شرح التلويح على التوضيح [الْقَسْم الثَّانِي مِنْ الْحُكْمِ وَهُوَ
الَّذِي يَكُونُ حُكْمًا بِتَعَلُّقِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ آخَرَ]
(قَوْلُهُ: عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي بَابِ الْقِيَاسِ)
إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِتَأْثِيرِ الشَّيْءِ
هَاهُنَا هُوَ اعْتِبَارُ الشَّارِعِ إيَّاهُ بِحَسَبِ
نَوْعِهِ، أَوْ جِنْسِهِ الْقَرِيبِ فِي الشَّيْءِ الْآخَرِ
لَا الْإِيجَادِ كَمَا فِي الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ، ثُمَّ
لَا يَخْفَى أَنَّ الْعُمْدَةَ فِي مِثْلِ هَذِهِ
التَّقْسِيمَاتِ هُوَ الِاسْتِقْرَاءُ وَالْمَذْكُورُ فِي
بَيَانِ وَجْهِ الِانْحِصَارِ إنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ
الضَّبْطِ وَإِلَّا فَالْمَنْعُ وَارِدٌ عَلَى قَوْلِهِ:
وَإِلَّا فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَدُلَّ عَلَيْهِ لِجَوَازِ
التَّعْلِيقِ بِوُجُوهٍ أُخَرَ مِثْلَ الْمَانِعِيَّةِ
كَتَعَلُّقِ
(2/261)
الْآخَرِ، فَهُوَ رُكْنٌ وَإِلَّا فَإِنْ
كَانَ مُؤَثِّرًا فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْقِيَاسِ
فَعِلَّةٌ وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ مُوَصِّلًا إلَيْهِ فِي
الْجُمْلَةِ فَسَبَبٌ وَإِلَّا فَإِنْ تَوَقَّفَ عَلَيْهِ
وُجُودُهُ فَشَرْطٌ وَإِلَّا فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَدُلَّ
عَلَى وُجُودِهِ فَعَلَامَةٌ. وَأَمَّا الرُّكْنُ فَمَا
يَقُومُ بِهِ الشَّيْءُ وَقَدْ شَنَّعَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى
أَصْحَابِنَا فِيمَا قَالُوا: الْإِقْرَارُ رُكْنٌ زَائِدٌ
وَالتَّصْدِيقُ رُكْنٌ أَصْلِيٌّ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ)
أَيْ الْإِقْرَارُ (رُكْنًا يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَائِهِ
انْتِفَاءُ الْمُرَكَّبِ كَمَا تَنْتَفِي الْعَشَرَةُ
بِانْتِفَاءِ الْوَاحِدِ فَنَقُولُ الرُّكْنُ الزَّائِدُ
شَيْءٌ اعْتَبَرَهُ الشَّارِعُ فِي وُجُودِ الْمُرَكَّبِ
لَكِنْ إنْ عُدِمَ بِنَاءً عَلَى ضَرُورَةٍ جَعَلَ الشَّارِعُ
عَدَمَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
النَّجَاسَةِ بِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ بَعْدَمَا فَسَّرَ
رُكْنَ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ دَاخِلٌ فِيهِ لَا مَعْنَى
لِتَفْسِيرِهِ بِمَا يَقُومُ بِهِ الشَّيْءُ؛ لِأَنَّهُ
تَفْسِيرٌ بِالْأَخْفَى مَعَ أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَى
الْمَحَلِّ الَّذِي يَقُومُ بِهِ الْحَالُ كَالْجَوْهَرِ
لِلْعَرَضِ.
(قَوْلُهُ: وَقَدْ شَنَّعَ بَعْضُ النَّاسِ) . وَجْهُ
التَّشْنِيعِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّ قَوْلَنَا رُكْنٌ
زَائِدٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِنَا رُكْنٌ لَيْسَ بِرُكْنٍ؛
لِأَنَّ مَعْنَى الرُّكْنِ مَا يَدْخُلُ فِي الشَّيْءِ
وَمَعْنَى الزَّائِدِ مَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ بَلْ يَكُونُ
خَارِجًا عَنْهُ وَوَجْهُ التَّقَصِّي أَنَّا لَا نَعْنِي
بِالزَّائِدِ مَا يَكُونُ خَارِجًا عَنْ الشَّيْءِ بِحَيْثُ
لَا يَنْتَفِي الشَّيْءُ بِانْتِفَائِهِ بَلْ نَعْنِي بِهِ مَا
لَا يَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِ حُكْمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ
فَمَعْنَى الرُّكْنِ الزَّائِدِ الْجُزْءُ الَّذِي إذَا
انْتَفَى كَانَ حُكْمُ الْمُرَكَّبِ بَاقِيًا بِحَسَبِ
اعْتِبَارِ الشَّارِعِ وَذَلِكَ أَنَّ الْجُزْءَ إذَا كَانَ
مِنْ الضَّعْفِ بِحَيْثُ لَا يَنْتَفِي حُكْمُ الْمُرَكَّبِ
بِانْتِفَائِهِ كَانَ شَبِيهًا بِالْأَمْرِ الْخَارِجِ عَنْ
الْمُرَكَّبِ فَسُمِّيَ زَائِدًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ،
وَهَذَا قَدْ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْكَيْفِيَّةِ
كَالْإِقْرَارِ فِي الْإِيمَانِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ
الْكَمِّيَّةِ كَالْأَقَلِّ فِي الْمُرَكَّبِ مِنْهُ، وَمِنْ
الْأَكْثَرِ حَيْثُ يُقَالُ: لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ،
وَأَمَّا جَعْلُ الْأَعْمَالِ دَاخِلَةً فِي الْإِيمَانِ كَمَا
نُقِلَ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا
يَجْعَلُهَا دَاخِلَةً فِي الْإِيمَانِ عَلَى وَجْهِ
الْكَمَالِ لَا فِي حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ، وَأَمَّا عِنْدَ
الْمُعْتَزِلَةِ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي حَقِيقَتِهِ حَتَّى
أَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا.
فَإِنْ قُلْت: تَمْثِيلُهُ فِي ذَلِكَ بِالْإِنْسَانِ
وَأَعْضَائِهِ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ الْمَجْمُوعَ
الْمُشَخَّصَ الَّذِي يَكُونُ الْيَدُ جُزْءًا مِنْهُ لَا
شَكَّ؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ الْيَدِ غَايَتُهُ
أَنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ لَا يَمُوتُ، وَلَا يُسْلَبُ عَنْهُ
اسْمُ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَهُوَ غَيْرُ مُضِرٍّ إذْ
التَّحْقِيقُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ الْأَعْضَاءِ لَيْسَ بِجُزْءٍ
مِنْ حَقِيقَةِ الْإِنْسَانِ.
قُلْت: الْمَقْصُودُ بِالتَّمْثِيلِ أَنَّ الرَّأْسَ مَثَلًا
جُزْءٌ يَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِ حُكْمُ الْمُرَكَّبِ مِنْ
الْحَيَاةِ وَتَعَلُّقُ الْخِطَابِ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَالْيَدُ
رُكْنٌ لَيْسَ كَذَلِكَ لِبَقَاءِ الْحَيَاةِ وَمَا
يَتْبَعُهَا عِنْدَ فَوَاتِ الْيَدِ مَعَ أَنَّ حَقِيقَةَ
الْمُرَكَّبِ الْمُشَخَّصِ تَنْتَفِي بِانْتِفَاءِ كُلٍّ
مِنْهُمَا، وَقَدْ يُقَالُ: فِي تَوْجِيهِ الرُّكْنِ
الزَّائِدِ إنَّ بَعْضَ الشَّرَائِطِ وَالْأُمُورِ
الْخَارِجِيَّةِ قَدْ يَكُونُ لَهُ زِيَادَةُ تَعَلُّقٍ
وَاعْتِبَارٍ فِي الشَّيْءِ بِحَيْثُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ
جُزْءٍ لَهُ فَيُسَمَّى رُكْنًا مَجَازًا فَالْحَاصِلُ أَنَّ
لَفْظَ الزَّائِدِ، أَوْ لَفْظَ الرُّكْنِ مَجَازٌ
وَالْأَوَّلُ أَوْفَقُ بِكَلَامِ الْقَوْمِ.
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْعِلَّةُ)
(2/262)
عَفْوًا وَاعْتَبَرَ الْمُرَكَّبَ
مَوْجُودًا حُكْمًا. وَقَوْلُهُمْ: لِلْأَكْثَرِ حُكْمُ
الْكُلِّ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَهَذَا نَظِيرُ أَعْضَاءِ
الْإِنْسَانِ فَالرَّأْسُ رُكْنٌ يَنْتَفِي الْإِنْسَانُ
بِانْتِفَائِهِ وَالْيَدُ رُكْنٌ لَا يَنْتَفِي بِانْتِفَائِهِ
وَلَكِنْ يَنْقُصُ. وَأَمَّا الْعِلَّةُ فَإِمَّا عِلَّةٌ
اسْمًا وَمَعْنًى وَحُكْمًا أَيْ يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهَا)
هَذَا تَفْسِيرُ الْعِلَّةِ اسْمًا، (وَهِيَ مُؤَثِّرَةٌ
فِيهِ) هَذَا تَفْسِيرُ الْعِلَّةِ مَعْنًى، (وَلَا يَتَرَاخَى
الْحُكْمُ عَنْهَا) هَذَا تَفْسِيرُ الْعِلَّةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْخَارِجُ الْمُؤَثِّرُ
إلَّا أَنَّ لَفْظَ الْعِلَّةِ لَمَّا كَانَ يُطْلَقُ عَلَى
مَعَانٍ أُخَرَ بِحَسَبِ الِاشْتِرَاكِ، أَوْ الْمَجَازِ عَلَى
مَا اخْتَارَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - حَاوَلُوا فِي هَذَا الْمَقَامِ تَقْسِيمَ مَا
يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْعِلَّةِ إلَى أَقْسَامِهِ كَمَا
نُقَسِّمُ الْعَيْنَ إلَى الْجَارِيَةِ وَالْبَاصِرَةِ
وَغَيْرِهِمَا، أَوْ الْأَسَدَ إلَى السَّبُعِ وَالشُّجَاعِ.
وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ اعْتَبَرُوا فِي حَقِيقَةِ
الْعِلَّةِ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ وَهِيَ إضَافَةُ الْحُكْمِ
إلَيْهَا وَتَأْثِيرُهَا فِيهِ وَحُصُولُهُ مَعَهَا فِي
الزَّمَانِ، وَسَمَّوْهَا بِاعْتِبَارِ الْأَوَّلِ الْعِلَّةَ
اسْمًا، وَبِالثَّانِي الْعِلَّةَ مَعْنًى وَبِالثَّالِثِ
الْعِلَّةَ حُكْمًا.
وَمَعْنَى إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى الْعِلَّةِ مَا يُفْهَمُ
مِنْ قَوْلِنَا قَتَلَهُ بِالرَّمْيِ وَعَتَقَ بِالشِّرَاءِ
وَهَلَكَ بِالْجُرْحِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَتَفْسِيرُ الْعِلَّةِ
اسْمًا بِمَا تَكُونُ مَوْضُوعَةً فِي الشَّرْعِ لِأَجْلِ
الْحُكْمِ وَمَشْرُوعَةً لَهُ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْعِلَلِ
الشَّرْعِيَّةِ لَا فِي مِثْلِ الرَّمْيِ وَالْجُرْحِ.
وَتَرَكَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
تَقْيِيدَ الْإِضَافَةِ بِكَوْنِهَا بِلَا وَاسِطَةٍ؛
لِأَنَّهُ الْمَفْهُومُ مِنْ الْإِطْلَاقِ وَالْإِضَافَةُ
بِلَا وَاسِطَةٍ لَا تُنَافِي ثُبُوتَ الْوَاسِطَةِ فِي
الْوَاقِعِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: هَلَكَ بِالْجُرْحِ وَقَتَلَهُ
بِالرَّمْيِ مَعَ تَحَقُّقِ الْوَسَائِطِ فَبِاعْتِبَارِ
حُصُولِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ أَعْنِي الْعِلِّيَّةَ اسْمًا
وَمَعْنًى وَحُكْمًا كُلَّهَا، أَوْ بَعْضَهَا تَصِيرُ
الْأَقْسَامُ سَبْعَةً؛ لِأَنَّهُ إنْ اجْتَمَعَ الْكُلُّ
فَوَاحِدٌ وَإِلَّا فَإِنْ اجْتَمَعَ اثْنَانِ فَثَلَاثَةٌ؛
لِأَنَّهُمَا إمَّا الِاسْمُ وَالْمَعْنَى وَإِمَّا الِاسْمُ
وَالْحُكْمُ وَإِمَّا الْمَعْنَى وَالْحُكْمُ وَإِلَّا
فَثَلَاثَةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ إمَّا الِاسْمُ، أَوْ
الْمَعْنَى، أَوْ الْحُكْمُ وَبِوَجْهٍ آخَرَ إنْ كَانَتْ
الْعِلَّةُ بِحَسَبِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ بَسِيطًا
فَثَلَاثَةٌ وَإِلَّا فَإِنْ تَرَكَّبَ مِنْ اثْنَيْنِ
فَثَلَاثَةٌ أَيْضًا، وَإِنْ تَرَكَّبَ مِنْ الثَّلَاثَةِ
فَوَاحِدٌ، وَقَدْ أَهْمَلَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - التَّصْرِيحَ بِالْعِلَّةِ مَعْنًى فَقَطْ
وَبِالْعِلَّةِ حُكْمًا فَقَطْ وَجَعَلَ الْأَقْسَامَ
السَّبْعَةَ هِيَ الْعِلَّةُ اسْمًا وَحُكْمًا وَمَعْنًى
وَالْعِلَّةُ اسْمًا فَقَطْ وَالْعِلَّةُ اسْمًا وَمَعْنًى
فَقَطْ وَالْعِلَّةُ الَّتِي تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ
وَالْوَصْفَ الَّذِي يُشْبِهُ الْعِلَلَ وَالْعِلَّةُ مَعْنًى
وَحُكْمًا لَا اسْمًا وَالْعِلَّةُ اسْمًا وَحُكْمًا لَا
مَعْنًى، وَلَمَّا كَانَتْ الْعِلَّةُ الَّتِي تُشْبِهُ
السَّبَبَ دَاخِلَةً فِي الْأَقْسَامِ الْأُخَرِ لَا
مُقَابِلَةً لَهَا أَسْقَطَهَا الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ دَرَجَةِ الِاعْتِبَارِ وَأَوْرَدَ
فِي الْأَقْسَامِ الْعِلَّةَ حُكْمًا فَقَطْ وَنَبَّهَ فِي
آخَرِ كَلَامِهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَصْفِ الَّذِي
يُشْبِهُ الْعِلَلَ هُوَ الْعِلَّةُ مَعْنًى فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ
جُزْءُ الْعِلَّةِ لِتَحَقُّقِ التَّأْثِيرِ مَعَ عَدَمِ
إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ، وَلَا تَرَتُّبِهِ عَلَيْهِ،
وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضْ فَخْرُ الْإِسْلَامِ هَاهُنَا
لِلْعِلَّةِ حُكْمًا فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَهَا فِي بَابِ
تَقْسِيمِ الشُّرُوطِ وَهُوَ الشَّرْطُ الَّذِي يُشْبِهُ
الْعِلَلَ.
(قَوْلُهُ: فَعِنْدَنَا هِيَ مُقَارَنَةٌ) لَا نِزَاعَ فِي
تَقَدُّمِ الْعِلَّةِ
(2/263)
حُكْمًا.
(كَالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ لِلْمِلْكِ وَالنِّكَاحِ لِلْحِلِّ
وَالْقَتْلِ لِلْقِصَاصِ فَعِنْدَنَا هِيَ مُقَارِنَةٌ
لِلْمَعْلُولِ كَالْعَقْلِيَّةِ وَفَرَّقَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا
بَيْنَهُمَا) أَيْ بَيْنَ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ
فَقَالُوا: الْمَعْلُولُ يُقَارِنُ الْعِلَلَ الْعَقْلِيَّةَ
وَيَتَأَخَّرُ عَنْ الشَّرْعِيَّةِ.
(وَإِمَّا اسْمًا فَقَطْ كَالْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ عَلَى مَا
يَأْتِي. وَإِمَّا اسْمًا وَمَعْنًى كَالْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ
وَالْبَيْعِ بِالْخِيَارِ)
، فَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْمِلْكَ يُضَافُ إلَيْهِ عِلَّةٌ
اسْمًا، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُؤَثِّرٌ فِي الْمِلْكِ عِلَّةً
مَعْنًى لَكِنَّ الْمِلْكَ يَتَرَاخَى عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ
عِلَّةً حُكْمًا عَلَى مَا ذَكَرْنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
عَلَى الْمَعْلُولِ بِمَعْنَى احْتِيَاجِهِ إلَيْهَا
وَيُسَمَّى التَّقَدُّمُ بِالْعِلِّيَّةِ وَبِالذَّاتِ، وَلَا
فِي مُقَارَنَةِ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ الْعَقْلِيَّةِ
لِمَعْلُولِهَا بِالزَّمَانِ كَيْ لَا يَلْزَمَ التَّخَلُّفُ،
وَأَمَّا فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى
أَنَّهُ تَجِبُ الْمُقَارَنَةُ بِالزَّمَانِ إذْ لَوْ جَازَ
التَّخَلُّفُ لَمَا صَحَّ الِاسْتِدْلَال بِثُبُوتِ الْعِلَّةِ
عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ غَرَضُ
الشَّارِعِ مِنْ وَضْعِ الْعِلَلِ لِلْأَحْكَامِ، وَقَدْ
يُتَمَسَّكُ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الْأَصْلَ اتِّفَاقُ الشَّرْعِ
وَالْعَقْلِ وَلَا يَخْفَى ضَعْفُهُ. وَفَرَّقَ بَعْضُ
الْمَشَايِخِ كَأَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ
وَغَيْرِهِ بَيْنَ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ فَجَوَّزَ
فِي الشَّرْعِيَّةِ تَأَخُّرَ الْحُكْمِ عَنْهَا وَظَاهِرُ
عِبَارَةِ الْإِمَامَيْنِ أَيْ أَبِي الْيُسْرِ وَفَخْرِ
الْإِسْلَامِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَدُلُّ عَلَى
أَنَّهُ يَلْزَمُ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِعَدَمِ
الْمُقَارَنَةِ أَنْ يَعْقُبَ الْحُكْمُ الْعِلَّةَ
وَيَتَّصِلَ بِهَا، فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الْيُسْرِ أَنَّهُ
قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ حُكْمُ الْعِلَّةِ يَثْبُتُ
بَعْدَهَا بِلَا فَصْلٍ وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ
فَرَّقَ وَقَالَ مِنْ صِفَةِ الْعِلَّةِ تَقَدُّمُهَا عَلَى
الْحُكْمِ وَالْحُكْمُ يَعْقُبُهَا، وَلَا يُقَارِنُهَا
بِخِلَافِ الِاسْتِطَاعَةِ مَعَ الْفِعْلِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ
عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي الْيُسْرِ أَنَّ الْعِلَّةَ لَا
تُوجِبُ الْحُكْمَ إلَّا بَعْدَ وُجُودِهَا فَبِالضَّرُورَةِ
يَكُونُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ عَقِيبَهَا فَيَلْزَمُ تَقَدُّمُ
الْعِلَّةِ بِزَمَانٍ، وَإِذَا جَازَ بِزَمَانٍ جَازَ
بِزَمَانَيْنِ بِخِلَافِ الِاسْتِطَاعَةِ، فَإِنَّهَا عَرَضٌ
لَا تَبْقَى زَمَانَيْنِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ
مَعَهَا لَزِمَ وُجُودُ الْمَعْلُولِ بِلَا عِلَّةٍ، أَوْ
خُلُوُّ الْعِلَّةِ عَنْ الْمَعْلُولِ، وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ
فِي الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا فِي نَفْسِهَا
بِمَنْزِلَةِ الْأَعْيَانِ بِدَلِيلِ قَبُولِهَا الْفَسْخَ
بَعْدَ أَزْمِنَةٍ مُتَطَاوِلَةٍ كَفَسْخِ الْبَيْعِ
وَالْإِجَارَةِ مَثَلًا.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: الْعِلَّةُ لَا
تُوجِبُ الْحُكْمَ إلَّا بَعْدَ وُجُودِهَا بَعْدِيَّةً
زَمَانِيَّةً، فَهُوَ مَمْنُوعٌ بَلْ عَيْنُ النِّزَاعِ،
وَإِنْ أَرَادَ بَعْدِيَّةً ذَاتِيَّةً، فَهُوَ لَا يُوجِبُ
تَأَخُّرَ الْمَعْلُولِ عَنْ الْعِلَّةِ تَأَخُّرًا
زَمَانِيًّا عَلَى مَا هُوَ الْمُدَّعَى، وَلَوْ سَلِمَ
فَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ الِاتِّصَالِ بِحُكْمِ الشَّرْعِ حَتَّى
لَا يَجُوزَ التَّأَخُّرُ بِزَمَانَيْنِ، وَإِنْ جَازَ
بِزَمَانٍ، ثُمَّ لَوْ سَلِمَ صِحَّةُ مَا ذَكَرَهُ فِي
مَسْأَلَةِ الِاسْتِطَاعَةِ فَدَلِيلُهُ مَنْقُوضٌ بِالْعِلَلِ
الْعَقْلِيَّةِ إذَا كَانَتْ أَعْيَانًا لَا أَعْرَاضًا،
وَأَمَّا بَقَاءُ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ حَقِيقَةً
كَالْعُقُودِ مَثَلًا، فَلَا خَفَاءَ فِي بُطْلَانِهِ،
فَإِنَّهَا كَلِمَاتٌ لَا يُتَصَوَّرُ حُدُوثُ حَرْفٍ مِنْهَا
حَالَ قِيَامِ حَرْفٍ آخَرَ وَالنَّسْخُ إنَّمَا يَرِدُ عَلَى
الْحُكْمِ دُونَ الْعَقْدِ، وَلَوْ سَلِمَ فَالْحُكْمُ
بِبَقَائِهَا ضَرُورِيٌّ ثَبَتَ دَفْعًا لِلْحَاجَةِ إلَى
الْفَسْخِ، فَلَا يَثْبُتُ فِي
(2/264)
أَنَّ الْخِيَارَ (يَدْخُلُ عَلَى
الْحُكْمِ فَقَطْ) فِي آخِرِ فَصْلِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ.
(وَدَلَالَةُ كَوْنِهِ عِلَّةً لَا سَبَبًا أَنَّ الْمَانِعَ
إذَا زَالَ وَجَبَ الْحُكْمُ بِهِ مِنْ حِينِ الْإِيجَابِ
وَكَالْإِجَارَةِ حَتَّى صَحَّ تَعْجِيلُ الْأُجْرَةِ)
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: إنَّهُ عِلَّةٌ مَعْنًى حَتَّى لَوْ
لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا صَحَّ التَّعْجِيلُ كَالتَّكْفِيرِ
قَبْلَ الْحِنْثِ عِنْدَنَا. (وَلَيْسَتْ عِلَّةً حُكْمًا؛
لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مَعْدُومَةٌ) فَيَكُونُ الْحُكْمُ،
وَهُوَ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ مُتَرَاخِيًا عَنْ الْعَقْدِ،
فَلَا يَكُونُ عِلَّةً حُكْمًا (لَكِنَّهَا) أَيْ الْإِجَارَةَ
(تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْإِضَافَةِ إلَى
وَقْتٍ مُسْتَقْبَلٍ) كَمَا إذَا قَالَ فِي رَجَبٍ أَجَّرْت
الدَّارَ مِنْ غُرَّةِ رَمَضَانَ يَثْبُتُ الْحُكْمُ مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
حَقِّ غَيْرِ الْفَسْخِ.
(قَوْلُهُ: كَالْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ عَلَى مَا يَأْتِي) فِي
أَقْسَامِ الشَّرْطِ مِنْ أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ قَبْلَ
دُخُولِ الدَّارِ ثَابِتٌ بِالتَّطْلِيقِ السَّابِقِ وَمُضَافٌ
إلَيْهِ فَيَكُونُ عِلَّةً لَهُ اسْمًا لَكِنَّهُ لَيْسَ
بِمُؤَثِّرٍ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ
بَلْ الْحُكْمُ مُتَرَاخٍ عَنْهُ، فَلَا يَكُونُ عِلَّةً
مَعْنًى وَحُكْمًا.
(قَوْلُهُ: عَلَى مَا ذَكَرْنَا) فِي آخِرِ فَصْلِ مَفْهُومِ
الْمُخَالَفَةِ مِنْ أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَجُوزَ شَرْطُ
الْخِيَارِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْلِيقِ التَّمْلِيكِ
بِالْخَطَرِ إلَّا أَنَّ الشَّارِعَ جَوَّزَهُ لِلضَّرُورَةِ
وَهِيَ تَنْدَفِعُ بِدُخُولِهِ فِي الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ
الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ خَطَرًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَيَلْزَمُ الْقَوْلُ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ
أَيْ تَأَخُّرِ الْحُكْمِ عَنْهَا لِمَانِعٍ قُلْنَا
الْخِلَافُ فِي تَخْصِيصِ الْعِلَلِ إنَّمَا هُوَ فِي
الْأَوْصَافِ الْمُؤَثِّرَةِ فِي الْأَحْكَامِ لَا فِي
الْعِلَلِ الَّتِي هِيَ أَحْكَامٌ شَرْعِيَّةٌ كَالْعُقُودِ
وَالْفَسْخِ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْخِلَافَ إنَّمَا هُوَ
فِي الْعِلَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَعْنِي الْعِلَّةَ اسْمًا
وَمَعْنًى وَحُكْمًا وَلَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّهُ لَا
يُتَصَوَّرُ التَّرَاخِي فِيمَا هُوَ عِلَّةٌ حُكْمًا فَكَيْفَ
يَقَعُ فِيهِ النِّزَاعُ.
(قَوْلُهُ: وَدَلَالَةُ كَوْنِهِ عِلَّةً) لَمَّا كَانَتْ
الْعِلَّةُ اسْمًا وَمَعْنًى يَتَرَاخَى عَنْهَا حُكْمُهَا
كَمَا فِي السَّبَبِ اُحْتِيجَ إلَى وَجْهِ التَّفْرِقَةِ
بَيْنَهُمَا وَالدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ
الْمَوْقُوفَ، أَوْ الْبَيْعَ بِالْخِيَارِ عِلَّةٌ لَا
سَبَبٌ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا زَالَ الْمَانِعُ بِأَنْ
يَأْذَنَ الْمَالِكُ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَبِمُضِيِّ
مُدَّةِ الْخِيَارِ، أَوْ يُجْبَرَ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ فِي
بَيْعِ الْخِيَارِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ
الْعَقْدِ أَيْ يَثْبُتُ الْمِلْكُ مِنْ حِينِ الْإِيجَابِ
حَتَّى يَمْلِكَهُ الْمُشْتَرِي بِزَوَائِدِهِ الْمُتَّصِلَةِ
وَالْمُنْفَصِلَةِ.
(قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ مَعْدُومَةٌ) . فَإِنْ
قُلْت: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً حُكْمًا
بِالنِّسْبَةِ إلَى مِلْكِ الْأُجْرَةِ؟ .
قُلْت: مِنْ ضَرُورَةِ عَدَمِ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فِي
الْحَالِ عَدَمُ مِلْكِ بَدَلِهَا، وَهُوَ الْأُجْرَةُ
لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الثُّبُوتِ كَالثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ.
(قَوْلُهُ: لَكِنَّهَا أَيْ الْإِجَارَةُ تُشْبِهُ
الْأَسْبَابَ) وَهَذَا اسْتِدْرَاكٌ مِنْ كَوْنِهَا عِلَّةً
وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بَنَى
مُشَابَهَةَ الْعِلَّةِ لِلسَّبَبِ عَلَى أَنْ يَتَخَلَّلَ
بَيْنَ الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ زَمَانٌ، وَلَا يُجْعَلُ
ثُبُوتُ الْحُكْمِ مُسْتَنِدًا إلَى حِينِ وُجُودِ الْعِلَّةِ
كَمَا إذَا قَالَ فِي رَجَبٍ أَجَّرْتُك الدَّارَ مِنْ غُرَّةِ
رَمَضَانَ، فَإِنَّهُ لَا يُثْبِتُ الْإِجَارَةَ مِنْ حِينِ
التَّكَلُّمِ بَلْ فِي غُرَّةِ رَمَضَانَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ
الْمَوْقُوفِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ مِنْ حِينِ
الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ حَتَّى يَمْلِكَ الْمُشْتَرِي
الْمَبِيعَ بِزَوَائِدِهِ فَكَأَنَّهُ لَيْسَ
(2/265)
غُرَّةِ رَمَضَانَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ
الْمَوْقُوفِ فَإِنَّهُ إذَا زَالَ الْمَانِعُ يَثْبُتُ
حُكْمُهُ مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ حَتَّى تَكُونَ الزَّوَائِدُ
الْحَاصِلَةُ فِي زَمَانِ التَّوَقُّفِ لِلْمُشْتَرِي، فَهُوَ
عِلَّةٌ غَيْرُ مُشَابِهَةٍ بِالْأَسْبَابِ بِخِلَافِ
الْإِجَارَةِ وَإِنَّمَا تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ؛ لِأَنَّ
السَّبَبَ الْحَقِيقِيَّ لَا بُدَّ أَنْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْحُكْمِ الْعِلَّةُ. فَالْعِلَّةُ الَّتِي
يَتَرَاخَى عَنْهَا الْحُكْمُ لَكِنْ إذَا ثَبَتَ لَا يَثْبُتُ
مِنْ حِينِ الْعِلَّةِ تَكُونُ مُشَابِهَةً لِلسَّبَبِ
لِوُقُوعِ تَخَلُّلِ الزَّمَانِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحُكْمِ
وَاَلَّتِي إذَا ثَبَتَ حُكْمُهَا يَثْبُتُ مِنْ أَوَّلِهِ،
وَلَمْ يَتَخَلَّلْ الزَّمَانُ بَيْنَهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
هُنَاكَ تَخَلُّلُ زَمَانٍ، وَأَمَّا فَخْرُ الْإِسْلَامِ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، فَقَدْ بَنَى ذَلِكَ عَلَى
أَنَّهُ إذَا وُجِدَ رُكْنُ الْعِلَّةِ وَتَرَاخَى عَنْهُ
وَصْفُهُ فَيَتَرَاخَى الْحُكْمُ إلَى وُجُودِ الْوَصْفِ،
فَمِنْ حَيْثُ وُجُودُ الْأَصْلِ يَكُونُ الْمَوْجُودُ عِلَّةً
يُضَافُ إلَيْهَا الْحُكْمُ إذْ الْوَصْفُ تَابِعٌ، فَلَا
يَنْعَدِمُ الْأَصْلُ بِعَدَمِهِ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ
إيجَابَهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنْتَظَرِ كَانَ
الْأَصْلُ قَبْلَ الْوَصْفِ طَرِيقًا لِلْوُصُولِ إلَى
الْحُكْمِ وَيَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ عَلَى وَاسِطَةٍ هِيَ
الْوَصْفُ فَيَكُونُ لِلْعِلَّةِ شَبَهٌ بِالْأَسْبَابِ
بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَا يُقَالُ: إنَّ مَا ذَكَرَهُ فَخْرُ
الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الرَّمْيِ
مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ لَمَّا تَرَاخَى عَنْهُ أَشْبَهَ
الْأَسْبَابَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَبْنَى شَبَهِ الْأَسْبَابِ
عَلَى تَرَاخِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَمَّا ذَكَرَ فِي
جَمِيعِ الْأَمْثِلَةِ السَّابِقَةِ أَنَّ الْحُكْمَ لَمَّا
تَرَاخَى إلَى وَصْفِ كَذَا، وَكَذَا كَانَتْ عِلَّةً تُشْبِهُ
الْأَسْبَابَ اخْتَصَرَ الْكَلَامَ هَاهُنَا وَمُرَادُهُ
بِأَنَّ حُكْمَ الرَّمْيِ لَمَّا تَرَاخَى إلَى الْوَسَائِطِ
الْمُفْضِيَةِ إلَى الْهَلَاكِ مِنْ الْمُضِيِّ فِي الْهَوَاءِ
وَالْوُصُولِ إلَى الْمَجْرُوحِ وَالنُّفُوذِ فِيهِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ كَانَ الرَّمْيُ عِلَّةً تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ فَصَارَ
الْحَاصِلُ أَنَّ مَا يُفْضِي إلَى الْحُكْمِ إنْ لَمْ يَكُنْ
بَيْنَهُمَا وَاسِطَةٌ، فَهُوَ عِلَّةٌ مَحْضَةٌ وَإِلَّا
فَإِنْ كَانَتْ الْوَاسِطَةُ عِلَّةً حَقِيقِيَّةً
مُسْتَقِلَّةً، فَهُوَ سَبَبٌ مَحْضٌ وَإِلَّا فَهُوَ عِلَّةٌ
تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْوَاسِطَةُ
أَمْرًا مُسْتَقِلًّا غَيْرَ عِلَّةٍ حَقِيقِيَّةٍ، أَوْ
يَكُونَ عِلَّةً حَقِيقِيَّةً غَيْرَ مُسْتَقِلَّةٍ بَلْ
حَاصِلَةً بِالْأَوَّلِ كَالْمَعْنَى فِي الْهَوَاءِ
الْحَاصِلِ بِالرَّمْيِ، ثُمَّ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَوْنَ
الْإِجَارَةِ مُتَضَمِّنَةً لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَى
الْمُسْتَقْبَلِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا صَرَّحَ بِذَلِكَ كَمَا
إذَا قَالَ فِي رَجَبٍ آجَرْتُك الدَّارَ مِنْ غُرَّةِ
رَمَضَانَ، وَأَنَّ الْحُكْمَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ
يَثْبُتُ مِنْ غُرَّةِ رَمَضَانَ حَتَّى لَوْ قَالَ آجَرْتُك
الدَّارَ مِنْ هَذِهِ السَّاعَةِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِي
الْحَالِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ إضَافَةٌ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ
وَيَلْزَمُ أَنْ لَا يُشْبِهَ الْأَسْبَابَ.
وَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ هُوَ أَنَّ فِي
الْإِجَارَةِ مَعْنَى الْإِضَافَةِ إلَى وَقْتِ وُجُودِ
الْمَنْفَعَةِ سَوَاءٌ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَوْ لَا
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ، وَإِنْ صَحَّتْ فِي
الْحَالِ بِإِقَامَةِ الْعَيْنِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ إلَّا
أَنَّهَا فِي حَقِّ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ مُضَافَةٌ إلَى
زَمَانِ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ كَأَنَّهَا تَنْعَقِدُ حِينَ
وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ لِيَقْتَرِنَ الِانْعِقَادُ
بِالِاسْتِيفَاءِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْإِجَارَةُ
عُقُودٌ مُتَفَرِّقَةٌ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا بِحَسَبِ مَا
يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ.
(قَوْلُهُ: وَكَذَا
(2/266)
وَبَيْنَ الْحُكْمِ، فَلَا تَكُونُ
مُشَابِهَةً لِلسَّبَبِ.
(وَكَذَا كُلُّ إيجَابٍ مُضَافٍ نَحْوُ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا)
فَإِنَّهُ عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا لَكِنَّهُ
يُشْبِهُ الْأَسْبَابَ.
(وَكَذَا النِّصَابُ حَتَّى يُوجِبَ صِحَّةَ الْأَدَاءِ
فَيَتَبَيَّنَ بَعْدَ الْحَوْلِ أَنَّهُ كَانَ زَكَاةً) ؛
لِأَنَّهُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ عِلَّةٌ اسْمًا لِلْإِضَافَةِ
إلَيْهِ وَمَعْنًى لِكَوْنِهِ مُؤَثِّرًا؛ لِأَنَّ الْغِنَى
يُوجِبُ مُوَاسَاةَ الْفُقَرَاءِ وَلَيْسَ عِلَّةً حُكْمًا
لِتَرَاخِي الْحُكْمِ عَنْهُ لَكِنَّهُ مُشَابِهٌ
بِالْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ مُتَرَاخٍ إلَى وُجُودِ
النَّمَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُتَرَاخِيًا إلَيْهِ وَكَانَ
النِّصَابُ عِلَّةً مِنْ غَيْرِ مُشَابَهَةٍ بِالْأَسْبَابِ،
وَلَوْ كَانَ مُتَرَاخِيًا إلَى مَا هُوَ عِلَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ
لَكَانَ النِّصَابُ سَبَبًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
كُلُّ إيجَابٍ) أَيْ كُلُّ إيجَابٍ يُصَرَّحُ فِيهِ
بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمُسْتَقْبَلِ، مِثْلُ: أَنْتِ طَالِقٌ
غَدًا، فَإِنَّهُ عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لِإِضَافَةِ
الْحُكْمِ إلَيْهِ وَتَأْثِيرِهِ فِيهِ لَا حُكْمًا لِتَرَاخِي
الْحُكْمِ عَنْهُ إلَى الْغَدِ فَيُشْبِهُ الْأَسْبَابَ؛
لِأَنَّ الْإِضَافَةَ التَّقْدِيرِيَّةَ كَمَا فِي
الْإِجَارَةِ تُوجِبُ شِبْهَ السَّبَبِيَّةِ فَالْإِضَافَةُ
الْحَقِيقِيَّةُ أَوْلَى فَلِهَذَا يَقْتَصِرُ وُقُوعُ
الطَّلَاقِ عَلَى مَجِيءِ الْغَدِ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَادٍ إلَى
زَمَانِ الْإِيجَابِ.
(قَوْلُهُ: وَكَذَا النِّصَابُ) أَيْ النِّصَابُ عِلَّةٌ
لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ اسْمًا وَمَعْنًى لِتَحَقُّقِ
الْإِضَافَةِ وَالتَّأْثِيرِ لَا حُكْمًا لِعَدَمِ
الْمُقَارَنَةِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ يَتَرَاخَى إلَى وُجُودِ
النَّمَاءِ الَّذِي أُقِيمَ حَوَلَانُ الْحَوْلِ مَقَامَهُ
مِثْلَ إقَامَةِ السَّفَرِ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ لِقَوْلِهِ: -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ
حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» ، ثُمَّ النِّصَابُ
عِلَّةٌ تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِمَّا
يُقَارِنُهَا الْحُكْمُ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ حَتَّى تَكُونَ
عِلَّةً شَبِيهَةً بِالْأَسْبَابِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَيْ الْحُكْمُ مُتَرَاخِيًا إلَيْهِ أَيْ
إلَى وُجُودِ النَّمَاءِ كَانَ النِّصَابُ عِلَّةً مِنْ غَيْرِ
مُشَابَهَةٍ بِالْأَسْبَابِ وَلَيْسَ أَيْضًا سَبَبًا
حَقِيقِيًّا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ
النَّمَاءُ عِلَّةً حَقِيقِيَّةً مُسْتَقِلَّةً وَلَيْسَ
كَذَلِكَ ضَرُورَةَ أَنَّ الْمُؤَثِّرَ هُوَ الْمَالُ
النَّامِي لَا مُجَرَّدُ وَصْفِ النَّمَاءِ، فَإِنَّهُ قَائِمٌ
بِالْمَالِ لَا اسْتِقْلَالَ لَهُ أَصْلًا، وَهَذَا مَعْنَى
قَوْلِهِ: وَلَوْ كَانَ مُتَرَاخِيًا إلَى مَا هُوَ عِلَّةٌ
حَقِيقِيَّةٌ لَكَانَ سَبَبًا حَقِيقًا وَلَيْسَ أَيْضًا
عِلَّةُ الْعِلَّةِ بِمَنْزِلَةِ شِرَاءِ الْقَرِيبِ؛
لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ لَوْ كَانَ النَّمَاءُ
حَاصِلًا بِنَفْسِ النِّصَابِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ
النَّمَاءَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الدَّرُّ وَالنَّسْلُ
وَالثَّمَنُ فِي الْإِسَامَةِ وَزِيَادَةُ الْمَالِ فِي
التِّجَارَةِ وَالْحُكْمِيُّ هُوَ حَوَلَانُ الْحَوْلِ، وَلَا
يَخْفَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِنَفْسِ النِّصَابِ
بِسَوْمِ السَّائِمَةِ وَعَمَلِ التِّجَارَةِ وَتَغَيُّرِ
الْأَسْفَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ:
وَلَوْ كَانَ مُتَرَاخِيًا إلَى شَيْءٍ يَجِبُ حُصُولُهُ
بِالنِّصَابِ لَكَانَ النِّصَابُ عِلَّةَ الْعِلَّةِ فَثَبَتَ
أَنَّ النَّمَاءَ الَّذِي يَتَرَاخَى إلَيْهِ الْحُكْمُ لَيْسَ
بِعِلَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وَلَا بِعِلَّةٍ حَاصِلَةٍ
بِالنِّصَابِ لَكِنَّهُ شَبِيهٌ بِالْعِلَّةِ مِنْ جِهَةِ
تَرَتُّبِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِمَعْنَى أَنَّ النَّمَاءَ
الَّذِي هُوَ بِالْحَقِيقَةِ فَضْلٌ عَلَى الْغَنِيِّ يُوجِبُ
مُوَاسَاةَ الْفَقِيرِ بِمَنْزِلَةِ أَصْلِ الْغِنَى إلَّا
أَنَّهُ لَمَّا كَانَ وَصْفًا قَائِمًا بِالْمَالِ تَابِعًا
لَهُ لَمْ يُجْعَلْ جُزْءَ عِلَّةٍ بَلْ جُعِلَ شَبِيهَ
عِلَّةٍ تَرْجِيحًا لِلْأَصْلِ عَلَى الْوَصْفِ حَتَّى جَازَ
تَعْجِيلُ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ إذَا
(2/267)
حَقِيقِيًّا لَكِنَّ النَّمَاءَ لَيْسَ
بِعِلَّةٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ النَّمَاءَ لَا يَسْتَقِلُّ
بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ وَصْفٌ قَائِمٌ بِالْمَالِ، فَلَا
يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ النَّمَاءُ تَمَامَ الْمُؤَثِّرِ بَلْ
تَمَامُ الْمُؤَثِّرِ الْمَالُ النَّامِي، وَلَوْ كَانَ
مُتَرَاخِيًا إلَى شَيْءٍ يَجِبُ حُصُولُهُ بِالنِّصَابِ
لَكَانَ النِّصَابُ عِلَّةَ الْعِلَّةِ وَالنَّمَاءُ لَا
يَجِبُ حُصُولُهُ بِالْمَالِ لَكِنَّ النَّمَاءَ وَصْفٌ
قَائِمٌ بِالْمَالِ لَهُ شَبَهُ الْعِلِّيَّةِ لِتَرَتُّبِ
الْحُكْمِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ النَّمَاءُ سَبَبًا
مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَهُوَ عِلَّةٌ حَقِيقَةً لَكَانَ
النِّصَابُ سَبَبًا حَقِيقِيًّا، فَإِذَا كَانَ لِلنَّمَاءِ
شَبَهُ الْعِلِّيَّةِ كَانَ لِلنِّصَابِ شَبَهُ
السَّبَبِيَّةِ.
(وَكَذَا مَرَضُ الْمَوْتِ وَالْجُرْحُ فَإِنَّهُ يَتَرَاخَى
حُكْمُهُ إلَى السِّرَايَةِ، وَكَذَا الرَّمْيُ
وَالتَّزْكِيَةُ عِنْدَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
تَقَرَّرَ هَذَا فَنَقُولُ لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ لِلنَّمَاءِ
حَقِيقَةَ الْعِلَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ لَكَانَ لِلنِّصَابِ
حَقِيقَةُ السَّبَبِيَّةِ كَمَا إذَا دَلَّ رَجُلٌ رَجُلًا
عَلَى مَالِ الْغَيْرِ فَسَرَقَهُ، فَإِنَّ الدَّلَالَةَ
سَبَبٌ حَقِيقِيٌّ لَا يُشْبِهُ الْعِلَّةَ أَصْلًا، فَإِذَا
كَانَ لِلنَّمَاءِ شَبَهُ الْعِلِّيَّةِ كَانَ لِلنِّصَابِ
شَبَهُ السَّبَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ تَوَسُّطَ حَقِيقَةِ
الْعِلَّةِ الْمُسْتَقِلَّةِ يُوجِبُ حَقِيقَةَ السَّبَبِيَّةِ
فَتَوَسُّطُ شَبَهِ الْعِلَّةِ يُوجِبُ شَبَهَ السَّبَبِيَّةِ،
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَوْ كَانَ النَّمَاءُ شَيْئًا
مُسْتَقِلًّا إلَخْ، وَإِنَّمَا قَالَ شَيْئًا مُسْتَقِلًّا
أَيْ غَيْرَ حَاصِلٍ بِالنِّصَابِ؛ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ
كَوْنِهِ عِلَّةً حَقِيقِيَّةً لَا يَلْزَمُ كَوْنُ النِّصَابِ
سَبَبًا حَقِيقِيًّا كَمَا فِي عِلَّةِ الْعِلَّةِ، فَإِنَّ
حَقِيقَةَ الْعِلِّيَّةِ فِي الْمِلْكِ لَا تُوجِبُ كَوْنَ
الشِّرَاءِ سَبَبًا حَقِيقِيًّا وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مَا
سَبَقَ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ لَوْ كَانَ مُتَرَاخِيًا إلَى مَا
هُوَ عِلَّةٌ حَقِيقِيَّةٌ لَكَانَ النِّصَابُ سَبَبًا
حَقِيقِيًّا إنَّمَا يَصِحُّ إذَا أُرِيدَ بِالْعِلَّةِ
حَقِيقَةً مَا تَكُونُ مُسْتَقِلَّةً بِنَفْسِهَا وَبِهَذَا
يَنْدَفِعُ مَا قِيلَ: إنَّهُ لَمَّا انْتَفَى عَنْ النَّمَاءِ
حَقِيقَةُ الْعِلِّيَّةِ انْتَفَى عَنْ النِّصَابِ كَوْنُهُ
عِلَّةَ الْعِلَّةِ كَمَا انْتَفَى عَنْهُ كَوْنُهُ سَبَبًا
حَقِيقِيًّا، فَلَا حَاجَةَ إلَى نَفْيِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ
كَانَ مُتَرَاخِيًا إلَى شَيْءٍ يَجِبُ حُصُولُهُ بِالْمَالِ
إلَخْ وَهَاهُنَا بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ كَوْنَ النِّصَابِ
عِلَّةَ الْعِلَّةِ لَا يُنَافِي مُشَابَهَتَهُ بِالْأَسْبَابِ
بَلْ يُوجِبُهَا عَلَى مَا سَيَجِيءُ، فَلَا مَعْنَى لِنَفْيِ
ذَلِكَ وَالِاحْتِرَازِ عَنْهُ بِالشَّرْطِيَّةِ الثَّانِيَةِ
أَعْنِي قَوْلَهُ: وَلَوْ كَانَ مُتَرَاخِيًا إلَى شَيْءٍ
يَجِبُ حُصُولُهُ بِالنِّصَابِ لَكَانَ النِّصَابُ عِلَّةَ
الْعِلَّةِ وَالنَّمَاءُ لَا يَجِبُ حُصُولُهُ بِالْمَالِ لَا
يُقَالُ: إنَّمَا نَفَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ
كَوْنِهِ عِلَّةَ الْعِلَّةِ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يَتَرَاخَى
عَنْهُ الْحُكْمُ حَتَّى يَكُونَ عِلَّةً اسْمًا وَمَعْنًى لَا
حُكْمًا عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ
مِنْ ضَرُورَةِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ عَدَمُ التَّرَاخِي
لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي الْوَسَائِطِ امْتِدَادٌ كَمَا فِي
الرَّمْيِ وَالْهَلَاكِ.
وَعِبَارَةُ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّهُ لَمَّا تَرَاخَى حُكْمُ
النِّصَابِ أَشْبَهَ الْأَسْبَابَ أَلَا يُرَى أَنَّهُ إنَّمَا
تَرَاخَى إلَى مَا لَيْسَ بِحَادِثٍ بِهِ وَإِلَى مَا هُوَ
شَبِيهٌ بِالْعِلَلِ، وَهَذَا بَيَانٌ لِشَبَهِ السَّبَبِيَّةِ
فِي النِّصَابِ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَرَاخِي الْحُكْمِ
عَنْهُ إلَى مَا لَيْسَ حَاصِلًا بِهِ، وَهَذَا يُوجِبُ
تَأَكُّدَ الِانْفِصَالِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ
وَتَحَقُّقَ الشَّبَهِ بِالسَّبَبِ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ
لِلنَّمَاءِ شَبَهَ الْعِلِّيَّةِ فَيُوجِبُ فِي النِّصَابِ
شَبَهَ السَّبَبِيَّةِ عَلَى مَا مَرَّ.
وَغَيَّرَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا
الْكَلَامَ إلَى مَا تَرَى ظَنًّا مِنْهُ أَنَّ التَّرَاخِيَ
إلَى مَا لَيْسَ
(2/268)
أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - حَتَّى إذَا رَجَعَ) أَيْ الْمُزَكِّي (ضَمِنَ،
وَكَذَا كُلُّ مَا هُوَ عِلَّةُ الْعِلَّةِ كَشِرَاءِ
الْقَرِيبِ) فَإِنَّ كُلَّ ذَلِكَ عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى
لَا حُكْمًا لَكِنَّهُ يُشْبِهُ الْأَسْبَابَ وَعِلَّةُ
الْعِلَّةِ إنَّمَا تُشْبِهُ السَّبَبَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ
يَتَخَلَّلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحُكْمِ وَاسِطَةٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَ فَخْرَ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - أَوْرَدَ لِلْعِلَّةِ اسْمًا وَمَعْنًى لَا
حُكْمًا عِدَّةَ أَمْثِلَةٍ مِنْهَا الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ
وَالْبَيْعُ بِالْخِيَارِ فَهُمَا عِلَّتَانِ اسْمًا وَمَعْنًى
لَا حُكْمًا وَهُمَا لَا يُشَابِهَانِ الْأَسْبَابَ، وَمِنْهَا
الْإِجَارَةُ وَكُلُّ إيجَابٍ مُضَافٍ وَالنِّصَابُ وَمَرَضُ
الْمَوْتِ وَالْجُرْحِ وَقَدْ صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ
أَنَّهَا عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا لَكِنَّهَا
تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ، وَمِنْهَا عِلَّةُ الْعِلَّةِ
كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ فَإِنَّ الشِّرَاءَ عِلَّةُ الْمِلْكِ
وَالْمِلْكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
بِحَادِثٍ بِهِ لَا يُوجِبُ شَبَهَ الْأَسْبَابِ كَالْبَيْعِ
بِالْخِيَارِ وَالْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ وَجَوَابُهُ أَنَّ
الْمُرَادَ أَنَّ التَّرَاخِيَ إلَى وَصْفٍ لَا يَحْدُثُ بِهِ.
وَفِي الْبَيْعِ التَّرَاخِي إنَّمَا هُوَ إلَى مُجَرَّدِ
زَوَالِ الْمَانِعِ لَا إلَى الْوَصْفِ.
فَإِنْ قُلْت: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - فِي الشَّرْطِيَّةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ
لَكِنَّ النَّمَاءَ لَيْسَ بِعِلَّةٍ حَقِيقِيَّةٍ
وَالنَّمَاءُ لَا يَجِبُ حُصُولُهُ بِالْمَالِ نَفْيٌ
لِلْمَلْزُومِ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ نَفْيَ اللَّازِمِ
لِجَوَازِ كَوْنِهِ أَعَمَّ.
قُلْت: بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ فِي الشَّرْطِيَّتَيْنِ تَلَازُمٌ
مُسَاوٍ عَلَى مَا لَا يَخْفَى فَنَفْيُ كُلٍّ مِنْهُمَا
يُوجِبُ نَفْيَ الْآخَرِ.
(قَوْلُهُ: حَتَّى يُوجِبَ صِحَّةَ الْأَدَاءِ) يَعْنِي
لِكَوْنِ النِّصَابِ هُوَ الْعِلَّةُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ
لِلنَّمَاءِ دَخْلٌ فِي الْعِلِّيَّةِ صَحَّ الْأَدَاءُ قَبْلَ
تَمَامِ الْحَوْلِ وَلِكَوْنِهِ عِلَّةً شَبِيهَةً
بِالْأَسْبَابِ لَمْ يَتَبَيَّنْ كَوْنُ الْمُؤَدَّى زَكَاةً
إلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ لِعَدَمِ وَصْفِ الْعِلَّةِ
فِي الْحَالِ، فَإِذَا تَمَّ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ كَامِلٌ،
فَقَدْ صَارَ الْمُؤَدَّى زَكَاةً لِإِسْنَادِ الْوَصْفِ إلَى
أَوَّلِ الْحَوْلِ، وَهَذَا مَا يُقَالُ: إنَّ الْأَدَاءَ
بَعْدَ الْأَصْلِ قَبْلَ تَمَامِ الْوَصْفِ يَقَعُ مَوْقُوفًا
وَبَعْدَ تَمَامِ الْوَصْفِ يَسْتَنِدُ الْوُجُوبُ إلَى مَا
قَبْلَ الْأَدَاءِ.
