شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه ط العلمية القسم الثاني:
من العوارض ما يكون من غير المكلف
مدخل
...
القسم الثاني: من العوارض ما
يكون من غير المكلف
وأما الذي من غيره فالإكراه وهو إما ملجئ بأن يكون بفوت
النفس أو العضو وهذا معدم للرضا ومفسد للاختيار وإما غير
ملجئ بأن يكون بحبس أو قيد أو ضرب وهذا معدم للرضا غير
مفسد للاختيار.
ـــــــ
ملجئ بأن يكون بحبس أو قيد أو ضرب وهذا معدم للرضا غير
مفسد للاختيار, والإكراه بهما لا ينافي الأهلية ولا
الخطاب; لأن المكره عليه إما فرض" كما إذا أكره على شرب
الخمر بالقتل "أو مباح" كما إذا أكره على الإفطار في شهر
رمضان "أو مرخص" كما إذا أكره على إجراء كلمة الكفر "أو
حرام" كما إذا أكره على قتل مسلم بغير الحق حتى "يؤجر مرة,
ويأثم أخرى, ولا الاختيار" أي: لا ينافي الاختيار "لأنه حل
على اختيار الأهون وأصل الشافعي في
.........................................................
قوله: "وأما الذي من غيره" أي: القسم الثاني من العوارض
المكتسبة, وهو الذي يكون من غير المكلف هو الإكراه, وهو
حمل الغير على أن يفعل ما لا يرضاه, ولا يختار مباشرته لو
خلي ونفسه, فيكون معدما للرضى لا للاختيار إذ الفعل يصدر
عنه باختياره لكنه قد يفسد الاختيار بأن يجعله مستندا إلى
اختيار آخر, وقد لا يفسد بأن يبقى الفاعل مستقلا في قصده,
وحقيقة الاختيار هو القصد إلى مقدور متردد بين الوجود,
والعدم بترجيح أحد جانبيه على الآخر فإن استقل الفاعل في
قصده فصحيح, وإلا ففاسد, وبهذا الاعتبار يكون الإكراه إما
ملجئا بأن يضطر الفاعل إلى مباشرة الفعل خوفا من فوات
النفس أو ما هو في معناها كالعضو, وإما غير ملجئ بأن يتمكن
الفاعل من الصبر من غير فوات النفس أو العضو, وهو سواء كان
ملجئا أو غير ملجئ لا ينافي أهلية الوجوب, ولا الخطاب
بالأداء لبقاء الذمة, والعقل, والبلوغ, ولأن ما أكره عليه
إما فرض أو مباح أو رخصة أو حرام, وكل ذلك من آثار الخطاب
حتى أنه يؤخر على ذلك الفعل المكره عليه مرة كما إذا كان
فرضا كالإكراه بالقتل على شرب الخمر ويأثم مرة أخرى كما
إذا كان حراما كالإكراه على قتل مسلم بغير حق أو يؤجر على
الترك في الحرام, والرخصة, ويأثم في الفرض, والمباح, وكل
من الأجر, والإثم إنما يكون بعد تعلق الخطاب, والمراد
بالإباحة أنه يجوز له الفعل, ولو تركه وصبر حتى قتل لم
يأثم ولم يؤجر, وبالرخصة أنه يجوز له الفعل لكن لو صبر حتى
قتل يؤجر عملا بالعزيمة, وبهذا يسقط الاعتراض بأنه إن أريد
بالإباحة أنه يجوز له الفعل, ولو تركه, وصبر حتى قتل لا
يأثم فهو معنى الرخصة, وإن أريد أنه لو تركه يأثم, وهو
معنى الفرض, وقال الإمام البرغري رحمه الله تعالى: إن فعل
المكره مباح كالقتل, والزنا, وفرض كشرب الخمر, وأكل
الميتة, ومرخص له كإجراء كلمة الكفر, والإفطار, وإتلاف مال
الغير, ولعل فخر الإسلام رحمه الله تعالى إنما فرق بين
كلمة الكفر, والإفطار للفرق بينهما قبل الإكراه حيث تسقط
حرمة الإفطار بالعذر كالسفر, والمرض بخلاف حرمة كلمة الكفر
فإنها لا تسقط قبل الإكراه بحال.
قوله: "ولا الاختيار" أي: الإكراه, ولا ينافي الاختيار;
لأنه حمل للفاعل على أن يختار ما هو أهون
(2/414)
أقسام المكره عليه
والإكراه بهما لا ينافي الأهلية ولا الخطاب؛ لأن المكره
عليه إما فرض أو مباح أو مرخص أو حرام حتى يؤجر مرة، ويأثم
أخرى، ولا الاختيار لأنه حل على اختيار الأهون وأصل
الشافعي في ذلك أن الإكراه بغير حق إن كان عذرا شرعا يقطع
الحكم عن فعل الفاعل لعدم اختياره والعصمة تقتضي دفع الضرر
بدون رضاه.
ـــــــ
ذلك أن الإكراه بغير حق إن كان عذرا شرعا يقطع الحكم عن
فعل الفاعل لعدم اختياره" الإكراه عند الشافعي إما أن يكون
بحق كالإكراه على الإسلام, وإما بغير حق ثم هذا إما أن
يكون عذرا, وإما أن لا يكون: واعلم أني أقمت لفظ الفاعل
مقام المكره بالفتح ولفظ الحامل مقام المكره بالكسر لئلا
يشتبه الفتح بالكسر "والعصمة تقتضي دفع الضرر بدون رضاه"
أي: رضا الفاعل "ثم إن أمكن نسبة الفعل إلى الحامل ينسب
وإلا يبطل فتبطل الأقوال كلها"; لأن نسبة الأقوال إلى غير
المتكلم باطل; لأن الإنسان لا يتكلم بلسان غيره.
"ويضمن الحامل الأموال" أي: إذا أكرهه على إتلاف مال
الغير; لأن نسبة الإتلاف إلى الحامل ممكن, فيجعل الفاعل
آلة للحامل "وإن لم يكن عذرا لا يقطع" أي: الحكم عن فعل
الفاعل "فيحد الزاني ويقتص القاتل مكرهين وإنما يقتص
الحامل بالتسبيب" جواب إشكال هو أنه لما لم تقطع نسبة
الحكم عن فعل الفاعل يكون الفاعل هو القاتل فيجب أن يقتص
هو
.........................................................
عند الحامل, وأرفق له, ويحتمل أن يريد ما هو أيسر على
الفاعل من القتل, والضرب, ونحو ذلك مما أكره به.
