الباطن من القياس فلا شك أن ما ظهر فساده بادئ النظر
لكن إذا تؤمل تبين صحته أقوى مما كان على العكس سواء كان
قياسا أو استحسانا.
"ومع اتحاده إن أمكن فالقياس أولى" أي إن وقع التعارض
بينهما مع اتحاد النوع وهو أن يعارض استحسان صحيح الظاهر
فاسد الباطن قياسا كذلك أو يعارض استحسان فاسد الظاهر صحيح
الباطن قياسا كذلك يكون القياس راجحا في الصورتين وإنما
قلنا إن أمكن; لأنا لم نجد تعارض القياس والاستحسان على
هذه الصفة والظاهر أنه إذا كان الاستحسان على صفة كان
القياس على خلاف تلك الصفة; لأن القياس لا يكون صحيحا في
نفس الأمر إلا وقد جعل الشرع وصفا من الأوصاف علة للحكم
بمعنى أنه كلما وجد ذلك الوصف مطلقا أو كلما وجد ذلك الوصف
بلا مانع يوجد ذلك الحكم لكنه وجد ذلك الوصف بإحدى الصفتين
المذكورتين في الفرع فيوجد ذلك الحكم فإن كان القياس بهذه
الصفة لا يعارضه قياس صحيح سواء كان جليا أو خفيا; لأنه لا
يمكن أن يجعل الشرع وصفا آخر علة لنقيض ذلك الحكم بالمعنى
المذكور ثم يوجد ذلك الوصف في الفرع إذ لو كان كذلك يلزم
حكم الشرع بالتناقض وهذا محال على الشارع تعالى وتقدس فعلم
أن تعارض قياسين صحيحين في الواقع ممتنع وإنما يقع التعارض
لجهلنا بالصحيح والفاسد فالتعارض لا يقع بين قياس قوي
الأثر واستحسان كذلك وكذا لا يقع بين قياس صحيح الظاهر
والباطن وبين استحسان كذلك وكذا لا يقع بين قياس فاسد
الظاهر صحيح الباطن وبين استحسان كذلك "وما ذكروا من حيث
القوة والضعف فعند التحقيق داخل في هذا التفصيل أيضا";
لأنه لا يخلو إما أن يكون صحيح الظاهر أو فاسد الظاهر وعلى
كل من التقديرين لا يخلو من أنه إذا تؤمل حق التأمل يتبين
صحته أو يتبين فساده وإذا كانت القسمة منحصرة في هذه
الأقسام فقوي الأثر وضعيفه لا يخلو من أحد هذه الأقسام
قطعا
.........................................................
قوله: "وما ذكروا" هذا كلام قليل الجدوى; لأن تداخل
الأقسام ضروري فيما إذا قسم الشيء تقسيمات متعددة
باعتبارات مختلفة يقال اللفظ ثلاثي أو رباعي أو خماسي
وباعتبار آخر اسم أو فعل أو حرف وباعتبار آخر معرب أو مبني
إلى غير ذلك نعم لو صح ما ذكره البعض من أن المراد بالضعف
والفساد واحد, وكذا بالقوة والصحة لكان أحد القسمين
مستدركا.
(2/177)
والمستحسن
بالقياس الخفي يعدى لا المستحسن بغيره نظيره أن في
الاختلاف في الثمن قبل قبض المبيع اليمين على المشتري فقط
قياسا؛ لأنه المنكر وعليهما قياسا خفيا؛ لأن البائع ينكر
تسليم المبيع فيعدى إلى الوارثين وإلى الإجارة وأما بعد
القبض فثبوته بقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف
المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا" فلا يعدى إلى
الوارث وإلى حال هلاك السلعة والاستحسان ليس من باب تخصيص
العلة على ما يأتي.
ـــــــ
"والمستحسن بالقياس الخفي يعدى لا المستحسن بغيره نظيره أن
في الاختلاف في الثمن قبل قبض المبيع اليمين على المشتري
فقط قياسا; لأنه المنكر وعليهما قياسا خفيا; لأن البائع
ينكر تسليم المبيع" أي إنما يحلف البائع; لأنه ينكر وجوب
تسليم المبيع بقبض ما هو ثمن في زعم المشتري وإنما يحلف
المشتري; لأنه ينكر زيادة الثمن. ولما كان هذا ظاهرا لم
يذكره في المتن "فيعدى إلى الوارثين" أي إذا اختلف وارثا
البائع والمشتري في قدر الثمن قبل قبض المبيع تحالف
الوارثان. "وإلى الإجارة" أي إذا اختلف المؤجر والمستأجر
في مقدار الأجرة قبل استيفاء المنفعة تحالفا. "وأما بعد
القبض فثبوته بقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف
المتبايعان والسلعة قائمة تحالفا وترادا" فلا يعدى إلى
الوارث وإلى حال هلاك السلعة والاستحسان ليس من باب تخصيص
العلة على ما يأتي" بعض الناس زعموا أن الاستحسان من باب
تخصيص العلة وليس كذلك لما يأتي في تخصيص العلة أن ترك
القياس بدليل أقوى لا يكون تخصيصا.
"فصل: في دفع العلل المؤثرة" أي الاعتراضات الواردة على
العلل المؤثرة منه النقض وهو وجود العلة في صورة مع تخلف
الحكم ودفعه بأربع طرق أي الجواب عنه يكون بأربع طرق
.........................................................
قوله: "والمستحسن" قد سبق أن الاستحسان دليل يقابل قياسا
جليا سواء كان أثرا أو إجماعا أو ضرورة أو قياسا خفيا
فهاهنا يريد الفرق بين المستحسن بالقياس الخفي والمستحسن
بغيره في أن الأول تعدى إلى صورة أخرى; لأن من شأن القياس
التعدية والثاني لا يقبل التعدية; لأنه معدول به عن سنن
القياس مثلا إذا اختلف المتبايعان في مقدار الثمن فالقياس
أن يكون اليمين على المشتري فقط; لأنه المنكر وحده; لأنه
لا يدعي شيئا حتى يكون البائع أيضا منكرا. فهذا قياس جلي
على سائر التصرفات إلا أنه ثبت بالاستحسان التحالف أي وجوب
اليمين على كل من البائع والمشتري أما قبل قبض المبيع
فبالقياس الخفي وهو أن البائع ينكر وجوب تسليم المبيع بما
أقر به المشتري من الثمن كما أن المشتري ينكر وجوب زيادة
الثمن فيتوجه اليمين على كل منهما كما في سائر التصرفات
فإن اليمين تكون على المنكر, وأما بعد قبض المبيع فبالأثر
وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف المتبايعان
والسلعة قائمة تحالفا وترادا" 1 فوجوب التحالف قبل القبض
يتعدى إلى وارثي البائع والمشتري إذا اختلفا في الثمن بعد
موت البائع والمشتري; لأن الوارث يقوم مقام المورث في حقوق
العقد والحكم معقول, وكذا يتعدى إلى الإجارة قبل العمل حتى
لو اختلف
ـــــــ
1 رواه الدارمي في كتاب البيوع باب 16. ابن ماجه في كتاب
التجارات باب 19.
(2/178)
فصل: في دفع العلل المؤثرة
منه النقض وهو وجود العلة في صورة مع تخلف الحكم ودفعه
بأربع طرق أي الجواب عنه يكون بأربع طرق.
الأول: منع وجود العلة في صورة النقض نحو: خروج النجاسة
علة الانتقاض فنوقض بالقليل فيمنع الخروج فيه وكذا وجود
ملك بدل المغصوب يوجب ملكه فنوقض بالمدبر فيمنع ملك بدله
فإن ضمان المدبر ليس بدلا عن العين بل بدل عن اليد
الفائتة.
ـــــــ
"الأول منع وجود العلة في صورة النقض نحو: خروج النجاسة
علة الانتقاض فنوقض بالقليل فيمنع الخروج فيه وكذا وجود
ملك بدل المغصوب يوجب ملكه" أو ملك المغصوب لئلا يجتمع
البدل والمبدل منه في ملك شخص واحد "فنوقض بالمدبر" أي إذا
كان ملك بدل المغصوب علة لملك المغصوب ففي غصب المدبر يكون
كذلك لكن الحكم متخلف; لأن المدبر غير قابل للانتقال من
ملك إلى ملك عندكم "فيمنع ملك بدله" أي ملك بدل المغصوب
بأن يمنع في المدبر كون بدله بدل المغصوب فإنه ليس بدل
العين بل بدل اليد الفائتة "فإن ضمان المدبر ليس بدلا عن
العين بل بدل عن اليد الفائتة
.........................................................
القصار ورب الثوب في مقدار الأجرة قبل أخذ القصار في العمل
تحالفا; لأن كلا منهما يصلح مدعيا ومنكرا والإجارة تحتمل
الفسخ وهو في التحالف ثم الفسخ دفع للضرر عن كل منهما.
وأما وجوب التحالف بعد القبض فلا يتعدى إلى الوارث ولا إلى
حال هلاك السلعة; لأنه غير معقول المعنى إذ البائع لا ينكر
شيئا فيقتصر على مورد النص وهو تحالف المتعاقدين حال قيام
السلعة وما روي من قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا اختلف
المتعاقدان تحالفا وترادا" 1 فهو أيضا يفيد التقييد بقيام
السلعة; لأنه إن أريد رد المأخوذ فظاهر وإن أريد رد العقد
فكذلك إذ الفسخ لا يرد إلا على ما ورد عليه العقد. فإن قلت
قد سبق أن من شرط التعدية أن لا يكون الحكم ثابتا بالقياس
من غير فرق بين الجلي والخفي فكيف يصح تعدية المستحسن
بالقياس الخفي؟. قلت المعدى بالحقيقة هو حكم أصل الاستحسان
كوجوب اليمين على المنكر في سائر التصرفات إلا أن صورة
التحالف وجريان اليمين من الجانبين لما كانت حكم الاستحسان
الذي هو القياس الخفي أضيفت التعدية إليه إذ لا يوجد في
الأصل الذي هو سائر التصرفات يمين المنكر بهذه الكيفية,
وهو أن يتوجه على المتنازعين في قضية واحدة.
قوله: "والاستحسان ليس من تخصيص العلة" هو ما توهمه البعض
من أن القياس ثابت في صورة الاستحسان وفي سائر الصور, وقد
ترك العمل به في صورة الاستحسان لمانع وعمل به في غيرها
لعدم المانع فيكون باطلا لما سيأتي من إبطال تخصيص العلة
وإنما قلنا إنه ليس من
ـــــــ
1 رواه الدارمي في كتاب البيوع باب 16. ابن ماجه في كتاب
التجارات باب 19.
(2/179)
والثاني: منع
معنى العلة في صورة النقض ولأجله لا يسن في المسح التثليث؛
لأنه لتوكيد التطهير المعقود فلا يفيد في المسح كما في
التيمم ويفيد في الاستنجاء.
والثالث: قالوا هو الدفع بالحكم وذكروا له أمثلة خروج
النجاسة علة للانتقاض وملك بدل المغصوب علة لملك المغصوب
وحل الإتلاف لإحياء المهجة لا ينافي
ـــــــ
والثاني منع معنى العلة في صورة النقض" أي المعنى الذي
صارت العلة علة لأجله وهو بالنسبة إلى العلة كالثابت
بدلالة النص بالنسبة إلى المنصوص "نحو: مسح الرأس مسح فلا
يسن فيه التثليث كمسح الخف فنوقض بالاستنجاء فيمنع في
الاستنجاء المعنى الذي في المسح وهو أنه تطهير حكمي غير
معقول ولأجله" أي لأجل أنه تطهير حكمي غير معقول "لا يسن
في المسح التثليث; لأنه لتوكيد التطهير المعقود فلا يفيد"
أي التثليث "في المسح كما في التيمم ويفيد في الاستنجاء.
والثالث قالوا هو الدفع بالحكم" وهو أن يمنع تلف الحكم عن
العلة في صورة النقض "وذكروا له أمثلة خروج النجاسة علة
للانتقاض وملك بدل المغصوب علة لملك المغصوب وحل الإتلاف
لإحياء المهجة لا ينافي عصمة المال كما في المخمصة فيضمن
الجمل الصائل فنوقض بالمستحاضة والمدبر ومال الباغي
فأجابوا في الأولين بالمانع لكن هذا تخصيص العلة ونحن لا
نقول به وفي الثالث بأنا لا نسلم حل الإتلاف ينافي العصمة
في مال الباغي بل إنما انتفت بالبغي" أورد الإمام فخر
الإسلام رحمه الله تعالى للدفع بالحكم ثلاثة أمثلة: أحدها
خروج النجاسة علة للانتقاض فنوقض بالمستحاضة أن خروج
النجاسة موجود فيها بدون الانتقاض, وثانيها أن ملك بدل
المغصوب علة لملك المغصوب فنوقض بالمدبر فأجاب فخر الإسلام
رحمه الله تعالى في الصورتين بأنه إنما تخلف الحكم في
الصورتين
.........................................................
تخصيص العلة; لأن انعدام الحكم في صورة الاستحسان إنما هو
لانعدام العلة مثلا موجب نجاسة سؤر سباع الوحش هو الرطوبة
النجسة في الآلة الشاربة ولم يوجد ذلك في سباع الطير
فانتفى الحكم لذلك وهذا معنى ترك القياس الجلي الضعيف
الأثر بدليل قوي هو قياس خفي قوي الأثر فلا يكون من تخصيص
العلة في شيء.
قوله: "فصل في دفع العلل المؤثرة" أي الاعتراضات التي تورد
عليها وفي دفع تلك الاعتراضات أي الجواب عنها, والمذكور
هاهنا ستة وهي النقض وفساد الوضع وعدم الانعكاس والفرق
والممانعة والمعارضة والجمهور على أن المناقضة اعتراض صحيح
على كل تعليل فلا بد من دفعه ويذكر فيه أربعة طرق: الأول
الدفع بالوصف وهو منع وجود العلة في صورة النقض والثاني
الدفع بمعنى الوصف وهو منع وجود المعنى الذي صارت العلة
علة لأجله والثالث الدفع بالحكم وهو منع تخلف الحكم عن
العلة في صورة النقض والرابع الدفع بالغرض وهو أن يقول
الغرض التسوية بين الأصل والفرع فكما أن العلة موجودة في
الصورتين فكذا الحكم وكما أن
(2/180)
عصمة المال كما
في المخمصة فيضمن الجمل الصائل فنوقض بالمستحاضة والمدبر
ومال الباغي فأجابوا في الأولين بالمانع لكن هذا تخصيص
العلة ونحن لا نقول به
ـــــــ
بالمانع فأقول هذا الجواب ليس دفعا بالحكم بل هو تخصيص
العلة ونحن لا نقول به وثالثها أن حل الإتلاف لإحياء
المهجة لا ينافي العصمة كما في المخمصة فإنه إن أكل مال
الغير في المخمصة لإحياء المهجة يجب الضمان فيضمن الجمل
الصائل فنوقض بمال الباغي أن العادل إذا أتلف مال الباغي
حال القتال لإحياء المهجة لا يجب الضمان فعلم أن حل
الإتلاف لإحياء المهجة ينافي العصمة فأجاب بأنا لا نسلم أن
حل الإتلاف ينافي العصمة في مال الباغي فإن عصمة مال
الباغي لم تنتف بحل الإتلاف بل بالبغي فأقول الظاهر أن
الحكم المدعى في الجمل الصائل وجوب الضمان وبقاء العصمة
فحينئذ لا تكون هذه الصورة نظيرا للدفع بالحكم بل حاصل هذا
المثال أن المعلل ادعى حكما أصليا وهو العصمة مثلا فإن
الأصل في أموال المسلمين العصمة وهي لا ترتفع إلا بعارض
وليس في المتنازع فيه وهو الجمل الصائل إلا عارض واحد وهو
حل الإتلاف وقد ثبت بالقياس على المخمصة أن حل الإتلاف لا
يصلح رافعا للعصمة فتبقى العصمة في الجمل الصائل فيجب
الضمان فنوقض بمال الباغي أن حل الإتلاف رافع للعصمة في
مال الباغي فأجاب بأن رافع العصمة في مال الباغي ليس حل
الإتلاف بل الرافع هو البغي فهذا لا يكون دفعا بالحكم بل
بيان أن علة الحكم وهو ارتفاع العصمة في صورة النقض شيء
آخر هذا معنى قوله:
.........................................................
ظهور الحكم قد يتأخر في الفرع فكذا في الأصل فالتسوية
حاصلة بكل حال.
قوله: "فنوقض بالقليل" يعني لو كان النجس الخارج من بدن
الإنسان حدثا لكان القليل الذي لم يسل من رأس الجرح حدثا
وليس كذلك فيجاب بأنا لا نسلم أنه خارج فإن الخروج هو
الانتقال من مكان باطن إلى مكان ظاهر ولم يوجد ذلك عند عدم
السيلان بل ظهرت النجاسة لزوال الجلدة الساترة لها بخلاف
السبيلين فإنه لا يتصور ظهور القليل إلا بالخروج.
قوله: "هو" أي المعنى الذي صارت العلة علة لأجله بالنسبة
إلى العلة كالثابت بدلالة النص بالنسبة إلى المنصوص بمعنى
أن الوصف بواسطة معناه اللغوي يدل على معنى آخر هو مؤثر في
الحكم فإن كون المسح تطهيرا حكميا غير معقول المعنى ثابت
باسم المسح لغة; لأنه الإصابة وهي تنبئ عن التخفيف دون
التطهير الحقيقي فلا يسن فيه التثليث; لأنه إنما شرع
لتوكيد تطهير معقول كالغسل فلا يفيد في المسح ويفيد في
الاستنجاء; لأن التطهير فيه معقول إذ هو إزالة عين النجاسة
ولهذا كان الغسل فيه أفضل وفي التثليث توكيد لذلك ومبنى
هذا الكلام على أن يكون المراد بعدم سنية التثليث كراهيته
ليكون حكما شرعيا فيعلل.
قوله: "فأجاب في الأولين بالمانع" وهو في المستحاضة العذر
ودفع الحرج وفي المدبر النظر له وعدم قابليته للمملوكية
بقي أن خروج دم الاستحاضة حدث إلا أنه تأخر حكمه إلى ما
بعد
(2/181)
وفي الثالث
بأنا لا نسلم حل الإتلاف ينافي العصمة في مال الباغي بل
إنما انتفت بالبغي.
والضابط المنتزع من هذه الصورة أن المعلل إذا ادعى حكما
أصليا لا يرتفع إلا بعارض كالعصمة هنا وليس في المتنازع
فيه إلا عارض واحد وهو حل الإتلاف وأثبت بالقياس أن هذا
العارض لا يرفعه كما في المخمصة فنوقض بصورة كمال الباغي
مثلا
ـــــــ
"والضابط المنتزع من هذه الصورة أن المعلل إذا ادعى حكما
أصليا لا يرتفع إلا بعارض كالعصمة هنا وليس في المتنازع
فيه إلا عارض واحد وهو حل الإتلاف وأثبت بالقياس أن هذا
العارض لا يرفعه كما في المخمصة فنوقض بصورة كمال الباغي
مثلا فأجاب بأن الرافع شيء آخر فهذا بيان أن علة الحكم في
صورة النقض شيء آخر" ويمكن أن يتكلف في أن تصير هذه
المسألة نظيرا للدفع بالحكم ووجهه أن يراد بالحكم عند
منافاة حل الإتلاف العصمة, وهذا الحكم ثابت في الجمل
الصائل قياسا على المخمصة فنوقض بمال الباغي أن حل الإتلاف
ثابت فيه وعدم منافاته العصمة غير ثابت; لأن الثابت فيه
منافاة حل الإتلاف العصمة فأجاب بأن منافاة حل الإتلاف
العصمة غير ثابتة فيه; لأن العصمة لم تنتف في مال الباغي
بحل الإتلاف بل إنما انتفت للبغي هذا غاية التكلف ومع هذا
لا يوجد النقض في هذه الصورة; لأن النقض وجود العلة مع
تخلف الحكم, وحل الإتلاف لإحياء المهجة ليس علة لعدم
منافاته العصمة لثبوت حل الإتلاف في مال الباغي مع
المنافاة فلا يكون نقضا فلأجل هذه الفسادات في الأمثلة
الثلاثة أورد مثلا آخر في المتن فقال "وأنا أورد للدفع
بالحكم مثالا وهو القيام إلى الصلاة مع خروج النجاسة علة
لوجوب الوضوء
.........................................................
خروج الوقت ولهذا يلزمها الطهارة لصلاة أخرى بعد خروج
الوقت بأنه بذلك الحدث إذا خرج الوقت ليس بحدث إجماعا,
وكذا ملك بدل المغصوب سبب لملك المغصوب أعني المدبر كما في
البيع حتى لو جمع في البيع بين قن ومدبر صح في القن بحصته
من الثمن بخلاف الجمع بين قن وحر إلا أنه لم يثبت في
المدبر للمانع أورد فخر الإسلام رحمه الله تعالى هذين
المثالين على هذا الوجه اقتداء بصاحب التقويم وقال في شرحه
إن هذا الوجه لا يسلم عن القول بتخصيص العلة.
قوله: "والضابط" حاصل هذا التقرير أن الحكم المدعى وجوب
الضمان والعلة حل الإتلاف والأصل صورة المخمصة والفرع صورة
الجمل الصائل والنقض هو مال الباغي وظاهر أنه لا جهة لمنع
انتفاء الحكم فيه إذ لا نزاع في عدم وجوب الضمان فيه فلا
تكون هذه الصورة نظيرا للدفع بالحكم وأيضا حل الإتلاف لا
يلائم وجوب الضمان فضلا عن التأثير وحاصل التقرير الثاني
وهو أن يجعل نظيرا لدفع الحكم أن الحكم هو عدم منافاة حل
الإتلاف لبقاء العصمة بمعنى أنه لا تسقط عصمة الجمل الصائل
بإباحة قتله لإبقاء روح المصول عليه كما في المخمصة,
والعلة حل الإتلاف فنوقض بمال الباغي حيث وجدت العلة وهي
حل الإتلاف مع عدم الحكم الذي هو عدم المنافاة
(2/182)
فأجاب بأن
الرافع شيء آخر فهذا بيان أن علة الحكم في صورة النقض شيء
آخر فهذا بيان أن علة الحكم في صورة النقض شيء آخر وأنا
أورد للدفع بالحكم مثالا وهو القيام إلى الصلاة مع خروج
النجاسة علة لوجوب الوضوء فيجب في غير السبيلين فنوقض
بالتيمم فيمنع عدم وجوب الوضوء فيه بل الوضوء واجب لكن
التيمم خلف عنه.
ثم اعلم أنه إن تيسر الدفع بهذه الطرق فيها وإلا فإن لم
يوجد في صورة النقض
ـــــــ
فيجب في غير السبيلين فنوقض بالتيمم" أي في صورة عدم
القدرة على الماء يوجد القيام إلى الصلاة مع خروج النجاسة
ومع ذلك لا يوجب الوضوء "فيمنع عدم وجوب الوضوء فيه بل
الوضوء واجب لكن التيمم خلف عنه" معناه أنا لا نسلم عدم
وجوب الوضوء في صور عدم الماء بل الوضوء واجب لكن التيمم
خلف عنه الرابع: الدفع بالغرض نحو: خارج نجس فيكون ناقضا
فنوقض بالاستحاضة فنقول الغرض التسوية بين السبيلين
وغيرهما فإنه حدث ثمة لكن إذا استمر يصير عفوا فكذلك هنا.
"ثم اعلم أنه إن تيسر الدفع" أي دفع النقض "بهذه الطرق
فيها وإلا فإن لم يوجد في صورة النقض مانع فقد بطلت العلة
وإن وجد المانع فلا لكن بعض أصحابنا يقولون العلة توجب هذا
لكن تخلف الحكم لمانع فهذا تخصيص العلة ونحن لا نقول به بل
نقول إنما عدم الحكم لعدم ما هو والعلة حقيقة فنجعل عدم
المانع جزءا للعلة أو شرطا لها لهم في جواز
.........................................................
ضرورة تحقق المنافاة إذ قد سقطت العصمة ولم يجب الضمان على
المتلف فأجاب بمنع انتفاء الحكم في صورة النقض أي لا نسلم
تحقق منافاة حل الإتلاف لبقاء العصمة في مال الباغي بل عدم
المنافاة متحقق إلا أن العصمة انتفت بالبغي وعدم المنافاة
بين الشيئين لا يوجب التلازم بينهما حتى يمتنع مع وجود
أحدهما انتفاء الآخر بسبب من الأسباب, واعترض المصنف رحمه
الله تعالى بأن حل الإتلاف ليس علة لعدم المنافاة حتى يكون
تحققه في مال الباغي مع المنافاة نقضا وذلك; لأنه لا يلائم
عدم المنافاة وعدم سقوط العصمة فضلا عن تأثيره فيه والجواب
أن التمثيل إنما هو على تقدير أن يجعل حل الإتلاف علة
مؤثرة ويكفي في التمثيل الفرض والتقدير.
قوله: "فإنه" أي الخارج النجس حدث في السبيلين لكن إذا
استمر الخارج كما في الاستحاضة وسلس البول صار عفوا وسقط
حكم الحدث في تلك الحالة ضرورة توجه الخطاب بأداء الصلاة
فكذا هاهنا أي في غير السبيلين يكون حدثا ويصير عند
الاستمرار عفوا كما في الرعاف الدائم وهذا راجع إلى منع
انتفاء الحكم وذلك; لأن الناقض يدعي أمرين ثبوت العلة
وانتفاء الحكم فلا يصح دفعه إلا بمنع أحدهما.
قوله: "ثم اعلم" ذهب بعضهم إلى أن النقض غير مسموع على
العلل المؤثرة; لأن التأثير لا يثبت إلا بنص أو إجماع فلا
تتصور المناقضة فيه وجوابه أن ثبوت التأثير قد يكون ظنيا
فيصح
(2/183)
مانع فقد بطلت
العلة وإن وجد المانع فلا لكن بعض أصحابنا يقولون العلة
توجب هذا لكن تخلف الحكم لمانع فهذا تخصيص العلة ونحن لا
نقول به بل نقول إنما عدم الحكم لعدم ما هو والعلة حقيقة
فنجعل عدم المانع جزءا للعلة أو شرطا لها لهم في جواز
تخصيص القياس على الأدلة اللفظية والثابت بالاستحسان مانع
من انعقاد العلة
ـــــــ
تخصيص القياس على الأدلة اللفظية والثابت بالاستحسان" عطف
على قوله القياس على الأدلة اللفظية" فإنه مخصوص عن القياس
ولأن التخلف قد يكون لفساد العلة وقد يكون لمانع كما في
العلل العقلية وذكروا أن جملة ما يوجب عدم الحكم خمسة
المسطور في كتبنا أنه ذكر القائلون بتخصيص العلة أن
الموانع خمسة لكني عدلت عن هذه العبارة لما سيأتي "مانع من
انعقاد العلة كانقطاع الوتر في الرمي وكبيع الحر أو من
تمامها كما إذا حال شيء فلم يصب السهم وكبيع ما لا يملكه
أو من ابتداء الحكم كما إذا أصاب السهم فدفعه الدرع وكخيار
الشرط أو من تمامه كما إذا اندمل بعد إخراج السهم
والمداواة وكخيار الرؤية أو من لزومه كما إذا خرج وامتد
حتى صار طبعا له وأمن وكخيار العيب فالتخصيص ليس في
الأولين بل في الثلاث الأخر"; لأن التخصيص أن توجد العلة
ويتخلف الحكم لمانع فالمانع ما يمنع الحكم بعد وجود العلة
ففي الأوليين من الصور الخمس ليس كذلك; لأن العلة لم
.........................................................
الاعتراض بالنقض وحينئذ إن اندفع بأحد الطرق المذكورة فقد
تم التعليل وإلا فإما أن يوجد في صورة النقض مانع من ثبوت
الحكم أو لا فإن لم يوجد فقد بطل التعليل لامتناع تخلف
الحكم عن الدليل من غير مانع وإن وجد مانع لم يبطل التعليل
إما قولا بتخصيص العلة كما ذهب إليه الأكثرون وذلك بأن
توصف العلة بالعموم باعتبار تعدد المحال ثم يخرج بعض
المحال عن تأثير العلة فيه ويبقى التأثير مقتصرا على
المحال الآخر, وإما قولا بأن عدم المانع جزء للعلة أو شرط
لها فيكون انتفاء الحكم في صورة النقض مبنيا على انتفاء
العلة بانتفاء جزئها أو شرطها وإلى هذا ذهب فخر الإسلام
رحمه الله تعالى وتبعه المصنف رحمه الله تعالى تحاشيا عن
القول بتخصيص العلة فعدم المانع عندهم شرط لعلية الوصف
وعند الأكثرين لظهور الأثر عن العلة فانتفاء الحكم في صورة
النقض عندهم يكون مستندا إلى عدم العلة وعند الأكثرين إلى
وجود المانع وهذا نزاع قليل الجدوى.
احتج القائلون بتخصيص العلة بوجوه: الأول القياس على أن
الأدلة اللفظية فكما أن التخصيص لا يقدح في كون العام حجة
كذلك النقض لا يقدح في كون الوصف علة والجامع كونهما من
الأدلة الشرعية أو جمع الدليلين المتعارضين وسره أن نسبة
العام إلى أفراده كنسبة العلة إلى موارده والنقض لمانع
معارض للعلة يشبه التخصيص بمخصص مانع عن ثبوت الحكم في
البعض. الثاني أن العلة في القياس الجلي شاملة لصورة
الاستحسان, وقد انعدم الحكم فيها لمانع هو دليل الاستحسان,
ولا نعني بتخصيص العلة إلا هذا الثالث أن تخلف الحكم عن
العلة يحتمل أن يكون لفساد في العلة ويحتمل أن يكون لمانع
من ثبوت الحكم والمعلل قد بين أنه لمانع فيجب
(2/184)
كانقطاع الوتر
في الرمي وكبيع الحر أو من تمامها كما إذا حال شيء فلم يصب
السهم وكبيع ما لا يملكه أو من ابتداء الحكم كما إذا أصاب
السهم فدفعه الدرع وكخيار الشرط أو من تمامه كما إذا اندمل
بعد إخراج السهم والمداواة وكخيار الرؤية أو من لزومه كما
إذا خرج وامتد حتى صار طبعا له وأمن وكخيار العيب فالتخصيص
ليس في الأولين بل في الثلاث الأخر.
ـــــــ
توجد فيهما وفي الثلاث الأخر العلة موجودة والحكم متخلف
لمانع فتخصيص العلة مقصور على الثلاث الأخر فلهذا لم يقل
في المتن إن الموانع خمسة بل قال ما يوجب عدم الحكم خمسة,
والفرق بين الخيارات أن في خيار الشرط قد وجد السبب وهو
البيع والخيار داخل على الحكم وهو الملك على ما عرف في فصل
مفهوم المخالفة أن الخيار يثبت بالضرورة فدخوله على الحكم
أسهل من دخوله على السبب; لأن دخوله على السبب يوجب الدخول
على المسبب والحكم فإذا كان داخلا على الحكم لم يكن الملك
ثابتا, وأما خيار الرؤية فإن البيع صدر مطلقا من غير شرط
فأوجب الحكم وهو الملك لكن الملك لم يتم لعدم الرضا بالحكم
عند عدم الرؤية وأما خيار العيب فإنه حصل السبب والحكم
بتمامه لتمام الرضا بالحكم; لأنه قد وجد الرؤية لكن على
تقدير العيب يتضرر المشتري فقلنا بعدم اللزوم على تقدير
العيب فلا خيار العيب يتمكن المشتري من رد البعض; لأنه
تفريق الصفقة وهو بعد التمام جائز وفي خيار الرؤية لا
يتمكن; لأنه تفريق قبل التمام وذا لا يجوز
.........................................................
قبوله; لأنه بيان أحد المحتملين وهذا بمنزلة العلل العقلية
فإن الحكم قد يختلف عنها لمانع كالإحراق بالنار عن الخشب
الملطخ بالطلق المحلول.
قوله: "ذكر القائلون بتخصيص العلة" في هذا المقام أقسام
المانع وهي ثلاثة لكنهم لما أخذوا في تعداد الموانع أوردوا
فيها المانع من انعقاد العلة ومن تمامها وإن لم يكونا من
قبيل المانع المعتبر في تخصيص العلة وهو ما يمنع الحكم بعد
تحقق العلة والمصنف رحمه الله غير عبارتهم وعبر عن موانع
الحكم بموجبات عدم الحكم ليشمل المانع عن الحكم وعن العلة
انعقادا أو تماما, والعمدة في أقسام المانع هو الاستقراء
والمذكور في التقويم أربعة; لأنه إن كان بحيث لا يحدث معه
شيء من الأجزاء فهو المانع من الابتداء أو الانعقاد وإلا
فهو المانع من التمام وكل منهما في العلة أو الحكم وزاد
بعضهم قسما خامسا نظرا إلى أن للحكم ابتداء وتماما ودواما,
ولا عبرة بالدوام في العلة بل التمام كاف كخروج النجاسة
للحدث ثم المقصود هو العلة والحكم الشرعيان, وقد أضافوا
إليها الحسيين لزيادة التوضيح وفي كون امتداد الجرح
وصيرورته بمنزلة الطبع مانعا من لزوم الحكم نظرا; لأنه إن
أريد بالحكم القتل وهو غير ثابت وإن أريد الجرح فهو لازم
على تقدير صيرورته بمنزلة الطبع, وقد يجاب بأن الحكم هو
الجرح على وجه يفضي إلى القتل لعدم مقاومة المرمى
فالاندمال مانع من تمام الحكم لحصول المقاومة, وأما بقاء
الجرح وكون المجروح
(2/185)
ولنا أن
التخصيص في الألفاظ مجاز فيخص بها، وترك القياس بدليل أقوى
لا يكون تخصيصا؛ لأنه ليس بعلة حينئذ ولأن العلة في القياس
ما يلزم من وجوده وجود الحكم لإجماع العلماء على وجوب
التعدية إذا علم وجود العلة في الفرع من غير تقييدهم بعدم
المانع مع أن هذا التقييد واجب فعلم أن عدم المانع حاصل
عند وجود العلة فهو إما ركنها أو شرطها أي عدم المانع إما
ركن العلة أو شرطها فإذا وجد المانع فقد عدم العلة ثم
عدمها قد يكون
ـــــــ
ولنا أن التخصيص في الألفاظ مجاز فيخص بها, وترك القياس
بدليل أقوى لا يكون تخصيصا; لأنه ليس بعلة حينئذ ولأن
العلة في القياس ما يلزم من وجوده وجود الحكم لإجماع
العلماء على وجوب التعدية إذا علم وجود العلة في الفرع من
غير تقييدهم بعدم المانع مع أن هذا التقييد واجب فعلم أن
عدم المانع حاصل عند وجود العلة فهو إما ركنها أو شرطها أي
عدم المانع إما ركن العلة أو شرطها "فإذا وجد المانع فقد
عدم العلة ثم عدمها قد يكون لزيادة وصف كما أن البيع
المطلق علة للملك فإذا زيد الخيار فقد عدمت أو لنقصانه
كالخارج النجس مع عدم الحرج علة للانتقاض, وهذا معدوم في
المعذور ومنه فساد
.........................................................
صاحب فراش فلا يمنعه لتحقق عدم المقاومة إلا أنه ما دام
حيا يحتمل أن يزول عدم المقاومة بالاندمال ويحتمل أن يصير
لازما بإفضائه إلى القتل فإذا صار طبعا فقد منع ذلك إفضاءه
إلى القتل وكان مانعا لزوم الحكم ثم لا يخفى أنه تمثيل
مبني على التسامح وإلا فالرمي علة للمضي والمضي للإصابة
والإصابة للجراحة والجراحة لسيلان الدم وهو لزهوق الروح.
قوله: "ولنا أن التخصيص" أجاب عن الاحتجاج الأول بأن
التخصيص من الأحكام التي لا يمكن تعديتها من الأصل أعني
الأدلة اللفظية إلى الفرع أعني العلل; لأن التخصيص ملزوم
للمجاز والمجاز من خواص اللفظ واختصاص اللازم بالشيء يوجب
اختصاص الملزوم به وإلا لزم وجود الملزوم بدون اللازم وهو
محال, وربما يعترض عليه بأنا لا نسلم أن التخصيص مطلقا
ملزوم للمجاز بل التخصيص في الألفاظ كذلك ومعنى تعدية
الحكم إثبات مثله في صورة الفرع فيثبت في العلل تخصيص ببعض
الموارد كتخصيص الألفاظ ببعض الأفراد ويتصف اللفظ بالمجاز
ضرورة استعماله في غير ما وضع له ويمتنع اتصاف العلة به إذ
ليس من شأنها الاتصاف بالحقيقة والمجاز. وعن الاحتجاج
الثاني بأن إثبات الحكم بطريق الاستحسان ترك للقياس بدليل
أقوى منه وهو ليس من تخصيص العلة بمعنى انتفاء الحكم
المانع من تحقق العلة لوجهين أحدهما أن القياس بل الوصف
فيه ليس بعلة عند وجود المعارض الأقوى لما سبق من أن شرط
القياس أن لا يعارضه دليل أقوى منه فانتفاء الحكم في صورة
القياس مبني على عدم العلة لا على تحقق المانع مع وجود
العلة وثانيهما أن العلة في القياس ما يلزم من وجوده وجود
الحكم بدليل الإجماع على وجوب تعدية الحكم إلى كل صورة
توجد فيها العلة من غير تقييد بعدم المانع فكل ما لا يلزم
من وجوده وجود الحكم بل يتخلف عنه ولو لمانع يكون علة,
ولما كان هذا الوجه صالحا; لأن يجعل دليلا مستقلا على
بطلان تخصيص العلة أشار إليه بقوله مع أن هذا التقييد واجب
إلى آخره.
(2/186)
لزيادة وصف كما
أن البيع المطلق علة للملك فإذا زيد الخيار فقد عدمت أو
لنقصانه كالخارج النجس مع عدم الحرج علة للانتقاض، وهذا
معدوم في المعذور ومنه فساد الوضع وهو أن يترتب على العلة
نقيض ما تقتضيه، ولا شك أن ما ثبت تأثيره شرعا لا يمكن فيه
فساد الوضع وما ثبت فساد وضعه على عدم تأثيره شرعا وسيأتي
مثاله ومنه عدم العلة مع وجود الحكم وهذا لا يقدح لاحتمال
وجوده بعلة أخرى ومنه الفرق قالوا هو فاسد؛ لأنه غصب منصب
المعلل وهذا نزاع جدلي ولأنه إذا ثبت علية
ـــــــ
الوضع وهو أن يترتب على العلة نقيض ما تقتضيه, ولا شك أن
ما ثبت تأثيره شرعا لا يمكن فيه فساد الوضع وما ثبت فساد
وضعه على عدم تأثيره شرعا وسيأتي مثاله ومنه عدم العلة مع
وجود الحكم وهذا لا يقدح لاحتمال وجوده بعلة أخرى ومنه
الفرق قالوا هو فاسد; لأنه غصب منصب المعلل وهذا نزاع جدلي
ولأنه إذا ثبت علية المشترك لا يضره الفارق لكن إذا أثبت
في الفرع مانعا يضره وكل كلام صحيح في الأصل إذا أورد على
سبيل الفرق لا يقبل فينبغي أن يورد على سبيل الممانعة حتى
يقبل كقول الشافعي رحمه الله تعالى إعتاق الراهن تصرف يبطل
حق المرتهن" هذا تعليم ينفع في المناظرات وهو أن كل كلام
يكون في نفسه صحيحا أي يكون في الحقيقة منعا للعلة المؤثرة
فإنه إذا أورد على سبيل الفرق يمنع الجدلي توجيهه فيجب أن
يورد على سبيل المنع لا على سبيل الفرق فلا يتمكن الجدلي
من رده كقول الشافعي رحمه الله تعالى: إعتاق الراهن تصرف
يبطل حق المرتهن, "فيرد كالبيع فإن
.........................................................
وتقريره أنهم أجمعوا على وجوب التعدية عند العلم بوجود
العلة من غير تعرض منهم للتقييد بعدم المانع مع أنه معلوم
قطعا أن لا تعدية عند وجود المانع فعلم من تركهم التقييد
أن المراد بالعلة ما يستجمع جميع ما يتوقف عليه التعدية
أنه عدم مانع وغيره على أنه شطر للعلة أو شرط لها فعند
وجود المانع تكون العلة معدومة لانعدام ركنها أو شرطها
وهاهنا نظر وهو أن غلبة الظن تكفي في العلية سواء استلزمت
الحكم أم لا, ولا نسلم الإجماع على وجوب التعدية مطلقا بل
بشرائط وقيود كثيرة, ومنها عدم المانع وأيضا كثيرا ما يقع
الإطلاق اعتمادا على العلم بالتقييد كما في قولهم العمل
بالعموم واجب والمراد عند عدم المخصص.