(قَوْلُهُ: وَكَذَا مَرَضُ الْمَوْتِ) يَعْنِي أَنَّ
الْأُمُورَ الْمَذْكُورَةَ عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لِوُجُودِ
الْإِضَافَةِ وَالتَّأْثِيرِ لَا حُكْمًا لِتَحَقُّقِ
التَّرَاخِي فَمَرَضُ الْمَوْتِ عِلَّةٌ لِلْحَجْرِ عَنْ
التَّبَرُّعِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ مِنْ
الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْمُحَابَاةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ
وَيَتَرَاخَى الْحُكْمُ إلَى وَصْفِ اتِّصَالِهِ بِالْمَوْتِ
وَالْجُرْحُ عِلَّةٌ لِلْهَلَاكِ وَيَتَرَاخَى الْحُكْمُ إلَى
وَصْفِ السِّرَايَةِ وَالرَّمْيُ عِلَّةٌ لِلْمَوْتِ
وَيَتَرَاخَى إلَى نُفُوذِ السَّهْمِ فِي الْمَرْمِيِّ
وَتَزْكِيَةُ شُهُودِ الزِّنَا عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ بِالرَّجْمِ
لَكِنْ بِتَوَسُّطِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى إذَا رَجَعَ
الْمُزَكُّونَ وَقَالُوا: تَعَمَّدْنَا الْكَذِبَ ضَمِنُوا
الدِّيَةَ خِلَافًا لَهُمَا، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ
الْأَمْثِلَةُ مِنْ قَبِيلِ عِلَّةِ الْعِلَّةِ عَلَى مَا لَا
يَخْفَى عَمَّمَ الْحُكْمَ فَقَالَ، وَكَذَا كُلُّ مَا هُوَ
عِلَّةُ الْعِلَّةِ كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ، فَإِنَّهُ عِلَّةٌ
لِلْمِلْكِ، وَهُوَ لِلْعِتْقِ فَالْعِلَّةُ فِي جَمِيعِ
ذَلِكَ تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ مِنْ جِهَةِ تَرَاخِي الْحُكْمِ،
وَمِنْ جِهَةِ تَخَلُّلِ الْوَاسِطَةِ الَّتِي لَيْسَتْ
بِعِلَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ بَلْ حَاصِلَةٌ بِالْأَوَّلِ سِوَى
شِرَاءِ الْقَرِيبِ، فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ
التَّرَاخِي فَشَبَهُهُ بِالْأَسْبَابِ مِنْ جِهَةِ تَخَلُّلِ
(2/269)
عِلَّةُ الْعِتْقِ وَقَدْ صَرَّحَ فِيهَا
أَنَّهَا عِلَّةٌ تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ لَكِنْ لَمْ يُصَرِّحْ
أَنَّهَا عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا وَالظَّاهِرُ
أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ لَيْسَ عِلَّةً اسْمًا وَمَعْنًى لَا
حُكْمًا؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ غَيْرُ مُتَرَاخٍ عَنْهُ
وَإِنَّمَا يُشَابِهُ الْأَسْبَابَ لِتَوَسُّطِ الْعِلَّةِ،
وَهُوَ الْمِلْكُ وَقَدْ جَعَلَ الْإِمَامُ فَخْرُ
الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْعِلَّةَ
الْمُشَابِهَةَ بِالسَّبَبِ قِسْمًا آخَرَ لَكِنِّي لَمْ
أَجْعَلْ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْرُجُ مِنْ الْأَقْسَامِ
السَّبْعَةِ الَّتِي تَنْحَصِرُ الْعِلَّةُ فِيهَا وَذَلِكَ؛
لِأَنَّهُ إنْ لَمْ تُوجَدْ الْإِضَافَةُ، وَلَا التَّأْثِيرُ،
وَلَا التَّرْتِيبُ لَا تُوجَدُ الْعِلَّةُ أَصْلًا وَإِنْ
وُجِدَ أَحَدُهَا مُنْفَرِدًا يَحْصُلُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ
وَإِنْ وُجِدَ الِاجْتِمَاعُ بَيْنَ اثْنَيْنِ مِنْهَا
فَثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ أُخَرَ وَإِنْ وُجِدَ الِاجْتِمَاعُ
بَيْنَ الثَّلَاثَةِ فَقِسْمٌ آخَرُ فَحُمِلَ سَبْعَةً.
وَقَدْ عُلِمَ مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
الْوَاسِطَةِ لَا غَيْرُ، فَلِهَذَا لَمْ يُصَرِّحْ فَخْرُ
الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ بِأَنَّهُ
عِلَّةٌ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ
فِي غَيْرِهِ وَذَهَبَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - إلَى أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا
الْقَبِيلِ بَلْ مِنْ قَبِيلِ الْعِلَّةِ اسْمًا وَمَعْنًى
وَحُكْمًا لِوُجُودِ الْإِضَافَةِ وَالتَّأْثِيرِ
وَالْمُقَارَنَةِ، وَلَمْ يَجْزِمْ بِذَلِكَ لِعَدَمِ
تَصْرِيحِ السَّلَفِ بِهِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ بَيْنَ
الْعِلَّةِ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا وَبَيْنَ الْعِلَّةِ
الَّتِي تُشْبِهُ الْأَسْبَابَ عُمُومٌ مِنْ وَجْهٍ
لِصِدْقِهِمَا مَعًا فِي الْأَمْثِلَةِ السَّابِقَةِ وَصِدْقِ
الْأَوَّلِ فَقَطْ فِي الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ وَصِدْقِ
الثَّانِي فَقَطْ فِي مِثْلِ شِرَاءِ الْقَرِيبِ.
(قَوْلُهُ: وَإِمَّا مَا لَهُ شُبْهَةُ الْعِلِّيَّةِ)
بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ لِكَوْنِهِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ:
وَإِمَّا اسْمًا وَمَعْنًى، وَهَذَا هُوَ الْعِلَّةُ مَعْنًى
لِوُجُودِ التَّأْثِيرِ لِجُزْءِ الْعِلَّةِ لَا اسْمًا
لِعَدَمِ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ، وَلَا حُكْمًا لِعَدَمِ
التَّرْتِيبِ عَلَيْهِ إذْ الْمُرَادُ هُوَ الْجُزْءُ
الْغَيْرُ الْأَخِيرِ، أَوْ أَحَدُ الْجُزْأَيْنِ الْغَيْرِ
الْمُرَتَّبَيْنِ كَالْقَدْرِ وَالْجِنْسِ، وَهُوَ عِنْدَ
الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
سَبَبٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْجُزْأَيْنِ طَرِيقٌ يُفْضِي
إلَى الْمَقْصُودِ، وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ مَا لَمْ يَنْضَمَّ
إلَيْهِ الْجُزْءُ الْآخَرُ. وَذَهَبَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنَّهُ وَصْفٌ لَهُ شَبَهُ
الْعِلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ مُؤَثِّرٌ وَالسَّبَبُ الْمَحْضُ
غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، وَهَذَا يُخَالِفُ مَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ
مِنْ أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِأَجْزَاءِ الْعِلَّةِ فِي
أَجْزَاءِ الْمَعْلُولِ، وَإِنَّمَا الْمُؤَثِّرُ هُوَ تَمَامُ
الْعِلَّةِ فِي تَمَامِ الْمَعْلُولِ فَعَلَى مَا ذَكَرَ
هَاهُنَا لَمَّا كَانَ عِلَّةُ الرِّبَا هِيَ الْقَدْرُ مَعَ
الْجِنْسِ كَانَ لِكُلٍّ مِنْ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ شَبَهُ
الْعِلِّيَّةِ فَيَثْبُتُ بِهِ رِبَا النَّسِيئَةِ؛ لِأَنَّهُ
يُوَرِّثُ شُبْهَةَ الْفَضْلِ لِمَا فِي النَّقْدِ مِنْ
الْمَزِيَّةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ حِنْطَةً فِي
شَعِيرٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ رِبَا الْفَضْلِ، فَإِنَّهُ
أَقْوَى الْحُرْمَتَيْنِ، فَلَا يَثْبُتُ بِشُبْهَةِ
الْعِلَّةِ بَلْ يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهُ عَلَى حَقِيقَةِ
الْعِلَّةِ أَعْنِي الْقَدْرَ وَالْجِنْسَ كَيْفَ وَالنَّصُّ
قَائِمٌ؟ وَهُوَ قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
- «إذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ
يَدًا بِيَدٍ» .
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا مَعْنًى وَحُكْمًا) يَعْنِي إذَا كَانَتْ
الْعِلَّةُ ذَاتَ وَصْفَيْنِ مُؤَثِّرَيْنِ مُتَرَتِّبَيْنِ
فِي الْوُجُودِ فَالْمُتَأَخِّرُ وُجُودًا عِلَّةً مَعْنًى
وَحُكْمًا لِوُجُودِ التَّأْثِيرِ وَالِاتِّصَالِ لَا اسْمًا
لِعَدَمِ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ بِدُونِ وَاسِطَةٍ بَلْ إنَّمَا
يُضَافُ إلَى الْمَجْمُوعِ وَذَلِكَ كَالْقَرَابَةِ، ثُمَّ
الْمِلْكِ، فَإِنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا نَوْعَ تَأْثِيرٍ فِي
الْعِتْقِ
(2/270)
الْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ أَنَّ
الْعِلَّةَ اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا قَدْ تُوجَدُ مَعَ
مُشَابَهَتِهَا السَّبَبَ كَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا وَقَدْ
تُوجَدُ بِدُونِهَا كَالْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ وَقَدْ تُوجَدُ
مُشَابَهَةُ السَّبَبِ بِدُونِهَا أَيْ بِدُونِ الْعِلَّةِ
اسْمًا وَمَعْنًى لَا حُكْمًا كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ عِلَّةً
اسْمًا وَمَعْنًى الْقَرِيبَ الْمَحْرَمَ وَأَظُنُّ أَنَّ
شِرَاءَ الْقَرِيبِ يَكُونُ حُكْمًا لَكِنَّهُ يُشَابِهُ
السَّبَبَ.
(وَأَمَّا مَا لَهُ شَبَهُ الْعِلِّيَّةِ كَجُزْءِ الْعِلَّةِ
فَيَثْبُتُ بِهِ مَا يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ كَرِبَا
النَّسِيئَةِ يَثْبُتُ بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ) ، وَهُوَ إمَّا
الْقَدْرُ، أَوْ الْجِنْسُ.
(وَإِمَّا مَعْنًى وَحُكْمًا كَالْجُزْءِ الْأَخِيرِ مِنْ
الْعِلَّةِ كَالْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ لِلْعِتْقِ، فَإِذَا
تَأَخَّرَ الْمِلْكُ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهِ) أَيْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَثَرًا فِي إيجَابِ الصِّلَاتِ
وَلِهَذَا يَجِبُ صِلَةُ الْقَرَابَاتِ وَنَفَقَةُ الْعَبِيدِ
إلَّا أَنَّ لِلْأَخِيرِ تَرْجِيحًا بِوُجُودِ الْحُكْمِ
عِنْدَهُ فَيُجْعَلُ وَصْفًا لَهُ شُبْهَةُ الْعِلِّيَّةِ فِي
كَوْنِ الْمِلْكِ عِلَّةً مَعْنًى وَحُكْمًا وَيَصِيرُ
الْأَوَّلُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ فِي حَقِّ ثُبُوتِ
الْحُكْمِ فَيُجْعَلُ وَصْفًا لَهُ شُبْهَةُ الْعِلِّيَّةِ.
وَفِي كَوْنِ الْمِلْكِ عِلَّةً مَعْنًى وَحُكْمًا لَا اسْمًا
نَظَرٌ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْحُكْمِ إلَى الْمِلْكِ
وَثُبُوتَهُ بِهِ أَمْرٌ ظَاهِرٌ شَائِعٌ فِي عِبَارَةِ
الْقَوْمِ وَلَفْظُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- صَرِيحٌ فِيهِ فَكَيْفَ لَا يَكُونُ عِلَّةً اسْمًا.
وَذَهَبَ الْمُحَقِّقُونَ إلَى أَنَّ الْجُزْءَ الْأَوَّلَ
يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ فِي حَقِّ ثُبُوتِ الْحُكْمِ
وَيَصِيرُ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى الْجُزْءِ الْأَخِيرِ
كَالْمَنِّ الْأَخِيرِ فِي أَثْقَالِ السَّفِينَةِ وَالْقَدَحِ
الْأَخِيرِ فِي السُّكْرِ وَذَكَرَ فِي التَّقْوِيمِ أَنَّ
الْأَوَّلَ إنَّمَا يَصِيرُ مُوجَبًا بِالْأَخِيرِ، ثُمَّ
الْحُكْمُ يَجِبُ بِالْكُلِّ فَيَصِيرُ الْجُزْءُ الْأَخِيرُ
كَعِلَّةِ الْعِلَّةِ فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْعِلَّةِ،
وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ عِلَّةَ الْعِلَّةِ يَكُونُ عِلَّةً
اسْمًا لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ يَجِبُ فِيمَا
هُوَ عِلَّةٌ اسْمًا أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا لِلْحُكْمِ عَلَى
مَا صَرَّحَ بِهِ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - وَغَيْرُهُ وَالْمِلْكُ لَمْ يُوضَعْ فِي
الشَّرْعِ لِلْعِتْقِ، وَإِنَّمَا الْمَوْضُوعُ لَهُ مِلْكُ
الْقَرَابَةِ وَشِرَاءُ الْقَرِيبِ.
(قَوْلُهُ: حَتَّى تُصْبِحَ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ
الشِّرَاءِ) . فَإِنْ قُلْت: الْجُزْءُ الْأَخِيرُ هُوَ
الْمِلْكُ دُونَ الشِّرَاءِ فَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا
التَّفْرِيعُ.
قُلْت: عِلَّةُ الشِّرَاءِ عِلَّةٌ لِلْمِلْكِ وَعِلَّةُ
الْعِلَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ وَالْحُكْمِ غَيْرُ
مُتَرَاخٍ هَاهُنَا فَالنِّيَّةُ عِنْدَ الشِّرَاءِ نِيَّةٌ
عِنْدَ إيجَادِ الْعِلَّةِ التَّامَّةِ لِلْإِعْتَاقِ إذْ لَا
إضَافَةَ إلَى الْقَرَابَةِ الَّتِي هِيَ الْجُزْءُ
الْأَوَّلُ.
(قَوْلُهُ: وَيَضْمَنُ) أَيْ لَوْ اشْتَرَى رَجُلَانِ قَرِيبًا
مَحْرَمًا لِأَحَدِهِمَا، فَإِنْ اشْتَرَى الْأَجْنَبِيُّ
شِقْصًا، ثُمَّ الْقَرِيبُ بَعْدَهُ ضَمِنَ الْقَرِيبُ نَصِيبَ
الْأَجْنَبِيِّ بِالِاتِّفَاقِ مُوسِرًا كَانَ الْقَرِيبُ أَوْ
مُعْسِرًا؛ لِأَنَّهُ أَفْسَدَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ نَصِيبَهُ
بِمَا هُوَ عِلَّةٌ، وَهُوَ الشِّرَاءُ، وَإِنْ اشْتَرَيَاهُ
مَعًا فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
تَعَالَى أَيْضًا يَضْمَنُ لِمَا مَرَّ سَوَاءٌ عَلِمَ
الْأَجْنَبِيُّ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ
الْأَجْنَبِيَّ رَضِيَ بِفَسَادِ نَصِيبِهِ حَيْثُ جَعَلَ
الْقَرِيبَ شَرِيكًا لَهُ فِي الشِّرَاءِ سَوَاءٌ عَلِمَ
الْقَرَابَةَ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ إذْ لَا عِبْرَةَ
بِالْجَهْلِ؛ لِأَنَّهُ تَقْصِيرٌ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا إذَا
اشْتَرَى الْأَجْنَبِيُّ نَصِيبَهُ، أَوَّلًا، فَإِنَّهُ لَا
رِضَا مِنْهُ بِالْفَسَادِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ
(2/271)
الْعِتْقُ بِالْمِلْكِ فَإِنَّهُ الْجُزْءُ
الْأَخِيرُ لِلْعِلَّةِ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ بِهِ (حَتَّى
تُصْبِحَ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الشِّرَاءِ) فَإِنَّ
نِيَّةَ الْكَفَّارَةِ تُعْتَبَرُ عِنْدَ الْإِعْتَاقِ
فَتُعْتَبَرُ النِّيَّةُ عِنْدَ الشِّرَاءِ (وَيَضْمَنُ إذَا
كَانَ شَرِيكًا عِنْدَهُمَا) أَيْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَلَا يَضْمَنُ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
وَالْخِلَافُ فِيمَا إذَا اشْتَرَيَاهُ مَعًا أَمَّا إذَا
اشْتَرَى الْأَجْنَبِيُّ نِصْفَهُ، ثُمَّ الْقَرِيبُ يَضْمَنُ
بِالِاتِّفَاقِ وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ فِي الْأَوَّلِ رَضِيَ
الْأَجْنَبِيُّ بِفَسَادِ نَصِيبِهِ حَيْثُ اشْتَرَكَ مَعَ
الْقَرِيبِ، وَلَا يُعْتَبَرُ جَهْلُهُ وَفِي الثَّانِي لَمْ
يَرْضَ.
(وَأَنَّ تَأَخُّرَ الْقَرَابَةِ يَثْبُتُ بِهَا) أَيْ
يَثْبُتُ الْعِتْقُ بِالْقَرَابَةِ حَتَّى يَضْمَنَ مُدَّعِي
الْقَرَابَةِ، وَلَوْ كَانَتْ الْقَرَابَةُ مَعْلُومَةً لَمْ
يَضْمَنْ.
(كَمَا إذَا وَرِثَا عَبْدًا، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا
أَنَّهُ قَرِيبُهُ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ) أَيْ إذَا شَهِدَ
وَاحِدٌ، ثُمَّ وَاحِدٌ لَا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَى
الشَّهَادَةِ الْأَخِيرَةِ بَلْ إلَى الْمَجْمُوعِ
فَأَيُّهُمَا رَجَعَ يَضْمَنُ النِّصْفَ (فَإِنَّ الْحُكْمَ
يَثْبُتُ بِالْمَجْمُوعِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَعْمَلُ
بِالْقَضَاءِ، وَهُوَ يَقَعُ بِهِمَا وَإِمَّا اسْمًا
وَحُكْمًا لَا مَعْنًى وَهِيَ إمَّا بِإِقَامَةِ السَّبَبِ
الدَّاعِي مَقَامَ الْمَدْعُوِّ إلَيْهِ كَالسَّفَرِ
وَالْمَرَضِ) فَإِنَّهُمَا أُقِيمَا مَقَامَ الْمَشَقَّةِ
(وَالنَّوْمُ) أُقِيمَ مَقَامَ اسْتِرْخَاءِ الْمَفَاصِلِ
(وَالْمَسُّ وَالنِّكَاحُ مَقَامَ الْوَطْءِ) أَيْ الْمَسُّ
وَالنِّكَاحُ يَقُومَانِ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي ثُبُوتِ
النَّسَبِ وَحُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ، أَمَّا فِي الثَّلَاثَةِ
الْأُوَلِ فَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَتْنِ الْمَدْعُوَّ إلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
الرِّضَا فِي صُورَةِ الْجَهْلِ بِالْقَرَابَةِ كَيْفَ، وَهُوَ
لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مَعَ الْعِلْمِ بِهَا؟
أُجِيبَ بِأَنَّ الرِّضَا أَمْرٌ بَاطِنٌ فَأُدِيرَ الْحُكْمُ
مَعَ السَّبَبِ الظَّاهِرِ الَّذِي هُوَ الِاشْتِرَاكُ
وَمُبَاشَرَةُ الشِّرَاءِ وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ
جَهْلُهُ وَجُعِلَ فِي حُكْمِ الْعَدَمِ صَارَ كَأَنَّ
الْعِلْمَ حَاصِلٌ. وَفِي قَوْلِهِ: وَلَا يُعْتَبَرُ جَهْلُهُ
إشَارَةٌ إلَى هَذَا.
(قَوْلُهُ: حَتَّى يَضْمَنَ مُدَّعِي الْقَرَابَةِ) يَعْنِي
إذَا اشْتَرَى اثْنَانِ عَبْدًا مَجْهُولَ النَّسَبِ، ثُمَّ
ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ابْنُهُ غَرِمَ لِشَرِيكِهِ
قِيمَةَ نَصِيبِهِ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الْأَخِيرَ مِنْ
الْعِلَّةِ أَعْنِي الْقَرَابَةَ قَدْ حَصَلَ بِصُنْعِهِ
فَيَكُونُ هُوَ الْعِلَّةَ، وَلَوْ كَانَتْ الْقَرَابَةُ
مَعْلُومَةً قَبْلَ الشِّرَاءِ لَمْ يَضْمَنْ مُدَّعِي
الْقَرَابَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَحْصُلْ بِصُنْعِهِ، وَقَدْ
رَضِيَ الْأَجْنَبِيُّ بِفَسَادِ نَصِيبِهِ فَقَوْلُهُ: لَمْ
يَضْمَنْ. قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- وَيُخَصُّ بِصُورَةِ الشِّرَاءِ مَعًا حَتَّى لَوْ اشْتَرَى
الْأَجْنَبِيُّ، أَوَّلًا ضَمِنَ الْقَرِيبُ حِصَّتَهُ
لِعَدَمِ الرِّضَا، وَأَمَّا إذَا وَرِثَا عَبْدًا مَجْهُولَ
النَّسَبِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَرِيبُهُ يَضْمَنُ
الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ بِصُنْعِهِ، فَلَوْ كَانَتْ
الْقَرَابَةُ مَعْلُومَةً لَمْ يَضْمَنْ بِالِاتِّفَاقِ؛
لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْإِرْثِ لَيْسَ مِنْ صُنْعِهِ.
(قَوْلُهُ: أَوْ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ) السَّبَبُ الدَّاعِي
هُوَ الَّذِي يُفْضِي إلَى الشَّيْءِ فِي الْوُجُودِ فَلَا
بُدَّ مَنْ أَنْ يَتَقَدَّمَهُ وَالدَّلِيلُ هُوَ الَّذِي
يَحْصُلُ مِنْ الْعِلْمِ بِهِ الْعِلْمُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ
فَرُبَّمَا يَكُونُ مُتَأَخِّرًا فِي الْوُجُودِ
كَالْإِخْبَارِ عَنْ الْمَحَبَّةِ وَيَقْتَصِرُ عَلَى
الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ بِمَا لَا
يُطَّلَعُ عَلَيْهِ إلَّا بِإِخْبَارِهَا بِمَنْزِلَةِ
تَخَيُّرِهَا، وَهُوَ مُقْتَصِرٌ عَلَى الْمَجْلِسِ.
(قَوْلُهُ: وَالطُّهْرُ مَقَامُ الْحَاجَةِ) يَعْنِي أَنَّ
(2/272)
لِلظُّهُورِ (أَوْ بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ
مَقَامَ الْمَدْلُولِ كَالْخَبَرِ عَنْ الْمَحَبَّةِ أُقِيمَ
مَقَامَهَا فِي قَوْلِهِ: إنْ أَحْبَبْتنِي فَأَنْتَ كَذَا
وَالطُّهْرُ مَقَامَ الْحَاجَةِ فِي إبَاحَةِ الطَّلَاقِ
وَاسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ مَقَامَ الشُّغْلِ فِي
الِاسْتِبْرَاءِ وَالدَّاعِي إلَى ذَلِكَ) أَيْ السَّبَبِ
الْمُقْتَضِي لِإِقَامَةِ الدَّاعِي مَقَامَ الْمَدْعُوِّ
إلَيْهِ وَالدَّلِيلِ مَقَامَ الْمَدْلُولِ أَحَدُ الْأُمُورِ
الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمَتْنِ.
(إمَّا دَفْعُ الضَّرُورَةِ كَمَا فِي إنْ أَحْبَبْتنِي
وَكَمَا فِي الِاسْتِبْرَاءِ، وَإِمَّا الِاحْتِيَاطُ كَمَا
فِي تَحْرِيمِ الدَّوَاعِي فِي الْمُحَرَّمَاتِ
وَالْعِبَادَاتِ، وَإِمَّا دَفْعُ الْحَرَجِ كَالسَّفَرِ
وَالطُّهْرِ وَالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ) وَالْفَرْقُ بَيْنَ
دَفْعِ الْحَرَجِ وَدَفْعِ الضَّرُورَةِ أَنَّ فِي دَفْعِ
الضَّرُورَةِ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ
كَالْمَحَبَّةِ فَإِنَّ وُقُوفَ الْغَيْرِ عَلَيْهَا مُحَالٌ
فَالضَّرُورَةُ دَاعِيَةٌ إلَى إقَامَةِ الْخَبَرِ عَنْ
الْمَحَبَّةِ مَقَامَ الْمَحَبَّةِ. أَمَّا الْمَشَقَّةُ فِي
السَّفَرِ وَالْإِنْزَالُ فِي الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ
فَإِنَّ الْوُقُوفَ عَلَيْهِمَا مُمْكِنٌ لَكِنْ فِي إضَافَةِ
الْحُكْمِ إلَيْهِمَا حَرَجٌ لِخَفَائِهِمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
الطَّلَاقَ أَمْرٌ مَحْظُورٌ لِمَا فِيهِ مِنْ قَطْعِ
النِّكَاحِ الْمَسْنُونِ إلَّا أَنَّهُ شُرِعَ ضَرُورَةَ
أَنَّهُ قَدْ يُحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ
إقَامَةِ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَالْحَاجَةُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا
يُوقَفُ عَلَيْهِ فَأُقِيمَ دَلِيلُهَا، وَهُوَ زَمَانٌ
تَتَجَدَّدُ فِيهِ الرَّغْبَةُ أَعْنِي الطُّهْرَ الْخَالِيَ
عَنْ الْجِمَاعِ مَقَامَ الْحَاجَةِ تَيْسِيرًا، وَقَدْ
يُقَالُ: إنَّ دَلِيلَ الْحَاجَةِ هُوَ الْإِقْدَامُ عَلَى
الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ لَا الطُّهْرُ نَفْسُهُ.