قوله: "وأصل الشافعي" أي: القاعدة التي قررها الشافعي رحمه
الله تعالى في باب الإكراه: هو أن الإكراه إما أن يحرم
الإقدام عليه, وهو الإكراه بغير حق أو لا, وهو الإكراه
بحق, والثاني لا يقطع الحكم عن فعل الفاعل كإكراه الحربي
على الإسلام, فيصح إسلامه بخلاف إكراه الذمي فإنه ليس بحق
لقوله عليه السلام: "اتركوهم وما يدينون", والأول إما أن
يكون عذرا شرعيا أو لا فإن كان عذرا شرعيا بأن يحل للفاعل
على الإقدام على الفعل, فهو يقطع الحكم عن فعل الفاعل سواء
أكره على قول أو عمل; لأن صحة القول بقصد المعنى, وصحة
الحكم باختياره, والإكراه يفسد القصد, والاختيار, وأيضا
نسبة الحكم للفاعل بلا رضاه إلحاق الضرر به, وهو غير جائز;
لأنه معصوم محترم الحقوق, والعصمة تقتضي أن يدفع عنه الضرر
بدون رضاه لئلا يفوت حقوقه بدون اختياره, ثم إذا قطع الحكم
عن الفاعل فإن أمكن نسبة الفعل إلى الحامل أي: المكره
كالإكراه على إتلاف مال الغير نسب إليه, وإن لم يمكن بطل
الفعل كالإكراه على الإقرار, وسائر الأقوال, وإن لم يكن
عذرا شرعيا بأن لا يحل له إقدام على الفعل كما إذا أكره
على القتل أو الزنا لا يقطع الحكم عن الفاعل حتى يجب
القصاص, والحد على القاتل, والزاني مكرهين.
(2/415)
تفصيل الشافعية في الإكراه
ثم إن أمكن نسبة الفعل إلى الحامل ينسب وإلا يبطل فتبطل
الأقوال كلها ويضمن الحامل الأموال وإن لم يكن عذرا لا
يقطع فيحد الزاني ويقتص القاتل مكرهين وإنما يقتص الحامل
بالتسبيب وإن كان الإكراه حقا لا يقطع أيضا فيصح إسلام
الحربي وبيع المديون ماله لقضاء الديون وطلاق المولي بعد
المدة بالإكراه لا إسلام الذمي به والإكراه بالقتل والحبس
عنده سواء.
ـــــــ
ولا يقتص الحامل لكن القصاص يجب عليهما عند الشافعي رحمه
الله تعالى فأجاب بأن الحامل إنما يقتص بالتسبيب "وإن كان
الإكراه حقا لا يقطع أيضا" أي: الحكم عن فعل الفاعل "فيصح
إسلام الحربي وبيع المديون ماله لقضاء الديون وطلاق المولي
بعد المدة بالإكراه" متعلق بما ذكر وهو إسلام الحربي وطلاق
المولي, وبيع المديون ماله وهو مذهب الشافعي رحمه الله
تعالى أن الزوج يجبر على الطلاق بعد مدة الإيلاء "لا إسلام
الذمي به أي:" بالإكراه; لأن إكراه الذمي على الإسلام ليس
بحق, فيبطل لما ذكرنا أنه يبطل الأقوال كلها "والإكراه
بالقتل والحبس عنده سواء وأصلنا: أن الإكراه الملجئ لما
أفسد الاختيار فإن عارض هذا
.........................................................
قوله: "وطلاق المولي" بالضم اسم الفاعل من الإيلاء يعني:
لو أكره المولي على التطليق بعد مضي مدة الإيلاء فطلق, وقع
الطلاق; لأنه يستحق التفريق بعد مضي المدة كامرأة العنين
بعد الحول فإذا امتنع عن ذلك كان الإكراه حقا, وأما قبل
مضي المدة فالإكراه باطل فلا يقع الطلاق.
قوله: "والإكراه بالقتل, والحبس عنده" أي: الشافعي رحمه
الله تعالى سواء; لأن في الحبس ضررا كالقتل, والعصمة تقتضي
دفع الضرر قال الإمام محيي السنة: الإكراه أن يخوفه بعقوبة
تنال من بدنه لا طاقة له بها, وكان المخوف ممن يمكن تحقيق
ما يخوف بها, فيدخل فيه القتل والضرب المبرح وقطع العضو
وتخليد السجن لا إذهاب الجاه, وإتلاف المال, ونحو ذلك.
قوله: "وأصلنا" يعني: أن الأصل المقرر عند أبي حنيفة رحمه
الله تعالى, وأصحابه: أن الإكراه إن كان ملجئا, وعارض
اختيار الفاعل اختيار صحيح من الحامل فإما أن يكون المكره
عليه من قبيل الأقوال أو من قبيل الأفعال فإن كان من قبيل
الأقوال فإن كان مما لا ينفسخ كالطلاق, كان نافذا, وإلا
كان فاسدا كالبيع, والأقارير, وإن كان من قبيل الأفعال فإن
لم يحتمل كون الفاعل آلة للحامل كالزنا كان مقتصرا على
الفاعل, وإن احتمل فإن لزم من جعله آلة تبديل محل الجناية
كان مقتصرا على الفاعل كإكراه المحرم على قتل الصيد, وإن
لم يلزم نسب إلى الحامل ابتداء كالإكراه على إتلاف المال
أو النفس, والمراد بالإكراه الملجئ ما يكون التخويف بالقتل
دون الحبس أو الضرب, ومعنى إفساده الاختيار أن الإنسان
مجبول على حب حياته, وذلك يحمله على الإقدام على ما أكره
عليه, فيفسد اختياره من هذا الوجه, ومعنى كون الفاعل آلة
أن الحامل يمكنه إيجاد الفعل المطلوب
(2/416)
الأصل عند
الحنيفة في الإكراه
الأصل عند الحنيفة في الإكراه
...
الأصل عند الحنيفة في الإكراه
وأصلنا: أن الإكراه الملجئ لما أفسد الاختيار فإن عارض هذا
الاختيار اختيار صحيح، وهو اختيار الحامل يصير اختيار
الفاعل كالمعدوم، وهذا لا يكون إلا بأن يصير الفاعل آلة
للحامل فإن احتمل ذلك ينسب إلى الحامل، وإلا يبقى منسوبا
إلى الفاعل فالأقوال كلها لا تحتمل ذلك فإن كانت مما لا
ينفسخ ولا يتوقف على الاختيار كالطلاق، والعتاق تنفذ؛
لأنها تنفذ مع الهزل، وهو ينافي الاختيار أصلا والرضى
بالحكم ومع خيار الشرط وهو ينافي الاختيار أصلا أما اختيار
السبب فحاصل في الخيار فلا تنفذ بالإكراه وهو يفسد
الاختيار أولى.
