شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه ط العلمية المحكوم به
مدخل
...
المحكوم به
"باب المحكوم به" وهو قسمان ما ليس له إلا وجود حسي وما له
وجود آخر شرعي فالأول بعد أن يكون متعلقا لحكم شرعي إما أن
يكون سببا لحكم آخر أو لم يكن كالزنا فإنه حرام وهو سبب
لوجوب الحد، وكالأكل، ونحوه، وكذا الثاني كالبيع فإنه
مباح، وهو سبب لحكم آخر، وهو الملك، وكالصلاة.
ـــــــ
كالزنا فإنه حرام وهو سبب لوجوب الحد, وكالأكل, ونحوه,
وكذا الثاني كالبيع فإنه مباح, وهو سبب لحكم آخر, وهو
الملك, وكالصلاة" المحكوم به, وهو فعل المكلف قسمان: ما
ليس له إلا وجود حسي كالزنا, والأكل, ونحوه, وما له وجود
شرعي مع الوجود الحسي فالمحكوم به لا بد أن يكون متعلقا
بحكم شرعي فبعد أن يكون كذلك لا يخلو من أن يكون سببا لحكم
شرعي آخر أو لم يكن فحصل أربعة أنواع: الأول ما ليس له إلا
وجود حسي وهو متعلق بحكم شرعي وسبب لحكم شرعي آخر كالزنا
فإنه حرام وسبب لحكم شرعي, وهو وجوب الحد, والثاني ما ليس
له إلا وجود حسي, وهو متعلق بحكم شرعي لكنه ليس سببا لحكم
شرعي كالأكل أما كونه متعلقا بحكم شرعي فلأن الأكل تارة
واجب, وأخرى حرام, والثالث ما له وجود شرعي, وهو متعلق
بحكم شرعي, وسبب لحكم شرعي كالبيع فإنه مباح, وسبب للملك
والرابع ما له وجود شرعي, ومتعلق بحكم شرعي, وليس سببا
لحكم شرعي كالصلاة.
"والوجود الشرعي بحسب أركان وشرائط اعتبرها الشرع فإن وجدت
فإن حصل معها الأوصاف المعتبرة شرعا الغير الذاتية يسمى
صحيحا, وإلا فاسدا" أي أن لم يحصل معها
.........................................................
القاذف ينبغي أن يعتبر جهة الحسبة رعاية لجانب القاذف.
قلنا: قد اعتبر ذلك في أنه إن أتى بالبينة على زنا المقذوف
قبل تقادم العهد أقيم الحد عليه, وإن أتى بها بعده بطل رد
شهادة القذف وصار مقبول الشهادة لكن لم يقم الحد على
المقذوف; لأن تقادم العهد شبهة يدرأ بها الحد واختلفوا في
حد التقادم فأشار في الجامع الصغير إلى ستة أشهر وفوضه أبو
حنيفة رحمه الله تعالى إلى رأي القاضي في كل عصر, والأصح
أنه مقدر بشهر.
قوله: "باب المحكوم به وهو" الفعل الذي تعلق به خطاب
الشارع فلا بد من تحققه حسا أي من وجوده في الواقع بحيث
يدرك بالحس أو بالعقل إذ الخطاب لا يتعلق بما لا يكون له
وجود أصلا والمراد بالوجود الحسي ما يعم مدركات العقل
بطريق التغليب ليدخل فيه مثل تصديق القلب والنية في
العبادات ثم مع وجوده الحسي إما أن يكون له وجود شرعي أو
لا وكل من القسمين إما أن يكون سببا لحكم
(2/314)
الوجود الشرعي:
والوجود الشرعي بحسب أركان وشرائط اعتبرها الشرع فإن وجدت
فإن حصل معها الأوصاف المعتبرة شرعا الغير الذاتية يسمى
صحيحا، وإلا فاسدا وإن لم توجد والوجود الشرعي بحسب أركان
وشرائط اعتبرها الشرع فإن وجدت فإن حصل معها الأوصاف
المعتبرة شرعا الغير الذاتية يسمى صحيحا، وإلا فاسدا وإن
لم توجد يسمى باطلا والفاسد صحيح بأصله دون وصفه فأما
الصحيح المطلق فيراد به الأول.
حقوق الله وحقوق العباد: ثم المحكوم به إما حقوق الله أو
حقوق العباد أو ما اجتمعا فيه والأول غالب أو ما اجتمعا
فيه، والثاني غالب.
ـــــــ
الأوصاف المذكورة يسمى فاسدا "وإن لم توجد" أي الأركان,
والشرائط "يسمى باطلا والفاسد صحيح بأصله دون وصفه فأما
الصحيح المطلق فيراد به الأول" أي ما وجدت الأركان,
والشرائط, وحصلت الأوصاف المذكورة. "ثم المحكوم به إما
حقوق الله أو حقوق العباد أو ما اجتمعا فيه والأول غالب أو
ما اجتمعا فيه, والثاني غالب أما حقوق الله فثمانية عبادات
خالصة كالإيمان, وفروعه, وكل مشتمل على الأصل, والملحق به,
والزوائد فالإيمان أصله التصديق, والإقرار ملحق به حتى إن
من تركه مع القدرة عليه لم يكن مؤمنا عند الله تعالى, وعند
الناس, وهذا عند بعض علمائنا أما عند البعض فالإيمان هو
التصديق والإقرار شرط
.........................................................
شرعي أو لا ومعنى الوجود الشرعي أن يعتبر الشارع أركانا
وشرائط يحصل من اجتماعها مجموع مسمى باسم خاص يوجد بوجود
تلك الأركان والشرائط وينتفي بانتفائها كالصلاة والبيع
ومعنى سببية الفعل لحكم شرعي أن يجعل الشارع ذلك الفعل
بالتعيين سببا لحكم شرعي هو صفة لفعل المكلف كالزنا لوجوب
الحد أو أثر له كالبيع للملك بخلاف الأكل فإن الشارع لم
يجعله بالتعيين سببا لبطلان الصوم مثلا بل جعل الإمساك من
أركان الصوم فيلزم بطلانه بانتفائه ثم ما له وجود شرعي إن
وجد بجميع أركانه وشرائطه مع أوصاف أخر معتبرة في الشرع في
ذلك الفعل لكن لا من حيث إنها ذاتية لها فهو صحيح بالأصل
والوصف وهو المراد بالصحيح عند الإطلاق وإن وجدت الأركان
والشرائط دون الأوصاف المعتبرة الغير الذاتية كالبيع
بالخمر أو الخنزير يسمى فاسدا من قولهم فسد الجوهر إذا ذهب
رونقه وطراوته وبقي أصله وإن انتفى شيء من الأركان
والشرائط يسمى باطلا كبيع المضامين والملاقيح لانتفاء
الركن وكالنكاح بلا شهود لانتفاء الشرط وكثيرا ما يطلق
أحدهما على الآخر كما قالوا: بيع أم الولد والمدبر
والمكاتب فاسد أي باطل وأطلقوا على البيع بالميتة والدم
تارة لفظ الفاسد وأخرى لفظ الباطل وعند الشافعي رحمه الله
تعالى هما لفظان مترادفان ولا مشاحة في الاصطلاح.