(قَوْلُهُ: وَاسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ) يَعْنِي أَنَّ
الْمُؤَثِّرَ فِي وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ، وَهُوَ
الِاحْتِرَازُ عَنْ الْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ فِي الْأَمَةِ
عِنْدَ حُدُوثِ الْمِلْكِ فِيهَا إلَى انْقِضَاءِ حَيْضَةٍ،
أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا هُوَ كَوْنُ الرَّحِمِ مَشْغُولًا
بِمَاءِ الْغَيْرِ احْتِرَازًا عَنْ خَلْطِ الْمَاءِ
بِالْمَاءِ وَسَقْيِ الْمَاءِ زَرْعَ الْغَيْرِ إلَّا أَنَّهُ
أَمْرٌ خَفِيٌّ فَأُقِيمَ دَلِيلُهُ، وَهُوَ اسْتِحْدَاثُ
مِلْكِ الْوَاطِئِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مَقَامَهُ، فَإِنَّ
الِاسْتِحْدَاثَ يَدُلُّ عَلَى مِلْكِ مَنْ اُسْتُحْدِثَ
مِنْهُ وَتُلُقِّيَ مِنْ جِهَتِهِ وَمِلْكُهُ يُمَكِّنُهُ مِنْ
الْوَطْءِ الْمُؤَدِّي إلَى الشُّغْلِ فَالِاسْتِحْدَاثُ
يَدُلُّ بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ عَلَى الشُّغْلِ الَّذِي هُوَ
عِلَّةُ الِاسْتِبْرَاءِ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ مِنْ إقَامَةِ السَّبَبِ إذْ
الشُّغْلُ إنَّمَا هُوَ بِالْوَطْءِ وَالْمِلْكُ مُمَكِّنٌ
مِنْهُ مُؤَدٍّ إلَيْهِ وَدَاعٍ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ
الشُّغْلَ إنَّمَا هُوَ بِوَطْءِ الْبَائِعِ وَالْمِلْكُ
مُمَكِّنٌ مِنْ وَطْءِ الْمُشْتَرِي وَالْأَظْهَرُ مَا فِي
التَّقْوِيمِ أَنَّ عِلَّةَ الِاسْتِبْرَاءِ صِيَانَةُ
الْمَاءِ عَنْ الِاخْتِلَاطِ بِمَاءٍ قَدْ وُجِدَ
وَاسْتِحْدَاثُ مِلْكِ الْوَاطِئِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ سَبَبٌ
مُؤَدٍّ إلَيْهِ، فَإِنَّ هَذَا الِاسْتِحْدَاثَ يَصِحُّ مِنْ
غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ يَلْزَمُ مِنْ الْبَائِعِ، وَمِنْ غَيْرِ
ظُهُورِ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا عَنْ مَائِهِ، فَلَوْ أَبَحْنَا
الْوَطْءَ لِلثَّانِي بِنَفْسِ الْمِلْكِ لَأَدَّى إلَى
الْخَلْطِ فَكَانَ الْإِطْلَاقُ بِنَفْسِ الْمِلْكِ سَبَبًا
مُؤَدِّيًا إلَيْهِ فَظَهَرَ أَنَّهُ دَلِيلٌ بِاعْتِبَارِ
سَبَبٍ وَلِهَذَا سَمَّاهُ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - السَّبَبَ الظَّاهِرَ
وَالدَّلِيلَ عَلَى الْعِلَّةِ.
(قَوْلُهُ: كَمَا فِي تَحْرِيمِ الدَّوَاعِي) أَيْ دَوَاعِي
الْجِمَاعِ مِنْ الْمَسِّ وَالتَّقْبِيلِ وَالنَّظَرِ
بِشَهْوَةٍ حَيْثُ أُقِيمَتْ مَقَامَ الزِّنَا فِي الْحُرْمَةِ
عَلَى الْإِطْلَاقِ إذَا كَانَتْ مَعَ
(2/273)
(وَبِالتَّقْسِيمِ الْعَقْلِيِّ بَقِيَ
قِسْمَانِ عِلَّةٌ مَعْنًى فَقَطْ وَعِلَّةٌ حُكْمًا فَقَطْ،
وَلَمَّا جَعَلُوا الْجُزْءَ الْأَخِيرَ مِنْ الْعِلَّةِ
عِلَّةً مَعْنًى وَحُكْمًا لَا اسْمًا يَكُونُ الْجُزْءُ
الْأَوَّلُ عِلَّةً مَعْنًى لَا اسْمًا، وَلَا حُكْمًا)
فَالْقِسْمُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ مَا لَهُ شُبْهَةُ
الْعِلِّيَّةِ كَجُزْءِ الْعِلَّةِ يَكُونُ هَذَا الْقِسْمُ
بِعَيْنِهِ.
(وَالْعِلَّةُ اسْمًا وَحُكْمًا إنْ كَانَتْ مُرَكَّبَةً
فَالْجُزْءُ الْأَخِيرُ عِلَّةٌ حُكْمًا فَقَطْ) كَالدَّاعِي
مَثَلًا وَإِنْ كَانَ مُرَكَّبًا مِنْ جُزْأَيْنِ فَالْجُزْءُ
الْأَخِيرُ عِلَّةٌ حُكْمًا لَا اسْمًا وَمَعْنًى أَيْضًا
لَمَّا أَرَادُوا بِالْعِلَّةِ حُكْمًا مَا يُقَارِنُهُ
الْحُكْمُ فَالشَّرْطُ كَدُخُولِ الدَّارِ مَثَلًا عِلَّةٌ
حُكْمًا.
(وَأَمَّا السَّبَبُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ
يَتَوَسَّطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ عِلَّةٌ فَإِنْ
كَانَتْ مُضَافَةً إلَيْهِ) أَيْ إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ
مُضَافَةً إلَى السَّبَبِ كَوَطْءِ الدَّابَّةِ شَيْئًا
فَإِنَّهُ عِلَّةٌ لِهَلَاكِهِ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مُضَافَةٌ
إلَى سَوْقِهَا، وَهُوَ السَّبَبُ (فَالسَّبَبُ فِي مَعْنَى
الْعِلَّةِ فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ
بِسَوْقِ الدَّابَّةِ وَقَوْدِهَا وَبِالشَّهَادَةِ
بِالْقِصَاصِ إذَا رَجَعَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
الْأَجْنَبِيَّةِ وَأُقِيمَتْ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي
الْحُرْمَةِ حَالَتَيْ الِاعْتِكَافِ وَالْإِحْرَامِ إذَا
كَانَتْ مَعَ الزَّوْجَةِ، أَوْ الْأَمَةِ.
(قَوْلُهُ: وَلَمَّا جَعَلُوا الْجُزْءَ الْأَخِيرَ) يَعْنِي
أَنَّ الْقَوْمَ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِالْعِلَّةِ
مَعْنًى فَقَطْ وَالْعِلَّةِ حُكْمًا فَقَطْ إلَّا أَنَّ
التَّقْسِيمَ الْعَقْلِيَّ يَقْتَضِيهِمَا وَالْأَحْكَامُ
تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِهِمَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ
الْجُزْءَ الْأَوَّلَ مِنْ الْعِلَّةِ لَا يُضَافُ الْحُكْمُ
إلَيْهِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَعَ تَأْثِيرِهِ فِيهِ
فِي الْجُمْلَةِ فَيَكُونُ عِلَّةً مَعْنًى لِوُجُودِ
التَّأْثِيرِ لَا اسْمًا، وَلَا حُكْمًا لِعَدَمِ الْإِضَافَةِ
وَالْمُقَارَنَةِ فَمَا لَهُ شُبْهَةُ الْعِلِّيَّةِ، وَهُوَ
الْجُزْءُ الْغَيْرُ الْأَخِيرِ مِنْ الْعِلَّةِ يَكُونُ هَذَا
الْقِسْمُ بِعَيْنِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَا
مَعْنَى لِلْعِلَّةِ حُكْمًا فَقَطْ إلَّا مَا يَتَوَقَّفُ
الْحُكْمُ عَلَيْهِ وَيَتَّصِلُ بِهِ مِنْ غَيْرِ إضَافَةٍ
وَلَا تَأْثِيرٍ فَالْجُزْءُ الْأَخِيرِ مِنْ السَّبَبِ
الدَّاعِي إلَى الْحُكْمِ إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَتَّصِلُ بِهِ
الْحُكْمُ يَكُونُ عِلَّةً حُكْمًا لِوُجُودِ الْمُقَارَنَةِ
لَا اسْمًا لِعَدَمِ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ، وَلَا مَعْنًى
لِعَدَمِ التَّأْثِيرِ إذْ لَا تَأْثِيرَ لِلسَّبَبِ الدَّاعِي
فَكَيْفَ لِجُزْئِهِ، وَكَذَا الشَّرْطُ الَّذِي عُلِّقَ
عَلَيْهِ الْحُكْمُ كَدُخُولِ الدَّارِ فِيمَا إذَا قَالَ إنْ
دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ يَتَّصِلُ بِهِ الْحُكْمُ
مِنْ غَيْرِ إضَافَةٍ، وَلَا تَأْثِيرٍ فَيَكُونُ عِلَّةً
حُكْمًا فَقَطْ
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا السَّبَبُ) هُوَ لُغَةً مَا يَتَّصِلُ
بِهِ إلَى الشَّيْءِ.
وَاصْطِلَاحًا مَا يَكُونُ طَرِيقًا إلَى الْحُكْمِ مِنْ
غَيْرِ تَأْثِيرٍ.
وَقَدْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَنْ يُذْكَرَ فِي هَذَا
الْمَقَامِ أَقْسَامُ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ السَّبَبِ
حَقِيقَةً، أَوْ مَجَازًا وَيَعْتَبِرُ تَعَدُّدُ الْأَقْسَامِ
اخْتِلَافَ الْجِهَاتِ وَالِاعْتِبَارَاتِ، وَإِنْ اتَّحَدَتْ
الْأَقْسَامُ بِحَسَبِ الذَّوَاتِ وَلِذَا ذَهَبَ فَخْرُ
الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى أَنَّ
أَقْسَامَ السَّبَبِ أَرْبَعَةٌ سَبَبٌ مَحْضٌ كَدَلَالَةِ
السَّارِقِ وَسَبَبٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ كَسَوْقِ
الدَّابَّةِ لِمَا يَتْلَفُ بِهَا وَسَبَبٌ مَجَازِيٌّ
كَالْيَمِينِ وَسَبَبٌ لَهُ شُبْهَةُ الْعِلَّةِ كَالطَّلَاقِ
الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ. وَلَمَّا رَأَى الْمُصَنِّفُ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الرَّابِعَ هُوَ بِعَيْنِهِ
السَّبَبُ الْمَجَازِيُّ كَمَا اعْتَرَفَ بِهِ فَخْرُ
الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَنَّ عَدَّ
الْمَجَازِيِّ مِنْ الْأَقْسَامِ لَيْسَ بِمُسْتَحْسَنٍ
قَسَّمَ السَّبَبَ إلَى مَا فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ وَإِلَى
مَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَيُسَمَّى الثَّانِي سَبَبًا
حَقِيقِيًّا، ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ السَّبَبِ مَا هُوَ
(2/274)
لَا الْقِصَاصُ عِنْدَنَا) أَيْ لَا يَجِبُ
الْقِصَاصُ عِنْدَنَا عَلَى الشَّاهِدِ إذَا شَهِدَ أَنَّ
زَيْدًا قَتَلَ عَمْرًا فَاقْتُصَّ، ثُمَّ رَجَعَ الشَّاهِدُ
(لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ وَشَهَادَتُهُ إنَّمَا
صَارَتْ قَتْلًا بِحُكْمِ الْقَاضِي وَاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُضَافَةً إلَيْهِ) أَيْ الْعِلَّةُ
مُضَافَةً إلَى السَّبَبِ. (نَحْوُ أَنْ تَكُونَ) أَيْ
الْعِلَّةُ (فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا فَسَبَبٌ حَقِيقِيٌّ) لَا
يُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ (فَلَا يَضْمَنُ، وَلَا يَشْتَرِكُ
فِي الْغَنِيمَةِ الدَّالُّ عَلَى مَالِ السَّرِقَةِ وَعَلَى
حِصْنٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ) أَيْ لَا يَضْمَنُ الدَّالُّ
عَلَى مَالٍ يَسْرِقُهُ السَّارِقُ، وَلَا يَشْتَرِكُ فِي
الْغَنِيمَةِ الدَّالُّ عَلَى حِصْنٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ؛
لِأَنَّهُ تَوَسَّطَ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْحُكْمِ عِلَّةٌ
هِيَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ وَهُوَ السَّارِقُ فِي فَصْلِ
السَّرِقَةِ وَالْغَازِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْحِصْنِ
فَتَقْطَعُ هَذِهِ الْعِلَّةُ نِسْبَةَ الْحُكْمِ إلَى
السَّبَبِ (وَلَا أَجْنَبِيٌّ) أَيْ، وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
سَبَبٌ مَجَازِيٌّ أَيْ مِمَّا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ
السَّبَبِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلسَّبَبِ الَّذِي فِيهِ
شُبْهَةُ الْعِلَلِ.
(قَوْلُهُ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ) اعْتِرَاضٌ بَيْنَ أَمَّا
وَجَوَابِهِ، وَتَمْهِيدٌ لِتَقْسِيمِ السَّبَبِ إلَى مَا
يُضَافُ إلَيْهِ الْعِلَّةُ وَإِلَى مَا لَا يُضَافُ يَعْنِي
أَنَّ السَّبَبَ مُفْضٍ إلَى الْحُكْمِ وَطَرِيقٌ إلَيْهِ لَا
مُؤَثِّرٌ فِيهِ فَلَا بُدَّ لِلْحُكْمِ مِنْ عِلَّةٍ
مُؤَثِّرَةٍ فِيهِ مَوْضُوعَةٍ لَهُ فَالسَّبَبُ إمَّا أَنْ
يُضَافَ إلَيْهِ الْعِلَّةُ، أَوْ لَا.
فَالْأَوَّلُ: السَّبَبُ الَّذِي فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ
كَسَوْقِ الدَّابَّةِ، فَإِنْ لَمْ يُوضَعْ لِلتَّلَفِ، وَلَمْ
يُؤَثِّرْ فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ طَرِيقٌ لِلْوُصُولِ إلَيْهِ
وَالْعِلَّةُ هُوَ وَطْءُ الدَّابَّةِ بِقَوَائِمِهَا ذَلِكَ
الشَّخْصَ، وَهُوَ مُضَافٌ إلَى السَّوْقِ وَحَادِثٌ بِهِ
فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُ الْعِلَّةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى بَدَلِ
الْمَحَلِّ لَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى جَزَاءِ الْمُبَاشَرَةِ
فَيَجِبُ عَلَى السَّائِقِ الدِّيَةُ لَا الْحِرْمَانُ مِنْ
الْمِيرَاثِ، وَلَا الْكَفَّارَةُ، وَلَا الْقِصَاصُ
وَكَالشَّهَادَةِ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ، فَإِنَّهَا لَمْ
تُوضَعْ لَهُ، وَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ، وَإِنَّمَا هِيَ
طَرِيقٌ إلَيْهِ وَالْعِلَّةُ مَا تَوَسَّطَ مِنْ فِعْلِ
الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ الَّذِي هُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْقَتْلِ
إلَّا أَنَّهُ سَبَبٌ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ
مُبَاشَرَةَ الْقَاتِلِ مُضَافَةٌ إلَى الشَّهَادَةِ حَادِثَةٌ
بِهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ اسْتِيفَاءُ
الْقِصَاصِ قَبْلَ الشَّهَادَةِ فَيَصْلُحُ لِإِيجَابِ ضَمَانِ
الْمَحَلِّ دُونَ جَزَاءِ الْمُبَاشَرَةِ فَيَجِبُ عَلَى
الشَّاهِدِ إذَا رَجَعَ الدِّيَةُ لَا الْقِصَاصُ؛ لِأَنَّهُ
جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ، وَلَا مُبَاشَرَةَ مِنْ الشَّاهِدِ؛
لِأَنَّ شَهَادَتَهُ إنَّمَا صَارَتْ قَتْلًا أَيْ مُؤَدِّيَةً
بِوَاسِطَةِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ
الْقِصَاصَ عَلَى الْعَفْوِ.
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ
عَلَى الشُّهُودِ الْقِصَاصُ إذَا قَالُوا: عِنْدَ الرُّجُوعِ
تَعَمَّدْنَا الْكَذِبَ وَعُلِمَ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُ لَا
يَخْفَى عَلَيْهِمْ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِشَهَادَتِهِمْ؛
لِأَنَّهُ جَعَلَ السَّبَبَ الْقَوِيَّ الْمُؤَكَّدَ
بِالْقَصْدِ الْكَامِلِ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشَرَةِ فِي
إيجَابِ الْقِصَاصِ تَحْقِيقًا لِلزَّجْرِ.
وَجَوَابُهُ أَنَّ مَبْنَى الْقِصَاصِ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ،
وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْمُبَاشَرَةِ وَالسَّبَبِ، وَإِنْ
قَوِيَ وَتَأَكَّدَ. وَالثَّانِي السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ
بِأَنْ يَتَوَسَّطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ عِلَّةٌ هِيَ
فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى السَّبَبِ كَفِعْلِ
السَّارِقِ بَيْنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَالِ وَبَيْنَ
سَرِقَتِهِ، وَلَا يَكْفِي فِي ذَلِكَ
(2/275)
الْوَلَدِ أَجْنَبِيٌّ (قَالَ لِآخَرَ
تَزَوَّجْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَإِنَّهَا حُرَّةٌ فَفَعَلَ
وَاسْتَوْلَدَهَا، فَإِذَا هِيَ أَمَةٌ لَا يَضْمَنُ قِيمَةَ
الْوَلَدِ) (بِخِلَافِ مَا إذَا زَوَّجَهَا الْوَكِيلُ، أَوْ
الْوَلِيُّ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ. وَلَا يَلْزَمُ أَنَّ
الْمُودَعَ، أَوْ الْمُحْرِمَ إذَا دَلَّا عَلَى الْوَدِيعَةِ
وَالصَّيْدِ يَضْمَنَانِ مَعَ أَنَّهُمَا سَبَبَانِ؛ لِأَنَّ
الْمُودَعَ إنَّمَا يَضْمَنُ بِتَرْكِ الْحِفْظِ الَّذِي
الْتَزَمَ وَالْمُحْرِمُ بِإِزَالَةِ الْأَمْنِ إذَا
تَقَرَّرَتْ بِإِفْضَائِهَا إلَى الْقَتْلِ)
أَيْ إذَا تَقَرَّرَتْ إزَالَةُ الْأَمْنِ وَإِنَّمَا قَالَ
هَذِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ إنَّ الْمُحْرِمَ إنَّمَا
يَضْمَنُ بِإِزَالَةِ الْأَمْنِ.
وَرُدَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَ بِمُجَرَّدِ
الدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ إزَالَةُ الْأَمْنِ
بِمُجَرَّدِ الدَّلَالَةِ فَقَالَ إنَّمَا يَضْمَنُ
بِإِزَالَةِ الْأَمْنِ إذَا تَقَرَّرَتْ بِكَوْنِهَا
مُفْضِيَةً إلَى الْقَتْلِ إذْ قِيلَ: الْإِفْضَاءُ لَمْ
يَصِرْ سَبَبًا لِلْهَلَاكِ، فَلَا يَضْمَنُ، ثُمَّ أَقَامَ
الدَّلِيلَ عَلَى أَنَّ إزَالَةَ الْأَمْنِ سَبَبٌ لِلضَّمَانِ
بِقَوْلِهِ: (فَإِنَّ الصَّيْدَ مَحْفُوظٌ بِالْبُعْدِ عَنْ
النَّاسِ بِخِلَافِ مَالِ الْمُسْلِمِ) أَيْ إذْ دَلَّ رَجُلٌ
سَارِقًا عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ لَا يَضْمَنُ فَإِنَّ كَوْنَهُ
مَحْفُوظًا لَيْسَ لِأَجْلِ الْبُعْدِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ
فَدَلَالَتُهُ لَا تَكُونُ إزَالَةَ الْأَمْنِ.
(وَصَيْدِ الْحَرَمِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
مُجَرَّدُ كَوْنِ الْعِلَّةِ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا كَمَا فِي
مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ بِالْقِصَاصِ. وَقَوْلُهُ: فِي بَعْضِ
نُسَخِ الشَّرْحِ فَالسَّبَبُ سَبَبٌ حَقِيقِيٌّ لَمْ يَقَعْ
مَوْقِعَهُ عَلَى مَا لَا يَخْفَى.
(قَوْلُهُ: بِخِلَافِ مَا إذَا زَوَّجَهَا) يَعْنِي لَوْ
زَوَّجَ الْمَرْأَةَ وَكِيلُهَا، أَوْ وَلِيُّهَا عَلَى شَرْطِ
أَنَّهَا حُرَّةٌ، فَإِذَا هِيَ أَمَةٌ يَضْمَنُ الْوَكِيلُ،
أَوْ الْوَلِيُّ لِلْمُتَزَوِّجِ قِيمَةَ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ
التَّزْوِيجَ مَوْضُوعٌ لِلِاسْتِيلَادِ وَطَلَبِ النَّسْلِ
فَيَكُونُ الْمُزَوِّجُ صَاحِبَ الْعِلَّةِ وَأَيْضًا
الِاسْتِيلَادُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّزْوِيجِ الْمَشْرُوطِ
بِالْحُرِّيَّةِ وَصْفًا لَازِمًا لَهُ فَيَصِيرُ وَصْفُ
الْحُرِّيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ كَالتَّزْوِيجِ
فَيَكُونُ الشَّارِطُ صَاحِبَ عِلَّةٍ.
(قَوْلُهُ: إزَالَةُ الْأَمْنِ سَبَبٌ لِلضَّمَانِ) أَيْ
إزَالَةُ الْمُحْرِمِ إلَّا مِنْ الْمُلْتَزِمِ بِعَقْدِ
الْإِحْرَامِ إذَا تَقَرَّرَتْ حَالَ كَوْنِهِ مُحْرِمًا
عِلَّةٌ لِلضَّمَانِ وَمُوجِبَةٌ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ
الدَّالُّ مُحْرِمًا حِينَ قَتَلَ الْمَدْلُولُ الصَّيْدَ لَمْ
يَجِبْ الضَّمَانُ وَحَقِيقَةُ الدَّلَالَةِ الْإِعْلَامُ أَيْ
إحْدَاثُ الْعِلْمِ فِي الْغَيْرِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ
الْمَدْلُولُ عَالِمًا بِمَكَانِ الصَّيْدِ وَأَنْ لَا
يَكْذِبَ الدَّالُّ فِي ذَلِكَ.
(قَوْلُهُ: وَصَيْدِ الْحَرَمِ) أَيْ بِخِلَافِ صَيْدِ
الْحَرَمِ إذَا دَلَّ عَلَيْهِ غَيْرُ الْمُحْرِمِ رَجُلًا
فَقَتَلَهُ، فَإِنَّ الدَّالَّ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ
دَلَالَتَهُ سَبَبٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ كَوْنَ صَيْدِ الْحَرَمِ
مَحْفُوظًا لَيْسَ بِالْبُعْدِ عَنْ النَّاسِ حَتَّى تَكُونَ
الدَّلَالَةُ عَلَيْهِ إزَالَةً لِلْأَمْنِ وَمُوجِبَةً
لِلضَّمَانِ بَلْ هُوَ مَحْفُوظٌ بِكَوْنِهِ صَيْدَ الْحَرَمِ
الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى آمِنًا لِيَبْقَى مُدَّةَ
بَقَاءِ الدُّنْيَا فَتَعَرُّضُ الصَّيْدِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ
إتْلَافِ الْأَمْوَالِ الْمَمْلُوكَةِ وَالْمَوْقُوفَةِ
وَلِهَذَا يَكُونُ ضَمَانُهُ ضَمَانَ الْمَحَلِّ حَتَّى لَا
يَتَعَدَّدَ بِتَعَدُّدِ الْجَانِي بِخِلَافِ الضَّمَانِ
الْوَاجِبِ بِالْإِحْرَامِ، فَلَوْ دَلَّ الْمُحْرِمُ عَلَى
صَيْدِ الْحَرَمِ كَانَ الضَّمَانُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى
الْإِحْرَامِ لَا بِإِزَالَةِ الْأَمْنِ.
فَإِنْ قُلْت: السِّعَايَةُ إلَى السُّلْطَانِ الظَّالِمِ
سَبَبٌ مَحْضٌ، وَقَدْ وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى السَّاعِي.
قُلْت: مَسْأَلَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ أَفْتَوْا فِيهَا بِغَيْرِ
الْقِيَاسِ اسْتِحْسَانًا لِغَلَبَةِ السِّعَايَةِ.
(قَوْلُهُ: فَوَجَأَ بِهِ) هُوَ
(2/276)
أَيْ إذَا دَلَّ عَلَيْهِ غَيْرُ
الْمُحْرِمِ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ
مَحْفُوظًا لَيْسَ لِلْبُعْدِ عَنْ النَّاسِ بَلْ لِكَوْنِهِ
فِي الْحَرَمِ.
(وَمَنْ دَفَعَ إلَى صَبِيٍّ سِكِّينًا لِيَمْسِكَهُ
لِلدَّافِعِ فَوَجَأَ بِهِ نَفْسَهُ لَا يَضْمَنُ الدَّافِعُ)
؛ لِأَنَّهُ تَخَلَّلَ بَيْنَ السَّبَبِ، وَهُوَ دَفْعُ
السِّكِّينِ إلَى الصَّبِيِّ وَبَيْنَ الْحُكْمِ فِعْلُ
فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَهُوَ قَصْدُ الصَّبِيِّ قَتْلَ نَفْسِهِ.
(وَإِنْ سَقَطَ عَنْ يَدِهِ السِّكِّينُ فَجَرَحَهُ ضَمِنَ) ؛
لِأَنَّهُ لَمْ يَتَخَلَّلْ هُنَاكَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ
فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَى السَّبَبِ، وَهُوَ الدَّفْعُ.
(وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ السَّبَبِ (مَا هُوَ سَبَبٌ مَجَازًا
كَالتَّطْلِيقِ وَالْإِعْتَاقِ وَالنَّذْرِ الْمُعَلَّقَةُ)
فَالْمُعَلَّقَةُ صِفَةٌ لِلتَّطْلِيقِ وَالْإِعْتَاقِ
وَالنَّذْرِ نَحْوُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ
وَإِنْ دَخَلْت فَعَبْدُهُ حُرٌّ وَإِنْ دَخَلْت فَلِلَّهِ
عَلَيَّ كَذَا (لِلْجَزَاءِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: مَا هُوَ
سَبَبٌ فَالْجَزَاءُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَلُزُومُ
الْمَنْذُورِ (لِأَنَّهَا رُبَّمَا لَا تُوَصِّلُ إلَيْهِ؛
لِأَنَّ الشَّرْطَ مَعْدُومٌ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ) أَيْ؛
لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْمُعَلَّقَةَ رُبَّمَا لَا
تُوَصِّلُ إلَى الْجَزَاءِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهَا
سَبَبًا مَجَازًا.
(وَكَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ لِلْكَفَّارَةِ) أَيْ سَبَبٍ
لِلْكَفَّارَةِ مَجَازًا (لِأَنَّهَا) أَيْ الْيَمِينَ
(لِلْبِرِّ، فَلَا تُوَصِّلُ إلَى الْكَفَّارَةِ) إذْ
الْكَفَّارَةُ تَجِبُ عِنْدَ الْحِنْثِ، فَلَا يَكُونُ
الْيَمِينُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
مِنْ الْوَجْءِ، وَهُوَ الضَّرْبُ بِالْيَدِ، أَوْ
السِّكِّينِ.