ـــــــ
الاختيار اختيار صحيح, وهو اختيار الحامل يصير اختيار
الفاعل كالمعدوم, وهذا" أي: صيرورة اختيار الفاعل كالمعدوم
لا يكون إلا بأن يصير الفاعل آلة للحامل "فإن احتمل ذلك"
أي: كونه آلة له "ينسب إلى الحامل, وإلا" أي: وإن لم يحتمل
كون الفاعل آلة للحامل "يبقى منسوبا إلى الفاعل فالأقوال
كلها لا تحتمل ذلك" أي: كون الفاعل آلة للحامل لما ذكرنا
أن التكلم بلسان الغير ممتنع.
"فإن كانت" أي: الأقوال "مما لا ينفسخ ولا يتوقف على
الاختيار" كالطلاق, والعتاق تنفذ; "لأنها" أي: الأقوال
التي لا تنفسخ "تنفذ مع الهزل, وهو ينافي الاختيار أصلا
والرضى بالحكم ومع خيار الشرط" عطف على قوله مع الهزل "وهو
ينافي الاختيار أصلا" أي: ينافي اختيار الحكم أصلا أما
اختيار السبب فحاصل في الخيار "فلأن تنفذ" أي: الأقوال
التي لا تنفسخ "بالإكراه وهو يفسد الاختيار أولى". وجه
الأولوية أن في الهزل اختيار المباشرة والرضا بها
.........................................................
بنفسه فإذا حمل عليه غيره بوعيد التلف صار كأنه فعل بنفسه,
وإن لم يمكنه مباشرة ذلك الفعل بنفسه يبقى مقصورا على
الفاعل.
قوله: "فالأقوال كلها لا تحتمل ذلك" يعني: أن شيئا من
الأقوال لا يحتمل كون الفاعل آلة للحامل عليه لامتناع
التكلم بلسان الغير, وأما ما يقال: من أن كلام الرسول كلام
المرسل فهو مجاز إذ العبرة بالتبليغ, وهو قد يكون مشافهة,
وقد يكون بواسطة, وذكر في الطريقة البرغرية أنه لا نظر إلى
التكلم بلسان الغير; لأنه ممتنع غير متصور, وإنما النظر
إلى المقصود من الكلام, وإلى الحكم فمتى كان في وسعه تحصيل
ذلك الحكم بنفسه يجعل ذلك الغير آلة له, ومتى لم يكن في
وسعه ذلك لم يجعل غيره آلة فالرجل قادر على تطليق امرأته,
وإعتاق عبده فإذا وكل غيره يجعل فاعلا تقديرا, واعتبارا
بخلاف الحامل فإنه لا يقدر بنفسه على تطليق امرأة الغير,
وإعتاق عبد الغير فلا يصح أن يجعل الفاعل آلة.
قوله: "فلأنه تنفيذ بالإكراه, وهو يفسد الاختيار أولى"
يعني: أن الإكراه دون الهزل, وخيار الشرط في منع نفاذ
التصرفات; لأن كمال النفاذ بصحة اختيار السبب, والحكم,
والرضى بهما جميعا ففي كل
(2/417)
الإكراه على الطلاق بمال
وإذا اتصل بقبول المال يقع الطلاق بلا مال؛ لأنه بعدم
الرضا بالسبب والحكم فكأن المال لم يوجد فلم يتوقف الطلاق
عليه كما في خلع الصغيرة أما عند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى فلأن الرضا بالسبب ثابت دون الحكم، فيصح إيجاب المال
فيتوقف الطلاق عليه كما في خيار الشرط في جانبها وأما
عندهما فالهزل لا يؤثر في بدل الخلع، فيجب.
ـــــــ
ثابتان لكن اختيار الحكم والرضا به منتفيان أما الإكراه
فالرضا بالسبب والحكم منتف فيه أما اختيار السبب فحاصل في
الإكراه مع الفساد فإن كان الطلاق والعتاق واقعين في الهزل
من غير اختيار الحكم والرضا به فوقوعهما في الإكراه مع
فساد الاختيار أولى هذا ما قالوا ولكن, يرد عليه أن اختيار
السبب والرضا به حاصل في الهزل بدون الفساد, وأما في
الإكراه فلا رضا بالسبب أصلا, واختيار السبب موجود مع
الفساد فلا يلزم من الوقوع في الهزل الوقوع في الإكراه.
"وإذا اتصل بقبول المال" أي: إذا اتصل الإكراه بقبول المال
في الطلاق "يقع الطلاق بلا مال; لأنه" أي: الإكراه "بعدم
الرضا بالسبب والحكم فكأن المال لم يوجد فلم يتوقف الطلاق
.........................................................
من الهزل, وخيار الشرط قد انتفى الاختيار, والرضى في جانب
الحكم, وإن وجدا في جانب السبب, وفي الإكراه لم ينتف
الاختيار في السبب, ولا في الحكم لكنه فسد, والفاسد ثابت
من وجه بخلاف المعدوم من كل وجه فانتفاء شرائط كمال النفاذ
في الإكراه أقل فهو بالقبول أجدر, والنفاذ فيه أظهر,
واعترض المصنف رحمه الله تعالى بأن هاهنا أمورا أربعة هي
اختيار السبب, والحكم, والرضى بهما ففي الهزل يوجد اختيار
السبب, والرضى به مع الصحة, وينتفي اختيار الحكم, والرضى
به, وفي الإكراه يوجد اختيار السبب, والحكم مع الفساد,
وينتفي الرضى بهما ففي كل من الهزل, والإكراه يوجد الاثنان
من الأمور الأربعة لكن مع الصحة في الهزل, ومع الفساد في
الإكراه فلا يكون الإكراه أولى بالقبول, والنفاذ والمصنف
رحمه الله تعالى لم يتعرض لوجود اختيار الحكم في الإكراه
ليتوهم غاية رجوحيته, فيظهر قوة الاعتراض, وعلى ما ذكرنا
يمكن الجواب بأن في كل من الإكراه, والهزل أمرين من الأمور
الأربعة إلا أن الأمرين اللذين في الإكراه أقوى من جهة أن
الحكم هو المقصود, والسبب وسيلة إليه, وأن الاختيار هو
المعتبر في عامة الأحكام, ونفاذ التصرفات, والرضى قد يكون,
وقد لا يكون, وفساد الاختيار لا يوجب المرجوحية; لأن
الفاسد بمنزلة الصحيح فيما لا يحتمل الفسخ; لأنه إذا انعقد
ينفذ, ولا يحتمل تخلف الحكم.