قوله: "ثم عدمها" أي عدم العلة قد يكون لزيادة وصف على ما
جعل علة بأن تكون عليته مشروطة بعدم ذلك الوصف فينتفي
بوجوده كالبيع المطلق أي غير المقيد بشرط علة للملك فإذا
زيد عليه الخيار لم يبق مطلقا فلم يكن علة والمراد بالمطلق
هاهنا ما يقابل المقيد بالشرط ونحوه لا المشروط بالإطلاق
فإنه لا وجود له أصلا, ولا المعنى الكلي الذي لا يوجد إلا
في ضمن الجزئيات فإنه صادق على البيع بالخيار, وقد يكون
بنقصان وصف هو من جملة أركان العلة أو شرائطها فينتفي الكل
بانتفاء جزئه أو شرطه كالخارج النجس فإنه مع عدم الحرج علة
لانتقاض الوضوء فعند وجود الحرج لا يكون علة كما في
المستحاضة.
(2/187)
المشترك لا
يضره الفارق لكن إذا أثبت في الفرع مانعا يضره وكل كلام
صحيح في الأصل إذا أورد على سبيل الفرق لا يقبل فينبغي أن
يورد على سبيل الممانعة حتى يقبل كقول الشافعي رحمه الله
تعالى إعتاق الراهن تصرف يبطل حق المرتهن فيرد كالبيع فإن
قلنا بينهما فرق فإن البيع يحتمل الفسخ لا العتق يمنع
توجيه هذا الكلام فينبغي أن نورده على هذا الوجه وهو أن
حكم الأصل إن كان هو البطلان فلا نسلم وإن كان التوقف ففي
الفرع إن ادعيتم البطلان لا يكون الحكمان متماثلين وإن
ـــــــ
قلنا بينهما فرق فإن البيع يحتمل الفسخ لا العتق يمنع
توجيه هذا الكلام فينبغي أن نورده على هذا الوجه وهو أن
حكم الأصل إن كان هو البطلان فلا نسلم" الأصل هنا بيع
الراهن فإن أراد أن الحكم فيه البطلان فهذا ممنوع; لأن
الحكم عندنا في بيع الراهن التوقف.
"وإن كان التوقف" أي إن كان حكم الأصل التوقف "ففي الفرع
إن ادعيتم البطلان لا يكون الحكمان متماثلين وإن ادعيتم
التوقف لا يمكن; لأن العتق لا يحتمل الفسخ وكقوله في
العمد: قتل آدمي مضمون فيوجب المال كالخطأ فنقول ليس
كالخطأ إذ لا قدرة فيه على المثل" أي في الخطأ على المثل;
لأن المثل جزاء كامل فلا يجب مع قصور الجناية وهو
.........................................................
قوله: "ومنه" أي ومن دفع العلل المؤثرة فساد الوضع كما
يقال التيمم مسح فيسن فيه التثليث كالاستنجاء فيعترض بأنه
قد ثبت اعتبار المسح في كراهة التكرار كالمسح على الخف
وهذا إنما يسمع قبل ثبوت تأثير العلة وإلا فيمتنع من
الشارع اعتبار الوصف في الشيء ونقيضه.
قوله: "ومنه" أي ومن دفع العلل المؤثرة عدم الانعكاس وهو
أن يوجد الحكم, ولا توجد العلة وهذا لا يقدح في العلية
لجواز أن يثبت الحكم بعلل شتى كالملك بالبيع والهبة والإرث
كما في العلل العقلية فإن نوع الحرارة يحصل بالنار والشمس
والحركة نعم يمتنع توارد العلل المستقلة على معلول واحد
بالشخص; لأنه يقتضي أن يكون كل منها محتاجا إليه من حيث
إنه علة ومستغنى عنه من حيث إن الآخر علة مستقلة على أنه
غير لازم في العلل الشرعية إذ ليس معنى تأثيرها الإيجاد,
وقد صرحوا بأن المتوضئ إذا حصل منه البول والغائط والرعاف
ونحو ذلك حصل حدثه بكل واحد من هذه الأسباب.
قوله: "ومنه الفرق" وهو أن يتبين في الأصل وصف له مدخل في
العلية لا يوجد في الفرع فيكون حاصله منع علية الوصف
وادعاء أن العلة هي الوصف مع شيء آخر وهو مقبول عند كثير
من أهل النظر, والأكثرون على أنه يقبل لوجهين: أحدهما أنه
غصب منصب المعلل إذ السائل جاهل مسترشد في موقف الإنكار
فإذا ادعي عليه شيء آخر وقف موقف الدعوى, وهذا بخلاف
المعارضة فإنها إنما تكون بعد تمام الدليل فالمعارض حينئذ
لا يبقى سائلا بل يصير مدعيا ابتداء, ولا يخفى أنه نزاع
جدلي يقصدون به عدم وقوع الخبط في البحث وإلا فهو غير نافع
في إظهار الصواب. وثانيهما أن المعلل بعدما أثبت كون الوصف
المشترك علة لزوم ثبوت الحكم في الفرع
(2/188)
ادعيتم التوقف
لا يمكن؛ لأن العتق لا يحتمل الفسخ وكقوله في العمد: قتل
آدمي مضمون فيوجب المال كالخطأ فنقول ليس كالخطأ إذ لا
قدرة فيه على المثل فتوجيه هذا أن حكم الأصل شرع المال
خلفا عن القود وفي الفرع مزاحمته إياه ومنه الممانعة فهي
إما في نفس الحجة لاحتمال أن يكون متمسكا بما لا يصلح
دليلا كالطرد
ـــــــ
الخطأ فإن أورد على هذا الوجه ربما لا يقبله الجدلي فنورده
على سبيل الممانعة "فتوجيه هذا" أي توجيه هذا الكلام على
سبيل الممانعة "أن حكم الأصل" وهو الخطأ "شرع المال خلفا
عن القود وفي الفرع مزاحمته إياه" يعني أن المال شرع خلفا
عن القود; لأن حكم الأصل وجوب القود لكن لم يجب لما قلنا
فوجب خلفه وفي الفرع وهو العمد الحكم عند الشافعي رحمه
الله تعالى مزاحمة المال القود فلا يكون الحكمان متماثلين.
"ومنه الممانعة فهي إما في نفس الحجة لاحتمال أن يكون
متمسكا بما لا يصلح دليلا كالطرد والتعليل بالعدم ولاحتمال
أن لا تكون العلة هذا بل غيره كما ذكرنا في قتل الحر
بالعبد وأما في وجودها في الأصل أو في الفرع كما مروا في
شروط التعليل وأوصاف العلة ككونها مؤثرة" "ومنه المعارضة
واعلم أن المعترض إما أن يبطل دليل المعلل ويسمى مناقضة أو
يسلمه لكن يقيم الدليل على نفي مدلوله ويسمى معارضة وتجري
في الحكم وفي علته والأولى تسمى
.........................................................
ضرورة ثبوت العلة فيه سواء وجد الفارق أو لم يوجد; لأن
غاية الأمر أن المعترض يثبت في الأصل علية وصف لا يوجد في
الفرع وهذا لا ينافي علية الوصف المشترك الموجب للتعدية
نعم لو أثبت الفارق على وجه يمنع ثبوت الحكم في الفرع كان
قادحا إلا أنه لا يكون مجرد الفرق بل بيان عدم وجود العلة
في الفرع بناء على أن العلة هي الوصف المفروض مع عدم
المانع.
قوله: "لكن لم يجب" أي القود لما قلنا من أن قصور الجناية
بالخطأ لا يوجب المثل الكامل فوجب المال خلفا عنه فإيجاب
المال في العمد بأن يكون الوارث مخيرا بين القصاص وأخذ
الدية لا يكون مماثلا له; لأنه بطريق المزاحمة دون الخلفية
إذ الخلف لا يزاحم الأصل بل لا يثبت إلا عند تعذره.
فالحاصل أن قضية القياس إثبات مثل حكم الأصل في الفرع وهو
مفقود هاهنا; لأن الحكم في الأصل وهو الخطأ إيجاب خلفية
المال عن القصاص وفي الفرع وهو العمد إيجاب مزاحمته له.
قوله: "ومنه الممانعة" وهي منع مقدمة الدليل إما مع السند
أو بدونه والسند ما يكون المنع مبنيا عليه ولما كان القياس
مبنيا على مقدمات هي كون الوصف علة ووجودها في الأصل وفي
الفرع وتحقق شرائط التعليل بأن لا يغير حكم النص, ولا يكون
الأصل معدولا به عن سنن القياس وتحقق أوصاف العلة من
التأثير وغيره كان للمعترض أن يمنع كلا من ذلك بأن يقول لا
نسلم أن ما ذكرت من الوصف علة أو صالح للعلية, وهذا ممانعة
في نفس الحجة ولو سلم فلا نسلم وجودها في الأصل أو الفرع
أو لا نسلم تحقق شرائط التعليل أو تحقق أوصاف العلة واختلف
في قبول الممانعة في نفس الحجة فقيل القياس إلحاق فرع بأصل
بجامع, وقد حصل فلا نكلف إثبات ما لم يدعه وأجيب بأنه لا
بد في الجامع من ظن العلية وإلا لأدى إلى التمسك بكل طرد
فيؤدي إلى
(2/189)
والتعليل
بالعدم ولاحتمال أن لا تكون العلة هذا بل غيره كما ذكرنا
في قتل الحر بالعبد وأما في وجودها في الأصل أو في الفرع
كما مروا في شروط التعليل وأوصاف العلة ككونها مؤثرة ومنه
المعارضة واعلم أن المعترض إما أن يبطل دليل
ـــــــ
معارضة في الحكم والثانية في المقدمة" فقوله واعلم أن
المعترض هذا تقسيم الاعتراض على المناقضة والمعارضة لا
تقسيم المعارضة فإذا علل المعلل فللمعترض أن يمنع مقدمات
دليله ويسمى هذا ممانعة فإذا ذكر لمنعه سندا يسمى مناقضة
كما يقول ما ذكرت لا يصلح دليلا; لأنه طرد مجرد من غير
تأثير إلى آخر ما عرفت في الممانعة وله أن يسلم دليله
فيقول ما ذكرت من الدليل وإن دل على ما ذكرت من المدلول
لكن عندي ما ينفي ذلك المدلول ويقيم دليلا على نفي مدلوله
سواء كان المدلول هو الحكم أو مقدمة من مقدمات دليله,
الأول يسمى معارضة في الحكم والثاني يسمى معارضة في
المقدمة كما إذا أقام المعلل دليلا على أن العلة للحكم هي
الوصف الفلاني فللمعترض أن لا ينقض دليله بل
.........................................................
اللعب فيصير القياس ضائعا والمناظرة عبثا مثل أن يقال الخل
مائع فيرفع الخبث كالماء ولهذا احتاج المصنف رحمه الله
تعالى في جريان الممانعة في نفس الحجة إلى بيانه بقوله
لاحتمال أن يكون متمسكا بما لا يصلح دليلا كالطرد
وكالتعليل بالعدم ولاحتمال أن لا تكون العلة هي الوصف الذي
ذكره وإن كان صالحا للعلية بل تكون العلة غيره كما قتل عبد
فلا يقتل به الحر كالمكاتب فقيل لا نسلم أن العلة في الأصل
أعني المكاتب كونه عبدا بل جهالة المستحق أنه السيد أو
الوارث, وقد ذكر ذلك في مسألة الاختلاف في العلة.
واعلم أن الممانعة في نفس الحجة هي أساس المناظرة لعموم
ورودها على القياس إذ قلما تكون العلة قطعية وعند إيرادها
يرجع المعلل في التقصي عنها إلى مسالك العلة وهي كثيرة
وعلى كل منها أبحاث فيطول القيل والقال ويكثر الجواب
والسؤال ثم ينبغي أن يكون ذكر المانعة على وجه الإنكار
وطلب الدليل لا على وجه الدعوى وإقامة الحجة, ولا يخفى أنه
تصح الممانعة بعد ظهور تأثيرها لجواز أن يثبت بالنص أو
الإجماع تأثير الوصف بمعنى اعتبار نوعه أو جنسه في نوع
الحكم أو جنسه وتكون علة الحكم غيره أو يكون مقتصرا على
الأصل بخلاف فساد الوضع فإنه لا يصح بعد ظهور التأثير
ولهذا جعل فخر الإسلام رحمه الله دفع العلل المؤثرة
بالممانعة والمعارضة صحيحا وبالنقض وفساد الوضع فاسدا نعم
قد يورد النقض وفساد الوضع على العلل المؤثرة فيحتاج إلى
الجواب وبيان أنه ليس كذلك.
قوله: "واعلم أن المعترض" تنبيه على أن مرجع جميع
الاعتراضات إلى المنع والمعارضة; لأن غرض المستدل الإلزام
بإثبات مدعاه بدليل المعترض, عدم الالتزام بمنعه عن إثباته
بدليله, والإثبات يكون بصحة مقدماته ليصلح للشهادة
وبسلامته عن المعارض لتنفذ شهادته فيترتب عليه الحكم,
والدفع يكون بهدم أحدهما فهدم شهادة الدليل يكون بالقدح في
صحته بمنع مقدمة من
(2/190)
المعلل ويسمى
مناقضة أو يسلمه لكن يقيم الدليل على نفي مدلوله ويسمى
معارضة وتجري في الحكم وفي علته والأولى تسمى معارضة في
الحكم والثانية في المقدمة.
ـــــــ
يثبت بدليل آخر أن هذا الوصف ليس بعلة فهذا معارضة في
المقدمة ثم شرع في تقسيم المعارضة في الحكم فقال
.........................................................
مقدماته وطلب الدليل عليها, وهدم سلامته يكون بفساد شهادته
في المعارضة بما يقابلها وبمنع ثبوت حكمها فما لا يكون من
القبيلين لا يتعلق بمقصود الاعتراض فالنقض وفساد الوضع من
قبيل المنع والقلب والعكس والقول بالموجب من قبيل المعارضة
وما ذكره المصنف رحمه الله من تخصيص المناقضة بالمنع مع
السند يبطل حصر الاعتراض في المناقضة والمعارضة لخروج
المنع المجرد عنهما وعند أهل النظر: المناقضة عبارة عن منع
مقدمة الدليل سواء كان مع السند أو بدونه وعند الأصوليين
هي عبارة عن النقض ومرجعها إلى الممانعة; لأنها امتناع عن
تسليم بعض المقدمات من غير تعيين وتخلف الحكم بمنزلة السند
له فإن قيل ينبغي أن لا تكون المعارضة من أقسام الاعتراض;
لأن مدلول الخصم قد ثبت بتمام دليله قلنا هي في المعنى نفي
لتمام الدليل ونفاذ شهادته على المطلوب حيث قوبل بما يمنع
ثبوت مدلوله ولما كان الشروع فيها بعد تمام دليل المستدل
ظاهرا لم يكن غصبا; لأن السائل قد قام عن موقف الإنكار إلى
موقف الاستدلال.
فالحاصل أن قدح المعترض إما أن يكون بحسب الظاهر والقصد في
الدليل أو في المدلول والأول إما أن يكون بمنع شيء من
مقدمات الدليل وهو الممانعة والممنوع إما مقدمة معينة مع
ذكر السند أو بدونه ويسمى مناقضة, وإما مقدمة لا بعينها
وهو النقد بمعنى أنه لو صح الدليل بجميع مقدماته لما تخلف
الحكم عنه في شيء من الصور وإما أن يكون بإقامة الدليل على
نفي مقدمة من مقدمات الدليل وذلك إما أن يكون بعد إقامة
المعلل دليلا على إثباتها وهو المعارضة في المقدمة فيدخل
في أقسام المعارضة, وإما أن يكون قبلها وهو الغصب الغير
المسموع لاستلزامه الخيط في البحث بواسطة بعد كل من المعلل
والسائل عما كانا فيه وضلالهما عما هو طريق التوجيه
والمقصود بناء على انقلاب حالهما واضطراب مقالهما كل ساعة.
والثاني وهو القدح في المدلول من غير تعرض للدليل إما أن
يكون بمنع المدلول وهو مكابرة لا يلتفت إليه وإما بإقامة
الدليل على خلافه وهي المعارضة وتجري في الحكم بأن يقيم
دليلا على نقيض الحكم المطلوب وفي علته بأن يقيم دليلا على
نفي شيء من مقدمات دليله والأول يسمى معارضة في الحكم
والثانية المعارضة في المقدمة وتكون بالنسبة إلى تمام
الدليل مناقضة والمعارضة في الحكم إما أن تكون بدليل
المعلل ولو بزيادة شيء عليه وهو معارضة فيها معنى المناقضة
أما المعارضة فمن حيث إثبات نقيض الحكم, وأما المناقضة فمن
حيث إبطال دليل المعلل إذ الدليل الصحيح لا يقوم على
النقيضين.
فإن قلت: في المعارضة تسليم دليل الخصم وفي المناقضة
إنكاره فكيف هذا من ذلك قلت يكفي في المعارضة التسليم من
حيث الظاهر بأن لا يتعرض للإنكار قصدا فإن قلت ففي
(2/191)
أما الأولى
فإما بدليل المعلل وإن كان بزيادة شيء عليه وهي معارضة
فيها مناقضة فإن دل على نقيض الحكم بعينه فقلب كقوله: صوم
رمضان صوم فرض فلا يتأدى إلا بتعيين النية كالقضاء فنقول
صوم فرض فيستغنى عن التعيين بعد تعيينه
ـــــــ
"أما الأولى فإما بدليل المعلل وإن كان بزيادة شيء عليه
وهي معارضة فيها مناقضة فإن دل على نقيض الحكم بعينه فقلب
كقوله: صوم رمضان صوم فرض فلا يتأدى إلا بتعيين النية
كالقضاء فنقول صوم فرض فيستغنى عن التعيين بعد تعيينه
كالقضاء لكن هنا التعيين قبل
.........................................................
كل معارضة معنى المناقضة; لأن نفي الحكم وإبطاله يستلزم
نفي دليله المستلزم له ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء
اللازم. قلت عند تغاير الدليلين لا يلزم ذلك الاحتمال أن
يكون الباطل دليل المعارض بخلاف ما إذا اتحد الدليل ثم
دليل المعارض إن كان على نقيض الحكم بعينه فقلب وإن كان ما
يستلزمه فعكس وإما أن يكون بدليل آخر وهي المناقضة الخالصة
وإثباته لنقيض الحكم إما أن يكون بعينه أو بتغيير ما وكل
منهما صريحا أو التزاما والمعارضة في المقدمة إن كانت بجعل
علة المستدل معلولا والمعلول علة فمعارضة فيها معنى
المناقضة وإلا فمعارضة خالصة وهي قد تكون لنفي علية ما
أثبت المستدل عليته, وقد تكون لإثبات علية علة أخرى إما
قاصرة وإما متعدية إلى مجمع عليه أو مختلف فيه وبعض هذه
الأقسام مردود وأمثلتها مذكورة في الكتاب فإن قلت بعد ما
ظهر تأثير العلة كيف يصح معارضتها خصوصا بطريق القلب الذي
هو جعل العلة بعينها علة لنقيض الحكم بعينه قلت ربما يظن
ظهور التأثير, ولا تأثير وربما يورد على المؤثر ما يظن أنه
معارضة أو قلب وليس كذلك فالمنافاة إنما هي بين تأثير في
نفس الأمر وتمام المعارضة على القطع, ولا قائل بذلك وهكذا
حكم فساد الوضع فتخصيصه بأنه لا يمكن بعد ثبوت التأثير مما
لا وجه له.
قوله: "وإن كان بزيادة شيء عليه" يعني زيادة تفيد تقريرا
وتفسيرا لا تبديلا وتغييرا ليكون قلبا وهو مأخوذ من قلب
الشيء ظهرا لبطن كقلب الجراب يسمى بذلك; لأن المعترض جعل
العلة شاهدا له بعد ما كان شاهدا عليه أو عكسا وهو مأخوذ
من عكست الشيء رددته إلى ورائه على طريقة الأول وقيل رد
أول الشيء إلى آخره وآخره إلى أوله نظير العكس ما إذا قال
الشافعي رحمه الله تعالى صلاة النفل عبادة لا يجب المضي
فيها إذا فسدت فلا يلزم بالشروع كالوضوء فنقول لما كان
المذكور وهو صلاة النفل مثل الوضوء وجب أن يستوي فيه النذر
والشروع كما في الوضوء وذلك إما بشمول العدم أو بشمول
الوجود والأول باطل; لأنها تجب بالنذر إجماعا فتعين الثاني
وهو الوجوب بالنذر والشروع جميعا وهو نقيض حكم المعلل
فالمعترض أثبت بدليل المعلل وجوب الاستواء الذي لزم منه
وجوب صلاة النفل بالشروع وهو نقيض ما أثبته المعلل من عدم
وجوبها بالشروع.
قوله: "اعلم أن كل عبادة" يعني ادعى المعلل أن كل عبادة
تجب بالشروع يجب المضي فيها عند الفساد ويلزمها بحكم عكس
النقيض أن كل عبادة لا يجب المضي في فاسدها لا تجب
(2/192)
كالقضاء لكن
هنا التعيين قبل الشروع وفي القضاء بالشروع وكقوله: مسح
الرأس ركن فيسن تثليثه كغسل الوجه فنقول ركن فلا يسن
تثليثه بعد إكماله بزيادة على الفرض في محله وهو الاستيعاب
كغسل الوجه وإن دل على حكم آخر يلزم منه ذلك النقيض يسمى
عكسا كقوله: في صلاة النفل عبادة لا تمضي في فاسدها فلا
تلزم بالشروع كالوضوء فنقول لما كان كذلك وجب أن يستوي فيه
النذر والشروع كالوضوء.
والأول أقوى من هذا لأنه جاء بحكم آخر وبحكم مجمل وهو
الاستواء ولأنه مختلف في الصورتين ففي الوضوء بطريق شمول
العدم وفي الفرع بطريق شمول
ـــــــ
الشروع وفي القضاء بالشروع" أي تعيين الصوم في رمضان تعيين
قبل الشروع بتعيين الله وفي القضاء إنما يتعين بالشروع
بتعيين العبد "وكقوله: مسح الرأس ركن فيسن تثليثه كغسل
الوجه فنقول ركن فلا يسن تثليثه بعد إكماله بزيادة على
الفرض في محله وهو الاستيعاب كغسل الوجه وإن دل على حكم
آخر يلزم منه ذلك النقيض يسمى عكسا كقوله: في صلاة النفل
عبادة لا تمضي في فاسدها فلا تلزم بالشروع كالوضوء فنقول
لما كان كذلك وجب أن يستوي فيه النذر والشروع كالوضوء"
اعلم أن كل عبادة تجب بالشرع لا بد أن يجب المضي فيها إذا
فسدت كما في الحج فيلزم أن كل عبادة إذا فسدت لا يجب المضي
فيها لا تجب بالشروع فنقول لو كان عدم وجوب المضي في
الفاسد علة لعدم الوجوب بالشروع لكان علة لعدم الوجوب
بالشروع والنذر كما في الوضوء فإنه لا يمضى في فاسده فلا
يجب بالشروع والنذر فيلزم استواء النذر والشروع في هذا
الحكم.
"والأول أقوى من هذا" أي القلب أقوى من العكس "لأنه جاء
بحكم آخر وبحكم
.........................................................
بالشروع وهذا يشعر بأن عدم وجوب المضي في الفاسد علة لعدم
الوجوب بالشروع فاعترض السائل بأنه لو كان علة لعدم الوجوب
بالشروع لكان علة لعدم الوجوب بالنذر كما في الوضوء لما
ذكر فخر الإسلام رحمه الله تعالى من أن الشروع مع النذر في
الإيجاب بمنزلة توأمين لا ينفصل أحدهما عن الآخر; لأن
الناذر عهد أن يطيع الله تعالى فلزمه الوفاء لقوله تعالى:
{أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}, وكذا الشارع عزم على الإيقاع
فلزمه الإتمام صيانة لما أدى إلى البطلان المنهي عنه لقوله
تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وإذا كان كذلك لزم
استواء النذر والشروع في هذا الحكم أعني في عدم وجوب صلاة
النفل بهما واللازم باطل لوجوبها بالنذر إجماعا, ولا يخفى
أن هذا التقرير غير واف بالمقصود وهو كون الاعتراض من قبيل
العكس إلا أن فيه تقريبا إلى أن هذه معارضة فيها معنى
المناقضة لتضمنها إبطال علية الوصف لكن لا دليل على أن عدم
وجوب المضي في الفاسد لو كان علة لعدم الوجوب بالشروع لكان
علة لعدم الوجوب بالنذر.
قوله: "والأول" يعني أن القلب أقوى من العكس بوجوه الأول
أن المعترض بالعكس جاء
(2/193)
الوجود وإما
بدليل آخر وهو معارضة خالصة وهو إما أن يثبت نقيض حكم
المعلل بعينه أو بتغيير أو حكما يلزم منه ذلك النقيض
كقوله: المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه كالغسل فنقول مسح
فلا يسن تثليثه كمسح الخف، وهذا أقوى الوجوه وكقولنا في
ـــــــ
مجمل وهو الاستواء" أي المعترض جاء في العكس بحكم آخر وفي
القلب جاء بنقيض حكم يدعيه المعلل فالقلب أقوى; لأنه في
العكس اشتغل بما ليس هو بصدده وهو إثبات الحكم الآخر, وفي
القلب لم يشغل بذلك, وأيضا جاء بحكم مجمل وهو الاستواء إذ
الاستواء يكون
.........................................................
بحكم آخر غير نقيض حكم المعلل وهو اشتغال بما لا يعنيه
بخلاف المعترض بالقلب فإنه لم يجئ إلا بنقيض حكم المعلل
الثاني أن العاكس جاء بحكم مجمل وهو الاستواء المحتمل
لشمول الوجود وشمول العدم والقالب جاء بحكم مفسر هو نفي
دعوى, المعلل الثالث أن من شرط القياس إثبات مثل حكم الأصل
في الفرع ولم يراع هذا في العكس إلا من جهة الصورة واللفظ;
لأن الاستواء في الأصل أعني الوضوء إنما هو بطريق شمول
العدم أعني عدم الوجوب بالنذر, ولا بالشروع, وفي الفرع
أعني صلاة النفل إنما هو بطريق شمول الوجود أعني الوجوب
بالنذر والشروع جميعا فلا مماثلة هذا تقرير كلام المصنف
رحمه الله تعالى وفيه بعض المخالفة لكلام فخر الإسلام رحمه
الله تعالى لما فيه من الاضطراب وذلك أنه قال المعارضة
نوعان معارضة فيها مناقضة ومعارضة خالصة.
أما الأولى فالقلب ويقابله العكس والقلب نوعان أحدهما أن
يجعل المعلول علة والعلة معلولا من قلبت الشيء جعلته
منكوسا, وثانيهما أن تجعل الوصف شاهدا لك بعد ما كان شاهدا
عليك من قلب الشيء ظهرا لبطن, وأما العكس فليس من باب
المعارضة لكنه لما استعمل في مقابلة القلب ألحق بهذا الباب
وهو نوعان أحدهما بمعنى رد الشيء على سننه الأول وهو ما
يصلح لترجيح العلل لدلالته على أن الحكم زيادة تعلق بالعلة
حيث ينتفي بانتفائها وذلك كقولنا ما يلزم بالنذر يلزم
بالشروع كالحج, وعكسه الوضوء بمعنى أن ما لا يلزم بالنذر
لا يلزم بالشروع وثانيهما بمعنى رد الشيء على خلاف سننه
كما يقال هذه عبادة لا يمضى في فاسدها فلا تلزم بالشروع
كالوضوء فيقال لما كان كذلك وجب أن يستوي فيه عمل النذر
والشروع كالوضوء وهذا نوع من القلب ضعيف لأنه لما جاء بحكم
آخر ذهبت المناقضة; لأن المستدل لم ينف التسوية ليكون
إثباتها دفعا لدعواه ولذلك لم يكن من هذا الباب في الحقيقة
ولأن الاستواء حكم مجمل ولأنه حكم مختلف في المعنى بالنسبة
إلى الفرع والأصل.
وأما الثانية أعني المعارضة الخالصة فخمسة أنواع اثنان في
الفرع وثلاثة في الأصل وجعل أحد أنواع الخمسة المعارضة
بزيادة هي تفسير للأول وتقرير له كما يقال المسح ركن فيسن
تثليثه كالغسل فيقال ركن فلا يسن تثليثه بعد إكماله بزيادة
على الفرض في محله وهو الاستيعاب كالغسل وهذا أحد وجهي
القلب فأورده تارة في المعارضة التي فيها مناقضة نظرا إلى
أن الزيادة تقرير فيكون من قبيل جعل دليل المستدل دليلا
على نقيض مدعاه فيلزم إبطاله وتارة في المعارضة
(2/194)
الصغيرة التي
لا أب لها: صغيرة فتنكح كالتي لها أب فيقال صغيرة فلا يولى
عليها بولاية الأخوة كالمال فلم ينف مطلق الولاية بل ولاية
بعينها لكن إذا انتفت هي ينتفي سائرها بالإجماع.
وكالتي نعي إليها زوجها فنكحت وولدت ثم جاء الأول فهو أحق
بالولد عندنا
ـــــــ
بطريقين والمعترض لم يبين أن المراد أيهما وإثبات الحكم
المبين أقوى من إثبات الحكم المجمل وأيضا الاستواء الذي في
الفرع غير الاستواء الذي هو في الأصل وهذا هو قوله "ولأنه
مختلف في الصورتين ففي الوضوء بطريق شمول العدم وفي الفرع
بطريق شمول الوجود وإما بدليل آخر" عطف على قوله: فأما
بدليل المعلل "وهو معارضة خالصة وهو إما أن يثبت نقيض حكم
المعلل بعينه أو بتغيير أو حكما يلزم منه ذلك النقيض
كقوله: المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه كالغسل فنقول مسح
فلا يسن تثليثه كمسح الخف, وهذا" أي الوجه الأول من الوجوه
الثلاثة من المعارضة "أقوى الوجوه" فقوله المسح ركن نظير
الوجه الأول من المعارضة "وكقولنا في الصغيرة التي لا أب
لها: صغيرة فتنكح كالتي لها أب فيقال صغيرة فلا يولى عليها
بولاية الأخوة كالمال فلم ينف مطلق الولاية بل ولاية
بعينها لكن إذا انتفت هي ينتفي سائرها بالإجماع" أي لعدم
القائل بالفصل فإن كل من ينفي الإجبار بولاية الإخوة ينفي
الإجبار بولاية العمومة ونحوها فهذا نظير الوجه الثاني من
المعارضة.
"وكالتي" نظير الوجه الثالث "نعي إليها زوجها فنكحت وولدت
ثم جاء الأول فهو
.........................................................
الخالصة نظرا إلى الظاهر وهو أنه مع تلك الزيادة ليس دليل
المستدل بعينه وأيضا جعل أحد الأنواع الخمسة, القسم الثاني
من قسمي العكس.
قوله: "وهذا أقوى الوجوه" لدلالته صريحا على ما هو المقصود
بالمعارضة وهو إثبات نقيض حكم المعلل بعينه.
قوله: "وكقولنا في صغيرة" يعني مثال المعارضة الخالصة التي
تثبت نقيض حكم المعلل بتغير ما, قولنا في إثبات ولاية
تزويج الصغيرة التي لا أب لها, ولا جد لغيرهما من الأولياء
صغيرة فيثبت عليها ولاية النكاح كالتي لها أب بعلة الصغر
فيقول المعترض صغيرة فلا يولى عليها بولاية الأخوة كالمال
فإنه لا ولاية للأخ على مال الصغيرة لقصور الشفقة فالعلة
هي قصور الشفقة لا الصغر على ما يفهم من ظاهر العبارة وإلا
لم يكن معارضة خالصة بل قلبا فالمعلل أثبت مطلق الولاية
والمعارض لم ينفها بل نفى ولاية الأخ فوقع في نقيض الحكم
تغيير هو التقييد بالأخ ولزم نفي حكم المعلل من جهة أن
الأخ أقرب القرابات بعد الولادة فنفي ولايته يستلزم نفي
ولاية العم ونحوه وبهذا الاعتبار يصير لهذا النوع من
المعارضة وجه صحة.
قوله: "وهو" أي كون الأول صاحب فراش صحيح أولى بالاعتبار
من كون الثاني حاضرا مع
(2/195)
لأنه صاحب فراش
صحيح فيقال الثاني صاحب فراش فاسد فيستحق النسب كمن تزوج
بغير شهود فولدت فالمعارض وإن أثبت حكما آخر نحو: الكفار
جنس يجلد بكرهم مائة فيرجم ثيبهم كالمسلمين والقراءة تكررت
فرضا في الأوليين فكانت فرضا في الأخريين كالركوع والسجود
فنقول المسلمون إنما يجلد بكرهم مائة؛ لأنه يرجم ثيبهم
وإنما تكرر الركوع والسجود فرضا في الأوليين؛ لأنه يتكرر
فرضا في الأخريين
ـــــــ
أحق بالولد عندنا; لأنه صاحب فراش صحيح فيقال الثاني صاحب
فراش فاسد فيستحق النسب كمن تزوج بغير شهود فولدت فالمعارض
وإن أثبت حكما آخر" وهو ثبوت النسب من الزوج الثاني لكن
يلزم من ثبوته للثاني نفيه من الأول فإذا ثبت المعارضة
فالسبيل الترجيح بأن الأول صاحب فراش صحيح وهو أولى
بالاعتبار من كون الثاني حاضرا وأما الثانية فمنها ما فيه
معنى المناقضة وهو أن تجعل العلة معلولا والمعلول علة وهي
قلب أيضا وإنما يرد هذا إذا "كانت العلة حكما لا وصفا";
لأنه إذا كان وصفا لا يمكن جعله معلولا والحكم علة "نحو:
الكفار جنس يجلد بكرهم مائة فيرجم ثيبهم كالمسلمين"; لأن
جلد المائة غاية حد البكر والرجم غاية حد الثيب فإذا وجب
في البكر غايته وجب في الثيب غايته أيضا فإن النعمة كلها
كانت أكمل فالجناية عليها تكون أفحش فجزاؤها يكون أغلظ
فإذا وجب في البكر المائة يجب في الثيب أكثر من ذلك وليس
هذا إلا الرجم فإن الشرع ما أوجب فوق جلد المائة إلا الرجم
"والقراءة تكررت فرضا في الأوليين فكانت فرضا في الأخريين
كالركوع والسجود فنقول المسلمون إنما يجلد بكرهم مائة;
لأنه يرجم ثيبهم" يعني لو جعل المعلل جلد البكر علة لرجم
الثيب, فنقول: لا نسلم هذا بل رجم الثيب علة لجلد البكر
وإنما تكرر الركوع والسجود فرضا في الأوليين; لأنه يتكرر
فرضا في الأخريين والمخلص عن هذا أي التعليل بوجه لا يرد
عليه هذا القلب "أن لا يذكر على سبيل التعليل
.........................................................
فساد الفراش; لأن صحة الفراش توجب حقيقة النسب والفاسد
شبهته وحقيقة الشيء أولى بالاعتبار من شبهته وربما يقال بل
في الحضور حقيقة النسب; لأن الولد من مائه.
قوله: "وهي قلب أيضا" من إذا قلبت الإناء وجعلت أعلاه
أسفله; لأن العلة أصل وهو أعلى والمعلول فرع وهو أسفل
فتبديلهما بمنزلة جعل الكوز منكوسا لكن هذا إنما يكون
معارضة إذا أقام المعترض دليلا على نفي علية ما ادعاه
المعلل علة وإلا فهو ممانعة مع السند على ما صرح به عبارة
المصنف رحمه الله تعالى نعم لو أثبت كون العلة معلولا لزم
نفي عليته; لأن معلول الشيء لا يكون له علة وما يقال من
أنه معارضة في الحكم من جهة أن السائل عارض تعليل المستدل
بتعليل آخر لزم منه بطلان تعليله فلزم بطلان حكمه المرتب
عليه ففيه نظر; لأن بطلان التعليل لا يدل على انتفاء الحكم
لجواز أن يثبت بعلة أخرى.
قوله: "والمخلص" لا يريد بالمخلص الجواب عن هذا القلب
ودفعه بل الاحتراز عن وروده
(2/196)
والمخلص عن هذا
أن لا يذكر على سبيل التعليل بل يستدل بوجود أحدهما على
وجود الآخر إذا ثبت المساواة بينهما نحو: ما يلزم بالنذر
يلزم بالشروع إذا صح كالحج فقالوا الحج إنما يلزم بالنذر؛
لأنه يلزم بالشروع فنقول الغرض الاستدلال من لزوم المنذور
على لزوم ما شرع لثبوت التساوي بينهما بل الشروع أولى؛
لأنه لما وجب رعاية ما هو سبب القربة فلأن يجب رعاية ما هو
القربة أولى ونحو الثيب الصغيرة
ـــــــ
بل يستدل بوجود أحدهما على وجود الآخر إذا ثبت المساواة
بينهما نحو: ما يلزم بالنذر يلزم بالشروع إذا صح كالحج"
فتجب الصلاة والصوم بالشروع تطوعا وفيه خلاف الشافعي رحمه
الله تعالى فقالوا الحج إنما يلزم بالنذر; لأنه يلزم
بالشروع فنقول الغرض الاستدلال من لزوم المنذور على لزوم
ما شرع لثبوت التساوي بينهما بل الشروع أولى; لأنه لما وجب
رعاية ما هو سبب القربة وهو النذر "فلأن يجب رعاية ما هو
القربة أولى ونحو الثيب الصغيرة يولى عليها في مالها فكذا
في نفسها كالبكر الصغيرة" فيثبت إجبار الثيب الصغيرة على
النكاح وفيه خلاف الشافعي رحمه الله تعالى "فقالوا إنما
يولى على البكر في مالها; لأنه يولى في نفسها فنقول
الولاية شرعت للحاجة, والنفس والمال والبكر والثيب فيها
سواء" أي لا نقول إن الولاية في المال علة للولاية في
النفس بل نقول كلتاهما شرعتا للحاجة فتكونان متساويين فإذا
ثبتت إحداهما ثبتت الأخرى; لأن حكم المتساويين واحد
.........................................................
وذلك بأن لا يورد الحكمين بطريق تعليل أحدهما بالآخر بل
بطريق الاستدلال بثبوت أحدهما على ثبوت الآخر إذ لا امتناع
في جعل المعلول دليلا على العلة بأن يفيد التصديق بثبوته
كما يقال هذه الخشبة قد مستها النار; لأنها محترقة وهذا
الشخص متعفن الأخلاط; لأنه محموم وهذا المخلص إنما يكون
عند تساوي الحكمين بمعنى أن يكون ثبوت كل منهما مستلزما
لثبوت الآخر ليصح الاستدلال كما في النذر والشروع
وكالولاية في النفس والمال بخلاف الجلد والرجم وبخلاف
القراءة في الأوليين والأخريين فإن قيل إن أريد بالمساواة
من كل وجه فغير متصور كيف والمال مبتذل والنفس مكرمة وإن
أريد المساواة من وجه فالفرق لا يضر أجيب بأن المراد
المساواة في المعنى الذي بني الاستدلال عليه كالحاجة إلى
التصرف في الولاية فإن قيل قد تحقق الحاجة إلى التصرف في
المال كي لا تأكله الصدقة بخلاف النفس فإنها تتأخر إلى ما
بعد البلوغ أجيب بأنه قد يكون بالعكس فيحتاج في النفس لعدم
الكفء بعد ذلك, ولا يحتاج في المال لكثرته فتساويا.
قوله: "فإن كانت قاصرة لا يقبل" لما سبق من أن التعليل لا
يكون إلا للتعدية وذلك كما إذا قلنا الحديد بالحديد موزون
مقابل بالجنس فلا يجوز متفاضلا كالذهب والفضة فيعارض بأن
العلة في الأصل هي الثمنية دون الوزن ويقبل عند الشافعي
رحمه الله تعالى; لأن مقصود المعترض إبطال علية وصف المعلل
فإذا بين علية وصف آخر احتمل أن يكون كل منهما مستقلا
بالعلية فلا يقبل وأن يكون كل منهما جزء علة فلا يصح الجزم
بالاستقلال حتى قالوا إن الوصف الذي ادعى المعترض عليته لو
كانت متعدية لم يكن على المعترض إثباته في محل آخر وبهذا
يندفع ما ذكره في
(2/197)
يولى عليها في
مالها فكذا في نفسها كالبكر الصغيرة فقالوا إنما يولى على
البكر في مالها؛ لأنه يولى في نفسها فنقول الولاية شرعت
للحاجة، والنفس والمال والبكر والثيب فيها سواء.