(قَوْلُهُ: كَالتَّطْلِيقِ) أَيْ كَالصِّيَغِ الدَّالَّةِ
عَلَى تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ، أَوْ الْعَتَاقِ، أَوْ النَّذْرِ
شَيْءٌ، فَإِنَّهَا قَبْلَ وُقُوعِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ
أَسْبَابٌ مَجَازِيَّةٌ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ
الْجَزَاءِ، وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ، أَوْ الْعَتَاقِ، أَوْ
لُزُومُ الْمَنْذُورِ بِهِ لِإِفْضَائِهَا إلَيْهِ فِي
الْجُمْلَةِ لَا أَسْبَابٌ حَقِيقِيَّةٌ إذْ رُبَّمَا لَا
تُفْضِي إلَيْهِ بِأَنْ لَا يَقَعَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ
فَقَوْلُهُ: لِلْجَزَاءِ حَالٌ مِنْ التَّطْلِيقِ وَمَا عُطِفَ
عَلَيْهِ أَيْ كَالتَّطْلِيقِ وَنَحْوِهِ حَالَ كَوْنِهَا
أَسْبَابًا لِلْجَزَاءِ، وَلَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ
مَا هُوَ سَبَبٌ عَلَى مَا زَعَمَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - لَكَانَ الْمَعْنَى، وَمِنْهُ مَا هُوَ
سَبَبٌ مَجَازًا لِلْجَزَاءِ كَإِطْلَاقِ الْمُعَلَّقِ
وَنَحْوِهِ وَالْيَمِينِ لِلْكَفَّارَةِ، وَفَسَادُهُ وَاضِحٌ،
ثُمَّ تَسْمِيَةُ هَذِهِ الصِّيَغِ سَبَبًا مَجَازِيًّا
إنَّمَا هِيَ قَبْلَ وُقُوعِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ كَدُخُولِ
الدَّارِ مَثَلًا، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَتَصِيرُ تِلْكَ
الْإِيقَاعَاتُ عِلَلًا حَقِيقِيَّةً لِتَأْثِيرِهَا فِي
وُقُوعِ الْأَجْزِيَةِ مَعَ الْإِضَافَةِ إلَيْهَا
وَالِاتِّصَالِ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ لِلْمِلْكِ
وَذَلِكَ أَنَّ الشَّرْطَ كَانَ مَانِعًا لِلْعِلَّةِ عَنْ
الِانْعِقَادِ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ انْعَقَدَتْ عِلَّةٌ
حَقِيقِيَّةٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِيقَاعَاتِ الْمُنَجَّزَةِ،
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُ
هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا، فَإِنَّ عِلَّةَ الْكَفَّارَةِ
لَا تَصِيرُ هِيَ الْيَمِينَ؛ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ
لِلْبِرِّ وَالْبِرُّ لَا يُفْضِي إلَى الْكَفَّارَةِ،
وَإِنَّمَا يُفْضِي إلَيْهَا الْحِنْثُ الَّذِي هُوَ ضِدُّهُ
وَالْبِرُّ مَانِعٌ عَنْهُ فَكَيْفَ يَصْلُحُ عِلَّةً
لِثُبُوتِهِ وَإِنَّمَا عِلَّةُ الْكَفَّارَةِ هِيَ الْحِنْثُ؛
لِأَنَّهُ الْمُؤَثِّرُ فِيهَا، وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ فِي
بَحْثِ الشَّرْطِ.
فَإِنْ قُلْت: قَدْ اُعْتُبِرَ فِي حَقِيقَةِ السَّبَبِ
الْإِفْضَاءُ وَعَدَمُ التَّأْثِيرِ فَكَمَا أَنَّ هَذَا
الْقِسْمَ جُعِلَ مَجَازًا لِعَدَمِ الْإِفْضَاءِ يَنْبَغِي
أَنْ يَجْعَلَ السَّبَبَ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ
أَيْضًا مَجَازًا لِوُجُودِ التَّأْثِيرِ.
قُلْت: نَعَمْ إلَّا أَنَّ عَدَمَ التَّأْثِيرِ لَمَّا كَانَ
قَيْدًا عَدَمِيًّا وَكَانَ حَقِيقَةُ السَّبَبِ فِي اللُّغَةِ
مَا يَكُونُ طَرِيقًا إلَى الشَّيْءِ وَمُوَصِّلًا إلَيْهِ
خَصُّوا هَذَا الْقِسْمَ الَّذِي
(2/277)
مُوَصِّلَةً إلَى الْكَفَّارَةِ، فَلَا
تَكُونُ سَبَبًا لَهَا حَقِيقَةً بَلْ مَجَازًا.
(ثُمَّ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ) أَيْ فِي صُورَةِ تَعْلِيقِ
الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّذْرِ بِالشَّرْطِ (يَصِيرُ
الْإِيجَابُ السَّابِقُ عِلَّةً حَقِيقَةً بِخِلَافِ
الْيَمِينِ لِلْكَفَّارَةِ فَإِنَّ الْحِنْثَ عِلَّتُهَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هِيَ
أَسْبَابٌ فِي مَعْنَى الْعِلَلِ حَتَّى أَبْطَلَ التَّعْلِيقَ
بِالْمِلْكِ) أَيْ إنْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ إنْ نَكَحْتُك
فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ لِعَبْدٍ إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ
يَكُونُ بَاطِلًا لِعَدَمِ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ
الْعِلَّةِ.
(وَجُوِّزَ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ قَبْلَ الْحِنْثِ)
لِجَوَازِ التَّعْجِيلِ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ إذَا وُجِدَ
السَّبَبُ كَالزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ إذَا وُجِدَ
السَّبَبُ، وَهُوَ النِّصَابُ.
(ثُمَّ عِنْدَنَا لِهَذَا الْمَجَازِ شُبْهَةُ الْحَقِيقَةِ)
هَذَا الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: وَمِنْهُ مَا هُوَ
سَبَبٌ مَجَازًا (وَهَذَا يَتَبَيَّنُ فِي أَنَّ التَّنْجِيزَ
هَلْ يُبْطِلُ التَّعْلِيقَ أَمْ لَا؟ فَعِنْدَ زُفَرَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ
يَكُنْ الْمِلْكُ وَالْحِلُّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ
قَطْعِيَّ الْوُجُودِ لِيَصِحَّ التَّعْلِيقُ شَرَطْنَا
وُجُودَهُمَا فِي الْحَالِ لِيَتَرَجَّحَ جَانِبُ الْوُجُودِ
عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَكَمَا لَا يُبْطِلُهُ زَوَالُ
الْمِلْكِ لَا يُبْطِلُهُ زَوَالُ الْحِلِّ) .
صُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت
الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، ثُمَّ قَالَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
يَنْتَفِي فِيهِ الْإِيصَالُ وَالْإِفْضَاءُ بِاسْمِ
الْمَجَازِ وَنَبَّهُوا عَلَى مَجَازِيَّةِ مَا فِيهِ مَعْنَى
الْعِلَّةِ بِأَنْ سَمَّوْا السَّبَبَ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ
مَعْنَى الْعِلَّةِ سَبَبًا حَقِيقِيًّا وَأَيْضًا هَذَا
الْقِسْمُ مَجَازٌ بِالنَّظَرِ إلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ
فَخَصُّوهُ بِاسْمِ الْمَجَازِ وَالْعَلَاقَةُ أَنَّهُ
يُؤَوَّلُ إلَى السَّبَبِيَّةِ بِأَنْ يَصِيرَ طَرِيقًا
لِلْوُصُولِ إلَى الْحُكْمِ عِنْدَ وُقُوعِ الْمُعَلَّقِ
عَلَيْهِ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَآلِ لَا يَصِيرُ
سَبَبًا حَقِيقِيًّا بَلْ عِلَّةً عَلَى مَا سَبَقَ اللَّهُمَّ
إلَّا أَنْ يُرَادَ السَّبَبُ بِحَسَبِ اللُّغَةِ وَالْأَوْلَى
أَنْ يُقَالَ: الْعَلَاقَةُ هِيَ مُشَابَهَةُ السَّبَبِ مِنْ
جِهَةِ أَنَّ لَهُ نَوْعَ إفْضَاءٍ إلَى الْحُكْمِ فِي
الْجُمْلَةِ، وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ.
(قَوْلُهُ: ثُمَّ عِنْدَنَا لِهَذَا الْمَجَازِ) أَيْ
لِلْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ الَّذِي سَمَّيْنَاهُ سَبَبًا
مَجَازًا يُشْبِهُ الْحَقِيقَةَ أَيْ جِهَةَ كَوْنِهِ عِلَّةً
حَقِيقِيَّةً مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ، وَعِنْدَ زُفَرَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هُوَ مَجَازٌ مَحْضٌ، وَهَذَا
الْخِلَافُ يَظْهَرُ فِي مَسْأَلَةِ إبْطَالِ تَنْجِيزِ
الطَّلَاقِ وَتَعْلِيقِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ
اسْتِدْلَالَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى
عَدَمِ الْإِبْطَالِ أَوَّلًا وَدَلِيلَهُمْ عَلَى
الْإِبْطَالِ ثَانِيًا وَجَوَابَهُمْ عَنْ اسْتِدْلَالِ زُفَرَ
ثَالِثًا، وَأَمَّا وَجْهُ اسْتِدْلَالِهِ، فَهُوَ أَنَّ
الْمُعْتَبَرَ وُجُودُ الْمِلْكِ حَالَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛
لِأَنَّ التَّعْلِيقَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْمِلْكِ حَالَةَ
التَّعْلِيقِ بِدَلِيلِ صِحَّةِ التَّعْلِيقِ بِالتَّزَوُّجِ.
مِثْلُ: إنْ نَكَحْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ بَلْ إنَّمَا
يَفْتَقِرُ إلَيْهِ حَالَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِيَظْهَرَ
فَائِدَةُ الْيَمِينِ إذْ الْمَقْصُودُ مِنْ الْيَمِينِ
تَأْكِيدُ الْبِرِّ بِإِيجَابِ الْجَزَاءِ فِي مُقَابَلَتِهِ
فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ غَالِبَ الْوُجُودِ،
أَوْ مُتَحَقِّقَهُ عِنْدَ فَوَاتِ الْبِرِّ لِيَحْمِلَهُ
خَوْفُ نُزُولِهِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْبِرِّ
وَذَلِكَ بِقِيَامِ الْمِلْكِ حَالَ وُجُودِ الشَّرْطِ، فَإِنْ
عَلَّقَهُ بِالْمِلْكِ كَمَا فِي إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ
طَالِقٌ كَانَ الْمِلْكُ مُتَحَقِّقَ الْوُجُودِ عِنْدَ
فَوَاتِ الْبِرِّ فَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْيَمِينِ تَحْقِيقًا،
وَإِنْ عَلَّقَهُ
(2/278)
لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَعِنْدَنَا
يَبْطُلُ التَّعْلِيقُ حَتَّى إذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ
التَّحْلِيلِ، ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ،
وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَبْطُلُ
التَّعْلِيقُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ هُوَ يَقُولُ: شَرْطُ
صِحَّةِ التَّعْلِيقِ وُجُودُ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ
الشَّرْطِ لَا عِنْدَ وُجُودِ التَّعْلِيقِ؛ لِأَنَّ زَمَانَ
وُجُودِ الشَّرْطِ هُوَ زَمَانُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَوُقُوعُ
الطَّلَاقِ يَفْتَقِرُ إلَى الْمِلْكِ، وَأَمَّا التَّعْلِيقُ،
فَلَا افْتِقَارَ لَهُ إلَى الْمِلْكِ حَالَ التَّعْلِيقِ،
فَإِذَا عَلَّقَ بِالْمِلْكِ نَحْوَ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ
طَالِقٌ فَالْمِلْكُ قَطْعِيُّ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِ
الشَّرْطِ فَيَصِحُّ التَّعْلِيقُ وَإِنْ عَلَّقَ بِغَيْرِ
الْمِلْكِ نَحْوَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ
فَشَرْطُ صِحَّةِ التَّعْلِيقِ وُجُودُ الْمِلْكِ عِنْدَ
وُجُودِ الشَّرْطِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مَعْلُومٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
بِغَيْرِهِ كَدُخُولِ الدَّارِ مَثَلًا فَوُجُودُ الْمِلْكِ
وَعَدَمُهُ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ وَفَوَاتُ الْبِرِّ
غَيْرُ مَعْلُومِ التَّحَقُّقِ فَاشْتُرِطَ الْمِلْكُ حَالَ
التَّعْلِيقِ لِيَتَرَجَّحَ جَانِبُ وُجُودِ الْمِلْكِ عِنْدَ
وُجُودِ الشَّرْطِ بِحُكْمِ الِاسْتِصْحَابِ، وَهُوَ أَنَّ
الْأَصْلَ فِي الثَّابِتِ بَقَاؤُهُ فَيَظْهَرُ فَائِدَةُ
الْيَمِينِ بِحَسَبِ غَالِبِ الْوُجُودِ فَيَصِحُّ
التَّعْلِيقُ وَيَنْعَقِدُ الْكَلَامُ يَمِينًا وَبَعْدَمَا
صَحَّ التَّعْلِيقُ بِنَاءً عَلَى نَصْبِ دَلِيلِ وُجُودِ
الْمِلْكِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّرْطِ فَزَوَالُ الْمِلْكِ
بِأَنْ يُطَلِّقَهَا مَا دُونَ الثَّلَاثِ لَا يُبْطِلُ
التَّعْلِيقَ بِنَاءً عَلَى احْتِمَالِ حُدُوثِهِ عِنْدَ
وُجُودِ الشَّرْطِ اتِّفَاقًا فَكَذَا لَا يُبْطِلُهُ زَوَالُ
الْحِلِّ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا الثَّلَاثَ بِنَاءً عَلَى هَذَا
الِاحْتِمَالِ أَيْضًا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي ابْتِدَاءِ
التَّعْلِيقِ بَقَاءُ الْحِلِّ كَمَا إذَا قَالَ
لِلْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثَ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ
حَتَّى لَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الزَّوْجِ الثَّانِي يَقَعُ
الطَّلَاقُ فَلَأَنْ لَا يُشْتَرَطَ ذَلِكَ فِي بَقَاءِ
التَّعْلِيقِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ مِنْ
الِابْتِدَاءِ.
وَأَمَّا دَلِيلُهُمْ عَلَى أَنَّ التَّنْجِيزَ يُبْطِلُ
التَّعْلِيقَ فَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْيَمِينَ سَوَاءٌ كَانَتْ
بِاَللَّهِ، أَوْ بِغَيْرِهِ إنَّمَا شُرِعَتْ لِلْبِرِّ أَيْ
تَحْقِيقِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ مِنْ الْفِعْلِ، أَوْ
التَّرْكِ وَتَقْوِيَةِ جَانِبِهِ عَلَى جَانِبِ نَقِيضِهِ
فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ
مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ أَيْ بِلُزُومِ الْمَحْلُوفِ بِهِ
مِنْ الطَّلَاقِ، أَوْ الْعَتَاقِ، أَوْ نَحْوِهِ كَمَا أَنَّ
الْيَمِينَ بِاَللَّهِ يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالْكَفَّارَةِ
تَحْقِيقًا لِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْيَمِينِ مِنْ
الْحَمْلِ، أَوْ الْمَنْعِ، وَإِذَا كَانَ الْبِرُّ مَضْمُونًا
بِالْجَزَاءِ كَانَ لِلْجَزَاءِ شُبْهَةُ الثُّبُوتِ فِي
الْحَالِ أَيْ قَبْلَ فَوَاتِ الْبِرِّ إذْ لِلضَّمَانِ
شُبْهَةُ الثُّبُوتِ قَبْلَ فَوَاتِ الْمَضْمُونِ كَمَا فِي
الْمَغْصُوبِ، فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ بَعْدَ
الْفَوَاتِ فَيَكُونُ لِلْغَصْبِ شُبْهَةُ إيجَابِ الْقِيمَةِ
قَبْلَ الْفَوَاتِ حَتَّى يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ عَنْ
الْقِيمَةِ وَالدَّيْنِ وَالْعَيْنِ وَالْكَفَالَةِ حَالَ
قِيَامِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ مَعَ
أَنَّهُ لَا تَصِحُّ هَذِهِ الْأَحْكَامُ قَبْلَ الْغَصْبِ
وَلِأَنَّ الْبِرَّ فِي التَّعْلِيقِ إنَّمَا وَجَبَ لِخَوْفِ
لُزُومِ الْجَزَاءِ، وَالْوَاجِبُ لِغَيْرِهِ يَكُونُ ثَابِتًا
مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيَكُونُ لَهُ عَرَضِيَّةُ
الْفَوَاتِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَالْجَزَاءُ حُكْمٌ يَلْزَمُ
عِنْدَ فَوَاتِ الْبِرِّ فَيَلْزَمُ عِنْدَ عَرَضِيَّةِ
الْفَوَاتِ لِلْبِرِّ عَرَضِيَّةُ الْوُجُودِ لِلْجَزَاءِ
يُلْزِمُ عَرَضِيَّةَ الْوُجُودِ لِسَبَبِهِ لِيَكُونَ
الْمُسَبَّبُ ثَابِتًا
(2/279)
فَيُسْتَدَلُّ بِالْمِلْكِ حَالَ
التَّعْلِيقِ عَلَى الْمِلْكِ حَالَ وُجُودِ الشَّرْطِ
بِالِاسْتِصْحَابِ، فَإِذَا وُجِدَ الْمِلْكُ حَالَ
التَّعَلُّقِ صَحَّ التَّعْلِيقُ، ثُمَّ لَا يُبْطِلُهُ
زَوَالُ الْمِلْكِ فَكَمَا لَا يُبْطِلُهُ زَوَالُ الْمِلْكِ
لَا يُبْطِلُهُ زَوَالُ الْحِلِّ أَيْضًا وَالْمُرَادُ
بِزَوَالِ الْحِلِّ وُقُوعُ الطَّلَاقِ الثَّالِثِ فِي قَوْله
تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ
حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] .
(قُلْنَا الْيَمِينُ شُرِعَتْ لِلْبِرِّ، فَلَا بُدَّ مِنْ
أَنْ يَكُونَ الْبِرُّ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ فَيَكُونُ
لِلْجَزَاءِ شُبْهَةُ الثُّبُوتِ فِي الْحَالِ، فَلَا بُدَّ
مِنْ الْمَحَلِّ) فَإِنَّهُ إذَا قَالَ إنْ دَخَلْت الدَّارَ
فَأَنْتِ طَالِقٌ فَالْغَرَضُ أَنْ لَا تَدْخُلَ الدَّارَ؛
لِأَنَّهَا إنْ دَخَلَتْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ هَذَا الْأَمْرُ
الْمَخُوفُ أَيْ: الْجَزَاءُ فَيَكُونُ الْجَزَاءُ، وَهُوَ
وُقُوعُ الطَّلَاقِ مَانِعًا مِنْ تَفْوِيتِ الْبِرِّ
كَالضَّمَانِ يَكُونُ مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
عَلَى قَدْرِ السَّبَبِ، وَهَذَا مَعْنَى شُبْهَةِ الثُّبُوتِ
فِي الْحَالِ وَكَمَا لَا بُدَّ لِحَقِيقَةِ الشَّيْءِ مِنْ
الْمَحَلِّ كَذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْهُ لِشُبْهَتِهِ وَلِهَذَا
لَا تَثْبُتُ شُبْهَةُ النِّكَاحِ فِي غَيْرِ النِّسَاءِ
وَذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى الشُّبْهَةِ قِيَامُ الدَّلِيلِ مَعَ
تَخَلُّفِ الْمَدْلُولِ لِمَانِعٍ وَيَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي
غَيْرِ الْمَحَلِّ فَيُبْطِلُ التَّعْلِيقُ زَوَالَ الْحِلِّ
بِأَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا لِفَوَاتِ مَحَلِّ الْجَزَاءِ
كَمَا يُبْطِلُهُ بُطْلَانُ مَحَلِّ الشَّرْطِ بِأَنْ يَجْعَلَ
الدَّارَ بُسْتَانًا، وَلَا يُبْطِلُهُ زَوَالُ الْمِلْكِ
بِأَنْ يُطَلِّقَهَا مَا دُونَ الثَّلَاثِ لِقِيَامِ
الْمَحَلِّ مِنْ وَجْهٍ بِإِمْكَانِ الرُّجُوعِ إلَيْهَا.
فَإِنْ قُلْت: فَلْيُعْتَبَرْ إمْكَانُ الرُّجُوعِ فِيمَا إذَا
فَاتَ الْمَحَلُّ.
قُلْت: لَمَّا فَاتَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ تَحَقَّقَ
الْبُطْلَانُ وَالْمِلْكُ لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ
لَا بُدَّ مِنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ لِيَتَحَقَّقَ بِفَوَاتِهِ
الْبُطْلَانُ، وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ مِنْهُ بُدٌّ عِنْدَ
وُقُوعِ الشَّرْطِ، وَقَدْ أَمْكَنَ عَوْدُهُ حِينَئِذٍ، فَلَا
جِهَةَ لِلْبُطْلَانِ. وَفِي الطَّرِيقَةِ الْبُرْعَرِيَّةِ
إنَّمَا لَمْ يُشْتَرَطْ بَقَاءُ الْمِلْكِ لِبَقَاءِ
التَّعْلِيقِ كَمَا شُرِطَ الْمَحَلُّ؛ لِأَنَّ مَحَلِّيَّةَ
الطَّلَاقِ تَثْبُتُ بِمَحَلِّيَّةِ النِّكَاحِ وَهِيَ
تَفْتَقِرُ إلَى بَقَاءِ الْمَحَلِّ لَا إلَى بَقَاءِ
الْمِلْكِ فَحَاصِلُ هَذَا الطَّرِيقِ هُوَ أَنَّ
الْمَحَلِّيَّةَ شَرْطٌ لِلْيَمِينِ انْعِقَادًا وَبَقَاءً
فَتَبْطُلُ بِفَوَاتِهَا بِالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ،
وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - مِنْ أَنَّ طَلَقَاتِ هَذَا الْمِلْكِ مُتَعَيِّنٌ
لِلْجَزَاءِ فَتَبْطُلُ الْيَمِينُ بِفَوَاتِهَا، فَإِنَّمَا
هُوَ حَاصِلُ طَرِيقٍ آخَرَ لِلْأَصْحَابِ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ إنَّمَا
تَصِحُّ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ الْقَائِمِ وَلَيْسَ فِيهِ
إلَّا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ، فَإِذَا اسْتَوْفَاهَا كُلَّهَا
بَطَلَ الْجَزَاءُ فَيَبْطُلُ الْيَمِينُ كَمَا إذَا فَاتَ
الشَّرْطُ بِأَنْ جَعَلَ الدَّارَ بُسْتَانًا، أَوْ حَمَّامًا
إذْ الْيَمِينُ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ
بَلْ افْتِقَارُهَا إلَى الْجَزَاءِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّهَا بِهِ
تُعْرَفُ كَيَمِينِ الطَّلَاقِ وَيَمِينِ الْعَتَاقِ وَنُوقِضَ
هَذَا الطَّرِيقُ بِمَا إذَا عَلَّقَ الثَّلَاثَ بِالشَّرْطِ،
ثُمَّ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ، ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ
زَوْجٍ آخَرَ وَوَقَعَ الشَّرْطُ، فَإِنَّهُ يَقَعُ الثَّلَاثُ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
تَعَالَى، فَلَوْ تَعَيَّنَ طَلَقَاتُ هَذَا الْمِلْكِ لَمْ
يَقَعْ إلَّا وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهَا الْبَاقِيَةُ فَقَطْ
وَلِذَا صَرَّحَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ وَفَخْرُ
الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّ بُطْلَانَ
التَّعْلِيقِ بِانْعِدَامِ الْمَحَلِّ لَا بِأَنَّ
الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ تَطْلِيقَاتُ
(2/280)
الْغَصْبِ فَالْمُرَادُ بِكَوْنِ الْبِرِّ
مَضْمُونًا (هَذَا فَيُبْطِلُهُ زَوَالُ الْحِلِّ لَا زَوَالُ
الْمِلْكِ) أَيْ يُبْطِلُ التَّعْلِيقَ زَوَالُ الْحِلِّ،
وَهُوَ أَنْ يَقَعَ الثَّلَاثُ لَا زَوَالُ الْمِلْكِ، وَهُوَ
أَنْ يَقَعَ مَا دُونَ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ لَهُ
الرُّجُوعُ إلَيْهَا.
فَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَهُ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ
طَالِقٌ يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ هَذَا التَّعْلِيلِ عَلَى وُجُودِ
النِّكَاحِ فَيَكُونُ مُقْتَصِرًا عَلَى الطَّلَقَاتِ الَّتِي
يَمْلِكُهَا بِهَذَا النِّكَاحِ أَمَّا الطَّلْقَاتُ الَّتِي
يَمْلِكُهَا بِالنِّكَاحِ بَعْدَ الثَّلَاثِ فَالْمَرْأَةُ
أَجْنَبِيَّةٌ عَنْ الزَّوْجِ فِي تِلْكَ الطَّلَقَاتِ.
(فَأَمَّا التَّعَلُّقُ بِالتَّزَوُّجِ فَإِنَّ الْبِرَّ فِيهِ
مَضْمُونٌ بِوُجُودِ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ)
فَإِنَّ الشَّرْطَ فِيهِ بِمَعْنَى الْعِلَّةِ وَلَيْسَ
لِلْجَزَاءِ شُبْهَةُ الثُّبُوتِ قَبْلَهَا (فَلَا حَاجَةَ
إلَى إثْبَاتِ تِلْكَ الشُّبْهَةِ لِيَكُونَ الْبِرُّ
مَضْمُونًا) . الْمُرَادُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
ذَلِكَ الْعَقْدِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ اسْتِدْلَالِ زُفَرَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ -، فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا اشْتَرَطَ فِي التَّعْلِيقِ
بِغَيْرِ الْمِلْكِ شُبْهَةَ الْحَقِيقَةِ فِي السَّبَبِ
لِيَلْزَمَ مِنْهُ شُبْهَةُ الثُّبُوتِ لِلْجَزَاءِ فِي
الْحَالِ فَيَلْزَمَ اشْتِرَاطُ الْمَحَلِّ فِي الْحَالِ
لِيَكُونَ دَلِيلًا عَلَى ثُبُوتِهِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ
بِحُكْمِ الِاسْتِصْحَابِ فَيَتَحَقَّقُ كَوْنُ الْبِرِّ
مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ فِي
التَّعْلِيقِ بِالتَّزَوُّجِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ الْمِلْكِ
عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ مُتَحَقِّقٌ ضَرُورَةَ أَنَّ
الشَّرْطَ إنَّمَا هُوَ عَيْنُ تَحَقُّقِ الْمِلْكِ فَيَكُونُ
الْبِرُّ مَضْمُونًا بِالْجَزَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى
إثْبَاتِ الشُّبْهَةِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ
مُسْتَغْنٍ عَمَّا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - مِنْ أَنَّ الشَّرْطَ فِيهِ أَيْ فِي هَذَا
التَّعْلِيقِ بِمَعْنًى لِعِلَّةٍ وَلَيْسَ لِلْجَزَاءِ
شُبْهَةُ الثُّبُوتِ قَبْلَهَا أَيْ قَبْلَ الْعِلَّةِ،
وَإِنَّمَا هُوَ جَوَابٌ آخَرُ تَقْرِيرُهُ أَنَّ الشَّرْطَ
هَاهُنَا أَعْنِي فِي صُورَةِ التَّعْلِيقِ بِالتَّزَوُّجِ
بِمَعْنَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الطَّلَاقِ إنَّمَا
يُسْتَفَادُ بِالنِّكَاحِ وَلَيْسَ لِلْجَزَاءِ شُبْهَةُ
الثُّبُوتِ قَبْلَ الْعِلَّةِ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ
حَقِيقَةِ الشَّيْءِ قَبْلَ عِلَّتِهِ كَالطَّلَاقِ قَبْلَ
النِّكَاحِ فَكَذَا شُبْهَتُهُ اعْتِبَارًا لِلشُّبْهَةِ
بِالْحَقِيقَةِ وَلِأَنَّ شُبْهَةَ الشَّيْءِ لَا تَثْبُتُ
حَيْثُ لَا تَثْبُتُ حَقِيقَتُهُ كَشُبْهَةِ النِّكَاحِ فِي
غَيْرِ النِّسَاءِ، وَإِنَّمَا يُبْطِلُ الطَّلَقَاتِ
الثَّلَاثَ تَعْلِيقُ الظِّهَارِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ حُكْمِ
الظِّهَارِ هُوَ الرَّجُلُ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ هُوَ الْمَنْعُ
عَنْ الْوَطْءِ وَذَلِكَ فِي الرَّجُلِ، وَهُوَ قَائِمٌ لَمْ
يَتَجَدَّدْ وَلِأَنَّ عَمَلَهُ لَيْسَ إبْطَالَ حِلِّ
الْمَحَلِّيَّةِ حَتَّى يَنْعَدِمَ بِانْعِدَامِ الْمَحَلِّ
بَلْ فِي مَنْعِ الزَّوْجِ عَنْ الْوَطْءِ الْحَلَالِ إلَى
وَقْتِ التَّكْفِيرِ وَالْمَنْعُ ثَابِتٌ بَعْدَ
التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ فَيَثْبُتُ الظِّهَارُ إلَّا أَنَّ
ابْتِدَاءَ الظِّهَارِ لَا يُتَصَوَّرُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ؛
لِأَنَّ مَعْنَاهُ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ.