قوله: "ثم المحكوم به إما حقوق الله تعالى" المراد بحق
الله ما يتعلق به النفع العام من غير اختصاص بأحد فينسب
إلى الله تعالى لعظم خطره وشمول نفعه وإلا فباعتبار
التخليق الكل سواء في الإضافة إلى الله تعالى: {لِلَّهِ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وباعتبار
التضرر أو الانتفاع هو متعال عن الكل ومعنى حق العبد ما
يتعلق به مصلحة خاصة كحرمة مال الغير فظهر بما ذكرنا أنه
لا يتصور قسم آخر اجتمع فيه حق الله تعالى وحق العبد على
التساوي في اعتبار الشارع.
(2/315)
حقوق الله
تعالى: أما حقوق الله فثمانية عبادات خالصة كالإيمان،
وفروعه، وكل مشتمل على الأصل، والملحق به، والزوائد
فالإيمان أصله التصديق، والإقرار ملحق به حتى إن من تركه
مع القدرة عليه لم يكن مؤمنا عند الله تعالى، وعند الناس،
وهذا عند بعض علمائنا.
أما عند البعض فالإيمان هو التصديق والإقرار شرط لإجراء
الأحكام الدنيوية وهو أصل في حقها اتفاقا حتى صح إيمان
المكروه في حق الدنيا، ولا يصح ردته لأن الأداء دليل محض
لا ركن، وزوائد الإيمان الأعمال.
ـــــــ
لإجراء الأحكام الدنيوية وهو أصل في حقها" أي الإقرار أصل
في حق الأحكام الدنيوية "اتفاقا حتى صح إيمان المكروه في
حق الدنيا, ولا يصح ردته لأن الأداء دليل محض لا ركن,
وزوائد الإيمان الأعمال, وعبادة فيها مؤنة كصدقة الفطر فلم
يشترط لها كمال الأهلية, ومؤنة فيها عقوبة كالخراج فلا
يبتدأ على المسلم لكنه يبقى لأنه" أي لأن الخراج "لما تردد
بين الأمرين" أي بين العقوبة والمؤنة "لا يبطل بالشك على
أن الوصف الأول", وهو المؤنة "غالب" على ما سبق أنه مؤنة
باعتبار الأصل, وهو الأرض عقوبة باعتبار الوصف "ومؤنة فيها
عبادة كالعشر فلا يبتدأ على الكافر لكن يبقى عند محمد
كالخراج على السلم وعند أبي يوسف يضاعف; لأن فيه" أي في
العشر "معنى العبادة, والكفر ينافيها من كل وجه فأما
الإسلام فلا ينافي العقوبة من كل وجه فيضاعف" أي العشر "إذ
هي" أي المضاعفة "أسهل من
.........................................................
قوله: "أما حقوق الله تعالى فثمانية: عبادات خالصة
كالإيمان" وعقوبات خالصة كالحدود وقاصرة كحرمان الميراث
وحقوق دائرة بين الأمرين كالكفارات وعبادات فيها معنى
المؤنة كصدقة الفطر ومؤنة فيها معنى العبادة كالعشر ومؤنة
فيها شبهة العقوبة كالخراج وحق قائم بنفسه كخمس الغنائم
وذلك بحكم الاستقراء.
قوله: "وكل" أي كل واحد من الإيمان وفروعه مشتمل على الأصل
والملحق به والزوائد بمعنى أن في جملة الفروع أصلا وملحقا
به وزوائد لا بمعنى أن كل واحد من الفروع مشتمل على
الثلاثة والمراد بالفروع ما سوى الإيمان من العبادات
لابتنائها على الإيمان واحتياجها إليه ضرورة أن من لم يصدق
بالله لم يتصور منه التقرب إليه وكون الطاعات من فروع
الإيمان وزوائده لا ينافي كونها في نفسها مما له أصل,
وملحق به, وزوائد, فأصل الإيمان هو التصديق بمعنى إذعان
القلب, وقبوله لوجود الصانع, ووحدانيته, وسائر صفاته,
ونبوة محمد عليه السلام, وجميع ما علم مجيئه به بالضرورة
على ما هو معنى الإيمان في اللغة إلا أنه قيد بأشياء
مخصوصة, ولهذا قال النبي عليه السلام: "الإيمان أن تؤمن
بالله, وملائكته, وكتبه ورسله" الحديث فنبه على أن المراد
بالإيمان معناه اللغوي, وإنما الاختصاص في المؤمن به فمعنى
التصديق هو الذي يعبر عنه بالفارسية
(2/316)
وعبادة فيها
مؤنة كصدقة الفطر فلم يشترط لها كمال الأهلية، ومؤنة فيها
عقوبة كالخراج فلا يبتدأ على المسلم لكنه يبقى لأنه ، لما
تردد بين الأمرين لا يبطل بالشك على أن الوصف الأول غالب.
ومؤنة فيها عبادة كالعشر فلا يبتدأ على الكافر لكن يبقى
عند محمد كالخراج على السلم وعند أبي يوسف يضاعف؛ لأن فيه
معنى العبادة، والكفر ينافيها من كل وجه فأما الإسلام فلا
ينافي العقوبة من كل وجه فيضاعف إذ هي أسهل من الإبطال
أصلا.
ـــــــ
الإبطال أصلا" اعلم أن محمدا قاس إبقاء العشر على الكافر
على إبقاء الخراج على المسلم فقال أبو يوسف رحمه الله
تعالى إن في العشر معنى العبادة والكفر ينافيها بالكلية
فيجب تغيير العشر أما الخراج فإن فيه معنى العقوبة,
والإسلام لا ينافي العقوبة من كل وجه فيبقى الخراج على
المسلم قوله فيضاعف كلمة التعقيب, وهي الفاء ترجع إلى
قوله, والكفر ينافيها فلا بد من تغيير العشر, والمضاعفة
أسهل من الإبطال فيضاعف إذ هي في حقه مشروع في الجملة.
