شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه ط العلمية

العوارض المكتسبة منها الجهل النوع الأول منه
وأما العوارض المكتسبة فهي إما من نفسه، وإما من غيره: أما الأول فمنها الجهل، وهو إما جهل لا يصلح عذرا كجهل الكافر؛ لأنه مكابرة بعدما وضح الدليل فديانة الكافر في حكم لا يحتمل التبدل باطلة فلا يكون للكفر حكم الصحة أصلاوأما في حكم يحتمله فدافعة للتعرض لهم فقط وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى هي دافعة له ولدليل الشرع في أحكام الدنيا استدراجا ومكرا وزيادة لإثمهم وعذابهم كأن الخطاب لم يتناولهم فيها.
ـــــــ
وأما في حكم يحتمله فدافعة للتعرض لهم فقط عند الشافعي رحمه الله تعالى" أي: ديانته دافعة للتعرض لهم لقوله عليه الصلاة والسلام: "اتركوهم وما يدينون" "فلا يحد الذمي بشرب الخمر وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى هي دافعة له" أي: للتعرض "ولدليل الشرع في أحكام الدنيا استدراجا ومكرا وزيادة لإثمهم وعذابهم كأن الخطاب لم يتناولهم فيها" أي: في أحكام الدنيا: اعلم أن الاستدراج تقريب الله تعالى العبد إلى العقوبة بالتدريج فتكون ديانتهم دافعة لدليل الشرع في أحكام الدنيا فيوهم تخفيفا لكنه تغليظ في الحقيقة كما بينا في فصل
.........................................................
الوصايا ارتفعت الضرورة, وصار الواجب كأنه هو المال إذ الخلف إنما يجب به الأصل, فيثبت الفاضل من حوائج الميت لورثته خلافة لا أصالة.
قوله: "وأما العوارض المكتسبة" أي: التي يكون لكسب العباد مدخل فيها بمباشرة الأسباب كالسكر أو بالتقاعد عن المزيل كالجهل, وهي إما أن تكون من ذلك المكلف الذي يبحث عن تعلق الحكم به كالسكر, والجهل, وإما أن تكون من غيره عليه كالإكراه فمن الأولى أي: التي تكون من المكلف الجهل, وهو عدم العلم عما من شأنه فإن قارن اعتقاد النقيض فمركب هو المراد بالشعور بالشيء على خلاف ما هو به, وإلا فبسيط, وهو المراد بعدم الشعور, وأقسامه فيما يتعلق بهذا المقام أربعة: جهل لا يصلح عذرا, ولا شبهة, وهو في الغاية, وجهل هو دونه, وجهل لا يصح شبهة, وجهل يصلح عذرا فالأول جهل الكافر بالله تعالى, ووحدانيته, وصفات كماله, ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام فإنه مكابرة أي: ترفع عن انقياد الحق, واتباع الحجة إنكارا باللسان, وإباء بالقلب بعد وضوح الحجة, وقيام الدليل فإن قلت: الكافر المكابر قد يعرف الحق, وإنما ينكره جحودا, واستكبارا قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً}, ومثل هذا لا يكون جهلا قلت: من الكفار من لا يعرف الحق, ومكابرته ترك النظر في الأدلة, والتأمل في الآيات, ومنهم من يعرف الحق, وينكره مكابرة, وعنادا قال الله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} الآية, ومعنى الجهل فيهم عدم التصديق المفسر بالإذعان, والقبول.
قوله: "ونحوها" أي: مثل المذكورات كهبة الخمر, والوصية بها, والتصدق بها, وأخذ العشر من قيمتها, وكذا الخنزير.

(2/377)


تفريعات
فيثبت عنده تقوم الخمر والضمان بإتلافها، وجواز البيع وصحة نكاح المحارم حتى إن وطئ فيه ثم أسلم يكون محصنا فإن العفة عن الزنا شرط لإحصان القذف فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن وطأه في هذا النكاح لا يكون زنا فيحد قاذفه وتجب به النفقة ولا يفسخ إلا أن يترافعا.
ـــــــ
خطاب الكفار بالشرائع أن الطبيب يعرض عن مداواة العليل عند اليأس, وصورة التخفيف, والإمهال توقعهم في زيادة ارتكاب المعاصي, وفي توهم الإهمال كما نطق به الحديث وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "أمهلناهم فظنوا أننا أهملناهم" وكما قال الله تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} وقال: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} وقال: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الآية "فيثبت عنده" أي: عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى "تقوم الخمر والضمان بإتلافها, وجواز البيع" ونحوها "وصحة نكاح المحارم حتى إن وطئ فيه" أي: في نكاح المحارم "ثم أسلم يكون محصنا فإن العفة عن الزنا شرط لإحصان القذف فعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن وطأه في هذا النكاح لا يكون زنا فيحد قاذفه وتجب به النفقة" أي: بنكاح المحارم "ولا يفسخ" أي: نكاح المحارم ما دام الزوجان كافرين "إلا أن يترافعا" ثم أقام الدليل على ثبوت تقوم الخمر في حقهم وثبوت الإحصان بنكاح المحارم بقوله; "لأن تقوم المال وإحصان النفس من باب العصمة, وهي الحفظ, فيكون في ثبوتهما الحفظ عن التعرض" تقريره أن ديانتهم تصلح دافعة للتعرض اتفاقا ودافعة لدليل الشرع في أحكام الدنيا أي: في الأحكام التي تصلح ديانتهم دافعة لها لا يتناولهم دليل الشرع في تلك الأحكام عندنا فإذا عرفت هذا فتقوم الخمر وإحصان النفس من باب دفع التعرض لا من باب التعدي إلى الغير
.........................................................
قوله: "فيحد قاذفه" أي: قاذف المسلم الذي وطئ في نكاح المحارم حال الكفر, وهذا تفريع على ثبوت الإحصان وقوله, وتجب به النفقة تفريع على صحة النكاح لا على ثبوت الإحصان, فلا يكون عطفا على قوله فيحد قاذفه بل على ما قبله, وكذا قوله: ولا يفسخ أي: نكاح المحارم برفع أحد الزوجين الكافرين الأمر إلى القاضي, وطلب حكم الإسلام إلا أن يجتمع الزوجان على الترافع فحينئذ يفسخ, وإذا لم تكن هذه الفروع الثلاثة متعلقة بثبوت الإحصان كان في تأخيرها عنه ثم إيراد الدليل على ثبوت الإحصان منضما إلى الدليل على تقوم الخمر نوع تعقيد, وسوء ترتيب, وإنما وقع في ذلك لتغييره أسلوب كلام فخر الإسلام رحمه الله تعالى حيث أورد هذا الكلام جوابا عما قال الشافعي رحمه الله تعالى إن ديانتهم تعتبر دافعة للتعرض لا للخطاب; لأن مجرد الجهل لا يصلح عذرا فكيف المكابرة, والعناد.؟, لكن أمرنا بتركهم, ما يدينون, وعدم التعرض لهذا بسبب عقد الذمة فلا يحد شاربهم لكن لا يثبت إيجاب الضمان على متلف الخمر, ولا صحة بيعها, ولا إيجاب النفقة على ناكحي المحارم, ولا الحد على قاذفه, فأجاب بأن تقوم المال, وإحصان النفس أيضا من باب العصمة, وهي الحفظ على التعرض فكانت الأحكام المذكورة من ضروريات ذلك.

(2/378)


اعتراض وجوابه
فإن قيل ديانتهم ليست حجة متعدية إجماعا فلا توجب ضمان الخمر وحد القذف، والنفقة كما في مجوسي غلب بنتين إحداهما لا ترث بالزوجية قلنا يثبت بديانتهم بقاء تقوم الخمر على ما كان فليس فيه إلا دفع دليل الشرع ثم هو شرط للضمان لا علته، وكذا الإحصان فلا يكون في إثباتهما إثبات الضمان والحد وأما النفقة فإنما تجب دفعها للهلاك فتكون دافعة لا متعدية، ولأنهما لما تناكحا دانا بصحته فيؤخذ الزوج بديانته ولا كذلك من ليس في نكاحهما كالوارث الآخر.
ـــــــ
فيثبتان "ولا يلزم الربا; لأنهم قد نهوا عنه" هذا جواب إشكال على أن ديانتهم معتبرة في ترك التعرض فإنه يجب أن يتركوا على ديانتهم في باب الربا أيضا, فأجاب بأن معتقدهم في الربا ليس هو الحل لقوله تعالى: "وَأكلهم الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ" وقد خطر ببالي على هذا الجواب نظر, وهو أن قوله: ديانتهم دافعة للتعرض اتفاقا, ودليل الشرع لا يراد به أن ديانتهم الصحيحة دافعة لهما فإن ديانة الكافر لا تكون صحيحة بل المراد أن معتقدهم وإن كان باطلا دافع كنكاح المحارم مثلا فإنه لا يحل في شريعة من الشرائع; لأن حله كان في شريعة آدم عليه الصلاة والسلام للضرورة ثم نسخ في شريعة نوح عليه الصلاة والسلام فارتكاب المجوس ذلك, وارتكاب أهل الكتاب الربا سيان والفرق بينهما صعب جدا ويمكن أن يقال حرمة الربا مذكورة في التوراة فارتكابهم ذلك يكون بطريق الفسق وحرمة نكاح المحارم غير مذكورة في كتب المجوس ولا يمكن لنا إلزامهم بما في كتبنا فافترقا.
"فإن قيل ديانتهم ليست حجة متعدية إجماعا فلا توجب ضمان الخمر وحد القذف, والنفقة كما في مجوسي غلب بنتين إحداهما لا ترث بالزوجية" اعلم أن الحكم في المقيس عدم وجوب الضمان وعدم وجوب حد القذف وعدم وجوب النفقة والحكم في المقيس عليه عدم الإرث فالحكمان مختلفان في الأصل والفرع لكنهما مندرجان تحت حكم واحد هو
.........................................................
"قوله: وأكلهم الربا, وقد نهوا عنه" من سهو القلم, والصواب {وَأَخْذِهِمُ الرِّبا}.
قوله: "فإن ديانة الكافر" يعني: ما يكون مختصا به مخالفا للإسلام لا تكون صحيحة بخلاف ما يوافق الإسلام كحرمة الزنا, وحرمة القتل بغير حق.
قوله: "بل المراد أن معتقدهم" أي: ما كان شائعا من دينهم متفقا عليه فيما بينهم سواء وردت به شريعتهم أو لم ترد, وسواء كان حقا أو باطلا دافع كنكاح المحارم في دين المجوسي, فإنه وإن كان باطلا غير ثابت في كتابهم إلا أنه شائع فيما بينهم لم تثبت حرمته عندهم, فيكون ديانة لهم بخلاف الربا عند اليهود فإن حرمته ثابتة في التوراة فارتكابه فسق منهم لا ديانة اعتقدوا حله, وليس المراد

(2/379)


الدليل على تقوم الخمر عند الكفار وثبوت الإحصان بنكاح المحارم
لأن تقوم المال وإحصان النفس من باب العصمة وهي الحفظ فيكون في ثبوتهما الحفظ عن التعرض ولا يلزم الربا لأنهم قد نهوا عنه.
وأما عندهما فكذلك أيضا إلا أن نكاح المحارم ليس حكما أصليا بخلاف تقوم الخمر بل كان ضروريا إذ في شريعة آدم عليه الصلاة والسلام لم يحل نكاح الأخت من بطن واحد وأيضا حد القذف يندرئ بالشبهة ولا تجب النفقة أيضا أما على الدليل الأول فظاهر وأما على الثاني فالنكاح، وإن صح لكن النفقة صلة مبتدأة فلا تجب كالميراث إذ لو وجبت تصير الديانة متعدية، والجواب أنها لدفع الهلاك وغناها لا يدفع الحاجة الدائمة بدوام الحبس.
ـــــــ
بمنزلة الجنس لهما, وهو أن ديانتهم غير متعدية "قلنا يثبت بديانتهم بقاء تقوم الخمر على ما كان فليس فيه إلا دفع دليل الشرع ثم هو" أي: التقوم "شرط للضمان لا علته, وكذا الإحصان" أي: إحصان المقذوف شرط لوجوب الحد على القاذف "فلا يكون في إثباتهما" أي: في إثبات التقوم, والإحصان "إثبات الضمان والحد" بل الضمان والحد إنما يثبتان بإتلاف الخمر, وبالقذف, وإنما يلزم القول بتعدي دياتهم لو أثبتنا الضمان والحد باعتقادهم التقوم, والإحصان ولم نفعل كذلك "وأما النفقة فإنما تجب دفعها للهلاك فتكون دافعة لا متعدية, ولأنهما لما تناكحا دانا بصحته فيؤخذ الزوج بديانته ولا كذلك من ليس في نكاحهما كالوارث الآخر" لأن تقوم المال وإحصان النفس من باب العصمة وهي الحفظ فيكون في ثبوتهما الحفظ عن التعرض ولا يلزم الربا لأن هم قد نهوا عنه جواب عن القياس المذكور وهو قوله: كما في مجوسي, وتقريره أن في إرث البنت التي هي زوجته ضررا بالوارث الآخر أي: البنت التي هي ليست زوجته, فتكون متعدية هنا "وأما عندهما فكذلك" اعلم أما ما ذكر هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى, وأما على قولهما فكذلك "أيضا" أي: ديانتهم دافعة للتعرض ولدليل الشرع في أحكام الدنيا "إلا أن نكاح المحارم ليس حكما أصليا بخلاف تقوم الخمر بل كان ضروريا إذ في شريعة آدم عليه الصلاة والسلام لم يحل نكاح الأخت من بطن واحد" أي: نكاح المحارم كان في شريعة آدم عليه الصلاة والسلام حكما ضروريا إذ لولا جوازه في ذلك العهد لا يحصل النسل أصلا, والدليل على هذا أن نكاح الأخت من بطن واحد لم يكن جائزا في شريعة آدم عليه السلام وكانت السنة الإلهية في ذلك الزمان ولادة ذكر مع أنثى من بطن
.........................................................
بمعتقدهم ما يعتقده بعض منهم كما إذا اعتقدوا حد جواز السرقة أو القتل بغير حق فإنه لا يكون دافعا أصلا, فالحاصل أن المراد بالديانة الدافعة هو المعتقد الشائع الذي يعتمد على شرع في الجملة قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في المبسوط إن نكاح المحارم, وإن حكم بصحته لا يثبت به الإرث; لأنه ثبت بالدليل جواز نكاح المحارم في شريعة آدم عليه الصلاة والسلام, ولم يثبت كونه سببا للميراث في دينه فلا يثبت سببا للميراث باعتقادهم, وديانتهم; لأنه لا عبرة لديانة الذمي في حكم إذا لم يعتمد على شرع.

(2/380)


النوع الثاني: الجهل الذي لا يصلح عذرا ودون الأول
وأما جهل كما ذكرنا لكنه دونه كجهل صاحب الهوى في صفات الله تعالى، وأحكام الآخرة؛ لأنه مخالف للدليل الواضح لكنه لما كان مؤولا للقرآن كان دون الأول ولما كان مسلما لزمنا مناظرته وإلزامه، فلا يترك على ديانته فلزمه جميع أحكام الشرع وكجهل الباغي، فيضمن بإتلاف مال العادل أو نفسه إلا أن يكون له
ـــــــ
واحد والمشروع أن يتزوج كل أنثى ذكر من بطن آخر, فكان النكاح بين التوأمين حرام ولا شك أن التوأمين مخلوقان من ماء اندفق دفعة واحدة, والولدان من بطنين مخلوقان من ماءين اندفقا دفعتين فالأخت من بطن واحد أقرب من أخت لا تكون كذلك ولما كانت الضرورة تنقضي بالبعد لم تحل القربى فعلم أن الأصل في نكاح المحارم الحرمة, وقد ثبت الحل بالضرورة فلما ارتفعت الضرورة بكثرة النسل نسخ حل الأخوات فعلى تقدير كون ديانتهم دافعة لدليل الشرع لا يثبت لهم حل نكاح المحارم إذ بعد قصر دليل الشرع عنهم يبقى الحكم على ما كان وهو الحرمة في نكاح المحارم بخلاف الخمر إذ بعد قصر دليلنا عنهم يبقى الحكم على ما كان, وهو الحل وإذا ثبت هذا فنكاح المحارم لا يكون مثبتا للإحصان ولا يحد قاذف من نكح المحارم ووطئ ثم أسلم.
"وأيضا حد القذف يندرئ بالشبهة" أي: سلمنا أن هذا النكاح صحيح في حقهم لكن شبهة عدم الصحة ثابتة في حقهم, فيندرئ حد القذف بها, فقوله وأيضا عطف على قوله أن نكاح المحارم إلخ, وكل واحد من المعطوف, والمعطوف عليه دليل على عدم وجوب الحد على قاذف من نكح المحارم ووطئ ثم أسلم فلهذا المعنى قال وأيضا "ولا تجب النفقة
.........................................................
قوله: "ولا كذلك من ليس في نكاحها" إشارة إلى الجواب عن القياس على مجوسي خلف بنتين إحداهما زوجته, وتقريره أن من ليس في نكاح المتناكحين يعني: البنت التي ليست بزوجة, وهو المراد بالوارث الآخر ليس بمنزلة زوج المحرم حتى يؤاخذ بديانته; لأن الضرر يلحقه من غير التزام منه, فيكون تعدية بخلاف تضرر الزوج بالنفقة فإنه بالتزامه فإن قيل: ينبغي أن تؤاخذ البنت الغير المنكوحة بديانتها, واعتقادها; لأنها مجوسية, ولا يلتفت إلى نزاعها في زيادة الميراث; لأنه بمنزلة نزاع الزوج في النفقة أجيب بأنه لا يصح نزاع الزوج; لأنه التزم هذه الديانة حيث نكح المحرم بخلاف البنت الغير المنكوحة.