قوله: "وإذا اتصل" أي: الإكراه بقبول المال بأن أكرهت
امرأة بوعيد تلف أو حبس على أن تقبل من زوجها الخلع على
ألف درهم فقبلت ذلك منه, وهي مدخول بها يقع الطلاق; لأنه
لم يتوقف إلا على القبول, وقد وجد, ولا يلزمها المال; لأنه
توقف على الرضا, ولم يوجد كما إذا طلق الصغيرة فقبلت يقع
الطلاق لوجود القبول, ولا يلزمها المال لبطلان التزامها,
وإنما اشترط اتصال الإكراه
(2/418)
عليه" أي: على
المال "كما في خلع الصغيرة" فإنه يقع الطلاق فيه بلا مال
"بخلاف الهزل أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلأن
الرضا بالسبب ثابت" أي: في الهزل "دون الحكم, فيصح إيجاب
المال فيتوقف الطلاق عليه" أي: على المال في الخلع بطريق
الهزل "كما في خيار الشرط في جانبها" أي: إذا خالعها بشرط
الخيار لهما, فيتوقف الطلاق على قبولها المال, وإنما قال
في جانبها; لأن شرط الخيار في جانب الزوج لا يصح في الخلع;
لما عرف أن الخلع يمين في حقه معاوضة في حقها. "وأما
عندهما فالهزل لا يؤثر في بدل الخلع, فيجب, وإن كانت مما
.........................................................
بقبول المال أي: أن يتحد محلهما بأن تكره المرأة; لأنه لو
أكره على تطليق امرأته على مال يقع الطلاق; لأن الإكراه لا
يمنع الطلاق, ويلزمها المال; لأنها التزمت المال طائعة
بإزاء ما سلم لها من البينونة أما إذا اتصل الهزل بقبول
المال, فيصح التطليق لكن يتوقف وقوع الطلاق على التزام
المرأة المال, وعلى الرضا به فإن التزمته وقع الطلاق, ولزم
المال, وإلا فلا طلاق, ولا مال, وعند أبي يوسف ومحمد
رحمهما الله تعالى يقع الطلاق, ويلزمها المال من غير توقف
على الرضا وجه قول أبي حنيفة رحمه الله أنه قد تحقق في
الهزل الرضا بالسبب دون الحكم, فيصح التزام المال موقوفا
على تمام الرضا بمنزلة خيار الشرط في جانب الزوجة فإنه لما
دخل على الحكم فقط لم يمنع وجود الرضا بالسبب بل بالحكم,
فيتوقف وجود الحكم أعني: وقوع الطلاق, ولزوم المال على
الرضا بالحكم فإن وجد ثبت, وإلا فلا, وإنما قال في جانبها;
لأن الخلع من جانب الزوج يمين فلا يقبل خيار الشرط.
ووجه قولهما أن الهزل يعدم الرضا, والاختيار في الحكم دون
السبب, فيصح إيجاب المال بوجود الرضا في السبب, وتحقيقه:
أن ما يدخل على الحكم دون السبب فهو لا يؤثر في الخلع
بالمنع كشرط الخيار; لأن أثره في المنع, ولم يؤثر في أحد
الحكمين, وهو الطلاق بالمنع فلا يؤثر في الآخر, وهو لزوم
المال; لأنه تابع, فيتبع الطلاق, ويلزم لزومه, وما يدخل
على السبب كالإكراه يؤثر بالمنع في المال دون الطلاق; لأن
المال في الخلع لا يجب إلا بالذكر فيه كالثمن في البيع فلا
بد له من صحة الإيجاب لثبوت الثمن, والداخل على السبب
كالإكراه يمنع الإيجاب في البيع فكذا في الخلع, والداخل
على الحكم لا يمنعه في البيع لكن يمنع اللزوم, وهنا لا
يمنع اللزوم; لأن الطلاق مقصود, والمال تبع, فحيث لا يمنع
لزوم المتبوع لم يمنع لزوم التابع; لأن حكم التابع يؤخذ من
المتبوع أبدا.
قوله: "وإن كانت" أي: الأقوال مما ينفسخ, ويتوقف على الرضا
تنعقد فاسدة أما الانعقاد فلصدورها عن أهلها في محلها,
وأما الفساد فلأن الرضا شرط النفاذ فلو أجاز التصرف بعد
زوال الإكراه صريحا أو دلالة صح لزوال المعنى المفسد ثم
الإكراه الملجئ كالإكراه بالقتل, وغير الملجئ كالإكراه
بالضرب سواء فيما ينفسخ, ويتوقف على الرضا لأن الرضا منتف
في النوعين, فينتفي النفاذ, والنظر في حد الإكراه من الضرب
أو الحبس مفروض إلى رأي الحاكم.
قوله: "وكذا" أي: مثل التصرفات التي لا تنفسخ: الأقارير
كلها من الماليات, وغيرها في أنها تفسد بالإكراه الملجئ,
وغير الملجئ; لأن الإقرار خبر يتمثل بين الصدق, والكذب,
وإنما يوجب
(2/419)
ينفسخ, ويتوقف
على الرضا كالبيع والإجارة تفسد, والملجئ وغيره هنا سواء;
لعدم الرضا وكذا الأقارير كلها لقيام الدليل على عدم
المخبر به والأفعال منها ما لا يحتمل ذلك" أي: كون
.........................................................
الحقوق باعتبار رجحان جانب الصدق أي: وجود المخبر به فإذا
تحقق الإكراه, وعدم الرضى, وهو دليل على الكذب أي: عدم
وجود المخبر به لم تثبت الحقوق فإن قيل: الإكراه يعارضه أن
الصدق هو الأصل في المؤمن, ووجود المخبر به هو المفهوم من
الكلام فلا يقوم دليل على عدم المخبر به قلنا المعارضة
إنما تنفي المدلول لا الدليل فغاية ما في الباب أنه لا
يبقى رجحان لجانب الصدق أو الكذب فلا تثبت الحقوق بالشك.
قوله: "والأفعال منها ما لا يحتمل ذلك أي: كون الفاعل آلة
للحامل", ومنها ما يحتمل فالأول يقتصر على الفاعل, وذلك
مثل الأكل, والشرب حتى لا يرجع إلى الحامل شيء من أحكامهما
المتعلقة بهما من حيث إنهما أكل أو شرب كما إذا أكره صائم
صائما على الإفطار فإنه يبطل صوم الفاعل لا الحامل, وأما
ما يتعلق بذلك من حيث إنه إتلاف كما إذا أكرهه على أكل مال
الغير فقد اختلفت الروايات في أن الضمان على الفاعل أو على
الحامل, وكذا في الزنا لو أكرهه عليه كان العقر على الزاني
لكن لو أتلفت الجارية بذلك ينبغي أن يكون الضمان على
الحامل أي: المكره, والثاني, وهو ما يحتمل كون الفاعل آلة
للحامل قسمان; لأنه إما أن يلزم من جعله آلة تبديل محل
الجناية أو لا, أما القسم الأول, فيقتصر على الفاعل, ولا
يتعلق بالحامل إذ لو نسب إلى الحامل, وجعل الفاعل بمنزلة
الآلة عاد على موضعه بالنقض; لأن تبديل محل الجناية يستلزم
مخالفة الحامل; لأنه إنما حمله بالإكراه على الجناية في
ذلك المحل, ومخالفة الحامل تستلزم بطلان الإكراه; لأنه
عبارة عن حمل الغير على ما يريده الحامل, ويرضاه على خلاف
رضا الفاعل, وهو فعل معين في محل معين فإذا فعل غيره كان
طائعا بالضرورة لا مكرها.