.........................................................
ب "كرويدن وراست كوي داشتن", وهو المراد بالتصديق الذي
جعله المنطقيون أحد قسمي العلم على ما صرح به رئيسهم,
ولهذا فسره السلف بالاعتقاد, والمعرفة مع اتفاقهم على أن
بعض الكفار كانوا يعرفون النبي عليه السلام كما يعرفون
أبناءهم, ويستيقنون أمره لا أنهم استكبروا, ولم يذعنوا فلم
يكونوا مصدقين, والملحق بأصل الإيمان هو الإقرار باللسان
لكونه ترجمة عما في الضمير, ودليلا على تصديق القلب, وليس
بأصل لأن معدن التصديق هو القلب, ولهذا قد يسقط الإقرار
عند تعذره كما في الأخرس أو تعسره كما في المكره, وكون
الإقرار ركنا من الإيمان ملحقا بأصله إنما هو عند بعض
العلماء كالإمام السرخسي والإمام فخر الإسلام رحمهما الله
تعالى, وكثير من الفقهاء, وعند بعضهم الإيمان هو التصديق
وحده, والإقرار شرط لإجراء الأحكام في الدنيا حتى لو صدق
بالقلب, ولم يقر باللسان مع تمكنه منه كان مؤمنا عند الله
تعالى, وهذا أوفق باللغة والعرف إلا أن في عمل القلب خفاء
فنيطت الأحكام بدليله الذي هو الإقرار, ولهذا اتفق
الفريقان على أنه أصل في الأحكام الدنيا لابتنائها على
الظاهر حتى لو أكره الحربي أو الذمي فأقر صح إيمانه في حق
أحكام الدنيا مع قيام القرينة على عدم التصديق, ولو أكره
المؤمن على الردة أي التكلم بكلمة الكفر فتكلم بها لم يصر
مرتدا في حق أحكام الدنيا لأن التكلم بكلمة الكفر دليل
الكفر فلا يثبت حكمه مع قيام المعارض, وهو الإكراه, وركنه
إنما هو تبدل الاعتقاد.
وزوائد الإيمان هي الأعمال لما ورد في الأحاديث من أنه لا
إيمان بدون الأعمال نفيا لصفة الكمال بناء على أنها من
متممات الإيمان, ومكملاته الزائدة عليه, وأما الفروع
فالأصل فيها الصلاة لأنها عماد الدين, وتالية الإيمان شرعت
شكرا للنعم الظاهرة والباطنة لما فيها من أعمال الجوارح
(2/317)
وعند أبي حنيفة
رحمه الله تعالى ينقلب خراجا إذ التضعيف أمر ضروري فلا
يصار إليه مع إمكان الأصل وحق قائم بنفسه كخمس الغنائم،
والمعادن، وعقوبات كاملة كالحدود، وقاصرة كحرمان الميراث
بالقتل فلا يثبت في حق الصبي لأنه لا يوصف بالتقصير
والبالغ الخاطئ مقصر فلزمه الجزاء القاصر ولا في القتل
بسبب والشاهد إذا رجع لأنه جزاء المباشر.
ـــــــ
"وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى ينقلب خراجا إذ التضعيف
أمر ضروري فلا يصار إليه مع إمكان الأصل", وهو الخراج; لأن
التضعيف ثبت بإجماع الصحابة بخلاف القياس في قوم بأعيانهم;
لأن تلك الطائفة كفار لا يؤخذ منهم الجزية, وغيرهم من
الكفار يؤخذ منهم
.........................................................
وأفعال القلب, والملحق به الصوم من حيث إنه عبادة بدنية
خالصة فيها تطويع النفس الأمارة لخدمة خالقها, لا مقصودة
بالذات وزوائدها مثل الاعتكاف المؤدي إلى تعظيم المسجد,
وتكثير الصلاة حقيقة أو حكما بالانتظار على شريطة
الاستعداد.
قوله: "وعبادة فيها مؤنة كصدقة الفطر", وسميت بذلك لأن جهة
المؤنة فيها هي وجوبها على الإنسان بسبب رأس الغير
كالنفقة, وجهات العبادة كثيرة مثل تسميتها صدقة وكونها
طهرة للصائم, واشتراط النية في أدائها, ونحو ذلك مما هو من
أمارات العبادة ولما فيها من معنى المؤنة لم يشترط لها
كمال الأهلية المشروطة في العبادات الخالصة فوجبت في مال
الصبي والمجنون اعتبارا لجانب المؤنة خلافا لمحمد فإنه
اعتبر جانب العبادة لكونها أرجح.
قوله: "ومؤنة فيها عقوبة" لما كانت المؤنة في العشر,
والخراج باعتبار الأصل, وهو الأرض على ما سبق تحقيقه في
بحث السبب, والعبادة والعقوبة باعتبار الوصف, وهو النماء
في العشر والتمكن من الزراعة في الخراج سميا مؤنة فيها
معنى العبادة والعقوبة ولما كان في الخراج معنى العقوبة,
والذل, والمسلم أهل للكرامة, والعز لم يصح ابتداء الخراج
عليه حتى لو أسلم أهل الدار طوعا أو قسمت الأراضي بين
المسلمين لم يصح وضع الخراج عليهم لكن صح إبقاء الخراج على
المسلم حتى لو اشترى مسلم من كافر أرض خراج كان عليه
الخراج لا العشر لأن الخراج لما تردد بين العقوبة الغير
اللائقة بالمسلم والمؤنة اللائقة به لم يصح إبطاله بالشك,
ولأن جهة المؤنة راجحة فيه لكونها باعتبار الأصل أعني
الأرض, والمؤمن من أهل المؤنة فيصح بقاء, وإن لم يصح
ابتداء, ولما كان في العشر معنى العبادة لم يصح ابتداء على
الكافر لأن الكفر ينافي القربة من كل وجه ولأن في العشر
ضرب كرامة, والكفر مانع عنه مع إمكان الخراج كما أن في
الخراج ضرب إهانة والإسلام مانع عنه مع إمكان العشر, وأما
بقاء كما إذا ملك ذمي أرضا عشرية فعند محمد تبقى على العشر
لأنه من مؤن الأرض, والكافر أهل للمؤنة, ومعنى القربة تابع
فيسقط في حقه, وعند أبي يوسف يضاعف العشر لأن الكفر مناف
للقربة فلا بد من تغيير العشر, والتضعيف تغيير للوصف فقط
فيكون أسهل من إبطال العشر ووضع الخراج لما فيه من تغيير
الأصل, والوصف جميعا, والتضعيف في حق الكافر مشروع في
الجملة كصدقات بني تغلب, وما يمر به الذمي على العاشر لا
يقال فيه تضعيف
(2/318)
الحقوق الدائرة بين العبادة و العقوبة
...