(2/381)


منعة، فتسقط ولاية الإلزام وتجب علينا محاربته ولم يحرم الميراث بقتله لأن الإسلام جامع والقتل حق وكذا إن قتل عادلا لأنه حق في زعمه وولايتنا منقطعة عنه ولما كان الدار واحدة والديانة مختلفة تثبت العصمة من وجه فلا نملك ماله لكن لا نضمن بالإتلاف.
ـــــــ
أيضا" عطف على الحكم المفهوم من الدليلين المذكورين, ونعني بالحكم المفهوم عدم وجوب حد القذف "أما على الدليل الأول فظاهر" وهو أن حل نكاح المحارم ليس حكما أصليا وذلك; لأن الدليل الأول يوجب بطلان النكاح فلا تجب النفقة "وأما على الثاني" وهو أن حد القذف يندرئ بالشبهة "فالنكاح, وإن صح لكن النفقة صلة مبتدأة فلا تجب كالميراث إذ لو وجبت تصير الديانة متعدية", فالحاصل أن المراد بالشبهة لدرء حد القذف شبهة عدم صحة النكاح, فهذا الدليل مشعر بتسليم صحة نكاح المحارم, وكونها حكما أصليا في حقهم "والجواب" أي: جواب أبي حنيفة رحمه الله تعالى في النفقة "أنها لدفع الهلاك" فإيجاب النفقة بناء على ديانتهم لا يكون قولا بأن ديانتهم متعدية بل ديانتهم دافعة وذلك; لأن الزوج حابس للزوجة فإن حبسها بلا نفقة يكون متعرضا لها بالإهلاك فإيجاب النفقة دفع لهذا التعرض ثم ورد على هذا أن إيجاب النفقة ليس لدفع الهلاك بدليل وجوبها مع غنى المرأة, فأجاب بقوله "وغناها لا يدفع الحاجة الدائمة بدوام الحبس, وأما جهل كما ذكرنا" أي: لا يصلح عذرا, وهو عطف على قوله, وأما جهل لا يصلح عذرا "لكنه دونه" أي: دون الجهل الأول "كجهل صاحب الهوى في صفات الله تعالى, وأحكام الآخرة; لأنه مخالف للدليل الواضح لكنه لما كان مؤولا للقرآن كان دون الأول ولما كان مسلما لزمنا مناظرته وإلزامه, فلا يترك على ديانته فلزمه جميع أحكام الشرع وكجهل الباغي, فيضمن بإتلاف مال العادل أو
.........................................................
قوله: "وغناها" يعني: أن المال في نفسه إن قل, وإن كثر, والحاجة دائمة لإمكان الحياة إلى يوم القيامة.
قوله: "كجهل صاحب الهوى" مثل جهل المعتزلة بزيادة صفات الله تعالى على الذات, وكونه تعالى مرئيا في الجنة بالأبصار, وكونه خالقا للشرور, والقبائح, وبجواز الشفاعة لحط الكبائر, وجواز العفو عما دون الكفر, وعدم خلود الفساق في النار, وإنما لم يكن هذا الجهل عذرا لكونه مخالفا للدليل الواضح من الكتاب, والسنة, والمعقول, وإنما كان دون جهل الكافر; لأن صاحب الهوى مؤول للقرآن أي: يصرفه عن ظواهره الدالة على نقيض معتقده, ويحمله على وفق معتقده لا أن ينبذه وراء ظهره مثل الكافر, وفي عبارة فخر الإسلام رحمه الله تعالى أنه متأول بالقرآن أي: متمسك به صارف إياه إلى ما يوافق اعتقاده, وإنما لزمنا مناظرته, وإلزامه; لأنه مسلم ملتزم لأحكام الشرع معترف بحقية القرآن, ونبوة محمد عليه الصلاة والسلام.
قوله: "وكجهل الباغي" هو الخارج عن طاعة الإمام الحق بتأويل فاسد, وشبهة طارئة فإن كان

(2/382)


نفسه إلا أن يكون له منعة, فتسقط ولاية الإلزام وتجب علينا محاربته ولم يحرم الميراث بقتله لأن الإسلام جامع" أي: بيننا وبين الباغي, فيكون سبب الإرث موجودا "والقتل حق" فلا يكون مانعا من الإرث.
"وكذا إن قتل عادلا" أي: لا يحرم الباغي الإرث إن قتل عادلا "لأنه حق في زعمه وولايتنا منقطعة عنه ولما كان الدار واحدة والديانة مختلفة تثبت العصمة من وجه فلا نملك ماله لكن لا نضمن بالإتلاف" كما في غصب مال غير متقوم فإن الغاصب لا يملكه حتى
.........................................................
له منعة, فقد سقطت; ولأنه الإلزام لتعذره حسا, وحقيقة, فيعمل بتأويله الفاسد فلا يؤاخذ بضمان ما أتلف من مال أو نفس لكن يسترد منه ما كان في يده; لأنه لا يملكه, والمراد أنه يفتى بوجوب أداء الضمان فيما بينهم لكنهم لا يلزمون ذلك في الحكم; لأن تبليغ الحجة الشرعية قد انقطعت بمنعة قائمة حسا فيما يحتمل السقوط بخلاف الإثم, فإن المنعة لا تظهر في حق الشارع, ولا تسقط حقوقه, وإن لم يكن له منعة, فلا مانع من تبليغ الحجة, وإلزام الحكم فيؤاخذ بالضمان, ويجب علينا محاربة الباغي لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ولأن البغي معصية, ومنكر, ونهي المنكر فرض, وذلك بالقتال, وقيل: إنما تجب محاربتهم إذا اجتمعوا, وعزموا على القتال; لأنها إنما تجب بطريق الدفع.
"قوله: ولم يحرم الميراث بقتله" أي: قتل الباغي لوجود السبب مع عدم المانع إذ القتل إنما يكون مانعا إذا كان محظورا ليكون الحرمان جزاء, وعقوبة عليه لا إذا كان مأمورا به كقتل الباغي, والقتل رجما أو قصاصا, وكذا لا يحرم الباغي الميراث بقتل مورثه العادل; لأن قتله حق في زعم الباغي بناء على تأويله, وتمسكه بما عرضت له من الشبهة, وولايتنا منقطعة عنه لمكان المنعة فكان قتلهم أهل الحق في حق الأحكام لا في حق الأثام بمنزلة الجهاد; لأن انضمام المنعة, وانقطاع ولاية الإلزام إلى التأويل الفاسد يجعله بمنزلة الجهاد الصحيح في حق التوريث كما في حق الضمان, وهذا إذا قال الوارث كنت على الحق, وأنا الآن على الحق, وإلا فيحرم اتفاقا.
قوله: "ولما كان الدار واحدة" يعني: أن تملك المال بطريق الاستيلاء يتوقف على كمال اختلاف الدار, ووجوب الضمان بالإتلاف ينبئ عن كمال العصمة, وذلك عند اتحاد الدار من كل وجه فنحن لا نملك مال الباغي حتى إذا انكسرت شوكة البغاة نرد عليهم أموالهم لاتحاد الدار; لأنهم في دار الإسلام لكن لا تضمن أموالهم بالإتلاف; لأن اختلاف الديانة مع وجود المنعة يوجب شبهة اختلاف الدار فيوجب سقوط العصمة من وجه فلو قلنا بعدم الملك, وبوجوب الضمان جعلنا العصمة من وجه بمنزلة العصمة الكاملة, ولو قلنا بالملك, وعدم الضمان جعلنا اتحاد الدار بمنزلة اختلافها, ولو قلنا بالملك, والضمان كان متناقضا; لأن إثبات الملك معناه عدم الضمان فتعين القول بعدم الملك مع عدم الضمان كما في غصب غير المتقوم فإن قيل لا تناقض بين الملك, وضمان البدل كما في المغصوب قلنا لو ملكه لم يجب رده العينة, والملك بالضمان إنما يصح استنادا لا ابتداء.

(2/383)


مخالفة الكتاب أو السنة أو الإجماع بتأويل
وكجهل من خالف في اجتهاده الكتاب كمتروك التسمية عمدا والقضاء بالشاهد واليمين أو السنة المشهورة كالتحليل بدون الوطء والقصاص في مسألة القسامة أو الإجماع كبيع أم الولد حتى لا ينفذ قضاء القاضي فيه.
ـــــــ
يجب عليه رده, وأما إذا أتلف لا يجب عليه الضمان, وإنما لم يعكس; لأن القول بأنه يملك ماله مع القول بأنه يملك ماله مع التناقض "وكجهل من خالف في اجتهاده الكتاب كمتروك التسمية عمدا" فإن فيه مخالفة قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} "والقضاء بالشاهد واليمين" أي: يمين المدعي فإن فيه مخالفة قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} "أو السنة المشهورة كالتحليل بدون الوطء" على مذهب سعيد بن المسيب فإن فيه مخالفة حديث العسيلة "والقصاص في مسألة القسامة" فإنه إن وجد لوث أي: علامة القتل استحلف الأولياء خمسين يمينا عمدا كانت الدعوى أو خطأ, وهذا عند الشافعي رحمه الله تعالى, وأما عند مالك رحمه الله يقضى بالقود
.........................................................
قوله: "وكجهل من خالف في اجتهاده الكتاب" يريد أن الجهل إما أن يكون في نفس الدين, وأصوله, وهو الغاية أو لا, وهو دونه, وذلك إما أن تكون في أصول المذهب كما مر أو في فروعه, وذلك إما أن يكون مخالفا للقياس, وخبر الواحد, فيصلح عذرا أو للكتاب, والسنة المشهورة والإجماع, فيكون مثل جهل صاحب الهوى, وقيد السنة بالمشهورة, لأن مخالفة المتواتر تكون كفرا لكونه قطعيا, وفيه بحث; لأن الكتاب أيضا كذلك فمخالفته إنما لا تكون كفرا إذا لم يكن المتن قطعي الدلالة, ولا فرق في هذا بين الكتاب, والسنة, وأما عند قطعية المتن, والدلالة فالمخالف كافر لا محالة فلا بد هاهنا من تقييد الكتاب بأن لا يكون قطعي الدلالة, وتقييد السنة بأن تكون مشهورة أو تكون متواترة غير قطعية الدلالة فمن مخالفة الكتاب القول بحل متروك التسمية عمدا عند ذبحه تمسكا بقوله عليه الصلاة والسلام: "ذبيحة المسلم حلال, وإن لم يذكر اسم الله عليه", وبأن المؤمن ذاكر بقلبه التسمية, وإن تركها عمدا لقوله عليه الصلاة والسلام: "تسمية الله في قلب كل مؤمن", ومنها القول بجواز القضاء بشاهد, ويمين تمسكا بما روي أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قضى بشاهد ويمين, والعمل بخبر الواحد مع قيام نص الكتاب خطأ في الاجتهاد إلا أن نص الكتاب ليس بقطعي; لأن قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} يحتمل أن يكون حالا, فيكون قيدا للنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه, ويحتمل أن يراد بما لم يذكر اسم الله عليه الميتة أو ما ذكر عليه غير اسم الله لقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فإن الفسق هو ما أهل لغير الله به وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} يحتمل أن يكون بيانا لحصر البينة التي هي الشهادة المحضة في رجلين, ورجل, وامرأتين, وهذا لا ينافي ثبوت نوع آخر من البينة هي شهادة الواحد مع اليمين.

(2/384)


فوائد
الأولى: خلاصة حصر أنواع الجهل أنه: إما أن يكون في نفس الدين وأصوله أو في فروعه والثاني إما في فروع المذهب أو أصوله، والذي في فروعه إما أن يخالف الكتاب أو السنة المشهورة أو الإجماع / فيكون مثل جهل صاحب الهوى.
الثانية قيد السنة بالمشهور لأن مخالفة المتواترة مفر: لأنها قطعية.
مخالفة الكتاب الذي هو قطعي الدلالة كفر لا ظني الدلالة.
الرابعة قال الشافعية بحل كتروك التسمية عمدا عند ذبحه لقوله عليه السلام: "ذبيحة المسلم حلال" ولقوله: "ذكر الله في قلب كل مؤمن".
الخامسة لم يكفر من خالف الكتاب أو السنة المشهورة أو الإجماع لتأوله
ـــــــ
إن كانت الدعوى في العمد وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى, وفيه خلاف قوله عليه الصلاة والسلام: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر", وهذا وحديث العسيلة من المشاهير "أو الإجماع كبيع أم الولد" فإن إجماع الصحابة انعقد على بطلانه "حتى لا ينفذ قضاء القاضي فيه" متعلق بأول البحث, وهو أن الجهل ليس بعذر حتى إن قضى القاضي في هذه المسائل لا ينفذ قضاؤه لكونه مخالفا للكتاب أو السنة المشهورة أو الإجماع
.........................................................
ومن مخالفة السنة المشهورة أعني: قوله عليه الصلاة والسلام: "البينة على المدعي, واليمين على من أنكر" ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى في أحد قوليه في مسألة القسامة, وهي أن يوجد قتيل لا يدرى قاتله, وادعى الولي قتله على واحد أو جماعة من أنه إن ظهر لوث أي: علامة يغلب على الظن صدق دعواه يستحلف الولي خمسين يمينا, ثم يقضى له بالدية على عاقلة القاتل في صورة الخطأ, وأما في صورة العمد ففي القول الجديد يقضى بالدية على القاتل, وفي القديم بالقصاص, وهو مذهب مالك, وأحمد تمسكا بقوله عليه السلام لأولياء مقتول وجد في خيبر "أتحلفون, وتستحقون دم صاحبكم؟" أي: دم قاتل صاحبكم إلى آخر الحديث فظهر أن كلام المصنف رحمه الله تعالى في تقرير القولين ليس على ما ينبغي, وأنه لا جهة لتخصيص القصاص فإنه مخالف بقوله عليه الصلاة والسلام: "البينة للمدعي, واليمين على من أنكر" 1, وهو مشهور, ومن مخالفة الإجماع القول بجواز بيع أم الولد تمسكا بما روي عن جابر بن عبد الله أنه قال: كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله, وبأن المالية ثبتت بيقين, وارتفاعها بالولادة مشكوك, فإن الآثار الدالة على منع بيعها قد اشتهرت, وتلقاها القرن الثاني بالقبول فصار مجمعا عليه.
ـــــــ
1 رواه البخاري في كتاب الرهن باب 6. الترمذي في كتاب الأحكام باب 12. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 7. بلفظ "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه".

(2/385)


فمثلا آية {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} هذه الجملة يحتمل أن تكون حالا فيكون قيدا للنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه. ويحتمل ما ذكر عليه اسم الصليب مثلا.
السادسة: القضاء بشاهد ويمين مذهب من تمسك بحديث قضى رسول الله بشاهد ويمين فهو خطأ في الاجتهاد.
السابعة: آية الشاهدين بينت نوعا من البينة وحديث الشاهد واليمين بين نوعا آخر على مذهب من أجاز ذلك.
الثامنة: من أجاز بيع أمهات الأولاد تمسك بما روي عن جابر بن عبد الله أنه قال: كنا نبيع أمهات الأولاد على عهد رسول الله. ولكن الأدلة على المنع اشتهرت في القرن الثاني وتلقاها الناس بالقبول. فصار المنع مجمعا عليه.