وأورد فخر الإسلام رحمه الله لذلك مثالين; لأن تبديل محل
الجناية قد لا يستلزم تبديل ذات الفعل, وقد يستلزمه.
فالأول كما إذا أكره محرم محرما على قتل صيد فقتله يقتصر
على الفاعل; لأن الحامل إنما أكرهه على الجناية على إحرام
نفسه فلو جعل الفاعل آلة للحامل لزم الجناية على إحرام
الحامل لا إحرام الفاعل فلم يكن آتيا بما أكرهه عليه فلا
يتحقق الإكراه فإن قيل: الاقتصار على الفاعل ينبغي أن يكون
في حق الإثم فقط دون الجزاء إذ الكفارة تجب في الصورة
المذكورة على كل من الفاعل, والحامل قلنا الفعل هاهنا هو
قتل الصيد باليد, والكفارة المترتبة على ذلك مقتصرة على
الفاعل, وأما الكفارة الواجبة على الحامل فإنما هي مترتبة
على قتل الصيد بإكراه الغير عليه كما في الدلالة عليه أو
الإشارة إليه, وتحقيق ذلك أن موجب الكفارة هو الجناية على
الإحرام, وكل من الفاعل, والحامل جان على إحرام نفسه أما
الفاعل فبقتل الصيد بيده, وأما الحامل فبإكراه الغير عليه
فالفعل الذي هو القتل باليد لم يتجاوز الفاعل في حق ما وجب
به من الجزاء.
والثاني: وهو ما يكون تبديل محل الجناية مستلزما لتبديل
ذات الفعل كما إذا أكره الغير على بيع الشيء, وتسليمه,
فيقتصر التسليم على الفاعل إذ لو نسب إلى الحامل, وجعل
الفاعل آلة لزم
(2/420)
القسم الأول: ما يلزم فيه تبديل محل الجناية
وإن كانت مما ينفسخ، ويتوقف على الرضا كالبيع والإجارة
تفسد، والملجئ وغيره هنا سواء؛ لعدم الرضا وكذا الأقارير
كلها لقيام الدليل على عدم المخبر به والأفعال منها ما لا
يحتمل ذلك كالأكل، والشرب والزنا، فيقتصر على الفاعل منها
ما يحتمل فإن لزم من جعله آلة تبديل محل الجناية، فيقتصر
عليه أيضا؛ لأن في تبديل المحل مخالفة الحامل وفيها بطلان
الإكراه كإكراه المحرم على قتل الصيد؛ لأنه إنما حمله على
الجناية على إحرامه ولو جعل آلة يصير المحل إحرام الحامل.
ـــــــ
الفاعل آلة للحامل "كالأكل, والشرب والزنا, فيقتصر على
الفاعل منها ما يحتمل فإن لزم من جعله آلة تبديل محل
الجناية, فيقتصر عليه أيضا; لأن في تبديل المحل مخالفة
الحامل وفيها بطلان الإكراه كإكراه المحرم على قتل الصيد;
لأنه إنما حمله على الجناية على إحرامه ولو جعل آلة يصير
المحل إحرام الحامل, وكما أكره على البيع, والتسليم
فالتسليم يقتصر عليه; لأنه أكرهه على تسليم المبيع ولو جعل
آلة يصير تسليم المغصوب ويتبدل ذات الفعل أيضا" فإن البيع
حينئذ يصير غصبا.
"والإعتاق, وإن كان لا يحتمل ذلك" لا يحتمل كون الفاعل آلة
للحامل "لأنه من
.........................................................
التبديل في محل التسليم بأن يصير مغصوبا; لأن التسليم من
جهة الحامل يكون تصرفا في ملك الغير على سبيل الاستيلاء,
فيصير البيع, والتسليم غصبا أما إذا نسب التسليم إلى
الفاعل, وجعل متمما للعقد حتى إن المشتري يملك المبيع ملكا
فاسدا لانعقاد البيع, وعدم نفاذه فلا يلزم ذلك, وقد يقال:
إن الفعل في المثالين المذكورين ليس مما يحتمل كون الفاعل
آلة إذ لا يصح أن يجعل الشخص آلة للغير في القتل من حيث
إنه جناية, ولا في التسليم من حيث إنه إتمام للعقد; لأنه
لا يقدر أحد على الجناية على إحرام الغير, ولا على تملك
مال الغير, وإتمام تصرفه, وما ذكره فخر الإسلام رحمه الله
تعالى من أنه لو جعل آلة لتبدل محل الجناية معناه أنه, وإن
لم يحتمل ذلك لكن لو فرض لبطل الإكراه, والجواب أن المراد
باحتمال الفعل كون الفاعل آلة أنه يحتمل ذلك في نفسه,
وبالنظر إلى صورته, ولا خفاء في أن الفاعل في القتل,
والتسليم يصلح أن يكون آلة بمنزلة السيف, والطرف, وإنما
يمتنع ذلك من حيث اعتبار الجناية, وإتمام التصرف, وهو أمر
زائد على نفس الفعل.
قوله: "والإعتاق, وإن كان لا يحتمل ذلك" يعني: أن من
التصرفات ما يتضمن معنيين يمكن نسبة أحدهما إلى الغير,
وكون الفاعل آلة, ولا يمكن ذلك في الآخر كما إذا أكره
الغير على إعتاق عبده من حيث إنه قول, وتكلم بالصيغة ينسب
إلى الفاعل إذ لا يحتمل كون الفاعل آلة فيصبح العتق لكونه
صادرا عن المالك, ومن حيث إنه إتلاف للمال ينسب إلى
الحامل, ويجعل الفاعل آلة; لأن الإتلاف يحتمل ذلك بخلاف
الأقوال, فيجب للفاعل على الحامل قيمة العبد موسرا كان أو
معسرا, ويكون الولاء للفاعل; لأنه بالإعتاق, وهو مقتصر على
الفاعل, ولا يمتنع ثبوت الولاء لغير من وجب عليه الضمان
كما في الرجوع عن الشهادة على العتق, ثم لا يخفى أن إيراد
هذا الكلام من غير هذا المقام أنسب.
(2/421)
النوع الثاني: ما يلزم منه تبديل ذات الفعل
وكما أكره على البيع، والتسليم فالتسليم يقتصر عليه؛ لأنه
أكرهه على تسليم المبيع ولو جعل آلة يصير تسليم المغصوب
ويتبدل ذات الفعل أيضا والإعتاق، وإن كان لا يحتمل ذلك
لأنه من الأقوال لكن الإتلاف فعل يحتمله فينتقل إلى
الحامل، فيضمن ويكون الولاء للفاعل.