(قَوْلُهُ: وَاعْلَمْ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ الْأَحْكَامِ) قَدْ
جَرَتْ عَادَةُ الْقَوْمِ بِأَنْ يُورِدُوا فِي آخِرِ
مَبَاحِثِ أَقْسَامِ النَّظْمِ بِالْبَيَانِ أَسْبَابَ
الشَّرَائِعِ أَيْ الْأَحْكَامَ الْمَشْرُوعَةَ عَلَى وَجْهِ
الْإِجْمَالِ وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
لَمَّا ضَبَطَ مَا تَفَرَّقَ مِنْ الْمَبَاحِثِ
الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ وَالشَّرْطِ
وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْرَدَ هَذَا الْبَحْثَ بَعْدَ ذِكْرِ
السَّبَبِ وَصَدَّرَهُ بِكَلِمَةِ اعْلَمْ تَنْبِيهًا عَلَى
أَنَّهُ بَابٌ جَلِيلُ الْقَدْرِ فِي فَنِّ الْأُصُولِ يَجِبُ
ضَبْطُهُ وَعِلْمُهُ لَا كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُهُمْ مِنْ
أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالْأَسْبَابِ أَصْلًا وَالْأَحْكَامُ
إنَّمَا تَثْبُتُ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى صَرِيحًا،
وَدَلَالَةً بِنَصْبِ الْأَدِلَّةِ وَالْعِلْمُ لَنَا إنَّمَا
حَصَلَ مِنْ الْأَدِلَّةِ وَذَلِكَ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهَا
(2/281)
بِتِلْكَ الشُّبْهَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ
شُبْهَةِ الْحَقِيقَةِ لِيَكُونَ لِلْجَزَاءِ شُبْهَةُ
الثُّبُوتِ فِي الْحَالِ لِيَكُونَ الْبِرُّ مَضْمُونًا.
(وَاعْلَمْ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ الْأَحْكَامِ سَبَبًا ظَاهِرًا
يَتَرَتَّبُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ عَلَى مَا مَرَّ فِي فَصْلِ
الْأَمْرِ فَسَبَبُ وُجُودِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى
حُدُوثُ الْعَالَمِ، وَلَمَّا كَانَ هَذَا السَّبَبُ فِي
الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ مَوْجُودًا دَائِمًا يَصِحُّ إيمَانُ
الصَّبِيِّ وَإِنْ لَمْ يُخَاطَبْ بِهِ وَلِلصَّلَاةِ
الْوَقْتُ عَلَى مَا مَرَّ وَلِلزَّكَاةِ مِلْكُ الْمَالِ) .
اعْلَمْ أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى سَبَبِيَّةِ النِّصَابِ
لِلزَّكَاةِ إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّ تَكَرُّرَ الْوُجُوبِ
بِتَكَرُّرِ وَصْفٍ يَدُلُّ عَلَى سَبَبِيَّةِ ذَلِكَ
الْوَصْفِ وَهُنَا الْوُجُوبُ يَتَكَرَّرُ بِالْحَوْلِ
فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحَوْلُ سَبَبًا لَا النِّصَابُ
فَلِدَفْعِ هَذَا الْإِشْكَالِ قَالَ: (إلَّا أَنَّ الْغِنَى
لَا يَكْمُلُ إلَّا بِمَالٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
مُضَافَةٌ إلَى إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ شَارِعُ
الشَّرَائِعِ إجْمَاعًا، فَلَوْ أُضِيفَتْ إلَى أَسْبَابٍ
أُخَرَ لَزِمَ تَوَارُدُ الْعِلَلِ الْمُسْتَقِلَّةِ عَلَى
مَعْلُولٍ وَاحِدٍ وَأَيْضًا لَوْ كَانَتْ الْمَذْكُورَاتُ
عِلَلًا وَأَسْبَابًا لَمَا انْفَكَّتْ الْأَحْكَامُ عَنْهَا،
وَلَمْ تَتَوَقَّفْ عَلَى إيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى،
وَأَنْكَرَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَاتِ خَاصَّةً إذْ
الْمَقْصُودُ فِيهَا الْفِعْلُ فَقَطْ وَوُجُوبُهُ
بِالْخِطَابِ إجْمَاعًا بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ
وَالْعُقُوبَاتِ، فَإِنَّهَا تَتَرَتَّبُ عَلَى أَفْعَالِ
الْعِبَادِ فَيَجُوزُ أَنْ يُضَافَ وُجُوبُ أَدَاءِ
الْأَمْوَالِ وَتَسْلِيمِ النَّفْسِ لِلْعُقُوبَاتِ إلَى
الْأَسْبَابِ وَنَفْسُ الْوُجُوبِ إلَى الْخِطَابِ
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا كَلَامَ فِي أَنَّ شَارِعَ
الشَّرَائِعِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَحْدَهُ وَأَنَّهُ
الْمُنْفَرِدُ بِإِيجَابِ الْأَحْكَامِ إلَّا أَنَّا نُضِيفُ
ذَلِكَ إلَى مَا هُوَ سَبَبٌ فِي الظَّاهِرِ بِجَعْلِ اللَّهِ
تَعَالَى الْأَحْكَامَ مُتَرَتِّبَةً عَلَيْهَا تَيْسِيرًا
وَتَسْهِيلًا عَلَى الْعِبَادِ لِيَتَوَصَّلُوا بِذَلِكَ إلَى
مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ بِمَعْرِفَةِ الْأَسْبَابِ
الظَّاهِرَةِ عَلَى أَنَّهَا أَمَارَاتٌ وَعَلَامَاتٌ لَا
مُؤَثِّرَاتٌ وَبَعْضُ ذَلِكَ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ
وَالْإِجْمَاعِ كَالْبَيْعِ لِلْمِلْكِ وَالْقَتْلِ
لِلْقِصَاصِ وَالزِّنَا لِلْحَدِّ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَإِلَى
مَا ذَكَرْنَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: سَبَبًا ظَاهِرًا
يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ عَلَى مَا مَرَّ فِي فَصْلِ
الْأَمْرِ.
(قَوْلُهُ: فَسَبَبُ وُجُوبِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى)
أَيْ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ بِوُجُودِهِ
وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ عَلَى مَا وَرَدَ بِهِ
النَّقْلُ وَشَهِدَ بِهِ الْعَقْلُ هُوَ حُدُوثُ الْعَالَمِ
أَيْ كَوْنُ جَمِيعِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ
الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ مَسْبُوقًا بِالْعَدَمِ،
وَإِنَّمَا سُمِّيَ عَالَمًا؛ لِأَنَّهُ عَلَمٌ عَلَى وُجُودِ
الصَّانِعِ بِهِ يُعْلَمُ ذَلِكَ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ
وُجُوبَ الْإِيمَانِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا
أَنَّهُ نُسِبَ إلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ تَيْسِيرًا عَلَى
الْعِبَادِ وَقَطْعًا لِحُجَجِ الْمُعَانِدِينَ وَإِلْزَامًا
لَهُمْ لِئَلَّا يَكُونَ لَهُمْ تَشَبُّثٌ بِعَدَمِ ظُهُورِ
السَّبَبِ.
وَمَعْنَى سَبَبِيَّةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ أَنَّهُ سَبَبٌ
لِوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ
فِعْلُ الْعَبْدِ لَا لِوُجُودِ الصَّانِعِ، أَوْ
وَحْدَانِيِّتِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَزَلِيٌّ
وَذَلِكَ أَنَّ الْحَادِثَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهُ مُحْدِثًا
صَانِعًا قَدِيمًا غَنِيًّا عَمَّا سِوَاهُ وَاجِبًا لِذَاتِهِ
قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ، ثُمَّ وُجُوبُ الْوُجُودِ يُنْبِئُ
عَنْ جَمِيعِ الْكَمَالَاتِ وَيَنْفِي جَمِيعَ النُّقْصَانَاتِ
لَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ السَّبَبُ هُوَ الْحُدُوثُ
الزَّمَانِيُّ عَلَى
(2/282)
نَامٍ وَالنَّمَاءُ بِالزَّمَانِ فَأُقِيمَ
الْحَوْلُ مَقَامَ النَّمَاءِ فَيَتَجَدَّدُ الْمَالُ
تَقْدِيرًا بِتَجَدُّدِ الْحَوْلِ فَيَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ
بِتَكَرُّرِ الْمَالِ تَقْدِيرًا. وَلِلصَّوْمِ أَيَّامُ
شَهْرِ رَمَضَانَ كُلُّ يَوْمٍ لِصَوْمِهِ وَلِصَدَقَةِ
الْفِطْرِ رَأْسٌ يُمَوِّنُهُ وَيَلِي عَلَيْهِ وَإِنَّمَا
الْفِطْرُ شَرْطٌ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ» وَعَنْ " إمَّا
لِانْتِزَاعِ الْحُكْمِ عَنْ السَّبَبِ، أَوْ لَأَنْ يَجِبَ
عَلَيْهِ فَيُؤَدِّيَ عَنْهُ كَمَا فِي الْعَاقِلَةِ
وَالثَّانِي بَاطِلٌ لِعَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَى الْعَبْدِ
وَالصَّبِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالْكَافِرِ فَيَثْبُتُ الْأَوَّلُ
وَأَيْضًا يَتَضَاعَفُ الْوَاجِبُ بِتَضَاعُفِ الرَّأْسِ
وَالْإِضَافَةُ إلَى الْفِطْرِ تُعَارِضُهَا الْإِضَافَةُ إلَى
الرَّأْسِ وَهِيَ تَحْتَمِلُ الِاسْتِعَارَةَ أَيْضًا
بِخِلَافِ تَضَاعُفِ الْوُجُوبِ) .
هَذَا جَوَابُ إشْكَالٍ، وَهُوَ أَنَّ الْإِضَافَةَ آيَةُ
السَّبَبِيَّةِ وَالصَّدَقَةُ تُضَافُ إلَى الْفِطْرِ
فَيَدُلُّ عَلَى سَبَبِيَّةِ الْفِطْرِ فَأَجَابَ بِأَنَّ
الصَّدَقَةَ تُضَافُ إلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
مَا فَسَّرْتُمْ لَمَا كَانَ الْقَائِلُونَ بِقِدَمِ
الْعَالَمِ بِالزَّمَانِ وَحُدُوثِهِ بِالذَّاتِ بِمَعْنَى
الْمَسْبُوقِيَّةِ بِالْغَيْرِ وَالِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ
قَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى؛
لِأَنَّا نَقُولُ مِنْ جُمْلَةِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ
الْإِيمَانُ بِأَنَّهُ صَانِعُ الْعَالَمِ بِإِرَادَتِهِ
وَاخْتِيَارِهِ وَأَثَرُ الْمُخْتَارِ لَا يَكُونُ إلَّا
حَادِثًا وَهُمْ يَنْفُونَ ذَلِكَ، وَلَوْ سَلِمَ فَلَيْسَ
الْمُرَادُ أَنَّ السَّبَبَ بِالنَّظَرِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ
هُوَ حُدُوثُ الْعَالَمِ فَقَطْ بَلْ مَرَاتِبُ النَّاسِ فِي
ذَلِكَ مُتَفَاوِتَةٌ عَلَى مَا يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله
تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ} [فصلت: 53] الْآيَةَ إلَّا أَنَّ
الِاسْتِدْلَالَ بِالْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ هُوَ أَشَدُّ
الْمَرَاتِبِ وُضُوحًا وَأَكْثَرُهَا وُقُوعًا وَأَثْبَتُهَا
دَوَامًا إذْ كُلُّ أَحَدٍ يُشَاهِدُ نَفْسَهُ وَالسَّمَاوَاتِ
وَالْأَرَضِينَ فَكَانَ مُلَازِمًا لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ
الْإِيمَانِ فَلِذَا صَحَّ إيمَانُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ
لِتَحَقُّقِ سَبَبِهِ، وَهُوَ الْآفَاقُ وَالْأَنْفُسُ
وَوُجُودُ رُكْنِهِ، وَهُوَ التَّصْدِيقُ وَالْإِفْرَادُ
الصَّادِرُ عَنْ النَّظَرِ وَالتَّأَمُّلِ إذْ الْكَلَامُ فِي
الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ، وَهُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ بِدَلِيلِ
أَنَّ الْإِيمَانَ قَدْ يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّهِ تَبَعًا
لِلْأَبَوَيْنِ، فَلَوْ امْتَنَعَ صِحَّتُهُ لَمْ يَكُنْ إلَّا
بِحُجَجٍ شَرْعِيَّةٍ وَذَلِكَ فِي الْإِيمَانِ مُحَالٌ؛
لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ عَدَمَ الْمَشْرُوعِيَّةِ أَصْلًا
نَعَمْ هُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِإِيمَانٍ لِعَدَمِ
التَّكْلِيفِ الْمُعْتَبَرِ فِي الْخِطَابِ فَسَقَطَ عَنْهُ
الْأَدَاءُ الَّذِي يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فِي بَعْضِ
الْأَحْوَالِ كَمَا إذَا أَرَادَ الْكَافِرُ أَنْ يُؤْمِنَ
فَأُكْرِهَ عَلَى السُّكُوتِ عَنْ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ قَالَ
أَبُو الْيُسْرِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعَقْلِ
الْكَامِلِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَعَلَى الْخِطَابِ عِنْدَ
عَامَّةِ الْمَشَايِخِ فَالصَّبِيُّ إذَا بَلَغَ فِي شَاهِقِ
الْجَبَلِ، وَلَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ فَمَاتَ، وَلَمْ
يُسْلِمْ كَانَ مَعْذُورًا عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ إذْ
وُجُوبُ الْأَدَاءِ بِالْخِطَابِ، وَلَمْ يَبْلُغْهُ، وَعِنْدَ
الْآخَرِينَ لَا يَكُونُ مَعْذُورًا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ
الْأَدَاءِ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْخِطَابُ إذَا كَانَ
فِي حُكْمٍ يَحْتَمِلُ النَّسْخَ وَالرَّفْعَ وَالْإِيمَانُ
لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إنَّمَا يُبْتَنَى صِحَّةُ الْأَدَاءِ
عَلَى كَوْنِهِ مَشْرُوعًا فِي حَقِّ الْمُؤَدِّي كَمَا فِي
جُمُعَةِ الْمُسَافِرِ.
(قَوْلُهُ: لِلصَّلَاةِ) أَيْ سَبَبُ الْوُجُوبِ لِلصَّلَاةِ
هُوَ الْوَقْتُ عَلَى مَا مَرَّ تَحْقِيقُ ذَلِكَ فِي
الْفَصْلِ الْمَعْقُودِ لِبَيَانِ أَنَّ الْمَأْمُورَ
(2/283)
الرَّأْسِ أَيْضًا، فَإِذَا تَعَارَضَا
تَسَاقَطَا. وَنَحْنُ نَتَمَسَّكُ عَلَى سَبَبِيَّةِ الرَّأْسِ
بِالتَّضَاعُفِ فَهَذَا الدَّلِيلُ أَقْوَى مِنْ الْإِضَافَةِ
لِأَنَّ الْحُكْمَ قَدْ يُضَافُ إلَى غَيْرِ السَّبَبِ
مَجَازًا، وَهَذَا الْمَجَازُ لَا يَجْرِي فِي التَّضَاعُفِ
(وَأَيْضًا وَصْفُ الْمُؤْنَةِ) أَيْ فِي قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - «أَدُّوا عَمَّنْ تَمُونُونَ» (يُرَجِّحُ
سَبَبِيَّةَ الرَّأْسِ. وَلِلْحَجِّ الْبَيْتُ، وَأَمَّا
الْوَقْتُ وَالِاسْتِطَاعَةُ فَشَرْطٌ. وَلِلْعُشْرِ الْأَرْضُ
النَّامِيَةُ بِحَقِيقَةِ الْخَارِجِ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ
هُوَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ وَبِاعْتِبَارِ الْخَارِجِ، وَهُوَ
تَبَعُ الْأَرْضِ) . قَوْلُهُ: " وَهُوَ تَبَعُ " حَالٌ مِنْ
الْخَارِجِ. (عِبَادَةٌ) أَيْ الْعُشْرُ عِبَادَةٌ؛ لِأَنَّ
الْعُشْرَ جُزْءٌ مِنْ الْخَارِجِ فَأَشْبَهَ الزَّكَاةَ
فَإِنَّهَا جُزْءٌ مِنْ النِّصَابِ.
(وَكَذَا الْخَرَاجُ) أَيْ سَبَبِيَّةُ الْأَرْضِ
النَّامِيَةِ. (إلَّا أَنَّ النَّمَاءَ يُعْتَبَرُ فِيهِ
تَقْدِيرًا بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الزِّرَاعَةِ فَصَارَ مُؤْنَةً
بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ) ، وَهُوَ الْأَرْضُ (عُقُوبَةً
بِاعْتِبَارِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
بِهِ نَوْعَانِ مُطْلَقٌ وَمُؤَقَّتٌ.
(قَوْلُهُ: وَلِلزَّكَاةِ) أَيْ سَبَبُ الْوُجُوبِ لِلزَّكَاةِ
مِلْكُ الْمَالِ الَّذِي هُوَ نِصَابُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي
ذَلِكَ الْمَالِ لِإِضَافَتِهَا إلَيْهِ. مِثْلُ قَوْلِهِ: -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «هَاتُوا رُبُعَ عُشْرِ
أَمْوَالِكُمْ» وَلِتَضَاعُفِ الْوُجُوبِ بِتَضَاعُفِ
النِّصَابِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَاعْتَبَرَ الْغَنِيَّ؛
لِأَنَّهُ «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» وَأَحْوَالُ
النَّاسِ فِي الْغِنَى مُخْتَلِفَةٌ فَقَدَّرَهُ الشَّارِعُ
بِالنِّصَابِ إلَّا أَنَّ تَكَامُلَ الْغِنَى يَكُونُ
بِالنَّمَاءِ لِيُصْرَفَ إلَى الْحَاجَةِ الْمُتَجَدِّدَةِ
فَيَبْقَى أَصْلُ الْمَالِ فَيَحْصُلُ الْغِنَى وَيَتَيَسَّرُ
الْأَدَاءُ فَصَارَ النَّمَاءُ شَرْطًا لِوُجُوبِ الْأَدَاءِ
تَحْقِيقًا لِلْغِنَى وَالْيُسْرِ إلَّا أَنَّ النَّمَاءَ
أَمْرٌ بَاطِنٌ فَأُقِيمَ مَقَامَهُ السَّبَبُ الْمُؤَدِّي
إلَيْهِ، وَهُوَ الْحَوْلُ الْمُسْتَجْمِعُ لِلْفُصُولِ
الْأَرْبَعَةِ الَّتِي لَهَا تَأْثِيرٌ فِي النَّمَاءِ
بِالدَّرِّ وَالنَّسْلِ وَبِزِيَادَةِ الْقِيمَةِ بِتَفَاوُتِ
الرَّغَبَاتِ فِي كُلِّ فَصْلٍ إلَى مَا يُنَاسِبُهُ فَصَارَ
الْحَوْلُ شَرْطًا، وَتَجَدُّدُهُ تَجَدُّدٌ لِلنَّمَاءِ
وَتَجَدُّدُ النَّمَاءِ تَجَدُّدٌ لِلْمَالِ الَّذِي هُوَ
السَّبَبُ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمَالُ بِوَصْفِ
النَّمَاءِ وَالْمَالُ بِهَذَا النَّمَاءِ غَيْرُهُ بِذَلِكَ
(7) النَّمَاءِ فَيَكُونُ تَكَرُّرُ الْوُجُوبِ بِتَكَرُّرِ
الْحَوْلِ وَتَكَرُّرُ الْحُكْمِ بِتَكَرُّرِ السَّبَبِ لَا
بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ.
(قَوْلُهُ: وَلِلصَّوْمِ) اتَّفَقَ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى
أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ صَوْمِ رَمَضَان هُوَ الشَّهْرُ؛
لِأَنَّهُ يُضَافُ إلَيْهِ وَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ إلَّا
أَنَّ الْإِمَامَ السَّرَخْسِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- ذَهَبَ إلَى أَنَّ السَّبَبَ هُوَ مُطْلَقُ شُهُودِ
الشَّهْرِ أَعْنِي الْأَيَّامَ بِلَيَالِيِهَا؛ لِأَنَّ
الشَّهْرَ اسْمٌ لِلْمَجْمُوعِ وَسَبَبِيَّتُهُ بِاعْتِبَارِ
إظْهَارِ شَرَفِ الْوَقْتِ وَذَلِكَ فِي الْأَيَّامِ
وَاللَّيَالِي جَمِيعًا وَلِهَذَا لَزِمَ الْقَضَاءُ عَلَى
مَنْ كَانَ أَهْلًا فِي اللَّيْلِ، ثُمَّ جُنَّ وَأَفَاقَ
بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ وَلِهَذَا صَحَّ نِيَّةُ الْأَدَاءِ
بَعْدَ تَحَقُّقِ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ، وَلَمْ يَصِحَّ
قَبْلَهُ وَلَيْسَ مِنْ حُكْمِ السَّبَبِ جَوَازُ الْأَدَاءِ
فِيهِ بَلْ فِي وَقْتِ الْوَاجِبِ وَوَقْتُ الصَّوْمِ هُوَ
النَّهَارُ لَا غَيْرُ وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ، وَهُوَ
الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- إلَى أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِصَوْمِهِ بِمَعْنَى أَنَّ
الْجُزْءَ الْأَوَّلَ الَّذِي لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ الْيَوْمِ
سَبَبٌ لِصَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ؛ لِأَنَّ صَوْمَ كُلِّ
يَوْمٍ عِبَادَةٌ عَلَى حِدَةٍ مُخْتَصٌّ
(2/284)
الْوَصْفِ) ، وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ
الزِّرَاعَةِ؛ لِأَنَّ الزِّرَاعَةَ عِمَارَةُ الدُّنْيَا
وَإِعْرَاضٌ عَنْ الْجِهَادِ فَصَارَ سَبَبًا لِلْمَذَلَّةِ.
(وَلِذَلِكَ لَمْ يَجْتَمِعَا عِنْدَنَا) أَيْ لِأَجْلِ
ثُبُوتِ وَصْفِ الْعِبَادَةِ فِي الْعُشْرِ وَثُبُوتِ وَصْفِ
الْعُقُوبَةِ فِي الْخَرَاجِ، لَمْ يَجْتَمِعْ الْعُشْرُ
وَالْخَرَاجُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ
اللَّهُ -. وَلِلطَّهَارَةِ إرَادَةُ الصَّلَاةِ وَالْحَدَثُ
شَرْطٌ وَلِلْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ مَا نُسِبَتْ إلَيْهِ
مِنْ سَرِقَةٍ وَقَتْلٍ وَلِلْكَفَّارَاتِ مَا نُسِبَتْ
إلَيْهِ مِنْ أَمْرٍ دَائِرٍ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ
(وَلِشَرْعِيَّةِ الْمُعَامَلَاتِ الْبَقَاءُ الْمُقَدَّرُ)
أَيْ لِلْعَالَمِ (وَلِلِاخْتِصَاصَاتِ الشَّرْعِيَّةِ
التَّصَرُّفَاتُ الْمَشْرُوعَةُ كَالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ
وَنَحْوِهِمَا) .
(وَاعْلَمْ أَنَّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ إنْ
كَانَ شَيْئًا لَا يُدْرِكُ الْعَقْلُ تَأْثِيرَهُ، وَلَا
يَكُونُ بِصُنْعِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
بِشَرَائِطِ وُجُودِهِ مُنْفَرِدٌ بِالِانْتِقَاضِ بِطَرَيَانِ
نَوَاقِضِهِ فَيَتَعَلَّقُ بِسَبَبٍ عَلَى حِدَةٍ، وَأَمَّا
جَوَازُ النِّيَّةِ بِاللَّيْلِ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَى
مَنْ أَفَاقَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ، فَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ
فِي بَابِ الْأَمْرِ.
(قَوْلُهُ: " وَعَنْ " إمَّا لِانْتِزَاعِ الْحُكْمِ) يَعْنِي
أَنَّ كَلِمَةَ عَنْ تَدُلُّ عَلَى انْتِزَاعِ الشَّيْءِ عَنْ
الشَّيْءِ وَانْفِصَالِهِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهَا لِلْبُعْدِ
وَالْمُجَاوَزَةِ، فَإِذَا وَقَعَتْ صِلَةً لِلْأَدَاءِ فَهِيَ
بِحُكْمِ الِاسْتِقْرَارِ إمَّا أَنْ تَكُونَ لِانْتِزَاعِ
الْحُكْمِ عَنْ السَّبَبِ كَمَا يُقَالُ: أَدَّى الزَّكَاةَ
عَنْ مَالِهِ وَالْخَرَاجَ عَنْ أَرْضِهِ، أَوْ تَكُونُ
لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى مَحَلٍّ قَدْ
أَدَّاهُ عَنْهُ غَيْرُهُ كَأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْهُ كَمَا
يُقَالُ: أَدَّى الْعَاقِلَةُ الدِّيَةَ عَنْ الْقَاتِلِ
وَحَمْلُ الْحَدِيثِ عَنْ الْمَعْنَى الثَّانِي بَاطِلٌ؛
لِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ عَلَى الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ
وَالْفَقِيرِ الَّذِينَ يَكُونُونَ فِي مُؤْنَةِ الْمُكَلَّفِ
ضَرُورَةَ دُخُولِهِمْ فِيمَنْ تَمُونُونَ، وَهَذَا بَاطِلٌ؛
لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا، فَلَا يُكَلَّفُ
بِوُجُوبٍ مَالِيٍّ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ
الْقُرْبَةِ، وَالْفَقِيرُ مِمَّنْ يَجِبُ لَهُ، فَلَا يَجِبُ
عَلَيْهِ وَيُصْرَفُ إلَيْهِ، فَلَا يُصْرَفُ عَنْهُ، إذْ لَا
خَرَاجَ عَلَى الْخَرَابِ وَذَكَرَ فِي الْأَسْرَارِ مَا
يَصْلُحُ جَوَابًا عَنْ هَذَا، وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ مِنْ
حَيْثُ إنَّهُ إنْسَانٌ مُخَاطَبٌ، وَهَذِهِ صَدَقَةٌ
فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا عَلَيْهِ كَالنَّفَقَةِ وَالْمَوْلَى
يَنُوبُ عَنْهُ وَلَكِنْ فِي الْحَقِيقَةِ لَا وُجُوبَ
عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْبَهِيمَةِ فِيمَا مُلِكَ
عَلَيْهِ فَعَلَى أَصْلِ الْخِلْقَةِ الْوُجُوبُ عَلَى
الْعَبْدِ وَعَلَى اعْتِبَارِ عَارِضِ الْمَمْلُوكِيَّةِ
الْوُجُوبُ عَلَى الْمَوْلَى فَوَقَعَتْ كَلِمَةُ " عَنْ "
إشَارَةً إلَى الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ وَهَكَذَا نَقُولُ فِي
الصَّبِيِّ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَخَارِجٌ عَقْلًا؛ لِأَنَّهُ
لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ.