وهذه المساواة غير ثابتة في المسألتين الأوليين على ما
ذكروا ومنها خالصة فإن أقام الدليل على نفي علية ما أثبته
المعلل فمقبولة وإن أقام على علية شيء آخر فإن
ـــــــ
"وهذه المساواة غير ثابتة في المسألتين الأوليين على ما
ذكروا" وهما مسألتا رجم الكفار والقراءة في الشفع الأخير
فأراد أن يبين أنه يمكن لنا في مسألة الشروع في النفل وفي
الثيب الصغيرة المخلص عن القلب ولو يمكن للشافعي رحمه الله
تعالى هذا في مسألة الرجم والقراءة أما في مسألة الرجم
فلأن الرجم والجلد ليسا بسواء في أنفسهما; لأن أحدهما قتل
والآخر ضرب ولا في شروطهما حيث يشترط لأحدهما ما لا يشترط
للآخر فلا يمكن الاستدلال بوجود أحدهما على وجود الآخر
وأما في مسألة القراءة فلأن الشفع الأول والثاني ليسا
بسواء في القراءة; لأن قراءة السورة ساقطة في الشفع الثاني
وأيضا الجهر ساقط فيه فقوله على ما ذكروا إشارة إلى هذا
ومنها خالصة فإن أقام الدليل على نفي علية ما أثبته
.........................................................
بطلان المعارضة بإثبات علة متعدية إلى مجمع عليه من أنه
يجوز أن يثبت الحكم بعلل شتى وذلك; لأن وصف المعلل حينئذ
يحتمل أن يكون جزء علة وهذا كاف في غرض المعترض أعني القدح
في علية وصف المعلل لا يقال الكلام فيما إذا ثبت علية
الوصف وظهر تأثيره; لأنا نقول نعم ولكن لا قطعا بل ظنا
وحينئذ يجوز أن يكون بيان علية وصف آخر موجبا لزوال الظن
بعلية وصف المعلل استقلالا.
قوله: "وإن تعدى" أي الشيء الآخر الذي ادعى المعترض عليته
إلى فرع مختلف فيه كما إذا قيل الجص مكيل قوبل بجنسه فيحرم
متفاضلا كالحنطة فيعارض بأن العلة هي الطعم فيتعدى إلى
الفواكه وما دون الكيل كبيع الحفنة بالحفنتين وجريان الربا
فيهما مختلف فيه فمثل هذا يقبل عند أهل النظر; لأن المعلل
والمعترض قد اتفقا على أن العلة إنما هي أحد الوصفين فقط
إذ لو استقل كل بالعلية لما وقع نزاع في الفرع المختلف فيه
فإثبات علية أحدهما توجب نفي علية الآخر وهذا بخلاف ما إذا
تعدى إلى فرع مجمع عليه فإنه يجوز أن يلتزم المعلل عليه
وصف المعترض أيضا; قولا بتعدد العلة كما إذا ادعى أن علة
الربا هي الكيل والوزن ثم التزام أن الاقتيات والادخار
أيضا علة ليتعدى إلى الأرز لكن لا يمكنه أن يلتزم أن الطعم
أيضا علة; لأنه ينكر جريان الربا في التفاح مثلا فإن قلت
الكلام فيما إذا ثبت علية وصف المعلل وتأثيره فانتفاؤه
بثبوت علية وصف المعترض ليس أولى من العكس قلت: المراد أن
ثبوت علية كل منهما يستلزم انتفاء علية الآخر بناء على أن
العلة واحد لا غير, ولا يصح الحكم بعلية أحدهما ما لم يرجح
وليس المراد أنه يبطل علية وصف المعلل ويثبت صحة علية وصف
المعترض لمجرد المعارضة, وأما عند الفقهاء فلا يقبل مثل
هذه المعارضة; لأنه ليس لصحة علية أحد الوصفين تأثير في
فساد علية الآخر نظرا إلى ذاتهما لجواز
(2/198)
كانت قاصرة لا
يقبل عندنا وكذا إن كانت متعدية إلى مجمع عليه كما يعارضنا
مالك بأن العلة الطعم والادخار، وهو متعد إلى الأرز وغيره
فلا فائدة له إلا نفي الحكم في الجص لعدم العلة وهي لا
تفيد ذلك؛ لأن الحكم قد ثبت بعلل شتى وإن تعدى إلى مختلف
فيه يقبل عند أهل النظر للإجماع على أن العلة أحدهما فقط
فإذا ثبت أحدهما انتفى الآخر لا عند الفقهاء؛ لأنه ليس
لصحة أحدهما تأثير في فساد الآخر.
ـــــــ
المعلل فمقبولة وإن أقام على علية شيء آخر فإن كانت قاصرة
لا يقبل عندنا وكذا إن كانت متعدية إلى مجمع عليه كما
يعارضنا مالك بأن العلة الطعم والادخار, وهو متعد إلى
الأرز وغيره فلا فائدة له إلا نفي الحكم في الجص لعدم
العلة وهي لا تفيد ذلك; لأن الحكم قد ثبت بعلل شتى وإن
تعدى إلى مختلف فيه يقبل عند أهل النظر للإجماع على أن
العلة أحدهما فقط فإذا ثبت أحدهما انتفى الآخر لا عند
الفقهاء; لأنه ليس لصحة أحدهما تأثير في فساد الآخر.
.........................................................
استقلال العلتين, وإنما وقع الاتفاق على فساد أحدهما لا
بعينه لمعنى فيه لا لصحة الآخر بل كل من الصحة والفساد
يفتقر إلى معنى يوجبه وفيه نظر; لأن عدم تأثير صحة أحدهما
في فساد الآخر لا ينافي فساد أحدهما عند صحة الآخر لا يقال
كل منهما يحتمل الصحة والفساد إذ الكلام فيما يثبت عليته
ظنا لا قطعا; لأنا نقول لا نعني بفساد العلية إلى هذا وهو
أنه لم يبق الظن بالعلية ما لم يرجح للاتفاق على أن العلة
أحدهما, ولا أولوية بدون الترجيح.
(2/199)
فصل: في دفع العلل الطردية
وهو أربعة الأول القول بموجب العلة وهو التزام ما
ـــــــ
"فصل: في دفع العلل الطردية" لما عرف أن العلة نوعان إما
علة مؤثرة وهي المعتبرة
.........................................................
قوله: "فصل" في الاعتراضات التي تورد على القياسات التي لا
يظهر تأثير عللها بل يكتفى فيها بمجرد دوران الحكم مع
العلة إما وجودا فقط وإما وجودا وعدما وينبغي أن يراد
بالطردية هاهنا ما ليست بمؤثرة لتعم المناسب والملائم فيصح
الحصر في المؤثرة والطردية وليس المقصود من إيراد الفصلين
اختصاص كل من الفصلين بنوع من العلل فإن الكلام صريح في
اشتراكهما في الممانعة والمناقضة وفساد الوضع, ولا يخفى
جريان المعارضة في الطردية بل هي أظهر وأسهل نعم كلام
المصنف رحمه الله تعالى يوهم اختصاص القول بالموجب بالعلل
الطردية حيث قال وهو يلجئ المعلل إلى العلة المؤثرة وأنت
خبير بأن حاصل القول بالموجب دعوى المعترض أن المعلل نصب
الدليل في غير محل النزاع وهذا مما لا اختصاص له بالطردية.
قوله: "وهو" أي القول بموجب العلة التزام السائل ما يلزمه
المعلل بتعليله مع بقاء النزاع في الحكم المقصود وهذا معنى
قولهم هو تسليم ما اتخذه المستدل حكما لدليله على وجه لا
يلزمه تسليم الحكم المتنازع فيه ويقع على ثلاثة أوجه:
الأول أن يلزم المعلل بتعليله ما يتوهم أنه محل النزاع أو
ملازمه مع أنه لا يكون محل النزاع
(2/199)
يلزمه المعلل
مع بقاء الخلاف وهو يلجئ المعلل إلى العلة المؤثرة كقوله:
المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه فنقول: يسن
عندنا أيضا لكن الفرض البعض لقوله تعالى: {بِرُؤُوسِكُمْ}
وهو إما ربع أو أقل فالاستيعاب تثليث وزيادة وإن غير فقال:
يسن تكراره يمنع ذلك في الأصل بل المسنون في الركن التكميل
كما في أركان الصلاة بالإطالة لكن الغسل لما استوعب المحل
لا يمكن التكميل إلا بالتكرار وهنا المحل متسع على أن
التكرار ربما يصير غسلا فيلزم تغيير المشروع فالاعتراض على
التقدير
ـــــــ
عندنا وإما علة تثبت عليتها بالدوران دون التأثير وهي
المعتبرة عند البعض وليست بمعتبرة عندنا وتسمى علة طردية
ففي هذا الفصل تذكر الاعتراضات الواردة على القياس بالعلة
الطردية "وهو أربعة الأول: القول بموجب العلة وهو التزام
ما يلزمه المعلل مع بقاء الخلاف وهو يلجئ المعلل إلى العلة
المؤثرة" أي يجعل المعلل مضطرا إلى القول بمعنى مؤثر يرفع
الخلاف ولا يتمكن الخصم من تسليمه مع بقاء الخلاف "كقوله:
المسح ركن في الوضوء فيسن تثليثه كغسل الوجه فنقول يسن
عندنا أيضا لكن الفرض البعض لقوله تعالى: {بِرُؤُوسِكُمْ}
وهو إما ربع أو أقل فالاستيعاب تثليث وزيادة وإن غير فقال
يسن تكراره يمنع ذلك في الأصل بل المسنون في الركن التكميل
كما في أركان الصلاة بالإطالة لكن الغسل لما استوعب المحل
لا يمكن التكميل إلا بالتكرار وهنا المحل متسع" أي في مسح
الرأس المحل
.........................................................
ولا ملازمه إما بصريح عبارة المعلل كما إذا قال القتل
بالمثقل قتل بما يقتل غالبا فلا ينافي القصاص كالقتل
بالحرق فيجاب بأن النزاع ليس في عدم المنافاة بل في إيجاب
القصاص وإما بحمل المعترض عبارته على ما ليس بمراده كما في
مسألة تثليث المسح وتعيين النية فإن المعلل يريد بالتثليث
إصابة الماء محل الفرض ثلاث مرات وبالتعيين تعيينا قصديا
من جهة الصائم, والسائل يحمل التثليث على جعله ثلاثة أمثال
الفرض والتعيين أعم من أن يكون بقصد الصائم أو معينا
بتعيين الشارع حتى لو صرح المعلل بمراده لم يكن القول
بالموجب بل تتعين الممانعة.
والثاني أن يلزم المعلل بتعليله إبطال ما يتوهم أنه مأخذ
الخصم كما إذا قال في السرقة: أخذ مال الغير بلا اعتقاد
إباحة وتأويل فيوجب الضمان كالغصب فيقال نعم إلا أن
استيفاء الحد بمنزلة الإبراء في إسقاط الضمان.
والثالث أن يسكت المعلل عن بعض المقدمات لشهرته فالسائل
يسلم المقدمة المذكورة ويبقى النزاع في المطلوب للنزاع في
المقدمة المطوية وربما يحمل المقدمة المطوية على ما ينتج
مع المقدمة المذكورة نقيض حكم المعلل فيصير قلبا كما في
مسألة غسل المرفق فإن المعلل يريد أن الغاية المذكورة في
الآية غاية للغسل والغاية لا تدخل تحت المغيا فلا تدخل
المرفق في الغسل والسائل يريد أنها غاية للإسقاط فلا تدخل
في الإسقاط فتبقى داخلة في الغسل فلو صرح بالمقدمة المطوية
لتعين منعها ثم لا يخفى أن هذا المثال ليس من قبيل القياس
فضلا عن أن تكون العلة طردية وفيه تنبيه عن أن الاعتراضات
لا تخص القياس بل تعم الأدلة فإن قلت كيف يكون هذا
(2/200)
الأول قول
بموجب العلة وعلى تقدير التغيير ممانعة.
وكقوله: صوم رمضان صوم فرض فلا يتأدى إلا بتعيين النية
فنسلم موجبه لكن
ـــــــ
وهو الرأس متسع يمكن الإكمال بدون التكرار "على أن التكرار
ربما يصير غسلا فيلزم تغيير المشروع فالاعتراض على التقدير
الأول قول بموجب العلة وعلى تقدير التغيير ممانعة" فالحاصل
أن نقول إن أردتم بالتثليث جعله ثلاثة أمثال الفرض فنحن
قائلون به; لأن الاستيعاب تثليث وزيادة, وإن أردتم
بالتثليث التكرار ثلاثة مرات نمنع هذا في الأصل أي لا نسلم
أن الركنية توجب هذا بل الركنية توجب الإكمال كما في أركان
الصلاة فالاعتراض على تقدير أن يراد بالتثليث جعله ثلاث
أمثال الفرض يكون قولا بموجب العلة وعلى تقدير التغيير وهو
أن يراد بالتثليث التكرار فالاعتراض ممانعة.
"وكقوله: صوم رمضان صوم فرض فلا يتأدى إلا بتعيين النية
فنسلم موجبه لكن الإطلاق تعيين وكقوله: المرفق لا يدخل في
الغسل; لأن الغاية لا تدخل تحت المغيا قلنا نعم لكنها غاية
للإسقاط فلا تدخل تحته, الثاني الممانعة وهي إما في الوصف"
أي تمنع وجود الوصف الذي يدعي المعلل عليته في الفرع
"كقوله في مسألة الأكل والشرب: عقوبة متعلقة بالجماع فلا
تجب بالأكل والشرب كحد الزنا فلا نسلم تعلقها بالجماع بل
هي متعلقة بالفطر وكقوله في بيع التفاحة بالتفاحتين: إنه
بيع مطعوم بمطعوم مجازفة فيحرم كالصبر بالصبر فنقول إن
أراد المجازفة بالوصف أو بالذات بحسب الأجزاء فهي جائزة
لجواز الجيد
.........................................................
المثال من القول بالموجب والمعلل إنما يلزم عدم دخول
المرفق تحت الغسل والسائل لا يلتزم ذلك؟ قلت: المعتبر في
القول بالموجب التزام ما يلزمه المعلل بتعليله من حيث إنه
معلل, وهو هاهنا لا يلزم إلا عدم دخول المرفق تحت ما هو
غاية له, وقد التزمه السائل فظهر بما ذكرنا أن المصنف رحمه
الله تعالى لو أورد مكان مسألة تعيين النية مسألة ضمان
السرقة أو نحوها ليكون تنبيها على الأقسام الثلاثة لكان
أنسب.
قوله: "فالاستيعاب تثليث وزيادة" لأن التثليث ضم المثلين
وفي الاستيعاب ضم ثلاثة الأمثال إن قدر محل الفرض بالربع
أو أكثر إن قدر بأقل من الربع واتحاد المحل ليس من ضرورة
التثليث بل من ضرورة التكرار والنص الوارد في الركن إنما
يدل على سنية الإكمال دون التكرار, وهو حاصل بالإطالة كما
في القراءة والركوع والسجود بخلاف الغسل فإن تكميله
بالإطالة يقع في غير محل الفرض فلا بد من التكرار, وأما
المسح فمحله الرأس من غير تعيين موضع دون موضع وهو متسع
يزيد على مقدار الفرض فيمكن تكميله في محل الفرض بالإطالة
والاستيعاب.
قوله: "على أن التكرار بما يصير غسلا" زيادة توضيح وتحقيق
لكون المسنون هو التكميل بالإطالة دون التكرار وليس
باعتراض آخر على هذا القياس; لأنه لا يناسب المقام.
قوله: "الثاني الممانعة" وهي منع ثبوت الوصف في الأصل أو
الفرع أو منع الحكم في
(2/201)
الإطلاق تعيين
وكقوله: المرفق لا يدخل في الغسل؛ لأن الغاية لا تدخل تحت
المغيا قلنا نعم لكنها غاية للإسقاط فلا تدخل تحته، الثاني
الممانعة وهي إما في الوصف كقوله في مسألة الأكل والشرب:
عقوبة متعلقة بالجماع فلا تجب بالأكل والشرب كحد الزنا فلا
نسلم تعلقها بالجماع بل هي متعلقة بالفطر وكقوله في بيع
التفاحة بالتفاحتين: إنه بيع مطعوم بمطعوم مجازفة فيحرم
كالصبر بالصبر فنقول إن أراد المجازفة بالوصف أو بالذات
بحسب الأجزاء فهي جائزة لجواز الجيد بالرديء وللجواز عند
تفاوت الأجزاء وإن أرادها بحسب المعيار فتختص بما يدخل فيه
وأما في الحكم كما في هذه المسألة إن ادعيت حرمة تنتهي
بالمساواة لا نسلم إمكانها في الفرع وإن ادعيتها غير
ـــــــ
بالرديء" هذا دليل على جواز المجازفة بالوصف "وللجواز عند
تفاوت الأجزاء" هذا دليل على جواز المجازفة بالذات بحسب
الأجزاء "وإن أرادها" أي المجازفة "بحسب المعيار فتختص بما
يدخل فيه" أي في المعيار "وأما في الحكم" عطف على قوله:
وهي إما في الوصف "كما في هذه المسألة إن ادعيت حرمة تنتهي
بالمساواة لا نسلم إمكانها في الفرع وإن ادعيتها غير
متناهية لا نسلم في الصبرة" فقوله كما في هذه المسألة
إشارة إلى مسألة بيع التفاحة بالتفاحتين فالممانعة في
الحكم أن يمنع ثبوت الحكم الذي يكون الوصف علة له في الفرع
قوله لا نسلم إمكانها في الفرع إشارة إلى هذا أو نمنع ثبوت
الحكم الذي يدعيه المعلل بالوصف المذكور في الأصل وقوله لا
نسلم في الصبرة إشارة إلى هذا "وكقوله: صوم فرض فلا يصح
إلا بتعيين النية كالقضاء فنقول أبعد التعين فلا نسلم في
الأصل أو قبله فلا نسلم في الفرع" أي إن ادعيتم أن الصوم
لا يصح إلا بتعيين النية بعد صيرورته متعينا فلا نسلم هذا
في القضاء وإن ادعيتم أن الصوم لا يصح إلا بتعيين النية
قبل
.........................................................
الأصل أو الفرع أو منع صلاحية الوصف للحكم أو منع نسبة
الحكم إلى الوصف فإن قيل التعليل إنما هو لإثبات الحكم في
الفرع فمنع الحكم في الفرع يكون منعا للمدلول من غير قدح
في الدليل فلا يكون موجها قلنا المراد منع إمكان ثبوت
الحكم في الفرع فيكون منعا لتحقق شرائط القياس إذ من شرط
القياس إمكان ثبوت الحكم في الفرع أما منع ثبوت الوصف في
الأصل فكما يقال مسح الرأس طهارة مسح فيسن تثليثه
كالاستنجاء فيعترض بأن الاستنجاء ليس طهارة مسح بل طهارة
عن النجاسة الحقيقية, وأما في الفرع فكما يقال كفارة
الإفطار عقوبة متعلقة بالجماع فلا تجب بالأكل كحد الزنا
فيقال لا نسلم أنها عقوبة متعلقة بالجماع بل بنفس الإفطار
على وجه يكون جناية متكاملة فالأصل حد الزنا, والفرع كفارة
الصوم, والحكم عدم الوجوب بالأكل, والوصف العقوبة المتعلقة
بالجماع, وقد منع السائل صدقة على كفارة الصوم فظهر فساد
ما يقال إن هذا منع لنسبة الحكم إلى الوصف بمعنى أن وجوب
الكفارة لا يتعلق بالجماع بل بالإفطار وكما يقال بيع
التفاحة بالتفاحتين بيع مطعوم بمطعوم مجازفة فيحرم كبيع
الصبرة بالصبر مجازفة فيقال إن أردتم المجازفة مطلقا أو في
الصفة أو في الذات بحسب الأجزاء فلا نسلم تعلق الحرمة بها
فإن بيع الجيد
(2/202)
متناهية لا
نسلم في الصبرة وكقوله: صوم فرض فلا يصح إلا بتعيين النية
كالقضاء فنقول أبعد التعين فلا نسلم في الأصل أو قبله فلا
نسلم في الفرع.
وأما في صلاح الوصف للحكم فإن الطرد باطل عندنا كما مر
وأما في نسبة
ـــــــ
صيرورته متعينا فلا نسلم هذا في المتنازع فيه; لأن تعيين
النية قبل صيرورته متعينا ممتنع في المتنازع فيه لأن الصوم
متعين في المتنازع بتعيين الشارع فلا تكون صحة الصوم في
المتنازع موقوفة على تعيين النية قبل صيرورته متعينا; لأنه
حينئذ تكون صحة صوم رمضان ممتنعة وهذا باطل.
"وأما في صلاح الوصف للحكم فإن الطرد باطل عندنا كما مر
وأما في نسبة الحكم إلى الوصف كقوله في الأخ: لا يعتق على
أخيه لعدم البعضية كابن العم فلا نسلم أن العلة في الأصل
هذا" أي لا نسلم أن علة عدم عتق ابن العم هي عدم البعضية
فإن عدم البعضية لا يوجب عدم العتق لجواز أن توجد علة أخرى
للعتق بل إنما لم يعتق ابن العم لعدم القرابة المحرمية
"وكقوله: لا يثبت النكاح بشهادة النساء مع الرجال; لأنه
ليس بمال كالحد فلا نسلم أن العلة في الحد عدم المالية
وكذا في كل موضع يستدل بالعدم على العدم" فإنه يمكن أن
يقول عدم تلك العلة لا يوجب عدم الحكم فإن الحكم يمكن أن
يثبت بعلة أخرى "الثالث
.........................................................
بالرديء جائز, وكذا بيع القفيز بالقفيز مع كون عدد حبات
أحدهما أكثر وإن أردتم المجازفة بحسب المعيار فلا نسلم
ثبوتها في الفرع أعني بيع التفاحة بالتفاحتين فإنها لا
تدخل تحت الكيل والمعيار فمنع الوصف في الفرع في المثال
الأول متعين وفي الثاني مبني على أحد التقادير.
قوله: "وإن ادعيتها" أي وإن ادعيت حرمة غير متناهية
بالمساواة فلا نسلم ثبوت الحكم في بيع الصبرة بالصبر
مجازفة فإنهما إذا كيلا ولم يفضل أحدهما على الآخر عاد
العقد إلى الجواز فإن قيل المراد مطلق الحرمة من غير
اعتبار التناهي وعدمه أجيب بأن شرط القياس تماثل الحكمين
والثابت في الأصل هو أحد نوعي الحرمة المطلقة أعني
المتناهي بالمساواة وهو غير ممكن في الفرع.
قوله: "الثالث فساد الوضع" وهو أن يترتب على العلة نقيض ما
تقتضيه وهو يبطل العلة بالكلية بمنزلة فساد الأداء في
الشهادة إذ الشيء لا يترتب عليه النقيضان فلا يمكن
الاحتراز عنه بتغيير الكلام بخلاف المناقضة فإنه يمكن أن
يحترز عن ورودها بأن يفسر الكلام نوع تفسير وبغير أدنى
تغيير كما يقال الوضوء طهارة كالتيمم فيشترط فيه النية
فينقض بتطهير الخبث فيجاب بأن المراد أنهما تطهيران حكميان
فلا يرد النقض بتطهير الخبث والمراد بالاحتراز عن ورود
المناقضة أن يساق الكلام بحيث لا يصح أن يورد عليه
المناقضة وإلا فدفع المناقضة بعد إيرادها يمكن بوجوه أخر
سوى تغيير الكلام على ما سبق.
(2/203)
الحكم إلى
الوصف كقوله في الأخ: لا يعتق على أخيه لعدم البعضية كابن
العم فلا نسلم أن العلة في الأصل هذا وكقوله: لا يثبت
النكاح بشهادة النساء مع الرجال؛ لأنه ليس بمال كالحد فلا
نسلم أن العلة في الحد عدم المالية وكذا في كل موضع يستدل
بالعدم على العدم الثالث فساد الوضع وقد مر تفسيره وهو فوق
المناقضة إذ يمكن الاحتراز عنها بتغيير الكلام أما هو
فيبطل العلة أصلا كتعليله لإيجاب الفرقة بإسلام أحد
الزوجين ولإبقاء النكاح مع ارتداد أحدهما فإن الإسلام لا
يصلح قاطعا للنعمة
ـــــــ
فساد الوضع وقد مر تفسيره وهو فوق المناقضة إذ يمكن
الاحتراز عنها بتغيير الكلام أما هو فيبطل العلة أصلا" فإن
المعلل إذا تمسك بالعلة الطردية ويرد عليها مناقضة فربما
يغير الكلام ويجعل علته مؤثرة فحينئذ تندفع المناقضة كما
سيأتي في المناقضة في قوله: الوضوء والتيمم طهارتان أما
فساد الوضع فإنه يبطل العلة بكليتها إذ لا يندفع بتغيير
الكلام "كتعليله لإيجاب الفرقة بإسلام أحد الزوجين" أي أحد
الزوجين الذميين إذا أسلم قبل الدخول فعند الشافعي رحمه
الله تعالى بانت في الحال وبعد الدخول بانت بعد ثلاثة
أقراء فقد جعل الإسلام علة لإيجاب الفرقة وعندنا يعرض
الإسلام على الآخر فإن أسلم فهي له وإن أبى يفرق بينهما في
الحال سواء كان بعد الدخول أو قبله "ولإبقاء النكاح مع
ارتداد أحدهما" أي إذا ارتد أحد الزوجين قبل الدخول بانت
في الحال وبعد الدخول بانت بعد ثلاثة أقراء عند الشافعي
.........................................................
قوله: "ولإبقاء النكاح" عطف على قوله لإيجاب الفرقة وعدل
عن الباء إلى لفظ مع حيث لم يقل ارتداد أحدهما لظهور أن
الشافعي رحمه الله تعالى لا يقول بأن علة بقاء النكاح هي
الارتداد بل يقول إن الارتداد لا يقطع النكاح قبل انقضاء
العدة, وعدم كون الشيء قاطعا للشيء لا يستلزم كونه علة
لبقائه وحين صرح في الشرح بأن الشافعي رحمه الله تعالى جعل
الردة علة لبقاء النكاح فسره بمعنى أنه لا يجعلها قاطعة
للنكاح وأنت خبير بأنه لا تعليل حينئذ فلا فساد وضع نعم لو
قيل النكاح مبني على العصمة, والردة قاطعة لها فتكون
منافية للنكاح, ولا بقاء للشيء مع المنافي, لكان استدلالا
برأسه على بطلان بقاء النكاح مع الارتداد لكنه لا يتعلق
بمقصود المقام إذ ليس هاهنا بيان أن الخصم قد رتب على
العلة نقيض ما تقتضيه, وكذا مسألة الحج بنية النقل فإن
الشافعي رحمه الله تعالى ذهب إلى أنه يقع عن الفرض كما إذا
حج بنية مطلقة; لأن مطلق النية العبادة التي تتنوع إلى
الفرض والنفل تنصرف إلى النفل كما في الصلاة وصوم غير
رمضان فإذا استحق المطلق للفرض دل على استحقاق نية النفل
للفرض وليس في هذا فساد الوضع بمعنى أنه رتب على العلة
نقيض ما تقتضيه بل بمعنى أن فيه حمل المقيد على المقيد على
المطلق وهذا ما لم يقل به أحد وإنما وقع الخلاف في حمل
المطلق على المقيد نعم ذكر بعضهم أن فساد الوضع نوعان:
أحدهما كون القياس على خلاف مقتضى الأدلة من الكتاب والسنة
والإجماع وثانيهما كون الوصف مشعرا بخلاف الحكم الذي ربط
به كما يذكر وصف مشعر بالتغليظ في روم التخفيف وبالعكس,
ولا خفاء في أن المثالين المذكورين من النوع الأول.
(2/204)
والردة لا تصلح
عفوا وكقوله: إذا حج بإطلاق النية يقع عن الفرض فكذا بنية
النفل فإن بعض العلماء حملوا المطلق على المقيد فأما هذا
فحمل المقيد على المطلق وهو باطل وكقوله: المطعوم شيء ذو
خطر فيشترط لتملكه شرط زائد كالنكاح فيقال ما كان الحاجة
إليه أكثر جعله الله أوسع. الرابع المناقضة وهي تلجئ أهل
الطرد إلى المؤثرة كقوله: الوضوء والتيمم طهارتان فيستويان
في النية فينتقض بتطهير الخبث فيضطر إلى أن يقول الوضوء
تطهير حكمي كالتيمم بخلاف تطهير الخبث فنقول نعم بمعنى:
ـــــــ
رحمه الله تعالى فيجعل الردة علة لبقاء النكاح بمعنى أنه
لا يجعلها قاطعة للنكاح وعندنا تبين في الحال سواء كان قبل
الدخول أو بعده ثم في المتن يقيم الدليل على أن تعليله
مقرون بفساد الوضع بقوله: "فإن الإسلام لا يصلح قاطعا
للنعمة, والردة لا تصلح عفوا وكقوله: إذا حج بإطلاق النية
يقع عن الفرض فكذا بنية النفل فإن بعض العلماء حملوا
المطلق على المقيد فأما هذا فحمل المقيد على المطلق وهو
باطل وكقوله: المطعوم شيء ذو خطر فيشترط لتملكه شرط زائد"
وهو التقابض "كالنكاح" فإنه يشترط له الشهود "فيقال ما كان
الحاجة إليه أكثر جعله الله أوسع. الرابع المناقضة وهي
تلجئ أهل الطرد إلى المؤثرة كقوله: الوضوء والتيمم طهارتان
فيستويان في النية فينتقض بتطهير الخبث فيضطر إلى أن يقول
الوضوء تطهير
.........................................................
قوله: "المطعوم شيء ذو خطر" إذ يتعلق به قوام النفس وبقاء
الشخص كالنكاح يتعلق به بقاء النوع, ولا شك أن خطر المطعوم
بمعنى كثرة الاحتياج إليه بالإطلاق والتوسعة أنسب منه
بالتحريم والتضييق, ولهذا كان طريق الوصول إلى الماء
والهواء أيسر لكون الحاجة إليهما أكثر ففي ترتيب اشتراط
التقابض في تمليك المطعوم على كونه ذا خطر فساد الوضع;
لأنه نقيض ما يقتضيه من التوسعة والتيسير.
قوله: "الوضوء والتيمم طهارتان" نقل عن الشافعي رحمه الله
تعالى في اشتراط النية في الوضوء أن الوضوء والتيمم طهارتا
صلاة فكيف افترقتا ولما كان واضحا بينا أن مراده بإنكار
الافتراق وجوب استوائهما في اشتراط النية صرح به المصنف
رحمه الله تعالى ونوقض بتطهير البدن والثوب عن النجاسة
الحقيقية فإنه لا يشترط فيه النية فلا بد في التقصي عن
المناقضة بأن يقال المراد بهما تطهير حكمي أي تعبدي غير
معقول المعنى; لأن معنى التطهير إزالة النجاسة وليس على
أعضاء المتوضئ نجاسة تزال ولهذا لا يتنجس الماء بملاقاته
وإنما عليه أمر مقدر اعتبره الشارع مانعا لصحة الصلاة عند
عدم العذر وحكم بأن الوضوء يرفعه فتشترط النية تحقيقا
لمعنى التعبد بخلاف تطهير الخبث فإنه حقيقي لما فيه من
إزالة النجاسة بالماء سواء نوى أو لم ينو فيقول المعترض:
إن أردتم أن نفس التطهير أي رفع الحدث وإزالته بالماء حكمي
غير معقول فممنوع كيف والماء مطهر بطبعه كما أنه مرو, وقد
خلقه الله آلة للطهارة في أصله فيحصل به إزالة النجاسة
حقيقية كانت أو حكمية نوى أو لم ينو بخلاف التراب فإنه في
نفسه ملوث لا يصير مطهرا إلا بالقصد والنية وإن أردتم أن
الوضوء تطهير حكمي بمعنى أنه إزالة نجاسة حكمية حكم
(2/205)
النجاسة حكمية،
أي حكم الشرع بالنجاسة في حق الصلاة فجعلها كالحقيقة
فيزيلها الماء كما يزيل الحقيقية فهي غير معقولة لكن
تطهيرها بالماء معقول بخلاف التراب فلا يحتاج إلى النية في
ذلك بل في صيرورته قربة والصلاة تستغني عنها.
ـــــــ
حكمي كالتيمم بخلاف تطهير الخبث فنقول نعم" أي الوضوء
تطهير حكمي "بمعنى: النجاسة حكمية, أي حكم الشرع بالنجاسة
في حق الصلاة فجعلها كالحقيقة فيزيلها الماء كما يزيل
الحقيقية فهي غير معقولة" الضمير يرجع إلى النجاسة وهذا
الجواب هو الذي أحاله في فصل شرائط القياس إلى فصل
المناقضة "لكن تطهيرها بالماء معقول بخلاف التراب فلا
يحتاج إلى النية في ذلك" أي في التطهير فيحصل الطهارة سواء
نوى أو لم ينو "بل في صيرورته قربة" أي يحتاج إلى النية في
صيرورة الوضوء قربة "والصلاة تستغني عنها" أي عن صيرورة
الوضوء قربة كما في سائر شرائط الصلاة بل تحتاج إلى كون
الوضوء طهارة
.........................................................
بها الشارع في حق جواز الصلاة بمعنى أنها مانعة له
كالنجاسة الحقيقية فمسلم لكنه لا يوجب اشتراط النية في
رفعها وإزالتها بالماء الذي خلق طهورا فإنه أمر معقول ولما
كان لهم في اشتراط النية طريقة أخرى وهي أن الوضوء قربة أي
عبادة لما فيه من تعظيم الرب بامتثال الأمر ومن استحقاق
الثواب بدلالة قوله عليه الصلاة والسلام: "الوضوء على
الوضوء نور على نور" وكل قربة فهي مفتقرة إلى النية تحقيقا
لمعنى الإخلاص وقصد التقرب إلى الله تعالى وتمييزا للعبادة
على العادة.
أشار إلى الجواب بأنه إن أريد: كل وضوء قربة, فهو ممنوع
فإنه من الوضوء ما هو مفتاح للصلاة فقط بمنزلة غسل البدن
عن الخبث وإن أريد البعض فلا نزاع في أنه محتاج إلى النية
فإن الوضوء لا يصير قربة بدون النية لكن صحة الصلاة لا
تتوقف على وضوء هو قربة بل على تطهير الأعضاء المخصوصة عن
الحدث ليصير العبد به أهلا للقيام بين يدي الرب فإن قلت هو
مأمور بالغسل وهو فعل اختياري مسبوق بالقصد فلا يحصل
الامتثال بالانغسال من غير قصد منه وأيضا قولنا إذا أردت
الدخول على الأمير فتأهب, معناه تأهب له فيكون معنى الآية
إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضئوا لذلك قلت لا كلام في
أن الإتيان بالوضوء المأمور به لا يحصل بدون النية لكن صحة
الصلاة لا تتوقف عليه; لأن الوضوء غير مقصود وإنما المقصود
حصول الطهارة وهي تحصل بالمأمور به وغيره; لأن الماء مطهر
بالطبع بخلاف التراب فلا يصير مطهرا إلا بالشرط الذي ورد
به الشرع وهو كونه للصلاة كذا في مبسوط شيخ الإسلام رحمه
الله تعالى.
وقال في الأسرار إن كثيرا من مشايخنا يظنون أن المأمور به
الوضوء يتأدى بغير نية وذلك غلط فإن المأمور به عبادة
والوضوء بغير النية ليس بعبادة لكن العبادة متى لم تكن
مقصودة سقطت لحصول المقصود بدون العبادة كالسعي إلى الجمعة
فإن المقصود هو التمكن من الجمعة بالحصول في المسجد فإن
قيل فينبغي أن تشترط النية في مسح الرأس; لأن التطهير
بمجرد الإصابة غير معقول أجيب من وجوه: الأول أن الطهارة
طهارة غسل فألحق الجزء بالكل والقليل بالكثير ،
(2/206)
وأما المسح
فملحق بالغسل تيسيرا فإن قيل غسل الأعضاء الأربعة غير
معقول قلنا لما اتصف البدن بها اقتصر على غسل الأطراف في
المعتاد دفعا للحرج وأقر على الأصل في غير المعتاد كالمني
والحيض.
ـــــــ
وأما المسح فملحق بالغسل تيسيرا جواب عن سؤال مقدر هو أنكم
قلتم إن الغسل تطهير معقول فلا يحتاج إلى النية لكن مسح
الرأس تطهير غير معقول فيجب أن يحتاج إلى
.........................................................
وخص الرأس بذلك لما في غسله من الحرج. الثاني أن المسح خلف
عن الغسل دفعا للحرج فيعتبر فيه حكم الأصل وهو الاستغناء
عن النية. الثالث أن الإصابة جعلت بمنزلة الإسالة في إزالة
الحدث وإفادة التطهير لما في المزيل من القوة لكونه مطهرا
طبعا وفي النجاسة من الضعف لكونها حكمية بخلاف الخبث فإنه
نجاسة حقيقية عينية وخص الرأس بذلك تيسيرا ودفعا للحرج.
فإن قيل هب أن تطهير النجاسة الحكمية بالماء معقول لكنه لا
يفيد استغناء الوضوء عن النية; لأن الوضوء عبارة عن غسل
الأعضاء الثلاثة مع مسح الرأس وهذا هو المراد بغسل الأعضاء
الأربعة على طريقة التغليب, وهذا غير معقول; لأن المتصف
بالنجاسة الحكمية أعني بالحدث جميع البدن بحكم الشرع
فإزالتها والتطهر منها بغسل الأعضاء الذي هو أقل البدن
خصوصا الذي هو غير ما تخرج عنه النجاسة الحقيقية المؤثرة
في ثبوت النجاسة الحكمية ليست بمعقولة فيجب أن لا تحصل
بدون النية كالتيمم أجيب بأنا لا نسلم أن الاقتصار على
الأعضاء الأربعة غير معقول فإن دفع الحرج إسقاط باقي
الأعضاء في الحدث الذي يعتاد تكرره ويكثر وقوعه والاكتفاء
بالأعضاء التي هي بمنزلة حدود الأعضاء ونهايتها طولا وعرضا
أو بمنزلة أصولها وأمهاتها لكونها مجمع الحواس ومظهر
الأفعال مع أنها مظنة لإصابة النجس ومئنة لسهولة الغسل أمر
معقول الشأن مقبول الأذهان فيستغنى عن النية واحتراز
بالمعتاد عما يوجب الغسل كالمني والحيض فإنه قليل الوقوع
فلا حرج في غسل جميع البدن على ما هو الأصل فلا يكتفى
بالبعض.
قوله: "واعلم" حاصل هذا الكلام بيان المنافاة بين كلامي
فخر الإسلام رحمه الله تعالى وصاحب الهداية في هذا المقام
وإيراد الإشكال على كل من الكلامين ثم دفع المنافاة وحل
الإشكال, أما المنافاة فلأنه ذكر فخر الإسلام رحمه الله
تعالى أن تغير وصف محل الغسل وانتقاله من الطهارة إلى
الخبث غير معقول وذكر صاحب الهداية أن تأثير خروج النجاسة
في زوال الطهارة معقول, وأما ورود الإشكال على كلام فخر
الإسلام رحمه الله تعالى فلأنه يوجب أن لا يصح قياس غير
السبيلين على السبيلين في الحكم بكون الخارج النجس منه
سببا للحدث; لأن من شرط القياس أن يكون حكم الأصل معقول
المعنى, وأما على كلام صاحب الهداية فلا يوجب صحة قياس
سائر المائعات على الماء في رفع الحدث كما يصح قياسها عليه
في رفع الخبث إذ لا مانع سوى عدم معقولية النص, وأما وجه
الجمع بين الكلامين ودفع المنافاة فهو أن مراد فخر الإسلام
رحمه الله تعالى بعدم معقولية زوال الطهارة عن محل الغسل
أن العقل لا يستقل بإدراك ذلك من غير ورود
(2/207)
النية كالتيمم
فأجاب بأن مسح الرأس ملحق بالغسل ووظيفة الرأس كانت هي
الغسل لكن لدفع الحرج اقتصر على المسح فيكون خلفا عن الغسل
فاعتبر فيه أحكام الأصل "فإن قيل غسل الأعضاء الأربعة غير
معقول" هذا إشكال على قوله: لكن تطهيرها بالماء معقول
"قلنا لما اتصف البدن بها اقتصر على غسل الأطراف في
المعتاد دفعا للحرج وأقر على الأصل في غير المعتاد كالمني
والحيض" أي لما اتصف البدن بالنجاسة بحكم الشرع وجب غسل
جميع البدن; لأن الشرع لما حكم بسراية النجاسة وليس بعض
الأعضاء أولى بالسراية من البعض وجب غسل جميع البدن لكن
سقط البعض في المعتاد دفعا للحرج وبقي غسل الأطراف الأربعة
التي هي أمهات الأعضاء فلا يكون غسل الأعضاء الأربعة غير
معقول فلا تجب النية واعلم أن الإمام فخر الإسلام رحمه
الله تعالى ذكر أن تغير وصف محل الغسل من الطهارة إلى
الخبث غير معقول وقوله في التنقيح فهي غير معقولة إشارة
إلى هذا ويرد عليه أنه لما كان غير معقول لا يصح قياس غير
السبيلين على السبيلين في هذا الحكم وقد ذكر في الهداية أن
مؤثرية خروج النجاسة في زوال الطهارة أمر معقول فعلى تقدير
الهداية لا يرد هذا الإشكال لكن يرد عليه إشكال آخر وهو
أنه لما كان هذا الحكم معقولا ينبغي أن يقاس سائر المائعات
على الماء في تطهير الحدث كما قد قيس في تطهير الخبث.