الحقوق الدائرة بين العبادة والعقوبة
وحقوق دائرة بين العبادة، والعقوبة كالكفارات فلا تجب على
المسبب لأنها جزاء الفعل، والصبي لأنه لا يوصف بالتقصير
خلافا للشافعي رحمه الله تعالى فيهما لأنها
ـــــــ
الجزية فلا يكونون في حكمهم "وحق قائم بنفسه" أي لا يجب في
ذمة أحد "كخمس الغنائم, والمعادن, وعقوبات كاملة كالحدود,
وقاصرة كحرمان الميراث بالقتل فلا يثبت في حق الصبي لأنه
لا يوصف بالتقصير والبالغ الخاطئ مقصر فلزمه الجزاء القاصر
ولا في القتل بسبب" أي لا يثبت حرمان الميراث في القتل
بسبب كحفر البئر, ونحوه. "والشاهد إذا رجع" أي شهد على
مورثه بالقتل فقتل ثم رجع هو عن شهادته لم يحرم ميراثه
"لأنه" أي حرمان الإرث "جزاء المباشرة, وحقوق دائرة بين
العبادة, والعقوبة كالكفارات فلا تجب على المسبب" كحافر
البئر "لأنها" أي الكفارات "جزاء الفعل, والصبي" أي لا تجب
الكفارات على الصبي "لأنه لا يوصف بالتقصير خلافا للشافعي
رحمه الله تعالى فيهما" أي في السبب والصبي "لأنها عنده
ضمان المتلف, وهذا لا يصح في حقوق الله تعالى, ولا الكافر"
أي لا تجب الكفارات على الكافر "لوصف العبادة, وهي" أي
العبادة "فيها غالبة" أي في الكفارات "إلا في كفارة
الظهار"
.........................................................
للقربة, والكفر ينافيها لأنا نقول: بعد التضعيف صار في حكم
الخراج الذي هو من خواص الكفارة, وخلا عن وصف القربة, وعند
أبي حنيفة رحمه الله تعالى ينقلب العشر خراجا لأن العشر لم
يشرع إلا بوصف القربة, والكفر ينافيه فيسقط بسقوطه,
والتضعيف أمر ثبت بالإجماع على خلاف القياس في قوم معينين
تعذر إيجاب الجزية أو الخراج عليهم خوفا من الفتنة
لكثرتهم, وقربهم من الروم فلا يصار إليه مع إمكان ما هو
أصل في الكافر, وهو الخراج.
قوله: "وحق قائم بنفسه" أي ثابت بذاته من غير أن يتعلق
بذمة عبد يؤديه بطريق الطاعة كخمس الغنائم والمعادن فإن
الجهاد حق الله تعالى إعزازا لدينه, وإعلاء لكلمته فالمصاب
به كله حق الله تعالى إلا أنه جعل أربعة أخماس للغانمين
امتنانا واستبقى الخمس حقا له لا حقا لزمنا أداؤه طاعة,
وكذا المعادن, ولهذا جاز صرف خمس المغنم إلى الغانمين,
وإلى آبائهم, وأولادهم وخمس المعدن إلى الواجد عند الحاجة.
قوله: "وقاصرة كحرمان الميراث" فإنه حق الله تعالى إذ لا
نفع فيه للمقتول ثم إنه عقوبة للقاتل لكونه غرما لحقه
بجنايته حيث حرم مع علة الاستحقاق, وهي القرابة لكنها
قاصرة من جهة أن القائل لم يلحقه ألم في بدنه ولا نقصان في
ماله بل امتنع ثبوت ملكه في تركة المقتول, ولما كان
الحرمان عقوبة, وجزاء للقتل أي لمباشرة الفعل نفسه بأن
يتصل فعله بالمقتول, ويحصل أثره بناء على أن الشارع رتب
الحكم على الفعل حيث قال: لا ميراث للقاتل لم يثبت في حق
الصبي إذا قتل مورثه عمدا أو خطأ لأن فعله لا يوصف بالحظر,
والتقصير لعدم الخطاب, والجزاء يستدعي ارتكاب محظور, ولا
في القتل بالسبب بأن حفر بئرا في غير ملكه فوقع فيها
مورثه, وهلك أو شهد على
(2/319)
عنده ضمان
المتلف، وهذا لا يصح في حقوق الله تعالى، ولا الكافر لوصف
العبادة، وهي فيها غالبة إلا في كفارة الظهار منكر من
القول وزور، وكذا كفارة الفطر لقوله
ـــــــ
فإن وصف العقوبة فيها غالبة "لأنه" أي الظهار "منكر من
القول وزور, وكذا كفارة الفطر" أي وصف العقوبة غالبة فيها
"لقوله عليه السلام: "فعليه ما على المظاهر" ", ولإجماعهم
على أنها لا تجب على الخاطئ, ولأن الإفطار عمدا ليس فيه
شبهة الإباحة ثم ورد على هذا أن الإفطار عمدا لما لم يكن
فيه شبهة الإباحة ينبغي أن يكون كفارة الفطر عقوبة محضة
فلدفع هذا الإشكال قال:
.........................................................
مورثه بالقتل فقتل ثم رجع هو عن شهادته فإن السبب ليس بقتل
حقيقة, وإطلاق السبب على الحفر باعتبار أنه شرط في معنى
السبب أي العلة فإن قيل: قد ثبت الحرمان بدون التقصير كمن
قتل مورثه خطأ فالجواب أن البالغ الخاطئ يوصف بالتقصير
لكونه محل الخطاب إلا أن الله تعالى رفع حكم الخطأ في بعض
المواضع تفضلا منه, ولم يرفعه في القتل لعظم خطر الدم.
قوله: "لأنها" أي الكفارات عند الشافعي رحمه الله تعالى
ضمان المتلف, ولا فرق في التلف بين المباشرة, والتسبب,
واعترض عليه بأن ضمان المتلف لا يصح في حقوق الله تعالى
لأنه منزه عن أن يلحقه خسران محتاج إلى جبره بل الضمان في
حقوقه جزاء للفعل قتل المراد بالمتلف هو الحق الثابت لصاحب
الشرع الفائت بفعل يضاده كالاستعباد الفائت بالقتل وليس
المراد بالمتلف هو المحل أما في القتل فلأن ضمانه الدية أو
القصاص, وأما في غيره فظاهر.
