شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه ط العلمية المحكوم عليه
مدخل
...
المحكوم عليه
باب المحكوم عليه، ولا بد من أهليته للحكم، وهي لا تثبت
إلا بالعقل قالوا: هو نور يضيء به طريق يبتدأ به من حيث
ينتهي إليه درك الحواس فيتبدى المطلوب للقلب.
ـــــــ
"باب المحكوم عليه, ولا بد من أهليته للحكم, وهي لا تثبت
إلا بالعقل قالوا: هو نور يضيء به طريق يبتدأ به من حيث
ينتهي إليه درك الحواس فيتبدى المطلوب للقلب أي نور يحصل
بإشراق العقل الذي أخبر النبي عليه السلام أنه من أوائل
المخلوقات فكما أن العين مدركة بالقوة فإذا وجد النور
الحسي يخرج إدراكها إلى الفعل فكذا القلب" أي النفس
الإنسانية مع هذا النور العقلي وقوله: "طريق يبتدأ به
فابتداء درك الحواس ارتسام المحسوس في الحاسة الظاهرة
ونهايته ارتسامه في الحواس الباطنة, وحينئذ بداية تصرف
القلب فيه بواسطة العقل بأن يدرك من الشاهد أو ينتزع
الكليات من تلك الجزئيات المحسوسة, ولهذا التصرف مراتب:
استعداده لهذا الانتزاع ثم علم البديهيات على وجه يوصل إلى
النظريات ثم علم النظريات منها ثم استحضارها بحيث لا تغيب
وهذا نهايته, ويسمى العقل المستفاد والمرتبة الثانية هي
مناط التكليف" اعلم أن ما ذكرنا من تعريف العقل أورده
مشايخنا في كتبهم, ومثلوه بالشمس كما ذكرنا في المتن, وهذا
مناسب لما قاله الحكماء, والتمثيل بعينه مسطور في كتب
الحكمة, واعلم أنهم أطلقوا العقل على جوهر مجرد غير متعلق
بالبدن تعلق التدبير والصرف, وقد ادعوا أن أول شيء خلقه
الله تعالى هذا الجوهر وقد قال عليه السلام: "أول ما خلق
الله تعالى العقل" فيمكن أن يراد بهذا التعريف هذا الجوهر
.........................................................
قوله: "باب المحكوم عليه", وهو المكلف أي الذي تعلق الخطاب
بفعله, وأهليته لذلك تتوقف على العقل إذ لا تكليف على
الصبي, وقد أطلق الحكماء وغيرهم لفظ العقل على معان كثيرة
منها الجوهر المجرد في ذاته وفعله بمعنى أنه لا يكون جسما,
ولا جسمانيا, ولا تتوقف أفعاله على تعلقه بجسم, وهذا معنى
الجوهر المجرد الغير المتعلق بالبدن تعلق التدبير,
والتصرف, ولو قال غير المتعلق بالجسم لكان أنسب ليخرج
النفوس الفلكية إذ البدن إنما يطلق على بنية الحيوان وادعى
الحكماء أن العقل بهذا المعنى أول ما صدر عن الواجب
سبحانه, وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: "أول ما
خلق الله تعالى العقل", وإنما قال: ادعوا لأنهم استدلوا
على ذلك بدلائل واهية مبنية على مقدمات فاسدة مثل أن
الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد, ونحو ذلك ومنها قوة للنفس
الإنسانية بها يتمكن من إدراك الحقائق, وهذا معنى الأثر
الفائض عليها من العقل بالمعنى الأول, ومنها مراتب قوى
النفس على ما سنبينها, ومنها الغريزة التي يلزمها العلم
بالضروريات أو نفس العلم بذلك, وهذا معنى العلم بوجوب
الواجبات واستحالة المستحيلات, وجواز الجائزات, ومنها ملكة
حاصلة بالتجارب يستنبط بها المصالح والأغراض, وهذا معنى ما
يحصل به الوقوف على العواقب, ومنها قوة مميزة بين الأمور
الحسنة, والقبيحة, ومنها هيئة محمودة للإنسان في حركاته,
(2/327)
شرح تعريف العقل
أي نور يحصل بإشراق العقل الذي أخبر النبي عليه السلام أنه
من أوائل المخلوقات فكما أن العين مدركة بالقوة فإذا وجد
النور الحسي يخرج إدراكها إلى الفعل فكذا القلب طريق يبتدأ
به فابتداء درك الحواس ارتسام المحسوس في الحاسة الظاهرة
ونهايته ارتسامه في الحواس الباطنة، وحينئذ بداية تصرف
القلب فيه بواسطة العقل بأن يدرك من الشاهد أو ينتزع
الكليات من تلك الجزئيات المحسوسة.
ـــــــ
الذي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنه من أوائل
المخلوقات فيكون المراد بالنور المنور كما فسر في قوله
تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
وأيضا قد يطلق العقل على الأثر الفائض من هذا الجوهر في
الإنسان فيمكن أن يراد
.........................................................
وسكناته, وكلامه إلى غير ذلك من المعاني المتفاوتة,
والمقاربة فاحتج في هذا المقام إلى تفسير العقل فقالوا:
هو نور يضيء به طريق يبتدأ به من حيث ينتهي إليه درك
الحواس فيتبدى المطلوب للقلب فيدركه القلب بتأمله, وبتوفيق
الله تعالى, ومعنى ذلك أنها قوة للنفس بها ينتقل من
الضروريات إلى النظريات إلا أنه لما كان ظاهر هذا التفسير
أخفى من العقل احتاج المصنف رحمه الله تعالى إلى توضيحه,
وتبيين المراد منه فزعم أنه يحتمل أن يراد بالعقل هاهنا
ذلك الجوهر المجرد الذي هو أول المخلوقات على أن يكون
النور بمعنى المنور, ولا يخفى بعد هذا الاحتمال عن الصواب
فإنهم جعلوا العقل من صفات الراوي, والمكلف ثم فسروه بهذا
التفسير, ويحتمل أن يراد به الأثر الفائض من هذا الجوهر
على نفس الإنسان كما ذكره الحكماء من أن العقل الفعال هو
الذي يؤثر في النفس, ويعدها للإدراك, وحال نفوسنا بالإضافة
إليه حال أبصارنا بالنسبة إلى الشمس فكما أن بإفاضة نور
الشمس تدرك المحسوسات كذلك بإفاضة نوره تدرك المعقولات
فقوله نور أي قوة شبيهة بالنور في أنه بها يحصل الإدراك.
يضيء أي يصير ذا ضوء به أي بذلك النور. طريق يبتدأ به أي
بذلك الطريق والمراد به الأفكار, وترتيب المبادئ الموصلة
إلى المطالب, ومعنى إضاءتها صيرورتها بحيث يهتدي القلب
إليها, ويتمكن من ترتيبها وسلوكها توصيلا إلى المطلوب,
وقوله من حيث ينتهي إليه متعلق يبتدأ, والضمير في إليه
عائد إلى حيث أي من محل ينتهي إليه إدراك الحواس فيتبدى أي
يظهر المطلوب للقلب أي الروح المسمى بالقوة العاقلة,
والنفس الناطقة فيدركه القلب بتأمله أي التفاته إليه,
والتوجه نحوه بتوفيق الله تعالى وإلهامه لا بتأثير النفس
أو توليدها فإن الأفكار معدات للنفس, وفيضان المطلوب إنما
هو بإلهام الله تعالى.
واعلم أن العقل الذي يحصل الإدراك بإشراقه, وإفاضة نوره,
ويكون نسبته إلى النفوس نسبة الشمس إلى الأبصار على ما
ذكره الحكماء هو العقل العاشر المسمى بالعقل الفعال لا
العقل الذي هو أول المخلوقات ففي كلام المصنف رحمه الله
تعالى تسامح.
قوله: "وقد يطلق العقل على قوة للنفس بها تكسب العلوم"
إشارة إلى معنى آخر للعقل باعتباره يحصل للنفس مراتبها
الأربع فعلى ما سبق كان حاصل معناه حصول شرائط الوصول إلى
المطلوب, وانكشاف الحجب عنه بينه وبين المطالب, والتهدي
إلى طريق التوصل إلى المقاصد, وأما
(2/328)
مراتب التصرف
ولهذا التصرف مراتب: استعداده لهذا الانتزاع ثم علم
البديهيات على وجه يوصل إلى النظريات ثم علم النظريات منها
ثم استحضارها بحيث لا تغيب وهذا نهايته، ويسمى العقل
المستفاد والمرتبة الثانية هي مناط التكليف.
ـــــــ
بهذا التعريف هذا المعنى, وبيانه أن النفس الإنسانية مدركة
بالقوة فإذا أشرف عليها الجوهر المذكور خرج إدراكها من
القوة إلى الفعل بمنزلة الشمس إذا أشرقت خرج إدراك العين
من القوة إلى الفعل فالمراد بالعقل هذا النور المعنوي الذي
حصل بإشراق ذلك الجوهر, وقد يطلق العقل على قوة للنفس بها
تكسب العلوم, وهي قابلية النفس لإشراق ذلك الجوهر, ولها
أربع مراتب كما ذكرت في المتن, ويسمى الأول العقل
الهيولاني, والثاني العقل بالملكة, والثالث العقل بالفعل
والرابع العقل المستفاد, وأيضا يطلق على بعض العلوم فقيل:
علم بوجوب الواجبات, واستحالة المستحيلات, وجواز الجائزات,
وقوله يبتدأ به يلزم من هذا
.........................................................