(قَوْلُهُ: بِخِلَافِ تَضَاعُفِ الْوُجُوبِ) ، فَإِنَّهُ
أَمْرٌ حَقِّيٌّ لَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِعَارَةَ الَّتِي هِيَ
مِنْ أَوْصَافِ اللَّفْظِ كَذَا قِيلَ: وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ؛
لِأَنَّ مُرَادَ السَّائِلِ بِالِاسْتِعَارَةِ أَنَّهُ كَمَا
جَازَ الْإِضَافَةُ إلَى غَيْرِ السَّبَبِ مَجَازًا فَلْيَجُزْ
تَضَاعُفُ الْوُجُوبِ بِتَضَاعُفِ غَيْرِ السَّبَبِ بِنَاءً
عَلَى أَنَّهُ يُشْبِهُ السَّبَبَ فِي احْتِيَاجِ الْحُكْمِ
إلَيْهِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى غَيْرِ السَّبَبِ
وَارِدٌ فِي الشَّرْعِ كَحَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَصَلَاةِ
الْمُسَافِرِ وَتَضَاعُفُ الْوُجُوبِ بِتَضَاعُفِ غَيْرِ
السَّبَبِ لَيْسَ بِوَارِدٍ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ تَضَاعُفًا
لِلسَّبَبِ كَالْحَوْلِ عَلَى مَا مَرَّ، وَأَمَّا تَكَرُّرُ
الْوَاجِبِ
(2/285)
الْمُكَلَّفِ كَالْوَقْتِ لِلصَّلَاةِ
يُخَصُّ بِاسْمِ السَّبَبِ وَإِنْ كَانَ بِصُنْعِهِ فَإِنْ
كَانَ الْغَرَضُ مِنْ وَضْعِهِ ذَلِكَ الْحُكْمَ كَالْبَيْعِ
لِلْمِلْكِ، فَهُوَ عِلَّةٌ وَيُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ
السَّبَبِ أَيْضًا مَجَازًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ
الْغَرَضُ) كَالشِّرَاءِ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّ
الْعَقْلَ لَا يُدْرِكُ تَأْثِيرَ لَفْظِ اشْتَرَيْت فِي هَذَا
الْحُكْمِ، وَهُوَ بِصُنْعِ الْمُكَلَّفِ وَلَيْسَ الْغَرَضُ
مِنْ الشِّرَاءِ مِلْكَ الْمُتْعَةِ بَلْ مِلْكَ الرَّقَبَةِ
(فَهُوَ سَبَبٌ وَإِنْ أَدْرَكَ الْعَقْلُ تَأْثِيرَهُ كَمَا
ذَكَرْنَا فِي الْقِيَاسِ يُخَصُّ بِاسْمِ الْعِلَّةِ) .
(وَأَمَّا الشَّرْطُ، فَهُوَ إمَّا شَرْطٌ مَحْضٌ، وَهُوَ
حَقِيقِيٌّ) كَالشَّهَادَةِ لِلنِّكَاحِ وَالْوُضُوءِ
لِلصَّلَاةِ أَوْ جَعْلِيٌّ، وَهُوَ بِكَلِمَةِ الشَّرْطِ،
أَوْ دَلَالَتِهَا. نَحْوُ: الْمَرْأَةُ الَّتِي
أَتَزَوَّجُهَا طَالِقٌ وَقَدْ مَرَّ أَنَّ أَثَرَ
التَّعْلِيقِ عِنْدَنَا مَنْعُ الْعِلِّيَّةِ، وَعِنْدَهُ
مَنْعُ الْحُكْمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
بِتَكَرُّرِ الْوَقْتِ فَتَكَرُّرٌ بِتَكَرُّرِ السَّبَبِ
أَيْضًا؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الرَّأْسُ بِصِفَةِ
الْمُؤْنَةِ وَالْمُؤْنَةُ يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهَا بِتَكَرُّرِ
الْحَاجَةِ، وَالشَّرْعُ جَعَلَ مِثْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ
وَقْتَ الْحَاجَةِ فَتَجَدُّدُهُ مُتَجَدِّدٌ لِلْحَاجَةِ.
(قَوْلُهُ: فَهَذَا الدَّلِيلُ أَقْوَى) إشَارَةٌ إلَى دَفْعِ
مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ التَّرْجِيحَ بِكَثْرَةِ
الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ أَنَّ دَلِيلَ سَبَبِيَّةِ الْفِطْرِ
هُوَ الْإِضَافَةُ فَقَطْ وَدَلِيلَ سَبَبِيَّةِ الرَّأْسِ
هُوَ الْإِضَافَةُ وَغَيْرُهَا فَصَرَّحَ بِأَنَّهُ تَرْجِيحٌ
بِالْقُوَّةِ.
(قَوْلُهُ: وَأَيْضًا وَصْفُ الْمُؤْنَةِ يُرَجِّحُ
سَبَبِيَّةَ الرَّأْسِ) لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِوَصْفِ
الْمُؤْنَةِ فِي قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أَدُّوا
عَمَّنْ تَمُونُونَ» يُشْعِرُ بِأَنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ
تَجِبُ وُجُوبَ الْمُؤَنِ وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْمُؤَنِ
رَأْسٌ يَلِي عَلَيْهِ كَمَا فِي الْعَبِيدِ وَالْبَهَائِمِ
فَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَيْضًا عَلَى اعْتِبَارِ الْمُؤْنَةِ
وَالْوِلَايَةِ.
(قَوْلُهُ: وَلِلْحَجِّ) أَيْ سَبَبُ الْوُجُوبِ لِلْحَجِّ
هُوَ الْبَيْتُ بِدَلِيلِ الْإِضَافَةِ لَا الْوَقْتُ أَوْ
الِاسْتِطَاعَةُ إذْ لَا إضَافَةَ إلَيْهِ، وَلَا يَتَكَرَّرُ
بِتَكَرُّرِهِ مَعَ صِحَّةِ الْأَدَاءِ بِدُونِ
الِاسْتِطَاعَةِ كَمَا فِي الْفَقِيرِ بَلْ الْوَقْتُ شَرْطٌ
لِجَوَازِ الْأَدَاءِ وَالِاسْتِطَاعَةُ لِوُجُوبِهِ إذْ لَا
جَوَازَ بِدُونِ الْوَقْتِ، وَلَا وُجُوبَ بِدُونِ
اسْتِطَاعَةٍ.
(قَوْلُهُ: وَلِلْعُشْرِ) يَعْنِي أَنَّ سَبَبَ كُلٍّ مِنْ
الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ هُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ إلَّا
أَنَّهَا سَبَبٌ لِلْعُشْرِ بِالنَّمَاءِ الْحَقِيقِيِّ
وَلِلْخَرَاجِ بِالنَّمَاءِ التَّقْدِيرِيِّ، وَهُوَ
التَّمَكُّنُ مِنْ الزِّرَاعَةِ وَالِانْتِفَاعِ، وَذَلِكَ
لِأَنَّ الْعُشْرَ مُقَدَّرٌ بِجِنْسِ الْخَارِجِ فَلَا بُدَّ
مِنْ حَقِيقَتِهِ وَالْخَرَاجُ مُقَدَّرٌ بِالدَّرَاهِمِ
فَيَكْفِي النَّمَاءُ التَّقْدِيرِيُّ فَقَوْلُهُ: بِحَقِيقَةِ
الْخَارِجِ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّامِيَةِ، ثُمَّ كُلٌّ مِنْ
الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ مُؤْنَةٌ لِلْأَرْضِ حَتَّى لَا
يُعْتَبَرَ فِيهِ الْأَهْلِيَّةُ الْكَامِلَةُ؛ لِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِبَقَاءِ الْعَالَمِ إلَى الْحِينِ
الْمَوْعُودِ وَذَلِكَ بِالْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا
فَتَجِبُ عِمَارَتُهَا وَالنَّفَقَةُ عَلَيْهَا كَالْعَبِيدِ
وَالدَّوَابِّ فَيَلْزَمُ الْخَرَاجُ لِلْمُقَاتِلَةِ
الذَّابِّينَ عَنْ الدَّارِ الْحَامِينَ لَهَا عَنْ
الْأَعْدَاءِ وَالْعُشْرُ لِلْمُحْتَاجِينَ وَالضُّعَفَاءِ
الَّذِينَ بِهِمْ يُسْتَنْزَلُ النَّصْرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ
وَيُسْتَمْطَرُ فِي السَّنَةِ الشَّهْبَاءِ فَتَكُونُ
النَّفَقَةُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ نَفَقَةً عَلَى الْأَرْضِ
تَقْدِيرًا، ثُمَّ بِاعْتِبَارِ النَّمَاءِ الْحَقِيقِيِّ
الْعُشْرُ عِبَادَةٌ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ
النَّمَاءِ أَعْنِي الْخَارِجَ مِنْ الْأَرْضِ قَلِيلًا مِنْ
كَثِيرٍ
(2/286)
وَإِمَّا شَرْطٌ فِي حُكْمِ الْعِلَّةِ،
وَهُوَ شَرْطٌ لَا يُعَارِضُهُ عِلَّةٌ تَصْلُحُ أَنْ يُضَافَ
الْحُكْمُ إلَيْهَا فَيُضَافُ إلَيْهِ كَمَا إذَا رَجَعَ
شُهُودُ الشَّرْطِ وَحْدَهُمْ ضَمِنُوا وَإِنْ رَجَعُوا مَعَ
شُهُودِ الْيَمِينِ يَضْمَنُ الثَّانِي فَقَطْ كَمَا إذَا
اجْتَمَعَ السَّبَبُ وَالْعِلَّةُ (كَشُهُودِ التَّخْيِيرِ
وَالِاخْتِيَارِ) كَمَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
بِمَنْزِلَةِ الزَّكَاةِ مِنْ الْمَالِ النَّامِي
وَبِاعْتِبَارِ النَّمَاءِ التَّقْدِيرِيِّ الْخَرَاجُ
عُقُوبَةٌ لِمَا فِي الِاشْتِغَالِ بِالزِّرَاعَةِ مِنْ
الْإِعْرَاضِ عَنْ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ
وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْمَبْغُوضِ الْمَذْمُومِ بِلِسَانِ
الشَّرْعِ وَالدُّنُوِّ مِنْ رَأْسِ الْخَطِيئَاتِ، أَوْ هَذَا
يَصْلُحُ سَبَبًا لِلذِّلَّةِ وَالصَّغَارِ وَضَرْبِ مَا هُوَ
بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ الْأَرْضَ
أَصْلٌ وَالنَّمَاءَ وَصْفٌ وَتَبَعٌ فَيَكُونُ بِاعْتِبَارِ
الْأَصْلِ مِنْهُمَا مُؤْنَةً وَبِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ
الْعُشْرُ عِبَادَةٌ وَالْخَرَاجُ عُقُوبَةٌ فَيَتَنَافَيَانِ
بِاعْتِبَارِ الْوَصْفِ، فَلَا يَجْتَمِعَانِ فِي سَبَبٍ
وَاحِدٍ هُوَ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ الْعُشْرُ مِنْ
الْأَرْضِ الْخَرَاجِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ الْخَرَاجُ
مِنْ الْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ سَبَبَ
الْخَرَاجِ عِنْدَهُ الْأَرْضُ وَسَبَبَ الْعُشْرِ الْخَارِجُ
مِنْ الْأَرْضِ.
(قَوْلُهُ: وَلِلطَّهَارَةِ إرَادَةُ الصَّلَاةِ)
لِتَرَتُّبِهَا عَلَيْهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذَا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] أَيْ إذَا
أَرَدْتُمْ الْقِيَامَ إلَى الصَّلَاةِ وَمِثْلُ هَذَا
مُشْعِرٌ بِالسَّبَبِيَّةِ، وَأَمَّا إضَافَتُهَا إلَى
الصَّلَاةِ وَثُبُوتُهَا بِثُبُوتِهَا وَسُقُوطُهَا
بِسُقُوطِهَا، فَإِنَّمَا يَصْلُحُ دَلِيلًا عَلَى سَبَبِيَّةِ
الصَّلَاةِ دُونَ إرَادَتِهَا وَالْحَدَثُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ
الطَّهَارَةِ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الطَّهَارَةِ أَنْ
يَكُونَ الْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيْ الرَّبِّ بِصِفَةِ
الطَّهَارَةِ، فَلَا يَجِبُ تَحْصِيلُهَا إلَّا عَلَى
تَقْدِيرِ عَدَمِهَا وَذَلِكَ بِالْحَدَثِ فَيَتَوَقَّفُ
وُجُوبُ الطَّهَارَةِ عَلَى الْحَدَثِ فَيَكُونُ شَرْطًا
وَلِهَذَا لَوْ تَوَضَّأَ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ كَمَا لَوْ
تَوَضَّأَ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَاسْتَدَامَ إلَى الْوَقْتِ
جَازَتْ الصَّلَاةُ بِهَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي
الشَّرْطِ هُوَ الْوُجُودُ قَصَدَ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ وَلَيْسَ
الْحَدَثُ بِسَبَبٍ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الشَّيْءِ مَا يُفْضِي
إلَيْهِ وَيُلَائِمُهُ وَالْحَدَثُ يُزِيلُ الطَّهَارَةَ
وَيُنَافِيهَا.
وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّهُ لَا يُجْعَلُ سَبَبًا لِنَفْسِ
الطَّهَارَةِ بَلْ لِوُجُوبِهَا، وَهُوَ لَا يُنَافِيهِ بَلْ
يُفْضِي إلَيْهِ، لَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ الْحَدَثُ شَرْطًا
لِوُجُوبِ الطَّهَارَةِ وَهِيَ شَرْطٌ لِلصَّلَاةِ لَكَانَ
الْحَدَثُ شَرْطًا لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الشَّرْطِ
شَرْطٌ وَأَيْضًا الصَّلَاةُ مَشْرُوطَةٌ بِالطَّهَارَةِ
فَيَتَأَخَّرُ عَنْهَا، فَلَوْ كَانَتْ سَبَبًا لِلطَّهَارَةِ
لَتَقَدَّمَتْ عَلَيْهَا، وَهَذَا مُحَالٌ؛ لِأَنَّا نُجِيبُ
عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ شَرْطَ الصَّلَاةِ وُجُودُ
الطَّهَارَةِ لَا وُجُوبُهَا وَالْمَشْرُوطُ بِالْحَدَثِ
وُجُوبُهَا لَا وُجُودُهَا. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ
الْمَشْرُوطَ هُوَ صِحَّةُ الصَّلَاةِ وَمَشْرُوعِيَّتهَا
وَالشَّرْطُ وُجُودُ الطَّهَارَةِ وَالسَّبَبُ هُوَ إرَادَةُ
الصَّلَاةِ لَا نَفْسُهَا وَالْمُسَبَّبُ هُوَ وُجُوبُ
الطَّهَارَةِ لَا وُجُودُهَا فَالْمُتَقَدِّمُ غَيْرُ
الْمُتَأَخِّرِ.
(قَوْلُهُ: وَلِلْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ) يُرِيدُ أَنَّ
السَّبَبَ يَكُونُ عَلَى وَفْقِ الْحُكْمِ فَأَسْبَابُ
الْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ الْمَحْضَةِ تَكُونُ مَحْظُورَاتٍ
مَحْضَةً كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ وَأَسْبَابُ
الْكَفَّارَاتِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ
وَالْعُقُوبَةِ تَكُونُ
(2/287)
أَنَّ الزَّوْجَ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ
وَآخَرَانِ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَقَضَى
الْقَاضِي بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، ثُمَّ رَجَعَ الْفَرِيقَانِ
يَضْمَنُ شُهُودُ الِاخْتِيَارِ فَشُهُودُ التَّخْيِيرِ سَبَبٌ
وَشُهُودُ الِاخْتِيَارِ عِلَّةٌ.
(فَإِنْ قَالَ إنْ كَانَ قَيْدُ عَبْدِهِ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ،
فَهُوَ حُرٌّ، ثُمَّ قَالَ وَإِنْ حَلَّهُ آخَرُ، فَهُوَ
حُرٌّ، فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ
فَقَضَى الْقَاضِي بِعِتْقِهِ، ثُمَّ حَلَّهُ، فَإِذَا هُوَ
ثَمَانِيَةٌ يَضْمَنَانِ قِيمَتَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
أُمُورًا دَائِرَةً بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ. مَثَلًا
الْفِطْرُ فِي رَمَضَانَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُلَاقِي فِعْلَ
نَفْسِهِ الَّذِي هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ مُبَاحٌ، وَمِنْ حَيْثُ
إنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى الْعِبَادَةِ مَحْظُورٌ، وَكَذَا
الظِّهَارُ وَالْقَتْلُ الْخَطَأُ وَصَيْدُ الْحَرَمِ وَنَحْوُ
ذَلِكَ، فَإِنَّ فِيهَا كُلِّهَا جِهَةً مِنْ الْحَظْرِ
وَالْإِبَاحَةِ بِخِلَافِ مِثْلِ الشُّرْبِ وَالزِّنَا،
فَإِنَّهُ يُلَاقِي حَرَامًا مَحْضًا.
فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ
سَبَبَ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ هُوَ الْيَمِينُ، وَأَنَّهَا
دَائِرَةٌ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ، وَقَدْ سَبَقَ
أَنَّ السَّبَبَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْحِنْثُ وَالْيَمِينُ
سَبَبٌ مَجَازًا قُلْنَا: بَنَى الْكَلَامَ هَاهُنَا عَلَى
السَّبَبِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَظْهَرُ
وَأَشْهَرُ حَتَّى ذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشْفِ أَنَّ سَبَبَ
الْكَفَّارَةِ هِيَ الْيَمِينُ بِلَا خِلَافٍ لِإِضَافَتِهَا
إلَيْهَا إلَّا أَنَّهَا سَبَبٌ بِصِفَةِ كَوْنِهَا
مَعْقُودَةً؛ لِأَنَّهَا الدَّائِرَةُ بَيْنَ الْحَظْرِ
وَالْإِبَاحَةِ لَا الْغَمُوسُ، وَشَرْطُ وُجُوبِهَا فَوَاتُ
الْبِرِّ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْيَمِينِ هُوَ الْبِرُّ
احْتِرَازًا عَنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى
وَالْكَفَّارَةُ خَلَفٌ عَنْ الْبِرِّ لِيَصِيرَ كَأَنَّهُ
لَمْ يَفُتْ فَيُشْتَرَطُ فَوَاتُ الْبِرِّ لِئَلَّا يَلْزَمَ
الْجَمْعُ بَيْنَ الْخَلَفِ وَالْأَصْلِ، وَالْيَمِينُ وَإِنْ
انْعَدَمَتْ بَعْدَ الْحِنْثِ فِي حَقِّ الْأَصْلِ أَعْنِي
الْبِرَّ لَكِنَّهَا قَائِمَةٌ فِي حَقِّ الْخَلَفِ
وَالسَّبَبُ فِي الْأَصْلِ وَالْخَلَفِ وَاحِدٌ.
(قَوْلُهُ: وَلِشَرْعِيَّةِ الْمُعَامَلَاتِ) يَعْنِي أَنَّ
إرَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى بَقَاءَ الْعَالَمِ إلَى حِينٍ
عَلِمَهُ وَزَمَانٍ قَدَّرَهُ سَبَبٌ لِشَرْعِيَّةِ الْبَيْعِ
وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى قَدَّرَ لِهَذَا النِّظَامِ الْمَنُوطِ بِنَوْعِ
الْإِنْسَانِ بَقَاءً إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَهُوَ
مَبْنِيٌّ عَلَى حِفْظِ الْأَشْخَاصِ إذْ بِهَا بَقَاءُ
النَّوْعِ وَالْإِنْسَانُ لِفَرْطِ اعْتِدَالِ مِزَاجِهِ
يَفْتَقِرُ فِي الْبَقَاءِ إلَى أُمُورٍ صِنَاعِيَّةٍ فِي
الْغِذَاءِ وَاللِّبَاسِ وَالْمَسْكَنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ
وَذَلِكَ يَفْتَقِرُ إلَى مُعَاوَنَةٍ وَمُشَارَكَةٍ بَيْنَ
أَفْرَادِ النَّوْعِ، ثُمَّ يَحْتَاجُ لِلتَّوَالُدِ
وَالتَّنَاسُلِ إلَى ازْدِوَاجٍ بَيْنَ الذُّكُورِ
وَالْإِنَاثِ وَقِيَامٍ بِالْمَصَالِحِ وَكُلُّ ذَلِكَ
يَفْتَقِرُ إلَى أُصُولٍ كُلِّيَّةٍ مُقَدَّرَةٍ مِنْ عِنْدِ
الشَّارِعِ بِهَا يُحْفَظُ الْعَدْلُ فِي النِّظَامِ
بَيْنَهُمْ فِي بَابِ الْمُنَاكَحَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ
بِبَقَاءِ النَّوْعِ وَالْمُبَايَعَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ
بِبَقَاءِ الشَّخْصِ إذْ كُلُّ أَحَدٍ يَشْتَهِي مَا
يُلَائِمُهُ وَيَغْضَبُ عَلَى مَنْ يُزَاحِمُهُ فَيَقَعُ
الْجَوْرُ وَيَخْتَلُّ أَمْرُ النِّظَامِ فَلِهَذَا السَّبَبِ
شُرِعَتْ الْمُعَامَلَاتُ.
(قَوْلُهُ: وَلِلِاخْتِصَاصَاتِ) قَدْ سَبَقَ أَنَّ مِنْ
الْأَحْكَامِ مَا هُوَ أَثَرٌ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ
كَالْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ وَالْحِلِّ فِي النِّكَاحِ
وَالْحُرْمَةِ فِي الطَّلَاقِ، وَهَذِهِ تُسَمَّى
الِاخْتِصَاصَاتِ الشَّرْعِيَّةَ فَسَبَبُهَا الْأَفْعَالُ
الَّتِي هِيَ آثَارُهَا وَهِيَ التَّصَرُّفَاتُ الْمَشْرُوعَةُ
كَالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ مَثَلًا فَالْحَاصِلُ أَنَّ
الْفِقْهَ هُوَ الْعِلْمُ
(2/288)
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ
الْقَضَاءَ بِالْعِتْقِ يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا عِنْدَهُ
فَالْعِلَّةُ لَا تَصْلُحُ لِضَمَانِ الْعِتْقِ) ؛ لِأَنَّ
الْعِلَّةَ قَضَاءُ الْقَاضِي وَإِنَّمَا لَا تَصْلُحُ
لِلضَّمَانِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُتَعَدٍّ فَإِنَّهُ قَضَى
بِنَاءً عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ. (بِخِلَافِ رُجُوعِ
الْفَرِيقَيْنِ) أَيْ شُهُودِ الشَّرْطِ وَشُهُودِ الْيَمِينِ
فَإِنَّ الْعِلَّةَ تَصْلُحُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ عَلَى مَا مَرَّ
فَهِيَ إمَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ وَهِيَ
الْعِبَادَاتُ، أَوْ بِأَمْرِ الدُّنْيَا وَهِيَ إمَّا أَنْ
تَتَعَلَّقَ بِبَقَاءِ الشَّخْصِ وَهِيَ الْمُعَامَلَاتُ، أَوْ
بِبَقَاءِ النَّوْعِ بِاعْتِبَارِ الْمَنْزِلِ وَهِيَ
الْمُنَاكَحَاتُ، أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمَدَنِيَّةِ وَهِيَ
الْعُقُوبَاتُ وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ وَالتَّرْتِيبِ جَعَلَ
أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
الْفِقْهَ أَرْبَعَةَ أَرْكَانٍ فَأَسْبَابُ كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ
مَا يُنَاسِبُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ.
(قَوْلُهُ: وَاعْلَمْ) أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُتَعَارَفُ
فِي الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ مَا يَكُونُ لَهُ نَوْعُ
تَأْثِيرٍ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ مَا جُعِلَ
عِلَّةً وَسَبَبًا لِلْأَحْكَامِ وَكَانَ الْمُصْطَلَحُ فِيمَا
سَبَقَ أَنَّ لِلْعِلَّةِ تَأْثِيرًا دُونَ السَّبَبِ وَكَانَ
بَعْضُ مَا سَمَّاهُ هَاهُنَا سَبَبًا قَدْ جَعَلَهُ فِيمَا
سَبَقَ عِلَّةً وَنَفَى كَوْنَهُ سَبَبًا أَشَارَ هَاهُنَا
إلَى اخْتِلَافِ الِاصْطِلَاحَاتِ إزَالَةً لِلِاسْتِبْعَادِ
وَنَفْيًا لِوَهْمِ الِاعْتِرَاضِ، وَهَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتُ
مَأْخُوذَةٌ مِنْ إطْلَاقَاتِ الْقَوْمِ، وَلَا مُشَاحَّةَ
فِيهَا
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا الشَّرْطُ، فَهُوَ) عَلَى مَا ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَرْبَعَةٌ:
شَرْطٌ مَحْضٌ وَشَرْطٌ فِيهِ مَعْنَى الْعِلَّةِ وَشَرْطٌ
فِيهِ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ وَشَرْطٌ مَجَازًا أَيْ اسْمًا
وَمَعْنًى لَا حُكْمًا.