وجوابه أنه إنما قيس في الخبث باعتبار أنها قالعة لا
باعتبار أنها مطهرة فلا يقاس في الحدث واعلم أنه يمكن
التوفيق بين قول فخر الإسلام رحمه الله تعالى وصاحب
الهداية أن مراد فخر الإسلام رحمه الله تعالى بكونه غير
معقول أن العقل لا يستقل بدركه, ومراد صاحب الهداية بكونه
معقولا أنه إذا علم أن هذا الوصف قد وجد وأن الشرع قد حكم
بهذا الحكم يحكم العقل بأن هذا الحكم إنما هو لأجل هذا
الوصف, وشرط صحة القياس كون الحكم معقولا بهذا المعنى وهو
أعم من الأول فاندفع عن قول فخر الإسلام رحمه الله تعالى
ما ذكرنا من الإشكال وهو أنه يلزم أن لا يصح قياس غير
السبيلين على السبيلين
.........................................................
الشرع إذا لا يعقل أن تنجس اليد أو الوجه بخروج النجاسة من
السبيلين, ومراد صاحب الهداية بمعقولية أن الشارع لما حكم
بزوال الطهارة عن البدن عند خروج النجس من السبيلين أدرك
العقل أن هذا الحكم إنما هو لأجل هذا الوصف وأنه ليس بتعبد
محض لا يقف العقل عن سببه, ولا منافاة بين عدم استقلال
العقل بدرك شيء, وبين إدراكه إياه بمعونة الشرع وبعد
وروده.
وأما حل الإشكالين فالوجه الأول أن المعتبر في القياس هو
المعقولية بمعنى أن يدرك العقل ترتب الحكم على الوصف أعم
من أن يستقل بذلك أو يتوقف على ورود الشرع وهذا حاصل في
زوال الطهارة بخروج النجس من السبيلين فيصح قياس غير
السبيلين وفي الثاني أن قياس المائعات على الماء في رفع
الخبث إنما يصح باعتبار أنها قالعة مزيلة بمنزلة الماء
وهذا لا يوجد في الحدث; لأنه أمر مقدر لا يتصور قلعه لا
باعتبار أنها مطهرة للمحل أي مغيرة له من النجاسة إلى
الطهارة حتى يصح قياس المائعات على الماء في تطهير المحل
عن النجاسة الحكمية وتحقيق ذلك أن النص
(2/208)
الذي جعل الماء
مطهرا عن الحدث غير معقول إذ ليس في أعضاء الوضوء عين
النجاسة لتزال, وإذ لا إزالة حقيقة وعقلا فلا تعدية إلى
سائر المائعات بخلاف الخبث فإن إزالته بالماء أمر معقول
فيتعدى إلى سائر المائعات بجامع القلع والإزالة الحسية,
ولا يخفى أن هذا يناقض ما سبق من أن تطهير النجاسة الحكمية
وإزالتها بالماء معقول ولهذا لم يحتج إلى النية لا يقال
تطهير النجاسة الحكمية معقول في الخبث والحدث إلا أن العلة
في الخبث هي القلع الموجود في الماء وغيره فيصح القياس وفي
الحدث هي التطهير لا القلع وهو لا يوجد في غير الماء; لأنا
نقول التطهير وهو الحكم لا العلة تطهير الحدث إن كان معقول
المعنى فإن كان ذلك المعنى هو كون الماء مزيلا يلزم صحة
قياس المائعات الأخر كما في الخبث وإن كان وصفا غيره يجب
أن يبين حتى ينظر أنه هل يوجد في سائر المائعات أم لا على
أنه لو لم يوجد فيها يلزم التعليل بالعلة القاصرة, ثم
هاهنا نظر.
أما أولا فلأن ما ذكره في وجه التوفيق بعيد جدا; لأن فخر
الإسلام رحمه الله تعالى إنما أورد الكلام المذكور في معرض
الجواب عن قول من قال إن الوضوء تطهير حكمي لا يعقل معناه
فيجب أن يشترط فيه النية كالتيمم. وحاصله أن التطهير
بالماء معقول; لأنه مطهر بطبعه وإنما نعني بالنص الذي لا
يعقل وصف محل الغسل من الطهارة إلى الخبث يعني أن المراد
بالنص الغير المعقول في باب الوضوء هو النص الدال على تغير
المحل من الطهارة إلى النجاسة لا النص الدال على حصول
الطهارة باستعمال الماء وفي بعض النسخ وإنما يغير بالنص أي
أن الثابت بالنص الغير المعقول هو تغير المحل من الطهارة
إلى النجاسة والمقصود واحد, ولا خفاء في أن المعتبر في
القياس هو المعقولية بمعنى أن يدرك العقل معنى الحكم
المنصوص وعلته وأنه لا معنى في المقام لذكر استقلال العقل
بدرك الحكم.
وأما ثانيا فلأن عبارة الهداية هي أن خروج النجاسة مؤثر في
زوال الطهارة وهذا القدر في الأصل أي السبيلين معقول
والاقتصار على الأعضاء الأربعة غير معقول لكنه يتعدى ضرورة
تعدي الأول وهذا لا ينافي أن يكون اتصاف أعضاء الوضوء
بالنجاسة غير معقول على ما ذكره فخر الإسلام رحمه الله
تعالى بل لا يبعد أن يكون قوله وهذا القدر إشارة إلى أن
المعقول هاهنا هو مجرد تأثير خروج النجاسة في زوال الطهارة
لما بينهما من التنافي لا سراية النجاسة إلى جميع البدن
على ما ذهب إليه البعض من أن اتصاف جميع البدن بالنجاسة
معقول بناء على أن الصفة إذا ثبتت في ذات كان المتصف بها
جميع الذات كما في السميع والبصير وإنما لم ينجس الماء
بملاقاة الجنب أو المحدث لمكان الضرورة والحاجة بل السريان
إلى جميع البدن مبني على حكم الشارع بذلك من غير أن يعقل
معناه ولهذا لم يتصف بالنجاسة الحقيقية جميع البدن حيث لم
يحكم الشارع بذلك وإلى هذا أشار المصنف رحمه الله تعالى
بقوله اتصف البدن بالنجاسة بحكم الشرع.
وأما ثالثا فلأن هاهنا حكمين أحدهما زوال الطهارة بخروج
النجس من السبيلين والثاني زوال الحدث بغسل الأعضاء
الأربعة فحين ذهب صاحب الهداية إلى أن الأول معقول دون
الثاني حتى جاز إلحاق غير السبيلين بالسبيلين ولم يجز
إلحاق سائر المانعات بالماء لم يرد عليه شيء من الإشكالين,
وإنما كان يرد عليه الإشكال بزوال الحدث الثابت بخروج
النجس من غير السبيلين
(2/209)
وفي هذا الفصل
فروع أخر طويتها مخافة التطويل.
فصل: في الانتقال.
وهو إنما يكون قبل أن يتم إثبات الحكم الأول فلا يخلو إما
أن ينتقل إلى علة أخرى لإثبات علته أو لإثبات الحكم الأول
أو لإثبات حكم آخر يحتاج إليه الحكم الأول أو ينتقل إلى
حكم كذلك فيثبت الحكم بالعلة الأولى فالأول صحيح.
ـــــــ
"وفي هذا الفصل فروع أخر طويتها مخافة التطويل. فصل في
الانتقال" أي الانتقال من كلام إلى آخر "وهو إنما يكون قبل
أن يتم إثبات الحكم الأول فلا يخلو إما أن ينتقل إلى علة
أخرى لإثبات علته أو لإثبات الحكم الأول أو لإثبات حكم آخر
يحتاج إليه الحكم الأول أو ينتقل إلى حكم كذلك" أي حكم
يحتاج إليه الحكم الأول والانتقال منحصر في هذه الأربعة;
لأنه إما في العلة فقط وهو على قسمين لإثبات علته وهو
الأول أو لإثبات حكمه وهو الثاني حتى لو لم يكن لشيء منهما
كان كلاما حشوا وأما في الحكم فقط وهو الرابع ولا بد أن
يكون حكما يحتاج إليه الحكم الأول وإلا لكان كلاما حشوا
وأما فيهما وهو الثالث "فيثبت الحكم بالعلة الأولى فالأول
صحيح" كما إذا قال الصبي المودع إذا استهلك الوديعة
.........................................................
بغسل الأعضاء الأربعة بطريق التعدية من السبيلين فأجاب بأن
هذا الحكم وإن كان غير معقول إلا أن تعديته إنما تثبت في
ضمن تعدية حكم معقول هو ثبوت الحدث بخروج النجس وهو جائز
كاستواء الجيد مع الرديء في باب الربا يتعدى في ضمن الحكم
المعقول الذي هو حرمة البيع عند التفاضل وإباحتها عند
التساوي. وتحقيق ذلك أن من شرط القياس تماثل الحكمين, وقد
ثبت بخروج النجس من السبيلين حدث يرتفع بغسل الأعضاء
الأربعة فيجب أن يثبت بالخارج من غير السبيلين حكم كذلك
تحقيقا للمماثلة ويرد كلا الإشكالين على المصنف رحمه الله
تعالى حيث ذهب إلى أن تغيير محل الغسل من الطهارة إلى
النجاسة غير معقول وأن تطهيرها بغسل الأعضاء الأربعة معقول
لا يقال المراد بعدم المعقولية أن العقل لا يستقل بدركه
وهذا لا ينافي جواز القياس; لأنا نقول حينئذ لا ينطبق
الجواب على دليل الخصم; لأن المعتبر في الاحتياج إلى النية
أو الاستغناء عنها هو كون الحكم الثابت بالنص تعبديا أو
معقولا بمعنى ألا يدرك العقل معناه أي علته أو يدرك لا
بمعنى أن لا يستقل العقل بإدراك الحكم أو يستقل وأيضا يلزم
أن يكون المراد بقوله لكن تطهيرها بالماء معقول أن الحكم
بتطهير الحدث بالماء مما يستقل العقل بإدراكه, ولا خفاء في
فساد ذلك.
قوله: "وفي هذا الفصل" أي في فصل دفع العلل الطردية فروع
أخر مذكورة في أصول فخر الإسلام رحمه الله تعالى لم يذكرها
المصنف رحمه الله تعالى مخافة التطويل أي الزيادة على
المقصود لا لفائدة فإن مقصود الأصول ليس معرفة فروع
الأحكام ويكفي في توضيح المطلوب إيراد مثال أو مثالين.
قوله: "فصل في الانتقال" أي في انتقال القائس في قياسه من
كلام إلى كلام آخر والكلام
(2/210)
وكذا الثاني
عند البعض كقصة الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال:
{فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ
فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} ولأن الغرض إثبات الحكم
فلا يبالي بأي دليل كان لا عند البعض؛ لأنه لما لم يثبت
الحكم بالعلة الأولى يعد انقطاعا في عرف النظار وأما قصة
الخليل فإن الحجة الأولى كانت ملزومة واللعين عارضه بأمر
ـــــــ
لا يضمن; لأنه مسلط على الاستهلاك. فلما أنكره الخصم احتاج
إلى إثباته فهذا لا يسمى انتقالا حقيقة; لأن الانتقال أن
يترك الكلام الأول بالكلية ويشتغل بآخر كما في قصة الخليل
عليه السلام وإنما أطلق الانتقال على هذا القسم; لأنه ترك
هذا الكلام واشتغل بكلام آخر وإن كان هو دليلا على الكلام
الأول.
"وكذا الثاني عند البعض كقصة الخليل عليه الصلاة والسلام
حيث قال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ
الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} ولأن الغرض
إثبات الحكم فلا يبالي بأي دليل كان لا عند البعض; لأنه
لما لم يثبت الحكم بالعلة الأولى يعد انقطاعا في عرف
النظار وأما
.........................................................
المنتقل إليه إن كان غير علة أو حكم فهو حشو في القياس
خارج عن المبحث وإلا فإما أن يكون في العلة فقط أو الحكم
فقط أو العلة والحكم جميعا, والانتقال في العلة فقط إما أن
يكون لإثبات علة القياس أو لإثبات حكمه إذ لو كان لإثبات
حكم آخر لكان انتقالا في العلة والحكم جميعا والانتقال في
الحكم فقط إن كان إلى حكم لا يحتاج إليه حكم القياس فهو
حشو في القياس خارج عن المقصود, وإن كان إلى حكم يحتاج
إليه حكم القياس فلا بد من أن يكون إثباته بعلة القياس
وإلا لكان انتقالا في العلة والحكم جميعا والانتقال في
العلة والحكم جميعا يجب أن يكون في حكم يحتاج إليه حكم
القياس وإلا لكان حشوا في القياس فصارت أقسام الانتقالات
المعتبرة في المناظرة أربعة: الأول الانتقال إلى علة أخرى
لإثبات علة القياس الثاني الانتقال إلى علة لإثبات حكم
القياس الثالث الانتقال إلى علة أخرى لإثبات حكم آخر يحتاج
إليه حكم القياس الرابع الانتقال إلى حكم يحتاج إليه حكم
القياس بأن يثبت بعلة القياس.
قوله: "يعد انقطاعا في عرف النظار" إشارة إلى أن ذلك من
مصطلحات أهل المناظرة وآدابهم في البحث كي لا يطول الكلام
بالانتقال من دليل إلى دليل وإلا فالانتقال من علة إلى علة
لإثبات حكم شرعي بمنزلة انتقال من بينة إلى بينة أخرى
لإثبات حقوق الناس وهو مقبول بالإجماع صيانة للحقوق, وقد
يقال إن الغرض من المناظرة إظهار الصواب فلو جوزنا
الانتقال لطالت المناظرة بانتقال المعلل من دليل إلى دليل
ولم يظهر الصواب. ولقائل أن يقول لما كان الغرض إظهار
الصواب لزم جواز الانتقال; لأن المقصود إظهار الحق بأي
دليل كان وليس في وسع المعلل الانتقال من دليل إلى آخر لا
إلى نهاية نعم لو انتقل في معرض الاستدلال إلى ما لا يناسب
المطلوب دفعا لظهور إفحامه فهو يكون انقطاعا.
قوله: "وأما قصة الخليل" جواب عن تمسك الفريق الأول
وتقريره أن كلامنا إنما هو فيما إذا بان بطلان دليل المعلل
وانتقل إلى دليل آخر أما إذا صح دليله وكان قدح المعترض
فاسدا إلا أنه
(2/211)
باطل كالبيع
بالخيار والإجارة فإن قيل عندي لا يمنع هذا العقد بل نقصان
الرق فنقول الرق لم ينقص ونثبت هذا بعلة أخرى وإن أثبتناه
بالعلة الأولى فهو نظير الرابع كما نقول احتماله الفسخ
دليل على أن الرق لم ينقص وكلاهما صحيحان والرابع أحق.
ـــــــ
قصة الخليل فإن الحجة الأولى" وهو قوله تعالى: {رَبِّيَ
الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} "كانت ملزومة واللعين عارضه
بأمر باطل" وهو قوله تعالى: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}
"فالخليل عليه السلام لما خاف الاشتباه والتلبيس على القوم
انتقل إلى العلة التي لا يكون فيها اشتباه أصلا والثالث
كقولنا الكتابة عقد يحتمل الفسخ بالإقالة فلا تمنع الصرف
إلى الكفارة" أي إن أعتق المكاتب بنية الكفارة يجوز
"كالبيع بالخيار والإجارة" أي باع عبدا بشرط الخيار يجوز
إعتاقه بنية الكفارة, وكذا إذا آجر عبدا ثم أعتقه بنية
الكفارة "فإن قيل عندي لا يمنع هذا العقد بل نقصان الرق"
أي نقصان الرق يمنع الصرف إلى الكفارة عندي "فنقول الرق لم
ينقص ونثبت هذا" أي عدم نقصان الرق "بعلة أخرى" وهي قوله
الكتابة عقد يحتمل الفسخ فيجوز صرفه إلى الكفارة كما نقول
الكتابة عقد معاوضة فلا توجب نقصانا في الرق "وإن أثبتناه
بالعلة الأولى فهو نظير الرابع كما نقول احتماله الفسخ
دليل على أن الرق لم ينقص وكلاهما صحيحان والرابع أحق"
"لأن العلة التي أوردها تكون تامة في قطع الشبهات بلا
احتياج إلى شيء آخر, وإن انتقل إلى حكم لا حاجة إليه أو
إلى علة لإثبات حكم كذلك فهو باطل".
.........................................................
اشتمل على تلبيس ربما يشتبه على بعض السامعين فلا نزاع في
جواز الانتقال كما في قصة الخليل صلوات الله عليه وسلامه
فإن معارضة اللعين كانت باطلة; لأن إطلاق المسجون وترك
إزالة حياته ليس بإحياء; لأن معناه إعطاء الحياة وجعل
الجماد حيا إلا أن الخليل عليه السلام انتقل إلى دليل أوضح
وحجة أبهر ليكون نورا على نور وإضاءة غب إضاءة ومع ذلك لم
يجعل انتقاله خلوا عن تأكيد للأول وتوضيح وتبكيت للخصم
وتفضيح كأنه قال المراد بالإحياء إعادة الروح إلى البدن
فالشمس بمنزلة روح العالم لإضاءته بها وإظلامه بغروبها فإن
كنت تقدر على إحياء الموتى فأعد روح العالم إليه بأن تأتي
الشمس من جانب المغرب.
(2/212)
فصل: في الحجج الفاسدة
تجب البينة على الشفيع عندنا على ملك المشفوع به إذا أنكره
المشتري وإذا قال لعبده إن لم تدخل الدار اليوم فأنت حر
ولا يدري أنه دخل أم لا فالقول قول المولى عندنا.
ـــــــ
"فصل: في الحجج الفاسدة" الاستصحاب حجة عند الشافعي رحمه
الله تعالى في كل شيء ثبت وجوده بدليل ثم وقع الشك في
بقائه وعندنا حجة للدفع لا للإثبات له أن بقاء الشرائع
بالاستصحاب ولأنه إذا تيقن بالوضوء ثم شك في الحدث يحكم
بالوضوء وفي العكس بالحدث إذا شهدوا أنه كان ملكا للمدعي
فإنه حجة عنده ولنا أن الدليل الموجب لا يدل على البقاء
وهذا ظاهر فبقاء الشرائع بعد وفاته عليه الصلاة والسلام
ليس بالاستصحاب بل; لأنه لا نسخ لشريعته وفي حياته فقد مر
جوابه في النسخ والوضوء والبيع والنكاح, ونحوها يوجب حكما
ممتدا إلى زمان ظهور مناقض فيكون البقاء للدليل وكلامنا
فيما لا دليل على البقاء كحياة المفقود فيرث عنده لا
عندنا; لأن الإرث من باب الإثبات فلا يثبت به ولا يورث;
لأن عدم الإرث من باب الدفع فيثبت به والصلح على الإنكار
ولا يصح عنده فجعل براءة الذمة وهي الأصل حجة على المدعي
فلا يصح الصلح كما بعد اليمين وعندنا يصح لما قلنا إن
الاستصحاب لا يصح حجة للإثبات فلا يكون براءة الذمة حجة
على المدعي فيصح الصلح و "تجب البينة على الشفيع عندنا على
ملك المشفوع به إذا أنكره المشتري"; لأن ملك الشفيع الدار
المشفوع بها ثابت بالاستصحاب فلا يكون حجة على المشتري
فتجب البينة على الشفيع على ملك المشفوع بها لا عنده "وإذا
قال لعبده إن لم تدخل الدار اليوم فأنت حر ولا يدري أنه
دخل أم لا فالقول قول المولى عندنا" فإن العبد تمسك بالأصل
وهو أن الأصل عدم الدخول فلا يصلح حجة لاستحقاق العتق على
المولى.
"ومنها" أي من الحجج الفاسدة "التعليل بالنفي كما ذكرنا في
شهادة النساء" أي في الممانعة في دفع العلل الطردية والأخ
فإنه يمكن الوجود بعلة أخرى إلا أن يثبت بالإجماع أن له
علة واحدة فقط كقول محمد في ولد الغصب إنه غير مضمون; لأنه
لم يغصب الولد
.........................................................
قوله: "فصل" عقب مباحث الأدلة الصحيحة بالأدلة الفاسدة
التي يحتج بها البعض في إثبات الأحكام ليتبين فسادها ليظهر
انحصار الأدلة الصحيحة في الأربعة وهذا غير التمسكات
الفاسدة; لأنها تمسك بالكتاب والسنة لكن بطريق فاسدة غير
صالحة للتمسك فمن الحجج الفاسدة الاستصحاب وهو الحكم ببقاء
أمر كان في الزمان الأول ولم يظن عدمه وهو حجة عند الشافعي
رحمه الله تعالى في كل شيء أي كل أمر نفيا كان أو إثباتا
ثبت وجوده أي تحققه بدليل شرعي ثم وقع الشك في بقائه أي لم
يقع ظن بعدمه وعندنا حجة للدفع دون الإثبات فإن قيل إن قام
دليل على كونه حجة لزم شمول الوجود أعني كونه حجة للإثبات
والدفع وإلا لزم شمول العدم أجيب بأن معنى الدفع أن لا
يثبت حكم وعدم الحكم مستند إلى عدم دليله فالأصل في العدم
الاستمرار حتى يظهر دليل الوجود وذكر بعض الشافعية رحمهم
الله تعالى أن ما يحقق وجوده أو عدمه في زمان ولم يظن
معارض يزيله فإن لزوم ظن بقائه أمر ضروري ولهذا يراسل
العقلاء أهاليهم وبلادهم ربما كانوا يشافقونهم ويرسلون
الودائع والهدايا ويعاملون بما يقتضي زمانا من التجارات
والقروض والديون.
والآخرون استبعدوا دعوى الضرورة في محل الخلاف فتمسكوا
بوجهين أحدهما أن الاستصحاب لو لم يكن حجة لما وقع الجزم
بل الظن ببقاء الشرائع لاحتمال طريان الناسخ, واللازم
(2/213)
ومنها الاحتجاج
بتعارض الأشباه كقول زفر إن غسل المرافق ليس بفرض; لأن من
الغايات ما يدخل وما لا يدخل فلا يدخل بالشك فإن هذا جهل
محض; لأنه لم يعلم أن هذه من أي القسمين.
"باب" المعارضة والترجيح إذا ورد دليلان يقتضي أحدهم عدم
ما يقتضيه الآخر في محل واحد في زمان واحد فإن تساويا قوة,
أو يكون أحدهما أقوى بوصف هو تابع فبينهما المعارضة والقوة
المذكورة رجحان, وإن كان أقوى بما هو غير تابع لا يسمى
رجحانا, فلا يقال النص راجح على القياس من قوله عليه
الصلاة والسلام: "زن وأرجح". "والمراد الفضل القليل لئلا
يلزم الربا في قضاء الديون فيجعل ذلك عفوا"; لأنه لقلته في
حكم العدم بالنسبة إلى المقابل. "والعمل بالأقوى وترك
الآخر واجب في الصورتين" أي فيما إذا كان أحدهما أقوى بوصف
هو تابع وفيما إذا كان أحدهما أقوى بما هو غير تابع "وإذا
تساويا قوة" واعلم أن الأقسام ثلاثة: الأول: أن يكون أحد
الدليلين أقوى من الآخر بما هو غير تابع كالنص مع القياس.
والثاني: أن يكون أحدهما أقوى يوصف بما هو تابع كما في خبر
الواحد الذي يرويه عدل فقيه مع خبر الواحد الذي يرويه عدل
غير فقيه. والثالث: أن يكونا متساويين قوة ففي القسمين
الأولين العمل بالأقوى وترك الآخر واجب, وأما الثالث فيأتي
حكمه هنا, وهو قوله: في المتن, وإذا تساويا قوة فالمعارضة
تختص بالقسم الثاني والثالث أما الأول فبمعزل
.........................................................
باطل للقطع ببقاء شرع عيسى عليه الصلاة والسلام إلى زمن
نبينا صلى الله عليه وسلم وبقاء شرعه أبدا. وثانيهما
الإجماع على اعتبار الاستصحاب في كثير من الفروع مثل بقاء
الوضوء والحدث والملكية والزوجية فيما إذا ثبت ذلك ووقع
الشك في طريان الضد.
وأجيب عن الأول بأنا لا نسلم أنه لولا الاستصحاب لما حصل
الجزم ببقاء الشرائع بل يجوز أن يحصل الجزم ببقائها والقطع
بعدم نسخها بدليل آخر وهو في شريعة عيسى عليه السلام تواتر
نقلها وتواطؤ جميع قومه على العمل بها إلى زمن نبينا عليه
الصلاة والسلام وفي شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام
الأحاديث الدالة على أنه لا نسخ لشريعته فإن قيل هذا إنما
يصح فيما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام, وأما الدليل على
بقاء الحكم وعدم انتساخه في حال حياته فهو الاستصحاب لا
غير قلنا قد سبق في بحث النسخ أن النص يدل على شرعية موجبة
قطعا إلى زمان نزول الناسخ وعدم بيان النبي عليه الصلاة
والسلام للناسخ دليل على عدم نزوله إذ لو نزل لبينه قطعا
لوجوب التبليغ والتبيين عليه.
وعن الثاني بأن الفروع المذكورة ليست مبنية على الاستصحاب
بل على أن الوضوء والبيع والنكاح ونحو ذلك يوجب أحكاما
ممتدة إلى زمان ظهور المناقض كجواز الصلاة وحل الانتفاع
والوطء وذلك بحسب وضع الشارع فبقاء هذه الأحكام مستندة إلى
تحقق هذه الأفعال مع عدم ظهور المناقض لا إلى كون الأصل
فيها هو البقاء ما لم يظهر المزيل والمنافي على ما هو قضية
الاستصحاب وهذا ما يقال إن الاستصحاب حجة لإبقاء ما كان
على ما كان لا لإثبات ما لم يكن, ولا للإلزام على الغير
واستدل على أن الاستصحاب لا يصلح حجة للإثبات بأن الدليل
الموجب للحكم لا يدل على البقاء, وهذا ظاهر ضرورة أن بقاء
الشيء غير وجوده; لأنه عبارة عن استمرار
(2/214)
ومنها التعليل
بالنفي كما ذكرنا في شهادة النساء والأخ فإنه يمكن الوجود
بعلة أخرى إلا أن يثبت بالإجماع أن له علة واحدة فقط كقول
محمد في ولد الغصب إنه غير مضمون؛ لأنه لم يغصب الولد
ومنها الاحتجاج بتعارض الأشباه كقول زفر إن غسل المرافق
ليس بفرض؛ لأن من الغايات ما يدخل وما لا يدخل فلا يدخل
بالشك فإن هذا جهل محض؛ لأنه لم يعلم أن هذه من أي
القسمين. باب المعارضة والترجيح إذا ورد دليلان يقتضي
أحدهم عدم ما يقتضيه
ـــــــ
عنها وإن كان العمل بالأقوى واجبا لكن لا يسمى هذا ترجيحا
فالترجيح إنما يكون بعد المعارضة فيختص بالقسم الثاني
.........................................................
الوجود بعد الحدوث وربما يكون الشيء موجبا لحدوث الشيء دون
استمراره واعترض بأنه إن أريد عدم الدلالة بطريق القطع فلا
نزاع وإن أريد بطريق الظن فممنوع ودعوى الضرورة والظهور في
محل النزاع غير مسموع خصوصا فيما يدعي الخصم بداهة نقيضه
وأيضا لا ندعي أن موجب الحكم يدل على البقاء بل إن سبق
الوجود مع عدم ظن المنافي المدافع يدل على البقاء بمعنى
أنه يفيد ظن البقاء والظن واجب الاتباع وبهذا يظهر أن قوله
وكلامنا فيما لا دليل على البقاء غير مستقيم; لأن كلام
الخصم ليس في ذلك وكيف يحكم بالشيء بدون دليل وإنما الكلام
في أن سبق الوجود مع عدم ظن المنافي والمدافع هل هو دليل
على البقاء.
قوله: "والصلح على الإنكار" أي مع إنكار المدعى عليه لا
يصح عند الشافعي رحمه الله تعالى; لأن كون الأصل براءة
الذمة حجة على المدعي بمنزلة اليمين فإن قيل هذا حجة لدفع
حق المدعي فينبغي أن يكون مسموعا بالاتفاق قلنا بل لإلزام
المدعي وإثبات براءة ذمة المدعى عليه.
قوله: "ومنها التعليل بالنفي" كما يقال لا يثبت النكاح
بشهادة النساء مع الرجال; لأنه ليس بمال كالحد وكما يقال
الأخ لا يعتق على أخيه عند الدخول في ملكه لعدم البعضية
كابن العم فإن عدم المالية لا يوجب الحكم بعدم الثبوت
بشهادة النساء مع الرجال, وكذا عدم البعضية لا يوجب الحكم
بعدم العتق لجواز أن يتحقق كل منهما بعلة أخرى اللهم إلا
إذا ثبت بالإجماع أن العلة واحدة فقط فحينئذ يلزم من عدمها
عدم الحكم كما يقال ولد المغصوب لا يضمن; لأنه ليس بمغصوب
إذ لا يصح أن يثبت الضمان بعلة أخرى للإجماع على أن علة
الضمان هاهنا هو الغصب لا غير. واعلم أنه لا قائل بأن
التعليل بالنفي إحدى الحجج الشرعية بمنزلة الاستصحاب حتى
يعد في هذا الفصل بل هو تمسك بقياس فاسد بمنزلة الأقيسة
الطردية وغيرها وبمنزلة التمسكات الفاسدة بالكتاب والسنة,
وأما إذا ثبت بنص أو إجماع أن العلة واحدة فهو استدلال
صحيح مرجعه إلى النص أو الإجماع كما إذا ثبت بين أمرين
تلازم أو تناف فيستدل من وجود الملزوم على وجود اللازم أو
من انتفاء اللازم على انتفاء الملزوم أو من ثبوت أحد
المتنافيين على انتفاء الآخر, وكذا الكلام في تعارض
الأشباه فإنه ترجيح فاسد لأحد القياسين لا حجة برأسها.
قوله: "باب المعارضة والترجيح" لما كانت الأدلة الظنية قد
تتعارض, فلا يمكن إثبات الأحكام بها إلا بالترجيح ذلك
بمعرفة جهاته عقب مباحث الأدلة بمباحث التعارض والترجيح
تتميما للمقصود,
(2/215)
الآخر في محل
واحد في زمان واحد فإن تساويا قوة، أو يكون أحدهما أقوى
بوصف هو تابع فبينهما المعارضة والقوة المذكورة رجحان، وإن
كان أقوى بما هو غير تابع لا يسمى رجحانا، فلا يقال النص
راجح على القياس من قوله عليه الصلاة والسلام: "زن وأرجح".
والمراد الفضل القليل لئلا يلزم الربا في قضاء الديون
فيجعل ذلك عفوا؛ والعمل بالأقوى وترك الآخر واجب في
الصورتين وإذا تساويا قوة.
ـــــــ
وتعارض الدليلين كونهما بحيث يقتضي أحدهما ثبوت أمر والآخر
انتفاءه في محل واحد في زمان واحد بشرط تساويهما في القوة,
أو زيادة أحدهما بوصف هو تابع. واحترز باتحاد المحل عما
يقتضي حل المنكوحة وحرمة أمها وباتحاد الزمان عن مثل حل
وطء المنكوحة قبل الحيض وحرمته عند الحيض وبالقيد الأخير
عما إذا كان أحدهما أقوى بالذات كالنص والقياس إذ لا تعارض
بينهما. ولقائل أن يقول: إن أريد اقتضاء أحدهما عدم ما
يقتضيه الآخر بعينه حتى يكون الإيجاب واردا على ما ورد
عليه النفي, فلا حاجة إلى اشتراط اتحاد المحل والزمان
لتغاير حل المنكوحة وحل أمها, وكذا الحل قبل الحيض, وعنده
وإلا فلا بد من اشتراط أمور أخرى مثل اتحاد المكان والشرط
ونحو ذلك مما لا بد منه في تحقق التناقض. وجوابه أن اشتراط
اتحاد المحل والزمان زيادة توضيح وتنصيص على ما هو ملاك
الأمر في باب التناقض, فإنه كثيرا ما يندفع الترجيح
باختلاف المحل والزمان, ثم التعارض لا يقع بين القطعيين
لامتناع وقوع المتنافيين, ولا يتصور الترجيح; لأنه فرع
التفاوت في احتمال النقيض, فلا يكون إلا بين الظنيين. وفي
قوله: فإن تساويا قوة إشارة إلى جواز تحقق التعارض من غير
ترجيح على ما هو الصحيح إذ لا مانع من ذلك والحكم حينئذ هو
التوقف وجعل الدليلين بمنزلة العدم لا يلزم اجتماع
النقيضين, أو ارتفاعهما, أو التحكم كما لا يلزم شيء من ذلك
عند عدم شيء من الدليلين.
والترجيح في اللغة جعل الشيء راجحا أي فاضلا زائدا ويطلق
مجازا على اعتقاد الرجحان. وفي الاصطلاح بيان الرجحان أي
القوة التي لأحد المتعارضين على الآخر, وهذا معنى قولهم:
هو اقتران الدليل الظني بأمر يقوى به على معارضه واشترط أن
يكون تابعا حتى لو قوي أحدهما بما هو غير تابع له لا يكون
رجحانا, فلا يقال: النص راجح على القياس لعدم التعارض,
وهذا مأخوذ من معناه اللغوي, وهو إظهار زيادة أحد المثلين
على الآخر وصفا لا أصلا من قولك رجحت الوزن إذا زدت جانب
الموزون حتى مالت كفته, فلا بد من قيام التماثل أولا, ثم
ثبوت الزيادة بما هو بمنزلة التابع والوصف بحيث لا تقوم به
المماثلة ابتداء, ولا يدخل تحت الوزن منفردا عن المزيد
عليه قصدا في العادة. قال الإمام السرخسي رحمه الله تعالى:
لا تسمى زيادة درهم على العشرة في أحد الجانبين رجحانا;
لأن المماثلة تقوم به لا أصلا وتسمى زيادة الحبة ونحوها
رجحانا; لأن المماثلة لا تقوم بها عادة, وهذا من قوله عليه
الصلاة والسلام للوزان حين اشترى سراويل بدرهمين: "زن
وأرجح, فإنا معاشر الأنبياء هكذا نزن", فمعنى "ارجح" زد
عليه فضلا قليلا يكون تابعا له بمنزلة الأوصاف كزيادة
الجودة لا قدرا يقصد بالوزن عادة للزوم الربا في قضاء
الديون إذ لا يجوز أن يكون هبة لبطلان هبة المشاع فظهر أن
جعله بمنزلة الجودة أولى من جعله في حكم العدم
(2/216)
ففي الكتاب
والسنة يحمل ذلك على فسخ أحدهما الآخر إذ لا تناقض بين
أدلة الشرع؛ لأنه دليل الجهل فإن علم التاريخ وإلا يطلب
المخلص ويجمع بينهما ما أمكن ويسمى عملا بالشبهين فإن تيسر
فيها وإلا يترك ويصار من الكتاب إلى السنة ومنها إلى
ـــــــ
"ففي الكتاب والسنة" أي في معارضة الكتاب الكتاب والسنة
السنة "يحمل ذلك على فسخ أحدهما الآخر إذ لا تناقض بين
أدلة الشرع; لأنه دليل الجهل". واعلم أن في الكتاب والسنة
حقيقة التعارض غير متحققة لأنه إنما يتحقق التعارض إذا
اتحد زمان ورودهما, ولا شك أن الشارع تعالى وتقدس منزه عن
تنزيل دليلين متناقضين في زمان واحد بل ينزل
.........................................................
على ما ذهب إليه المصنف رحمه الله تعالى; لأنه أوفى بتحقيق
معنى التبعية.
قوله: "والعمل بالأقوى" يعني إذا دل دليل على ثبوت شيء
والآخر على انتفائه فإما أن يتساويا في القوة, أو لا وعلى
الثاني إما أن تكون زيادة أحدهما بما هو بمنزلة التابع, أو
لا ففي الصورة الأولى معارضة, ولا ترجيح. وفي الثانية
معارضة مع ترجيح. وفي الثالثة لا معارضة حقيقة, فلا ترجيح
لابتنائه على التعارض المنبئ عن التماثل, وحكم الصورتين
الأخيرتين أن يعمل بالأقوى ويترك الأضعف لكونه في حكم
العدم بالنسبة إلى الأقوى, وأما الصورة الأولى أعني تعارض
الدليلين المتساويين في القوة سواء تساويا في العدد
كالتعارض بين آية وآية, أو لا كالتعارض بين آية وآيتين, أو
سنة وسنتين, أو قياس وقياسين, فإن ذلك أيضا من قبيل
المتساويين إذ لا ترجيح, ولا قوة بكثرة الأدلة حتى لا يترك
الدليل الواحد بالدليلين فحكمها أنه إن كان التعارض بين
قياسين يعمل بأيهما شاء, وإن كان بين آيتين, أو قراءتين,
أو سنتين قوليين, أو فعليين مختلفين, أو آية وسنة في قوتها
كالمشهور والمتواتر, فإن عم المتأخر منهما فناسخ إذ لو لم
يصلح المتأخر ناسخا كخبر الواحد المتأخر عن الكتاب, أو
السنة المشهورة, فهو ليس من قبيل تعارض التساوي بل المتقدم
راجح وإلا فإن أمكن الجمع بينهما باعتبار مخلص من الحكم,
أو المحل, أو الزمان فذاك وإلا يترك العمل بالدليلين
وحينئذ إن أمكن المصير من الكتاب, إلى السنة, ومنها إلى
القياس وقول الصحابي يصار إليه وإلا تقرر الحكم على ما كان
عليه قبل ورود الدليلين, وهذا معنى تقرير الأصول. وفي
الكلام إشارة إلى أن النسخ لا يجري بين القياسين إذ لا
يتصور فيهما التقدم والتأخر, وأنه لا يقع التعارض بين
الإجماع وبين دليل آخر قطعي من نص, أو إجماع إذ لا ينعقد
إجماع مخالف لقطعي, وأنه لا ترتيب بين القياس وقول الصحابي
بل هما في مرتبة واحدة يعمل بأيهما شاء بشرط التحري كما في
القياسين.
وعند من أوجب تقليد الصحابي, ولو لم يدرك بالقياس يجب
المصير إليه, أولا, ثم إلى القياس على ما ذكره فخر الإسلام
رحمه الله تعالى في شرح التقويم من أنه إن وقع التعارض بين
سنتين فالميل إلى أقوال الصحابي, وإن وقع بينهما فالميل
إلى القياس, ولا تعارض بين القياس وبين قول الصحابي. مثال
المصير إلى السنة عند تعارض الآيتين قوله تعالى:
{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} وقوله تعالى:
{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ
وَأَنْصِتُوا} تعارضا فصرنا إلى قوله عليه
(2/217)
القياس وأقوال
الصحابة رضي الله تعالى عنهم إن أمكن ذلك وإلا يجب تقرير
الأصل على ما كان في سؤر الحمار عند تعارض الآثار.
ـــــــ
أحدهما سابقا والآخر متأخرا ناسخا للأول لكنا لما جهلنا
المتقدم والمتأخر توهمنا التعارض لكن في الواقع لا تعارض.