على هذا فمعناه قابلية النفس بهذه المعاني فإن قيل: من شأن
القوة التأثير والعقل, ومعنى القابلية التأثر والانفعال
فكيف يفسر بها قلت هي قوة باعتبار ترتيب المبادئ وتهيئة
المعدات والتصرفات فيها وقابلية من حيث إن حصول المطلوب
إنما هو بالإلهام وبتوفيق الملك العلام فإن قلت: القوة
التي بها تكتسب النفس العلوم تشتمل مراتبها الأربع فكيف
تفسر بقابلية الإشراق التي هي المرتبة الأولى أعني العقل
الهيولاني قلت: المراد قابلية الإشراق إلى أن يكمل جميع
الآثار, ويحصل غاية المطلوب, وهذا يتناول المراتب الأربع
فإن قلت: كيف جعل المراتب الأربع في الشرح مراتب قوة النفس
وقابليتها للإشراق, وفي المتن مراتب تصرف القلب بواسطة
العقل فيما ارتسم في الحواس؟ قلت: حاصلهما واحد فإن هذه
المراتب مراتب للنفس باعتبار قوتها في اكتساب العلوم,
وتصرفها في المبادئ لحصول المطالب فيجعل تارة مراتب النفس,
وتارة مراتب قوتها النظرية أي التي بها يتمكن من اكتساب
العلوم, وتارة مراتب تصرفاتها في المبادئ ومعنى تصرف القلب
فيما ارتسم في الحواس أن يدرك الغائب من الشاهد أي يستدل
من الآثار واللوازم على المؤثرات, والملزومات مثل استدلاله
من العالم, وتغيراته على أن له صانعا قديما غنيا عمن سواه
بريئا عن النقائص وأن ينتزع الكليات من الجزئيات وأن ينتزع
من الإحساس بحرارة هذه النار أن كل نار حارة, وكذا في جانب
التصورات مثلا ينتزع من الجزئيات المكتنفة بالعوارض
المشخصة واللواحق الخارجية حقائقها الكلية.
وأما تحقيق المراتب الأربع فهو أن للنفس الإنسانية قوتين:
إحداهما مبدأ الإدراك, وهي باعتبار
(2/329)
الكلام أن يكون
لدرك الحواس الخمس بداية, ونهاية, وكذا للإدراك العقلي
بداية, ونهاية فنهاية درك الحواس هي بداية الإدراك العقلي
فاعلم أن بداية درك الحواس ارتسام المحسوسات في إحدى
الحواس الخمس, ونهايته ارتسامه في الحواس الباطنة والمشهور
أن الحواس الباطنة خمس: الحس المشترك في مقدم الدماغ, وهو
الذي يرتسم فيه صور المحسوسات
.........................................................
تأثرها عما فوقها مستكملة في ذاتها, وتسمى عقلا نظريا,
والثانية مبدأ الفعل, وهي باعتبار تأثيرها في البدن
الموضوع مكملة إياه تأثيرا اختياريا, وتسمى عقلا عمليا
وللقوة النظرية في تصرفاتها في الضروريات, وترتيبها
لاكتساب الكمالات أربع مراتب, وذلك أن النفس مبدأ الفطرة
خالية عن العلوم مستعدة لها, وتسمى حينئذ عقلا هيولانيا
تشبيها لها بالهيولي الأولى الخالية في نفسها عن جميع
الصور القابلة لها, وذلك بمنزلة استعداد الطفل للكتابة ثم
إذا أدركت الضروريات, واستعدت لحصول النظريات سميت عقلا
بالملكة لحصول ملكة الانتقال كاستعداد الأمي لتعلم الكتابة
ثم إذا أدركت النظريات, وحصل لها القدرة على استحضارها متى
شاءت من غير تجسم كسب جديد سميت عقلا بالفعل لشدة قربه من
الفعل وذلك بمنزلة استعداد القادر على الكتابة الذي لا
يكتب, وله أن يكتب متى شاء, وإذا كانت النظريات حاضرة
عندها مشاهدة لها سميت عقلا مستفادا لاستفادة هذه القوة
والحالة من العقل الفعال, وذلك بمنزلة الشخص حينما يكتب
بالفعل, وعبارة المحققين أن العقل المستفاد هو حضور
اليقينيات, وحصول صور المعقولات للنفس, وهو الظاهر من
التسمية بالمستفاد, وأن العقل الهيولاني يكون قبل استعمال
الحواس, وإدراك الضروريات, والعقل بالملكة بعده والمصنف
رحمه الله تعالى جعل الهيولاني استعداد النفس للانتزاع بعد
حصول المحسوسات. والعقل بالملكة علم البديهات على وجه يوصل
إلى النظريات أي مترتبة للتأدي إلى المجهولات النظرية,
وأما جعل المستفاد نهاية, ومرتبة رابعة فإنما هو باعتبار
الغاية, وكونه الرئيس المطلق الذي يخدمه سائر القوى, وإلا
فالمستفاد مقدم بحسب الوجود على العقل بالفعل لأنه إنما
يكون بعد التحصيل, والإحضار مرة أو مرات.
ثم هذه المراتب استعدادات للنفس مختلفة بالشدة والضعف
كالثلاث الأول أو كمال لها كالرابعة وتطلق على النفس بحسب
ما لها من هذه الأحوال, ولا شك أن للنفس في كل حال من تلك
الأحوال قوة لم تكن قبل فيطلق على نفس القوى أيضا, ونعني
بالقوة المعنى الذي به يصير الشيء فاعلا أو منفعلا, وجعلوا
المرتبة الثانية, وهي أن تدرك البديهات مرتبة على وجه توصل
إلى النظريات مناط التكليف إذ بها يرتفع الإنسان عن درجة
البهائم, ويشرق عليها نور العقل بحيث يتجاوز إدراك
المحسوسات.
قوله: "فاعلم أن بداية درك الحواس" يعني لما ذكر في تعريف
العقل لدرك الحواس نهاية لزم أن يكون له بداية ولما ذكر
لطريق إدراك العقل بداية لزم أن يكون له نهاية لأن
إدراكاتنا أمور حادثة منقطعة, ولما جعل قوله من حيث متعلقا
بيبتدأ, والضمير في إليه عائد إلى حيث أي طريق يبتدأ به من
المقام الذي ينتهي إليه إدراك الحواس لزم أن يكون نهاية
درك الحواس بداية درك العقل فذكر أن بداية درك الحواس هو
ارتسام المحسوس في إحدى الحواس الخمس الظاهرة, وهي
(2/330)
ثم الخيال, وهو
خزانة الحس المشترك ثم الوهم في مؤخر الدماغ يرتسم فيه
المعاني الجزئية ثم بعده الحافظة, وهي خزانة الوهم ثم
المفكرة في وسط الدماغ تأخذ المدركات من الطرفين وتتصرف
فيها, وتركب بينها تركيبا, وتسمى مخيلة أيضا فهذا نهاية
إدراك الحواس
.........................................................
اللمس أعني قوة سارية في البدن كله بها يدرك الحار,
والبارد والرطب, واليابس, ونحو ذلك, والذوق وهي قوة منبثة
في العصب المفروش على جرم اللسان يدرك بها الطعوم, والشم
وهو قوة مرتبة في زائدتي مقدم الدماغ الشبيهتين بحلمتي
الثدي يدرك بها الروائح, والسمع وهو قوة مرتبة في العصب
المفروش على سطح باطن الصماخ يدرك بها الأصوات, والبصر هو
قوة مرتبة في العصبتين المجوفتين اللتين تتلاقيان في مقدم
الدماغ فيفترقان إلى العينين يدرك بها الألوان, والأضواء,
ولا خفاء في أن المرتسم فيها هو صورة المحسوس لا نفسه فإن
المحسوس هو هذا اللون الموجود في الخارج مثلا وهو ليس
بمرتسم في الباصرة بل صورته كما أن المعلوم هو ذلك
الموجود, والحاصل في النفس صورته, ومعنى معلوميته حصول
صورته لا حصول نفسه, ونهاية درك الحواس ارتسام المحسوس في
الحواس الباطنة.
والمشهور أنها أيضا خمس الحس المشترك وهي قوة مرتبة في
التجويف الأول من الدماغ, ومبادئ عصب الحس يجتمع فيها صور
جميع المحسوسات فيدركها والخيال هو قوة مرتبة في آخر
التجويف المقدم يجتمع فيها مثل المحسوسات, وتبقى فيها بعد
الغيبة عن الحس المشترك فهي خزانته, والوهم وهي قوة مرتبة
في آخر التجويف الأوسط من الدماغ لا في مؤخره على ما ذكره
المصنف رحمه الله تعالى بها يدرك المعاني الجزئية الغير
المحسوسة أعني التي لم يتأد إليها من طرق الحواس, وإن كانت
موجودة في المحسوسات كعداوة زيد, وصداقة عمرو, والحافظة
وهي قوة مرتبة في التجويف الأخير من الدماغ تحفظ المعاني
الجزئية التي أدركها الوهم فهي خزانة للوهم بمنزلة الخيال
للحس المشترك والمفكرة وهي قوة مرتبة في الجزء الأول من
التجويف الأوسط من الدماغ بها يقع التركيب والتفصيل بين
الصور المحسوسة المأخوذة عن الحس المشترك, والمعاني
المدركة بالوهم كإنسان له رأسان, وإنسان عديم الرأس, وهذا
معنى أخذ المدركات عن الطرفين, وهذه القوة تستعملها النفس
على أي نظام تريد فإن استعملتها بواسطة القوة الوهمية
وحدها سميت متخلية, وإن استعملتها بواسطة القوة العقلية
وحدها أو مع الوهمية سميت مفكرة, وما ذكرنا من محال للقوى
هو الموافق لما ذكره المحققون من علماء التشريع, واستدلوا
عليه بأن الآفة في ذلك المحل توجب الآفة في فعل تلك القوة
ولفظ ثم في كلام المصنف رحمه الله تعالى ليس لترتيب هذه
القوى في الوجود والمحل بل لترتيب تصرفاتها, وأفعالها فإنه
يرتسم أولا صورة المحسوس ثم تخزن ثم ترتسم منه المعاني ثم
تحفظ ثم يقع بينهما التركيب والتفصيل فلذا قال: ثم بعده
الحافظة فأشار بلفظ بعد إلى أن محلها بعد محل الوهم.
قوله: "فإذا تم هذا" أي ارتسام الصور والمعاني وأخذ
المفكرة إياهما من الطرفين تنتزع النفس الناطقة من المفكرة
علوما أي صورا أو معاني كلية لأنها بالتصرف والتفكر في
الأشخاص الجزئية
(2/331)
معلومات النفس
ثم معلومات النفس إما أن لا يتعلق بها العمل كمعرفة الصانع
تعالى، وتسمى علوما نظرية وإما أن يتعلق، وتسمى علمية فإذا
اكتسبت العلمية حركت البدن إلى ما هو خير، وعما هو شر
فيستدل بهذا على وجود تلك القوة وعدمها.