(2/386)


النوع الثالث: الجهل الذي يصلح شبهة
وإما جهل يصلح شبهة، كالجهل في موضع الاجتهاد الصحيح أو في موضع الشبهة كمن صلى الظهر بلا وضوء ثم العصر به زاعما صحة ظهره ثم قضى
ـــــــ
"وأما جهل يصلح شبهة" عطف على النوعين المذكورين في الجهل "كالجهل في موضع الاجتهاد الصحيح" أي: غير مخالف للكتاب أو السنة المشهورة أو الإجماع "أو في موضع الشبهة كمن صلى الظهر بلا وضوء ثم العصر به" أي: بالوضوء زاعما صحة ظهره "ثم تذكر أنه صلى الظهر بلا وضوء" ثم قضى الظهر "بناء على هذا التذكر" ثم صلى المغرب على ظن أن العصر جائز بناء على جهله بفرضية الترتيب "يصح المغرب; لأن الترتيب مجتهد فيه" فلا يضر جهله فلا تجب عليه إعادة المغرب كما يجب قضاء العصر عندنا; لأنه أداه زاعما صحة ظهره وهذا زعم بخلاف الإجماع وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يجب قضاء العصر لعدم فرضية الترتيب عنده هذا إذا كان يزعم وقت أداء المغرب أن عصره جائز أما لو علم وقت أداء المغرب أن عصره لم يجز كان عليه إعادة المغرب كما يجب قضاء العصر "وإن لم يقض الظهر وصلى العصر بناء على ظن أن الظهر جائز" أي: صلى الظهر بلا وضوء
.........................................................
قوله: "كمن صلى الظهر" أورد مسألتين: أولاهما مثال للجهل في موضع الاجتهاد الصحيح, والثانية تتميم, وتكميل للأولى لا مثال آخر; لأن فيها مخالفة الإجماع فلا يكون الاجتهاد صحيحا.
قوله: "ولم يقض الظهر بناء" أي: بنى عدم قضاء الظهر على أنه لم يكن عالما بعدم الوضوء حين صلى, وأن الصلاة المؤداة بغير وضوء من غير علم بذلك لا يجب قضاؤها, وهذا مخالف للإجماع.

(2/386)


الظهر ثم صلى المغرب على ظن أن العصر جائز بناء على جهله بفرضية الترتيب يصح المغرب؛ لأن الترتيب مجتهد فيه وإن لم يقض الظهر وصلى العصر بناء على ظن أن الظهر جائز لم يصح العصر.
وإذا عفا أحد الوليين ثم اقتص الآخر على ظن أن القصاص لكل واحد على الكمال فلا قصاص عليه؛ لأنه موضع الاجتهاد وكذا المحتجم إذا ظن أنه أفطر، فأكل عمدا فلا كفارة عليه ومن زنى بجارية امرأته أو والده بظن أنها تحل له لا يحد؛ لأنه موضع الاشتباه فتصير شبهة في درء الحد إلا في النسب، والعدة وكذا حربي أسلم فدخل دارنا فشرب خمرا جاهلا بالحرمة لا إن زنى هو أو شرب ذمي أسلم.
ـــــــ
ثم العصر بوضوء زاعما صحة الظهر, ولم يقض الظهر بناء على أنه غير عالم بعدم الوضوء فإن من صلى صلاة بغير وضوء جاهلا أن لا وضوء له ثم توضأ, وصلى فرضا آخر ثم تذكر أنه كان على غير وضوء فالفرض الثاني غير صحيح في ظاهر الرواية خلافا لحسن بن زياد فإن عنده إنما يجب رعاية الترتيب على من يعلمه, وأيضا فيه خلاف زفر رحمه الله فإنه يقول إذا كان عنده أن الفرض الأول يجزيه فهو في معنى الناسي للفائتة فيجزيه الفرض الثاني "لم يصح العصر" أي: صلى الظهر بلا وضوء ثم العصر بوضوء زاعما صحة الظهر ولم يقض الظهر لم يصح العصر; لأن زعمه مخالف "للإجماع, والمسألة المستشهد بها هي الأولى لا الثانية وإذا عفا أحد الوليين ثم اقتص الآخر على ظن أن القصاص لكل واحد على الكمال فلا قصاص عليه; لأنه موضع الاجتهاد" فإن عند البعض لا يسقط القصاص فصار هذا شبهة في درء القصاص عن قاتل القاتل "وكذا المحتجم إذا ظن أنه أفطر, فأكل عمدا فلا كفارة عليه"; لأن قوله عليه الصلاة والسلام: "أفطر الحاجم والمحجوم" صار شبهة في درء
.........................................................
قوله: "وإذا عفا أحد الوليين, واقتص الآخر" بجهله بالعفو أو بأن عفو أحد الأولياء يسقط القود فعليه الدية لا القصاص; لأن هذا جهل في موضع الاجتهاد; ولما ذهب إليه بعض أهل المدينة من أن القصاص إذا ثبت لوليين كان لكل منهم التفرد بالقتل حتى لو عفا أحدهما كان للآخر القتل إلا أن الظاهر أن هذا مخالف للإجماع فلا يكون اجتهادا صحيحا بل هو جهل في موضع الاشتباه لأنه علم بوجوب القصاص وما ثبت فالظاهر بقاؤه وأيضا الظاهر عدم نفاذ التصرف في حق الغير فيكون محل الاشتباه, ويصير شبهة في درء الحد.
قوله: "إذ هذه الكفارة" يعني: كفارة الصوم تندرئ بالشبهة لترجيح جانب العقوبة فيها, وهذا إذا استفتى فقيها, فأفتاه بفساد الصوم فحصل له الظن بذلك أو بلغه الحديث أعني: قوله عليه السلام: "أفطر الحاجم والمحجوم" 1, ولم يعرف نسخه, ولا تأويله, وإلا فعليه الكفارة اتفاقا, وعند أبي
ـــــــ
1رواه البخاري في كتاب الصوم باب 32. أبو داود في كتاب الصوم باب 26. أحمد في مسنده 2/364.

(2/387)


النوع الرابع: الجهل الذي يصلح عذرا
وأما جهل يصلح عذرا كجهل مسلم لم يهاجر بالشرائع وكذا إذا نزل خطاب، ولم ينتشر بعد في دارنا كما في قصة أهل قباء وقصة تحريم الخمر فأما إذا انتشر التبليغ في ديارنا فقد تم التبليغ فمن جهل هنا يكون لتقصيره كمن لم يطلب الماء في العمرانات فتيمم وكان الماء موجودا لا يصح، وكذا الجهل بأنه وكيل أو مأذون حتى إن تصرف لا يصح وكذا جهل الوكيل بالعزل، والمأذون بالحجر والمولى بجناية العبد الجاني، والشفيع بالبيع والأمة المنكوحة بالإعتاق أو بالخيار والبكر بالنكاح لا بالخيار.
دليل ما تقدم
لأن الدليل مشهور في حقها وفي حق الأمة مخفي ولأن البكر تريد إلزام الفسخ والأمة تريد دفع زيادة الملك حتى يشترط القضاء ثمة لا هنا.
ـــــــ
الكفارة إذ هذه الكفارة مما يندرئ بالشبهة وكذا القصاص في المسألة السابقة "ومن زنى بجارية امرأته أو والده بظن أنها تحل له لا يحد; لأنه موضع الاشتباه فتصير شبهة في درء الحد" حتى يندرئ الحد بهذه الشبهة "إلا في النسب, والعدة" أي: لا يثبت النسب والعدة بهذه الشبهة, وإن كانا يثبتان بالوطء بشبهة. "وكذا حربي أسلم فدخل دارنا فشرب خمرا جاهلا بالحرمة" أي: لا يحد; لأن جهله يكون شبهة "لا إن زنى هو" أي: زنى حربي أسلم حيث يحد; لأن جهله في حرمة الزنا لا يكون شبهة; لأن الزنا حرام في جميع الأديان "أو شرب ذمي أسلم" أي: يجب الحد; لأن حرمة الخمر شائعة في دار الإسلام والذمي ساكن فيها فلا يعذر بالجهل بحرمة الخمر فلا يصير شبهة في درء الحد ", وأما جهل يصلح عذرا" هذا هو النوع
.........................................................
يوسف تجب الكفارة, وإن كان ظنه مستندا إلى الحديث; لأنه ليس للعامي الأخذ بظواهر الأخبار, وإنما التمسك بها للفقهاء, والقول بفساد الصوم بالحجامة, وإن كان قد ذهب إليه الأوزاعي إلا أنه ليس اجتهادا صحيحا لمخالفته الإجماع.
وقوله: "ومن زنى بجارية امرأته أو والده يظن أنها تحل له" بناء على أن مال الزوجة مال الزوج من وجه لفرط الاختلاط أو حل الزوجة يوجب حل مملوكتها, وأن ملك الأصل ملك الجزء أو حلال له فهذا شبهة اشتباه أعني: الشبهة في الفعل, وهي أن يظن ما ليس بدليل الحل دليلا, فيظن الحل, فيسقط الحد للشبهة لكن لا يثبت النسب, ولا تجب العدة; لأن الفعل قد تمحض زنا بخلاف شبهة الحل, وتسمى شبهة الدليل, وهي أن يوجد الدليل الشرعي النافي للحرمة لكن تخلف الحكم عنه لمانع كما إذا وطئ جارية الابن فإنه يسقط الحد, ويثبت النسب, والعدة; لأن الفعل لم يتمحض زنا نظرا إلى الدليل أعني: قوله عليه السلام: "أنت ومالك لأبيك" 1, وأما شبهة جارية الأخ أو الأخت فليست محلا للاشتباه لا شبهة فعل, ولا شبهة محل فلا يسقط الحد.
قوله: "وأما جهل يصلح عذرا" كمن أسلم في دار الحرب, ولم يهاجر إلى دار الإسلام فجهله
ـــــــ
1 رواه ابن ماجه في كتاب التجارات باب 64. أحمد في مسنده 2/179، 204، 214.

(2/388)


من العوارض السكر
ومنها السكر هو وإما بطريق مباح كسكر المضطر، والسكر بدواء، وبما يتخذ من الحنطة أو الشعير أو العسل وهو كالإغماء يمنع صحة جميع التصرفات حتى الطلاق، والعتاق وأما بطريق محظور كالسكر من شراب محرم أو مثلث؛ لأنه إنما يحل بشرط أن لا يسكر فالسكر به يصير كالسكر بالمحرم فيحد به وهو لا ينافي
ـــــــ
الرابع من الجهل "كجهل مسلم لم يهاجر بالشرائع وكذا إذا نزل خطاب, ولم ينتشر بعد في دارنا كما في قصة أهل قباء" فإنهم إذ بلغهم تحويل القبلة وكانوا في الصلاة استداروا إلى الكعبة فاستحسن رسول الله عليه الصلاة والسلام وكانوا يقولون: كيف صلاتنا إلى بيت المقدس قبل علمنا بالتحويل, فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: صلاتكم إلى بيت المقدس "وقصة تحريم الخمر" {لما نزل تحريم الخمر قال الصحابة يا رسول الله فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر, ويأكلون مال الميسر أي: بعد التحريم قبل بلوغ الخطاب إليهم؟ فنزل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا}.
"فأما إذا انتشر التبليغ في ديارنا فقد تم التبليغ فمن جهل هنا يكون لتقصيره كمن لم يطلب الماء في العمرانات فتيمم وكان الماء موجودا لا يصح, وكذا الجهل بأنه وكيل أو
.........................................................
بالأحكام من الصلاة, والصوم, ونحو ذلك يكون عذرا له في الترك حتى لا يجب بعد المهاجرة قضاء مدة اللبث في دار الكفر; لأنه لا بد من سماع الخطاب حقيقة أو تقديرا بشهرته في محله.
قوله: "فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} " المذكور في عامة التفاسير أنها نزلت حين نزول آية التوجه إلى الكعبة فقالوا: كيف من مات قبل التحويل من إخواننا؟.
قوله: "وقصة تحريم الخمر" هي أن بعض الصحابة كانوا في سفر فشربوا الخمر بعد التحريم لعدم علمهم بحرمتها فنزل {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا}, وعن ابن كيسان أنه لما نزل تحريم الخمر, والميسر قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا, وقد شربوا الخمر, وأكلوا الميسر, وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون بتحريمها, وهم يطعمونها فنزلت.

(2/389)


الخطاب لقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} فهذا خطاب متعلق بحال السكر فهو لا يبطل الأهلية أصلا، فيلزمه كل الأحكام، وتصح عباراته وإنما ينعدم به القصد حتى إن تكلم بكلمة الكفر لا يرتد استحسانا لعدم ركنه وهو القصد كما إذا أراد أن يقول: اللهم أنت ربي، وأنا عبدك فجرى على لسانه عكسه لا يرتد.
وإذا أسلم يصح كالمكره وإذا أقر بما يحتمل الرجوع كالزنا، وشرب الخمر لا يحد حتى يصحو فيقر؛ لأن السكر دليل الرجوع، وإذا أقر بما لا يحتمله كالقصاص والقذف وغيرهما أو باشر سبب الحد يلزمه لكن إنما يحد إذا صحا وحده اختلاط الكلام وزاد أبو حنيفة رحمه الله تعالى أن لا يعرف الأرض من السماء لوجوب الحد فقط.
ـــــــ
مأذون" أي: يكون عذرا "حتى إن تصرف لا يصح" أي: من الموكل فإن شراء الوكيل قبل العلم بالوكالة يقع عن الوكيل ولو باع مال الموكل قبل العلم بالوكالة يتوقف كبيع الفضولي "وكذا جهل الوكيل بالعزل, والمأذون بالحجر والمولى بجناية العبد الجاني, والشفيع بالبيع والأمة المنكوحة بالإعتاق أو بالخيار والبكر بالنكاح لا بالخيار" أي: جهل الوكيل بالعزل وجهل المأذون بالحجر عذر حتى إن تصرفا قبل العلم بالعزل والحجر يصح تصرفهما وكذا جهل المولى بجناية العبد الجاني عذر حتى لو باع العبد الجاني قبل العلم بالجناية لا يكون مختارا للفداء وكذا جهل الشفيع بالبيع حتى لو باع الشفيع الدار المشفوع بها بعد ما بيعت دار بجنبها لكن قبل علمه ببيعها لا يكون مسلما للشفعة, والأمة المنكوحة إذا جهلت أن المولى أعتقها فسكتت عن فسخ النكاح فجهلها عذر حتى لا يبطل خيارها, وكذا إذا علمت بالإعتاق, ولكن جهلت أن لها خيار العتق فجهلها عذر حتى لا يبطل خيارها وإذا بلغت البكر التي زوجها غير الأب, والجد جاهلة بالنكاح فسكتت فجهلها عذر فلا يكون سكوتها رضى أما إذا علمت بالنكاح وجهلت بأن لها الخيار لا يكون جهلها عذرا حتى يبطل خيارها إذ جهلها بالأحكام الشرعية ليس بعذر "لأن الدليل مشهور في حقها"; لأن طلب العلم واجب عليها
.........................................................
قوله: "والبكر" أي:, وكجهل البكر بالنكاح فيما إذا زوجها, ولي غير الأب أو الجد من الكفء بمهر المثل أو زوجها الأب أو الجد من غير الكفء أو بغبن فاحش فإنه يكون عذرا حتى يكون لها الفسخ بعد العلم بالنكاح, وأما إذا زوجها الأب أو الجد من الكفء بمهر المثل لم يكن لها الفسخ لكمال النظر, ووفور الشفقة, ولو زوجها غير الأب, والجد من غير كفء أو بغبن فاحش لم يصح النكاح أصلا, وإنما صرحت بذلك; لأنه قد اشتهر في بعض البلاد نقلا عن المصنف رحمه الله تعالى أنه يصح النكاح في هذه الصورة لكن يكون لها الفسخ, وهكذا أورده في شرحه للوقاية, ولا يوجد له رواية أصلا.
قوله: "لأن طلب العلم واجب عليها" أي: على البكر, وتقرير القوم أن جهل البكر بالخيار ليس

(2/390)