فقوله: يحمل ذلك الإشارة ترجع إلى التعارض والمراد صورة
التعارض وهي ورود دليلين يقتضي أحدهما عدم ما يقتضيه
الآخر. "فإن علم التاريخ" جواب لشرط محذوف أي يكون المتأخر
ناسخا للمتقدم "وإلا يطلب المخلص" أي يدفع المعارضة "ويجمع
بينهما ما أمكن ويسمى عملا بالشبهين فإن تيسر فيها وإلا
يترك ويصار من الكتاب إلى السنة ومنها إلى القياس وأقوال
الصحابة رضي الله تعالى عنهم إن أمكن ذلك وإلا يجب تقرير
الأصل على ما كان في سؤر الحمار عند تعارض الآثار" روي عن
ابن عمر رضي الله عنهما أنه نجس, وروي عن ابن عباس رضي
الله عنهما أنه طاهر, وأيضا قد تعارضت الأدلة في حرمة لحمه
وحله, فلما تعارضت الأدلة يبقى الحكم على ما كان, وهو أن
الماء كان طاهرا فيكون طاهرا, ولا يزيل الحدث لوقوع الشك
في زوال الحدث, فلا يزول بالشك.
"وهو" أي التعارض في الكتاب والسنة "إما بين آيتين, أو
قراءتين, أو سنتين, أو آية, أو
.........................................................
الصلاة والسلام: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة"
1. ومثال المصير إلى القياس عند تعارض السنتين ما روى
النعمان بن بشير أن النبي عليه الصلاة والسلام صلى صلاة
الكسوف كما تصلون ركعة وسجدتين وما روت عائشة رضي الله
تعالى عنها أنه عليه الصلاة والسلام صلاها ركعتين بأربع
ركعات وأربع سجدات تعارضا فصرنا إلى القياس على سائر
الصلوات.
وهاهنا بحث, وهو أنهم صرحوا بأنه لا عبرة بكثرة الأدلة بل
بقوتها حتى لو كانت في جانب آية وفي جانب آيتان, أو في
جانب حديث وفي الآخر حديثان لا يترك الآية الواحدة, أو
الحديث الواحد بل يصار من الكتاب إلى السنة, ومن السنة إلى
القياس إذ لا ترجيح بالكثرة ويلزم من هذا ترجيح الآية
والسنة على الآيتين فيما إذا كان الحديث موافقا للآية
الواحدة, وكذا ترجيح السنة والقياس على حديثين, وهذا بعيد
جدا; لأنه إن كان باعتبار تقوي الآية بالسنة, أو تقوي
السنة بالقياس, فإذا جاز تقوي الدليل بما هو دونه فلم لا
يجوز تقويه بما هو مثله, وإن كان باعتبار تساقط المتعارضين
ووقوع العمل بالسنة, أو القياس السالم عن المعارض فلم لا
يجوز تساقط الآيتين ووقوع العمل بالآية السالمة عن
المعارض, وكذا في السنة. وغاية ما يمكن في هذا المقام أن
يقال: إن الأدنى يجوز أن يصير بمنزلة التابع للأقوى فيرجحه
بخلاف المماثل, أو يقال: إن القياس يعتبر متأخرا عن السنة
والسنة عن الكتاب فالمتعارضان يتساقطان ويقع العمل
بالمتأخر وإلى هذا يشير كلام السرخسي رحمه الله تعالى.
قوله: "لأنه إنما يتحقق التعارض إذا اتحد زمان ورودهما"
ليس المراد أن تعارض الدليلين
ـــــــ
1 رواه ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 13.
(2/218)
وهو إما بين
آيتين، أو قراءتين، أو سنتين، أو آية، أو سنة مشهورة
والمخلص إما من قبل الحكم والمحل، أو الزمان أما الأول
فإما أن يوزع الحكم كقسمة المدعى بين المدعين، أو بأن يحمل
على تغاير الحكم كقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ
بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ
بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وفي موضع آخر: {وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ
فَكَفَّارَتُهُ} الآية اللغو في الأولى ضد كسب القلب بدليل
اقترانه به وفي الثانية ضد العقد والعقد قول يكون له حكم
في المستقبل كالبيع ونحوه.
ـــــــ
سنة مشهورة والمخلص إما من قبل الحكم والمحل, أو الزمان
أما الأول فإما أن يوزع الحكم كقسمة المدعى بين المدعين,
أو بأن يحمل على تغاير الحكم كقوله تعالى: {لَا
يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وفي
موضع آخر: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ
الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} الآية اللغو في الأولى ضد
كسب القلب" أي السهو. "بدليل اقترانه به" أي بكسب القلب
حيث قال: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ} "وفي الثانية ضد العقد" أي في الآية الثانية
وهي: قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ
فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا
عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} باللغو ضد العقد بدليل اقترانه
بالعقد. "والعقد قول يكون له حكم في المستقبل كالبيع
ونحوه" قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} فاللغو في هذه الآية ما يخلو عن
الفائدة وقد جاء اللغو بهذا المعنى كما ذكر في المتن
فاللغو يكون شاملا للغموس في
.........................................................
وتناقض القضيتين موقوف على اتحاد زمان ورودهما والتكلم
بهما على ما سبق إلى بعض الأوهام العامية من أن المراد
باتحاد الزمان في التناقض زمان التكلم بالقضيتين, وإنما
المراد زمان نسبة القضيتين حتى لو قيل في زمان واحد: زيد
قائم الآن زيد ليس بقائم غدا لم يكن تناقضا, ولو قيل: زيد
قائم وقت كذا, ثم قيل: بعد سنة: إنه ليس بقائم في ذلك
الوقت كان تناقضا بل المقصود أن الدليلين إنما يتعارضان
بحيث يحتاج إلى مخلص إذا لم يعلم تقدم أحدهما على الآخر إذ
لو علم لكان المتأخر ناسخا للمتقدم, ولا شك أن الدليلين
المتدافعين لا يصدران من الشارع إلا كذلك.
قوله: "كما في سؤر الحمار" قيل: الشك في الطهارة لتعارض
الآثار في ذلك على ما روي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله
تعالى عنهما وتعارض الأخبار كما روي عن جابر أن النبي عليه
الصلاة والسلام سئل: أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: "نعم".
وبما أفضلت السباع؟ قال: "لا" وروى أنس رضي الله تعالى
عنه: أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن لحوم الحمر
الأهلية, فإنها رجس, وهذا يوجب نجاسة السؤر لمخالطة اللعاب
المتولد من اللحم النجس, فإن أوثرت الطهارة قياسا على
العرق في ظاهر الرواية أوثرت النجاسة قياسا على اللبن في
أصح الروايتين وقيل: الشك في الطهورية لاختلاف الأخبار في
حرمة لحم الحمار وإباحته والاشتباه في اللحم يورث الاشتباه
في السؤر لمخالطته اللعاب المتولد منه, وهذا ضعيف; لأن
أدلة الإباحة لا تساوي أدلة الحرمة في القوة حتى أن حرمته
مما يكاد يجمع عليه, كيف ولو تعارضتا لكان دليل التحريم
راجحا
(2/219)
فاللغو في
الآية الثانية يشمل الغموس إذ هو ما يخلو عن الفائدة كقوله
تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} وقوله تعالى:
{وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ} فأوجب عدم المؤاخذة فوقع
التعارض فجمعنا بينهما بأن المراد من المؤاخذة في الأولى
في الآخرة بدليل اقترانه بكسب القلب وفي الثانية في الدنيا
أي بالكفارة فقال فكفارته. والشافعي رحمه الله تعالى يحمل
المؤاخذة في الآية الأولى على المؤاخذة في الثانية أي في
الدنيا والعقد
ـــــــ
هذه الآية فتقتضي هذه الآية عدم المؤاخذة في الغموس والآية
الأولى تقتضي المؤاخذة في الغموس; لأن الغموس من كسب القلب
والمؤاخذة ثابتة في كسب القلب فوقع التعارض في الغموس,
وهذا ما قاله في المتن.
"فاللغو في الآية الثانية يشمل الغموس إذ هو ما يخلو عن
الفائدة كقوله: تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} :
وقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ} فأوجب عدم
المؤاخذة فوقع التعارض فجمعنا بينهما بأن المراد من
المؤاخذة في الأولى في الآخرة بدليل اقترانه بكسب القلب
وفي الثانية في الدنيا أي بالكفارة فقال فكفارته. والشافعي
رحمه الله تعالى يحمل المؤاخذة في
.........................................................
كما في الضبع حيث يحكم بنجاسة سؤره, وقد يقال: إنه لا خلاف
في المعنى; لأن الشك في الطهورية إنما نشأ من اختلاف
الآثار في الطهارة والنجاسة فالرجوع إلى الأصل على
التقديرين هو أن يحكم بطهارة الماء وعدم طهوريته; لأنه كان
طاهرا بيقين والمتوضئ محدث فلا تزول بالشك طهارة الماء ولا
حدث المتوضئ, وإنما لم يحكم ببقاء الطهورية; لأنه يلزم منه
الحكم بزوال الحدث بالشك إذ لا معنى للطهورية إلا هذا
فيكون إهدارا لأحد الدليلين بالكلية لا تقريرا للأصول,
وإذا لم يكن بد من أدنى عدول عن الأصل ضرورة امتناع الحكم
ببقاء الطهورية في الماء والحدث في المتوضئ أخذ بالأقل
والتزم الحكم بسلب الطهورية إذ ليس فيه إهدار أحد الدليلين
بالكلية بخلاف ما إذا حكم ببقاء الطهورية.
وإلى ما ذكرنا من تقارب الشك في الطهارة والنجاسة, أو
الطهورية وعدمها يشير كلام المصنف رحمه الله تعالى حيث صرح
أولا بأن الاختلاف في الطهارة والنجاسة وأشار ثانيا إلى أن
الشك في الطهورية حيث قال ولا يزيل الحدث لوقوع الشك في
زوال الحدث فظهر أن ليس معنى الشك أن الحكم غير معلوم, ولا
مظنون بل معناه تعارض الأدلة ووجوب الوضوء بسؤر الحمار حيث
لا ماء سواه, ثم ضم التيمم إليه, وهذا حكم معلول, وكذا
الحكم بطهارته وذكر شيخ الإسلام في المبسوط أن الاختلاف في
الطهارة والنجاسة لا يورث الاشتباه كما إن أخبر عدل
بطهارته وآخر بنجاسته, فإنه طاهر, ولا إشكال في حرمة لحمه
ترجيحا لجانب الحرمة إلا أنه لم ينجس الماء لما فيه من
الضرورة والبلوى إذ الحمار يربط في الدور والأفنية فيشرب
من الأواني إلا أن الهرة تدخل المضايق فتكون الضرورة فيها
أشد فالحمار لم يبلغ في الضرورة حد الهرة حتى يحكم بطهارة
سؤره, ولا في عدم الضرورة حد الكلب حتى يحكم بنجاسة سؤره
فبقي أمره مشكلا, وهذا أحوط من الحكم بالنجاسة; لأنه حينئذ
لا يضم إلى التيمم فيلزم التيمم مع وجود الماء الطهور
احتمالا.
(2/220)
في الثانية على
كسب القلب الذي ذكر في الأولى وأقول لا تعارض هنا واللغو
في الصورتين واحد، وهو ضد الكسب؛ لأنه لا يليق من الشارع
أن يقول: لا يؤاخذكم الله تعالى بالغموس والمؤاخذة في
الصورتين في الآخرة لكن في الثانية سكت عن
ـــــــ
الآية الأولى على المؤاخذة في الثانية أي في الدنيا" أي
يحمل المؤاخذة في الآية الأولى على المؤاخذة في الآية
الثانية وهي المؤاخذة في الدنيا حتى أوجب الكفارة في
الغموس. "والعقد في الثانية على كسب القلب الذي ذكر في
الأولى" أي يحمل الشافعي رحمه الله تعالى العقد في الآية
الثانية على كسب القلب حتى يكون اللغو هو عين اللغو
المذكور في الآية الأولى, وهو السهو, فلا يكون التعارض
واقعا لكن ما قلنا أولى من هذا; لأن على مذهبه يلزم أن لا
يكون العقد مجرى على معناه الحقيقي وأيضا الدليل دال على
أن المؤاخذة في الآية الأولى هي المؤاخذة الأخروية بدليل
اقترانها بكسب القلب, وهو يحملها على الدنيوية, وأما على
.........................................................
قوله: "وهو إما بين آيتين, أو قراءتين" يعني في آية واحدة
كقراءتي الجر والنصب في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا
بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ}, فإن الأولى تقتضي مسح
الرجل والثانية غسلها على ما هو المذهب. فإن قيل: الجر
محمول على الجواز, وإن كان عطفا على المغسول توفيقا بين
القراءتين كما في قولهم: جحر ضب خرب وماء شن بارد وقول
زهير:
لعب الرياح بها وغيرها ... بعدي سوافي المور والقطر
فإن القطر معطوف على سوافي والجر بالجوار وقول الفرزدق:
فهل أنت إن ماتت أتانك راكب ... إلى آل بسطام بن قيس فخاطب
بخفض خاطب على الجوار مع عطفه على راكب عورض بأن النصب
محمول على العطف على المحل جمعا بين القراءتين كما قوله:
يذهبن في نجد وغورا غائرا على ما هو اختيار المحققين من
النحاة, وهو إعراب شائع مستفيض مع ما فيه من اعتبار العطف
على الأقرب وعدم وقوع الفصل بالأجنبي. والوجه أنه في
القراءتين معطوف على "رءوسكم" إلا أن المراد بالمسح في
الرجل هو الغسل بقرينة قوله: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} إذ
المسح يضرب له غاية في الشرع فيكون من قبيل المشاكلة كما
في قوله: قلت اطبخوا لي جبة وقميصا. وفائدته التحذير عن
الإسراف المنهي عنه إذ الأرجل مظنة الإسراف بصب الماء
عليها فعطفت على الممسوح لا لتمسح لكن لينبه على وجوب
الاقتصار كأنه قيل: واغسلوا أرجلكم غسلا خفيفا شبيها
بالمسح فالمسح المعبر به عن الغسل هو المقدر الذي يدل عليه
الواو, فلا يلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد,
وإنما حمل على ذلك لما اشتهر من أن النبي عليه الصلاة
والسلام وأصحابه كانوا يغسلون أرجلهم في الوضوء مع أن في
الغسل مسحا وزيادة إذ لا إسالة بدون الإصابة, وأن المقصود
من الوضوء هو التطهير وذلك في الغسل, ومسح الرأس خلف عنه
تخفيفا ففي إيثار الغسل جمع بين الأدلة وموافقة للجماعة
وتحصيل للطهارة وخروج عن العهدة بيقين.
(2/221)
الغموس وذكر
المنعقدة واللغو وقال الإثم الذي في المنعقدة يستر
بالكفارة لا أن المراد المؤاخذة في الدنيا وهي الكفارة.
ـــــــ
مذهبنا فإن اللغو جاء لمعنيين فيحمل في كل موضع على ما هو
أليق به وتحمل المؤاخذة في كل موضع على ما هو أليق به من
الدنيوية, أو الأخروية. "وأقول لا تعارض هنا واللغو في
الصورتين واحد, وهو ضد الكسب; لأنه لا يليق من الشارع أن
يقول: لا يؤاخذكم الله تعالى بالغموس والمؤاخذة في
الصورتين في الآخرة لكن في الثانية سكت عن الغموس وذكر
المنعقدة واللغو وقال الإثم الذي في المنعقدة يستر
بالكفارة لا أن المراد المؤاخذة في الدنيا وهي الكفارة"
هذا وجه وقع في خاطري لدفع التعارض. واللغو في الآيتين
واحد, وهو السهو أما في الآية الأولى فبدليل اقترانه بكسب
القلب, وأما في الآية الثانية فلأنه لا يليق من الشارع أن
يقول: لا يؤاخذكم الله بالقول الخالي عن الفائدة الذي يدع
الديار بلاقع أعني اليمين الفاجرة بل اللائق أن يقول: لا
يؤاخذكم الله بالسهو كما قال الله تعالى: {رَبَّنَا لا
تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} والمراد
بالمؤاخذة المؤاخذة الأخروية; لأن الآخرة هي دار الجزاء
والمؤاخذة. وقوله: {فَكَفَّارَتُهُ} لا يدل على أن المراد
المؤاخذة الدنيوية; لأن معنى الكفارة الستارة أي الإثم
الحاصل بالمنعقدة يستر بالكفارة والآية الثانية دلت على
عدم المؤاخذة في اليمين السهو وعلى المؤاخذة في المنعقدة
وهي ساكتة عن الغموس فاندفع التعارض وثبت الحكم على وفق
مذهبنا, وهو عدم الكفارة في الغموس.
"وأما الثاني" وهو المخلص من قبل المحل "فبأن يحمل على
تغاير المحل كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى
يَطْهُرْنَ} بالتشديد والتخفيف فبالتخفيف يوجب الحل بعد
الطهر قبل
.........................................................
قوله: "والمخلص" يعني قد اعتبر في التعارض اتحاد الحكم
والمحل والزمان, فإذا تساوى المتعارضان, ولم يمكن تقوية
أحدهما يطلب المخلص من قبل الحكم, أو المحل, أو الزمان بأن
يدفع اتحاده أما الأول أي المخلص من قبل الحكم فعلى وجهين:
أحدهما: التوزيع بأن يجعل بعض أفراد الحكم ثابتا بأحد
الدليلين وبعضها منفيا بالآخر كقسمة المدعى بين المدعيين
بحجتيهما. وثانيهما: التغاير بأن يبين مغايرة ما ثبت بأحد
الدليلين لما انتفى بالآخر كما في قوله تعالى: {لَا
يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ
وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}, وفي
موضع آخر: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ
الْأَيْمَانَ} فالأولى توجب المؤاخذة على اليمين الغموس;
لأنه من كسب القلب أي القصد والثانية توجب عدم المؤاخذة
عليها; لأنها من اللغو, وهو ما لا يكون له حكم وفائدة إذ
فائدة اليمين المشروعة تحقيق البر والصدق وذلك لا يتصور في
الغموس.
والمخلص أن يقال: المؤاخذة التي توجبها الآية الأولى على
الغموس هي المؤاخذة في الآخرة والتي تنفيها الثانية هي
المؤاخذة في الدنيا أي لا يؤاخذكم الله بالكفارة في اللغو
ويؤاخذكم
(2/222)
وأما الثاني
فبأن يحمل على تغاير المحل كقوله تعالى: {وَلا
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتشديد والتخفيف
فبالتخفيف يوجب الحل بعد الطهر قبل الاغتسال وبالتشديد
يوجب الحرمة قبل الاغتسال فحملنا المخفف على العشرة
والمشدد على الأقل.
وأما الثالث فإنه إذا كان صريح اختلاف الزمان يكون الثاني
ناسخا للأول فكذا إن كان دلالته كنصين أحدهما محرم والآخر
مبيح يجعل المحرم ناسخا؛ لأن قبل البعثة كان الأصل الإباحة
والمبيح ورد لإبقائه ثم المحرم نسخه، ولو جعلنا على العكس
يتكرر النسخ لأن الإباحة الأصلية ليست حكما شرعيا، فلا
تكون الحرمة بعده نسخا.
ـــــــ
الاغتسال وبالتشديد يوجب الحرمة قبل الاغتسال فحملنا
المخفف على العشرة والمشدد على الأقل" وإنما لم يحمل على
العكس; لأنها إذا طهرت لعشرة أيام حصلت الطهارة الكاملة
لعدم احتمال العود, وإذا طهرت لأقل منها يحتمل العود, فلم
تحصل الطهارة الكاملة فاحتيج إلى الاغتسال لتتأكد الطهارة.
"وأما الثالث" أي المخلص من قبل الزمان "فإنه إذا كان صريح
اختلاف الزمان يكون الثاني ناسخا للأول فكذا إن كان دلالته
كنصين أحدهما محرم والآخر مبيح يجعل المحرم ناسخا; لأن قبل
البعثة كان الأصل الإباحة والمبيح ورد لإبقائه ثم المحرم
نسخه, ولو جعلنا على العكس يتكرر النسخ" أي لو قلنا إن
المحرم كان متقدما على المبيح فالمحرم كان
.........................................................
بها في المعقودة, ثم فسر الكفارة بقوله تعالى:
{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} الآية,
ولما تغايرت المؤاخذتان اندفع التعارض, وعند الشافعي رحمه
الله تعالى يحمل العقد على كسب القلب من عقدت على كذا عزمت
عليه فيشمل الغموس ويصير معنى الآيتين واحدا, وهو نفي
الكفارة عن اللغو وإثباتها على المعقود والغموس وذلك لأن
كسب القلب مفسر والعقد مجمل فيحمل على المفسر ويندفع
التعارض ورد ذلك بوجوه: الأول: أن فيه عدولا عن الحقيقة من
غير ضرورة; لأن العقد ربط الشيء بالشيء وذلك حقيقة في
العقد المصطلح بين الفقهاء لما فيه من ربط أحد الحكمين
بالآخر بخلاف عزم القلب, فإنه سبب للعقد فسمي به مجازا.
وفيه نظر; لأن العقد بمعنى الربط إنما يكون حقيقة في
الأعيان دون المعاني, فهو في الآية مجاز لا محالة على أن
عقد القلب واعتقاده بمعنى ربطه بالشيء وجعله ثابتا عليه
أشهر في اللغة من العقد المصطلح في الفقه, فإنه من مخترعات
الفقهاء. الثاني: أن اقتران الكسب بالمؤاخذة يدل على أن
المراد بها المؤاخذة الأخروية إذ لا عبرة بالقصد وعدمه في
المؤاخذة الدنيوية ورد بمنع ذلك في حقوق الله تعالى لا
سيما في الحقوق الدائرة بين العبادة والعقوبة. الثالث: أن
الآية على هذا التقرير تكرار للآية السابقة, ولا شك أن
الإفادة خير من الإعادة ورد بأن سوق الثانية لبيان
الكفارة, فلا تكرار.
(2/223)
ناسخا للإباحة
الأصلية ثم المبيح يكون ناسخا للمحرم فيتكرر النسخ, فلا
يثبت التكرار بالشك وفيه نظر "لأن الإباحة الأصلية ليست
حكما شرعيا, فلا تكون الحرمة بعده نسخا". وبيانه أنا لا
نسلم أن المحرم لو كان متقدما لكان ناسخا للإباحة فإنه
إنما كان ناسخا لها إن قد ورد في الزمان الماضي دليل شرعي
دال على إباحة جميع الأشياء فيلزم حينئذ كون المحرم ناسخا
لذلك المبيح لكن ورد الدليل المذكور غير مسلم, فلا يكون
المحرم ناسخا لذلك المبيح لما عرفت من تعريف النسخ ويمكن
إتمام الدليل المذكور على وجه لا يرد عليه هذا النظر, وهو
أنه إذا انتفع المكلف بشيء قبل ورود ما يحرمه, أو يبيحه
فإنه لا يعاقب بالانتفاع به لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} لقوله تعالى:
{خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} فإن هذا
الإخبار يدل على أن الإنسان إن انتفع بما في الأرض قبل
ورود محرمه, أو مبيحه لا يعاقب ثم لا شك أنه إذا ورد
المحرم فقد غير الأمر المذكور, وهو عدم العقاب على
الانتفاع.
ثم إذا ورد المبيح فقد نسخ ذلك المحرم فيلزم منا تغييران
وأما على العكس فلا يلزم إلا تغيير واحد فاندفع الإيراد
المذكور بهذا التقرير فتقرر الدليل بهذا الطريق, أو نقول
عنينا بتكرر النسخ هذا المعنى لا النسخ بالتفسير الذي
ذكرتم. وقد قال فخر الإسلام رحمه الله تعالى هذا أي تكرر
النسخ بناء على قول من جعل الإباحة أصلا ولسنا نقول بهذا
في
.........................................................
قوله: "وأقول لا تعارض هنا" وذكر المصنف رحمه الله تعالى
في دفع التعارض أن المراد باللغو في الآيتين هو الخالي عن
القصد وبالمؤاخذة المؤاخذة في الآخرة والغموس داخل في
المكسوبة لا في المعقودة, ولا في اللغو فالآية الأولى
أوجبت المؤاخذة على الغموس والثانية لم يتعرض لها لا نفيا,
ولا إثباتا, فلا تعارض لها أصلا, وهذا قريب مما ذكره الشيخ
أبو منصور رحمه الله حيث قال نفى المؤاخذة عن اللغو في
الآية الأولى وأثبتها في الغموس والمراد منها الإثم ونفى
المؤاخذة في الآية الثانية عن اللغو وأثبتها في المعقودة
وفسر المؤاخذة هاهنا بالكفارة فدل على أن المؤاخذة في
المعقودة بالكفارة وفي الغموس بالإثم, وفي اللغو لا مؤاخذة
أصلا إلا أن المصنف رحمه الله تعالى حمل المؤاخذة الثانية
أيضا على الإثم بناء على أن دار المؤاخذة إنما هي دار
الآخرة. فإن قيل: قوله: {فَكَفَّارَتُهُ} تفسير للمؤاخذة
والمؤاخذة التي هي الكفارة إنما هي في الدنيا والمختص
بالآخرة إنما هي المؤاخذة التي هي العقاب وجزاء الإثم أجيب
بالمنع بل هو تنبيه على طريق دفع المؤاخذة في الآخرة أي
إذا حصل الإثم باليمين المنعقدة فوجه دفعه وستره إطعام
عشرة مساكين إلى آخره. واعلم أن اللائق بنظم الكلام عند
قولنا: "لا يؤاخذكم الله" بكذا ولكن يؤاخذكم بكذا أن يكون
الثاني مقابلا للأول من غير واسطة بينهما فلهذا ذهب
الجمهور إلى إدراك الغموس في اللغو, أو فيما عقدتم, ولا
وجه لجعل الكلام في الآية الثانية خلوا عن التعرض للغموس.
فإن قيل: قد علم حكمها في الآية السابقة قلنا, وكذلك
اللغو.
والتحقيق أن إطلاق المؤاخذة على الدنيوية والأخروية ليس
بحسب الاشتراك اللفظي إذ لا
(2/224)
الأصل; لأن
البشر لم يتركوا سدى في شيء من الزمان وإنما هذا أي كون
الإباحة أصلا بناء على زمان الفترة قبل شريعتنا فإن
الإباحة كانت ظاهرة في الأشياء كلها بين الناس في زمان
الفترة وذلك ثابت إلى أن يوجد المحرم وإنما كان كذلك
لاختلاف الشرائع في ذلك الزمان ووقوع التحريفات في
التوراة, فلم يبق الاعتماد والوثوق على شيء من الشرائع
فظهرت الإباحة بالمعنى المذكور, وهو عدم العقاب على
الإتيان به ما لم يوجد له محرم, ولا مبيح.
واعلم أن الشيء الذي لا يوجد له محرم, ولا مبيح فإن كان
الانتفاع به ضروريا كالتنفس ونحوه فغير ممنوع اتفاقا وإن
لم يكن ضروريا كأكل الفواكه فعند بعض الفقهاء على الإباحة
فإن أرادوا بالإباحة أن الله تعالى حكم بإباحته في الأزل
فهذا غير معلوم وإن أرادوا عدم العقاب على الانتفاع به
فحق. وعند بعض المعتزلة على الحظر فإن أرادوا أن الله
تعالى حكم بحظره فغير معلوم وإن أرادوا العقاب على
الانتفاع به فباطل لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} وقوله تعالى:
{خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً}. وعند الأشعري
على الوقف ففسر الوقف تارة بعدم الحكم, وهذا باطل; لأنه
إما ممنوع من الله عن الانتفاع به, أو ليس بممنوع والأول
حظر والثاني إباحة, ولا خروج عن النقيضين. وأجاب الإمام في
المحصول عن هذا بأن المباح هو الذي أعلم الشارع فاعله أو
دل على أنه لا حرج عليه في الفعل, وهذا الجواب ليس بشيء;
لأن الخلاف في شيء لم يعلم الشارع بالحرج في فعله وتركه
وعدمه فمعنى كلامه أن الشيء الذي لم يعلم الشارع بالحرج في
فعله وتركه وعدم الحرج لم يعلم الشارع بعدم الحرج فيه.
وهذا كلام حشو ولا خلاف في هذا, وقد فسر الوقف تارة بعدم
العلم بأن هناك حكما أم لا وإن كان حكم, فلا نعلم أنه حظر,
أو إباحة أما عدم العلم بأن هناك حكما أم لا فباطل; لأنا
نعلم أن عند الله تعالى حكما لازما إما بالمنع, أو بعدمه
وأما أنه لا نعلم أن
.........................................................
اختلاف في المفهوم بل في الأفراد باعتبار التعلق فعند
القائلين بعموم الفعل المنفي يكون المعنى لا يؤاخذكم شيئا
من المؤاخذة عقوبة كانت, أو كفارة في اللغو ولكن يؤاخذكم
بهما, أو بأحدهما في المكسوبة والمعقودة عند الحنث.
قوله: "فبالتخفيف" أي قراءة: {يطهرون} بتخفيف التاء والهاء
توجب حل القربان بعد حصول الطهر سواء حصل الاغتسال, أو لم
يحصل وظاهر هذه العبارة مشعر بأن الحل مستفاد من قوله
تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} قولا بمفهوم الغاية, فإنه متفق
عليه ويحتمل أن يريد أن الحل كان ثابتا والنهي قد انقضى
بالطهر فبقي الحل الثابت لعدم تناول النهي إياه فعبر عن
عدم رفع الآية الحل بإيجابها إياه تجوزا. فإن قيل: لو كان
المراد بقراءة التخفيف حقيقة الطهر لكان المناسب "فإذا
طهرن فأتوهن" فاتفاق القراء على: "تطهرن" أي اغتسلن يدل
على أن المراد بقوله: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} يغتسلن أما على
قراءة التشديد فحقيقة, وأما على التخفيف فمجاز بإطلاق
الملزوم على اللازم ضرورة لزوم الغسل عند الانقطاع فيكون
حرمة القربان عند الدم معلومة من قوله تعالى:
{فَاعْتَزِلُوا
(2/225)
الحكم حظر, أو
إباحة فحق فالحق عندنا أنا لا نعلم أن الحكم عند الله
تعالى الحظر, أو الإباحة, ومع ذلك لا عقاب على فعله وتركه
فعلم أنه لا خلاف بين من يقول: إنا لا نعلم أن الحكم عند
الله الحظر, أو الإباحة وبين من يقول بالإباحة إذ لا معنى
للإباحة إلا أنه لا يعاقب على الفعل والترك, وهذا حاصل عند
من يقول: لا نعلم أن الحكم أيهما ولقوله عليه الصلاة
والسلام: "ما اجتمع الحلال والحرام" الحديث "إلا وقد غلب
الحرام الحلال".
.........................................................
النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} ويكون قوله تعالى: {وَلا
تَقْرَبُوهُنَّ}.. الآية لبيان انتهاء الحرمة وعود الحل به
أجيب بأن تفعل قد يجيء بمعنى فعل كتكبر وتعظم في صفات الله
تعالى فيحمل عليه في قراءة التخفيف إذ في الانقطاع على
العشرة لا يجوز تأخير حق الزوج إلى الاغتسال وقيل: معناه
توضأن أي صرن أهلا للصلاة. وفي شرح التأويلات أن الآية
محمولة على ما دون العشرة صرفا للخطاب إلى ما هو الغالب
وانتهاء الحرمة فيما دون العشرة إنما يكون الاغتسال فقوله
تعالى: {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بالتخفيف أيضا معناه يغتسلن
مجازا, ولا يخفى أن في الكل عدولا عن الظاهر وما ذكره
الشافعي رحمه الله تعالى ليس أبعد من ذلك.
قوله: "لأن الإباحة الأصلية ليست حكما شرعيا". فإن قيل: هي
حكم شرعي ثبت بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً} قلنا إنما يصح ذلك لو ثبت تقدم هذه
الآية على النصين المفروضين أعني المحرم والمبيح وإلى هذا
أشار بقوله: فإنه أي المحرم إنما يكون ناسخا للإباحة
الأصلية إن قد ورد أي إن كان قد ورد في الزمان الماضي أي
الزمان المتقدم على زمان ورود النص المحرم والمبيح دليل
شرعي دال على إباحة جميع الأشياء لكن ورود هذا الدليل
متقدما على ورود النصين المبيح والمحرم ليس بمسلم على
الإطلاق, وفي جميع الصور بل قد, وقد. وبهذا تبين أن تقرير
الدليل بوجه لا يرد عليه النظر على ما ذكره المصنف رحمه
الله تعالى ليس بتمام; لأن عدم العقاب على الانتفاء إنما
يصير حكما شرعيا بعد ورود النصوص الدالة على إباحة جميع
الأشياء فتغييره بالنص المحرم لا يكون نسخا بالمعنى
المصطلح إلا إذا تأخر المحرم عن دليل إباحة الأشياء, وهو
ليس بلازم وبالجملة المعتبر في النسخ كون الحكم شرعيا عند
ورود الناسخ, ولا يثبت ذلك إلا إذا تقدم دليل إباحة
الأشياء على دليل تحريم ذلك الشيء المخصوص.
قوله: "عنينا بتكرر النسخ هذا المعنى" أي تكرر التغيير
سواء كان تغيير حكم شرعي, أو لا, فإن تكرار التغيير زيادة
على نفس التغيير, فلا يثبت بالشك.
قوله: "واعلم أن الشيء الذي لا يوجد له محرم, ولا مبيح"
إشارة إلى مسألة حكم الأفعال قبل ورود الشرع. فإن قلت: ما
لا يوجد له محرم, ولا مبيح قد يكون واجبا, أو مندوبا, أو
مكروها. قلت: المراد بالمبيح ما يقابل المحرم, فإن الإباحة
قد تطلق على عدم المنع عن الفعل سواء كان بطريق الوجوب أو
الندب أو الكراهة فكأنه قال: الشيء الذي لم يوجد له دليل
المنع, ولا دليل عدمه أي لم يعلم تعلق حكم شرعي به بناء
على عدم ورود الشرع; لأن هذه المسألة إنما هي لبيان حكم
الأفعال قبل البعثة, فإن كان اضطراريا كالتنفس ونحوه, فهو
ليس بممنوع إلا عند من جوز تكليف
(2/226)
المحال وإن كان
اختياريا كأكل الفواكه فحكمه الإباحة عند بعض المعتزلة
وبعض الفقهاء من الحنفية والشافعية رحمهم الله والحرمة عند
المعتزلة البغدادية وبعض الشيعة والتوقف عند الأشعري
والصيرفي. ومحل الخلاف هي الأفعال الاختيارية التي لا يقضي
العقل فيها بحسن, ولا قبح, وأما التي يقضي فيها العقل فهي
عندهم تنقسم إلى الواجب والمندوب والمحظور والمكروه
والمباح; لأنه لو اشتمل أحد طرفيه على مفسدة, فأما فعله
فحرام, أو تركه فواجب, وإن لم يشتمل عليها, فإن اشتمل على
مصلحة, فأما فعله فمندوب, أو تركه فمكروه, وإن لم يشتمل
على المصلحة أيضا فمباح, وهذه المسألة تورد في أصول
الشافعية والأشاعرة على التنزل إلى مذهب المعتزلة في أن
للعقل حكما بالحسن والقبح وإلا فالفعل قبل البعثة لا يوصف
عندهم بشيء من الأحكام.
إذا تقرر هذا فيقال: على المبيح إن أردت بالإباحة أن لا
حرج في الفعل والترك, فلا نزاع, وإن أردت خطاب الشارع في
الأزل بذلك فليس بمعلوم بل ليس بمستقيم; لأن الكلام فيما
لا حكم فيه للعقل بحسن, ولا قبح في حكم الشارع. فإن استدل
بأن الله تعالى خلق العبد وما ينتفع فالحكمة تقتضي إباحته
له تحصيلا لمقصود خلقهما وإلا لكان عبثا خاليا عن الحكمة,
وهو نقض فجوابه المعارضة بأنه ملك الغير فيحرم التصرف فيه
والحل بأنه ربما خلقهما ليشتهيه فتصير عنه فيثاب عليه, ولا
يلزم من عدم الإباحة عبث ويقال: على المحرم إن أردت حكم
الشارع بالحرمة في الأزل فغير معلوم إذ التقدير أنه لا
محرم, ولا مبيح بل غير مستقيم; لأن المفروض أنه لم يدرك
بالعقل حسنه, ولا قبحه في حكم الشارع, وإن أردت العقاب على
الانتفاع فباطل لقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ
حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}, فإنه يدل على نفي التعذيب على
ما صدر قبل البعثة. فإن قلت: الحكم بالحظر والعقاب على
الانتفاع متلازمان فكيف جزم ببطلان الثاني دون الأول. قلت:
الحكم بالحظر لا يستلزم العقاب لجواز العفو, وقد يقال: على
المحرم إن عدم الحرمة معلوم قطعا, فإن من ملك بحرا لا
ينزف, وهو في غاية الجود وأخذ مملوكه قطرة من ذلك البحر لا
يدرك بالعقل تحريمها, فإن استدل بأنه تصرف في ملك الغير
بغير إذنه فتحرم أجيب بأن حرمة التصرف في ملك الغير بغير
إذنه عقلا ممنوعة, فإنها تبتنى على السمع, ولو سلم فذلك
فيمن يلحقه ضرر ما بالتصرف في ملكه والمالك فيما نحن فيه
منزه عن الضرر.
فإن قيل: إذا كان الخلاف فيما لم يدرك بالعقل حسنه, ولا
قبحه على ما ذكرتم فكيف يصح القول بحرمته, أو إباحته. قلت:
المراد بالإباحة جواز الانتفاع خاليا عن أمارة المفسدة
وبالحرمة عدمه, وهذا لا ينافي عدم إدراك العقل فيه بخصوصه
صفة محسنة, أو مقبحة, وأما التوقف, فقد فسر تارة بعدم
الحكم وتارة بعدم العلم بالحكم أما بمعنى نفي التصديق
بثبوت الحكم أي لا يدرك أن هناك حكما أم لا, وأما بمعنى
نفي تصور الحكم على التعيين مع التصديق بثبوت حكم في
الجملة أي لا يدرك أن الحكم حظر أو إباحة, وهذا هو المختار
عند المصنف رحمه الله تعالى.
أما الأول, وهو التوقف بمعنى عدم الحكم فباطل من وجوه
أحدها أنه جزم بعدم الحكم لا توقف والقول بأنه يسمى توقفا
باعتبار العمل بمعنى أنه يقتضي عدم العمل بالفعل تكلف.
وثانيها أن الحكم قديم عند الأشعري, فلا يتصور عدمه
والتكليف بالمحال جائز عنده, فلا يتوقف تعلق
(2/227)
الحكم بالفعل
على البعثة إذ لا موجب للتوقف سوى التحرز على تكليف المحال
ورد بأن تجويز تكليف المحال يستلزم القول بوقوعه, ولو سلم,
فلا يلزم منه ثبوت تعلق الحكم بالفعل قبل البعثة لجواز أن
يمتنع بسبب آخر, وتجويز التكليف قبل البعثة ليس مذهبا
للأشعري بل هو ينافي مذهبه في الحسن والقبح, فلا يصلح
إلزاما له. وثالثها أن الفعل إما ممنوع في حكم الله تعالى
فيحرم, أو غير ممنوع فيباح وأجاب الإمام بأنا لا نسلم أن
عدم المنع في حكم الله تعالى يستلزم الإباحة, فإن المباح
ما أذن الشارع في فعله وتركه من غير رجحان, وهذا معنى
إعلام الشارع نصا, أو دلالة بأنه لا حرج على فاعله في
الفعل والترك وعدم المنع أعم من ذلك كما في أفعال البهائم.
واعتراض المصنف رحمه الله تعالى عليه ظاهر وتحقيقه أن هذا
الاختلاف إنما هو على تقدير التنزل إلى أن للعقل حكما في
الأفعال قبل البعثة فحينئذ لا يجوز أن يراد بالإباحة إذن
الشارع في الفعل والترك بل معناها جواز الانتفاع خاليا عن
أمارة المفسدة, وأما عدم الحكم الشرعي قبل البعثة فمما لا
يتصور فيه خلاف. ومنشأ هذا الاعتراض مع أنه كلام على السند
عدم تحرير محل النزاع وتحقيق مراد الإمام, فإن محل النزاع
هو أن الفعل الذي لم يرد فيه حكم من الشارع لعدم البعثة,
ولم يدرك فيه العقل جهة حسن, ولا قبح كأكل الفواكه مثلا
فهل للعقل أنه يحكم حكما عاما بأنه في حكم الشارع مأذون
فيه, أو ممنوع عنه ومراد الإمام أن ما لم يمنع عنه أي ما
لم يدرك العقل أنه ممنوع عنه في حكم الشارع لا يلزم أن
يكون مباحا أي مأذونا فيه من الشارع إعلاما بأن يرد دليل
منه على أنه لا حرج في فعله وتركه, أو دلالة بأن يرشد
الشارع العبد بعقله إلى أن يدرك ذلك, فلا يكون معنى كلامه
أن الشيء الذي لم يعلم الشارع بالحرج في فعله وتركه وعدم
الحرجلم يعلم الشارع بعدم الحرج فيه ليكون حشوا على ما
ذكره المصنف رحمه الله تعالى بل يكون معناه أن ذلك الفعل
لا يلزم أن يدل الشارع فاعله على أنه لا حرج عليه في الفعل
والترك بأن يدرك ذلك بعقله, وهذا كلام لا غبار عليه.