ـــــــ
فإذا تم هذا انتزع النفس الإنسانية من المفكرة علوما فهذا
بداية تصرف النفس بواسطة إشراق العقل, وله أربع مراتب كما
ذكرنا, والعلم عند الله تعالى.
"ثم معلومات النفس إما أن لا يتعلق بها العمل كمعرفة
الصانع تعالى, وتسمى علوما نظرية وإما أن يتعلق, وتسمى
علمية فإذا اكتسبت العلمية حركت البدن إلى ما هو خير, وعما
هو شر فيستدل بهذا على وجود تلك القوة وعدمها" أي يستدل
بهذا التحريك على وجود تلك القوة, وهي قابلية النفس لإشراق
ذلك الجوهر, وإنما يستدل; لأن النفس لا محالة آمرة للبدن
محركة إلى ما هو خير عندها, وعما هو شر عندها, والجوهر
المذكور دائم الإشراق فإذا حركته إلى الخير, وعن الشر علم
معرفتها بالخير والشر, وهي لا تحصل إلا بالقابلية
.........................................................
تكتسب استعدادا نحو قبول صورة الإنسانية مثلا, وصورة
الصداقة الكليتين المجردتين عن العوارض المادية قبولا عن
العقل الفعال المتنفس بهما لمناسبة ما بين كل كلي
وجزئياته, وهذا هو تمام التقريب في أن نهاية درك الحواس هو
بداية إدراك العقل على ما يشعر به التعريف المذكور للعقل,
وأما تحقيق هذه المباحث فمما لا يليق بهذا الكتاب ثم
الظاهر أن معنى التعريف المذكور ليس ما ذكره المصنف رحمه
الله تعالى, وغيره من الشارحين, وأنه لا يحتاج إلى هذا
التطويل, وأن عود الضمير إلى حيث, وهو لازم الظرفية مما لم
يعهد في العربية بل المراد أن العقل نور يضيء به الطريق
الذي يبتدأ به في الإدراكات من جهة انتهاء إدراك الحواس
إلى ذلك الطريق بمعنى أنه لا مجال فيه لدرك الحواس, وهو
طريق إدراك الكليات من الجزئيات والمغيبات من المشاهدات
فإن طريق إدراك المحسوسات مما يسلكه العقلاء والصبيان
والمجانين بل البهائم فلا يحتاج إلى العقل الذي نحن بصدده
ثم انتهى ذلك الطريق, وأريد سلوك طريق إدراك الكليات,
واكتساب النظريات والاستدلال على المغيبات لم يكن بد من
قوة بها يتمكن من سلوك ذلك الطريق فهي نور للنفس به تهتدي
أي سلوكه بمنزلة نور الشمس في إدراك المبصرات فإذا ابتدأ
الإنسان بذلك الطريق, وشرع فيه, ورتب المقدمات على ما
ينبغي يتبدى المطلوب للقلب بفيض الملك العلام.
قوله: "ثم معلومات النفس" يريد بهذا الكلام الإشارة إلى
طريق معرفة حصول ذلك النور في الإنسان, وذلك أن الموجود
إذا لم يكن باختيارنا أثر في وجوده يسمى العلم به نظريا,
وإلا فعلميا لا بمعنى أنه عمل بل بمعنى أنه علم بأشياء
تتعلق بالعمل وبهذا الاعتبار تنقسم الحكمة إلى النظرية
والعملية, ويحصل للنفس القوة النظرية والقوة العملية,
والأولى مكملة للنفس والثانية مكملة للنفس والبدن بتحريك
البدن عن الشرور إلى الخيرات, وهذا التحريك يستلزم المعرفة
بالخير, والشر
(2/332)
ثم لما كان
ميزان العقل متفاوتا في أفراد الناس متدرجا من النقصان إلى
الكمال والاطلاع على حصول ما ذكرنا أنه مناط التكليف متعذر
قدره الشرع بالبلوغ إذ عنده يتم التجارب بتكامل القوى
الجسمانية التي هي مراكب للقوى العقلية، ومسخرة لها بإذن
الله تعالى.
ـــــــ
المذكورة, وإذا لم تحركه إلى الخير وعن الشر علم عدم
معرفتها بالخير والشر إذ لو كانت عارفة لحركته ثم عدم
معرفتها لعدم قابليتها إذ لو كانت قابلة وقد قلنا: إن ذلك
الجوهر دائم الإشراق لكانت عارفة فعلم أن وجود العقل,
وعدمه يعرفان بالأفعال "ثم لما كان العقل متفاوتا في أفراد
الناس", وذلك التفاوت إنما يكون لزيادة قابلية بعض النفوس
ذلك الفيض والإشراق لشدة صفائها ولطافتها في مبدأ الفطرة,
ونقصان قابلية بعضها لكدورتها, وكثافتها في أصل الخلقة
"متدرجا من النقصان إلى الكمال" بواسطة كثرة العلوم, ورسوخ
الملكات المحمودة فيها فتصير أشد تناسبا بذلك الجوهر,
ويزداد استضاءتها بأنواره, واستفادتها مغانم آثاره
فالقابلية المذكورة سبب لحصول العلم والعمل ثم حصول العلم
والعمل سبب لزيادة تلك القابلية.
"والاطلاع على حصول ما ذكرنا أنه مناط التكليف متعذر قدره
الشرع بالبلوغ إذ عنده يتم التجارب بتكامل القوى الجسمانية
التي هي مراكب للقوى العقلية, ومسخرة لها بإذن الله تعالى,
وقد سبق في باب الأمر الخلاف في إيجابه الحسن, والقبح فعند
المعتزلة الخطاب
.........................................................
من حيث إنهما خير وشر, وبالعكس أما الأول فلأن الشرور
مستلذات البدن, وملاءمات الشهوة والغضب والخيرات مشاق
وتكاليف ومخالفات للهوى فلا يتصور الميل عن الملائم إلى
المنافر إلا بعد معرفة أن الأول شر والثاني خير وأما
الثاني فلأن الخير والكمال محبوب بالذات, والنفس مائلة إلى
الكمالات مهيأة لتطويع القوى وأمرها بالخيرات فإذا اكتسبت
العلم بالخير والشر, وعرفتهما من حيث إنهما خير وشر حركت
البدن نحو الخير لا محالة ثم معرفة الخيرات والشرور تستلزم
قابلية النفس لإشراق نور العقل عليها بمعنى حصول الشرائط,
وارتفاع الموانع من جانبها, وهذا ظاهر, والقابلية تستلزم
المعرفة لأن ذلك الجوهر المفيض دائم الإشراق لا انقطاع
لفيضه, ولا ضنة من جانبه بمنزلة الشمس في الإضاءة فيكون
بين فعل الخيرات وترك الشرور وبين القابلية المسماة بالعقل
تلازم فيستدل من فعل الخيرات على وجود العقل استدلالا
بوجود الملزوم على وجود اللازم ويستدل من ترك الخيرات على
عدم العقل استدلالا من عدم اللازم على عدم الملزوم.
قوله: "ثم لما كان" يعني أن العقل متفاوت في أفراد الإنسان
حدوثا, وبقاء أما حدوثا فلأن النفوس متفاوتة بحسب الفطرة
في الكمال والنقصان باعتبار زيادة اعتدال البدن ونقصانه
فكلما كان البدن أعدل, وبالواحد الحقيقي أشبه كانت النفس
الفائضة عليه أكمل, وإلى الخيرات أميل, وللكمالات أقبل
وهذا معنى صفاتها, ولطاقتها بمنزلة المرآة في قبول النور,
وإن كانت بالعكس فبالعكس, وهذا
(2/333)
الخلاف في الحسن و القبح و ثمرة ذلك
...
الخلاف في الحسن والقبح وثمرة ذلك
وقد سبق في باب الأمر الخلاف في إيجابه الحسن، والقبح فعند
المعتزلة الخطاب متوجه بنفس العقل.
فالصبي العاقل، وشاهق الجبل مكلفان بالإيمان حتى إن لم
يعتقدا كفرا، ولا إيمانا يعذبان عند المعتزلة، وعند
الأشعري يعذران فلم يعتبر كفر شاهق الجبل
ـــــــ
متوجه بنفس العقل" هذا فرع مسألة الحسن والقبح المذكورة في
باب الأمر "فالصبي العاقل, وشاهق الجبل مكلفان بالإيمان
حتى إن لم يعتقدا كفرا, ولا إيمانا يعذبان عند المعتزلة,
وعند الأشعري يعذران فلم يعتبر كفر شاهق الجبل فيضمن
قاتله, ولا إيمان الصبي والمذهب عندنا التوسط بينهما إذ لا
يمكن إبطال العقل بالعقل, ولا بالشرع, وهو مبني عليه" أي
الشرع مبني على العقل لأنه مبني على معرفة الله تعالى,
والعلم بوحدانيته, والعلم بأن المعجزة دالة على النبوة,
وهذه الأمور لا تعرف شرعا بل عقلا قطعا للدور "لكن قد
يتطرق الخطأ في العقليات" فإن مبادئ الإدراكات العقلية
الحواس فيقع الالتباس بين القضايا الوهمية, والعقلية
فيتطرق الغلط في مقتضيات الأفكار كما ترى من اختلافات
العقلاء بل اختلاف الإنسان نفسه في زمانين فصار دليلنا على
التوسط بين مذهب الأشعرية, والمعتزلة أمرين: أحدهما التوسط
المذكور في مسألة الجبر والقدر, وفي مسألة الحسن والقبح,
وثانيهما معارضة الوهم العقل
.........................................................