قوله: "وهي" أي العبادة غالبة في الكفارات لأنها صوم أو
إعتاق أو صدقة يؤمر بها بطريق الفتوى دون الجبر, واستثنى
القوم من هذا الحكم كفارة الفطر فإن جهة العقوبة فيها
غالبة متمسكين بقوله عليه الصلاة والسلام: "من أفطر في
رمضان متعمدا فعليه ما على المظاهر" فذهب المصنف رحمه الله
تعالى إلى أنهم لما جعلوا التشبيه بكفارة الظهار دليلا على
كون جهة العقوبة غالبة لزم أن تكون كفارة الظهار أيضا كذلك
ثم استدل عليه بأن الظهار منكر من القول وزور فتكون جهة
الجناية غالبة فيلزم أن تكون في جزائها جهة العقوبة غالبة,
وهذا فاسد نقلا وحكما واستدلالا أما الأول فلأن السلف قد
صرحوا بأن جهة العبادة في كفارة الظهار غالبة, وأما الثاني
فلأن من حكم ما تكون العقوبة فيه غالبة أن يسقط, ويتداخل
ككفارة الصوم حتى لو أفطر في رمضان مرارا لم يلزمه إلا
كفارة واحدة, وكذا في رمضانين عند أكثر المشايخ, ولا تدخل
في كفارة الظهار حتى لو ظاهر من امرأته مرتين أو ثلاثا في
مجلس واحد, أو مجالس متفرقة لزمه بكل إظهار كفارة, وأما
الثالث فلأن كون الظهار منكر القول وزورا إنما يصلح جهة
لكونه جناية على ما هو مقتضى إيجاب الكفارة على أنه كان في
الأصل للطلاق, ويحتمل التشبيه للكرامة, ولهذا يدخل قصور في
الجناية فيصلح لإيجاب الحقوق الدائرة, ولولا ذلك لكان
جزاؤه عقوبة محضة وأيضا ذكر بعضهم أن السبب هو الظهار الذي
هو جناية محضة, والعود الذي هو إمساك بمعروف ونقض للقول
الزور لأنه تعالى عطف العود على الظهار ثم رتب الحكم عليها
إلا أنه جوز أداؤها قبل العود لأنها إنما
(2/320)
عليه السلام:
"فعليه ما على المظاهر"، ولإجماعهم على أنها لا تجب على
الخاطئ، ولأن الإفطار عمدا ليس فيه شبهة الإباحة ثم ورد
على هذا أن الإفطار عمدا لما لم يكن فيه شبهة الإباحة
ينبغي أن يكون كفارة الفطر عقوبة محضة فلدفع هذا الإشكال
قال: لكن الصوم لما كان حقا ليس مسلما إلى صاحبه ما دام
فيه فلا يكون الإفطار إبطال حق ثابت بل هو منع عن تسليمه
إلى المستحق فأوجبنا الزاجر بالوصفين.
ـــــــ
"لكن الصوم لما كان حقا ليس مسلما إلى صاحبه ما دام فيه"
فلا يكون الإفطار إبطال حق ثابت بل هو منع عن تسليمه إلى
المستحق فأوجبنا الزاجر بالوصفين أي العبادة والعقوبة
"وهي" أي الكفارة "عقوبة وجوبا, وعبادة أداء وقد وجدنا في
الشرع ما هذا شأنه" أي ما يكون عقوبة وجوبا وعبادة أداء
"كإقامة الحدود, ولم نجد على العكس أي لم نجد في الشرع ما
هو عقوبة أداء, وعبادة وجوبا", وإنما قال هذا جوابا لمن
يقول لم يعكس "حتى تسقط بالشبهة كالحدود" تفريع على أن
كفارة الفطر عقوبة "وبشبهة قضاء القاضي في المنفرد" أي
المنفرد برؤية هلال رمضان إذا رد القاضي شهادته وقضى أن
اليوم من شعبان فأفطر بالوقاع عامدا لا
.........................................................
شرعت إنهاء للحرمة الثابتة بالظهار فيجوز تقديمها على
الفعل لتنتهي الحرمة بها فيقع الفعل بصفة الحل, وذكر في
الطريقة المعنية أنه لا استحالة في جعل المعصية سببا
للعبادة التي حكمها تكفير المعصية, وإذهاب السيئة خصوصا
إذا صار معنى الزجر فيها مقصودا, وإنما المحال أن تجعل
سببا للعبادة الموصلة إلى الجنة لأنها مع حكمها الذي هو
الثواب الموصل إلى الجنة تصير من أحكام المعصية فتصير
المعصية بواسطة حكمها سببا للوصول إلى الجنة, وهو محال.
وذكر المحققون في الفرق بين كفارة الفطر, وغيرها أن داعية
الجناية على الصوم لما كانت قوية باعتبار أن شهوة البطن
أمر معود للنفس احتيج فيها إلى زاجر فوق ما في سائر
الجنايات فصار الزجر فيها أصلا, والعبادة تبعا فإن دعته
نفسه إلى الإفطار طلبا للراحة فتأمل فيما يجب عليه من
المشقة انزجر لا محالة وفي باقي الكفارات بالعكس ألا يرى
أنه لا معنى للزجر عن القتل الخطأ, وأن كفارة الظهار شرعت
فيما يندب إلى تحصيل ما تعلقت الكفارة به تعلق الأحكام
بالعلل, وهو العود, وكفارة اليمين شرعت فيما يجب تحصيل ما
تعلقت به الكفارة تعلق الأحكام بالشروط كمن حلف لا يكلم
أباه, وشرع الزاجر فيما يندب أو يجب تحصيله لا يليق
بالحكمة.
قوله: "وكذا كفارة الفطر" يعني أن العقوبة غالبة فيه
لوجوه: الأول قوله عليه الصلاة والسلام: "من أفطر في رمضان
متعمدا فعليه ما على المظاهر" فعلى ما ذهب إليه المصنف
رحمه الله من كون العقوبة غالبة في كفارة الظهار, وجه
الاستدلال ظاهر, وأما على ما هو المذهب فقيل: وجهه أنه قيد
الإفطار بصفة التعمد الذي به تتكامل الجناية ثم رتب عليه
وجوب الكفارة فدل ذلك على غلبة العقوبة كما هو مقتضى كمال
الجناية. الثاني الإجماع على أن الكفارة لا تجب على من
أفطر خطأ بأن سبق الماء حلقه في المضمضة فلو لم يعتبر في
سببها كمال الجناية لما سقطت بالخطأ ككفارة الخطأ, وفي
كمال الجناية كمال العقوبة. الثالث أنه ليس في الإفطار
عمدا شبهة الإباحة بوجه,
(2/321)
تفريعات
وهي عقوبة وجوبا، وعبادة أداء وقد وجدنا في الشرع ما هذا
شأنه كإقامة الحدود، ولم نجد على العكس حتى تسقط بالشبهة
كالحدود وبشبهة قضاء القاضي في المنفرد.