وأما الثاني, وهو التوقف بمعنى عدم العلم بأن في ذلك الفعل
حكما لله تعالى أم لا فباطل; لأنا نعلم قطعا أن لله تعالى
في كل فعل حكما إما بالمنع عنه, أو بعدم المنع وللخصم أن
يمنع ذلك, ولا تناقض بين الحكم بالمنع والحكم بعدم المنع
حتى يمتنع ارتفاعهما وإنما التناقض بين الحكم وعدم الحكم,
وهو لا يوجب الإباحة.
وأما الثالث وهو التوقف بمعنى عدم العلم بأن حكمه الإباحة
أو الحظر فحق إذ التقدير أنه لا دليل من الشارع, ولا مجال
من العقل, وهذا يساوي القول بالإباحة من جهة اتفاقهما على
أنه لا عقاب على الفعل, ولا على الترك, فلا خلاف بينهما في
المعنى. وفيه نظر; لأن مذهب المتوقف هو أنه لا علم بالعقاب
وعدمه. وعدم القول بالعقاب أعم من القول بعدم العقاب فكيف
يتساويان؟ فظهر أن قوله: ومع ذلك فلا عقاب ليس بمستقيم;
لأن القول بعدم العقاب قول بالإباحة; لأنه معناها على ما
فسرها, فلا توقف.
قوله: "ولقوله عليه الصلاة والسلام" دليل آخر على جعل
المحرم ناسخا للمبيح, وهو عطف على قوله: "لأن قبل البعثة
كان الأصل الإباحة".
(2/228)
وأما إذا كان
أحدهما مثبتا والآخر نافيا فإن كان النفي يعرف بالدليل كان
مثل الإثبات وإن كان لا يعرف به بل بناء على العدم الأصلي
فالمثبت، أولى لما قلنا في المحرم والمبيح وإن احتمل
الوجهين ينظر فيه فما روي أنه عليه الصلاة والسلام تزوج
ـــــــ
"وأما إذا كان أحدهما مثبتا والآخر نافيا فإن كان النفي
يعرف بالدليل كان مثل الإثبات وإن كان لا يعرف به بل بناء
على العدم الأصلي فالمثبت, أولى لما قلنا في المحرم
والمبيح وإن احتمل الوجهين ينظر فيه" أي إن احتمل النفي أن
يعرف بدليل وأن يعرف بغير دليل بناء على العدم الأصلي ينظر
في ذلك النفي فإن تبين أنه يعرف بالدليل يكون كالإثبات وإن
تبين أنه بناء على العدم الأصلي فالإثبات أولى. "فما روي
"أنه عليه الصلاة والسلام تزوج ميمونة, وهو حلال" مثبت وما
روي أنه محرم ناف فإنه اتفق على أنه لم يكن في الحل الأصلي
والإحرام حالة مخصوصة تدرك عيانا فكلاهما سواء فرجح
بالراوي وروي أنه المحرم عبد الله بن عباس ولا يعدله يزيد
بن الأصم ونحوه" هذا نظير النفي الذي يعرف بالدليل. اعلم
أن نكاح المحرم جائز عندنا تمسكا بما روي أنه عليه الصلاة
والسلام تزوج ميمونة, وهو محرم وتمسك الخصم بما روي أنه
عليه الصلاة والسلام تزوج, وهو حلال واتفقوا على أنه لم
يكن في الحل الأصلي فالخلاف في أنه كان في الإحرام, أو في
الحل الذي بعد الإحرام فمعنى أنه تزوجها في الإحرام أنه لم
يتغير الإحرام بعد ومعنى أنه تزوجها في الحل الذي بعد
الإحرام أن الإحرام تغير إلى الحل فالأول ناف والثاني مثبت
لكن الإحرام حالة مخصوصة مدركة عيانا فتكون كالإثبات
فرجحنا بالراوي, وهو ابن عباس رضي الله عنهما.
.........................................................
قوله: "فالمثبت أولى" إذ لو جعل الباقي أولى يلزم تكرر
النسخ بتغيير المثبت للنفي الأصلي, ثم النافي للإثبات
وأيضا المثبت يشتمل على زيادة علم كما في تعارض الجرح
والتعديل بجعل الجرح أولى; ولأن المثبت مؤسس والنافي مؤكد
والتأسيس خير من التوكيد وعن عيسى بن أبان أن النافي
كالمثبت, وإنما يطلب الترجيح من وجه آخر, وقد دل بعض
المسائل على تقديم المثبت وبعضها على تقديم النافي فلذا
احتاج المصنف رحمه الله تعالى إلى بيان ضابط في تساويهما
وترجيح أحدهما على الآخر, وهو أن النفي إن كان مبنيا على
العدم الأصلي فالمثبت مقدم وإلا فإن تحقق أنه بالدليل
تساويا, وإن احتمل الأمرين ينظر ليتبين الأمر وعلى هذا
الأصل الذي ذكره في باب الرواية تتفرع الشهادة على النفي
بأن يتساوى النافي والمثبت إن علم أن النفي بدليل ويقدم
المثبت إن علم أن النفي بحسب الأصل وإلا ينظر فيه ليتبين.
قوله: "واتفقوا على أنه لم يكن في الحل الأصلي" كأنه يريد
اتفاق الفريقين, وإلا فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
بعث أبا رافع مولاه ورجلا من الأنصار فزوجاه ميمونة بنت
الحارث ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قبل أن
يحرم. كذا في معرفة الصحابة للمستغفري.
(2/229)
ميمونة، وهو
حلال مثبت وما روي أنه محرم ناف فإنه اتفق على أنه لم يكن
في الحل الأصلي والإحرام حالة مخصوصة تدرك عيانا فكلاهما
سواء فرجح بالراوي وروي أنه المحرم عبد الله بن عباس ولا
يعدله يزيد بن الأصم ونحوه.
ونحو أعتقت بريرة وزوجها حر مثبت وأعتقت وزوجها عبد ناف،
وهذا النفي مما يعرف بظاهر الحال فالمثبت أولى.
ـــــــ
"ونحو أعتقت بريرة وزوجها حر مثبت وأعتقت وزوجها عبد ناف,
وهذا النفي مما يعرف بظاهر الحال فالمثبت أولى" هذا نظير
النفي الذي لا يكون بالدليل. اعلم أن الأمة التي زوجها حر
إذا أعتقت يثبت لها خيار العتق عندنا خلافا للشافعي رحمه
الله تعالى ولنا أنها أعتقت بريرة وزوجها حر ويروى أنها
أعتقت وزوجها عبد فالأول مثبت والثاني ناف; لأن معناه أن
رقيته لم تتغير بعد, وهذا نفي لا يدرك عيانا بل بقاء على
ما كان فالمثبت أولى.
.........................................................
قوله: "وأما في القياس, فلا يحمل على النسخ" إذ لا مدخل
للرأي في بيان انتهاء مدة الحكم.
قوله: "بعد شهادة قلبه" أي قلب طالب الحكم, ومن هو بصدد
معرفته, وإنما اشترط ذلك; لأن الحق واحد فالمتعارضان لا
يبغيان حجة في حق إصابة الحق ولقلب المؤمن نور يدرك به ما
هو باطن, ولا دليل عليه فيرجع إليه.
قوله: "فكل واحد" يعني لما كان المجتهد في كل واحد من
الاجتهادين مصيبا بالنظر إلى الدليل ضرورة أن القياس دليل
صحيح وضعه الشارع للعمل به غير مصيب بالنظر إلى المدلول
ضرورة أن الحق واحد لا غير كان كل واحد من القياسين دليلا
في حق العمل, وإن لم يكن دليلا في حق العلم, وهذا بخلاف
النصين, فإن الحق منهما واحد في العمل والعلم جميعا لجواز
النسخ.
قوله: "فصل" ما يقع به الترجيح كثير يعرف بعضها مما سلف لا
سيما وجوه الترجيح في النص والإجماع أما ترجيح النصوص فيقع
بالمتن والسند والحكم والأمر الخارج والمراد بالمتن ما
يتضمنه الكتاب والسنة والإجماع من الأمر والنهي والعام
والخاص ونحو ذلك. وبالسند الإخبار عن طريق المتن من تواتر
ومشهور وآحاد مقبول أو مردود فالأول كترجيح النص على
الظاهر والمفسر على المجمل ونحو ذلك. والثاني يقع في
الراوي كالترجيح بفقه الراوي, وفي الرواية كترجيح المشهور
على الآحاد, وفي المروي كترجيح المسموع من النبي عليه
الصلاة والسلام على ما يحتمل السماع كما إذا قال أحدهما:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الآخر: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم وفي المروي عنه كترجيح ما لم يثبت
إنكار لروايته على ما ثبت. والثالث كترجيح الحظر على
الإباحة. والرابع كترجيح ما يوافق القياس على ما لا يوافقه
ولكل من ذلك تفاصيل مذكورة في موضعها
وأما القياس فيقع فيه الترجيح بحسب أصله, أو فرعه, أو
علته, أو أمر خارج عنه وتفصيل ذلك يطلب من أصول ابن
الحاجب.
(2/230)
وإذا أخبر
بطهارة الماء ونجاسته فالطهارة وإن كانت نفيا لكنه مما
يحتمل المعرفة بالدليل فيسأل فإن بين وجه دليله كان
كالإثبات وإن لم يبين فالنجاسة أولى وعلى هذا الأصل يتفرع
الشهادة على النفي. وأما في القياس فلا يحمل على النسخوقول
الصحابي فيما يدرك بالقياس كالقياس فيأخذ بأيهما شاء بعد
شهادة قلبه، ولا يسقطان بالتعارض كما يسقط النصان حتى يعمل
بعده بظاهر الحال إذ في الأول إنما يقع التعارض للجهل
المحض بالناسخ منهما، فلا يصح عمله بأحدهما مع الجهل وهنا
ليس لجهل محض؛ لأنه في كل واحد من الاجتهادين مصيب بالنظر
إلى الدليل وإن لم يكن مصيبا بالنظر إلى المدلول على ما
يأتي فكل واحد دليل له في حق العمل.
ـــــــ
"وإذا أخبر بطهارة الماء ونجاسته فالطهارة وإن كانت نفيا
لكنه مما يحتمل المعرفة بالدليل فيسأل فإن بين وجه دليله
كان كالإثبات وإن لم يبين فالنجاسة أولى" هذا نظير النفي
الذي يحتمل معرفته بالدليل وتحتمل بناء على العدم الأصلي;
لأن طهارة الماء قد تدرك بظاهر الحال وقد تدرك عيانا بأن
غسل الإناء بماء السماء, أو بالماء الجاري وملأه بأحدهما,
ولم يغب عنه أصلا, ولم يلاقه شيء نجس, فإذا أخبر واحد
بنجاسة الماء والآخر بطهارته فإن تمسك بظاهر الحال فإخبار
النجاسة أولى وإن تمسك بالدليل كان مثل الإثبات. "وعلى هذا
الأصل يتفرع الشهادة على النفي".
"وأما في القياس" عطف على قوله: ففي الكتاب والسنة ومعناه
إذا تعارض قياسان "فلا يحمل على النسخ. وقول الصحابي فيما
يدرك بالقياس كالقياس فيأخذ بأيهما شاء" من القياسين, وكذا
يأخذ بأيهما شاء من قول الصحابي والقياس "بعد شهادة قلبه,
ولا يسقطان بالتعارض كما يسقط النصان حتى يعمل بعده بظاهر
الحال إذ في الأول" أي في تعارض النصين "إنما يقع التعارض
للجهل المحض بالناسخ منهما, فلا يصح عمله بأحدهما مع الجهل
وهنا" أي في القياسين "ليس" أي التعارض "لجهل محض; لأنه"
أي المجتهد, وهو لم يذكر لفظا بل دلالة "في كل واحد من
الاجتهادين مصيب بالنظر إلى الدليل وإن لم يكن مصيبا
بالنظر إلى المدلول على ما يأتي فكل واحد دليل له في حق
العمل".
"فصل ما يقع به الترجيح فعليك استخراجه من مباحث الكتاب
والسنة متنا وسندا" أما المتن فكترجيح النص على الظاهر
والمفسر على النص والمحكم على المفسر والحقيقة على المجاز
والصريح على الكناية والعبارة على الإشارة والإشارة على
الدلالة والدلالة على الاقتضاء, وأما السند فكترجيح
المشهور على خبر الواحد والترجيح بفقه الراوي وبكونه
معروفا بالرواية "والقياس" عطف على الكتاب والسنة فما عرف
عليته نصا صريحا أولى مما عرف إيماء وما عرف إيماء فبعضه
أولى من البعض ثم ما عرف
.........................................................
وقد أشار المصنف رحمه الله تعالى هاهنا إلى بعض ما يقع به
الترجيح بحسب العلة كترجيح قياس عرف علية الوصف فيه بالنص
الصريح على ما عرف عليته بالإيماء ثم في الإيماء يرجح ما
يفيد ظنا أغلب وأقرب إلى القطع على غيره وما عرف بالإيماء
مطلقا يرجح على ما عرف بالمناسبة لما فيها من الاختلاف
ولأن الشارع أولى بتعليل الأحكام, ثم لا يخفى أن الراجح
تأثير العين, ثم النوع, ثم الجنس القريب, ثم الأقرب
فالأقرب, وأن اعتبار شأن الحكم لكونه المقصود أولى وأهم
(2/231)
فصل: ما يقع به الترجيح
فعليك استخراجه من مباحث الكتاب والسنة متنا وسندا.
والقياس والذي ذكروا في ترجيح القياس أربعة أمور: الأول
قوة لا أثر كما مر في القياس والاستحسان وكما في مسألة طول
الحرة فإن الشافعي رحمه الله تعالى يقول:
ـــــــ
إيماء أولى مما عرف بالمناسبة وأيضا ما عرف بالإجماع تأثير
نوعه في نوعه أولى مما عرف بالإجماع تأثير الجنس في النوع,
وهذا أولى من عكسه وكل منهما أولى من الجنس في الجنس ثم
الجنس القريب في الجنس القريب أولى من غير القريب ثم
المركب من هذه الأقسام أولى من المفرد وأقسام المركبات
بعضها أولى من بعض, ومن أتقن المباحث السابقة لا يخفى عليه
شيء من ذلك.
"والذي ذكروا في ترجيح القياس أربعة أمور: الأول قوة لا
أثر" أي قوة التأثير كما مر في القياس والاستحسان وكما في
مسألة طول الحرة فإن الشافعي رحمه الله تعالى يقول: يرق
ماؤه مع غنية عنه, فلا يجوز كالذي تحته حرة وقلنا هذا نكاح
يملكه العبد بإذن مولاه إذا دفع إليه مهرا يصلح للحرة
وللأمة "وقال تزوج من شئت فيملكه الحر, وهذا أقوى أثرا" أي
قياسنا أقوى تأثيرا من قياس الشافعي رحمه الله تعالى "إذ
زيادة محل حل العبد على حل الحر قلب المشروع" وتضييع الماء
بالعزل بإذن الحرة يجوز فالإرقاق دونه; لأن في الأول تضييع
الأصل وفي الثاني تضييع الوصف, وهو الحرية ونكاح الأمة لمن
له سرية جائز مع وجود
.........................................................
من اعتبار شأن العلة ويرجح تأثير جنس العلة في نوع الحكم
على تأثير نوع العلة في جنس الحكم, وعند التركيب ما يتركب
من راجحين يقدم على المركب من مرجوحين, أو مساو ومرجوح
كتقديم المركب من تأثير النوع في النوع والجنس القريب في
النوع على المركب من تأثير النوع في الجنس القريب والجنس
القريب في النوع. وفي المركبين اللذين يشتمل كل منهما على
راجح ومرجوح يقدم ما يكون الراجح منه في جانب الحكم على ما
يكون في جانب العلة, وهذا معنى قوله: وأقسام المركبات
بعضها أولى من بعض وكل ذلك مما يظهر بالتأمل في المباحث
السابقة إلا أنه قد جرت عادة القوم بذكر أمور أربعة مما
يقع به في ترجيح القياس وهي قوة الأثر وقوة الثبات على
الحكم وكثرة الأصول والعكس.
قوله: "كما مر في القياس والاستحسان" من أن الاستحسان لقوة
أثره يقدم على القياس, وإن كان ظاهر التأثير إذ العبرة
للتأثير وقوته دون الوضوح, أو الخفاء; لأن القياس إنما صار
حجة بالتأثير فالتفاوت فيه يوجب التفاوت في القياس, وهذا
بخلاف الشهادة, فإنها لم تصر حجة بالعدالة لتختلف
باختلافها بل بالولاية الثابتة بالحرية وهي مما لا يتفاوت,
وإنما اشترط العدالة لظهور جانب
(2/232)
يرق ماؤه مع
غنية عنه، فلا يجوز كالذي تحته حرة وقلنا هذا نكاح يملكه
العبد بإذن مولاه إذا دفع إليه مهرا يصلح للحرة وللأمة
وقال تزوج من شئت فيملكه الحر، وهذا أقوى أثرا إذ زيادة
محل حل العبد على حل الحر قلب المشروع فهذا أقوى أثرا؛ لأن
الرق منصف لا محرم.
ـــــــ
ما ذكر من العلة وكما في نكاح الأمة الكتابية فإنه يقول:
الرق من الموانع, وكذا الكفر, فإذا اجتمعا يصير كالكفر بلا
كتاب, فلا يجوز للمسلم ولأن الضرورة ترتفع بإحلال الأمة
المسلمة وقلنا هو نكاح يملكه العبد المسلم فكذا الحر
المسلم على ما مر. وأيضا هو دين يصح معه للحر المسلم نكاح
الحرة "فكذا يصح للحر نكاح الأمة" أي دين الكتابية دين يصح
معه للحر المسلم نكاح الحرة التي هي على هذا الدين فكذا
يصح للحر المسلم نكاح الأمة التي هي على هذا الدين "فهذا
أقوى أثرا; لأن الرق منصف لا محرم" كما في الطلاق والعدة
والقسم والحدود; لأن الرقيق له شبه بالحيوانات والجمادات
بواسطة الكفر, فمن هذا الشبه قلنا إنه مال ثم له شبه بالحر
من حيث الذات فأوجب هذان الشبهان التنصيف في استحقاق النعم
التي تختص بالإنسان.
.........................................................
الصدق, وقد يقال: إن العدالة مما لا يختلف بالشدة والضعف;
لأنه إن انزجر عن جميع ما يعتقد فيه الحرمة فعدل وإلا فلا.
قوله: "وكما في مسألة طول الحرة" أي الغنى والقدرة على
تزوج الحرة والأصل الطول على الحرة أي الفضل فاتسع فيه
بحذف حرف الصلة, ثم أضيف إضافة المصدر إلى المفعول فالحر
الذي له طول الحرة لا يجوز له تزوج الأمة عند الشافعي رحمه
الله تعالى قياسا على الذي تحته حرة بجامع إرقاق الماء مع
الاستغناء والإرقاق بمنزلة الإهلاك بخلاف ما إذا لم يكن له
طول الحرة وخشي العنت أي الوقوع في الزنا, فإنه لا غنية عن
الإرقاق فيجوز وبخلاف ما إذا قدر العبد على نكاح الحرة
فتزوج أمة, فإنه ليس بإرقاق للماء بل امتناع عن تحصيل صفة
الحرية, وهو ليس بحرام وبخلاف ما إذا تزوج حرة على أمة
فإنه يبقى نكاح الأمة لأنه ليس بإرقاق ابتداء بل بقاء عليه
وهو لا يحرم كالرق يبقى مع الإسلام إذ ليس للبقاء هاهنا
حكم الابتداء وقلنا نكاح الأمة مع طول الحرة نكاح يملكه
العبد فيملكه الحر كسائر الأنكحة التي يملكها العبد, وهذا
أقوى تأثيرا من الإرقاق مع الاستغناء; لأن الحرية من صفات
الكمال فينبغي أن يكون أثرها في الإطلاق والاتساع في باب
النكاح الذي هو من النعم والرق من أوصاف النقصان فينبغي أن
يكون أثره في المنع والتضييق فاتساع الحل الذي هو من باب
الكرامة للعبد وتضييقه على الحر بأن لا يجوز له نكاح الأمة
مع طول الحرة قلب المشروع وعكس المعقول; لأن ما ثبت بطريق
الكرامة يزداد بزيادة الشرف ولهذا جاز لمن كان أفضل البشر
ما فوق الأربع وربما يجاب بأن هذا التضييق من باب الكرامة
حيث منع الشريف من تزوج الخسيس مع ما فيه من مظنة الإرقاق
وذلك كما جاز نكاح المجوسية للكافر دون المسلم.
(2/233)
فطرف الرجال
يقبل العدد بأن يحل للحر أربع وللعبد ثنتان لا طرف النساء
فينتصف باعتبار الأحوال فتحل الأمة مقدمة على الحرة لا
مؤخرة، فأما في المقارنة فقد غلبت الحرمة كما في الطلاق
والقرء.
ـــــــ
"فطرف الرجال يقبل العدد بأن يحل للحر أربع وللعبد ثنتان
لا طرف النساء فينتصف باعتبار الأحوال فتحل الأمة مقدمة
على الحرة لا مؤخرة, فأما في المقارنة فقد غلبت الحرمة كما
في الطلاق والقرء" أي لما كان الرق منصفا وطرف الرجال يقبل
التنصيف بالعدد في حل النكاح بأن يحل للعبد ثنتان وللحر
أربع أما طرف النساء, فلا يقبل التنصيف بالعدد; لأن الحرة
لا يحل لها إلا زوج واحد, فلا يمكن تنصيف الزوج الواحد
فاعتبرنا التنصيف بالأحوال بأنها لو كانت متقدمة على الحرة
يصح نكاحها وإن كانت
.........................................................
قوله: "وتضييع الماء" إشارة إلى وجهي ضعف في قياس الشافعي
رحمه الله تعالى: الأول أن الإرقاق الذي هو إهلاك حكما دون
تضييع الماء بالعزل; لأنه إتلاف حقيقة إذ في الإرقاق إنما
تزول صفة الحرية مع أنه أمر ربما يرجى زواله بالعتق, وفي
العزل يفوت أصل الولد, فإذا جاز هذا فالإرقاق أولى. فإن
قيل: هذا امتناع عن اكتساب سبب الوجود, وفي الإرقاق مباشرة
السبب على وجه يفضي إلى الإهلاك قلنا في التزوج أيضا
امتناع عن إيجاب صفة الحرية إذ الماء لا يوصف بالرق
والحرية بل هو قابل لأن يوجد منه الرقيق والحر فتزوج الأمة
امتناع عن مباشرة سبب وجود الحرية فحين يخلق يخلق رقيقا
إلا أنه ينتقل من الحرية إلى الرقية ومعنى العقوبة
والإهلاك إنما هو في إرقاق الحر. الثاني: إن وصف إرقاق
الماء مع الاستغناء غير مطرد لوجوده فيمن له سرية, أو أم
ولد مع جواز نكاح الأمة له. وفيه نظر; لأن الحر لو كان
قادرا على أن يشتري أمة لا يحل له نكاح الأمة عند الشافعي
رحمه الله تعالى فكيف إذا كان له سرية, أو أم ولد.
قوله: "وكما في نكاح الأمة الكتابية", فإنه لا يجوز للمسلم
عند الشافعي رحمه الله تعالى قياسا على نكاح المجوسية وعلى
ما إذا كان تحته حرة أما الأول فلأن للرق أثرا في تحريم
النكاح في الجملة كما في نكاح الأمة على الحرة, وكذا للكفر
كما في نكاح الحربية للمسلم, فإذا اجتمع الرق والكفر يقوى
المنع ككفر المجوسية, فلم يحل للمسلم, وأما الثاني فلما مر
من إرقاق الماء مع الاستغناء إذ الضرورة قد ارتفعت بجواز
نكاح الأمة المسلمة التي هي أطهر من الكافرة, وعندنا يجوز
قياسا على العبد المسلم وعلى الحرة الكتابية, وهذان
القياسان قويان تأثيرا أما الأول فلما سبق, وأما الثاني
فلأن أثر الرق إنما هو في التنصيف دون التحريم. فإن قلت:
هذا لا يستقيم في المرأة, فإن حلها مبني على المملوكية
والرق يزيد فيها ألا يرى أنها قبل الاسترقاق لم تحل إلا
بالنكاح وبعده حلت بملك النكاح وملك اليمين جميعا. قلت: حل
النكاح نعمة من الجانبين فينتصف برقها كما ينتصف برقه وحل
الوطء بملك اليمين إنما هو بطريق العقوبة دون الكرامة
ولهذا لا تطالبه بالوطء, ولا تستحق عليه شيئا.
(2/234)
وكما في مسح
الرأس إن المسح في التخفيف أقوى أثرا من الركن في التثليث
والثاني قوة ثباته على الحكم والمراد منه كثرة اعتبار
الشارع هذا الوصف في هذا الحكم كالمسح في التخفيف في كل
تطهير غير معقول كالتيمم ومسح الخف والجبيرة والجورب بخلاف
الركن فإن الركنية لا توجب التكرار كما في أركان الصلاة بل
ـــــــ
متأخرة لا يصح وإن كانت مقارنة لا يصح أيضا تغليبا للحرمة
كما في الطلاق والأقراء فثبت بهذا أن كل نكاح يصح للحرة
فإنه يصح للأمة الكتابية إذا لم تكن متأخرة عن الحرة, أو
مقارنة لها فيصح للحر المسلم نكاح الأمة الكتابية إذا لم
تكن على الحرة. وقوله: كما في الطلاق فيه نظر فإن كون طلاق
الأمة اثنين ليس تغليب الحرمة بل تغليب الحل; لأن الزوج
إذا كان مالكا للطلقتين عليها فإن الحل يكون أكثر مما كان
مالكا للطلقة الواحدة ثم عطف على قوله: وكما في نكاح الأمة
الكتابية قوله:
"وكما في مسح الرأس إن المسح في التخفيف أقوى أثرا من
الركن في التثليث والثاني قوة ثباته على الحكم والمراد منه
كثرة اعتبار الشارع هذا الوصف في هذا الحكم كالمسح في
التخفيف في كل تطهير غير معقول كالتيمم ومسح الخف والجبيرة
والجورب بخلاف الركن فإن الركنية لا توجب التكرار كما في
أركان الصلاة بل الإكمال ونحن نقول به" أي بالإكمال, وهو
الاستيعاب. "وكقولنا في صوم رمضان إنه متعين, فلا يجب
التعيين, وهذا الوصف اعتبره الشارع في الودائع والمغصوب
ورد المبيع بيعا فاسدا والأيمان ونحوها" فإن رد الوديعة
والمغصوب متعين عليه, فلا يجب أن يعين أن هذا الرد رد
الوديعة والمغصوب, وكذا لا
.........................................................
قوله: "فأما في المقارنة, فقد غلبت الحرمة" فإن قيل: لا
حاجة إلى ذلك لإمكان حقيقة التنصيف بأن يقال: لنكاح الأمة
حالتان: حالة الانفراد عن الحرة وذلك بالسبق وحالة
الانضمام وذلك بالمقارنة, أو التأخر فحلت في إحدى الحالتين
فقط تحقيقا للتنصيف قلنا المقارنة والتأخر حالتان مختلفتان
متعددتان حقيقة لا تصيران واحدة بمجرد التعبير عنهما
بالانضمام فلا بد من القول بالتثليث, ثم إلحاق المقارنة
بالتأخر تغليبا للحرمة احتياطا كما جعل نصف الطلاق واحدا
متكاملا حيث جعل طلاق الأمة ثنتين لا واحدة احتياطا; لأن
الحل كان ثابتا بيقين, فلا يزول إلا بعد التيقن بنصف
التطليقات الثلاث وذلك في الثنتين دون الواحدة فالتشبيه
بالطلاق إنما هو في مجرد تكميل النصف بالواحدة وجعل نصف
الثلاثة اثنين لا في جعل طلاق الأمة ثنتين تغليبا للحرمة
حتى يرد الاعتراض بأن هذا تغليب للحل دون الحرمة وسيجيء
لهذه المسألة زيادة تحقيق في فصل العوارض.
قوله: "وكما في مسح الرأس" يعني على تقدير تسليم تأثير
الركنية في التثليث فتأثير المسح في التخفيف أقوى منه; لأن
الاكتفاء بالمسح خصوصا مسح بعض المحل مع إمكان الغسل, أو
مسح الكل ليس إلا للتخفيف, وأما التثليث, فقد يوجد بدون
الركنية كما في المضمضة والاستنشاق وبالعكس كما في أركان
الصلاة.
(2/235)
الإكمال ونحن
نقول به وكقولنا في صوم رمضان إنه متعين، فلا يجب التعيين،
وهذا الوصف اعتبره الشارع في الودائع والمغصوب ورد المبيع
بيعا فاسدا والأيمان ونحوها وكمنافع الغصب فإنه يقول: ما
يضمن بالعقد يضمن بالإتلاف تحقيقا للجبر بالمثل تقريبا وإن
كان فيه فضل، فهو على المعتدي ولأن إهدار الوصف أسهل من
إهدار الأصل قلنا التقييد بالمثل واجب في كل باب كالأموال
كلها والصلاة والصوم ونحوهما ووضع الضمان عن المعصوم جائز
في الجملة كإتلاف العادل مال الباغي والحربي مال المسلم
والفضل على المتعدي غير مشروع أصلا ويلزم منه نسبة الجور
ابتداء إلى صاحب الشرع.
ـــــــ
يجب التعيين في رد المبيع بيعا فاسدا, وكذا في الأيمان أن
البر واجب عليه متعينا, فلا يجب عليه التعيين أنه فعله
لأجل البر. "وكمنافع الغصب فإنه يقول: ما يضمن بالعقد يضمن
بالإتلاف تحقيقا للجبر بالمثل تقريبا وإن كان فيه فضل, فهو
على المعتدي" أي إن كان المثل التقريبي, وهو الضمان مماثلا
في الحقيقة لتلك المنافع, فهو المطلوب وإن لم يكن مماثلا
في الحقيقة يكون المثل التقريبي أفضل من تلك المنافع; لأن
الأعيان الباقية خير من الأعراض الغير باقية, وهذا الفضل
على المتعدي أولى من إهدار حق المظلوم اللازم على تقدير
عدم وجوب الضمان "ولأن إهدار الوصف أسهل من إهدار الأصل"
يعني إن أوجبنا الضمان لا يلزم إلا إهدار كون المماثلة
تامة وإن لم نوجب الضمان يلزم إهدار حق المغصوب منه في
.........................................................
قوله: "والإيمان" هو في أكثر نسخ أصول فخر الإسلام رحمه
الله تعالى بكسر الهمزة يعني لا يشترط نية التعيين في
الإيمان بالله تعالى بأن يعين أنه يؤدي الفرض مع أنه أقوى
الفروض بل على أي وجه يأتي به يقع عن الفرض لكونه متعينا
غير متنوع إلى فرض ونفل وتصحيح المصنف رحمه الله تعالى وقع
على "الأيمان" بالفتح جمع "يمين".
قوله: "ونحوها" كتصدق النصاب على الفقير بدون نية الزكاة
وكإطلاق النية في الحج.
قوله: "تحقيقا للجبر وبالمثل تقريبا" وذلك أن المنفعة مال
كالعين والتفاوت الحاصل بالعينية والعرضية مجبور بكثرة
الأجزاء في جانب المنفعة لظهور أن منفعة شهر واحد أكثر
أجزاء من درهم واحد فاستويا قيمة وبقي التفاوت فيما وراء
القيمة بمنزلة التفاوت في الحنطة من حيث الحبات واللون,
وهذا معنى المثل تقريبا.
قوله: "ويلزم منه نسبة الجور ابتداء إلى صاحب الشرع" لأنه
الذي يوجب الأحكام حقيقة, ولا حاجة إلى أن يقال: إن الضمان
يجب بقضاء القاضي, وهو نائب الشارع.
قوله: "والثالث" الترجيح بكثرة الأصول التي يوجد فيها جنس
الوصف, أو نوعه كتأثير وصف المسح في التخفيف يوجد في
التيمم ومسح الخف والجبيرة فيرجح على تأثير وصف الركنية في
(2/236)
أما عدم الضمان
فمضاف إلى عجزنا عن الدرك ولأن الوصف وإن قل فائت أصلا بلا
بدل والأصل وإن عظم فائت إلى ضمان في دار الجزاء فكان هذا
تأخيرا والأول إبطالا والثالث كثرة الأصول، وهو قريب من
الثاني. والرابع وهو العكس أي
ـــــــ
المثل بالكلية في الأصل والوصف فالأول أسهل من هذا. "قلنا
التقييد بالمثل واجب في كل باب كالأموال كلها والصلاة
والصوم ونحوهما ووضع الضمان عن المعصوم جائز في الجملة" أي
عدم إيجاب الضمان في إتلاف المال المعصوم جائز في الجملة
"كإتلاف العادل مال الباغي والحربي مال المسلم والفضل على
المتعدي غير مشروع أصلا" قال الله تعالى: {فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}. "ويلزم منه"
أي من إيجاب الفضل على المتعدي "نسبة الجور ابتداء إلى
صاحب الشرع" المراد من الابتداء أن يكون بلا واسطة فعل
العبد وفيه احتراز عن إيجاب القيمة فيما لا مثل له; لأن
الواجب فيه قيمة عدل, وهو معلوم عند الله تعالى والتفاوت
إنما يقع لعجزنا عن معرفة ذلك الواجب فإن وقع فيه جور, فهو
منسوب إلى العبد أما في مسألتنا في التفاوت في نفس ذلك
الواجب; لأن المال المتقوم لا يماثل المنفعة, فلو وجب يكون
التفاوت مضافا إلى الشارع وذا لا يجوز.
"أما عدم الضمان فمضاف إلى عجزنا عن الدرك" أي إن قلنا
بعدم الضمان فإنما نقول به لعجزنا عن درك المثل فإن وقع
جور يكون منسوبا إلينا لا إلى الشارع فهذا أولى ثم أجاب عن
قوله: ولأن إهدار الوصف أسهل إلخ بقوله: "ولأن الوصف وإن
قل فائت أصلا
.........................................................
التثليث; لأنه في الغسل فقط وذلك; لأن كثرة الأصول توجب
زيادة توكيد ولزوم الحكم بذلك الوصف فيحدث فيه قوة مرجحة
كما يحصل للخبر بكثرة الرواة قوة وزيادة اتصال فيصير
مشهورا مع أن الحجة هو الخبر لا كثرة الرواة.
قوله: "وهو قريب من الثاني" أي قوة ثبات الوصف على الحكم;
لأنها تكون بلزوم الوصف للحكم بأن يوجد في صور كثيرة بل
التحقيق أن الثلاثة راجعة إلى قوة التأثير لكن شدة الأثر
بالنظر إلى الوصف وقوة الثبات بالنظر إلى الحكم وكثرة
الأصول بالنظر إلى الأصل, فلا اختلاف إلا بحسب الاعتبار
ولهذا قال الإمام السرخسي رحمه الله تعالى ما من نوع من
هذه الأنواع إذا قررته في مسألة إلا وتبين به إمكان تقرير
النوعين الآخرين فيه وقال المصنف رحمه الله تعالى في
الحاشية إذا كان التأثير بحسب اعتبار الشارع جنس الوصف, أو
نوعه في نوع الحكم, فهو مستلزم لشهادة الأصل فقوة الثبات
حينئذ يستلزم كثرة شهادة الأصل, وإذا كان بحسب اعتبار جنس
الوصف, أو نوعه في جنس الحكم, أو نوعه فأحدهما لا يستلزم
الآخر فبينها عموم من وجه ولذا قال هو قريب من الثاني.
قوله: "والرابع العكس" معنى الاطراد في العلة أنه كلما
وجدت العلة وجد الحكم ومعنى الانعكاس أنه كلما انتفت العلة
انتفى الحكم كما في الحد والمحدود, وهذا اصطلاح متعارف.
(2/237)
العدم عند
العدم كقولنا مسح فلا يسن تكراره فإنه ينعكس بخلاف قوله:
ركن؛ لأن المضمضة متكررة وليست بركن وكقولنا في بيع الطعام
بالطعام مبيع عين، فلا يشترط قبضه وينعكس بدل الصرف والسلم
فإنه أولى من قوله: كل منهما مال لو قوبل بجنسه حرم ربا
الفضل فإنه لا ينعكس لاشتراط قبض رأس مال السلم في غير
الربوي.
ـــــــ
بلا بدل والأصل وإن عظم فائت إلى ضمان في دار الجزاء فكان
هذا تأخيرا والأول إبطالا" وتقريره أن الوصف, وهو كون
المماثلة تامة يفوت على تقدير وجوب الضمان بلا بدل, والأصل
وهو حق المغصوب منه في المثل يفوت إلى بدل يصل إليه في دار
الجزاء فهذا الفوت تأخير والأول وهو فوت الوصف إبطال
فالتأخير أولى. "وضمان العقد قد يثبت بالتراضي مع عدم
المماثلة" جواب عن قياس الشافعي رحمه الله تعالى, وهو
قوله: ما يضمن بالعقد يضمن بالإتلاف فالأمثلة الثلاثة
المذكورة وهي قوله: كالمسح في التخفيف وكقولنا في صوم
رمضان وكمنافع الغصب, أوردناها لترجيح القياس على القياس
بكثرة اعتبار الشارع الوصف في الحكم المذكور أما الأول
فقياسنا, وهو قولنا مسح, فلا يسن تثليثه راجح على قياس قول
الشافعي رحمه الله تعالى, وهو قوله: ركن فيسن تثليثه لكثرة
اعتبار الشارع المسح في التخفيف, وأما الثاني فقياسنا, وهو
قولنا صوم رمضان متعين, فلا يجب تعيينه كما في سائر
المتعينات راجح على قياسه, وهو قوله: صوم رمضان صوم فرض
فيجب تعيينه كالقضاء لكثرة اعتبار الشارع التعين في سقوط
التعيين, وأما الثالث فقياسنا, وهو أن التقييد بالمثل واجب
في غصب المنافع كما في سائر العدوانات لكن رعاية المثل غير
ممكن في المنافع, فلا يجب راجح على قياسه, وهو قوله: ما
يضمن بالعقد إلخ لكثرة اعتبار الشارع المماثلة في جميع صور
قضاء الصلاة والصوم ونحوهما وجميع العدوانات. "والثالث
كثرة الأصول, وهو قريب من الثاني. والرابع وهو العكس أي
العدم عند العدم" أي عدم الحكم في
.........................................................
والمصنف رحمه الله تعالى بين المناسبة فيه بأنه لازم للعكس
المتفاهم بحسب العرف العام حيث يقولون: كل إنسان ضاحك
وبالعكس أي كل ضاحك إنسان فقولنا كلما انتفى الوصف انتفى
الحكم لازم لقولنا كلما وجد الحكم وجد الوصف لأن انتفاء
اللازم مستلزم لانتفاء الملزوم وهو عكس عرفي لقولنا كلما
وجد الوصف وجد الحكم, وإن لم يكن عكسا منطقيا.