معنى كدورتها, وكثافتها بمنزلة الحجر في قبول النور, ولا
خفاء في أن النفس كلما كانت أكمل, وأقبل كان النور الفائض
عليه من ذلك الجوهر المسمى بالعقل الفعال أكثر. وأما بقاء
وإليه الإشارة بقوله متدرجا من النقصان إلى الكمال فلأن
النفس كلما ازدادت في اكتساب العلوم بتكميل القوة النظرية,
وفي تحصيل الملكات المحمودة بتكميل القوة العملية ازدادت
تناسبا بالعقل الفعال الكامل من كل وجه فازدادت إفاضة نوره
عليها لازدياد الاستفاضة بازدياد المناسبة, ولما تفاوتت
العقول في الأشخاص تعذر العلم بأن عقل كل شخص هل بلغ
المرتبة التي هي مناط التكليف؟ فقدر الشارع تلك المرتبة
بوقت البلوغ إقامة للسبب الظاهر مقام حكمه كما في السفر,
والمشقة, وذلك لحصول شرائط كمال العقل وأسبابه في ذلك
الوقت بناء على تمام التجارب الحاصلة بالإحساسات الجزئية
والإدراكات الضرورية, وتكامل القوى الجسمانية من المدركة,
والمحركة التي هي مراكب للقوة العقلية بمعنى أنها بواسطتها
تستفيد العلوم ابتداء, وتصل إلى المقاصد, وبمعونتها يظهر
آثار الإدراك, وهي مسخرة, ومطيعة للقوة العقلية بإذن الله
تعالى فهي تأمرها بالأخذ, والإعطاء, واستيفاء اللذات,
والتحرك للإدراكات قدر ما ترى من المصلحة فتحصل الكمالات.
قوله: "وقد سبق في باب الأمر" اعلم أن المهم في هذا المقام
تحرير المبحث, وتلخيص محل النزاع ليتأتى النظر في أدلة
الجانبين, ويظهر صحة المطلوب, ولا نزاع للمعتزلة في أن
العقل لا يستقل بدرك كثير من الأحكام على تفاصيلها مثل
وجوب الصوم في آخر رمضان, وحرمته في أول
(2/334)
فيضمن قاتله،
ولا إيمان الصبي والمذهب عندنا التوسط بينهما إذ لا يمكن
إبطال العقل بالعقل، ولا بالشرع، وهو مبني عليه.
لكن قد يتطرق الخطأ في العقليات فهو وحده غير كاف فالصبي
العاقل لا يكلف بالإيمان ولكن يصح منه.
والمراهقة إن غفلت عن الاعتقادين لا تبين من زوجها خلافا
للمعتزلة، وإن كفرت تبين وكذا الشاهق.
ـــــــ
في بعض الأمور العقلية وتطرق الخطأ فيها "فهو وحده غير
كاف" أي العقل وحده غير كاف فيما يحتاج الإنسان إلى معرفته
بناء على ما ذكرنا من الأمرين بل لا بد من انضمام شيء آخر
إما إرشاد أو تنبيه ليتوجه العقل إلى الاستدلال أو إدراك
زمان يحصل له التجربة فيه فتعينه على الاستدلال فلهذا
اخترنا التوسط في المسائل المتفرعة المذكورة في المتن, وهي
قوله.
"فالصبي العاقل لا يكلف بالإيمان" لعدم استيفاء مدة جعلها
الله تعالى علما لحصول التجارب, وكمال العقل "ولكن يصح
منه" اعتبارا لأصل العقل, ورعاية للتوسط فجعلنا مجرد العقل
كافيا للصحة وشرطنا الانضمام المذكور للوجوب "والمراهقة إن
غفلت عن الاعتقادين
.........................................................
شوال, ولا نزاع للأشاعرة في أن الشرع محتاج إلى العقل وأن
للعقل مدخلا في معرفة الأحكام حتى صرحوا بأن الدليل إما
عقلي صرف, وإما مركب من عقلي, وسمعي, ويمتنع كونه سمعيا
صرفا لأن صدق الشارع بل وجوده, وكلامه إنما يثبت بالعقل,
وإنما النزاع في أن العاقل إذا لم تبلغه الدعوة, وخطاب
الشارع إما لعدم وروده وإما لعدم وصوله إليه فهل يجب عليه
بعض الأفعال, ويحرم بعضها بمعنى استحقاق الثواب والعقاب في
الآخرة أم لا فعند المعتزلة نعم بناء على مسألة الحسن
والقبح وعند الأشاعرة لا إذ لا حكم للعقل, ولا تعذيب قبل
البعثة, وقد سبق تحقيق ذلك.
قوله: "قطعا للدور" يعني أن ثبوت الشرع موقوف على معرفة
الله تعالى, وكلامه, وبعثة الأنبياء بدلالة المعجزات فلو
توقفت معرفة هذه الأمور على الشرع لزم الدور.
قوله: "وثانيهما معارضة الوهم العقل" فإن قيل: الوهم لا
يدرك إلا المعاني الجزئية, والعقل لا يدرك إلا الكليات
فكيف المعارضة بينهما؟ أجيب بأن مدرك الكل هو النفس لكنها
تدرك الكليات بالقوة العاقلة والجزئيات بالحواس, ومعنى
المعارضة انجذاب النفس إلى آلة الوهم دون العقل فيما من
حقه أن يستعمل فيه العقل, وذلك لأن إلفها بالحس, والوهم,
ومدركاتهما أكثر.
قوله: "فهو" أي العقل وحده غير كاف في جميع ما يحصل به
كمال النفس, وورد به أمر الشارع لما ذكرنا من تطرق الخطأ,
وليس المراد أن العقل لا يستقل في إدراك شيء, واكتساب حكم
ألبتة على ما هو رأي الإسماعيلية في إثبات الحاجة إلى
المعلم.
قوله: "فالصبي العاقل لا يكلف بالإيمان", وهو الصحيح ذهب
كثير من المشايخ حتى الشيخ أبو منصور إلى أن الصبي العاقل
يجب عليه معرفة الله تعالى لأنها بكمال العقل, والبالغ
والصبي
(2/335)
الأهلية
فصل ثم الأهلية ضربان: أهلية وجوب وأهلية أداء.
ـــــــ
لا تبين من زوجها خلافا للمعتزلة, وإن كفرت تبين" فإنها إن
لم تدرك المدة المذكورة لم يجعل مجرد عقلها كافيا في
التوجه إلى الاستدلال لكن إن توجهت علم حينئذ أنها أدركت
مدة إفادتها التوجه فجعلنا مجرد عقلها كافيا إذا حصل
التوجه, وشرطنا الانضمام إذا لم يحصل التوجه. "وكذا
الشاهق" أي لا يكلف "قبل مضي زمان يحصل فيه التجربة",
وبعده يكلف فلا يضمن قاتل الشاهق, ولو قبل مدة التجربة
فإنه لم يستوجب عصمة بدون دار الإسلام
"فصل" ثم الأهلية ضربان: أهلية وجوب وأهلية أداء أما
الأولى فبناء على الذمة, وهي في
.........................................................
سواء في ذلك, وإنما عذر في عمل الجوارح لضعف البنية بخلاف
عمل القلب, ومعنى ذلك أن كمال العقل معرف للوجوب, والموجب
هو الله تعالى بخلاف مذهب المعتزلة فإن العقل عندهم موجب
بذاته كما أن العبد موجد لأفعاله كذا في الكفاية.
قوله: "وإن كفرت" أي المراهقة تبين عن الزوج لأنا إنما,
وضعنا البلوغ موضع كمال العقل والتمكن من الاستدلال إذا لم
تعرف ذلك حقيقة أما إذا تحقق التوجه إلى الاستدلال والكفر
فلا عذر فإن قيل: إذا نيط الحكم بالسبب الظاهر دار معه
وجودا, وعدما, ولم يعتد بحقيقة السبب فينبغي أن تعذر
المراهقة التي كفرت كالمسافر سفرا علم أنه لا مشقة فيه
أصلا فإنه تبقى الرخصة بحالها قلنا ذاك في الفروع, وأما في
الأصول لا سيما في الإيمان فيجب إذا وجد السبب الحقيقي أو
دليله لعظم خطره.
قوله: "وكذا" أي مثل الصبي العاقل البالغ الشاهق في الجبل
إذا لم تبلغه الدعوة فإنه لا يكلف بالإيمان بمجرد عقله حتى
لو لم يصف إيمانا, ولا كفرا, ولم يعتقده لم يكن من أهل
النار, ولو آمن صح إيمانه, ولو وصف الكفر كان من أهل النار
للدلالة على أنه وجد زمان التجربة والتمكن من الاستدلال,
وأما إذا لم يعتقد شيئا فإن, وجد زمان التجربة, والتمكن
فليس بمعذور, وإلا فمعذور, وليس في تقدير الزمان دلالة
عقلية أو سمعية بل ذلك في علم الله تعالى; فإن تحقق يعذر
به, وإلا فلا, وهذا مراد أبي حنيفة رحمه الله تعالى حيث
قال: لا عذر لأحد في الجهل يخالفه لما يرى في الآفاق
والأنفس وأما في الشرائع فيعذر إلى قيام الحجة فإن قيل:
الشاهق لما لم يكلف بالإيمان كان ينبغي أن لا يهدر دمه بل
يضمن قاتله فالجواب أن العصمة لا تثبت بدون الإحراز بدار
الإسلام حتى لو أسلم في دار الحرب, ولم يهاجر إلينا فقتل
لم يضمن قاتله, وكذا الصبي, والمجنون إذا قتلا في دار
الحرب.
قوله: "فصل ثم الأهلية" يعني بعد ما ثبت أنه لا بد في
المحكوم عليه من أهليته للحكم, وأنها
(2/336)
أما الأولى
فبناء على الذمة، وهي في اللغة العهد، وفي الشرع وصف يصير
به الإنسان أهلا لما له، وعليه.
ـــــــ
اللغة العهد, وفي الشرع وصف يصير به الإنسان أهلا لما له,
وعليه قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ
.........................................................