فتسقط إذا أفطرت ثم حاضت أو مرضت، وكذا إذا أصبح صائما ثم
سافر فأفطر.
ـــــــ
يجب عليه الكفارة عندنا خلافا للشافعي رحمه الله تعالى
"فتسقط إذا أفطرت ثم حاضت أو مرضت, وكذا إذا أصبح صائما ثم
سافر فأفطر, وأما حقوق العباد فأكثر من أن يحصى وما اجتمعا
فيه, والأول غالب حد القذف, وما اجتمعا فيه, والثاني غالب
القصاص, وأما قاطع
.........................................................
وهذا يدل على أن جنايته كاملة حتى كان ينبغي أن تكون
كفارته عقوبة محضة إلا أنه لما كان منعا عن تسليم الحق إلى
مستحقه لا إبطالا للحق الثابت إذ لا تتصور الجناية
بالإفطار بعد التمام تحقق بهذا الاعتبار قصور ما في
الجناية فلم يجعل الزاجر عقوبة محضة, ولا يخفى أن هذه
الوجوه الثلاثة متقاربة جدا.
قوله: "وهي: أي الكفارات عقوبة وجوبا" بمعنى أنها وجبت
أجزية لأفعال يوجد فيها معنى الخطر كالعقوبات, وعبادة أداء
بمعنى أنها تتأدى بالصوم, والإعتاق, والصدقة, وهي قرب,
وتؤدى بطريق الفتوى كالعبادات دون الاستيفاء كالعقوبات,
وهذا الكلام مما أورده فخر الإسلام في كفارة الفطر خاصة
يعني أنها وجبت قصدا إلى العقوبة والزجر بخلاف سائر
الكفارات فإن العقوبة فيها تبع إذ لا معنى للزجر عن القتل
الخطأ مثلا, وقد أشرنا إلى ذلك فيما سبق.
قوله: "كإقامة الحدود" فإن الحدود واجبة بطريق العقوبة,
ويؤديها الإمام عبادة لأنه مأمور بإقامتها, وأما عكس ذلك
وهو أن يجب الشيء عبادة, وقربة, ويكون أداؤه عقوبة للمكلف,
وزجرا فلا يوجد في الشرع بل لا يتصور.
قوله: "فتسقط" هذه تفريعات على أن العقوبة غالبة في كفارة
الفطر إلا أن توسط قوله وهي عقوبة وجوبا عبادة أداء مخرج
للنظم عن نظامه, ولولا أن المصنف رحمه الله تعالى جعل
الضمير في قوله, وهي عقوبة للكفارات لكنا نجعله لكفارة
الفطر فيحسن النظم ويستقيم المعنى.
التفريع الأول إن كان كفارة الفطر تسقط بشبهة تورث جهة
إباحة فيما هو محل الجناية كما إذا جامع على ظن عدم طلوع
الفجر أو غروب الشمس, وقد بان خلافه بخلاف سائر الكفارات
فإنه لا يختلف بين محل ومحل, وأما جماع زوجته أو أكل طعامه
فلا يورث شبهة في إباحة الإفطار كمن قتل بسيفه أو شرب
خمره.
الثاني أنها تسقط بشبهة قضاء القاضي كما إذا رأى هلال
رمضان وحده فشهد عند القاضي فرد
(2/322)
حقوق العباد
وأما حقوق العباد فأكثر من أن يحصى وما اجتمعا فيه، والأول
غالب حد القذف، وما اجتمعا فيه، والثاني غالب القصاص، وأما
قاطع الطريق فخالص حق الله تعالى عندنا.
ـــــــ
الطريق فخالص حق الله تعالى عندنا وهذه الحقوق تنقسم إلى
أصل, وخلف ففي الإيمان أصله التصديق, والإقرار ثم صار خلفا
في أحكام الدنيا" أي صار الإقرار المجرد قائما مقام الأصل
في أحكام الدنيا "ثم صار أداء أحد أبوي الصغير خلفا عن
أدائه حتى لا يعتبر
.........................................................
شهادته لتفرده أو لفسقه فصام لقوله عليه الصلاة والسلام:
"صوموا لرؤيته" 1 ثم أفطر في هذا اليوم, ولو بالجماع لم
يلزمه الكفارة لأن القضاء هاهنا نافذ ظاهرا فيورث شبهة حل
الإفطار إذ لو كان نافذا ظاهرا, وباطنا لأورث حقيقة الحل,
وزعمه أن قضاء القاضي يرد شهادته خطأ لا يخرجه عن كونه
شبهة كما إذا شهدوا بالقصاص على رجل فقضى القاضي به فقتله
الولي, وهو عالم بكذب الشهود ثم جاء المشهود بقتله حيا لا
يجب القصاص على الولي, وعند الشافعي رحمه الله تعالى تجب
الكفارة لأن هذا اليوم من رمضان في حقه بدليل قطعي, وجهل
الغير لا يورث شبهة في حقه كما إذا شرب جماعة على مائدة,
وعلم به البعض دون البعض.
الثالث أن المرأة أفطرت عمدا حتى لزمها الكفارة ثم حاضت في
ذلك اليوم أو مرضت سقطت عنها الكفارة, وكذا الرجل إذا أفطر
ثم مرض أما الحيض فلأنه يعدم الصوم من أول النهار, وأما
المرض فلأنه يزيل استحقاق الصوم فيتحقق في هذا اليوم ما
ينافي الصوم أو استحقاقه فيكون شبهة.
الرابع أنه لو أصبح صائما ثم سافر فأفطر لم تلزمه الكفارة,
وإن لم يبح له الإفطار في ذلك اليوم لأن السفر المبيح في
نفسه يورث شبهة, وأما إذا أنشأ السفر بعد الإفطار فلا تسقط
الكفارة لأنها تجب حقا لله تعالى بما هو من فعل العبد
اختيارا بخلاف الحيض أو المرض فإنه من قبل من له الحق.