فدلائل الشرع يجب أن تكون مشهورة في حقها فبالجهل لا تعذر "وفي حق الأمة مخفي"; لأن خدمة المولى تشغلها عن التعلم فالدليل مخفي في حقها فتعذر بالجهل "ولأن البكر تريد إلزام الفسخ والأمة تريد دفع زيادة الملك", هذا فرق آخر بين البكر والأمة في أن الأمة تعذر بالجهل لا البكر, وتقريره أن البكر تريد إلزام الفسخ على الزوج والمعتقة تريد بالفسخ دفع زيادة الملك فإن طلاق الأمة ثنتان, وطلاق الحرة ثلاثة, والجهل عدم أصلي يصلح للدفع لا للإلزام, وهذا الفرق أحسن من الأول; لأن البكر قبل البلوغ لم تكلف بالشرائع لا سيما في المسائل التي لا يعرفها إلا أحذق الفقهاء حتى يشترط القضاء ثمة لا هنا تفريع على أن فسخ النكاح بخيار البلوغ إلزام ضرورة وبخيار العتق دفع ضرر.
"ومنها السكر هو وإما بطريق مباح كسكر المضطر, والسكر بدواء, كالبنج, والأفيون" وبما يتخذ من الحنطة أو الشعير أو العسل وهو كالإغماء "يمنع صحة جميع التصرفات حتى الطلاق, والعتاق وأما بطريق محظور كالسكر من شراب محرم أو مثلث; لأنه إنما يحل" أي: المثلث "بشرط أن لا يسكر فالسكر به يصير كالسكر بالمحرم فيحد به" أي: بالسكر من المثلث "وهو" أي: القسم الثاني من السكر, وهو السكر بشراب محرم أو بالمثلث "لا ينافي الخطاب لقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ
.........................................................
بعذر لاشتهار العلم في دار الإسلام, وعدم المانع من التعلم في جانبها بخلاف الأمة فإن اشتغالها بخدمة السيد مانع, وعلى هذا الإيراد الاعتراض بأن البكر قبل البلوغ لم تكلف بالشرائع لا سيما بالمسائل الخفية.
قوله: "حتى يشترط للقضاء ثمة" أي: في فسخ البكر بعد البلوغ لا هنا أي: لا في فسخ المعتقة; لأن فسخ البكر للإلزام على الغير, وتوهم ترك النظر من الولي, وهو غير متيقن فلا يتم إلا بالقضاء حتى لو مات أحدهما بعد الفسخ قبل القضاء يرثه الآخر, وفسخ المعتقة يثبت بنفس الخيار; لأنه لدفع زيادة الملك, ولا سبيل إليه إلا بدفع أصل الملك فلا يفتقر إلى القضاء, وتحقيق ذلك أن المرأة تبطل حقا مشتركا لدفع زيادة حق عليها, والزوج يثبت زيادة حق عليها لاستيفاء حق مشترك فلهذا جعلنا الدفع في حق المرأة قصدا, وإبطال الملك ضمنا, وفي حق الزوج زيادة الملك أصلا, واستيفاء ضمنا.
قوله: "ومنها" أي:, ومن العوارض المكتسبة السكر, وهي حالة تعرض للإنسان من امتلاء دماغه من الأبخرة المتصاعدة إليه, فيتعطل معه عقله المميز بين الأمور الحسنة, والقبيحة, والسكر حرام إجماعا إلا أن الطريق المفضي إليه قد يكون مباحا كسكر المضطر إلى شرب الخمر, والسكر الحاصل من الأدوية, والأغذية المتخذة من غير العنب, والغذاء ما ينفعل عن الطبيعة فتنصرف فيه, وتحيله إلى مشابهة المتغذي, فيصير جزءا منه, وبدلا عما يتحلل, والدواء ما يكون فيه كيفية خارجة عن الاعتدال بها تنفعل الطبيعة عنه, وتعجز عن التصرف فيه, وقد يكون محظورا كالسكر الحاصل من الخمر التي يحرم قليلها وكثيرها أو من المثلث, وهو عصير العنب إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم رقق بالماء, وترك حتى اشتد يحل شربه عند أبي حنيفة, وأبي يوسف لاستمراء الطعام, والتقوي على قيام الليالي, وصيام الأيام, وأما على قصد السكر فلا حتى لو سكر منه يحد اتفاقا, وأما نقيع الزبيب

(2/391)


سُكَارَى} " فهذا خطاب متعلق بحال السكر فهو لا يبطل الأهلية أصلا, فيلزمه كل الأحكام, وتصح عباراته وإنما ينعدم به القصد حتى إن تكلم بكلمة الكفر لا يرتد استحسانا لعدم ركنه وهو القصد كما إذا أراد أن يقول: اللهم أنت ربي, وأنا عبدك فجرى على لسانه عكسه لا يرتد وإذا أسلم يصح كالمكره وإذا أقر بما يحتمل الرجوع كالزنا, وشرب الخمر لا يحد حتى يصحو فيقر; لأن السكر دليل الرجوع, وإذا أقر بما لا يحتمله كالقصاص والقذف وغيرهما أو باشر سبب الحد يلزمه لكن إنما يحد إذا صحا وحده اختلاط الكلام أي: حد السكر والمراد به الحالة المميزة بين السكر, والصحو
.........................................................
وهو الماء الذي ألقي فيه الزبيب ليخرج منه حلاوته فإن لم يطبخ حتى اشتد, وغلا, وقذف بالزبد فهو حرام, وإن طبخ أدنى طبخ يحل شرب القليل منه في ظاهر الرواية.
قوله: "حتى الطلاق, والعتاق" صرح بذلك نفيا لما روي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الرجل إذا كان عالما بفعل البنج, فأكله يصح طلاقه, وعتاقه.
قوله: "فهذا خطاب متعلق بحالة السكر" ليس المراد أن قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سُكَارَى} قيد للخطاب أعني: لا تقربوا حتى يلزم أن يكون الخطاب في حالة سكرهم بل هو قيد لما تعلق به خطاب المنع وتحقيق ذلك أن الحال في مثل, صل, وأنت صالح أو لا تصل, وأنت سكران ليس قيدا للأمر, والنهي بل للمأمور به, والمنهي عنه بمعنى أطلب منك صلاة مقرونة بالصحو, وكف النفس عن الصلاة المقرونة بالسكر, وذلك; لأن العامل في الحال هو فعل المذكور لا فعل الطلب فقوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} فيمن جعله حالا من قوله: {أَوْفُوا} يكون قيدا للإيفاء لا لطلبه حتى يلزم عدم وجوب الإيفاء عند كونهم محلين للصيد أي: معترضين له في الإحرام فالمعنى أنهم خوطبوا في حالة الصحو بأن لا يقربوا الصلاة حالة السكر, فيلزم كونهم مخاطبين أي: مكلفين بذلك حال السكر فلا يكون السكر منافيا لتعلق الخطاب, ووجوب الانتهاء فالسكر من الشراب المحرم أو المثلث لا يبطل أهلية الخطاب أصلا لتحقق العقل, والبلوغ إلا أنه يمنع استعمال العقل بواسطة غلبة السرور, فيلزمه جميع التكاليف من الصلاة, والصوم, وغيرهما, وإن كان لا يقدر على الأداء, ولا يصح منه الأداء, وتصح عباراته في الطلاق, والعتاق, والبيع, والإقرار وتزويج الصغار, والتزوج, والإقراض, والاستقراض, وسائر التصرفات سواء شرب مكرها أو طائعا, وذلك; لأن مبنى الخطاب على اعتدال الحال, وقد أقيم البلوغ عن العقل مقامه تيسيرا, وبالسكر لا يفوت إلا قدرة فهم الخطاب بسبب هو معصية فيجعل في حكم الموجود زجرا له, ويبقى التكليف متوجها في حق الإثم, ووجوب القضاء بخلاف ما إذا كان بآفة سماوية كالنوم فإنه يصلح عذرا دفعا للحرج.
قوله: "وإذا أسلم" أي: السكران إن أسلم يصح ترجيحا لجانب الإيمان, وكون الأصل هو الاعتقاد فلو تكلم بكلمة الكفر لا يرتد; لأن الاعتقاد لا يرتفع إلا بالقصد إلى تبدله أو بما يدل عليه ظاهرا وهو التكلم في حالة يعتبر فيها القصد, وهي حالة الصحو, وهذا كالمكره يصح إسلامه, ولا يصح ارتداده.

(2/392)


حكم الهزل
ومنها الهزل: وهو أن لا يراد باللفظ معناه لا الحقيقي ولا المجازي، وهو ضد الجد، وهو أن يراد به أحدهما وشرطه أن يشترط باللسان لا يعتبر دلالته ولا يشترط كونه في نفس العقد.
ـــــــ
"وزاد أبو حنيفة رحمه الله تعالى أن لا يعرف الأرض من السماء لوجوب الحد فقط".
"ومنها الهزل وهو أن لا يراد باللفظ معناه لا الحقيقي ولا المجازي, وهو ضد الجد, وهو أن يراد به أحدهما وشرطه أن يشترط باللسان لا يعتبر دلالته" أي: دلالة الهزل أي: شرط الهزل أن تجري المواضعة قبل العقد بأن يقال: نحن نتكلم بلفظ العقد هازلا "ولا يشترط كونه" أي: كون
.........................................................
قوله: "لأن السكر دليله الرجوع" إذ السكران لا يستقر على أمر فيقام مقام الرجوع; لأن حقوق الله تعالى مبنية على المساهلة بخلاف ما إذا أقر بما لا يحتمل الرجوع كالقصاص, والقذف أو باشر سبب الحد بأن زنى أو قذف في حالة السكر فإنه لا يسقط عنه الحد أما في الإقرار بما لا يحتمل الرجوع فلأنه لا يسقط بصريح الرجوع فكيف بدليله, وأما في المباشرة فلأنه معاين, فلا أثر لدليل الرجوع لكن يتوقف في إقامة الحد إلى الصحو ليحصل الانزجار فإن قلت: السكر موجب للحد فإذا تحقق أنه سكران فما معنى إقراره بالشرب, ثم توقف وجوب الحد على إقراره في الصحو قلت: السكر قد يكون من غير الشراب المحرم أو المثلث والسكر منهما قد يكون بالشرب كرها أو اضطرارا, فيتوقف الحد على إقامة البينة أو الإقرار بأنه شرب الشراب المحرم أو المثلث طوعا فيشترط الإقرار حال الصحو.
قوله: "وزاد أبو حنيفة رحمه الله تعالى" يعني: اعتبر في حق وجوب الحد السكر بمعنى زوال العقل بحيث لا يميز بين الأشياء, ولا يعرف الأرض من السماء إذ لو ميز ففي السكر نقصان, وفي النقصان شبهة العدم فيندرئ به الحد, وأما في غير وجوب الحد من الأحكام فالمعتبر عنده أيضا اختلاط الكلام حتى لا يرتد بكلمة الكفر, ولا يلزمه الحد بالإقرار بما يوجب الحد.
قوله: "ومنها الهزل" فسره فخر الإسلام رحمه الله تعالى باللعب, وهو أن يراد بالشيء ما لم يوضع له لفظ فتوهم بعضهم من ظاهره أنه يشمل المجاز إلا أنه أراد بالوضع ما هو أعم من وضع اللفظ للمعنى, ومن وضع التصرفات الشرعية لأحكامها, وأراد بوضع اللفظ ما هو أعم من الوضع الشخصي كوضع الألفاظ لمعانيها الحقيقية أو النوعي كوضعها لمعانيها المجازية, وهذا معنى ما يقال: إن الوضع أعم من العقلي, والشرعي فإن العقل يحكم بأن الألفاظ لمعانيها حقيقة أو مجازا وأن التصرفات الشرعية لأحكامها والمصنف رحمه الله تعالى أوضح المقصود ففسر الهزل بعدم إرادة المعنى الحقيقي, والمجازي باللفظ, ودخل في ذلك التصرفات الشرعية; لأنها صيغ, وألفاظ موضوعة لأحكام تترتب عليها, ويلزم معانيها بحسب الشرع.
قوله: "ولا يشترط كونه" يعني: لا يجب أن تجري المواضعة في نفس العقد; لأنه يفوت

(2/393)


الهزل لا ينافي التصرفات
وهو لا ينافي الأهلية أصلا ولا اختيار المباشرة والرضى بها بل اختيار الحكم، والرضى به فوجب النظر بالتصرفات كيف تنقسم فيهما وهي إما من الإنشاءات أو الإخبارات أو الاعتقادات: أما الإنشاءات فإما أن تحتمل النقض أو لا، فما يحتمله كالبيع والإجارة فإما أن يتواضعا في أصل العقد فإن اتفقا على الإعراض صح البيع
ـــــــ
الشرط وهو المواضعة "في نفس العقد" بل يكفي أن تكون المواضعة سابقة على العقد "وهو" أي: الهزل "لا ينافي الأهلية أصلا ولا اختيار المباشرة والرضى بها بل اختيار الحكم, والرضى به فوجب النظر بالتصرفات كيف تنقسم فيهما" أي: في الاختيار, والرضى "وهي إما من الإنشاءات أو الإخبارات أو الاعتقادات: أما الإنشاءات فإما أن تحتمل النقض أو لا, فما يحتمله كالبيع والإجارة فإما أن يتواضعا في أصل العقد" أي: تجري المواضعة قبل العقد بأنا نتكلم بلفظ البيع عند الناس ولا نريد البيع "فإن اتفقا على الإعراض" أي: فالأبعد البيع إنا قد أعرضنا وقت البيع عن الهزل وبعنا بطريق الجد "صح البيع وبطل الهزل لإعراضهما وإن اتفقا على بناء العقد على المواضعة صار كخيار الشرط لهما مؤبدا" أي: للمتعاقدين "لوجود الرضى بالمباشرة لا بالحكم" هذا دليل على كونه بمنزلة خيار الشرط فإنه إذا بيع بالخيار فالرضى بالمباشرة حاصل لا بالحكم وهو الملك "فيفسد العقد" كما في الخيار المؤبد "لكن لا يملك
.........................................................
المقصود من المواضعة, وهو أن يعتقد الناس لزوم العقد بخلاف خيار الشرط فإنه لدفع الغبن, ومنع الحكم عن الثبوت بعد انعقاد السبب فلا بد من اتصاله بالعقد.
قوله: "ولا اختيار المباشرة والرضى بها" يعني: أن الهازل يتكلم بصيغة العقد مثلا باختياره, ورضاه لكنه لا يختار ثبوت الحكم, ولا يرضاه الاختيار هو القصد إلى الشيء, وإرادته, والرضى هو إيثاره, واستحسانه فالمكره على الشيء مثلا يختار ذلك, ولا يرضاه, ومن هاهنا قالوا: إن المعاصي, والقبائح بإرادة الله تعالى لا يرضاه لقوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}.
قوله: "وهي" أي: التصرفات إما إنشاءات أو إخبارات أو اعتقادات; لأن التصرف إن كان إحداث حكم شرعي فإنشاء, وإلا فإن كان القصد منها إلى بيان الواقع فإخبارات, وإلا فاعتقادات, والإنشاء إما أن يحتمل الفسخ أو لا, والأول إما أن يتواضع المتعاقدان على أصل العقد أو الثمن بحسب قدره أو جنسه, وعلى التقادير الثلاثة إما أن يتفقا على الإعراض عن الهزل, والمواضعة أو على بناء العقد عليها أو على أن لا يحضرهما شيء, وإما أن لا يتفقا على شيء من ذلك, وحينئذ إما أن يدعي أحدهما الإعراض, والآخر البناء أو عدم حضور شيء أو يدعي أحدهما البناء, والآخر عدم حضور شيء, وأحكام الأقسام بعضها مشروح في الكتاب, وبعضها متروك لانسياق الذهن إليه.
قوله: "لعدم الرضى بالحكم" لو قال لعدم اختيار الحكم لكان أولى; لأنه المانع عن الملك لا عدم الرضا كالمشتري من المكره فإنه يملك بالقبض لوجود الاختيار, وإن لم يوجد الرضا.

(2/394)


وبطل الهزل لإعراضهما وإن اتفقا على بناء العقد على المواضعة صار كخيار الشرط لهما مؤبدا لوجود الرضى بالمباشرة لا بالحكم فيفسد العقد لكن لا يملك بالقبض فيه لعدم الرضى بالحكم.
فإن نقضه أحدهما انتقض، وإن أجازاه في الثلاث جاز إلا إن أجاز أحدهما وعندهما لا يشترط في الثلاث وإن اتفقا على أن لا يحضرهما شيء أو اختلفا في الإعراض، والبناء يصح العقد عند أبي حنيفة رحمه الله عملا بالعقد وهو أولى بالاعتبار من المواضعة التي لم تتصل به لا عندهما على أن المواضعة أسبق، قلنا: الأخير ناسخ.
ـــــــ
بالقبض فيه لعدم الرضى بالحكم" هذا استدراك عن قوله, فيفسد العقد فإن الملك بالقبض يثبت في البيع الفاسد.
"فإن نقضه أحدهما انتقض, وإن أجازاه في الثلاث جاز" أي: إن أجازاه في ثلاثة أيام جاز عند أبي حنيفة رحمه الله أي: ينقلب جائز الارتفاع المفسد, كما في الخيار المؤبد "إلا إن أجاز أحدهما"; لأنه كخيار الشرط للمتعاقدين, فيتوقف على إجازتهما "وعندهما لا يشترط في الثلاث" أي: عندهما لا تنتهي الإجازة بالثلاثة فكلما أجازاه جاز البيع كما في الخيار المؤبد "وإن اتفقا على أن لا يحضرهما شيء" أي: لم يقع في خاطريهما وقت العقد أنهما بنيا على المواضعة أو أعرضا "أو اختلفا في الإعراض, والبناء يصح العقد عند أبي حنيفة رحمه الله عملا بالعقد وهو أولى بالاعتبار من المواضعة التي لم تتصل به" أي: بالعقد "لا عندهما" أي: لا يصح العقد عندهما "فاعتبر العادة" تحقيق المواضعة ما أمكن "على أن المواضعة أسبق, قلنا: الأخير ناسخ" أي: الأخير وهو العقد ناسخ للمواضعة السابقة; لأن أحدهما لم يمض على المواضعة, واعلم أنه بقي بالتقسيم العقلي قسمان لم يذكرا وهما: إذا أعرض أحدهما وقال
.........................................................
قوله: "فإن نقضه" أي: العقد الذي اتفقا على أنه مبني على المواضعة أحدهما أي: أحد المتعاقدين انتقض; لأن لكل واحد ولاية النقض لكن الصحة تتوقف على اختيارهما جميعا; لأنه بمنزلة شرط الخيار للمتعاقدين فإجازة أحدهما لا تبطل خيار الآخر, وقدر أبو حنيفة رحمه الله تعالى مدة الخيار بثلاثة أيام اعتبارا بالخيار المؤبد حتى يتقرر الفساد بمضي المدة وعندهما يجوز الاختيار ما لم يتحقق النقض, وإنما قال في الثلاث دون الثلاثة اعتبارا بالليالي.
قوله: "عملا بالعقد" يعني: أن الأصل في العقد الشرعي اللزوم, والصحة حتى يقوم المعارض; لأنه إنما شرع للملك, والجد هو الظاهر فيه فاعتبار العقد أولى من اعتبار المواضعة وعندهما لا يصح العقد في الصورتين أعني: صورة الاتفاق على أن لم يحضرهما شيء, والاختلاف في الإعراض, والبناء; لأن العادة جارية بأن يبنيا على المواضعة كي لا يكون الاشتغال بها عينا فإنهما إنما تواضعا