لا تثبت إلا بالعقل فإن الأهلية ضربان: أحدهما أهلية
الوجوب أي صلاحيته لوجوب الحقوق المشروعة له, وعليه,
والثانية أهلية الأداء أي صلاحيته لصدور الفعل منه على وجه
يعتد به شرعا, والأولى بالذمة, ولما وقع في كلام البعض أن
الذمة أمر لا معنى له, ولا حاجة إليه في الشرع, وأنه من
مخترعات الفقهاء يعبرون عن وجوب الحكم على المكلف بثبوته
في ذمته حاول المصنف رحمه الله تعالى الرد عليهم بتحقيق
الذمة لغة, وشرعا وإثباتها بالنصوص, وتحقيق ذلك أن الذمة
في اللغة العهد فإذا خلق الله تعالى الإنسان محل أمانته
أكرمه بالعقل, والذمة حتى صار أهلا لوجوب الحقوق له,
وعليه, وثبت له حقوق العصمة, والحرية والمالكية كما إذا
عاهدنا الكفار, وأعطيناهم الذمة تثبت لهم وعليهم حقوق
المسلمين في الدنيا, وهذا هو العهد الذي جرى بين الله
تعالى, وعباده يوم الميثاق المشار إليه بقوله تعالى:
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ
ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} على ما ذهب إليه جمع من المفسرين أن
الله تعالى أخرج ذرية آدم بعضهم من بعض على حسب ما
يتوالدون إلى يوم القيامة في أدنى مدة كموت الكل بالنفخ في
الصور, وحياة الكل بالنفخة الثانية فصورهم, واستنطقهم,
وأخذ ميثاقهم ثم أعادهم جميعا في صلب آدم ثم أنسانا تلك
الحالة ابتلاء لنؤمن بالغيب.
وحاصل كلام المصنف رحمه الله تعالى من الاستدلال بالآيات
أن الإنسان قد خص من بين سائر الحيوانات بوجوب أشياء له
وعليه, وتكاليف يؤاخذ بها فلا بد فيه من خصوصية بها يصير
أهلا لذلك, وهو المراد بالذمة فهي وصف يصير به الإنسان
أهلا لما له, وما عليه, واعترض بأن هذا صادق على العقل
بالمعنى المذكور فيما سبق وأن الأدلة لا تدل على ثبوت وصف
مغاير للعقل, وأجيب بأنا لا نسلم أن العقل بهذه الحيثية بل
العقل إنما هو بمجرد فهم الخطاب, والوجوب مبني على الوصف
المسمى بالذمة حتى لو فرض ثبوت العقل بدون ذلك الوصف كما
لو ركب العقل في حيوان غير الآدمي لم يثبت الوجوب له
وعليه, والحاصل أن هذا الوصف بمنزلة السبب لكون الإنسان
أهلا للوجوب له, وعليه, والعقل بمنزلة الشرط فإن قلت فما
معنى قولهم وجب أو ثبت في ذمته كذا قلت معناه الوجوب على
نفسه باعتبار ذلك الوصف فلما كان الوجوب متعلقا به جعلوه
بمنزلة ظرف يستقر فيه الوجوب دلالة على كمال التعلق,
وإشارة إلى أن هذا الوجوب إنما هو باعتبار العهد, والميثاق
الماضي كما يقال وجب في العهد والمروءة أن يكون كذا وكذا,
وأما على ما ذكره فخر الإسلام رحمه الله تعالى من أن
المراد بالذمة في الشرع نفس, ورقبة لها ذمة وعهد فمعناه
أنه, وجب على نفسه باعتبار كونها محلا لذلك العهد فالرقبة
تفسير للنفس, والعهد تفسير للذمة, وهذا عند التحقيق من
تسمية المحل باسم الحال, والمقصود واضح.
قوله: "قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي
آدَمَ} " ذهب كثير من المفسرين إلى أنه تمثيل والمراد نصب
الأدلة الدالة على الربوبية والوحدانية المميزة بين
الضلال, والهدى وكذا قوله تعالى:
(2/337)
أدلة ثبوت الذمة
قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} وقال: {وَكُلَّ
إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} وقال:
{وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ}.
ـــــــ
ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست
بربكم قالوا بلى" هذه الآية إخبار عن عهد جرى بين الله,
وبين بني آدم, وعن إقرارهم بوحدانية الله تعالى وبربوبيته,
والإشهاد عليهم دليل على أنهم يؤاخذون بموجب إقرارهم من
أداء حقوق تجب للرب تعالى على عباده فلا بد لهم من وصف
يكونون به أهلا للوجوب عليهم فيثبت لهم الذمة بالمعنى
اللغوي والشرعي. "وقال {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ
طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} " العرب كانوا ينسبون الخير والشر
إلى الطائر فإن مر سانحا يتيمنون به وإن مر بارحا يتشاءمون
به فاستعير الطائر لما هو في الحقيقة سبب للخير والشر, وهو
قضاء الله تعالى, وقدره, وأعمال
.........................................................
{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ} الآية تمثيل
للزوم العمل له لزوم القلادة للعنق من غير اعتبار استعارة
في العنق على انفراده كما يقال جعل القضاء في عنقه لا يراد
وصف به صار أهلا لذلك, وإنما المراد مجرد الإلزام,
والالتزام, وتحقيق ذلك إلى علماء البيان, وأما قوله تعالى:
{وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ} فالمراد بالأمانة الطاعة
الواجبة الأداء, والمعنى أنها لعظمها بحيث لو عرضت على هذه
الأجرام العظام, وكانت ذات شعور وإدراك لأبين أن يحملنها,
وحملها الإنسان مع ضعف بنيته, ورخاوة قوته لا جرم فإذا
الراعي لها, والقائم بحقوقها بخير الدارين أنه كان ظلوما
حيث لم يف بها, ولم يراع حقوقها جهولا بكنه عاقبتها, وهذا
وصف للجنس باعتبار الأغلب, وقيل: لما خلق الله تعالى هذه
الأجرام خلق فيها فهما, وقال لها إني فرضت فريضة, وخلقت
جنة لمن أطاعني ونارا لمن عصاني فقلن نحن مسخرات على ما
خلقنا لا نحمل فريضة, ولا نبغي ثوابا, ولا عقابا, ولما خلق
آدم عرض عليه مثل ذلك فحمله, وكان ظلوما لنفسه بتحمل ما
يشق عليها جهولا بوخامة عاقبته, وقيل: الأمانة العقل
والتكليف, وعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن,
وإباؤهن عدم اللياقة والاستعداد, وحمل الإنسان قابليته
واستعداده, وكونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوة
الغضبية, والشهوية, وعلى هذا يحسن أن يكون علة للحمل عليه
فإن من فوائد العقل أن يكون مهيمنا على القوتين حافظا لهما
عن التعدي, ومجاوزة الحد, والعظم. مقاصد التكليف تعديلهما,
وكسر سورتهما فظهر أنه لا دليل في هذه الآيات على أن
للإنسان وصفا به يصير أهلا لما عليه, وليت شعري أي دلالة
للعتق على ذلك, وأي حاجة إلى اعتبار الاستعارة في كل فرد
من مفردات الكلام, وأيضا لما كان مبنى هذه الاستدلالات على
أن الإنسان يلزمه ويجب عليه شيء فلا بد فيه من وصف به يصير
أهلا لذلك لم يكن حاجة إلى هذه التكاليف بل دلالة قوله
تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} على
هذا المعنى أظهر, وكذا ثبوت الحقوق له لا يدل على أن فيه
وصفا هو الذمة لجواز أن يكون ذلك لذات الإنسان على أن
استحقاق الرزق غير مختص بالإنسان فيلزم ثبوت الذمة لكل
دابة.
(2/338)
فقبل الولادة
له ذمة من وجه يصلح ليجب لهما كان صلة تشبه المؤن أو
ـــــــ
العباد فإنها وسيلة لهم إلى الخير والشر فالمعنى ألزمناه
ما قضي له من خير أو شر, وألزمناه عمله لزوم القلادة أو
الغل العنق أي لا ينفك عنه أبدا فدلت الآية على لزوم العمل
للإنسان فمحل ذلك اللزوم, وهو الذمة فقوله في عنقه استعار
العنق لذلك الوصف المعنوي الذي به يلزم التكليف لزوم
القلادة أو الغل العنق. "وقال: {وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ}
" فهذه الآية تدل على خصوصية الإنسان بحمل أعباء التكليف
أي وجوبها عليه فيثبت بهذه الآيات الثلاث أن للإنسان وصفا
هو به يصير أهلا لما عليه وقد فسر الذمة بوصف يصير هو به
أهلا لما له وما عليه, ولا دليل في هذه الآيات على وصف
يصير به أهلا لما له, ولكن المقصود هنا إثبات أهلية الوجوب
عليه فيكون هذا كافيا في إثبات المقصود, وأما الدلائل
الدالة على الوصف الذي يصير به أهلا لما له فكثيرة منها:
قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا
عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا
فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً}, ونحوهما.
"فقبل الولادة له ذمة من وجه يصلح ليجب له الحق لا ليجب
عليه فإذا ولد تصير
.........................................................
قوله: "فإن مر سانحا" السانح ما ولاك ميامنه أي يمر من
مياسرك إلى ميامنك والبارح بالعكس, والعرب تتطير بالبارح,
وتتفاءل بالسانح لأنه لا يمكنك أن ترميه حتى ينحرف فبهذا
الاعتبار استعير الطائر لما هو سبب الخير والشر من قضاء
الله تعالى, وقدره, وعمل العبد فإن ما قدر للعبد بمنزلة
طائر يطير إليه من عش الغيب ووكر القدر, ولا يخفى ما في
كلام المصنف رحمه الله تعالى من التسامح حيث جعل الطائر
استعارة لسبب الخير والشر أي قضاء الله تعالى وقدره,
وأعمال العباد, ثم قال فالمعنى ألزمناه ما قضي له من خير,
وشر فجعل الطائر عبارة عن نفس الخير, والشر المقضي به ثم
القضاء هو الحكم من الله تعالى, والأمر أولا, والقدر هو
التقدير, والتفصيل بالإظهار, والإيجاد ثانيا, وفي كلام
الحكماء أن القضاء عبارة عن وجود جميع المخلوقات في الكتاب
المبين, واللوح المحفوظ مجتمعة مجملة على سبيل الإبداع,
والقدر عبارة عن وجودها مفصلة منزلة في الأعيان بعد حصول
الشرائط كما قال عز وجل: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا
عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ
مَعْلُومٍ} وقريب منه ما يقال إن القضاء ما في العلم
والقدر ما في الإرادة, وقد يقال: إن الله تعالى إذا أراد
شيئا قال له: كن فيكون فهناك شيئان: الإرادة والقول
فالإرادة قضاء, والقول قدر.