ـــــــ
الأقوال لكن الإتلاف فعل يحتمله" فالحاصل أن الإعتاق تصرف
قولي لكنه إتلاف نفي المعنى الأول لم يجعل آلة فيعتق على
الفاعل وفي المعنى الثاني, وهو الإتلاف يجعل آلة, فيضمن
الحامل فهذا معنى قوله "لكن لإتلاف فعل يحتمل, فينتقل إلى
الحامل, فيضمن ويكون الولاء للفاعل"; لأنه من حيث إنه
إعتاق يقتصر على الفاعل
(2/422)
القسم الثاني: الذي لا يلزم فيه تبديل محل الجناية
وإن لم يلزم منه التبديل يجعل آلة كإتلاف المال، والنفس،
فيصير كأنه ضربه عليه وأتلفه، فيخرج الفاعل من البين فيضاف
إلى الحامل ابتداء فموجب الجناية عليه فقط لكن في الإثم لا
يمكن جعله آية؛ لأنه أكرهه بالجناية على دينه ولو جعل آلة
لتبدل محل الجناية فيأثم كل منهما.
ـــــــ
"وإن لم يلزم منه التبديل" أي: وإن لم يلزم من جعله آلة
تبديل محل الجناية "يجعل آلة كإتلاف المال, والنفس, فيصير
كأنه ضربه عليه وأتلفه, فيخرج الفاعل من البين فيضاف إلى
الحامل ابتداء فموجب الجناية عليه فقط" أي: على الحامل فإن
كان عمدا يقتص هو فقط "لكن في الإثم لا يمكن جعله آية;
لأنه أكرهه بالجناية على دينه ولو جعل آلة لتبدل محل
الجناية فيأثم كل منهما والحرمات
.........................................................
قوله: "وإن لم يلزم منه" هذا هو القسم الثاني, وهو الذي لا
يلزم من جعل الفاعل آلة تبديل محل الجناية كإتلاف المال,
والنفس, وحكمه أن يضاف الحكم إلى الحامل ابتداء لا نقلا من
الفاعل إليه على ما ذهب إليه بعض المشايخ فموجب الجناية من
ضمان المال, والقصاص, والدية, والكفارة يجب على الحامل
ابتداء فلو أكرهه على رمي صيد, فأصاب إنسانا فالدية على
عاقلة الحامل, والكفارة عليه, ولو أكرهه على قتل الغير
عمدا فعند زفر رحمه الله تعالى القصاص على الفاعل; لأنه
(2/422)
أنواع الحرمات
والحرمات أنواع: حرمة لا تسقط بالإكراه، ولا تدخلها الرخصة
كالقتل والجرح، والزنا؛ لأن دليل الرخصة خوف الهلاك وهما
في ذلك سواء.
ـــــــ
أنواع: حرمة لا تسقط بالإكراه, ولا تدخلها الرخصة كالقتل
والجرح, والزنا; لأن دليل الرخصة خوف الهلاك وهما في ذلك
سواء" أي: القاتل والمقتول وإذا كان سواء لا يحل للفاعل
قتل غيره ليخلص نفسه
.........................................................
قتل لإحياء نفسه عمدا, وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لا
قصاص على أحد بل الواجب الدية على الحامل في ماله في ثلاث
سنين; لأن القصاص إنما هو بمباشرة جناية تامة, وقد عدمت في
كل من الحامل, والفاعل لبقاء الإثم في حق الآخر, وعند أبي
حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى القصاص على الحامل فقط; لأن
الإنسان مجبول على حب الحياة, فيقدم على ما يتوصل به إلى
بقاء الحياة بقضية الطبع بمنزلة آلة اختيارا لها كالسيف في
يد القاتل فيضاف الفعل إلى الحامل, وأما في حق الإثم
فالفاعل لا يصلح آلة; لأنه لا يمكن لأحد أن يجني على دين
غيره, ويكتسب الإثم لغيره لأنه قصد القلب, ولا يتصور القصد
بقلب الغير كما لا يتصور التكلم بلسان الغير, ولو فرضناه
آلة يلزم تبدل محل الجناية حينئذ تكون على دين الحامل, وهو
لم يأمر الفاعل بذلك, فينتفي الإكراه, وإذا لم يمكن جعله
آلة لزم نسبة الإثم إلى كل من الحامل, والفاعل أما الحامل
فلقصده قتل نفس محترمة, وأما الفاعل فلإطاعته المخلوق في
معصية الخالق, وإيثاره نفسه على من هو مثله, وتحقيقه موت
المقتول بما في وسعه, وفي هذا الكلام تصريح بأن لزوم تبدل
محل الجناية على تقدير جعل الفاعل آلة مفروض فيما لا يحتمل
كون الفاعل آلة, ولو ذهبنا إلى أن نفس القتل يحتمل ذلك لم
يكن لقوله لكن في الإثم لا يمكن جعله آلة معنى; لأن المعبر
في الاحتمال, وعدمه هو نفس الفعل.
قوله: "والحرمات أنواع" ما مر كان حكم الأفعال المكره
عليها في أنها بمن تتعلق, وإلى من تنسب, وهذا بيان الإقدام
عند الإكراه على الأفعال التي لا يجوز الإقدام عليها عند
الاختيار في أنه يكون حراما أو مباحا أو مرخصا فيه
فالحرمات إما أن تحتمل السقوط أو لا, والثاني إما أن تحتمل
الرخصة أو لا فهي بهذا الاعتبار ثلاثة أنواع: نوع لا يحتمل
السقوط, ولا الرخصة, ونوع يحتمل السقوط, ونوع يحتمل الرخصة
فقط, والثالث إما أن يكون في حقوق الله تعالى أو في حقوق
العباد, وحقوق الله تعالى إما أن تحتمل السقوط أو لا, ولكل
من هذه الأقسام حكم مبين في الكتاب.
قوله: "والزنا" يعني: زنا الرجل بالمرأة; لأنه الزاني
حقيقة, وإنما المرأة ممكنة من الزنا فزناها من قبيل ما
يحتمل الرخصة.