(2/395)


المواضعة على البيع
وإما أن يتواضعا على البيع بألفين على أن الثمن ألف فهما يعملان بالمواضعة إلا في صورة إعراضهما وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يعمل بظاهر العقد في الكل والفرق بين البناء هنا، وثمة أن العمل بالمواضعة هنا يجعل قبول أحدهما الألفين شرطا لوقوع البيع بالآخر، فيفسد العقد وقد جدا في أصل العقد فهو أولى بالترجيح من الوصف.
ـــــــ
الآخر: لم يحضرني شيء, أو بنى أحدهما وقال الآخر: لم يحضرني شيء فعلى أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى يجب أن يكون عدم الحضور كالإعراض وعلى أصلهما كالبناء "وإما أن يتواضعا على البيع بألفين على أن الثمن ألف فهما يعملان بالمواضعة إلا في صورة إعراضهما وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يعمل بظاهر العقد في الكل والفرق بين البناء هنا, وثمة أن العمل بالمواضعة هنا يجعل قبول أحدهما الألفين شرطا لوقوع البيع بالآخر, فيفسد العقد وقد جدا في أصل العقد فهو أولى بالترجيح من الوصف". أي: أصل العقد أولى بالترجيح من الوصف فإن اعتبار أصل العقد يوجب الصحة; لأن المتعاقدين جدا في أصل العقد, وإنما الهزل في مقدار الثمن وهو المراد بالوصف فإن اعتبر المواضعة والهزل في الوصف حتى يصح العقد بالألف يلزم فساد العقد كما بينا في المتن
.........................................................
للبناء عليه صونا للمال عن يد المتغلب, والقول بأن الأصل في العقد الصحة, واللزوم, والمعارض بأن المواضعة سابقة, والسبق من أسباب الترجيح, والجواب أن العقد متأخر, والمتأخر يصلح ناسخا للمتقدم إذا لم يعارضه ما يغيره كما إذا اتفقا على البناء, وهاهنا لم يتحقق المغير; لأن أحدهما يدعي عدم المضي فالعقد باعتبار أن أصله الجد, واللزوم من غير تحقق معارض يكون ناسخا للمواضعة السابقة.
قوله: "فعلى أصل أبي حنيفة رحمه الله يجب أن يكون عدم الحضور كالإعراض" عملا بالعقد, فيصح في الصورتين, وعلى أصلهما عدم الحضور كالبناء ترجيحا للمواضعة بالعادة, والسبق فلا يصح العقد في شيء من الصورتين, وهذا مأخوذ من صورة اتفاقهما على أن لم يحضرهما شيء فإنه عند أبي حنيفة رحمه الله بمنزلة الإعراض وعندهما بمنزلة البناء, وهاهنا بحث, وهو أن انحصار الأقسام في الستة إنما هو على تقدير اعتبار الاتفاق, والاختلاف في نفس الإعراض, والبناء, والذهول أي: عدم الحضور, وأما على تقدير اعتبارهما في ادعاء المتعاقدين على ما يشعر به كلام فخر الإسلام رحمه الله تعالى فالأقسام ثمانية, وسبعون; لأن المتعاقدين إما أن يتفقا أو يختلفا فإن اتفقا فالاتفاق إما على إعراضهما, وإما على بنائهما, وإما على ذهولهما, وإما على بناء أحدهما, وإعراض الآخر أو ذهوله, وإما على إعراض أحدهما, وذهول الآخر فصور الاتفاق ست, وإن اختلفا فدعوى أحد المتعاقدين يكون إما إعراضهما, وإما بناؤهما, وإما ذهولهما, وإما بناؤه مع إعراض الآخر أو ذهوله, وإما إعراضه مع بناء الآخر أو ذهوله, وإما ذهوله مع بناء الآخر أو إعراضه يصير

(2/396)


المواضعة على أن الثمن جنس آخر
وأما أن يتواضعا على أن الثمن جنس آخر فالعمل بالعقد اتفاقا والفرق لهما بين هذا والمواضعة في القدر أن العمل بها مع صحة العقد ممكن ثمة لا هنا، والهزل بأحد الألفين ثمة شرط لا طالب له فلا يفسد.
ـــــــ
"وأما أن يتواضعا على أن الثمن جنس آخر فالعمل بالعقد اتفاقا والفرق لهما بين هذا والمواضعة في القدر أن العمل بها مع صحة العقد ممكن ثمة لا هنا, والهزل بأحد الألفين ثمة
.........................................................
تسعة, وعلى كل تقدير من التقادير التسعة يكون اختلاف الخصم بأن يدعي إحدى الصور الثمانية الباقية فتصير أقسام الاختلاف اثنين, وسبعين حاصلة من ضرب التسعة في الثمانية, ولا خفاء في أن تمسك أبي حنيفة رحمه الله تعالى بأن الأصل في العقد الصحة, وتمسكهما بأن العادة جارية بتحقيق المواضعة السابقة يدل على أن الكلام فيما إذا اختلفا في دعوى الإعراض, والبناء مثلا, وأما إذا اتفقا على الاختلاف في الإعراض, والبناء بأن يقر كلاهما بإعراض أحدهما, وبناء الآخر فلا قائل بالصحة, واللزوم, وهذا ظاهر.
قوله: "والفرق بين البناء هنا, وثمة" يعني: إذا وقعت المواضعة في قدر الثمن, وبنيا عليها, فأبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يعتبر المواضعة السابقة, ويحكم بلزوم الألفين لا الألف المتواضع عليه, وقد كان يعتبر البناء على المواضعة في نفس العقد, ويحكم بفساد العقد, وثبوت الخيار, فيحتاج إلى الفرق بين البناء هنا أي: في صورة المواضعة في قدر الثمن, والبناء ثمة أي: في صورة المواضعة في نفس العقد, ووجه الفرق أن المواضعة السابقة إنما تعتبر إذا لم يوجد ما يعارضها, ويدافعها, وهاهنا قد وجد ذلك; لأنها لو اعتبرت يلزم فساد العقد لتوقف انعقاده على شرط ليس من مقتضيات العقد, وفيه نفع لأحد المتعاقدين, وهو قبول العقد فيما ليس بداخل في العقد كأحد الألفين في صورة البيع بألفين, والمواضعة على أن يكون الثمن ألفا, ولو قلنا بفساد العقد يلزم ترجيح الوصف على الأصل; لأن المتعاقدين قد جدا في أصل العقد, فيلزم صحته, وإنما هزلا في الثمن الذي هو, وصف لكونه وسيلة لا مقصودا فلو اعتبرناه, وحكمنا بفساد العقد لزم إهدار الأصل لاعتبار الوصف, وهو باطل فلا بد من القول بصحة العقد, ولزوم الألفين اعتبارا للتسمية, والحاصل أن اعتبار المواضعة في الثمن, وتصحيح أصل العقد متنافيان, وقد ثبت الثاني ترجيحا للأصل, فينتفي الأول, وبهذا يخرج الجواب عما يقال: إنهما قصدا بذكر الألف الآخر السمعة من غير أن يحتاج إلى اعتباره في تصحيح العقد فكان ذكره, والسكوت عنه سواء كما في النكاح.
قوله: "والفرق لهما" يعني: إذا وقعت المواضعة في جنس الثمن بأن باع بمائة دينار, وقد تواضعا على أن يكون الثمن ألف درهم فالبيع صحيح, واللازم مائة دينار, وسواء بنيا على المواضعة أو عرضا أو لم يحضرهما شيء أما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فقد مر على أصله من عدم اعتبار المواضعة ترجيحا للأصل, وتصحيحا للعقد بما سميا من البدل ضرورة افتقاره إلى تسمية البدل, وأما

(2/397)


مالا يحتمل النقض
أما أن لا يحتمل النقض فمنه ما لا مال فيه وهو الطلاق والعتاق والعفو عن القصاص واليمين، والنذر وكله صحيح، والهزل باطل لقوله عليه الصلاة والسلام: "ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد النكاح، والطلاق واليمين" ولأن الهازل راض بالسبب لا الحكم وحكم هذه الأسباب لا يحتمل التراخي والرد حتى لا يحتمل خيار الشرط.
ـــــــ
شرط لا طالب له فلا يفسد" وإنما قال هذا جوابا عما ذكر أنه يجعل قبول أحد الألفين شرطا لوقوع البيع بالآخر, وإنما قال إنه لا طالب له لاتفاق المتعاقدين على أن الثمن ألف لا ألفان وإذا لم يكن للشرط طالب لا يفسد كما إذا اشترى حمارا على أن يحمله حملا خفيفا أو نحو ذلك لا يفسد العقد لعدم الطالب لكن الجواب لأبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الشرط في مسألتنا وقع لأحد المتعاقدين, وهو الطالب لكن لا يطالب هنا للمواضعة وعدم الطلب بواسطة الرضا لا يفيد الصحة كالرضى بالربا ثم عطف على قوله وإما أن يحتمل النقض قوله: "وإما أن لا يحتمل النقض فمنه ما لا مال فيه وهو الطلاق والعتاق والعفو عن القصاص واليمين, والنذر وكله صحيح, والهزل باطل لقوله عليه الصلاة والسلام: "ثلاث جدهن جد, وهزلهن جد النكاح, والطلاق واليمين" ولأن الهازل راض بالسبب لا الحكم وحكم هذه
.........................................................
أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فقد احتجا إلى الفرق بين المواضعة في جنس الثمن, والمواضعة في قدره, ووجهه أن العمل بالمواضعة مع صحة البيع ممكن في الأولى دون الثانية; لأن البيع ممكن في صورة البناء لا يصح بدون تسمية البدل فإذا اعتبرت المواضعة كان البدل ألف درهم, وهو غير مذكور في العقد, والمذكور في العقد يكون مائة دينار, وهي غير البدل بخلاف المواضعة في القدر فإنه يمكن تصحيح البيع مع اعتبارها بأن ينعقد بالألف الموجود في الألفين.
قوله: "وإما أن يحتمل النقض" عطف على قوله إما أن يحتمل النقض, وفي الكلام خلل, وذلك; لأنه قال أما الإنشاءات فإما أن يحتمل النقض أو لا فذكر المعطوف, والمعطوف عليه جميعا, ثم قال فما يحتمله كالبيع فكان الصواب أن يقول ها هنا, وما لا يحتمله أي: النقض بمعنى أنه لا يجري فيه الفسخ, والإقالة فثلاثة أقسام; لأنه إما أن يكون فيه مال بأن يثبت بدون شرط, وذكر أو لا, والأول إما أن يكون المال تبعا أو مقصودا.
قوله: "وكله صحيح" استدل على صحة الكل, وبطلان الهزل بالحديث, والمعقول أما الحديث, فيحتمل أن يكون لإثبات صحة الثلاثة المذكورة فقط, ويحتمل أن يكون لإثبات صحتها عبارة, وصحة غيرها دلالة, وأما المعقول فيفيد صحة الكل, وحاصله أن الهزل لا يمنع انعقاد السبب, وعند انعقاد السبب يوجد حكمه ضرورة عدم التراخي, والرد في حكم هذه الأسباب بخلاف البيع, واعترض بالطلاق المضاف مثل أنت طالق غدا, وأجيب بأن المراد بالأسباب العلل, والطلاق المضاف ليس بعلة بل سبب مفض, وإلا لاستند إلى وقت الإيجاب كالبيع بشرط الخيار.

(2/398)


القسم الذي فيه المال تبع
ومنه ما يكون المال فيه تبعا كالنكاح فإن كان الهزل في الأصل فالعقد لازم أو في قدر البدل فإن اتفقا على الإعراض فالمهر ألفان أو على البناء، فألف، والفرق لأبي حنيفة رحمه الله تعالى بين هذا، وبين البيع أن البيع يفسد بالشرط لكن النكاح لا يفسد بالشرط وعلى أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا ففي رواية محمد عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى المهر ألف بخلاف البيع؛ لأن الثمن مقصود بالإيجاب فترجح به وفي رواية أبي يوسف رحمه الله تعالى ألفان قياسا على البيع وفي جنس البدل فإن اتفقا على الإعراض فالمسمى، وعلى البناء فمهر المثل إجماعا وعلى أنه لم يحضرهما أو اختلفا ففي رواية محمد رحمه الله تعالى مهر المثل وفي رواية أبي يوسف رحمه الله المسمى، وعندهما مهر المثل.
ـــــــ
الأسباب لا يحتمل التراخي والرد حتى لا يحتمل خيار الشرط, ومنه ما يكون المال فيه تبعا كالنكاح فإن كان الهزل في الأصل فالعقد لازم أو في قدر البدل فإن اتفقا على الإعراض فالمهر ألفان أو على البناء, فألف, والفرق لأبي حنيفة رحمه الله تعالى بين هذا, وبين البيع أن البيع يفسد بالشرط" لكن النكاح لا يفسد بالشرط "وعلى أنه لم يحضرهما شيء أو اختلفا ففي رواية محمد عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى المهر ألف بخلاف البيع; لأن الثمن مقصود بالإيجاب فترجح به" أي: بالثمن, فيترجح الثمن بالإيجاب
.........................................................
قوله: "وفي قدر البدل" يعني: إذا وقعت المواضعة في قدر المهر بأن يذكر في العقد ألفان, ويكون المهر ألفا فإن اتفق المتعاقدان على الإعراض عن المواضعة فاللازم هو المسمى في العقد أعني: الألفين, وإن اتفقا على بناء النكاح على المواضعة فاللازم ألف أما عندهما فظاهر كما في البيع, وأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى, فيحتاج إلى الفرق بين النكاح, والبيع حيث يعتبر في النكاح المواضعة دون التسمية, وفي البيع بالعكس, ووجهه أن البدل في البيع, وإن كان وصفا, وتبعا بالنسبة إلى البيع إلا أنه مقصود بإيجاب لكونه أحد ركني البيع, ولهذا يفسد البيع بفساده أو جهالته, وبدون ذكره, فيترجح البيع بالثمن بمعنى أنه يجب تصحيح البيع لتصحيح الثمن بخلاف البدل في النكاح فإنه إنما شرع إظهارا لخطر المحل لا مقصودا, وإنما المقصود ثبوت الحل في الجانبين للتوالد, والتناسل.
قوله: "وعلى البناء" يعني: أن وقت المواضعة في جنس البدل بأن يذكرا في العقد مائة دينار على أن يكون المهر ألف درهم, وقد اتفقا على البناء على المواضعة فاللازم مهر المثل إجماعا; لأنه بمنزلة التزوج بدون المهر إذ لا سبيل إلى ثبوت المسمى; لأن المال لا يثبت بالهزل, ولا إلى ثبوت المتواضع عليه; لأنه لم يذكر في العقد بخلاف المواضعة في القدر فإن المتواضع عليه قد يسمى في العقد مع الزيادة, وبخلاف البيع فإن فيه ضرورة إلى اعتبار التسمية لأنه لا يصح بدون تسمية الثمن, والنكاح يصح بدون تسمية المهر, وإن اتفقا على أن لم يحضرهما شيء أو اختلفا في الإعراض, والبناء فاللازم عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى في رواية محمد رحمه الله تعالى هو مهر المثل; لأن الأصل بطلان المسمى عملا بالهزل لئلا يصير المهر مقصودا بالصحة بمنزلة الثمن في البيع, ولما بطل المسمى لزم مهر المثل, وفي رواية أبي يوسف رحمه الله تعالى هو المسمى قياسا على البيع

(2/399)