قوله: "وما اجتمعا" أي وما اجتمع فيه الحقان وحق الله
تعالى غالب حد القذف فإنه زاجر يعود نفعه إلى عامة العباد,
وفيه دفع العار عن المقذوف, ولغلبة المعنى الأول يجري فيه
التداخل حتى لو قذف جماعة بكلمة أو بكلمات متفرقة لا يقام
عليه إلا حد واحد, ولا يجري فيه الإرث, ولا يسقط بعفو
المقذوف, ويتنصف بالرق, ويفوض استيفاؤه إلى الإمام, وما
اجتمع فيه الحقان وحق العبد فيه غالب القصاص فإن لله تعالى
في نفس العبد حق الاستعباد, وللعبد حق الاستمتاع ففي شرعية
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الصوم باب 5، 11. مسلم في كتاب
الصيام حديث 4، 7. الترمذي في ككتاب الصوم باب 5. النسائي
في كتاب الصيام باب 8، 9. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 7.
(2/323)
أصل الإيمان و خلفه
...
أصل الإيمان وخلفه
وهذه الحقوق تنقسم إلى أصل، وخلف ففي الإيمان أصله
التصديق، والإقرارثم صار الإقرار خلفا في أحكام الدنيا أي
صار الإقرار المجرد قائما مقام الأصل في أحكام الدنيا ثم
أداء أحد أبوي الصغير خلفا عن أدائه حتى لا يعتبر التبعية
إذا وجد أداؤه ثم تبعية أهل الدار، والغانمين خلفا عن أداء
أحدهما إذا عدما.
وكذا الطهارة والتيمم لكنه خلف مطلق عندنا بالنص وعنده خلف
ضروري حتى لم يجز أداء الفرائض بتيمم واحد وقال لم يجز في
إناءين نجس وطاهر يتحرى ولا يتيمم وعندنا يتيمم إذا ثبت
العجز بالتعارض:
ـــــــ
التبعية إذا وجد أداؤه" أي لما كان أداؤه أصلا, وأداء
الأبوين خلفا فإذا وجد الأصل, وهو أداء الصغير العاقل لا
تعتبر التبعية فيحكم بإيمانه أصالة لا بكفره تبعية "ثم
تبعية أهل الدار, والغانمين خلفا عن أداء أحدهما إذا عدما"
أي إذا عدم الأبوان.
"وكذا الطهارة والتيمم لكنه" أي التيمم "خلف مطلق عندنا
بالنص أي إذا عجز عن
.........................................................
القصاص إبقاء للحقين وإخلاء للعالم عن الفساد إلا أن وجوبه
بطريق المماثلة, والمنبئة عن معنى الجبر وفيه معنى
المقابلة بالمحل فكان حق العبد راجحا, ولهذا فوض استيفاؤه
إلى الولي, وجرى فيه الاعتياض بالمال.
قوله: "وأما حد قاطع الطريق فخالص حق الله تعالى" قطعا كان
أو قتلا لأن سببه محاربة الله ورسوله, وقد سماه الله تعالى
جزاء, والجزاء المطلق بما يجب حقا لله تعالى بمقابلة
الفعل, وعند الشافعي رحمه الله تعالى إذا كان الحد قتلا
ففيه حق الله تعالى من جهة أنه حد يستوفيه الإمام دون
الولي, ولا يسقط بالعفو, وحق العبد من جهة أن فيه معنى
القصاص حيث لا يجب إلا بالقتل.
قوله: "ثم تبعية أهل الدار" أي بعد ما صار أداء أحد أبوي
الصغير خلفا على أدائه صار تبعية أهل الدار خلفا عن أداء
أحدهما أي أحد الأبوين إذا لم يوجد, وإذا لم يوجد تبعية
أهل الدار صارت تبعية الغانمين خلفا مثلا إذا سبي صبي فإن
أسلم هو بنفسه مع كونه عاقلا فهو الأصل وإلا فإن أسلم أحد
أبويه فهو تبع له وإلا فإن أخرج إلى دار الإسلام فهو مسلم
بتبعية الدار, وإن لم يخرج بل قسم أو بيع من مسلم في دار
الحرب فهو تبع لمن سباه في الإسلام فلو مات يصلى عليه,
ويدفن في مقابر المسلمين ثم التحقيق أن عند عدم الأبوين
ليست التبعية خلفا عن أداء أحد الأبوين بل عن أداء الصبي
نفسه كابن الميت خلف عنه في الميراث, وعند عدمه يكون ابن
الابن خلفا عن الميت لا عن ابنه لئلا يلزم للخلف خلف فيكون
الشيء خلفا وأصلا, وقد يقال: لا امتناع في كون الشيء أصلا
من وجه وخلفا من وجه.
قوله: "لكنه أي التيمم خلف مطلق" يرتفع به الحدث إلى غاية
وجود الماء بالنص, وهو قوله
(2/324)
هل التراب خلف
عن الماء
ثم عندنا التراب خلف عن الماء فيجوز إمامة المتيمم للمتوضئ
وعند محمد وزفر رحمهما الله تعالى التيمم خلف عن التوضؤ
فلا يجوز وشرط الخلفية إمكان الأصل ليصير السبب منعقدا له
ثم عدمه بعارض.
ـــــــ
استعمال الماء" يكون التيمم خلفا عن الماء مطلقا فيجوز
أداء الفرائض بتيمم واحد كما يجوز بوضوء واحد "وعنده خلف
ضروري" أي التيمم خلف عن الماء عند الشافعي رحمه الله
تعالى عند العجز بقدر ما تندفع به الضرورة "حتى لم يجز
أداء الفرائض بتيمم واحد وقال" أي الشافعي رحمه الله تعالى
عطف على قوله لم يجز "في إناءين نجس وطاهر يتحرى ولا
يتيمم" فيتوضأ بما يغلب على ظنه طهارته, ولا يتيمم بناء
على أن التيمم خلف ضروري ولا ضرورة هنا "وعندنا يتيمم إذا
ثبت العجز بالتعارض" أي بين النجس, والطاهر, ولا احتياج
إلى الضرورة فإنه خلف مطلق لا ضروري. "ثم عندنا التراب خلف
عن الماء" فبعد حصول الطهارة كان شرط الصلاة موجودا في كل,
واحد منهما بكماله "فيجوز إمامة المتيمم للمتوضئ" كإمامة
الماسح للغاسل "وعند محمد وزفر رحمهما الله تعالى التيمم
خلف عن التوضؤ فلا يجوز"; لأن المتوضئ صاحب أصل, والمتيمم
صاحب خلف فلا يبني صاحب الأصل القوي صلاته على صاحب الخلف
الضعيف كما لا يبني المصلي بركوع, وسجود على المومئ. "وشرط
الخلفية إمكان الأصل ليصير السبب منعقدا له ثم عدمه بعارض"
كما في مسألة مس السماء بخلاف الغموس.