قوله: "فقبل الولادة" يعني أن الجنين قبل الانفصال عن الأم
جزء منها من جهة أنه ينتقل بانتقالها, ويقر بقرارها ومستقل
بنفسه من جهة التفرد بالحياة والتهيؤ للانفصال فيكون له
ذمة من وجهة حتى يصل وجوب الحقوق له كالإرث, والوصية
والنسب لا لوجوبها عليه حتى لو اشترى الولي له شيئا لا يجب
عليه الثمن وأما بعد الانفصال عن الأم فيصير ذمته مطلقة
لصيرورته نفسا مستقلة من كل وجه فيصير أهلا للوجوب له
وعليه حتى كان ينبغي أن يجب عليه كل حق يجب على
(2/339)
الأعواض كنفقة
القريب والزوجة لا صلة تشبه الأجزية فلا يتحمل العقل وإن
كان عاقلا لأنه يشبه أن يكون جزاء أنه لم يحفظه عما فعل،
ولا العقوبة كالقصاص، ولا الأجزية كحرمان الميراث على ما
مر.
حقوق الله لا تجب على الصبي
ـــــــ
ذمته مطلقة لكن الوجوب غير مقصود بنفسه بل المقصود حكمه,
وهو الأداء فكل ما يمكن أداؤه يجب وما لا يمكن فلا فحقوق
العباد ما كان منها غرما, وعرضا يجب" أي على الصبي, وهذا
فهم من قوله فإذا ولد "لأن المقصود هو المال وأداؤه يحتمل
النيابة, وكذا ما كان صلة تشبه المؤن أو الأعواض كنفقة
القريب" نظير الصلة التي تشبه المؤن "والزوجة" نظير الصلة
التي تشبه الأعواض "لا صلة تشبه الأجزية" أي لا يجب "فلا
يتحمل العقل" أي لا يتحمل الصبي الدية. "وإن كان عاقلا" في
هذا الكلام إبهام "لأنه يشبه أن يكون جزاء أنه لم يحفظه
عما فعل, ولا العقوبة" أي لا يجب على الصبي العقوبة
"كالقصاص, ولا الأجزية كحرمان الميراث على ما مر" في باب
المحكوم به, وهو قوله كحرمان الميراث بالقتل في حق الصبي
لأنه لا يوصف بالتقصير.
.........................................................
البالغ إلا أنه لما لم يكن أهلا للأداء لضعف بنيته
والمقصود من الوجوب هو الأداء اختص واجباته بما يمكن أداؤه
عنه فلهذا احتيج إلى تفصيل الواجبات, وتميز ما يجب عليه
عما لا يجب وهو ظاهر من الكتاب.
قوله: "كنفقة القرب" فإنها صلة تشبه المؤمن من جهة أنها
تجب على الغني كفاية لما يحتاج إليه أقاربه بمنزلة النفقة
على نفسه بخلاف نفقة الزوج فإنها تشبه الأعراض من جهة أنها
وجبت جزاء للاحتباس الواجب عليها عند الرجل, وإنما جعلت
صلة لا عوضا محضا لأنها لم تجب بعقد المعاوضة بطريق
التسمية على ما هو المعتبر في الأعواض فلكونها صلة تسقط
بمعنى المدة إذا لم يوجد التزام كنفقة الأقارب, ولشبهها
بالأعواض تصير دينا بالالتزام.
قوله: "وإن كان عاقلا" أي الصبي لا يتحمل الدية وإن كان ذا
عقل, وتمييز لأن الدية وإن كانت صلة إلا أنها تشبه جزاء
التقصير في حفظ القاتل عن فعله, والصبي لا يوصف بذلك,
ولهذا لا تجب على النساء, ثم في قوله وإن كان عاقلا إيهام
أن المراد وإن كان من العاقلة لكنه ليس بمراد لأن تحمل
الدية لا يتصور إلا من العاقلة فلا معنى للتأكيد بقوله,
وإن كان من العاقلة.
(2/340)
حقوق الله لا تجب على الصبي
وأما حقوق الله تعالى فالعبادات لا تجب عليه أما البدنية
فظاهرة وأما
ـــــــ
"وأما حقوق الله تعالى فالعبادات لا تجب عليه أما البدنية
فظاهرة"; لأن الصبا سبب العجز
.........................................................
قوله: "فالعبادات لا تجب عليه" أي على الصبي فإن قلت: من
جملة العبادات الإيمان, وهو ليس ببدني, ولا مالي لكونه عمل
القلب قلت: جعله من البدنية تغليبا أو باعتبار اشتماله على
الإقرار الذي هو عمل اللسان, وذهب فخر الإسلام رحمه الله
تعالى إلى أن الصبي إذا عقل يجب عليه نفس
(2/340)
المالية فلأن
المقصود هو الأداء لا المال فلا يحتمل النيابة ولا
العقوبات كالحدود.
ولا عبادات فيها مؤنة كصدقة الفطر عند محمد رحمه الله
تعالى لرجحان معنى العبادة، ويجب عندهما اجتزاء بالأهلية
القاصرة، وما كان مؤنة محضة كالعشر، والخراج
ـــــــ
"وأما المالية فلأن المقصود هو الأداء لا المال فلا يحتمل
النيابة" فصارت كالبدنية "ولا العقوبات كالحدود ولا عبادة
فيها مؤنة كصدقة الفطر عند محمد رحمه الله تعالى لرجحان
معنى العبادة, ويجب عندهما اجتزاء" أي اكتفاء "بالأهلية
القاصرة, وما كان مؤنة محضة كالعشر, والخراج يجب, وعلى
الأصل المذكور" وهو أن ما يمكن أداؤه يجب, وما لا
.........................................................
الإيمان, وإن لم يجب عليه أداؤه لأن نفس الوجوب يثبت
بأسبابه على طريق الجبر إذا لم يخل عن فائدة, وحدوث العالم
وهو السبب متقرر في حقه, وأما الخطاب فإنما هو لوجوب
الأداء, وهو ليس بأهل له فلو أدى الإيمان بالإقرار مع
التصديق وقع فرضا لأن الإيمان لا يحتمل النفل أصلا, ولهذا
لا يلزمه تجديد الإيمان بعد البلوغ فإن الصبا يصلح عذرا في
سقوط وجوب الأداء لأنه مما يحتمل السقوط بعد البلوغ بعذر
النوم, والإغماء بخلاف نفس الوجوب فإنه لا يحتمل السقوط
بحال, والصبا لا ينافيه فيبقى نفس الوجوب ولهذا لو أسلمت
امرأة الصبي, وهو يأباه بعد ما عرضه القاضي عليه يفرق
بينهما, وذهب الإمام السرخسي رحمه الله تعالى إلى أنه لا
وجوب عليه ما لم يبلغ, وإن عقل لأن الوجوب لا يثبت بدون
حكمه, وهو الأداء لكن إذا أدى يكون الإيمان المؤدى فرضا
لأن عدم الوجوب إنما كان بسبب عدم الحكم فقط, وإلا فالسبب
والمحل قائم فإذا وجد وجد كالمسافر إذا صلى الجمعة تقع
فرضا.
قوله: "وأما المالية فلأن المقصود هو الأداء" يعني أن
الغرض من شرعية العبادات المالية كالزكاة مثلا هو الأداء
ليظهر المطيع عن العاصي لا المال لأن الله تعالى غني عن
العالمين, وليس المعنى أن الله تعالى أراد الأداء من كل
مكلف حتى يلزم من عدم أداء البعض خلاف مراد الله تعالى وهو
محال ألا يرى أنه لم يخلق الجن والإنس إلا لمعرفته ولا
يلزم من عدم معرفة البعض خلاف مراد الله تعالى فعلى هذه
الإجابة إلى ما قيل: إن المعنى المقصود هو الأداء في حق من
علم الله تعالى منه الائتمار, وأما في حق غيره فالمقصود
الابتلاء, وإلزام الحجة فإن قيل: قد تجري النيابة في
المالية كما إذا وكل غيره بأداء زكاته فينبغي أن يجب على
الصبي ويؤدي عنه وليه أجيب بأن فعل النائب في النيابة
الاختيارية ينتقل إلى المنوب عنه فيصلح عبادة بخلاف
النيابة الجبرية كنيابة الولي.
قوله: "مؤنة محضة كالعشر والخراج" يعني بالمحض أنه بحسب
الأصل والقصد لا يخالطه شيء من معنى العبادات والعقوبات,
وقد سبق أن معنى العبادة في العشر والعقوبة في الخراج إنما
هو بحسب الوصف, وليس بمقصود.
(2/341)
يجب، وعلى
الأصل المذكور قلنا لو وجب أداء الصلاة على الحائض والحيض
ينافيها لظهور ذلك في حق القضاء، وفي قضائها حرج فيسقط أصل
الوجوب بخلاف الصوم إذ ليس في القضاء حرج، والأداء محتمل
لأن الحدث لا ينافي الصوم، وعدم جوازه منها خلاف القياس
فينتقل إلى الخلف يندر مستوعبا شهر رمضان.
أهلية الأداء
وأما الثانية والجنون الممتد بوجوب الحرج في الصلاة
والصوم، وكذا الإغماء الممتد في الصلاة دون الصوم لأنه
فقاصرة، وكاملة، وكل تثبت بقدرة كذلك والقدرة القاصرة تثبت
بالعقل القاصر، وهو عقل الصبي، والمعتوه والكاملة بالعقل
الكامل، وهو عقل البالغ غير المعتوه فما يثبت بالقاصرة
أقسام.
ـــــــ
فلا. "قلنا لو وجب أداء الصلاة على الحائض والحيض ينافيها
لظهور ذلك في حق القضاء, وفي قضائها حرج فيسقط أصل الوجوب
بخلاف الصوم إذ ليس في القضاء حرج, والأداء محتمل" أي
يحتمل أن يكون أداء الصوم من الحائض واجبا "لأن الحدث لا
ينافي الصوم, وعدم جوازه منها" أي عدم جواز الصوم من
الحائض "خلاف القياس فينتقل إلى الخلف" أي ينتقل الوجوب
إلى الخلف, وهو القضاء "والجنون الممتد بوجوب الحرج في
الصلاة والصوم, وكذا الإغماء الممتد في الصلاة دون الصوم
لأنه" أي الإغماء "يندر مستوعبا شهر رمضان, وأما الثانية"
أي أهلية الأداء "فقاصرة, وكاملة, وكل تثبت بقدرة كذلك" أي
أهلية الأداء القاصرة تثبت بقدرة قاصرة وأهلية الأداء
الكاملة تثبت بقدرة كاملة.