قوله: "مبيع عين" أي متعين, فلا يشترط قبضه. الوصف هو تعين
المبيع والحكم عدم اشتراط قبضه, وهو منتف عند انتفاء الوصف
حيث يشترط القبض في بيع الدرهم بالدرهم, وفي السلم لئلا
يلزم بيع الكالئ بالكالئ; لأن الأصل في الصرف هو النقود
وهي لا تتعين في العقود فكان دينا بدين. وفي السلم المسلم
فيه دين حقيقة ورأس المال من النقود غالبا فيكون دينا. فإن
قيل: قد يتعين المبيع في الصرف والسلم كبيع إناء من فضة
بإناء من فضة وكالسلم في الحنطة على ثوب بعينه فكان ينبغي
أن لا يشترط القبض قلنا نعم إلا أن معرفة ما يتعين وما لا
يتعين أمر خفي عند
(2/238)
جميع صور عدم
الوصف "كقولنا مسح" أي مسح الرأس مسح "فلا يسن تكراره"
كمسح الخف "فإنه ينعكس" فإن كل ما ليس بمسح فإنه يسن
تكراره. "بخلاف قوله: ركن; لأن المضمضة متكررة وليست بركن"
أي مسح الرأس ركن وكل ما هو ركن يسن تكراره كسائر الأركان
فإنه غير منعكس; لأن عكسه أن كل ما هو ليس بركن لا يسن
تكراره, وهذا غير صادق; لأن المضمضة والاستنشاق ليس بركنين
ومع ذلك يسن تكرارهما. واعلم أنه إنما جعل عدم الحكم في
جميع صور عدم الوصف عكسا; لأن المراد بالعكس ما هو متعارف
بين الناس, وهو جعل المحكوم به محكوما عليه مع رعاية
الكلية إذا كان الأصل كليا. يقال: كل إنسان حيوان, ولا
ينعكس أي لا يصدق كل حيوان إنسان, وإذا عرفت هذا فعدم
الحكم في جميع صور عدم الوصف لازم لهذا العكس فسماه عكسا
لهذا. وإنما قلنا إنه لازم; لأن الأصل, وهو قولنا كلما وجد
الوصف وجد الحكم وعكسه كلما وجد الحكم وجد الوصف, ومن
لوازم هذا كلما لم يوجد الوصف لم يوجد هذا الحكم فسمي هذا
عكسا. "وكقولنا في بيع الطعام بالطعام مبيع عين, فلا يشترط
قبضه" أي كل مبيع متعين لا يشترط قبضه كما في سائر
المبيعات المعينة. "وينعكس بدل الصرف والسلم" فإن كل مبيع
غير متعين يشترط قبضه كما في الصرف والسلم "فإنه أولى من
قوله: كل منهما مال لو قوبل بجنسه حرم ربا الفضل" أي كل من
الطعامين مال لو قوبل بجنسه حرم ربا الفضل فكل مال لو قوبل
بجنسه حرم ربا الفضل فإنه يشترط التقابض فيه "فإنه لا
ينعكس لاشتراط قبض رأس مال السلم في غير الربوي" وذلك لأن
عكس القضية المذكورة هو قولنا: كل مال لو قوبل بجنسه لا
يحرم ربا الفضل فإنه لا يشترط قبضه, وهذا غير صحيح; لأن
رأس مال السلم يشترط قبضه وإن كان مالا لو قوبل بجنسه لا
يحرم ربا الفضل فالمراد بغير الربوي في المتن هذا المال
كالثياب مثلا, وهذا العكس هو أضعف وجوه الترجيح أما كونه
من وجوه الترجيح فلأنه إذا وجد وصفان مؤثران أحدهما بحيث
يعدم الحكم عند عدمه فإن الظن بعليته أغلب من الظن بعلية
ما ليس كذلك, وأما كونه أضعف فلأن المعتبر في العلية
التأثير, ولا اعتبار للعدم عند عدم الوصف
.........................................................
التجار فأدير الحكم مع ما أقيم مقام الدين بالدين, وهو اسم
الصرف والسلم فاشترط القبض فيهما على الإطلاق. فإن قيل:
المبيع في السلم هو المسلم فيه, وهو ليس بمقبوض والمقبوض
هو رأس المال, وهو ليس بمبيع أجيب بوجهين: أحدهما: أن
المراد أن كل مبيع متعين لا يشترط قبض بدله وينعكس إلى
قولنا كل مبيع لا يكون متعينا يشترط قبض بدله وثانيهما أن
المراد أن كل بيع يتعين فيه المبيع والثمن لا يشترط فيه
القبض أصلا وينعكس إلى قولنا كل بيع لا يتعين فيه المبيع,
ولا ثمنه يشترط فيه القبض في الجملة, ثم اختلفوا في أن
التقابض شرط صحة العقد, أو شرط بقائه على الصحة وإلى كل
أشار محمد رحمه الله تعالى. ويتوجه على الأول سؤال, وهو أن
شرط الجواز يكون مقارنا كالشهود في النكاح لا متأخرا لما
فيه من وجود المشروط قبل الشرط. والجواب أنه لما لم يكن
هاهنا المقارنة من غير تراض لما فيه من إثبات اليد على مال
الغير بغير رضاه أقيم مجلس العقد مقام حالة العقد وجعل
القبض الواقع فيه واقعا في حالة العقد حكما كذا في المحيط.
(2/239)
مسألة إذا
تعارض وجوه الترجيح فما كان بالذات أولى مما كان بالحال أي
الترجيح بالوصف الذاتي أولى من الترجيح بالوصف العارض كما
إذا تعارض جهتا الفساد والصحة في صوم رمضان لم يبيته هو
يرجح الفساد بكونه عبادة ونحن نرجح الصحة بكون النية في
أكثر اليوم فالترجيح بالكثرة ترجيح بالذات وذلك بالعارضي.
ـــــــ
لأن الحكم يثبت بعلل شتى فما يرجع إلى تأثير العلل, وهو
الثلاثة الأول أقوى من العدم عند العدم.
"مسألة إذا تعارض وجوه الترجيح فما كان بالذات أولى مما
كان بالحال أي الترجيح بالوصف الذاتي أولى من الترجيح
بالوصف العارض كما إذا تعارض جهتا الفساد والصحة في صوم
رمضان لم يبيته" أي لم ينو الصوم من الليل فإنه لا يصح
الصوم عند الشافعي رحمه الله تعالى ويصح عندنا. "هو يرجح
الفساد بكونه عبادة ونحن نرجح الصحة بكون النية في أكثر
اليوم فالترجيح بالكثرة ترجيح بالذات وذلك بالعارضي" وذلك
لأن بعض الصوم وقع فاسدا لعدم النية فإنه لا عبادة بدون
النية والبعض وقع صحيحا لوجود النية لكن الصوم لا يتجزأ
فإما أن يفسد الكل وإما أن يصح الكل, فلا بد من ترجيح
أحدهما على الآخر فالشافعي رحمه الله تعالى يرجح الفاسد
على الصحيح بوصف العبادة فإن وصف العبادة يوجب الفساد, وهو
وصف عارضي; لأن وصف العبادة للإمساك عارضي; لأن الإمساك من
حيث الذات ليس بعبادة بل صار عبادة بجعل الله تعالى, وهو
أمر خارج عن الإمساك ونحن نرجح الصحيح على الفاسد بكون
النية واقعة في أكثر النهار والترجيح بالكثرة ترجيح بالوصف
الذاتي; لأن الكثرة وصف يقوم بالكثير بحسب أجزائه فيكون
وصفا ذاتيا إذ المراد بالوصف الذاتي وصف يقوم بالشيء بحسب
ذاته, أو بحسب بعض أجزائه والوصف العارضي وصف يقوم بالشيء
بحسب أمر خارج عنه,
.........................................................
قوله: "مسألة" التعارض كما يقع بين الأقيسة فيحتاج إلى
الترجيح كذلك يقع بين وجوه الترجيح بأن يكون لكل من
القياسين ترجيح من وجه فيقدم الترجيح بالذات على الترجيح
بالحال لوجهين: أحدهما: أن الحال يقوم بالغير وما يقوم
بالغير فله حكم العدم بالنظر إلى ما يقوم بنفسه. وثانيهما:
أن الذات أسبق وجودا من الحال فيقع به الترجيح أولا, فلا
يتغير بما يحدث بعده كاجتهاد أمضي حكمه. فإن قلت: هذا إنما
يصح في ذات الشيء وحاله لا في مطلق الذات والحال إذ يتقدم
حال الشيء على ذات شيء آخر كحال الأب وذات الابن. قلت:
الكلام فيما إذا ترجح أحد القياسين بما يرجع إلى وصف يقوم
به بحسب ذاته, أو أجزائه والآخر بما يرجع إلى وصف يقوم
بذلك الشيء بحسب أمر خارج عنه كوصفي الكثرة والعبادة
للإمساك, فإن الأول بحسب الأجزاء والثاني بجعل الشارع
ولهذا قال: إن الترجيح بالوصف الذاتي أولى من الترجيح
بالوصف العارضي وإلا فكما أن العبادة حال للإمساك فكذلك
الكثرة.
(2/240)
فصل: و من التراجيح الفاسدة الترجيح بغلبة الأشباه
...
وذكروا له أمثلة أخرى وفيما ذكرنا كفاية.
فصل: ومن التراجيح الفاسدة الترجيح بغلبة الأشباه
كقوله: الأخ يشبه الولد بوجه، وهو المحرمية وابن العم
بوجوه كحل الزكاة وحل زوجته وقبول الشهادة ووجوب القصاص،
وهذا باطل؛ لأن المشابهة في وصف واحد مؤثر في الحكم
المطلوب أقوى منها في ألف وصف غير مؤثر. ومنها الترجيح
بكون الوصف أعم كالطعم فإنه يشمل القليل والكثير، ولا
اعتبار لهذا إذ الترجيح بالقوة، وهو التأثير لا بصورته.
ومنها الترجيح بقلة الأجزاء فإن علة ذات جزء أولى من ذات
جزأين، ولا أثر لهذا المسألة يرجح بكثرة الدليل عند البعض
لغلبة الظن بها ولأن ترك
ـــــــ
"وذكروا له أمثلة أخرى وفيما ذكرنا كفاية".
"فصل ومن التراجيح الفاسدة الترجيح بغلبة الأشباه كقوله"
أي كقول الشافعي رحمه الله تعالى في أن الأخ المشترى لا
يعتق عنده: "الأخ يشبه الولد بوجه, وهو المحرمية وابن العم
بوجوه كحل الزكاة وحل زوجته وقبول الشهادة ووجوب القصاص,
وهذا باطل; لأن المشابهة في وصف واحد مؤثر في الحكم
المطلوب أقوى منها" أي من المشابهة "في ألف وصف غير مؤثر.
ومنها الترجيح بكون الوصف أعم كالطعم فإنه يشمل القليل
والكثير, ولا اعتبار لهذا إذ الترجيح بالقوة, وهو التأثير
لا بصورته. ومنها الترجيح بقلة الأجزاء فإن علة ذات جزء
أولى من ذات جزأين, ولا أثر لهذا المسألة يرجح بكثرة
الدليل عند البعض لغلبة الظن بها" أي لأجل حصول غلبة الظن
بالحكم بسبب كثرة الدليل. "ولأن ترك الأقل أسهل من ترك
الكل, أو الأكثر" أي إذا تعارض الأدلة الكثيرة والقليلة
.........................................................
قوله: "وذكروا له" أي للترجح بالوصف الذاتي أمثلة أخرى
منها مسألة انقطاع حق المالك من العين إلى القيمة بصنعته
في المغصوب من خياطة, أو صباغة, أو طبخ بحيث يزداد بها
قيمة المغصوب, فإن كلا من الوصف الحادث والأصل متقوم, ولا
سبيل إلى إبطال أحد الحقين, ولا إلى إثبات الشركة لاختلاف
الجنسين فلا بد من تملك أحدهما بالقيمة فرجحنا حق الغاصب;
لأنه باعتبار الوجود, وهو معنى راجع إلى الذات وحق المغصوب
منه باعتبار بقاء الصنعة بالمغصوب والبقاء حال بعد الوجود
وتحقيق ذلك أن الصنعة قائمة من كل وجه ومضافة إلى فعل
الغاصب لم يلحق حدوثها تغير ولا إضافة إلى المغصوب منه
بخلاف المغصوب, فإنه ثابت من وجه هالك من وجه حيث انعدام
صورته وبعض معانيه أعني المنافع القائمة به وصار وجوده
مضافا إلى الغاصب من وجه, وهو الوجه الذي به صار هالكا
بمعنى أن لفعل الغاصب مدخلا في وجود الثوب بهذه الصفة
مثلا, ومنها ترجيح ابن ابن الأخ على العم في العصوبة; لأن
رجحانه في ذات القرابة; لأنها قرابة أخوة ورجحان العم في
حال القرابة وهي زيادة القرب; لأنه يتصل بواسطة واحدة, وهو
الأب ومثل هذا كثير في باب الميراث.
قوله: "فصل" كما ختم مباحث الأدلة الصحيحة بالأدلة الفاسدة
تكميلا للمقصود كذلك ختم بحث الترجيحات المقبولة
بالترجيحات المردودة والمذكورة منها هاهنا ثلاثة: الأول:
الترجيح بغلبة الأشياء لإفادتها زيادة الظن بكثرة الأصول
والثاني الترجيح بعموم الوصف لزيادة فائدته والثالث
(2/241)
الأقل أسهل من
ترك الكل، أو الأكثر لا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى
وأبي يوسف لهما أن كل دليل مع قطع النظر عن غيره مؤثر
فوجود الغير وعدمه سواء وأيضا القياس على الشهادة.
والإجماع على عدم ترجيح ابن عم هو زوج، أو أخ لأم في
التعصيب على ابن عم ليس كذلك بل يستحق بكل سبب على انفراده
خلافا لابن مسعود رضي الله عنه في
ـــــــ
ولا يمكن الجمع بينهما لامتناع اجتماع الضدين فإما أن يترك
الجميع, أو الأكثر, أو الأقل وترك الدليل خلاف الأصل فترك
الأقل أسهل من ترك الكل, أو الأكثر. "لا عند أبي حنيفة
رحمه الله تعالى وأبي يوسف لهما أن كل دليل مع قطع النظر
عن غيره مؤثر فوجود الغير وعدمه سواء وأيضا القياس على
الشهادة" فإنه لا يرجح بكثرة الشهود إجماعا فقوله: والقياس
عطف على قوله: أن كل دليل ثم عطف على القياس قوله.
"والإجماع على عدم ترجيح ابن عم هو زوج, أو أخ لأم في
التعصيب" فإنه لا يرجح بحيث يستحق جميع المال "على ابن عم
ليس كذلك بل يستحق بكل سبب على انفراده", ولو كان الترجيح
بكثرة الدليل ثابتا كان الترجيح بكثرة دليل الإرث ثابتا
واللازم منتف. "خلافا لابن مسعود رضي الله عنه في الأخير"
أي في ابن عم هو أخ لأم فإنه راجح عند ابن مسعود
.........................................................
الترجيح ببساطة الوصف لسهولة إثباته والاتفاق على صحته
والكل فاسد; لأن العبرة في باب القياس بمعنى الوصف, وهو
قوته وتأثيره لا بصورته بأن يتكثر الوصف أو يتكثر محال
الوصف, أو تقل أجزاؤه وأيضا الوصف مستنبط من النص فيكون
فرعا له وقلة الأجزاء فيه بمنزلة الإيجاز في النص, ولا
خلاف في عدم ترجيح النص الموجز على المطنب, ولا العام على
الخاص بل عند الشافعي رحمه الله تعالى يقدم الخاص على
العام ولقائل أن يقول: الكلام إنما هو على تقدير تساوي
الوصفين في التأثير أو الملاءمة وحينئذ لم لا يجوز ترجيح
أحدهما بما يفيد زيادة ظن, أو يكون بعيدا عن الخلاف؟ وأما
عند تأثير أحدهما دون الآخر, فلا نزاع في تقديم المؤثر,
وإن كان الآخر أكثر, أو أعم, أو أبسط, ثم لا يخفى أن في
قوله: علة ذات جزء تسامحا إذ لا تركيب من أقل من جزأين
فكأنه من قبيل المشاكلة والمراد أن يكون معنى واحدا لا جزء
له.
قوله: "لهما أن كل دليل" يعني أن الترجيح بقوة الأثر وذلك
بما يصلح وصفا وتبعا للدليل لا بما هو مستقل بالتأثير إذ
تقوي الشيء إنما يكون بصفة توجد في ذاته ويكون تبعا له,
وأما ما يستقل, فلا يحصل للغير قوة بانضمامه إليه بل يكون:
كل منهما معارضا للدليل الموجب للحكم على خلافه فيتساقط
الكل بالتعارض, وهذا معنى تساوي وجود الغير وعدمه وربما
يقال: سلمنا أن الترجيح بالقوة لكن لا نسلم أنه لا يحصل
للدليل بانضمام الغير إليه وصف يتقوى به, وهو كونه موافقا
للدليل الآخر وموجبا لزيادة الظن.
قوله: "خلافا لابن مسعود رضي الله عنه" في الأخير, وهو ما
إذا ترك ابني عم أحدهما أخ له من أم بأن تزوج عمه أمه
فولدت له ابنا فعند ابن مسعود المال كله للأخ لأم; لأنهما
استويا في قرابة
(2/242)
الأخير بخلاف
الأخ لأب وأم فإنه يرجح على الأخ لأب بالأخوة لأم؛ لأن هذه
الجهة تابعة للأولى والحيز متحد فيحصل بهما هيئة اجتماعية
بخلاف الأوليين فلا يرجح بكثرة الرواة ما لم تبلغ حد
الشهرة فإنه يحصل حينئذ هيئة اجتماعية.
ولا القياس بقياس آخر.
ـــــــ
رضي الله عنه على ابن عم ليس كذلك أي يستحق جميع الميراث
ويحجب الآخر. "بخلاف الأخ لأب وأم فإنه يرجح على الأخ لأب
بالأخوة لأم; لأن هذه الجهة" أي جهة الأخوة لأم "تابعة
للأولى" أي للإخوة لأب "والحيز متحد" أي حيز القرابة متحد;
لأن الأخوة لأب والأخوة لأم كل منهما أخوة "فيحصل بهما" أي
بأخوة لأب والأخوة لأم "هيئة اجتماعية بخلاف الأوليين"
فيصير مجموع الأخوتين قرابة واحدة قوية فيترجح على الأضعف
"فلا يرجح بكثرة الرواة ما لم تبلغ حد الشهرة فإنه يحصل
حينئذ هيئة اجتماعية". هذه تفريعات
.........................................................
الأب, وقد ترجحت قرابة الأخ لأم بانضمام قرابة الأم; لأن
العلة تترجح بالزيادة من جنسها إذا كانت غير مستقلة
والأخوة لأم كذلك لكونها من جنس العمومة باعتبار كونها
قرابة مثلها لكنها لا تستبد بالتعصيب فيكون مثل الأخ لأب
وأم مع الأخ لأب بخلاف الزوجية, فإنها ليست من جنس
القرابة, فلا تصلح للترجيح, وعند الجمهور سدس المال للأخ
لأم بالفرضية والباقي بينهما بالعصوبة فيصح من اثني عشر
سبعة لابن عم هو أخ لأم وخمسة للآخر; لأن الأخوة لأم, وإن
لم تستقل بالتعصيب لكنها تستقل باستحقاق الإرث وليست من
جنس العمومة بل أقرب, فلا يكون تبعا لها, فلا يصلح مرجحا
بخلاف الأخوة, فإنها جنس واحد تأكد بانضمام أخوة الأم إليه
بمنزلة الوصف ألا ترى أنه لو اجتمع الأخوة لأب والأخوة لأم
لا تصلح أخوة الأم سببا للاستحقاق بالفرضية.
قوله: "ما لم تبلغ حد الشهرة" تعرض الشهرة; لأنها إذا كانت
مرجحة فالتواتر بطريق الأولى; لأنه لا يبلغ حد التواتر ما
لم يبلغ حد الشهرة ولتقارب أمرهما بل لكون المشهور أحد
قسمي المتواتر على رأي تعرض في الشرح للتواتر. وحاصل
الكلام في هذا المقام أن الكثرة إن تأدت إلى حصول هيئة
اجتماعية هي وصف واحد قوي الأثر كانت صالحة للترجيح; لأن
المرجح هو القوة لا الكثرة غايته أن القوة حصلت بالكثرة
وإلا فلا, فكثرة أجزاء العلة توجب القوة كما في حمل
الأثقال بخلاف كثرة جزئياته كما في المصارعة إذ المقاوم
واحد, وأما الرجوع إلى السنة, أو القياس عند تعارض النصين,
أو الحديثين, فقد سبق أنه ليس من قبيل الترجيح.
قوله: "ولا القياس بقياس آخر" يعني قياسا يوافقه في الحكم
دون العلة ليكون من كثرة الأدلة إذ لو وافقه في العلة كان
من كثرة الأصول لا من كثرة الأدلة إذ لا يتحقق تعدد
القياسين حقيقة إلا عند تعدد العلتين; لأن حقيقة القياس
ومعناه الذي به يصير حجة هي العلة لا الأصل.
قوله: "وعلى هذا" يعني كما أن كل ما يصلح دليلا مستقلا على
الأحكام لا يصلح مرجحا لأحد الدليلين كذلك كل ما يصلح علة
لا يصلح مرجحا; لأنه لاستقلاله لا ينضم إلى الآخر, ولا
(2/243)
على عدم
الترجيح بكثرة الدليل فالرواة إذا لم يبلغوا حد التواتر لم
تحصل هيئة اجتماعية أما إذا بلغوا فقد حصل هيئة اجتماعية
تمنع التوافق على الكذب وقبل بلوغ هذا الحد يحتمل كذب كل
واحد منهم. واعلم أنا نرجح بالكثرة في بعض المواضع
كالترجيح بكثرة الأصول وكترجيح الصحة على الفساد بالكثرة
في صوم غير مبيت, ولا نرجح بالكثرة في بعض المواضع كما لم
نرجح بكثرة الأدلة ولنا في ذلك فرق دقيق. وهو أن الكثرة
معتبرة في كل موضع يحصل بها هيئة اجتماعية ويكون الحكم
منوطا بالمجموع من حيث هو المجموع وأنها غير معتبرة في كل
موضع لا يحصل بالكثرة هيئة اجتماعية ويكون الحكم منوطا بكل
واحد منها لا بالمجموع واعتبر هذا بالشاهد فإن كل أمر منوط
بالكثرة كحمل الأثقال والحروب ونحوهما فإن الأكثر فيه راجح
على الأقل وكل أمر منوط بكل واحد واحد كالمصارعة مثلا فإن
الكثير لا يغلب القليل فيها بل رب واحد قوي يغلب الآلاف من
الضعاف فكثرة الأصول من قبيل الأول; لأنها دليل قوة تأثير
الوصف فهي راجعة إلى القوة فتعتبر وكثرة الأدلة من قبيل
الثاني; لأن كل واحد دليل هو مؤثر بنفسه بلا مدخل لوجود
الآخر أصلا فإن الحكم منوط بكل واحد لا بالمجموع من حيث هو
المجموع بخلاف الكثرة التي هي في الصوم فإن هذا الحكم تعلق
بالأكثر من حيث هو الأكثر لا بكل واحد, من
.........................................................
يتحد به ليفيد القوة, ثم بين ذلك في العلل الحسية للأحكام
الشرعية التي وقع الإجماع على الترجيح بكثرة العلة بمعنى
أن يسقط الآخر بالكلية وذلك كما في مسألة اختلاف عدد
جراحات الجانين على مجروح واحد مات من جميعها, فإن الدية
عليهما نصفان. فإن قيل: هب أنه لم تعتبر الكثرة مرجحة حتى
يلزم الإسقاط لكن لم لم تعتبر موجبة لتوزيع الدية على
الجراحات كما تعدد في الجنايات. قلنا: لأن الإنسان قد يموت
من جراحة واحدة, ولا يموت من جراحات كثيرة, فلم يتعد
بعددها وجعل الجميع بمنزلة جراحة واحدة, وكما في مسألة
الشفعة وهي دار بين ثلاثة لأحدهم نصفها وللآخر ثلثها
وللثالث سدسها فباع صاحب النصف نصفه وطلب الآخران الشفعة
لم يترجح جانب صاحب الثلث بحيث ينفرد باستحقاق الشفعة
ويسقط صاحب السدس; لأن كل جزء من أجزاء سهميهما علة مستقلة
في استحقاق شفعة جميع المبيع وليس في جانب صاحب الثلث إلا
كثرة العلة وهي لا تصلح للترجيح فعندنا يكون نصف المبيع
بينهما أنصافا لترتب الحكم على العلة المتحققة في كل جانب,
وعند الشافعي رحمه الله تعالى أثلاثا ثلثه لصاحب السدس
وثلث لصاحب الثلث; لأن حق الشفعة من مرافق الملك أي منافعه
وثمراته كالثمرة للشجرة والولد للحيوان المشترك فيقسم بقدر
الملك. والجواب أن الدار المشفوعة علة فاعلية تثبت بها
الشفعة لا علة مادية يتولد منها المعلول بمنزلة الشجر
والحيوان, وقد ثبت في علم الكلام أن تأثير العلة الفاعلية
في المعلول ليس بطريق التوليد بل بإيجاد الله تعالى إياه
عقيبه, فلا يكون ترتب استحقاق الشفعة على الملك كترتب
الثمر على الشجر والولد على الحيوان, ثم الشارع قد جعل
ممنوع الملك علة للحكم فتقسيم الحكم على أجزاء العلة وجعل
كل جزء من العلة علة لجزء من المعلول نصب للشرع بالرأي,
وهو فاسد.
(2/244)
ولا الحديث
بحديث آخر وعلى هذا كل ما يصلح علة لا يصلح مرجحا، وكذا
إذا جرح أحدهما جراحة والآخر عشر جراحات فالدية نصفان،
وكذا الشفيعان بشقصين متفاوتين. والشافعي رحمه الله تعالى
لا يرجح صاحب الكثير أيضا ولكن يقسم بقدر الملك؛ لأن
الشفعة من مرافق الملك كالثمرة والولد فنقول: حكم العلة لا
يتولد منها، ولا ينقسم عليها.
ـــــــ
الأجزاء فيكون من قبيل الأول هذا هو الأصل فأحكمه وفرع
عليه الفروع. وقوله: "ولا القياس بقياس آخر" عطف على
الضمير المرفوع في قوله: فلا يرجح ومعناه أنه إذا كانت
العلة في أحدهما مغايرة للعلة في الآخر لكنهما أديا إلى
حكم واحد كما أن علة الربا عند الشافعي رحمه الله تعالى
الطعم, وعند مالك الطعم والادخار فكل واحد من العلتين يوجب
حرمة بيع الحفنة من الحنطة بحفنتين منها, وأما إذا كانت
العلة فيهما شيئا واحدا لكن المقيس عليه متعدد فإنه حينئذ
لا يكون قياسان بل قياس واحد مع كثرة الأصول, وهذا يصلح
للترجيح.
"ولا الحديث بحديث آخر وعلى هذا كل ما يصلح علة لا يصلح
مرجحا, وكذا إذا جرح أحدهما جراحة والآخر عشر جراحات
فالدية نصفان, وكذا الشفيعان بشقصين متفاوتين. والشافعي
رحمه الله تعالى لا يرجح صاحب الكثير أيضا" بمعنى أن يكون
هو المستحق دون الآخر "ولكن يقسم بقدر الملك; لأن الشفعة
من مرافق الملك كالثمرة والولد فنقول: حكم العلة لا يتولد
منها, ولا ينقسم عليها" المراد بالعلة هاهنا العلة
الفاعلية وهي التي يحصل المعلول بها فإن المعلول غير متولد
منها وغير منقسم عليها بخلاف العلة المادية وهي التي يحصل
المعلول منها فالمعلول يتولد منها وينقسم عليها كالولد
والثمر فاستحقاق الشفعة غير متولد من الدار المشفوع بها بل
هو ثابت بها لا منها, فلا تنقسم عليها.
(2/245)
باب الاجتهاد
شرطه أن يحوي علم الكتاب بمعانيه لغة وشرعا وأقسامه
المذكورة، وعلم السنة متنا وسندا، ووجوه القياس كما ذكرنا.
وحكمه غلبة الظن على
ـــــــ
"باب الاجتهاد شرطه أن يحوي علم الكتاب بمعانيه لغة وشرعا
وأقسامه المذكورة, وعلم السنة متنا وسندا, ووجوه القياس
كما ذكرنا. وحكمه غلبة الظن على احتمال الخطأ
.........................................................
قوله: "باب الاجتهاد" لما كان بحث الأصول عن الأدلة من حيث
إنه يستنبط منها الأحكام وطريق ذلك هو الاجتهاد ختم مباحث
الأدلة بباب الاجتهاد, وهو في اللغة تحمل الجهد أي المشقة.
وفي الاصطلاح استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي,
وهذا هو المراد بقولهم: بذل المجهود لنيل المقصود ومعنى
استفراغ الوسع بذل تمام الطاقة بحيث يحس من نفسه العجز عن
المزيد عليه فخرج استفراغ غير الفقيه وسعه في معرفة حكم
شرعي فبذل الفقيه وسعه في معرفة حكم شرعي قطعي, أو في الظن
بحكم غير شرعي ليس باجتهاد. وشرط الاجتهاد أن يحوي أي أن
يجمع العلم بأمور ثلاثة.
(2/245)
احتمال الخطأ
فالمجتهد عندنا يخطئ ويصيب، وعند المعتزلة كل مجتهد مصيب.
وهذا بناء على أن عندنا في كل حادثة حكما معينا عند الله
تعالى، وعندهم لا بل الحكم ما أدى إليه اجتهاد كل مجتهد،
فإذا اجتهدوا في حادثة فالحكم عند الله تعالى في حق كل
واحد مجتهده. لهم أن المجتهدين كلفوا بإصابة الحق، ولولا
تعدد الحقوق يلزم التكليف بما ليس في وسعهم، وهذا
كالاجتهاد في القبلة فإن القبلة جهة التحري حتى أن المخطئ
يخرج عن عهدة الصلاة. واختلاف الحكم بالنسبة إلى قومين
جائز كما
ـــــــ
فالمجتهد عندنا يخطئ ويصيب, وعند المعتزلة كل مجتهد مصيب,
وهذا بناء على أن عندنا في كل حادثة حكما معينا عند الله
تعالى, وعندهم لا بل الحكم ما أدى إليه اجتهاد كل مجتهد,
فإذا اجتهدوا في حادثة فالحكم عند الله تعالى في حق كل
واحد مجتهده. لهم أن المجتهدين كلفوا بإصابة الحق, ولولا
تعدد الحقوق يلزم التكليف بما ليس في وسعهم, وهذا
كالاجتهاد في القبلة فإن القبلة جهة التحري حتى أن المخطئ
يخرج عن عهدة الصلاة. واختلاف الحكم بالنسبة إلى قومين
جائز كما كان في إرسال رسولين على قومين ثم اختلفوا فقال
بعضهم بتساوي الحقوق; لأن دليل التعدد لا يوجب التفاوت,
وعند بعضهم واحد منها أحق; لأنها لو
.........................................................
الأول: الكتاب أي القرآن بأن يعرفه بمعانيه لغة وشريعة أما
لغة فبأن يعرف معاني المفردات والمركبات وخصوصها في
الإفادة فيفتقر إلى اللغة والصرف والنحو والمعاني والبيان
اللهم إلا أن يعرف ذلك بحسب السليقة, وأما شريعة فبأن يعرف
المعاني المؤثرة في الأحكام مثلا يعرف في قوله تعالى:
{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} أن المراد
بالغائط الحدث, وأن علة الحكم خروج النجاسة عن بدن الإنسان
الحي بأقسامه من الخاص والعام والمشترك والمجمل والمفسر
وغير ذلك مما سبق ذكره بأن يعلم أن هذا خاص وذاك عام, وهذا
ناسخ وذاك منسوخ إلى غير ذلك, ولا خفاء في أن هذا مغاير
لمعرفة المعاني والمراد بالكتاب قدر ما يتعلق بمعرفة
الأحكام والمعتبر هو العلم بمواقعها بحيث يتمكن من الرجوع
إليها عند طلب الحكم لا الحفظ عن ظهر القلب.
الثاني: السنة قدر ما يتعلق بالأحكام بأن يعرفها بمتنها
وهو نفس الحديث وسندها, وهو طريق وصولها إلينا من تواتر,
أو شهرة, أو آحاد. وفي ذلك معرفة حال الرواة والجرح
والتعديل إلا أن البحث عن أحوال الرواة في زماننا هذا
كالمتعذر لطول المدة وكثرة الوسائط فالأولى الاكتفاء
بتعديل الأئمة الموثوق بهم في علم الحديث كالبخاري ومسلم
والبغوي والصغاني وغيرهم من أئمة الحديث, ولا يخفى أن
المراد معرفة متن السنة بمعانيه لغة وشريعة وبأقسامه من
الخاص والعام وغيرهما.
الثالث: وجوه القياس بشرائطها وأحكامها وأقسامها والمقبول
منها والمردود وكل ذلك ليتمكن من الاستنباط الصحيح وكان
الأولى ذكر الإجماع أيضا إذ لا بد من معرفته ومعرفة مواقعه
لئلا يخالفه في اجتهاده, ولا يشترط علم الكلام لجواز
الاستدلال بالأدلة السمعية للجازم بالإسلام تقليدا, ولا
علم الفقه; لأنه نتيجة الاجتهاد وثمرته, فلا يتقدمه إلا أن
منصب الاجتهاد في زماننا إنما
(2/246)
كان في إرسال
رسولين على قومين ثم اختلفوا فقال بعضهم بتساوي الحقوق؛
لأن دليل التعدد لا يوجب التفاوت، وعند بعضهم واحد منها
أحق؛ لأنها لو استوت لأصيبت بمجرد الاختيار ولسقط الاجتهاد
وفيه نظر؛ لأنه قبل الاجتهاد لا يعلم أن جميع الاجتهادات
تتفق على شيء واحد فيكون الحق واحدا، أو تختلف فيكون حينئذ
متعددا. ولنا قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}
وقوله: عليه الصلاة والسلام: "إن أصبت فلك عشر حسنات وإن
أخطأت فلك حسنة" وفي حديث آخر: "جعل الله للمصيب أجرين
وللمخطئ واحدا" وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن أصبت فمن
الله تعالى، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان ولأن الثابت
بالقياس ثابت بمعنى النص وإن ورد نصان صيغة في حادثة لا
يتعدد الحق اتفاقا فكيف إذا وردا معنى.
ـــــــ
استوت لأصيبت بمجرد الاختيار ولسقط الاجتهاد وفيه نظر;
لأنه قبل الاجتهاد لا يعلم أن جميع الاجتهادات تتفق على
شيء واحد فيكون الحق واحدا, أو تختلف فيكون حينئذ متعددا.
ولنا قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} وقوله
عليه الصلاة والسلام: "إن أصبت فلك عشر حسنات وإن أخطأت
فلك حسنة" وفي حديث آخر "جعل الله للمصيب أجرين وللمخطئ
واحدا" وقال ابن مسعود رضي الله عنه إن أصبت فمن الله
تعالى, وإن أخطأت فمني ومن الشيطان ولأن الثابت بالقياس
ثابت بمعنى النص وإن ورد نصان صيغة في حادثة لا يتعدد الحق
اتفاقا فكيف إذا وردا معنى" أي كيف يتعدد الحق إذا وردا
معنى. نظيره حلي النساء فإنا نقول بوجوب الزكاة فيها قياسا
على المضروب والشافعي رحمه الله تعالى بعدم وجوب الزكاة
قياسا على الثياب فإن كلا منهما مصروف لحاجته فمعنى القياس
أن النص الوارد في
.........................................................
يحصل بممارسة الفروع فهي طريق إليه في هذا الزمان, ولم يكن
الطريق في زمان الصحابة رضي الله تعالى عنهم ذلك ويمكن
الآن سلوك طريق الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
ثم هذه الشرائط إنما هي في حق المجتهد المطلق الذي يفتي في
جميع الأحكام, وأما المجتهد في حكم دون حكم فعليه معرفة ما
يتعلق بذلك الحكم كذا ذكره الإمام الغزالي. فإن قلت: لا بد
من معرفة جميع ما يتعلق بالأحكام لئلا يقع اجتهاده في تلك
المسألة مخالفا لنص, أو إجماع. قلت: بعد معرفة جميع ما
يتعلق بذلك الحكم لا يتصور الذهول عما يقتضي خلافه; لأنه
من جملة ما يتعلق بذلك الحكم, ولا حاجة إلى الباقي. مثلا
الاجتهاد في حكم متعلق بالصلاة لا يتوقف على معرفة جميع ما
يتعلق بأحكام النكاح.
قوله: "وحكمه" أي الأثر الثابت بالاجتهاد غلبة الظن بالحكم
مع احتمال الخطأ, فلا يجري الاجتهاد في القطعيات وفيما يجب
فيه الاعتقاد الجازم من أصول الدين, وهذا مبني على أن
المصيب عند اختلاف المجتهدين واحد, وقد اختلفوا في ذلك
بناء على اختلافهم في أن لله تعالى
(2/247)
المقيس عليه
وارد في المقيس معنى وإن لم يكن واردا صريحا, فلو كان
النصان واردين فيه صريحا كان الحق واحدا; لأنه لا تعارض في
أدلة الشرع فيكون أحدهما منسوخا والآخر ناسخا, فإذا كان
النصان وهما النص الوارد في المضروب والنص الوارد في
الثياب واردين في الحلي من حيث المعنى لا يدلان على حقيقة
مدلولي كل منهما إذ دلالتهما معنى لا تزيد على دلالتهما
صريحا, ولو وجدت دلالتهما صريحا لا يكون مدلول كل منهما
حقا فكذا إذا وجدت دلالتهما معنى بالطريق الأولى.
.........................................................
في كل صورة من الحوادث حكما معينا أم الحكم ما أدى إليه
اجتهاد المجتهد فعلى الأول يكون المصيب واحدا وعلى الثاني
يكون كل مجتهد مصيبا. وتحقيق هذا المقام أن المسألة
الاجتهادية إما أن يكون لله تعالى فيها حكم معين قبل
اجتهاد المجتهد, أو لا يكون وحينئذ إما أن لا يدل عليه
دليل, أو يدل وذلك الدليل إما قطعي, أو ظني فذهب إلى كل
احتمال جماعة فحصل أربعة مذاهب: الأول: أن لا حكم في
المسألة قبل الاجتهاد بل الحكم ما أدى إليه رأي المجتهد
وإليه ذهب عامة المعتزلة, ثم اختلفوا فذهب بعضهم إلى
استواء الحكمين في الحقية وبعضهم إلى كون أحدهما أحق, وقد
ينسب ذلك إلى الأشعري بمعنى أنه لم يتعلق الحكم بالمسألة
قبل الاجتهاد وإلا فالحكم قديم عنده. الثاني: أن الحكم
معين, ولا دليل عليه بل العثور عليه بمنزلة العثور على
دفين فلمن أصاب أجران ولمن أخطأ أجر الكد وإليه ذهب طائفة
من الفقهاء والمتكلمين. الثالث: أن الحكم معين وعليه دليل
قطعي والمجتهد مأمور بطلبه وإليه ذهب طائفة من المتكلمين,
ثم اختلفوا في أن المخطئ هل يستحق العقاب أم لا؟ وفي أن
حكم القاضي بالخطأ هل ينقض. الرابع: أن الحكم معين وعليه
دليل ظني إن وجده أصاب, وإن فقده أخطأ والمجتهد غير مكلف
بإصابتها لغموضها وخفائها فلذا كان المخطئ معذورا بل
مأجورا, ثم اختلف هؤلاء في أن المخطئ مخطئ ابتداء وانتهاء
معا, أو انتهاء فقط, وهذا هو المختار عند المصنف رحمه الله
تعالى.
قوله: "لهم" احتج القائلون بتعدد الحق في المسائل
الاجتهادية وإصابة كل مجتهد بوجهين:
أحدهما: أنه لو يتعدد الحق لزم تكليف ما لا يطاق, وهو باطل
لما مر بيان الملازمة أن المجتهدين مكلفون بنيل الحق
وإصابة الصواب إذ لا فائدة للاجتهاد سوى ذلك, فلو كان الحق
واحدا لكان المجتهد مأمورا بإصابته بعينه, وظاهر أن ذلك
ليس في وسعه لغموض طريقه وخفاء دليله فيجب أن يكون الحق
بالنسبة إلى كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده.
والثاني: أن اجتهاد المجتهد في الحكم كاجتهاد المصلي في
أمر القبلة والحق فيه متعدد اتفاقا فكذا هاهنا لعدم الفرق.
وإنما قلنا: إن الحق فيه متعدد اتفاقا; لأن المصلي مأمور
باستقبال القبلة, فلو لم يكن جميع الجهات بالنسبة إلى
المصلين إلى جهات مختلفة قبلة لما تأدى فرض من أخطأ جهة
القبلة واللازم باطل; لأنه لا يؤمر بإعادة الصلاة. فإن
قيل: تعدد الحق يستلزم اتصاف فعل واحد بالمتنافيين كالوجوب
وعدمه, وهو محال. أجيب بأنه إن أريد بالنسبة إلى شخص واحد
في زمان واحد فاللزوم ممنوع, وإن أريد بالنسبة إلى شخصين
فالاستحالة ممنوعة لجواز أن يجب شيء على زيد, ولا يجب على
عمر وكما عند اختلاف الرسل بأن يبعث الله تعالى رسولين إلى
قومين مع
(2/248)
اختصاص كل
منهما بأحكام فيجوز أن يكون الشيء واجبا على مجتهد وعلى من
التزم تقليده, غير واجب على آخر وعلى مقلديه, ثم اختلف
القائلون بحقية الجميع فذهب بعضهم إلى تساوي الجميع في
الحقية وبعضهم إلى كون البعض أحق أي أكثر ثوابا بمعنى أن
من أدى اجتهاده إلى وجوب الشيء, فهو أكثر ثوابا ممن أدى
اجتهاده إلى عدم وجوبه مع حقية الحكمين استدل الأولون بأن
الدليل الدال على تعدد الحق في المسائل الاجتهادية, وهو
لزوم تكليف ما لا يطاق على تقدير عدم التعدد لا يوجب
التفاوت بين الحكمين في الأحقية. وفيه نظر; لأنه لا يوجب
التساوي فيجوز أن يثبت التفاوت بناء على دليل آخر. واستدل
الآخرون بأنه لو تساوت الأحكام الاجتهادية في الحقية لجاز
للمجتهد أن يختار أيها شاء من غير تعب في بذل المجهود وطلب
لنيل المقصود, وهذا معنى سقوط الاجتهاد. وفيه نظر أما أولا
فلأن التقدير أن لا حكم قبل الاجتهاد, وإنما يحدث عقيبه
فلا بد من الاجتهاد ليتحقق الحكم, وأما ثانيا فلأنها, وإن
تساوت في الحقية إلا أن المتعين بالنسبة إلى كل مجتهد ما
أدى إليه اجتهاده لا غير حتى لا يجوز له أن يختار غيره,
ولا أن يترك الاجتهاد ويقلد مجتهدا آخر.