القسم الذي فيه المال مقصود
ومنه ما يكون المال فيه مقصودا كالخلع والعتق على مال، والصلح عن دم عمد سواء هزلا في الأصل أو القدر أو الجنس ففي الإعراض يلزم الطلاق والمال
ـــــــ
"وفي رواية أبي يوسف رحمه الله تعالى ألفان قياسا على البيع وفي جنس البدل فإن اتفقا على الإعراض فالمسمى, وعلى البناء فمهر المثل إجماعا وعلى أنه لم يحضرهما أو اختلفا ففي رواية محمد رحمه الله تعالى مهر المثل"; لأن الأصل في رواية محمد رحمه الله تعالى بطلان المسمى عند الاختلاف, وعدم الحضور في المواضعة في قدر المهر على ما ذكر, وكذا في المواضعة في جنس في المهر لكن المواضعة في قدر المهر العمل بالمواضعة ممكن; لأن ما تواضعا عليه, وهو الألف داخل في المسمى وهو الألفان أما في المواضعة في الجنس فهذا غير ممكن فلما بطل المسمى وجب مهر المثل "وفي رواية أبي يوسف رحمه الله المسمى وعندهما مهر المثل ومنه ما يكون المال فيه مقصودا كالخلع والعتق على مال, والصلح عن دم عمد سواء هزلا في الأصل أو القدر أو الجنس ففي الإعراض يلزم الطلاق والمال وكذا في الاختلاف وعدم الحضور أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلترجيح الإيجاب" أي: ترجيح العقد على المواضعة "وأما عندهما فلعدم تأثير الخيار" فإنه إذا شرط في الخلع الخيار لها فعندهما الطلاق واقع, والمال واجب والخيار باطل, وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يقع الطلاق, ولا يجب المال حتى تشاء المرأة فكذا في مسألتنا على كلا المذهبين.
.........................................................
وعندهما اللازم مهر المثل بناء على أصلهما من ترجيح المواضعة بالسبق والعادة فلا يثبت المسمى لرجحان المواضعة, وعدم ثبوت المال بالهزل, ولا المتواضع عليه لعدم التسمية, فيلزم مهر المثل.
قوله: "ومنه" أي: مما لا يحتمل النقض ما يكون المال فيه مقصودا حتى لا يثبت بدون الذكر كما إذا طلق امرأته على مال بطريق الهزل أو طلقها على ألفين مع المواضعة على أن المال ألف أو طلقها على مائة دينار مع المواضعة على أن المال ألف درهم, وكذا في العتق على مال, والصلح عن دم عمد ففي صورة الإعتاق على الإعراض أو على أن لم يحضرهما شيء, والاختلاف في الإعراض, والبناء يقع الطلاق, ويجب المال أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلترجيح العقد على المواضعة, وأما عندهما فلأن الهزل بمنزلة خيار الشرط, والخيار باطل عندهما; لأن قبول المرأة شرط لليمين فلا يحتمل الخيار كسائر الشروط, وذلك كما إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق ثلاثا على

(2/400)


وكذا في الاختلاف وعدم الحضور أما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى فلترجيح الإيجاب وأما عندهما فلعدم تأثير الخيار.
وكذا في البناء عندهما على أن المال يلزم تبعا وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يتوقف على مشيئتها وأما تسليم الشفعة فقبل طلب المواثبة يكون كالسكوت؛ لأنه لما اشتغل بالهزل عن طلب الشفعة فقد سكت عن الطلب فتطلب الشفعة، وبعده التسليم باطل؛ لأنه من جنس ما يبطل بالخيار وكذا الإبراء.
ـــــــ
"وكذا في البناء عندهما على أن المال يلزم تبعا" اعلم أن المال في الخلع, والعتق على مال والصلح عن دم عمد يجب عندهما بطريق التبعية والمقصود هو الطلاق, والعتق وسقوط القصاص والهزل لا يؤثر في هذه الأمور, فيثبت ثم يجب المال ضمنا لا قصدا فلا يؤثر الهزل في وجوب المال "وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يتوقف على مشيئتها وأما تسليم الشفعة فقبل طلب المواثبة يكون كالسكوت; لأنه لما اشتغل بالهزل عن طلب الشفعة فقد سكت عن الطلب فتطلب الشفعة, وبعده التسليم باطل; لأنه من جنس ما يبطل بالخيار" حتى لو قال: سلمت الشفعة على أني بالخيار ثلاثة أيام يبطل التسليم ويكون طلب الشفعة باقيا "وكذا الإبراء" أي: يبطل إبراء الغريم هازلا كما يبطل الإبراء بشرط الخيار "وأما الإخبارات فالهزل
.........................................................
ألف درهم على أنك بالخيار ثلاثة أيام فقالت: قبلت فعندهما يقع الطلاق, ويلزم المال, وعنده إن ردت الطلاق في الثلاثة أيام بطل الطلاق, وإن أجازت أو لم ترد حتى مضت المدة فالطلاق واقع, والألف لازم, وهذا معنى قوله, وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يقع الطلاق, ولا يجب المال حتى تشاء المرأة فمسألة الهزل في الخلع على كلا المذهبين بمنزلة مسألة الخلع بشرط الخيار على مذهبهما, وهذا معنى قوله فكذا في مسألتنا على كلا المذهبين, وأما في صورة الاتفاق على البناء فعندهما يقع الطلاق, ويلزم المال; لأنه لا أثر للهزل في ذلك فإن قلت الهزل, وإن لم يؤثر في التصرف كالطلاق, ونحوه إلا أنه مؤثر في المال حتى لم يثبت بالهزل أجيب بأن المال هاهنا يجب بطريق التبعية في ضمن الطلاق; لأنه بمنزلة الشرط فيه, والشروط اتباع, وكم من شيء يثبت ضمنا, ولا يثبت قصدا, والتبعية بهذا المعنى لا تنافي كونه مقصودا بالنظر إلى العاقد بمعنى أنه لا يثبت إلا بالذكر, فإن قلت المال في النكاح أيضا تبع, وقد أثر الهزل فيه. قلت تبعيته في النكاح ليست في حق الثبوت; لأنه يثبت, وإن لم يذكر بل بمعنى أن المقصود هو الحل, والتناسل لا المال, وهذا لا ينافي الأصالة بمعنى الثبوت بدون الذكر, وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يتوقف الطلاق على مشيئة المرأة لإمكان العمل بالمواضعة بناء على أن الخلع لا يفسد بالشروط الفاسدة بخلاف البيع, والعمل بالمواضعة أن يتعلق الطلاق بجميع البدل, ولا يقع في الحال بل يتوقف على اختيارها.
قوله: "وأما تسليم الشفعة" أي: طلب الشفعة لا يخلو إما أن يكون طلب مواثبة, بأن يطلبها كما علمها حتى تبطل بالتأخير أو طلب تقرير بأن ينتهض بعد الطلب, ويشهد, ويقول: إني طلبت الشفعة, وأطلبها الآن أو طلب خصومة بأن يقوم بالأخذ, والتملك فتسليم الشفعة بطريق الهزل قبل المواثبة يبطل الشفعة بمنزلة السكوت, وبعده يبطل التسليم فتكون الشفعة باقية; لأن التسليم من جنس ما

(2/401)


حكم الهزل في الأخبار و الاعتقادات
...
حكم الهزل في الأخبار والاعتقادات
وأما الإخبارات فالهزل يبطلها سواء كان فيما يحتمل الفسخ أو لا؛ لأنه يعتمد صحة المخبر به، ألا يرى بالطلاق والعتاق مكرها باطل فكذا هازلا، وأما الاعتقادات فالهزل بالردة كفر؛ لأنه استخفاف، فيكون مرتدا بعين الهزل لا بما هزل به وأما الإسلام هازلا، فيصح؛ لأنه إنشاء لا يحتمل حكمه الرد، والتراخي.
ـــــــ
يبطلها سواء كان فيما يحتمل الفسخ أو لا; لأنه يعتمد صحة المخبر به, ألا يرى بالطلاق والعتاق مكرها باطل فكذا هازلا, وأما الاعتقادات فالهزل بالردة كفر; لأنه استخفاف, فيكون مرتدا بعين الهزل لا بما هزل به" أي: ليس كفره بسبب ما هزل به وهو اعتقاد معنى كلمة الكفر التي تكلم بها هازلا, فإنه غير معتقد معناها بل كفره بعين الهزل فإنه استخفاف بالدين, وهو كفر نعوذ بالله تعالى منه قال الله تعالى: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} "وأما الإسلام هازلا, فيصح; لأنه إنشاء لا يحتمل حكمه الرد, والتراخي" ترجيحا لجانب الإيمان كما في الإكراه.
"ومنها السفه" وهو خفة تعتري الإنسان فتبعثه على العمل بخلاف موجب العقل, وقال الإمام فخر الإسلام رحمه الله تعالى هو العمل بخلاف موجب الشرع من وجه, واتباع الهوى, وخلاف دلالة العقل, وإنما قال من وجه; لأن التبذير أصله مشروع وهو البر, والإحسان إلا أن الإسراف حرام والفرق ظاهر بين السفه والعته فإن المعتوه يشابه المجنون في بعض أفعاله
.........................................................
يبطل بالخيار لأنه في معنى التجارة لكونه استبقاء أحد العوضين على الملك فيتوقف على الرضا بالحكم وكل من الخيار والهزل يمنع الرضا بالحكم, فيبطل به التسليم.
قوله: "وكذا الإبراء" أي: إبراء الغريم أو الكفيل يبطل بالهزل; لأن فيه معنى التملك, ويرتد بالرد فيؤثر فيه الهزل كخيار الشرط.
قوله: "وأما الإخبارات فيبطلها الهزل" سواء كانت إخبارا عما يحتمل الفسخ كالبيع, والنكاح أو لا يحتمله كالطلاق, والعتاق, وسواء كانت إخبارا شرعا ولغة كما إذا تواضعا على أن يقرا بأن بينهما نكاحا أو بأنهما تبايعا في هذا الشيء بكذا أو لغة فقط كما إذا أقر بأن لزيد عليه كذا, وذلك; لأن الإخبار يعتمد صحة المخبر به أي: تحقق الحكم الذي صار الخبر عبارة عنه, وإعلاما بثبوته أو نفيه, والهزل ينافي ذلك, ويدل على عدمه فكما أنه يبطل الإقرار بالطلاق, والعتاق مكرها كذلك يبطل الإقرار بهما هازلا; لأن الهزل دليل الكذب كالإكراه حتى لو أجاز ذلك لم يجز; لأن الإجازة إنما تلحق شيئا منعقدا يحتمل الصحة, والبطلان بالإجازة لا يصير الكذب صدقا, وهذا بخلاف إنشاء الطلاق, والعتاق, ونحوهما مما لا يحتمل الفسخ فإنه لا أثر فيه للهزل على ما سبق.
قوله: "فيكون" أي: الهازل بالردة مرتدا بنفس الهزل لا بما هزل به لما فيه من الاستخفاف

(2/402)


حكم السفه
ومنها السفه وهو لا ينافي الأهلية، ولا شيئا من الأحكام وأجمعوا على منع ماله عنه في أول البلوغ لقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} ثم علق الإيتاء بإيناس رشد منكر لا ينفك سن الجدية عن مثله إلا نادرا، فيسقط حينئذ المنع واختلفوا في السفيه فعندهما يحجر لأن النظر واجب حقا له لدينه فإن العفو عن صاحب الكبيرة حسن، وإن أصر عليها وقياسا على منع المال وأيضا صحة العبارة لأجل النفع فإذا صارت ضررا يجب دفعها، وأيضا حقا للمسلمين.
ـــــــ
وأقواله بخلاف السفيه فإنه لا يشابه المجنون لكن تعتريه خفة إما فرحا, وإما غضبا فيتابع مقتضاها في الأمور من غير نظر وروية في عواقبها ليقف على أن عواقبها محمودة أو وخيمة أي: مذمومة "وهو لا ينافي الأهلية, ولا شيئا من الأحكام وأجمعوا على منع ماله عنه في أول البلوغ لقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} ثم علق الإيتاء بإيناس رشد منكر لا ينفك سن الجدية عن مثله إلا نادرا, فيسقط حينئذ المنع" وهي خمس, وعشرون سنة; لأن أقل مدة البلوغ اثنتا عشرة سنة وأقل مدة الحمل نصف سنة, فيكون أقل سن يمكن أن يصير المرء فيه جدا خمسا وعشرين سنة.
"واختلفوا في السفيه فعندهما يحجر": الحجر هو منع نفاذ التصرفات القولية "لأن النظر واجب حقا له لدينه فإن العفو عن صاحب الكبيرة حسن, وإن أصر عليها" كالقتل عمدا
.........................................................
بالدين, وهو من أمارات تبدل الاعتقاد بدليل قوله تعالى حكاية {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} الآية, وفي هذا جواب عما يقال إن الارتداد إنما يكون بتبدل الاعتقاد, والهزل ينافيه لعدم الرضا بالحكم.
قوله: "ترجيحا لجانب الإيمان" يعني: أن الأصل في الإنسان هو التصديق, والاعتقاد.
قوله: "ومنها" أي: من العوارض المكتسبة السفه فإن السفيه باختياره يعمل على خلاف موجب العقل مع بقاء العقل فلا يكون سماويا, وعلى ظاهر تفسير فخر الإسلام رحمه الله تعالى يكون كل فاسق سفيها; لأن موجب العقل أن لا يخالف الشرع للأدلة القائمة على وجوب اتباعه, وفسره المصنف رحمه الله تعالى بالخفة الباعثة على العمل بخلاف موجب العقل تنبيها على المناسبة بين المعنى الشرعي, واللغوي فإن السفه في اللغة هو الخفة, والحركة, ومنه زمام سفيه, وتخصيصا له بما هو مصطلح الفقهاء من السفه الذي يبتنى عليه منع المال, ووجوب الحجر, ونحو ذلك.
قوله: "لأن التبذير أصله مشروع" التبذير هو تفريق المال على وجه الإسراف أي: مجاوزة الحد, والمراد بأصل التبذير نفس تفريق المال.
قوله: "وأجمعوا على منع ماله" يعني: إذا بلغ الصبي سفيها يمنع عنه ماله لقوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} أي: لا تؤتوا المبذرين أموالهم الذين

(2/403)


منشأ الخلاف و دليل الإمام
...
منشأ الخلاف ودليل الإمام
وهذا بناء على أن الإنسان يمنع عن التصرف في ملكه بما يضر جاره عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يحجر؛ لأن السفه لما كان مكابرة وتركا للواجب عن علم لم يكن سببا للنظر وما ذكر من النظر حقا له فذلك جائز لا واجب كما في صاحب الكبيرة.
وإنما يحسن إذا لم يتضمن ضررا فوقه وهو إهدار الأهلية والعبارة، والأهلية
ـــــــ
فإن العفو عن القصاص فيه حسن فغاية فعل السفيه ارتكاب الكبيرة ومرتكب الكبيرة إذا كان مؤمنا يستحق النظر إليه "وقياسا" عطف على قوله حقا له "على منع المال وأيضا صحة العبارة لأجل النفع فإذا صارت ضررا يجب دفعها, وأيضا حقا للمسلمين" فإن السفهاء إذا لم يحجروا أسرفوا فتركب عليهم الديون فتضيع أموال المسلمين في ذمتهم: مثل أن يشتري جارية بألف دينار ولا فلس له فيعتقها في الحال كما فعله واحد من ظرفاء طلبة العلم في
.........................................................
ينفقونها فيما لا ينبغي, وإضافة الأموال إلى الأولياء على معنى أنها من جنس ما يقيم به الناس معايشهم كما قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}; ولأنهم المتصرفون فيها القوامون عليها, ثم علق إيتاء الأموال إياهم بإيناس رشد, وصلاح منهم على وجه التنكير المفيد للتقليل حيث قال الله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} أي: إن عرفتم, ورأيتم فيهم صلاحا في العقل, وحفظا للمال {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}, فأقام أبو حنيفة رحمه الله تعالى السبب الظاهر للرشد, وهو أن يبلغ سن الجدودة, فإنه لا ينفك عن الرشد إلا نادرا مقام الرشد على ما هو المتعارف في الشرع من تعلق الأحكام بالغالب فقال يدفع إليه المال بعد خمس, وعشرين سنة أونس منه الرشد أو لم يؤنس, وهما تمسكا بظاهر الآية فقالا لا يدفع إليه المال ما لم يؤنس منه الرشد, ثم بعد الإجماع على منع مال من بلغ سفيها اختلفوا في حجر من صار سفيها بعد البلوغ فجوزه أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تمسكا بوجوه: الأول, هذا الحجر بطريق النظر دون العقوبة والزجر والسفيه وإن لم يستحق النظر له من جهة أنه فاسق لكن يستحق النظر من جهة دينه, ومن جهة أنه مسلم, ولهذا جاز عفو الله تعالى في الآخرة عن صاحب الكبيرة, وإن لم يتب, وحسن عفو الولي, والمجني عليه في الدنيا عن القصاص, والجنايات, ولا شك أن المسلم حال السفه يفتقر إلى النظر له فيحجر. الثاني, القياس على منع المال فإنه إنما منع عنه ليبقى ملكه, ولا يزول بالإتلاف فلا بد من منع نفاذ التصرفات, وإلا لأبطل ملكه بإتلافه بالتصرفات, ولم يكن المولى في الحفظ إلا الكلفة, والمؤنة.
الثالث: أنه إنما صحح عبارات العاقل, وجوز تصرفاته ليكون نفعا له بتحصيل المطالب فإذا صار ذلك ضررا عليه كان نفعه في الحجر, فيجب. الرابع أن في الحجر دفع الضرر عن أهل الإسلام فإن السفيه بإتلافه, وإسرافه يصير مطية لديون الناس, ومظنة لوجوب النفقة عليه من بيت المال, فيصير على المسلمين وبالا, وعلى بيت مالهم عيالا كما حكاه المصنف رحمه الله تعالى فإنه, وإن كان حذاقة, واحتيالا في الوصول إلى المقصود لكنه سفه من جهة أن من لا يملك فلسا قد أعتق جارية بألف دينار.