"والقدرة القاصرة تثبت بالعقل القاصر, وهو عقل الصبي,
والمعتوه والكاملة بالعقل الكامل, وهو عقل البالغ غير
المعتوه فما يثبت بالقاصرة أقسام فحقوق الله تعالى
كالإيمان وفروعه تصح من الصبي لقوله عليه الصلاة والسلام:
"مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا واضربوهم إذا بلغوا
عشرا" "وإنما الضرب للتأديب" جواب إشكال, وهو أن يقال: كيف
.........................................................
قوله: "والكاملة" أي القدرة الكاملة تكون بالعقل الكامل أي
المقرون بقوة البدن, وذلك لأن المعتبر في وجوب الأداء ليس
مجرد فهم الخطاب بل مع قدرة العمل به, وهو بالبدن فإذا
كانت كلتا القدرتين منحطة عن درجة الكمال كما في الصبي
الغير العاقل أو إحداهما كما في الصبي العاقل أو المعتوه
البالغ كانت الأهلية ناقصة.
قوله: "فما يثبت" بالقدرة الناقصة أقسام لأنها إما حقوق
الله تعالى أو حقوق العباد, والأول إما حسن لا يحتمل
القبح, وإما قبيح لا يحتمل الحسن وإما متردد بينهما,
والثاني إما نفع محض أو ضرر محض أو متردد بينهما صارت ستة
وأحكامها مذكورة في المتن.
(2/342)
يصح إيمان الصبي
فحقوق الله تعالى كالإيمان وفروعه تصح من الصبي لقوله عليه
الصلاة والسلام: "مروا صبيانكم" وإنما الضرب للتأديب ولأنه
أهل للثواب، ولأن الشيء إذا وجد لا ينعدم شرعا إلا بحجره
وهو باطل فيما هو حسن، وفيه نفع محض ولا ضرر إلا في لزوم
أدائه، وهو عنه موضوع وأما حرمان الميراث، والفرقة فيضافان
إلى كفر الآخر.
وأيضا هما من ثمرات الإيمان وإنما يعرف صحة الشيء بحكمه
الذي وضع له وهو سعادة الدارين ألا ترى أنهما يثبتان تبعا،
ولم يعدا ضررا وأما الكفر. فيعتبر منه أيضا؛ لأن الجهل لا
يعد علما فتصح ردته فيلزم أحكام الآخرة وكذا أحكام الدنيا
لأنها تثبت ضمنا على أنها تلزم تبعا أيضا.
ـــــــ
يضرب, والضرب عقوبة, والصبي ليس من أهلها؟ فأجاب بأن هذا
الضرب للتأديب, والصبي أهل للتأديب "ولأنه" عطف على قوله
لقوله عليه الصلاة والسلام "أهل للثواب, ولأن الشيء إذا
وجد لا ينعدم شرعا إلا بحجره" أي بحجر الشرع, وهو باطل
فيما هو حسن, وفيه نفع محض ولا ضرر إلا في لزوم أدائه, وهو
عنه موضوع "وأما حرمان الميراث, والفرقة فيضافان إلى كفر
الآخر" جواب إشكال, وهو أن لزوم أداء الإسلام لما كان
موضوعا عن الصبي لكونه ضررا يلزم أن لا يثبت بإسلامه حرمان
الميراث عن مورثه الكافر, ولا الفرقة بينه وبين زوجته
الوثنية; لأن كلا منهما ضرر فأجاب بأنهما يضافان إلى كفر
الآخر لا إلى إسلامه.
"وأيضا هما من ثمرات الإيمان" وإنما يعرف صحة الشيء بحكمه
الذي وضع له وهو سعادة الدارين ألا ترى أنهما يثبتان تبعا,
ولم يعدا ضررا حتى لو كان ضررا لا يلزم بتبعية
.........................................................
قوله: "وهو باطل فيما هو حسن, وفيه نفع محض" يعني أن
الإيمان وفروعه حسن, وفيه نفع محض فلا يليق بالشارع الحكيم
الحجر عنه فإن قيل: هو يحتمل الضرر بالالتزام, والعهدة حيث
يأثم بتركه فالجواب أنه لا ضرر فيه إلا من جهة لزوم
الأداء, ولزوم الأداء هو موضوع عن الصبي لأنه مما يحتمل
السقوط بعد البلوغ بعذر النوم والإغماء والإكراه, وأما نفس
الأداء وصحته فنفع محض لا ضرر فيه فإن قيل: نفس الأداء
أيضا يحتمل الضرر في حق أحكام الدنيا كحرمان الميراث عن
مورثه الكافر, والفرقة بينه, وبين زوجته المشركة فالجواب
أنا لا نسلم أنهما مضافان إلى إسلام الصبي بل إلى كفر
المورث والزوجة, ولو سلم فهما من ثمرات إسلامه وأحكامه
اللازمة منه ضمنا لا من أحكامه الأصلية الموضوعة هو لها
لظهور أن الإيمان إنما وضع لسعادة الدارين, وصحة الشيء
إنما تعرف من حكمه الأصلي الذي وضع هو له لا مما يلزمه من
حيث إنه من ثمراته, وهذا كما أن الصبي لو ورث قريبه أو وهب
منه قريبه فقبله يعتق عليه مع أنه ضرر محض لأن الحكم
الأصلي للإرث, والهبة هو الملك بلا عوض لا العتق الذي ترتب
عليهما في هذه الصورة.
قوله: "ألا ترى أنهما" أي حرمان الإرث عن المورث الكافر,
والفرقة عن الزوجة الوثنية
(2/343)
حقوق العباد بالنسبة للصبي
وأما حقوق العباد فما كان نفعا محضا كقبول الهبة، ونحوه
يصح، وإن لم يأذن، وليه فإن آجر المحجور نفسه وعمل يجب
الأجر استحسانا.
لكن في العبد يشترط السلامة حتى إن تلف فيه يضمن أي إن تلف
العبد المحجور في ذلك العمل يضمن المستأجر بخلاف الصبي؛
لأن الغصب لا يتحقق في الحر، وإذا قاتلا لا يستحقان الرضخ
ويصح تصرفهما وكيلين بلا عهدة، وإن لم يأذن الولي إذ في
الصحة اعتبار الآدمية وتوسل إلى إدراك المضار والمنافع،
واهتداء في التجارة بالتجربة قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا
الْيَتَامَى}.
ـــــــ
الأب إذ تصرفات الأب لا تلزم الصغير فيما هو ضرر محض "وأما
الكفر فيعتبر منه أيضا; لأن الجهل لا يعد علما فتصح ردته
فيلزم أحكام الآخرة" لأنها تتبع الاعتقاديات والاعتقاديات
أمور موجودة حقيقة لا مرد لها بخلاف الأمور الشرعية "وكذا
أحكام الدنيا لأنها تثبت ضمنا" أي لأن أحكام الدنيا تثبت
بالكفر ضمنا والأحكام القصدية في الإسلام والكفر هي
الأحكام الأخروية, ولما كانت ثابتة ضمنا تثبت, وإن كانت
ضررا مع أنه لا يصح منه قصدا ما هو ضرر دنيوي "على أنها
تلزم تبعا أيضا" أي الأحكام الدنيوية بسبب الكفر تلزم
الصبي تبعا للأبوين, وإن كان لا يلزمه تصرفاتهما الضارة
قصدا. "وأما حقوق العباد فما كان نفعا محضا كقبول الهبة,
ونحوه يصح, وإن لم يأذن, وليه فإن آجر المحجور" أي الصبي
المحجور أو العبد المحجور "نفسه وعمل يجب الأجر استحسانا",
وفي القياس لا يجب الأجر لبطلان العقد,
.........................................................
يثبتان فيما إذا ثبت إيمان الصبي تبعا بأن أسلم أحد
الأبوين, ولم يعد إضرارا يمنع صحة ثبوت الإيمان لكونهما من
الثمرات واللوازم لا من المقاصد والأحكام الأصلية للإيمان.
قوله: "وأما الكفر فيعتبر" من الصبي أيضا كما يعتبر منه
الإيمان إذ لو عفي عنه الكفر, وجعل مؤمنا لصار الجهل بالله
تعالى علما به لأن الكفر جهل بالله تعالى, وصفاته, وأحكامه
على ما هي عليه, والجهل لا يجعل علما في حق العباد فكيف في
حق رب الأرباب فيصح ارتداد الصبي في حق أحكام الآخرة
اتفاقا لأن العفو عن الكفر, ودخول الجنة مع الشرك مما لم
يرد به شرع, ولا حكم به عقل كذا في حق أحكام الدنيا عند
أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى حتى تبين منه امرأته
المسلمة, ويحرم الميراث من مورثه المسلم لأنه في حق الردة
بمنزلة البالغ لأن الكفر محظور لا يحتمل المشروعية بحال,
ولا يسقط بعذر, وإنما لم يقتل لأن وجوب القتل ليس بمجرد
الارتداد بل بالمحاربة, وهو ليس من أهلها كالمرأة وإنما لم
يقتل بعد البلوغ لأن اختلاف العلماء في صحة إسلامه حال
الصبا شبهة في إسقاط القتل.
(2/344)
حكم ما فيه ضرر الصبي
وما كان ضررا محضا كالطلاق، والهبة والقرض، ونحوها لا يصح
منه، وإن أذن وليه ولا مباشرته إلا القرض للقاضي، فإن عليه
صيانة الحقوق، والعين لا يؤمن هلاكها.