قوله: "لأن حرمة نفسه فوق حرمة يده" إذ في فوات النفس فوات
اليد من غير عكس هذا بالنسبة إلى صاحبها, وأما بالنسبة إلى
الغير فليس حرمة النفس فوق حرمة اليد لكن ليس حرمة يد
(2/423)
وكذا جرح للغير
لا جرح نفسه حتى لو أكره على قطع يده بالقتل حل له؛ لأن
حرمة نفسه فوق حرمة يده، ولا كذلك بالنسبة إلى الغير،
والزنا قتل معنى والثاني: حرمة تسقط كالميتة والخمر،
والخنزير فالإكراه الملجئ يبيحها؛ لأن الاستثناء من الحرمة
حل حتى إن امتنع أثم لا غير الملجئ
ـــــــ
"وكذا جرح الغير" أي: إذا أكره على جرح الغير بالقتل لا
يحل له الجرح "لا جرح نفسه حتى لو أكره على قطع يده بالقتل
حل له; لأن حرمة نفسه فوق حرمة يده, ولا كذلك بالنسبة إلى
الغير, والزنا قتل معنى" فإن ولد الزنا بمنزلة الهالك فإن
انقطاع نسبه من الغير هلاك فإن أكره على الزنا لا يحل له
الزنا "وحرمة تسقط كالميتة والخمر, والخنزير فالإكراه
الملجئ يبيحها; لأن الاستثناء من الحرمة حل" وهو قوله
تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ
إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} "حتى إن امتنع أثم لا
غير الملجئ" أي: لا يبيحها غير الملجئ لعدم الضرورة "وحرمة
لا تسقط لكن تحتمل الرخصة وهي إما من حقوق الله التي لا
تحتمل السقوط أبدا كإجراء كلمة الكفر, فإن الإيمان لا
يحتمل السقوط أبدا, وإما في حقوقه
.........................................................
غيره فوق حرمة ذلك الغير حتى لو أكرهه بالقتل على قطع يد
الغير لم يحل ذلك للفاعل, ولو فعل كان آثما كما في الإكراه
على القتل; لأن طرف المؤمن في الحرمة بمنزلة نفسه في حق
الغير حتى لا يحل للمضطر قطع طرف الغير ليأكله, وأما إلحاق
الأطراف بالأموال فإنما هو في حق صاحبها لا في حق الغير
فإن الناس يبذلون أموالهم صيانة لنفس الغير, ولا يبذلون
أطرافهم لذلك.
قوله: "والزنا قتل" أما من جهة أن من لا نسب له بمنزلة
الميت, وأما من جهة أنه لا تجب النفقة على الزاني لعدم
النسب, ولا على المرأة لعجزها عن ذلك, فيهلك الولد, والولد
في صورة كون المرأة متزوجة, وإن كان ينسب إلى الفراش, وتجب
نفقته على الزوج إلا أن الزوج ربما ينفي مثل هذا النسب,
فيهلك الولد.
قوله: "والإكراه الملجئ يبيحها" أي: يبيح المحرمات حرمة
تحتمل السقوط; لأنه قد استثني عن تحريم الميتة, ونحوها
حالة الاضطرار بمعنى أنه لا تثبت الحرمة فيها فتبقى
الإباحة الأصلية ضرورة, والإكراه الملجئ بخوف تلف النفس أو
العضو نوع من الاضطرار, وإن اختص الإضرار بالمخمصة تثبت
بالإكراه بدلالة النص لما فيه من خوف فوات النفس أو العضو
فلو امتنع المكره عن أكل الميتة, ونحوها حتى قتل كان آثما
إن كان عالما بسقوط الحرمة, وإن لم يعلم فيرجى أن لا يكون
آثما كذا في المبسوط, وأما الإكراه الغير الملجئ فلا يبيح
المحرمات لعدم الاضطرار لكنه يورث الشبهة حتى لو شرب الخمر
بالإكراه الغير الملجئ لا يحد.
قوله: "وحرمة لا تسقط" هذا هو النوع الثالث من أنواع
الحرمة, وهي حرمة لا تحتمل السقوط بمعنى أنه لا يحل
متعلقها قط لكن قد يرخص للعبد في فعله مع بقاء الحرمة, وهي
إما في حقوق
(2/424)
النوع الثلث: الحرمة التي تحتمل الرخصة
...
النوع الثالث: الحرمة التي تحتمل الرخصة
و الثالث حرمة لا تسقط و لكن تحتمل الرخصة و هي إما في
حقوق الله لا تحتمل السقوط أبدا كإجراء كلمة الكفر فإن
الإيمان في الجملة كالعبادات. فيرخص بالملجئ و إن صبر صار
شهيدا و قد مر في فصل الرخصة و زنا المرأة من هذا القسم
ـــــــ
تعالى التي تحتمل السقوط في الجملة كالعبادات فيرخص
بالملجئ, وإن صبر صار شهيدا وقد مر في فصل الرخصة وزنا
المرأة من هذا القسم إذ ليس فيه معنى قطع النسب بخلاف
زناه" أي: إذا أكرهت المرأة على الزنا بالملجئ رخص لها فإن
حرمة الزنا عليها حق الله تعالى وليس من باب الإكراه على
قتل النفس إذ في زنا المرأة ليس قطع النسب إذ لا نسب من
المرأة فلا يكون بمنزلة قتل النفس. بخلاف زنا الرجل فإنه
بمنزلة القتل; لأنه قطع النسب
.........................................................
الله تعالى أو في حقوق العباد بمعنى أن الحرام قد يكون
بترك حق من حقوق الله تعالى غير محتمل للسقوط كالإيمان أو
يحتمل له كالصلاة, وقد يكون بترك حق من حقوق العباد كعدم
التعرض لمال المسلم فالإكراه على إجراء كلمة الكفر على
اللسان إكراه على حرام لا تسقط حرمته, وهو ترك الإيمان
الذي هو حق من حقوق الله تعالى غير محتمل للسقوط بحال,
وذلك; لأن الكفر حرام صورة, ومعنى حرمة مؤبدة, وإجراء كلمة
الكفر كفر صورة إذ الأحكام متعلقة بالظاهر فتكون حراما
أبدا إلا أن الشارع رخص فيه بشرط اطمئنان القلب بالإيمان
بقوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ}, والإكراه على ترك الصلاة
إكراه على حرام لا يحتمل السقوط; لأن حرمة ترك الصلاة ممن
هو أهل للوجوب مؤبدة لا تسقط بحال لكن الصلاة حق من حقوق
الله تعالى محتمل للسقوط في الجملة بالأعذار, وكذا الصوم,
والحج, ونحو ذلك من العبادات.