.........................................................
تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً
طَيِّباً} نقل الحكم في حال العجز عن الماء إلى التيمم
مطلقا عند إرادة الصلاة فيكون حكمه حكم الماء في تأدية
الفرائض به, وتحقيق ذلك أنه إن جعل التراب خلفا عن الماء
فحكم الأصل إفادة الطهارة وإزالة الحدث فكذا حكم الخلف إذ
لو كان له حكم برأسه لما كان خلفا بل أصلا, وإن جعل التيمم
خلفا عن التوضؤ فحكم التوضؤ إباحة الدخول في الصلاة بواسطة
رفع الحدث بطهارة حصلت به لا مع الحدث فكذا التيمم إذ لو
كان خلفا في حق الإباحة مع الحدث لكان له حكم برأسه هو
الإباحة مع قيام الحدث فلم يكن خلفا, وعند الشافعي رحمه
الله تعالى هو خلف ضروري بمعنى أنه ثبت خلفيته ضرورة
الحاجة إلى إسقاط الفرض عن الذمة مع قيام الحدث كطهارة
المستحاضة حتى لم يجز تقديمه على الوقت, ولا أداء فرضين
بتيمم واحد أما قبل الوقت فلأن الضرورة لم تبن, وأما بعد
أداء فرض واحد فلأن الضرورة قد انعدمت, وحتى قال فيمن له
إناءان من الماء أحدهما طاهر والآخر نجس, وقد اشتبها عليه
إنه يجب عليه التحري, والاجتهاد, ولا يجوز له التيمم إذ
معه ماء طاهر بيقين يقدر على استعماله بدليل معتبر في
الشرع, وهو التحري فلا ضرورة حينئذ, وعندنا لا يجوز التحري
لأن التراب طهور مطلق عند العجز عن الماء, وقد تحقق العجز
بالتعارض الموجب للتساقط حتى كان الإناءان في حكم العدم.
(2/325)
واعلم أن وجوب
التحري عند الشافعي رحمه الله تعالى إنما هو إذا لم يوجد
ماء آخر طاهر بيقين, وأما إذا وجد فالتحري جائز فلهذا عدل
المصنف رحمه الله تعالى عن عبارة فخر الإسلام رحمه الله
تعالى حيث قيد جواز التحري في مسألة الإناءين بحالة السفر
أي حالة عدم القدرة على ماء طاهر بيقين ثم لا يخفى أن عدم
صحة التيمم قبل التحري عند الشافعي رحمه الله تعالى مبني
على أنه لا صحة للتيمم بدون العجز عن الماء سواء كان خلفا
ضروريا أو خلفا مطلقا, ولا عجز مع إمكان التحري, ولذا جوز
التيمم فيما إذا تحير فتفريع هذه المسألة على كون التيمم
خلفا ضروريا بمعنى أنه إنما يكون بقدر ما يندفع به ضرورة
إسقاط الفرض ليس كما ينبغي وإن أريد بكونه ضروريا أنه لا
يكون إلا عند ضرورة العجز عن استعمال الماء فهذا مما لا
يتصور فيه نزاع.
قوله: "ثم عندنا" أي بعد ما اتفق أصحابنا على كون الخلف
خلفا مطلقا اختلفوا في تعيين الخلف فقال أبو حنيفة وأبو
يوسف رحمهما الله تعالى الخلفية في الآلة بمعنى أن التراب
خلف عن الماء لأنه تعالى نص عند النقل إلى التيمم على عدم
الماء, وكون التراب ملوثا في نفسه لا يوجب العدول عن ظاهر
النص لأن نجاسة المحل حكمية فيجوز أن يكون تطهير الآلة
أيضا كذلك, وقوله عليه الصلاة والسلام: "التراب طهور
المسلم ولو إلى عشر حجج ما لم يجد الماء" 1 يؤيد ذلك فإن
قيل: لو كانت الخلفية في الآلة لافتقرت إلى الإصابة كالماء
إذ من شرط الخلف أن لا يزيد على الأصل فلم يجز التيمم
بالحجر الملساء قلنا: ليس هذا من الزيادة في شيء لأن
معناها الزيادة في الحكم, وترتب الآثار, ألا يرى أن
استغناء التيمم عن مسح الرأس والرجل لا يوجب زيادته على
الوضوء فعندهما يجوز إمامة المتيمم للمتوضئ إذا لم يجد
المتوضئ ماء لأن شرط الصلاة في حق كل منهما موجود بكماله
فيجوز بناء أحدهما على الآخر كالغسل على الماسح مع أن
الخلف بدل من الرجل في قبول الحدث, ورفعه, وأما إذا وجد
المتوضئ ماء فإن كان في زعمه أن شرط الصلاة لم يوجد في حق
الإمام, وأن صلاته فاسدة فلا يصح اقتداؤه به كما إذا اعتقد
أن إمامه مخطئ في جهة القبلة, وقال محمد وزفر رحمهما الله
تعالى: الخلفية في الفعل بمعنى أن التيمم خلف عن التوضؤ
لأن الله تعالى أمر بالوضوء أولا ثم بالتيمم عند العجز فلا
يجوز اقتداء المتوضئ بالمتيمم كاقتداء غير المومئ بالمومئ,
وما ذكر أن زفر مع محمد في هذه المسألة يوافق ما ذكره
الإسبيجابي في شرح المبسوط إلا أن المذكور في عامة الكتب
أنه يجوز اقتداء المتوضئ بالمتيمم عند زفر رحمه الله
تعالى, وإن وجد المتوضئ ماء.
قوله: "وشرط الخلفية" أي لا بد في ثبوت الخلف عن إمكان
الأصل ليصير السبب منعقدا للأصل ثم من عدم الأصل في الحال
لعارض إذ لا معنى للمصير إلى الخلف مع وجود الأصل مثلا
إرادة الصلاة انعقدت سببا للوضوء لإمكان حصول الماء بطريق
الكرامة ثم لظهور العجز ينتقل الحكم إلى التيمم, وهذا كما
إذا حلف ليمسن السماء فإن اليمين قد انعقدت موجبة للبر
لإمكان مس السماء في الجملة إلا أنه معدوم عرفا وعادة
فانتقل الحكم إلى الخلف, وهو الكفارة بخلاف ما إذا حلف على
نفي ما كان أو ثبوت ما لم يكن في الزمان الماضي فإنه لا
يثبت الكفارة لعدم إمكان البر على ما سبق تحقيق ذلك.
ـــــــ
1 رواه أحمد في مسنده 5/146، 147.
(2/326)
|