(2/404)


نعمة أصلية، واليد زائدة، فيبطل قياس الحجر على منع المال ثم إذا كان الحجر بطريق النظر يلحق في كل حكم إلى من كان في إلحاقه إليه نظر من الصبي والمريض، والمكره.
ـــــــ
بخارى, وقصته أنه دخل ذات يوم في سوق النخاسين فعشق جارية بلغت في الحسن غايته, فعجز عن مكابدة شدائد هجرها, وكان في الفقر والمتربة بحيث لم يملك قوت يومه فضلا عن أن يملك مالا يجعله ذريعة إلى مواصلتها فاستعار من بعض خلانه ثيابا نفيسة, وبغلة لا يركبها إلا أعاظم الملوك فلبس لباس التلبيس وركب البغلة, وشركاء درسه يمشون في ركابه مطرقين حتى دخل السوق فظن التجار أنه حاكم بخارى الملقب بصدر جهان فجلس على نمرقة, ودعا صاحب الجارية, وساومها فاشتراه بألف دينار, وأعتقها وتزوجها في المجلس بحضرة العدول فرجع إلى منزله ممتلئا بهجة وسرورا ورد العواري إلى أهلها فلما جاء البائع لتقاضي الثمن لقي المشتري وعرف فنونه, فأخذ ينتف عثنونه "وهذا بناء على أن الإنسان يمنع عن التصرف في ملكه بما يضر جاره عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يحجر; لأن السفه لما كان مكابرة وتركا للواجب عن علم" أي: صادرا عن علم, ومعرفة "لم يكن سببا للنظر وما ذكر من النظر حقا له فذلك جائز لا واجب كما في صاحب الكبيرة وإنما يحسن" أي: حجر السفيه بطريق النظر "إذا لم يتضمن ضررا فوقه وهو إهدار الأهلية والعبارة, والأهلية نعمة أهلية, واليد زائدة, فيبطل قياس الحجر على منع
.........................................................
قوله: "دخل في سوق النخاسين" لفظة في زائدة, والمكابدة المقاساة, والتلبيس التخليط, وإخفاء الأمر على الغير, والتطريق أن يمشي أمام الرجل, ويقال: طرقوا, وذلك عادة الكبار, والنمرقة وسادة صغيرة, والعثنون شعيرات طوال تحت حنك البعير يعبر به عن اللحية, وفي قوله عرف فنونه إيهام أي: فنون الحيل, والتزوير أو العلوم التي من جملتها الفقه الذي يعرف به هذا الحكم, وكذا في قوله: ينتف عثنونه يحتمل عود الضمير إلى البائع, والمشتري, ولما كان هاهنا مظنة الاعتراض بأنه لا وجه لحجر الإنسان عن التصرف في ملكه بناء على ضرر غيره أجاب بأنه جائز عند أبي يوسف رحمه الله تعالى كما في استحداث الطاحون للأجرة, ونصب المنوال لاستخراج الإبريسم من الفليق, وأمثال ذلك مما يكون للجيران ضرر بين فلهم المنع, والأظهر أنه ليس من هذا القبيل بل من قبيل الحجر لدفع ضرر العامة فإنه مشروع بالإجماع كحجر المفتي الماجن, والطبيب الجاهل, والمكاري المفلس, وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يجوز حجر السفيه; لأنه حر مخاطب إذ الخطاب بالأهلية, وهي بالتمييز, والسفه لا يوجب نقصانا فيه بل عدم عمل به مكابرة, وتركا للواجب, ولهذا يخاطب بحقوق الشرع, ويحبس في ديون العباد, وتصح عباراته في الطلاق, والعتاق, ويجب عليه العقوبات التي تندرئ بالشبهات مع أن ضرر النفس أشد من ضرر المال فتصرفه يكون صادرا عن أهله في محله فلا يمنع.
وأما ما تمسكا به فالجواب عن الأول أن عدم فعله بموجب العقل لما كان مكابرة لم يستحق النظر له كمن قصر في حقوق الله تعالى مجانة أو سفها لا يستحق وضع الخطاب عنه نظرا له ولو

(2/405)


أسباب الحجر
وهذا الحجر عندهما أنواع إما بسبب السفه، فينحجر بنفسه وإما بسبب الدين بأن يخاف أن يلجئ فيحجر إلا مع الغرماء، وإن لم يكن سفيها وإما بأن يمتنع عن بيع ماله لقضاء الديون، فيبيع القاضي فهذا ضرب حجر.
ـــــــ
المال ثم إذا كان الحجر بطريق النظر" أي: عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى "يلحق في كل حكم إلى من كان في إلحاقه إليه نظر من الصبي والمريض, والمكره" أي: المحجور بسبب السفه عندهما إن ولدت جاريته فادعاه يثبت نسبه منه, وكان الولد حرا لا سبيل عليه, والجارية أم ولد له, وإن مات كانت حرة; لأن توفير النظر كان في إلحاقه بالمصلح في حكم الاستيلاد, فإنه يحتاج إلى ذلك لإبقاء نسله وصيانة مائه ويلحق في هذا الحكم بالمريض فإن المريض المديون إذا ادعى نسب ولد جاريته يكون في ذلك كالصحيح حتى يعتق من جميع ماله بموته, ولا تسعى هي, ولا ولدها; لأن حاجته متقدمة على حق غرمائه ولو اشترى هذا
.........................................................
سلم فالنظر له لدينه جائز لا واجب كالعفو عن القصاص فلا يدل على وجوب الحجر فإن قيل: في ترك الحجر ضرر بالمسلم من غير نفع لأحد, فيجب الحجر بخلاف العفو عن القصاص فإن في القصاص حياة أجيب بأن في حجر السفيه أيضا ضررا هو إبطال أهليته, وإلحاقه بالبهائم بخلاف منع المال بالنص, وعن الثاني بأنا لا نسلم كون الحكم في منع المال معقول المعنى, ولو سلم فلا يجوز أن يكون الحجر عن المال عقوبة, وزجرا على ما ذهب إليه بعض المشايخ فإن سببه, وهو مكابرة العقل, ومخالفة الشرع جناية, والحكم, وهو منع المال صالح للعقوبة, وجاز تفويضه إلى الأولياء دون الأئمة لكونه عقوبة تعزير, وتأديب, ولا مدخل للقياس في العقوبات, ولو سلم أن الحكم معقول, وأن الحجر نظر لا عقوبة فلا نسلم صحة القياس فإن منع اليد عن المال إبطال نعمة زائدة, وإلحاق للسفيه بالفقراء بخلاف الحجر فإنه إبطال نعمة أصلية هي العبارة, والأهلية إذ بها يمتاز الإنسان عن سائر أنواع الحيوان ففيه ضرر عظيم, وتفويت لنعمة عظيمة, وإلحاق له بالبهائم, وفي ترك الجواب عن الوجهين الأخيرين ميل ما إلى اختيار ما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى.
قوله: "ثم إذا كان الحجر" يعني: حجر السفيه عندهما لما كان بطريق النظر له, وهذا يختلف بحسب الأحكام لزم أن يلحق في كل صورة بمن يكون الإلحاق به أنظر له, وأليق بحاله ففي الاستيلاد يجعل كالمريض حتى يثبت نسب الولد منه, وفي ملك ابنه بالشراء, والقبض يجعل كالمكره حتى يعتق الابن, وفي لزوم الثمن أو القيمة في مال المحجور في هذه الصورة يجعل كالصبي حتى لا يلزمه ذلك فإن قيل: ففي هذه الصورة يجب أن تكون سعاية العبد للمحجور نظرا له أجيب بأن الغنم بالغرم كما أن الغرم بالغنم فإذا لم يجب على المحجور شيء لم يسلم له شيء, وكانت سعاية الغلام في قيمته للبائع.

(2/406)


المحجور عليه ابنه وهو معروف وقبضه كان شراؤه فاسدا, ويعتق الغلام حين قبضه ويجعل في هذا الحكم بمنزلة شراء المكره, فيثبت له الملك بالقبض فإذا ملكه بالقبض فالتزام الثمن أو القيمة بالعقد منه غير صحيح لما في ذلك من الضرر عليه وهو في هذا الحكم ملحق بالصبي وإذا لم يجب على هذا المحجور عليه شيء لا يسلم له أيضا شيء من سعايته فتكون السعاية الواجبة على العبد للبائع.
"وهذا الحجر عندهما" أي: الحجر المختلف فيه الذي هو بطريق النظر "أنواع إما بسبب السفه, فينحجر بنفسه" أي: بنفس السفه بلا احتياج إلى أن يحجر القاضي له "عند محمد ويحجر القاضي عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وإما بسبب الدين بأن يخاف أن يلجئ أمواله": التلجئة هي المواضعة المذكورة مفصلة ببيع أو إقرار "فيحجر" على أن لا يصح تصرفه "إلا مع الغرماء, وإن لم يكن سفيها" متصل بما قبله وهو قوله فيحجر "وإما بأن يمتنع عن بيع ماله لقضاء الديون, فيبيع القاضي فهذا ضرب حجر, ومنها السفر وهو خروج مديد لا ينافي الأهلية, ولا شيء من الأحكام لكنه من أسباب التخفيف بنفسه; لأنه من أسباب المشقة بخلاف المرض; لأن بعضه يضره الصوم, وبعضه لا بل ينفعه واختلفوا في الصلاة فعند
.........................................................
قوله: "وهذا الحجر" يعني: الحجر المختلف فيه الذي يكون للمكلف عن التصرفات في ماله نظرا له قد يكون بسبب في ذاته كالسفه, وقد يكون بسبب خارج كالدين, وذلك بأن يخاف زوال قابلية المال للصرف إلى الديون أو يمنع المديون عن التصرف فالأول أي: الحجر بسبب السفه يحصل عند محمد بنفس السفه, ولا يتوقف على قضاء القاضي; لأنه بمنزلة الصبا, والجنون, والعته في ثبوت الحجر به نظرا للسفيه, وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى يتوقف على أن يحجره القاضي; لأنه متردد بين النظر بإبقاء الملك, والضرر بإهدار عبارته فلا بد في ترجيح أحد الجانبين من القضاء, والثاني أن حجر المديون خوفا من تلجئة يتوقف على قضاء القاضي اتفاقا بينهما; لأنه لأجل النظر للغرماء, فيتوقف على طلبهم, ويتم بالقضاء, والثالث, وهو حجر المديون لامتناعه عن صرف المال إلى الدين يكون بأن يبيع القاضي أمواله عروضا كانت أو عقارا لما روي أن معاذا رضي الله تعالى عنه ركبته الديون فباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله, وقسم ثمنه بين الغرماء بالحصص, ولأن بيع ماله لقضاء دينه مستحق عليه, وهو مما يجري فيه النيابة, فينوب القاضي منابه كما إذا أسلم عبد الذمي, وأبى الذمي أن يبيعه فإن القاضي يبيعه, ولما كان هذا الحجر في أمر خاص قال فهذا ضرب حجر.
قوله: "التلجئة هي المواضعة المذكورة" أي: في أصل التصرف أو في قدر البدل أو جنسه على ما سبق في باب الهزل إلا أنها لا تكون إلا سابقة, والهزل قد يكون مقارنا فبهذا الاعتبار هو أخص قال في المغرب التلجئة هي أن يلجئك إلى أن تأتي أمرا باطنا خلاف ظاهره, وفي المبسوط أن معنى ألجئ إليك داري أجعلك ظهرا لأتمكن بجاهك من صيانة ملكي يقال: التجأ فلان إلى فلان, وألجأ ظهره إلى كذا, وقيل معناه: أنا ملجأ مضطر إلى ما أباشره من البيع منك, ولست بقاصد حقيقة.

(2/407)


من العوارض المكتسبة السفر
ومنها السفر وهو خروج مديد لا ينافي الأهلية، ولا شيء من الأحكام لكنه من أسباب التخفيف بنفسه؛ لأنه من أسباب المشقة بخلاف المرض؛ لأن بعضه يضره الصوم، وبعضه لا بل ينفعه واختلفوا في الصلاة فعند الشافعي رحمه الله تعالى القصر رخصة وعندنا إسقاط لقول عائشة فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت في السفر، وزيدت في الحضر ولأن حد النافلة يصدق على الركعتين الساقطتين، ولتسميته بالصدقة، ولعدم إفادة التخيير على ما مر وإنما يثبت هذا الحكم بالسفر إذا اتصل بسبب الوجوب.
ـــــــ
الشافعي رحمه الله تعالى القصر رخصة وعندنا إسقاط لقول عائشة فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت في السفر, وزيدت في الحضر ولأن حد النافلة يصدق على الركعتين الساقطتين, ولتسميته بالصدقة, ولعدم إفادة التخيير على ما مر" أي: في فصل العزيمة والرخصة "وإنما يثبت هذا الحكم" أي: القصر "بالسفر إذا اتصل بسبب الوجوب" أي: اتصل السفر بسبب الوجوب, وهو الوقت, فيثبت القصر في الأداء أما إذا لم يتصل بسبب الوجوب بل اتصل بحال القضاء لا يجوز القصر.
"ولما كان السفر بالاختيار قيل: إذا شرع المسافر في صوم رمضان لا يحل له الفطر بخلاف المريض لكن إذا أفطر يصير السفر شبهة في الكفارة فإذا سافر الصائم لا يفطر بخلاف ما إذا مرض لكن إن أفطر لا كفارة عليه" أي: الصائم المقيم إذا سافر, وأفطر لا يجب عليه الكفارة "وإذا أفطر ثم سافر لم تسقط" أي: الكفارة "بخلاف ما إذا مرض", والفرق بينهما
.........................................................
قوله: "على أن لا يصح تصرفه إلا مع الغرماء" يعني: في المال الذي يكون في يده وقت الحجر, وأما فيما يكتسب بعده, فينفذ تصرفه مع كل أحد.
قوله: "ومنها السفر, وهو خروج مديد" فإن قلت: الخروج مما لا يمتد قلت المراد أنه خروج عن عمرانات الوطن على قصد مسير يمتد ثلاثة أيام, ولياليها فما فوقها بسير الإبل, ومشي الأقدام.
قوله: "واختلفوا في الصلاة" يعني في التخفيف الحاصل بالسفر في الصلاة فعند الشافعي رحمه الله تعالى هو رخصة حتى يكون الإكمال مشروعا, وعندنا أثره في إسقاط الشطر حتى يكون ظهر المسافر, وفجره سواء, واستدل على ذلك بأربعة أوجه: الأول الأثر كما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها, وقال مقاتل كان النبي عليه الصلاة والسلام يصلي بمكة ركعتين بالغداة, وركعتين بالعشاء فلما عرج به إلى السماء أمر بالصلوات الخمس فصارت الركعتين للمسافر, وللمقيم أربع إلا أن قول الصحابي ليس بحجة عند الشافعي رحمه الله تعالى الثاني أن حد النافلة هو ما يمدح فاعله, ولا يذم تاركه شرعا أو ما هو في هذا المعنى يصادق على الركعتين الأخيرتين من ظهر المسافر مثلا, وللخصم أن يقول إن الركعتين إنما يكونان فرضا إذا نوى الإتمام, وحينئذ لا نسلم أنه لا يذم

(2/408)


أحكام السفر
ولما كان السفر بالاختيار قيل: إذا شرع المسافر في صوم رمضان لا يحل له الفطر بخلاف المريض لكن إذا أفطر يصير السفر شبهة في الكفارة فإذا سافر الصائم لا يفطر بخلاف ما إذا مرض لكن إن أفطر لا كفارة عليه وإذا أفطر ثم سافر لم تسقط بخلاف ما إذا مرض وأحكام السفر تثبت بالخروج بالسنة المشهورة، وإن لم
ـــــــ
أن الصحيح إذا أفطر حكمنا عليه بوجوب الكفارة لكن إذا مرض في هذا اليوم تسقط الكفارة; لأنه تبين بعروض المرض أن الصوم لم يكن واجبا عليه في هذا اليوم بخلاف عروض السفر فإنه أمر اختياري, والمرض ضروري "وأحكام السفر تثبت بالخروج بالسنة المشهورة, وإن لم يتم السفر علة" والسنة المشهورة ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم ترخصوا برخص المسافر بمجاوزتهم العمران, والقياس أن لا يثبت القصر إلا بعد مضي مدة السفر; لأن حكم العلة لا يثبت قبلها لكن ترك القياس بما روينا "ثم إذا نوى الإقامة قبل الثلاثة تصح, وإن كان في غير موضع الإقامة قبل ثلاثة أيام منع الثلاثة ويشترط موضع الإقامة; لأن الأول منع" أي: نية الإقامة, وإن نواها بعد للسفر "وهذا رفع" أي: نية الإقامة بعد ثلاثة أيام رفع للسفر, والمنع أسهل من الرفع "وسفر المعصية يوجب الرخصة وقد مر" أي: في فصل النهي "على أن المعصية منفصلة عنه فإن البغي وقطع الطريق, والتمرد معصية, وإن كانت في المصر والرجل قد يخرج غازيا ثم يستقبله غيره, فيقطع عليهم فصار النهي عن هذا السفر لمعنى في غيره من
.........................................................
تاركهما, الثالث أن النبي عليه الصلاة والسلام سماها صدقة حيث قال: "إنها صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقة الله" 1, والصدقة فيما لا يحتمل التمليك إسقاط لا غير, الرابع أن التخيير إنما شرع فيما يكون للعبد فيه يسر كخصال الكفارة, وصوم رمضان, وهاهنا لا يسر في الإكمال فلا فائدة في التخيير, وقد سبق ذلك في بحث الرخصة.
قوله: "ولما كان السفر بالاختيار" يعني: فرق بين المسافر, والمريض بأن المسافر إن نوى صوم رمضان شرع فيه أي: لم يفسخه قبل انفجار الصبح لا يجوز له الإفطار بخلاف المريض, وذلك; لأن الضرر في المريض مما لا مدفع له فربما يتوهم قبل الشروع أنه لا يلحقه الضرر, وبعد الشروع علم لحوق الضرر من حيث لا مدفع له بخلاف المسافر فإنه يتمكن من دفع الضرر الداعي إلى الإفطار بأن لا يسافر, ولفظ قيل يوهم أن هذا قول البعض, وليس كذلك بل المراد أنه حكم بذلك, وكذا لفظ فخر الإسلام رحمه الله تعالى قيل له معناه حكم للمسافر, وأفتى في حقه, وضبط المسائل في هذا المقام: أن العذر, إما أن يكون قائما في أول اليوم أو لا فإن كان قائما فإن ترك الصوم, فله
ـــــــ
1 رواه مسلم في كتاب المسافرين حديث 4. أبو داود في كتاب السفر باب 1. الترمذي في كتاب تفسير سورة 4 باب 20. النسائي في كتاب الخوف باب 1. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 73.