قوله: "وزنا المرأة من هذا القسم" يعني: إذا أكرهت المرأة
على الزنا فتمكينها من الزنا حرام حرمة مؤبدة هي من حقوق
الله تعالى المحتملة للسقوط فإن حرمة الزنا حق الله فرخص
للمرأة مع بقاء الحرمة في الإكراه الملجئ, ولا يرخص في غير
الملجئ لكن يسقط الحد للشبهة, وفي كون حرمة الزنا مما
يحتمل السقوط نظر فالأولى أن يراد بقوله, وزنا المرأة من
هذا القسم أن حرمته من قبيل الحرمة التي لا تسقط لكن تحتمل
الرخصة ثم لا يخفى أن قوله, وهي أي: تلك الحرمة إما في
حقوق الله تعالى إلخ مشعر بأن تلك الحقوق تغاير تلك
الحرمة, ومتعلقاتها فإن الحرام هو إجراء كلمة الكفر, وحق
الله تعالى هو الإيمان, وفي العبادات الحرام هو ترك الصلاة
مثلا, وحق الله تعالى هي الصلاة, فيكون في قوله فإن حرمة
الزنا عليها حق الله تعالى تسامح, والتحقيق أن العصمة من
الزنا حق الله تعالى, وتركها حرام حرمة لا تسقط أبدا لكن
تحتمل الرخصة.
قوله: "ويحد هو" أي: يحد الرجل المكره على الزنا إكراها
غير ملجئ; لأن الإكراه الملجئ لا يكون رخصة في حقه كما في
حق المرأة حتى يكون غير الملجئ شبهة رخصة نعم لا يحد الرجل
(2/425)
إذ ليس فيه
معنى قطع النسب بخلاف زناه ولما رخص زناها بالملجئ لا تحد
بغير الملجئ للشبهة، ويحد هو وأما في حقوق العباد كإتلاف
مال المسلم وحكمه حكم أخويه ويجب الضمان لوجود العصمة.
ـــــــ
"ولما رخص زناها بالملجئ لا تحد بغير الملجئ للشبهة, ويحد
هو" أي: إذا أكرهت المرأة على الزنا بالملجئ يكون زناها
مرخصا فينبغي أنها إن زنت بالإكراه بغير الملجئ يكون في
زناها شبهة الرخصة فلا تحد, وأما الرجل فزناه لا يرخص
بالملجئ فإن زنى بغير الملجئ يحد لعدم شبهة الرخصة "وأما
في حقوق العباد كإتلاف مال المسلم وحكمه حكم أخويه" أي: في
أنه يرخص بالملجئ, وإن صبر صار شهيدا, والمراد بأخويه حرمة
لا تحتمل السقوط, وحرمة تحتمل السقوط لكنها لم تسقط, وهما
حق الله تعالى "ويجب الضمان لوجود العصمة" والله ولي
العصمة والتوفيق وبيده أزمة التحقيق "تم".
.........................................................
في الإكراه الملجئ استحسانا; لأن الحد للزجر, ولا حاجة
إليه عند الإكراه; لأنه كان منزجرا إلى حين خوف فوات النفس
أو العضو فالإقدام عليه رفع لذلك لا قضاء للشهوة, وانتشار
الآلة لا يدل على الطواعية; لأنه قد يكون طبعا بالفحولة
المركبة في الرجال.
قوله: "وأما في حقوق العباد" عطف على قوله أما في حقوق
الله تعالى فإتلاف مال المسلم حرام حرمة هي من حقوق
العباد; لأن عصمة المال, ووجوب عدم إتلافه حق للعباد,
والحرمة متعلقة بترك العصمة كما ذكر في حرمة إجراء كلمة
الكفر أن الإيمان حق الله تعالى, ومعنى كون الحرمة فيه
أنها متعلقة بتركه, وتلك الحرمة أعني: حرمة إتلاف مال
المسلم لا تسقط بحال; لأنه ظلم, وحرمة الظلم مؤبدة لكنها
تحتمل الرخصة حتى لو أكره على إتلاف مال المسلم إكراها
ملجئا رخص فيه; لأن حرمة النفس فوق حرمة المال; لأنه مهان
مبتذل ربما يجعله صاحبه صيانة لنفس الغير أو طرفه لكن
إتلاف مال المسلم في نفسه ظلم, وبالإكراه لا تزول عصمة
المال في حق صاحبه لبقاء حاجته إليه, فيكون إتلافه, وإن
رخص فيه باقيا على الحرمة فإن صبر على القتل كان شهيدا;
لأنه بذل نفسه لدفع الظلم كما إذا امتنع عن ترك الفرائض من
العبادات حتى قتل إلا أنه لما لم يكن في معنى العبادات من
كل وجه بناء على أن الامتناع عن الترك فيها من باب إعزاز
الدين قيدوا الحكم بالاستثناء فقالوا: كان شهيدا إن شاء
الله تعالى, ولما كانت الحرمة التي لا تسقط لكن تحتمل
الرخصة في حقوق العباد مثلها في حقوق الله تعالى المحتملة
للسقوط, وحقوق الغير المحتملة له قال: وحكمه حكم أخويه
بمعنى أن حكم هذا القسم حكم القسمين السابقين اللذين هما
قسمان لهذا القسم, وبهذا يظهر أن في قوله المراد بأخويه
حرمة لا تحتمل السقوط, وحرمة تحتمله لكن لم تسقط, وهما حق
الله تعالى تسامحا; لأن احتمال السقوط, وعدمه في القسمين
السابقين إنما هو صفة الحقوق لا صفة الحرمة نفسها, وذلك
كالإيمان, والصلاة فإن حرمة تركهما لا تسقط أصلا لكن نفس
الصلاة تحتمل السقوط في الجملة بالأعذار بخلاف الإيمان.
قوله: "ويجب الضمان" أي: يجب على من أكره غيره على إتلاف
مال المسلم ضمان ما أتلف;
(2/426)
لأن المال
معصوم حقا لصاحبه فلا يسقط بحال, وهذا الحكم معلوم مما سبق
أن في صورة الإكراه على إتلاف مال المسلم أو نفسه ينسب
الفعل إلى نفس الحامل, ويجعل الفاعل آلة إلا أن في ذكره
هاهنا تصريحا بالمقصود, وختما للكتاب على لفظ وجود العصمة
عصمنا الله تعالى بعونه الكريم عن اتباع الهوى, ووفقنا
الله تعالى بلطفه العميم لسلوك طريق الهدى إنه, ولي
العصمة, والتوفيق, ومنه الهداية إلى سواء الطريق, وقد اتفق
صبيحة يوم الاثنين التاسع, والعشرين من ذي القعدة سنة
ثمان, وخمسين, وسبعمائة أحسن الله تعالى العقبى في
اختتامها, وأجرى الخيرات فيما بقي من شهورها, وأيامها فراغ
بنان البيان, وأسنان الأقلام عن نظم ما جمعت من الفوائد,
ورقم ما سمعت من الفوائد, وضبط ما ركبت له مطايا الفكر في
ظمأ الهواجر, واقتحمت له موارد السهر في ظلم الدياجر,
وودعت في بغيته حبيب الدعة, ولذيذ الكرى, وعند الصباح يحمد
القوم السرى, والحمد لله على نعمه العظام, ومنحه الجسام,
والصلاة, والسلام على نبيه محمد, وآله, وأصحابه البررة
الكرام.
(2/427)
|