ـــــــ
وجه الاستحسان أن عدم الصحة كان لحق المحجور حتى لا يلزمه
ضرر فإذا عمل فوجوب الأجرة نفع محض, وإنما الضرر في عدم
الوجوب لكن في العبد يشترط السلامة حتى إن تلف فيه يضمن أي
إن تلف العبد المحجور في ذلك العمل يضمن المستأجر "بخلاف
الصبي; لأن الغصب لا يتحقق في الحر, وإذا قاتلا لا يستحقان
الرضخ" الضمير يرجع إلى الصبي والعبد المحجورين, والرضخ
عطاء لا يكون كثيرا أي لا يبلغ سهم الغنيمة "ويصح تصرفهما
وكيلين بلا عهدة, وإن لم يأذن الولي إذ في الصحة اعتبار
الآدمية وتوسل إلى إدراك المضار والمنافع, واهتداء في
التجارة بالتجربة قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا
الْيَتَامَى} وما كان ضررا محضا" عطف على قوله فما كان
نفعا "كالطلاق, والهبة والقرض, ونحوها لا يصح منه, وإن أذن
وليه ولا مباشرته" أي لا يصح مباشرة الولي الطلاق, والهبة,
والقرض من قبل الصبي "إلا القرض للقاضي", وإنما يصح إقراض
مال الصبي للقاضي دون غيره من الأولياء لأن القاضي أقدر
على استيفائه "فإن عليه صيانة الحقوق, والعين لا يؤمن
هلاكها" جملة حالية أي لما كان صيانة الحقوق على القاضي,
والحال أن العين ربما تهلك فيقرضها القاضي لتلزم في ذمة
المستقرض, ويأمن هلاكها.
.........................................................
قوله: "بلا عهدة" أي لا يلزم الصبي, والعبد بتصرفاتهما
بطريق الوكالة عهدة لأن ما فيه احتمال الضرر لا يملكه
الصبي إلا أن يأذن الولي فيندفع قصور رأيه بانضمام رأي
الولي فيلزمه العهدة.
قوله: "ولا مباشرته" لأن ولاية الولي نظرية, وليس من النظر
إثبات الولاية فيما هو ضرر محض, وقال الإمام السرخسي رحمه
الله تعالى: الحق أنه لا ضرر في إثبات أصل الحكم حتى يملك
إيقاع الطلاق عند الحاجة, ولو أسلمت الزوجة, وأبى الزوج
فرق بينهما, وكذا إذا ارتد الزوج وحده.
قوله: "إلا القرض" أي الإقراض إذ استقراض مال الصبي يجوز
للأب دون القاضي, وأما الإقراض فإنما يجوز للقاضي لأن
الإقراض قطع الملك عن العين ببدله في ذمة من هو غير ملي في
الغالب فيشبه التبرع فلا يملكه الولي, وأما القاضي فيمكنه
أن يطلب مليا, ويقرضه مال اليتيم, ويكون البدل مأمون التلف
باعتبار الملاءة, وعلم القاضي والقدرة على التحصيل من غير
دعوى وبينة وهذا معنى كون القاضي أقدر على استيفائه, وفي
رواية يجوز للأب أيضا.
(2/345)
ما تردد بن النفع و الضرر
...
ما تردد بن النفع والضرر
وما كان مترددا بينهما يصح بشرط رأي الولي لأنه أهل لحكمه
إذا باشر وليه فكذا إذا باشر بنفسه برأي الولي، ويحصل بهذا
ما يحصل بذلك مع فضل تصحيح عبارته، وتوسيع طريق حصول
المقصود ثم هذا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى بطريق أن
احتمال الضرر في تصرفه يزول برأي الولي فيصير كالبالغ حتى
يصح بغبن فاحش من الأجانب، ولا يملكه الولي فأما من الولي
ففي رواية يصح لما قلنا.
وفي رواية لا لأنه في الملك أصيل، وفي الرأي أصيل من، وجه
دون وجه؛ لأن له أصل الرأي باعتبار أصل العقل دون وصفه إذ
ليس له كمال العقل فثبت شبهة النيابة فاعتبرت في موضع
التهمة وسقطت في غير موضعها وعندهما بطريق أنه يصير برأيه
كمباشرته فلا يصح بالغبن الفاحش أصلا.
ـــــــ
"وما كان مترددا بينهما" أي بين النفع والضرر كالبيع,
والشراء, ونحوهما فمن حيث إنه يدخل المشترى في ملك المشتري
نفع, ومن حيث إنه يخرج البدل من ملكه ضرر "يصح شرط رأي
الولي لأنه" أي الصبي "أهل لحكمه إذا باشر وليه فكذا إذا
باشر بنفسه برأي الولي, ويحصل بهذا" أي بمباشرة الصبي برأي
الولي "ما يحصل بذلك" أي بمباشرة الولي "مع فضل تصحيح
عبارته, وتوسيع طريق حصول المقصود ثم هذا" أي تصرف الصبي
برأي الولي فيما يتردد بين النفع, والضرر "عند أبي حنيفة
رحمه الله تعالى بطريق أن احتمال الضرر في تصرفه يزول برأي
الولي فيصير كالبالغ حتى يصح بغبن فاحش من الأجانب, ولا
يملكه الولي فأما من الولي" أي بيع الصبي من الولي مع غبن
فاحش "ففي رواية يصح لما قلنا" أنه يصير كالبالغ "وفي
رواية لا لأنه" أي الصبي "في الملك أصيل, وفي الرأي أصيل
من, وجه دون وجه; لأن له أصل الرأي باعتبار أصل العقل دون
وصفه إذ ليس له كمال العقل فثبت شبهة النيابة" أي شبهة أنه
نائب الولي إذا كان كذلك صار كأن الولي يبيع من نفسه مال
الصبي بالغبن "فاعتبرت" أي شبهة النيابة "في موضع التهمة",
وهو أن يبيع الصبي من الولي "وسقطت في غير موضعها" أي في
غير موضع التهمة, وهو ما إذا باع من الأجانب "وعندهما"
متعلق بقوله ثم هذا عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى "بطريق
أنه" أي تصرف الصبي "يصير برأيه" أي برأي الولي "كمباشرته"
أي الوالي "فلا يصح بالغبن الفاحش أصلا" أي لا من الولي,
ولا من الأجانب, "وأما, وصيته" أي, وصية الصبي "فباطلة;
لأن الإرث شرع نفعا للمورث" قال عليه الصلاة والسلام: "لأن
تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء عالة يتكففون
الناس" أي
.........................................................
قوله: "وما كان مترددا بينهما" أي محتملا للنفع والضرر
كالبيع, ويحتمل الربح, والخسران, وكذا الشراء والإجارة,
والنكاح والمصنف رحمه الله تعالى جعل احتمال الضرر باعتبار
خروج البدل عن الملك حتى لو باع الشيء بأضعاف قيمته كان
ضررا ونفعا, ويلزمه أن لا يندفع الضرر بحال قط وقد ذكر أن
احتمال الضرر يندفع بانضمام رأي الولي.
قوله: "لأنه أي الصبي أهل لحكمه" أي حكم ما هو متردد بين
النفع والضرر إذا باشره الولي بنفسه, وذلك أنه يملك الثمن
إذا باع الولي ماله, ويملك العين إذا اشتراها له, ويملك
الأجرة إذا أجر عينا له.
(2/346)
وصية الصبي
وأما، وصيته فباطلة؛ لأن الإرث شرع نفعا للمورث حتى شرع في
حق الصبي إلا أنها شرعت في حق البالغ كالطلاق.
ـــــــ
يمدون أكفهم سائلين وإنما ذكر الوصية لأنها تراد إشكالا,
وهو أن الوصية نفع لأنها سبب لثواب الآخرة مع أنه لا يزول
الموصى به ما دام حيا من ملكه فينبغي أن يصح وصيته فأجاب
بأن الإرث شرع نفعا للمورث وفي الوصية إبطال الإرث "حتى
شرع في حق الصبي" فرع على أن الإرث شرع نفعا للمورث حتى لو
كان ضررا لما شرع في حق الصبي "إلا أنها شرعت في حق البالغ
كالطلاق" جواب إشكال, وهو أن الوصية لما كانت ضررا لكونها
إبطالا للإرث ينبغي أن لا تصح من البالغ فأجاب بأنها شرعت
من البالغ وإن كان ضررا كالطلاق
.........................................................
قوله: "وتوسيع طريق حصول المقصود" حيث يثبت بمباشرة الولي,
ومباشرة الصبي.
قوله: "وعندهما" أي تصرف الصبي بإذن الولي فيما يحتمل
النفع والضرر, وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى إنما
هو بطريق أنه يجعل بمنزلة مباشرة الولي العمل بنفسه حتى
كان الصبي آلة فيقتصر على ما يقتصر عليه تصرف الولي,
وعبارة فخر الإسلام رحمه الله تعالى أن رأي الولي شرط
للجواز, وعموم رأيه كخصوصه فيجعل كأن الولي باشره بنفسه
يعني أن رأي الولي شرط لجواز التصرف إما بنفسه أو بالصبي,
ورأيه فيما إذا تصرف الصبي عام حيث جاوز تصرفه إلى تصرف
الغير, وفيما إذا باشر بنفسه خاص لا يتجاوزه فيجعل عموم
رأيه بأن عمل بيد الغير كخصوصه بأن يعمل بيد نفسه فيصير
كأن الولي باشر بنفسه.
قوله: "وأما وصيته فباطلة" جواب سؤال يمكن تقريره بوجهين:
أحدهما أن الوصية نفع محض لأنه يحصل بها الثواب في الآخرة
بعد الاستغناء عن المال بالموت بخلاف الهبة والصدقة فإن
فيهما تضرر زوال الملك في الحياة فعلى هذا التقرير كان
ينبغي أن يذكر هذا عقيب الحكم بأن ما فيه نفع محض يملكه
الصبي, وثانيهما أن الوصية مما يتردد بين النفع, والضرر لا
سيما إذا كانت في جهة الخير لحصول الثواب في الآخرة مع
تضرر إبطال الإرث الذي هو نفع للمورث, وعلى هذا لا يتم
جواب المصنف رحمه الله تعالى لأن غايته بيان التضرر في
الوصية, ويلزم منه صحتها بإذن الولي, ولا رواية في ذلك بل
طريق الجواب أنا لا نسلم أنها تتضمن نفعا يعتد به بل هي
ضرر محض, والنفع الذي تضمنته إنما وقع باتفاق الحال, وهو
أنه حالة الموت فلا يعتد به بمنزلة ما لو باع ماله
(2/347)
|