(2/409)


يتم السفر علة ثم إذا نوى الإقامة قبل الثلاثة تصح، وإن كان في غير موضع الإقامة قبل ثلاثة أيام منع الثلاثة ويشترط موضع الإقامة؛ لأن الأول منع وهذا رفع وسفر المعصية يوجب الرخصة وقد مر على أن المعصية منفصلة عنه فإن البغي وقطع الطريق، والتمرد معصية، وإن كانت في المصر والرجل قد يخرج غازيا ثم يستقبله غيره، فيقطع عليهم فصار النهي عن هذا السفر لمعنى في غيره من كل وجه بخلاف السكر؛ لأنه عصيان بعينه قوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} أي: فأكل غير طالب ولا متجاوز حد سد الرمق.
ـــــــ
كل وجه بخلاف السكر; لأنه عصيان بعينه" فلا يثبت بالسكر الحرام الرخص المنوطة بزوال العقل "قوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} أي: فأكل غير طالب ولا متجاوز حد سد الرمق" قد تمسك به الشافعي رحمه الله تعالى على عدم الرخصة لمن يسافر سفر المعصية فجعل قوله تعالى: {غَيْرَ بَاغٍ} حالا من قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ}, ونحن نقول: لا بد من تقدير قوله, فأكل ثم نجعل قوله: {غَيْرَ بَاغٍ} حالا من أكل فمعناه غير طالب للميتة قصدا إليها ولا آكل الميتة تلذذا واقتضاء للشهوة بل يأكلها دافعا للضرورة, ولا عاد حد ما يسد جوعته أو لا ينبغي أن يتجاوز حد سد الرمق ولا يعدو أي: لا يرفعها لجوعة أخرى.
.........................................................
ذلك, فإن صام فإن كان العذر هو المرض يجوز الإفطار, وإن كان السفر لم يجز لكن لو أفطر لم تجب الكفارة, وإن لم يكن قائما بل إنما طرأ في أثناء النهار فلا بد من نية الصوم, والشروع فيه فإن مضى عليه فذاك, وإلا فإما أن يطرأ العذر ثم الإفطار أو بالعكس فعلى الأول, إن كان العذر هو المرض جاز الإفطار, وإن كان السفر لم يجز لكن لو أفطر لم تجب عليه الكفارة, وعلى الثاني لم يجز الإفطار أصلا لكن لو أفطر ففي المرض تسقط الكفارة, وفي السفر لا تسقط; لأن المرض سماوي يتبين به أن الصوم لم يجب عليه, والسفر اختياري يجب الصوم مع طريانه لكنه بسبب المبيح في الجملة فإن قارن الإفطار كان شبهة في سقوط الكفارة, وإن كان متأخرا لم يؤثر; لأن الكفارة قد وجبت بالإفطار عن صوم واجب من غير اقتران شبهة.
قوله: "على أن المعصية منفصلة" لما استدل الشافعي رحمه الله تعالى على عدم كون سفر المعصية من أسباب الرخص بوجهين: أحدهما أن الرخصة نعمة, فلا تنال بالمعصية, ويجعل السفر معدوما في حقها كالسكر يجعل معدوما في حق الرخص المتعلقة بزوال العقل لكونه معصية, وثانيهما قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} فإنه جعل رخصة أكل الميتة منوطة بالاضطرار حال كون المضطر غير باغ أي: خارج على الإمام, ولا عاد أي: ظالم على المسلمين بقطع الطريق, فيبقى في غير هذه الحالة على أصل الحرمة, ويكون الحكم كذلك في سائر الرخص بالقياس أو بدلالة النص أو بالإجماع على عدم الفصل.
أجيب عن الأول بأن المعصية هي البغي, والتمرد, والإباق مثلا لا نفس السفر بل المعصية منفصلة عن السفر من كل وجه إذ قد يوجد بدونه كالباغي أو الآبق المقيم, وقد يكون السفر مندوبا

(2/410)


حكم الخطأ
ومنها الخطأ وهو يصلح عذرا في سقوط حق الله تعالى إذا حصل عن اجتهاد، ويصلح شبهة في العقوبة حتى لا يأثم إثم القتل ولا يؤاخذ بحد ولا قصاص؛ لأنه جزاء كامل فلا يجب على المعذور.
ـــــــ
"ومنها الخطأ" وهو أن يفعل فعلا من غير أن يقصده قصدا تاما كما إذا رمى صيدا, فأصاب إنسانا فإنه قصد الرمي لكن لم يقصد به الإنسان فوجد قصد غير تام "وهو يصلح عذرا في سقوط حق الله تعالى إذا حصل عن اجتهاد, ويصلح شبهة في العقوبة حتى لا يأثم إثم القتل ولا يؤاخذ بحد ولا قصاص; لأنه جزاء كامل فلا يجب على المعذور وليس بعذر في
.........................................................
فتقطع المعصية كما إذا خرج غازيا فاستقبله الغير فقطع عليهم الطريق, والنهي لمعنى منفصل عنه من كل وجه لا ينافي مشروعيته كالصلاة في الأرض المغصوبة مع أن المشروع أصل, فلأن لا ينافي سببيته لحكم مع أن السبب, وسيلة أولى, وأيضا صفة القربة في المشروع مقصودة بخلاف صفة الحل في السبب; لأنه وسيلة, ومنافاة النهي لصفة القربة المبنية على الطلب والأمر أشد من منافاته لصفة الحل الثابت بمجرد الإباحة فالنهي لمعنى منفصل إذا لم يمنع صفة القربة عن المشروع, فلأن لا يمنع صفة الحل عن السبب أولى, وهذا بخلاف السكر فإنه حدث من شرب المسكر, وهو حرام.
وعن الثاني بأن الإثم, وعدمه لا يتعلق بنفس الإضرار بل بالأكل فلا بد في الآية من تقدير فعل أي: فمن اضطر, فأكل, ويكون ذلك الفعل هو العامل في الحال أي: فأكل حال كونه غير باغ, ولا عاد, فيجب أن يعتبر البغي, والعداء في الأكل الذي سيقت الآية لبيان حرمته, وحله أي: غير متجاوز في الأكل قدر الحاجة على أن عاد مكرر للتأكيد أي: غير طالب للمحرم, وهو يجد غيره, ولا متجاوز قدر ما يسد الرمق, ويدفع الهلاك أو غير متلذذ, ولا متزود أو غير باغ على مضطر آخر, ولا متجاوز سد الجوعة.
قوله: "ومنها الخطأ, وهو أن يفعل فعلا من غير أن يقصده قصدا تاما" , وذلك أن تمام قصد الفعل بقصد محله, وفي الخطأ يوجد قصد الفعل دون قصد المحل, وهذا مراد من قال: إنه فعل يصدر بلا قصد إليه عند مباشرة أمر مقصود سواء, ويجوز المؤاخذة بالخطأ لقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} فإنه لو لم يجز لم يكن للدعاء فائدة, وعند المعتزلة لا يجوز; لأن المؤاخذة إنما هي على الجناية, وهي بالقصد, والجواب أن ترك التثبت منه جناية, وقصد بهذا الاعتبار جعل الخطأ من العوارض المكتسبة.
قوله: "ويصلح" مخففا أي: سببا للتخفيف فيما هو صلة واجبة بالفعل دون المحل كالدية في القتل الخطأ فإنها صلة; لأنها لم تقابل بمال كالضمان, ووجبت على الفعل دون المحل فوجبت على العاقبة في ثلاث سنين تخفيفا على الخاطئ, وقد صرح فخر الإسلام رحمه الله تعالى في بحث

(2/411)


الخطأ ليس بعذر في حقوق العباد
وليس بعذر في حقوق العباد حتى يجب ضمان العدوان لأنه ضمان مال لا جزاء فعل ويصلح مخففا لما هو صلة لم تقابل مالا ووجبت بالفعل كالدية ويوجب الكفارة إذ لا ينفك عن ضرب تقصير، فيصلح سببا لما هو دائر بين العباد، والعقوبة إذ هو جزاء قاصر ويقع طلاقه عندنا لا عند الشافعي رحمه الله تعالى لعدم الاختيار فصار كالنائم
ـــــــ
حقوق العباد حتى يجب ضمان العدوان لأنه ضمان مال لا جزاء فعل ويصلح" أي: الخطأ "مخففا لما هو صلة لم تقابل مالا ووجبت بالفعل كالدية" إنما قال هذا; لأن ما يجب بسبب المحل لا يكون الخطأ مخففا فيه كما ذكرنا في المتن; لأنه ضمان مال لا جزاء فعل "ويوجب الكفارة إذ لا ينفك عن ضرب تقصير, فيصلح سببا لما هو دائر بين العباد, والعقوبة إذ هو جزاء قاصر" الضمير يرجع إلى ما هو دائر والمراد به الكفارة "ويقع طلاقه عندنا لا عند الشافعي رحمه الله تعالى لعدم الاختيار فصار كالنائم ولنا أن دوام العمل بالعقل بلا سهو, وغفلة أمر لا يوقف عليه إلا بحرج فأقيم البلوغ مقامه لا مقام اليقظة, والرضى فيما يبتنى عليهما كالبيع إذ لا حرج في دركهما" تقريره أن الأصل أن لا تعتبر الأعمال إلا, وأن تكون
.........................................................
الإكراه: بأن الدية ضمان المتلف, والكفارة جزاء الفعل, وصرح كثير من المحققين بأن الدية جزاء المحل دون الفعل بدليل أنه يتحد باتحاد المحل, وقد مر تحقيق ذلك في بحث الصبي, وعبارة فخر الإسلام رحمه الله تعالى هاهنا أن الخطأ لما كان عذرا صلح سببا للتخفيف بالفعل فيما هو صلة لا تقابل مالا.
قوله: "إذ لا ينفك" أي: الخطأ عن ضرب تقصير, وهو ترك التثبت, والاحتياط فهو بأصل الفعل مباح, وبترك التثبت محظور, فيكون جناية قاصرة يصلح سببا لجزاء قاصر.
قوله: "ويقع طلاقه" إن طلاق المخطئ كما إذا أراد أن يقول: أنت جالس فقال أنت طالق, وعند الشافعي رحمه الله تعالى لا يقع; لأن الاعتبار بالكلام إنما هو بالقصد الصحيح, وهو لا يوجد في المخطئ كالنائم, وجوابه مذكور في الكتاب, وفي قوله لا مقام اليقظة, والرضى جواب عما يقال: لو كان البلوغ من عقل قائما مقام القصد في الطلاق لوجب أن يصح طلاق النائم إقامة للبلوغ مقام القصد, وأن يقوم البلوغ مقام الرضى في التصرفات المفتقرة إلى الرضى كالبيع والإجارة لأن الرضى أمر باطن كالقصد, وحاصل الجواب أن السبب الظاهر إنما يقوم مقام الشيء إذا كان ذلك الشيء خفيا يعسر الوقوف عليه, وعدم القصد, وأهلية استعمال العقل في النائم معلوم بلا حرج, وكذا وجود الرضى, وعدمه; لأن الرضا نهاية الاختيار بحيث يفضي أثره إلى الظاهر من ظهور البشاشة في الوجه, ونحو ذلك, ولما كان عدم القصد في النائم, ووجود الرضى في غيره مما لا يعسر الوقوف عليه لم يحتج إلى إقامة الشيء مقامهما بل جعل الحكم متعلقا بحقيقتهما, وهذا ظاهر لكن في قوله لا مقام اليقظة تسامح; لأن المعترض يقول بإقامة البلوغ مقام القصد لا مقام اليقظة فإن انتفاء

(2/412)


ولنا أن دوام العمل بالعقل بلا سهو، وغفلة أمر لا يوقف عليه إلا بحرج فأقيم البلوغ مقامه لا مقام اليقظة، والرضى فيما يبتنى عليهما كالبيع إذ لا حرج في دركهما وإذا جرى البيع على لسانه خطأ وصدقه خصمه يكون كبيع المكره.
ـــــــ
صادرة عن العقل بلا سهو, وغفلة, وأما إذا كانت صادرة عن سهو وغفلة يجب أن لا تعتبر, ولا يؤاخذ الإنسان بها لقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}; ولأن السهو, والغفلة مركوزان في الإنسان, فيكونان عذرا لكن هذا أمر لا يوقف عليه إلا بالحرج, فأقمنا البلوغ مقام دوام العقل من غير سهو وغفلة إقامة للدليل مقام المدلول فإن السهو والغفلة إنما يعرضان لنقصان العقل فإذا كمل العقل بكثرة التجارب عند البلوغ لا يقع السهو, والغفلة إلا نادرا وكل عمل صدر عن العاقل البالغ اعتبر في جميع الأوقات صادرا عن العقل بلا سهو وغفلة, ولم يعتبر أنه ربما يسهو في وقت ما وهذا معنى قوله: أن دوام العمل بالعقل إلخ. وإنما لم نقم البلوغ مقام اليقظة حتى أبطلنا عبارات النائم وكذا لم نقم البلوغ مقام الرضى في التصرفات المبنية على الرضى كالبيع ونحوه إذ لا حرج في درك اليقظة, والرضا ولا يحتاج إلى إقامة الدليل مقامهما فإن الأصل أن الأمور الخفية التي يتعذر الوقوف عليها تقيم ما هو دليل عليها مقامها كالسفر مقام المشقة أما الأمور الظاهرة فلا, وإنما ذكر اليقظة, والرضى دفعا لشبهة الشافعي رحمه الله تعالى فإنه قال لو: قام البلوغ مقام اعتدال العقل لوقع طلاق النائم ولقام البلوغ مقام الرضا فيما يعتمد على الرضا ثم عطف على قوله, ويقع طلاقه, قوله:
"وإذا جرى البيع على لسانه" أي: لسان الخاطئ "خطأ وصدقه خصمه يكون كبيع المكره" "وأما الذي من غيره فالإكراه" هذا هو القسم الثاني من العوارض المكتسبة "وهو إما ملجئ بأن يكون بفوت النفس أو العضو وهذا معدم للرضا ومفسد للاختيار وإما غير
.........................................................
يقظة النائم أمر ظاهر, ولأن الذي يحتاج إلى إثباته في أهلية الأحكام, واعتبار الكلام هو العمل عن قصد, وهو الأمر الباطن الذي يحتاج إلى إقامة شيء مقامه لا حقيقة اليقظة, وكأنه عبر باليقظة عن القصد, واستعمال العقل لما بينهما من الملابسة, والمراد أن السبب الظاهر إنما يقام مقام الشيء عند خفاء وجوده, وعدمه, وعدم القصد في النائم مدرك بلا حرج, وكذا عدم الرضى في المكره.
قوله: "كالبيع" فإنه يعتمد القصد تصحيحا للكلام, ويعتمد الرضى لكونه مما يحتمل الفسخ بخلاف الطلاق فإنه يبتني على القصد دون الرضى فلو أراد أن يقول سبحان الله فجرى على لسانه بعت هذا الشيء منك بكذا, وقبله المخاطب, وصدقه في أن البيع إنما جرى على لسانه خطأ فهو كبيع المكره ينعقد نظرا إلى أصل الاختيار; لأن الكلام صدر عنه باختياره أو بإقامة البلوغ مقام القصد لكن يكون فاسدا غير نافذ لعدم الرضى حقيقة.

(2/413)