وأما ثالثا فلأنه على تقدير تحقق الحكم قبل الاجتهاد وجواز
اختيار المجتهد أي حق شاء لا بد من الاجتهاد ليعلم تعدد
الحق فيتمكن من اختيار أحد الحقين إذ ليس كل مسألة
اجتهادية مما يتعدد فيه الحق بل قد تجتمع الآراء على حكم
واحد فيكون الحق واحدا مجمعا عليه.
والحاصل أن التعدد لا يكون إلا عند اختلاف آراء المجتهدين,
وهو بدون الاجتهاد لا يتصور واعلم أن مراد المستدل هو أنه
لو تساوت الحقوق لثبت الحق بمجرد اختيار الحكم بأدنى دليل
يؤدي إليه من غير مبالغة في الطلب والاجتهاد لتساوي ما
ينال بغاية الطلب وما ينال بأدنى الطلب, وهذا معنى سقوط
الاجتهاد يدل على ذلك ما ذكر في التقويم أنه لو تساوت
الحقوق لبطلت مراتب الفقهاء وتساوى الباذل كل جهده في
الطلب المبلى عذره بأدنى طلب وعلى هذا لا يرد الاعتراض.
قوله: "ولنا" احتج أصحابنا على أن الحق واحد والمجتهد يخطئ
ويصيب بالكتاب والسنة والأثر ودلالة الإجماع والمعقول.
أما الكتاب فقوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}
والضمير للحكومة أو الفتوى ووجه الاستدلال أن داود عليه
الصلاة والسلام حكم بالغنم لصاحب الحرث وبالحرث لصاحب
الغنم وسليمان حكم بأن تكون الغنم لصاحب الحرث ينتفع بها
ويقوم أصحاب الغنم على الحرث حتى يرجع كما كان فيرد كل إلى
صاحبه ملكه وكان حكم داود عليه الصلاة والسلام بالاجتهاد
دون الوحي وإلا لما جاز لسليمان عليه الصلاة والسلام
خلافه, ولا لداود الرجوع عنه, ولو كان كل من الاجتهادين
حقا لكان كل منهما قد أصاب الحكم وفهمه, ولم يكن لتخصيص
سليمان عليه الصلاة والسلام بالذكر جهة, فإنه وإن لم يدل
على نفي الحكم عما عداه لكنه في هذا المقام يدل عليه كما
لا يخفى على من له معرفة بخواص التراكيب, وهذا مبني على
جواز اجتهاد الأنبياء وجواز خطئهم فيه على ما ثبت ذلك في
موضعه, وقد يجاب بأن المعنى ففهمنا سليمان عليه الصلاة
والسلام الفتوى, أو الحكومة التي هي أحق وأفضل ويكون
اعتراض سليمان عليه الصلاة والسلام مبنيا على
(2/249)
ولأن الجمع بين
الحظر والإباحة ممتنع، وكذا بالنسبة إلى قومين في شريعتنا
والتكليف بالاجتهاد يفيد لأنه إن أخطأ، فهو مصيب نظرا إلى
الدليل وله الأجر، وأما
ـــــــ
"ولأن الجمع بين الحظر والإباحة ممتنع, وكذا بالنسبة إلى
قومين في شريعتنا والتكليف بالاجتهاد يفيد" جواب عن قول
المعتزلة أن المجتهدين كلفوا "لأنه إن أخطأ, فهو مصيب نظرا
إلى الدليل وله الأجر, وأما مسألة القبلة فإن فساد صلاة من
خالف الإمام عالما يدل على
.........................................................
أن ترك الأولى من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمنزلة
الخطأ من غيرهم يشعر بذلك قوله تعالى: {وَكُلّاً آتَيْنَا
حُكْماً وَعِلْماً}, فإنه يفهم منه إصابتهم في فصل
الخصومات والعلم بأمور الدين ويؤيده ما نقل أنه قال سليمان
عليه الصلاة والسلام غير هذا أوفق الفريقين كأنه قال هذا
حق لكن غيره أحق.
وأما السنة والأثر فالأحاديث والآثار الدالة على ترديد
الاجتهاد بين الصواب والخطأ وهي وإن كانت من قبيل الآحاد
إلا أنها متواترة من جهة المعنى وإلا لم تصلح للاستدلال
على الأصول. وأما دلالة الإجماع, فهو أن القياس مظهر لا
مثبت فالثابت بالقياس ثابت بالنص معنى, وإن لم يكن ثابتا
به صريحا, وقد أجمعوا على أن الحق فيما ثبت بالنص واحد لا
غير. وفيه نظر; لأن القياس عند الخصم مثبت لا مظهر ولأن
الحكم الاجتهادي أعم من أن يكون ثابتا بالقياس, أو بغيره
من الأدلة الظنية كمفهوم الشرط والصفة ونحو ذلك والخلاف في
اتحاد الحق, أو تعدده جار في الجميع, فلا إجماع على اتحاد
الحق إلا فيما لم يقع فيه خلاف.
وأما المعقول فلأن كون الفعل محظورا ومباحا, أو صحيحا
وفاسدا, أو واجبا وغير واجب ممتنع لاستلزامه اتصاف الشيء
بالنقيضين والممتنع لا يكون حكما شرعيا. فإن قيل: لا نسلم
امتناع ذلك بالنسبة إلى شخصين, فإن التناقض لا يكون إلا
عند اتحاد المحل. أجيب بأن الجمع بين المتنافيين بالنسبة
إلى شخصين أيضا ممتنع في شريعة نبينا عليه السلام; لأنه
مبعوث إلى الناس كافة داع لهم إلى الحق بصريح النصوص, أو
معناها من غير تفرقة بين الأشخاص لدخولهم في العمومات على
السواء, ولا يخفى ابتناء هذا الجواب على أن الثابت بالقياس
ثابت بالنص, وأن الحق في الاجتهاديات الثابتة بالنصوص واحد
إجماعا والأصوب أن يقال: يلزم الجمع بين المتنافيين
بالنسبة إلى شخص واحد فيما إذا استفتى عامي لم يلتزم تقليد
مذهب معين مجتهدين حنفيا وشافعيا فأفتاه أحدهما بإباحة
النبيذ والآخر بحرمته, ولم يترجح أحدهما عنده, ولم يستقر
علمه على شيء منهما وأيضا إذا تغير اجتهاد المجتهد, فإن في
الأول حقا لزم اجتماع المتنافيين بالنسبة إليه وإلا لزم
النسخ بالاجتهاد, وكذا المقلد إذا صار مجتهدا.
قوله: "والتكليف" جواب عن تمسكهم بأنه لو اتحد الحق لزم
التكليف بما ليس في الوسع وتقريره أنا لا نسلم أن المجتهد
مكلف بإصابة الحق بل هو مكلف بالاجتهاد ضرورة أنه لا يجوز
له التقليد, والاجتهاد حق نظرا إلى رعاية شرائطه بقدر
الوسع سواء أدى إلى ما هو حق عند الله تعالى, أو خطأ
والتكليف به يفيد الأجر ووجوب العمل بموجبه, فلا يلزم
العبث. فإن قيل: المجتهد مأمور بما أدى إليه اجتهاده وكل
ما أمر به, فهو حق. أجيب بأنه يكفي في المأمور به أن يكون
حقا بالنظر
(2/250)
مسألة القبلة
فإن فساد صلاة من خالف الإمام عالماحاله يدل على مذهبنا،
فأما عدم إعادة المخطئ للكعبة فلأنها غير مقصودة لكن الشرع
جعلها وسيلة إلى المقصود، وهو وجه الله تعالى فأقيم غلبة
ظن إصابتها مقام إصابتها، ثم اختلف علماؤنا في المخطئ فعند
البعض مخطئ ابتداء وانتهاء أي بالنظر إلى الدليل وبالنظر
إلى الحكم لما روينا من إطلاق الخطأ في الحديث ولقوله عليه
الصلاة والسلام في أسارى بدر حين نزل: {لَوْلا كِتَابٌ
مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الآية "لو نزل بنا عذاب ما نجا منه
إلا عمر" رضي الله تعالى عنه.
وعند البعض مصيب ابتداء مخطئ انتهاء وهذا ما قال أبو حنيفة
رحمه
ـــــــ
مذهبنا, فأما عدم إعادة المخطئ للكعبة فلأنها غير مقصودة
لكن الشرع جعلها وسيلة إلى المقصود, وهو وجه الله تعالى
فأقيم غلبة ظن إصابتها مقام إصابتها, ثم اختلف علماؤنا في
المخطئ فعند البعض مخطئ ابتداء وانتهاء أي بالنظر إلى
الدليل وبالنظر إلى الحكم لما روينا من إطلاق الخطأ في
الحديث ولقوله عليه الصلاة والسلام في أسارى بدر حين نزل:
{لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الآية "لو نزل بنا
عذاب ما نجا منه إلا عمر" رضي الله تعالى عنه هذا هو
المقول لقوله عليه الصلاة والسلام فدل هذا الحديث على أن
المجتهد المخطئ مخطئ ابتداء وانتهاء; لأن المجتهد لو كان
مصيبا من وجه لما كانوا مستحقين لنزول العذاب وقد مر هذا
الحديث وقصته في الركن الثاني في السنة.
"وعند البعض مصيب ابتداء مخطئ انتهاء وهذا ما قال أبو
حنيفة رحمه الله تعالى كل مجتهد مصيب والحق عند الله واحد"
فإن كان الحق عند الله واحدا لا يراد أن كل مجتهد
.........................................................
إلى الدليل وبحسب ظن المجتهد, وإن كان خطأ عند الله تعالى
كما إذا قام نص على خلاف رأي المجتهد لكنه لم يطلع عليه
بعد استفراغ الجهد في الطلب, فإنه مأمور بما أدى إليه ظنه,
وإن كان خطأ لقيام النص على خلافه وبهذا يندفع ما يقال:
إنه يجب على المجتهد العمل باجتهاده ويحرم تقليد غيره, فلو
كان اجتهاده خطأ واجتهاد الغير حقا لزم أن يكون العمل
بالخطأ واجبا وبالصواب حراما, وهو ممتنع.
قوله: "يدل على مذهبنا", وهو أن المجتهد يخطئ ويصيب إذ لو
كان كل مجتهد مصيبا لصح صلاة من خالف الإمام عالما بحاله
لإصابتهما جميعا في جهة القبلة.
قوله: "وهو وجه الله تعالى" أي المقصود هي الجهة التي
رضيها الله تعالى وأمر بها, وعند حصول المقصود لا بأس
بفوات الوسيلة.
قوله: "وعند البعض مصيب ابتداء" أي بالنظر إلى الدليل مخطئ
انتهاء أي بالنظر إلى الحكم, فإنه لا يمتنع في الأقيسة
الشرعية والأدلة الظنية أن يتناقض المطالب والأحكام مع
رعاية الشرائط قدر
(2/251)
الله تعالى كل
مجتهد مصيب والحق عند الله واحد لقوله تعالى:
{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} الآية فسمى عمل كليهما حكما
وعلما لكن سليمان عليه الصلاة والسلام خص بإصابة الحق
المطلوب وتنصيف الأجر يدل على هذا أيضا وأما قوله تعالى:
{لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ} فإن
الحكم في الأسارى من قبل كان إما القتل، أو المن ورخص
النبي عليه الصلاة والسلام بالفداء أيضا، فلولا الكتاب
السابق بإباحة الفداء، وهو الرخصة لمسكم العذاب على ترك
العزيمة.
ـــــــ
مصيب بالنظر إلى الحكم بل بالنظر إلى الدليل بمعنى أنه قد
أقام الدليل كما هو حقه مستجمعا لشرائطه وأركانه فيكون
آتيا بما كلف به من الاعتبار وليس في وسعه إقامة البرهان
القطعي في الشرعيات حتى يكون مدلوله قطعيا ألبتة "لقوله
تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} الآية فسمى عمل
كليهما حكما وعلما لكن سليمان عليه الصلاة والسلام خص
بإصابة الحق المطلوب وتنصيف الأجر يدل على هذا أيضا" أي
على أنه مصيب من وجه دون وجه آخر. "وأما قوله تعالى:
{لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ} فإن
الحكم في الأسارى من قبل كان إما القتل, أو المن ورخص
النبي عليه الصلاة والسلام بالفداء أيضا, فلولا الكتاب
السابق بإباحة الفداء, وهو الرخصة لمسكم العذاب على ترك
العزيمة" فنزول العذاب كان واجبا على تقدير عدم سبق الكتاب
لكن سبق الكتاب كان واقعا, فلا يستحقون العذاب واقعا بسبب
الخطأ في الاجتهاد بعد سبق الكتاب.
.........................................................
الوسع والطاقة ولذلك وصف الله تعالى اجتهاد داود عليه
الصلاة والسلام بالحكم والعلم في مقام الثناء عليه
والامتنان مع كونه خطأ بدلالة سوق الكلام, وفي تخصيص
سليمان عليه الصلاة والسلام بإصابة الحق, فلو كان خطأ من
كل وجه لما كان حكما وعلما بل جهلا وخطأ. وقد يقال: إنه لا
دلالة في إيتاء الحكم والعلم على أن اجتهاده في تلك
الحادثة حكم وعلم فيجاب بأنه لو لم يكن اجتهاده فيها حكما
وعلما لما كان لذكرهما في هذا المقام فائدة إذ لا يشتبه
على أحد أن النبي عليه الصلاة والسلام قد أوتي علما وحكما
في الجملة.
قوله: "وتنصيف الأجر" أي تنصيف أجر المخطئ في الاجتهاد
بقوله عليه الصلاة والسلام: "إن أصاب فله أجران, وإن أخطأ
فله أجر واحد" 1 يدل على أنه مخطئ انتهاء لا ابتداء, فإن
الأجر إنما يكون على الصواب, فلما كان ثوابه نصف ثواب
المصيب كان صوابه أيضا كذلك توزيعا للأجر على الاستحقاق,
وهذا ضعيف; لأن أجر المخطئ, إنما هو على كده في الاجتهاد
وامتثال الأمر.
قوله: "وأما قوله: عليه الصلاة والسلام" القائلون بأن
المجتهد المخطئ مخطئ ابتداء وانتهاء تمسكوا بوجهين:
أحدهما: إطلاق الخطأ في قوله: عليه الصلاة والسلام وإن
أخطأت فلك حسنة,
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب 21 . مسلم في كتاب
الأقضية حديث 15 . أبو داود في كتاب الأقضية باب 2 .
الترمذي في كتاب الأحكام باب 2 . النسائي في كتاب القضاة
باب 3 . ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 3 . أحمد في مسنده
2/187
(2/252)
والمخطئ في
الاجتهاد لا يعاقب إلا أن يكون طريق الصواب بينا والله
أعلم.
القسم الثاني من الكتاب في الحكم ويفتقر إلى الحاكم، وهو
الله تعالى لا العقل
ـــــــ
"والمخطئ في الاجتهاد لا يعاقب إلا أن يكون طريق الصواب
بينا والله أعلم".
القسم الثاني من الكتاب في الحكم ويفتقر إلى الحاكم, وهو
الله تعالى لا العقل على ما مر في باب الأمر. والمحكوم به,
وهو فعل المكلف والمحكوم عليه, وهو المكلف ونورد الأبحاث
في ثلاثة أبواب: "باب في الحكم" اعلم أني اخترعت تقسيما
حاصرا على وفق مذهبنا
.........................................................
ومن حكم المطلق أن ينصرف إلى الكامل, وهو الخطأ ابتداء
وانتهاء. وثانيهما: قوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ
اللَّهِ سَبَقَ} الآية أي لولا ما كتب في اللوح أن لا يعذب
أهل بدر, أو أن يحل لهم الغنائم, أو أن لا يعذب قوما إلا
بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي لمسكم عذاب عظيم في اتباع
الاجتهاد الخطأ الذي هو أخذ الفدية, فلو كان صوابا من وجه
لما استحقوا باتباعه العذاب العظيم لوجود امتثال الأمر في
الجملة ولما كان ضعف الوجه الأول بينا إذ الاستدلال
بالإطلاق على الكمال مما لا يعتد به في مسائل الأصول لم
يتعرض لجوابه وأجاب عن الثاني بأن العزيمة في حكم الأسارى
كان هو المن, أو القتل, وقد رخص للنبي عليه الصلاة والسلام
في الفداء أيضا فالمعنى لولا سبق الحكم بإباحة الفداء
والرخصة فيه لمسكم العذاب في ترك العزيمة فوجوب العذاب
معلق بعدم سبق الكتاب لكن المعلق عليه غير واقع لتحقق سبق
الكتاب, فلا يتحقق وجوب العذاب بسبب الخطأ في الاجتهاد هذا
تقرير كلامه. وفيه نظر; لأن لولا لانتفاء الشيء لوجود غيره
فيدخل على أن انتفاء العذاب على الخطأ في الاجتهاد إنما
كان لوجود سبق الكتاب بإباحة الفداء حتى لو لم يتحقق ذلك
لكان الخطأ موجبا لاستحقاق العذاب, وهذا يدل على كونه خطأ
من كل وجه وعدم وقوع العذاب لا ينافي; لأنه مبني على وجود
المانع, وهو سبق الكتاب.
قوله: "والمخطئ في الاجتهاد لا يعاقب", ولا ينسب إلى
الضلال بل يكون معذورا ومأجورا إذ ليس عليه إلا بذل الوسع,
وقد فعل, فلم ينل الحق لخفاء دليله إلا أن يكون الدليل
الموصل إلى الصواب بينا فأخطأ المجتهد لتقصير منه وترك
مبالغة في الاجتهاد, فإنه يعاقب وما نقل من طعن السلف
بعضهم على بعض في مسائلهم الاجتهادية كان مبنيا على أن
طريق الصواب بين في زعم الطاعن, وإنما قال المخطئ في
الاجتهاد; لأن المخطئ في الأصول والعقائد يعاقب بل يضلل أو
يكفر; لأن الحق فيها واحد إجماعا والمطلوب هو اليقين
الحاصل بالأدلة القطعية إذ لا يعقل حدوث العالم وقدمه
وجواز رؤية الصانع وعدمه فالمخطئ فيها مخطئ ابتداء وانتهاء
وما نقل عن بعضهم من تصويب كل مجتهد في المسائل الكلامية
إذ لم يوجب تكفير المخالف كمسألة خلق القرآن ومسألة الرؤية
ومسألة خلق الأفعال فمعناه نفي الإثم وتحقق الخروج عن عهدة
التكليف لا حقيقة كل من القولين.
قوله: "القسم الثاني من الكتاب", وقد وقع الفراغ من مباحث
الأدلة, وهذا شروع في مباحث
(2/253)
على ما مر في
باب الأمر. والمحكوم به، وهو فعل المكلف والمحكوم عليه،
وهو المكلف ونورد الأبحاث في ثلاثة أبواب: باب في الحكم
وهو قسمان إما أن لا يكون حكما بتعلق شيء بشيء آخر، أو
يكون كالحكم بأن لهذا ركن ذلك، أو سببه، أو نحو ذلك.
أما القسم الأول فإما أن يكون صفة لفعل المكلف أو أثرا له.
الثاني كالملك وما يتعلق به والأول إما أن يعتبر فيه
المقاصد الدنيوية اعتبارا أوليا، أو الأخروية أما الأول
ـــــــ
وعلى ما هو المذكور في كتبنا من الأقسام المتفرقة "وهو
قسمان إما أن لا يكون حكما بتعلق شيء بشيء آخر, أو يكون
كالحكم بأن لهذا ركن ذلك, أو سببه, أو نحو ذلك". اعلم أن
المراد بالتعلق تعلق زائد على التعلق بالحكم والمحكوم عليه
والمحكوم به ككون الشيء ركنا لشيء, أو علة, أو شرطا فإن
هذا التعلق بالحكم ونحوه حاصل في جميع الأحكام.
"أما القسم الأول فإما أن يكون صفة لفعل المكلف" كالوجوب
والحرمة وأمثالهما فإنها صفات لفعل المكلف, "أو أثرا له.
الثاني كالملك" فإن الملك هو أثر لفعل المكلف "وما يتعلق
به" كملك المتعة وملك المنفعة وثبوت الدين في الذمة.
"والأول إما أن يعتبر فيه المقاصد الدنيوية اعتبارا أوليا,
أو الأخروية" فإن صحة العبادة كونها بحيث توجب تفريغ الذمة
فالمعتبر في مفهومها اعتبارا أوليا إنما هو المقصود
الدنيوي, وهو تفريغ الذمة وإن كان يلزمها الثواب مثلا, وهو
المقصود الأخروي لكنه غير معتبر في مفهومه اعتبارا أوليا
والوجوب كون الفعل بحيث لو أتى به يثاب, ولو تركه يعاقب
فالمعتبر في مفهومه اعتبارا أوليا هو المقصود الأخروي وإن
كان يتبعه المقصود الدنيوي كتفريغ الذمة ونحوه. "أما
الأول" أي الذي يعتبر فيه
.........................................................
الأحكام, وقد سبق تفسير الحكم ومباحث الحاكم فرتب الكلام
هاهنا على ثلاثة أبواب: مباحث الحكم نفسه ومباحث المحكوم
به ومباحث المحكوم عليه وابتدأ بالحكم; لأن النظر فيه من
المقاصد الأصلية, ثم بالمحكوم به; لأن الخطاب يتعلق به
أولا وبواسطة أنه مضاف إلى المكلف وعبارة عن فعله يصير
المكلف محكوما عليه وحاول في الباب الأول اختراع تقسيم
حاصر أي ضابط لما تفرق من أقسام ما يطلق عليه لفظ الحكم,
وأما التقسيم الحاضر بمعنى كونه دائرا بين النفي والإثبات
مقيد التكثير مفهوم واحد إلى ما يحتمله من الأقسام
المتقابلة, فلا يصح في هذا المقام; لأن من هذه الأقسام ما
هي متداخلة كالفرض مثلا بالنسبة إلى العزيمة والرخصة,
ومنها ما ليس بدائر بين النفي والإثبات كالتقسيم إلى ما
يكون صفة لفعل المكلف وإلى ما يكون أثرا له, وأنا ألقي
إليك محصل الباب إجمالا لتكون على بصيرة من الأمر.
وذلك أن الحكم إما حكم بتعلق شيء بشيء, أو لا, فإن لم يكن
فالحكم إما صفة لفعل المكلف, أو أثر له, فإن كان أثرا له
كالملك, فلا بحث هاهنا عنه, وإن كان صفة فالمعتبر فيه
اعتبارا أوليا إما المقاصد الدنيوية, أو المقاصد الأخروية
فالأول ينقسم الفعل بالنظر إليه تارة إلى صحيح وباطل وفاسد
وتارة إلى منعقد وغير منعقد وتارة إلى نافذ وغير نافذ
وتارة إلى لازم وغير لازم.
(2/254)
فالمقصود
الدنيوي في العبادات تفريغ الذمة وفي المعاملات الاختصاصات
الشرعية فكون الفعل موصلا إلى المقصود الدنيوي يسمى صحة
وكونه بحيث لا يوصل إليه أصلا يسمى بطلانا وكونه بحيث
يقتضي أركانه وشرائطه الإيصال إليه لا أوصافه الخارجية
يسمى فسادا، ثم في المعاملات أحكام أخر منها الانعقاد، وهو
ارتباط أجزاء
ـــــــ
المقاصد الدنيوية. "فالمقصود الدنيوي في العبادات تفريغ
الذمة وفي المعاملات الاختصاصات الشرعية" فكون الفعل موصلا
إلى المقصود الدنيوي يسمى صحة وكونه بحيث لا يوصل إليه
أصلا يسمى بطلانا وكونه بحيث يقتضي أركانه وشرائطه الإيصال
إليه لا أوصافه الخارجية يسمى فسادا, ثم في المعاملات
أحكام أخر منها الانعقاد, وهو ارتباط أجزاء التصرف شرعا
فالبيع الفاسد منعقد لا صحيح ثم النفاذ, وهو ترتب الأثر
عليه كالملك فبيع الفضولي منعقد لا نافذ, ثم اللزوم كونه
بحيث لا يمكن رفعه.
.........................................................
والثاني إما أصلي, أو غير أصلي فالأصلي إما أن يكون الفعل
أولى من الترك, أو الترك أولى من الفعل, أو لا يكون أحدهما
أولى فالأول: إن كان مع منع الترك بقطعي ففرض, أو بظني
فواجب, وإلا فإن كان الفعل طريقة مسلوكة في الدين فسنة
وإلا فنفل وندب. والثاني: إن كان مع منع الفعل فحرام وإلا
فمكروه. والثالث: مباح. وغير الأصلي رخصة وهي إما حقيقة,
أو مجاز والحقيقة إما أن تكون أولى وأحق بمعنى الرخصة, أو
لا والمجاز إما أن يكون أقرب إلى الحقيقة, أو لا فيصير
أربعة أقسام, وإن كان حكما بتعلق شيء بشيء فالمتعلق إن كان
داخلا في الشيء فركن وإلا فإن كان مؤثرا فيه فعلة وإلا فإن
كان موصلا إليه في الجملة فسبب وإلا فإن توقف الشيء عليه
فشرط وإلا فعلامة.
قوله: "وهو" أي الحاكم هو الله تعالى. فإن قلت: الحكم
يتناول القياس المحتمل للخطأ فكيف ينسب إلى الله تعالى.
قلت: الحاكم في المسألة الاجتهادية هو الله تعالى إلا أنه
لم يحكم إلا بالصواب فالحكم المنسوب إلى الله تعالى هو
الحق الذي لا يحوم حوله الباطل وما وقع من الخطأ للمجتهد
فليس بحكم حقيقة بل ظاهرا, وهو معذور في ذلك. فإن قلت: إذا
قال الشارع الصلاة واجبة فالمحكوم عليه, هو الصلاة لا
المكلف والمحكوم به هو الوجوب لا فعل المكلف. قلت: ليس
المراد بالمحكوم عليه والمحكوم به طرفي الحكم على ما هو
مصطلح المنطق بل المراد بالمحكوم عليه من وقع الخطاب له
وبالمحكوم به ما تعلق الخطاب به كما يقال: حكم الأمير على
زيد بكذا, وهذا ظاهر فيما هو صفة فعل المكلف كالوجوب
ونحوه. وفيما هو حكم تعليق كالسببية ونحوها, فإنه خاطب
المكلف بأن فعله سبب لشيء, أو شرط له, أو غير ذلك, وأما
فيما هو أثر لفعل المكلف كملك الرقبة, أو المتعة, أو
المنفعة وثبوت الدين في الذمة فكون المحكوم به فعل المكلف
ليس بظاهر بل إذا جعلنا الملك نفس الحكم فليس هاهنا ما
يصلح محكوما به.
فإن قلت: قد ذكر فيما سبق أن الحكم إما تكليفي كالوجوب
والحرمة ونحوهما وإما وضعي كالسببية والشرطية ونحوهما, فإن
أراد بالتكليفي ما يتعلق بفعل المكلف فالوضعي أيضا كذلك
على
(2/255)
التصرف شرعا
فالبيع الفاسد منعقد لا صحيح ثم النفاذ، وهو ترتب الأثر
عليه كالملك فبيع الفضولي منعقد لا نافذ، ثم اللزوم كونه
بحيث لا يمكن رفعه.
ـــــــ
ما صرح به هاهنا, وإن أراد ما وقع التكليف به فالإباحة
ليست كذلك. قلت: أراد ما وقع التكليف به وعد الإباحة منه
تغليبا لكونه أحد الأقسام الخمسة المشهورة للحكم على أنه
لا مشاحة في الاصطلاح. فإن قلت: المراد بالحكم إما الخطاب
وإما الأثر الثابت به على ما ذكر في صدر الكتاب وأيا ما
كان ليس الملك ونحوه حكما; لأنه إنما يثبت بفعل المكلف لا
الخطاب. قلت: لما كان ثبوت الملك بالبيع مثلا بحسب وضع
الشارع جعل حكم الله تعالى الثابت بخطابه. على أن قول
المصنف رحمه الله تعالى الحكم إما أن لا يكون حكما بتعلق
شيء بشيء, أو يكون مشعرا بأن مراده بالحكم إسناد أمر إلى
آخر مصدر قولك حكمت بكذا لا الخطاب, ولا أثر الخطاب فعلى
هذا ينبغي أن يجعل مورد القسمة الحكم بمعنى إسناد الشارع
أمرا إلى آخر فيما له تعلق بفعل المكلف من حيث هو مكلف
صريحا كالنص, أو دلالة كالإجماع والقياس ففي جعل الوجوب
والملك ونحو ذلك أقساما للحكم بهذا المعنى تسامح ظاهر على
أن التحقيق أن إطلاق الحكم على خطاب الشارع وعلى أثره وعلى
الأثر المترتب على العقود والفسوخ إنما هو بطريق الاشتراك
والمقصود هاهنا بيان أقسام ما يطلق عليه لفظ الحكم في
الشرع.
قوله: "والأول" أي ما هو صفة فعل المكلف إما أن يعتبر فيه
أي في مفهومه وتعريفه المقاصد الدنيوية أي الحاصلة في
الدنيا كتفريغ الذمة المعتبرة في مفهوم صحة العبادة أو
الأخروية أي الحاصلة في الآخرة كالثواب على الفعل والعقاب
على الترك في مفهوم الوجوب وقيد باعتبار الأول لأنه قد
يعتبر في نحو الصحة الثواب وفي نحو الوجوب تفريغ الذمة لكن
لا أوليا وليس المراد باعتبار المقصود الدنيوي, أو الأخروي
ابتناء الحكم على حكم وأغراض متعلقة بالدنيا, أو الآخرة إذ
من البعيد يقال: صحة الصلاة مبنية على حكمة دنيوية وحرمة
الخمر على حكمة أخروية, ثم لا يخفى أن التقسيم إلى ما
يعتبر فيه مقصود دنيوي, أو أخروي اعتبارا أوليا ليس حاصرا
دائرا بين النفي والإثبات بل بحسب الوقوع. فإن قيل: ليس في
صحة النوافل تفريغ الذمة قلنا لزمت بالشروع فحصل بأدائها
تفريغ الذمة, وأما عبادة الصبي ففي حكم المستثنى لما سيجيء
ذكره في بحث العوارض فالكلام هاهنا في فعل المكلف لا غير.
قوله: "وفي المعاملات الاختصاصات" أي الأغراض المترتبة على
العقود والفسوخ كملك الرقبة في البيع وملك المتعة في
النكاح وملك المنفعة في الإجارة والبينونة في الطلاق, وكذا
معنى صحة القضاء ترتب ثبوت الحق عليه ومعنى صحة الشهادة
ترتب لزوم القضاء عليها فمرجع ذلك أيضا إلى المعاملات
فالفعل المتعلق بمقصود دنيوي إن وقع بحيث يوصل إليه فصحيح
وإلا فإن كان عدم إيصاله إليه من جهة خلل في أركانه
وشرائطه فباطل وإلا ففاسد فالمتصف بالصحة والفساد حقيقة هو
الفعل لا نفس الحكم. نعم يطلق لفظ الحكم على الصحة والفساد
بمعنى أنهما ثبتا بخطاب الشارع, وكذا الكلام في الانعقاد
والنفاذ واللزوم وكثير من المحققين على أن أمثال ذلك راجعة
إلى الأحكام الخمسة, فإن معنى صحة البيع إباحة الانتفاع
بالمبيع ومعنى بطلانه حرمة
(2/256)
وأما الثاني
فإما أن يكون حكما أصليا أو لا يكون: أما الأول فإن كان
الفعل أولى من الترك مع منعه فإن كان هذا بدليل قطعي
فالفعل فرض وبظني واجب، وبلا منعه فإن
ـــــــ
"وأما الثاني" أي ما يعتبر فيه المقاصد الأخروية "فإما أن
يكون حكما أصليا" أي غير مبني على أعذار العباد "أو لا
يكون: أما الأول", وهو الحكم الأصلي "فإن كان الفعل أولى
من الترك مع منعه" أي مع منع الترك "فإن كان هذا" أي كون
الفعل أولى من الترك مع منع الترك "بدليل قطعي" فالفعل فرض
وبظني واجب, وبلا منعه فإن كان الفعل طريقة مسلوكة في
الدين
.........................................................
الانتفاع به وبعضهم على أنها من خطاب الوضع بمعنى أنه حكم
بتعلق شيء بشيء تعلقا زائدا على التعلق الذي لا بد منه في
كل حكم, وهو تعلقه بالمحكوم عليه وبه, وذلك أن الشارع حكم
بتعلق الصحة بهذا الفعل وتعلق البطلان أو الفساد بذلك.
وبعضهم على أنها أحكام عقلية لا شرعية, فإن الشارع إذا شرع
البيع لحصول الملك وبنى شرائطه وأركانه فالعقل يحكم بكونه
موصلا إليه عند تحققها وغير موصل عند عدم تحققها بمنزلة
الحكم بكون الشخص مصليا, أو غير مصل.
فعلى ما ذكرنا الصحة والبطلان والفساد معان متقابلة حاصلها
أن: الصحيح ما يكون مشروعا بأصله ووصفه. والباطل ما لا
يكون مشروعا بأصله, ولا بوصفه. والفاسد ما يكون مشروعا
بأصله دون وصفه, وهذا معنى قولهم: الصحيح ما استجمع أركانه
وشرائطه بحيث يكون معتبرا شرعا في حق الحكم. والفاسد ما
كان مشروعا في نفسه فائت المعنى من وجه لملازمة ما ليس
بمشروع إياه بحكم الحال مع تصور الانفصال في الجملة.
والباطل ما كان فائت المعنى من كل وجه مع وجود الصورة إما
لانعدام معنى التصرف كبيع الميتة والدم, أو لانعدام أهلية
المتصرف كبيع الصبي والمجنون, وقد يطلق الفاسد على الباطل,
وعند الشافعي رحمه الله تعالى الباطل والفاسد اسمان
مترادفان لما ليس بصحيح, وهذا اصطلاح لا معنى للاحتجاج
عليه نفيا وإثباتا. ولقائل أن يقول: إذا كانت الصحة عبارة
عن كون الفعل موصلا إلى المقصود لم تكن مقابلة للفساد بل
أعم منه; لأن الصلاة الفاسدة توجب تفريغ الذمة بحيث لا يجب
قضاؤها والبيع الفاسد يوجب الملك فينبغي أن يكون صحيحا بل
نافذا لترتب الأثر عليه, ثم على ما ذكره النافذ أعم من
اللازم والمنعقد أعم من النافذ, ولا يظهر فرق بين الصحيح
والنافذ.
قوله: "فالفعل فرض" فيه إشارة إلى أن المتصف بالحرمة
والوجوب ونحوهما هو فعل المكلف والحكم الذي بمعنى الخطاب
إنما هو الإيجاب والتحريم ونحوهما, والذي هو بمعنى أثر
الخطاب هو الوجوب والحرمة ونحوهما, وهذا التقسيم وقع للفعل
أولا بالذات, ويفهم منه تقسيم الحكم, وكذا يفهم منه تعريف
الفرض والواجب والحرام ونحو ذلك وتعريف الفرضية والوجوب
والحرمة ونحوها ومعنى أولوية الفعل, أو الترك أولويته عند
الشارع بالنص عليه, أو على دليله. وفي إطلاق الأولوية على
ما هو لازم يمتنع نقيضه كالفرض والواجب والحرام نوع تسامح,
والمراد باستواء الفعل والترك في المباح استواؤهما في نظر
الشارع بأن يحكم بذلك صريحا, أو دلالة بقرينة أن الكلام في
متعلق الحكم الشرعي فيخرج فعل البهائم والصبيان والمجانين
ونحو ذلك. فإن قلت:
(2/257)
كان الفعل
طريقة مسلوكة في الدين فسنة وإلا فنفل، ومندوب وإن كان على
العكس أي إن كان الترك أولى من الفعل مع منع الفعل فحرام
وبلا منعه فمكروه وإن استويا فمباح.
ـــــــ
فسنة وإلا فنفل, ومندوب وإن كان على العكس أي إن كان الترك
أولى من الفعل "مع منع الفعل فحرام وبلا منعه فمكروه وإن
استويا فمباح. فالفرض لازم علما وعملا حتى يكفر جاحده
والواجب لازم عملا لا علما, فلا يكفر جاحده بل يفسق إن
استخف بأخبار الآحاد الغير المؤولة, وأما مؤولا, فلا
ويعاقب تاركهما" أي تارك الفرض والواجب "إلا أن يعفو الله.
والشافعي رحمه الله تعالى لم يفرق بين الفرض والواجب,
والتفاوت بين الكتاب وخبر الواحد" في أن الكتاب نقل بطريق
التواتر وخبر الواحد لم ينقل كذلك "يوجب التفاوت بين
مدلوليهما" فيكون الحكم الذي دل عليه محكم الكتاب ثابتا
يقينا والحكم الذي دل عليه محكم خبر الواحد ثابتا بغلبة
الظن.
"وقد يطلق الواجب عندنا على المعنى الأعم أيضا" أي أعم من
الفرض والواجب بالتفسير المذكور, وهو أن يكون الفعل أولى
من الترك مع منع الترك أعم من أن يكون هذا المعنى بالمعنى
القطعي, أو الظني "فيصح أن يقال صلاة الفجر واجبة".
"والسنة نوعان سنة الهدى وتركها يوجب إساءة وكراهية
كالجماعة والآذان والإقامة ونحوها وسنة الزوائد وتركها لا
يوجب ذلك كسنن النبي عليه الصلاة والسلام في لباسه وقيامه
وقعوده والسنة المطلقة تطلق على طريقة النبي عليه الصلاة
والسلام عند الشافعي رحمه الله تعالى, وعندنا تقع على غيره
أيضا فإن السلف كانوا يقولون: سنة العمرين والنفل ما يثاب
فاعله, ولا يسيء تاركه, وهو دون سنن الزوائد, وهو" الضمير
يرجع إلى النفل "لا يلزم بالشروع عند الشافعي رحمه الله
تعالى; لأنه مخير فيما لم يفعله بعد فله إبطال ما أداه
تبعا, وعندنا يلزم" أي النفل بالشروع "لقوله تعالى: {وَلا
تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} ولأن ما أداه صار لله تعالى
فوجب صيانته, ولا سبيل إليها" أي إلى صيانة ما أداه "إلا
بلزوم الباقي فالترجيح بالمؤدى أولى من العكس; لأن العبادة
مما يحتاط فيها, ولما وجب صيانة ما صار لله تعالى تسمية,
وهو النذر فما صار فعلا أولى" أي
.........................................................
جميع ذلك من أقسام ما يعتبر فيه المقاصد الأخروية وليس في
هذه التعريفات إشارة إلى ذلك. قلت: يجوز أن تكون التعريفات
المذكورة رسوما لا حدودا, ولو سلم ففي الأولوية والاستواء
إشارة إلى معنى الثواب والعقاب. فإن قلت: قد يكون الوجوب
والحرمة ونحو ذلك من أقسام ما هو أثر لفعل المكلف لا صفة
له كإباحة الانتفاع الثابتة بالبيع وحرمة الوطء الثابتة
بالطلاق. قلت: هي من صفاته أيضا إذ الانتفاع والوطء فعل
المكلف, ولا منافاة بين كون الحكم صفة لفعل المكلف وأثرا
له, ثم لا يخفى أن الحكم الغير الأصلي أعني الذي يبتنى على
أعذار العباد أيضا يتصف بهذه الأحكام كالرخصة الواجبة, أو
المندوبة, أو المباحة, فلا معنى للتخصيص بالحكم الأصلي.
(2/258)
|