وَوَجْهُ الضَّبْطِ أَنَّ وُجُودَ الْحُكْمِ إنْ لَمْ يَكُنْ
مُضَافًا إلَيْهِ، فَهُوَ الرَّابِعُ كَأَوَّلِ الشَّرْطَيْنِ
اللَّذَيْنِ عُلِّقَ بِهِمَا الْحُكْمُ، وَإِنْ كَانَ فَإِنْ
تَخَلَّلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُكْمِ فِعْلُ فَاعِلٍ
مُخْتَارٍ غَيْرِ مَنْسُوبٍ إلَيْهِ وَكَانَ غَيْرَ مُتَّصِلٍ
بِالْحُكْمِ، فَهُوَ الثَّالِثُ كَحَلِّ قَيْدِ الْعَبْدِ،
وَإِلَّا فَإِنْ لَمْ تُعَارِضْهُ عِلَّةٌ تَصْلُحُ
لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا، فَهُوَ الثَّانِي كَشَقِّ
الزِّقِّ، وَإِنْ عَارَضَتْهُ، فَهُوَ الْأَوَّلُ كَدُخُولِ
الدَّارِ فِي أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ.
وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
قِسْمًا خَامِسًا سَمَّاهُ شَرْطًا فِي مَعْنَى الْعَلَامَةِ،
وَهُوَ الْعَلَامَةُ نَفْسُهَا لِمَا أَنَّ الْعَلَامَةَ
عِنْدَهُمْ مِنْ أَقْسَامِ الشَّرْطِ وَلِذَا سَمَّى صَاحِبُ
الْهِدَايَةِ الْإِحْصَانَ شَرْطًا مَحْضًا بِمَعْنَى أَنَّهُ
عَلَامَةٌ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى الْعِلِّيَّةِ
وَالسَّبَبِيَّةِ، وَقَدْ يُقَالُ: إنَّ الشَّرْطَ إنْ لَمْ
تُعَارِضْهُ عِلَّةٌ فَهِيَ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ، وَإِنْ
عَارَضَتْهُ، فَإِنْ كَانَ سَابِقًا كَانَ فِي مَعْنَى
الْعِلَّةِ، وَإِنْ كَانَ مُقَارِنًا، أَوْ مُتَرَاخِيًا،
فَهُوَ الشَّرْطُ الْمَحْضُ. وَفِيهِ نَظَرٌ.
(قَوْلُهُ: وَهُوَ) أَيْ الشَّرْطُ الْمَحْضُ إمَّا حَقِيقِيٌّ
يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الشَّيْءُ فِي الْوَاقِعِ، أَوْ بِحُكْمِ
الشَّارِعِ حَتَّى لَا يَصِحَّ الْحُكْمُ بِدُونِهِ أَصْلًا
كَالشُّهُودِ لِلنِّكَاحِ، أَوْ يَصِحَّ إلَّا عِنْدَ
تَعَذُّرِهِ كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ وَإِمَّا جَعْلِيٌّ
يَعْتَبِرُهُ الْمُكَلَّفُ وَيُعَلِّقُ عَلَيْهِ
تَصَرُّفَاتِهِ إمَّا بِكَلِمَةِ الشَّرْطِ. مِثْلُ: إنْ
تَزَوَّجْتُكِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ بِدَلَالَةِ كَلِمَةِ
الشَّرْطِ بِأَنْ يَدُلَّ الْكَلَامُ عَلَى التَّعْلِيقِ
دَلَالَةَ كَلِمَةِ الشَّرْطِ عَلَيْهِ. مِثْلُ: الْمَرْأَةُ
الَّتِي أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى
إنْ تَزَوَّجْت امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ
تَرَتُّبَ الْحُكْمِ
(2/289)
لِلضَّمَانِ؛ لِأَنَّهَا أَثْبَتَتْ
الْعِتْقَ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي. (وَعِنْدَهُمَا لَا
يَضْمَنَانِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَنْفُذُ فِي الْبَاطِنِ
فَيَعْتِقُ بِحَلِّ الْقَيْدِ. وَكَذَا حَافِرُ الْبِئْرِ)
عَطْفٌ عَلَى الْمِثَالَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَهُمَا رُجُوعُ
شُهُودِ الشَّرْطِ وَمَسْأَلَةُ الْقَيْدِ وَالتَّشْبِيهُ فِي
أَنَّ هُنَاكَ شَرْطًا لَا تُعَارِضُهُ عِلَّةٌ تَصْلُحُ
لِإِضَافَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
عَلَى الْوَصْفِ تَعْلِيقٌ لَهُ بِهِ كَالشَّرْطِ.
(قَوْلُهُ: وَقَدْ مَرَّ) إشَارَةٌ إلَى بَيَانِ الشَّرْطِ
الْجَعْلِيِّ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ
الْحَقِيقِيِّ بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ الْحُكْمُ بِدُونِهِ.
(قَوْلُهُ: فَيُضَافُ) أَيْ إذَا لَمْ يُعَارِضْ الشَّرْطَ
عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا فَالْحُكْمُ
يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ؛ لِأَنَّهُ يُشَابِهُ الْعِلَّةَ فِي
تَوَقُّفِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا وُجِدَتْ
حَقِيقَةُ الْعِلَّةِ الصَّالِحَةِ، فَإِنَّهُ لَا عِبْرَةَ
حِينَئِذٍ بِالشَّبَهِ وَالْحَلِفِ، فَلَوْ شَهِدَ قَوْمٌ
بِأَنَّ رَجُلًا عَلَّقَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ الْغَيْرِ
الْمَدْخُولَةِ بِدُخُولِ الدَّارِ وَآخَرُونَ بِأَنَّهَا
دَخَلَتْ الدَّارَ وَقَضَى الْقَاضِي بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ
وَلُزُومِ نِصْفِ الْمَهْرِ، فَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ دُخُولِ
الدَّارِ وَحْدَهُمْ ضَمِنُوا لِلزَّوْجِ مَا أَدَّاهُ إلَى
الْمَرْأَةِ مِنْ نِصْفِ الْمَهْرِ؛ لِأَنَّهُمْ شُهُودُ
الشَّرْطِ السَّالِمِ عَنْ مُعَارَضَةِ الْعِلَّةِ
الصَّالِحَةِ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا، وَإِذَا رَجَعَ
شُهُودُ دُخُولِ الدَّارِ وَشُهُودُ الْيَمِينِ أَيْ
التَّعْلِيقِ جَمِيعًا فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ
التَّعْلِيقِ؛ لِأَنَّهُمْ شُهُودُ الْعِلَّةِ إمَّا
بِاعْتِبَارِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ
الْعِلَّةَ أَعَمُّ مِنْ الْحَقِيقَةِ وَمِمَّا فِيهِ مَعْنَى
السَّبَبِيَّةِ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بَعْدَ شَهَادَةِ
الْفَرِيقَيْنِ وَقَضَاءِ الْقَاضِي اتَّصَلَ الْحُكْمُ
بِالْعِلَّةِ فَكَمَّلَ الْعِلِّيَّةَ وَمَعَ وُجُودِ
الْعِلَّةِ الصَّالِحَةِ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا لَا
جِهَةَ لِلْإِضَافَةِ إلَى الشَّرْطِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ شَهِدَ قَوْمٌ بِأَنَّهُ تَزَوَّجَ هَذِهِ
الْمَرْأَةَ بِأَلْفٍ وَآخَرُونَ بِأَنَّهُ دَخَلَ بِهَا،
ثُمَّ رَجَعَ الْفَرِيقَانِ فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ
الدُّخُولِ مَعَ أَنَّهُ شَرْطٌ وَالتَّزَوُّجُ عِلَّةٌ.
قُلْنَا: هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ شُهُودَ الدُّخُولِ
أَبْرَءُوا شُهُودَ النِّكَاحِ عَنْ الضَّمَانِ حَيْثُ
أَدْخَلُوا فِي مِلْكِ الزَّوْجِ عِوَضَ مَا غَرِمَ مِنْ
الْمَهْرِ، وَهُوَ اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ بِخِلَافِ
مَا نَحْنُ فِيهِ.
(قَوْلُهُ: كَشُهُودِ التَّخْيِيرِ) ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ
لِكَوْنِهِ مُفْضِيًا إلَى الْحُكْمِ فِي الْجُمْلَةِ
وَالِاخْتِيَارُ عِلَّةٌ يَحْصُلُ بِهَا لُزُومُ الْمَهْرِ
فَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ دُونَ السَّبَبِ.
(قَوْلُهُ: فَإِنْ قَالَ) لَمَّا شَرَطَ فِي إضَافَةِ
الْحُكْمِ إلَى الشَّرْطِ أَنْ لَا تُعَارِضَهُ عِلَّةٌ
صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا، أَوْرَدَ مِثَالًا
لَيْسَ فِيهِ مُعَارَضَةُ الْعِلَّةِ أَصْلًا، وَهُوَ مَا إذَا
رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ فَقَطْ وَحُكْمُهُ وُجُوبُ
الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَأَمَّا الْمَذْكُورُ فِي
أُصُولِ الْإِمَامِ السَّرَخْسِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - وَأَبِي الْيُسْرِ فَهُوَ أَنَّهُمْ لَا
يَضْمَنُونَ شَيْئًا، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي الْجَامِعِ
الصَّغِيرِ، ثُمَّ أَوْرَدَ مِثَالًا يُوجِبُ فِيهِ
مُعَارَضَةَ الْعِلَّةِ الصَّالِحَةِ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ
إلَيْهَا، وَهُوَ مَا إذَا رَجَعَ شُهُودُ الشَّرْطِ
وَالْيَمِينِ جَمِيعًا ثُمَّ مِثَالًا يُوجَدُ فِيهِ
مُعَارَضَةُ الْعِلَّةِ لَكِنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِإِضَافَةِ
الْحُكْمِ إلَيْهَا وَهُوَ مَا إذَا قَالَ رَجُلٌ إنْ كَانَ
قَيْدُ عَبْدِهِ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ فَعَبْدُهُ حُرٌّ، ثُمَّ
قَالَ: وَإِنْ حَلَّ أَحَدٌ قَيْدَ الْعَبْدِ، فَهُوَ حُرٌّ
فَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِأَنَّ الْقَيْدَ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ
وَقَضَى الْقَاضِي بِعِتْقِ عَبْدِهِ فَحَلَّ الْمَوْلَى
قَيْدَ الْعَبْدِ، فَإِذَا هُوَ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
(2/290)
الْحُكْمِ إلَيْهَا وَالشَّرْطُ هُوَ
الْحَفْرُ؛ لِأَنَّ عِلَّةَ السُّقُوطِ هُوَ الثِّقَلُ لَكِنَّ
الْأَرْضَ مَانِعَةٌ عَنْ السُّقُوطِ فَبِإِزَالَةِ الْمَانِعِ
صَارَتْ شَرْطًا لِلسُّقُوطِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْعِلَّةَ
لَا تَصْلُحُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ، وَهُوَ الضَّمَانُ
إلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (فَإِنَّ الثِّقَلَ عِلَّةُ السُّقُوطِ،
وَهُوَ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ وَالْمَشْيُ مُبَاحٌ، فَلَا
يَصْلُحَانِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
يَضْمَنُ الشَّاهِدَانِ قِيمَةَ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ
الْقَاضِي نَافِذٌ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا لِابْتِنَائِهِ عَلَى
دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَاجِبِ الْعَمَلِ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ
صِيَانَتِهِ عَنْ الْبُطْلَانِ بِإِثْبَاتِ التَّصَرُّفِ
الْمَشْهُودِ بِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْقَضَاءِ بِطَرِيقِ
الِاقْتِضَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَانَ الشُّهُودُ عَبِيدًا،
أَوْ كُفَّارًا، فَإِنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالْقَضَاءِ
حِينَئِذٍ لِإِمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الرِّقِّ
وَالْكُفْرِ. وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ قَدْ سَقَطَ حَقِيقَةُ
مَعْرِفَةِ وَزْنِ الْقَيْدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلَّا
بِحَلِّ الْقَيْدِ، وَإِذَا حَلَّهُ يَعْتِقُ الْعَبْدُ،
وَإِذَا نَفَذَ الْقَضَاءُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا تَحَقَّقَ
الْعِتْقُ قَبْلَ الْحِلِّ، فَلَمْ يُمْكِنْ إضَافَتُهُ
إلَيْهِ وَالْعِلَّةُ أَعْنِي التَّعْلِيقَ غَيْرُ صَالِحَةٍ
لِلْإِضَافَةِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا تَصَرُّفٌ مِنْ الْمَالِكِ
فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ، وَلَا جِنَايَةٍ كَمَا إذَا
بَاعَ مَالَ نَفْسِهِ، أَوْ أَكَلَ طَعَامَ نَفْسِهِ
فَتَعَيَّنَ الْإِضَافَةُ إلَى الشَّرْطِ، وَهُوَ كَوْنُ
الْقَيْدِ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ وَالشُّهُودُ قَدْ تَعَدَّوْا
بِالْكَذِبِ الْمَحْضِ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ.
وَعِنْدَهُمَا يَنْفُذُ الْقَضَاءُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا؛
لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحُجَّةِ الْبَاطِلَةِ إلَّا
أَنَّ الْعَدَالَةَ الظَّاهِرَةَ دَلِيلُ الصِّدْقِ ظَاهِرًا
فَيُعْتَبَرُ حُجَّةً فِي وُجُوبِ الْعَمَلِ، وَإِذَا لَمْ
يَنْفُذْ بَاطِنًا كَانَ الْعَبْدُ رَقِيقًا بَعْدَ الْقَضَاءِ
وَيَعْتِقُ بِحَلِّ الْمَوْلَى قَيْدَهُ، فَلَا يَضْمَنُ
الشُّهُودُ.
وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ يَمِينُ
الْمَالِكِ أَعْنِي تَعْلِيقَهُ الْعِتْقَ هُوَ الْمَذْكُورُ
فِي أُصُولِ فَخْرِ الْإِسْلَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
وَغَيْرِهِ، وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ
مِنْ أَنَّ عِلَلَ الِاخْتِصَاصَاتِ الشَّرْعِيَّةِ هِيَ
التَّصَرُّفَاتُ الْمَشْرُوعَةُ حَتَّى لَوْ ادَّعَى شِرَاءَ
الدَّارِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَقَضَى الْقَاضِي كَانَتْ
عِلَّةُ الْمِلْكِ هِيَ الشِّرَاءُ دُونَ الْقَضَاءِ فَمَا
ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -
مِنْ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِوُقُوعِ
الْعِتْقِ مَحَلُّ نَظَرٍ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُ صَرَّحَ فِي
مَسْأَلَةِ رُجُوعِ الْفَرِيقَيْنِ أَعْنِي شُهُودَ
التَّعْلِيقِ وَشُهُودَ الشَّرْطِ بِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ
شُهُودُ التَّعْلِيقِ وَهِيَ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الضَّمَانِ
إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا أَثْبَتَتْ الْعِتْقَ بِطَرِيقِ
التَّعَدِّي حَيْثُ ظَهَرَ كَذِبُهُمْ بِالرُّجُوعِ فَلِمَ
كَانَتْ الْعِلَّةُ فِي مَسْأَلَةِ حَلِّ الْقَيْدِ هِيَ
قَضَاءُ الْقَاضِي دُونَ تَعْلِيقِ الْمَالِكِ وَالتَّحْقِيقُ
أَنَّهُ بَانَ فِي الصُّورَتَيْنِ أَنَّ الْعِتْقَ لَمْ يَكُنْ
مُتَحَقِّقًا فِي الْوَاقِعِ، وَإِنَّمَا لَزِمَ بِقَضَاءِ
الْقَاضِي الْمَبْنِيِّ عَلَى الشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ،
وَهُوَ حُكْمٌ يُؤَدِّي إلَى هَلَاكِ الْمَالِ فَفِي صُورَةِ
رُجُوعِ الْفَرِيقَيْنِ شُهُودِ التَّعْلِيقِ عِلَّةٌ
مُتَعَدِّيَةٌ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الضَّمَانِ إلَيْهَا،
فَلَا يُضَافُ إلَى شُهُودِ الشَّرْطِ أَعْنِي وُقُوعَ
الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ.
وَفِي مَسْأَلَةِ حَلِّ الْقَيْدِ الْعِلَّةُ غَيْرُ صَالِحَةٍ
لِإِضَافَةِ الضَّمَانِ إلَيْهَا لِخُلُوِّهَا عَنْ مَعْنَى
التَّعَدِّي فَيُضَافُ إلَى الشَّرْطِ، وَهُوَ شُهُودُ كَوْنِ
الْقَيْدِ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ لِتَعَدِّيهِمْ بِالْكَذِبِ
الْمَحْضِ إذْ لَا مُسَاغَ لِلْإِضَافَةِ إلَى الْحَلِّ
لِتَحَقُّقِ الْعِتْقِ قَبْلَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا مَعَ
(2/291)
لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ فَيُضَافُ إلَى
الشَّرْطِ) ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْطِ مُتَعَدٍّ؛ لِأَنَّ
الضَّمَانَ فِيمَا إذَا حَفَرَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ.
(بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْقَعَ نَفْسَهُ. وَأَمَّا وَضْعُ
الْحَجَرِ وَإِشْرَاعُ الْجَنَاحِ وَالْحَائِطِ الْمَائِلِ
بَعْدَ الْإِشْهَادِ، فَمِنْ قِسْمِ الْأَسْبَابِ. وَأَمَّا
شَرْطٌ فِي حُكْمِ السَّبَبِ، وَهُوَ شَرْطٌ اعْتَرَضَ
عَلَيْهِ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ غَيْرِ مَنْسُوبٍ إلَيْهِ
كَمَا إذَا حَلَّ قَيْدَ عَبْدِ الْغَيْرِ فَأَبَقَ الْعَبْدُ
لَا يَضْمَنُ عِنْدَنَا فَإِنَّ الْحَلَّ لَمَّا سَبَقَ
الْإِبَاقَ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ التَّلَفِ صَارَ كَالسَّبَبِ
فَإِنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَى صُورَةِ الْعِلَّةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
أَنَّ شُهُودَ الشَّرْطِ هَاهُنَا بِمَنْزِلَةِ شُهُودِ
الْعِلَّةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ وَزْنَ الْقَيْدِ مُتَحَقِّقُ الْوُجُودِ
وَالشَّرْطُ مَا يَكُونُ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ.
وَثَانِيهِمَا: أَنَّ التَّعْلِيقَ لَمَّا كَانَ مُقَدَّرًا
يَعْتَرِفُ بِهِ الْمَالِكُ، وَالشُّهُودُ قَدْ شَهِدُوا
بِوُجُودِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى
الشَّهَادَةِ بِالتَّنْجِيزِ فَكَانُوا شُهُودَ الْعِلَّةِ
لِإِثْبَاتِهِمْ الْعِتْقَ فِي الْحَقِيقَةِ.
فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ لَا نُثْبِتُ الضَّمَانَ حَتَّى يُضَافَ
إلَى الْعِلَّةِ أَوْ الشَّرْطِ بَلْ نُثْبِتُ الْعِتْقَ بِلَا
شَيْءٍ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْعِتْقَ حُكْمٌ يُؤَدِّي إلَى هَلَاكِ
الْمَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ الضَّمَانِ، وَالْعِتْقُ بِلَا
شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ الضَّمَانِ عَلَى السَّيِّدِ فَلَا بُدَّ
مِنْ الْإِضَافَةِ.
(قَوْلُهُ: وَالْمَشْيُ مُبَاحٌ) يَعْنِي أَنَّ الْمَشْيَ،
وَإِنْ كَانَ سَبَبًا، وَهُوَ يُشَارِكُ الْعِلَّةَ فِي
الْإِفْضَاءِ إلَى الْحُكْمِ وَالِاتِّصَالِ بِهِ فَعِنْدَ
تَعَذُّرِ الْإِضَافَةِ إلَى الْعِلَّةِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ
يُضَافَ الْحُكْمُ إلَيْهِ دُونَ الشَّرْطِ إلَّا أَنَّ
الضَّمَانَ ضَمَانُ عُدْوَانٍ فَلَا بُدَّ فِيمَا يُضَافُ
إلَيْهِ مِنْ صِفَةِ التَّعَدِّي، وَلَا تَعَدِّيَ فِي
السَّبَبِ أَعْنِي الْمَشْيَ؛ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ مَحْضٌ،
وَهَذَا مُشْعِرٌ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَاشِي أَيْضًا
مُتَعَدِّيًا كَمَا إذَا كَانَ الْحَفْرُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ
فَسَقَطَ الْمَاشِي بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ لَمْ يَكُنْ
الضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ، وَلَا رِوَايَةَ فِي ذَلِكَ بَلْ
الرِّوَايَةُ مُطْلَقَةٌ فِي ضَمَانِ الْحَافِرِ
الْمُتَعَدِّي. لَا يُقَالُ: مُرَادُهُ أَنَّ الْمَشْيَ
مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِنْ حَرُمَ بِالْغَيْرِ فِي بَعْضِ
الصُّوَرِ كَمَا إذَا كَانَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّا
نَقُولُ: الْحَفْرُ أَيْضًا كَذَلِكَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ
تَقْيِيدَ الْمَشْيِ بِالْإِبَاحَةِ احْتِرَازٌ عَنْ مَحَلِّ
الْخِلَافِ فَفِي بَعْضِ الْوُجُوهِ عَنْ أَصْحَابِ
الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا
ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ عِنْدَ تَعَدِّي الْمَشْيِ.
(قَوْلُهُ: بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْقَعَ نَفْسَهُ) فِي بِئْرِ
الْعُدْوَانِ، فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ؛
لِأَنَّ الْإِيقَاعَ عِلَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ صَالِحَةٌ
لِلْإِضَافَةِ، فَلَا يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ.
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا وَضْعُ الْحَجَرِ) يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ
الْأُمُورَ طُرُقٌ مُفْضِيَةٌ إلَى التَّلَفِ فَتَكُونُ
أَسْبَابًا لَهَا حُكْمُ الْعِلَلِ بِخِلَافِ الْحَفْرِ،
فَإِنَّهُ إزَالَةٌ لِلْمَانِعِ أَعْنِي إمْسَاكَ الْأَرْضِ
فَيَكُونُ شَرْطًا وَهَاهُنَا نَظَرٌ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا
مَعْنَى لِلسَّبَبِيَّةِ إلَّا الْإِفْضَاءُ إلَى الْحُكْمِ
وَالتَّأَدِّي إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ، وَهَذَا حَاصِلٌ
فِي الْحَفْرِ وَحَلِّ الْقَيْدِ وَفَتْحِ الْبَابِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ.
(قَوْلُهُ: وَهُوَ) أَيْ الشَّرْطُ الَّذِي فِي حُكْمِ
السَّبَبِ شَرْطٌ اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ أَيْ حَصَلَ بَعْدَ
حُصُولِهِ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ غَيْرِ مَنْسُوبٍ ذَلِكَ
الْفِعْلُ إلَى الشَّرْطِ فَخَرَجَ الشَّرْطُ الْمَحْضُ.
مِثْلُ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ
(2/292)
وَالشَّرْطُ يَتَأَخَّرُ عَنْهَا، وَكَذَا
إذَا فَتَحَ بَابَ قَفَصٍ، أَوْ إصْطَبْلٍ. خِلَافًا
لِمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَهُ أَنَّ فِعْلَ
الطَّيْرِ وَالْبَهِيمَةِ هَدَرٌ، فَإِذَا خَرَجَا عَلَى
فَوْرِ الْفَتْحِ يَجِبُ الضَّمَانُ كَمَا فِي سَيْلَانِ مَاءِ
الزِّقِّ فَإِنَّ النِّفَارَ طَبِيعِيٌّ لِلطَّيْرِ
كَالسَّيَلَانِ لِلْمَاءِ وَلَهُمَا أَنَّهُ هَدَرٌ فِي
إثْبَاتِ الْحُكْمِ لَا فِي قَطْعِهِ عَنْ الْغَيْرِ
كَالْكَلْبِ يَمِيلُ عَنْ سُنَنِ الْإِرْسَالِ، وَإِذَا قَالَ
الْوَلِيُّ سَقَطَ وَقَالَ الْحَافِرُ أَسْقَطَ نَفْسَهُ
فَالْقَوْلُ لَهُ)
أَيْ لِلْحَافِرِ (لِأَنَّهُ يَدَّعِي صَلَاحِيَّةَ الْعِلَّةِ
لِلْإِضَافَةِ وَقَطَعَ الْإِضَافَةَ عَنْ الشَّرْطِ، فَهُوَ
مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ بِخِلَافِ الْجَارِحِ إذَا ادَّعَى
الْمَوْتَ بِسَبَبٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ عِلَّةٍ.
وَأَمَّا شَرْطٌ اسْمًا لَا حُكْمًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
إذْ التَّعْلِيقُ، وَهُوَ فِعْلُ الْمُخْتَارِ لَمْ يَعْتَرِضْ
عَلَى الشَّرْطِ بَلْ بِالْعَكْسِ وَخَرَجَ مَا إذَا اعْتَرَضَ
عَلَى الشَّرْطِ فِعْلُ فَاعِلٍ غَيْرِ مُخْتَارٍ بَلْ
طَبِيعِيٍّ كَمَا إذَا شَقَّ زِقَّ الْغَيْرِ فَسَالَ
الْمَائِعُ فَتَلِفَ، وَخَرَجَ مَا إذَا كَانَ فِعْلُ
الْمُخْتَارِ مَنْسُوبًا إلَى الشَّرْطِ كَمَا إذَا فَتَحَ
الْبَابَ عَلَى وَجْهٍ يَفِرُّ الطَّائِرُ فَخَرَجَ، فَإِنَّهُ
لَيْسَ فِي مَعْنَى السَّبَبِ بَلْ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ
وَلِهَذَا يَضْمَنُ، وَأَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ عِنْدَ
مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي صُورَةِ فَتْحِ بَابِ
الْقَفَصِ فَلَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ طَيَرَانَ
الطَّائِرِ مَنْسُوبٌ إلَى الْفَتْحِ بَلْ عَلَى أَنَّ فِعْلَ
الطَّائِرِ هَدَرٌ فَيَلْحَقُ بِالْأَفْعَالِ الْغَيْرِ
الِاخْتِيَارِيَّةِ كَسَيَلَانِ الْمَائِعِ.
(قَوْلُهُ: لَا يَضْمَنُ عِنْدَنَا) مُشْعِرٌ بِالْخِلَافِ
وَلَيْسَ كَذَلِكَ.
(قَوْلُهُ: فَإِنَّ الْحَلَّ) بَيَانٌ لِكَوْنِ حَلِّ
الْقَيْدِ فِي حُكْمِ السَّبَبِ لَا تَعْلِيلٌ لِعَدَمِ
الضَّمَانِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الشَّرْطَ الْمَحْضَ
يَتَأَخَّرُ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ وَالسَّبَبُ
يَتَقَدَّمُهَا؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ إلَى الْحُكْمِ وَمُفْضٍ
إلَيْهِ بِأَنْ تَتَوَسَّطَ الْعِلَّةُ بَيْنَهُمَا فَيَكُونَ
مُتَقَدِّمًا لَا مَحَالَةَ، وَإِنَّمَا قَالَ صُورَةُ
الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْمَحْضَ يَتَقَدَّمُ عَلَى
انْعِقَادِهَا عِلَّةً لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ التَّعْلِيقَ
يَمْنَعُ الْعِلِّيَّةَ إلَى وُجُودِ الشَّرْطِ، فَلَا بُدَّ
مِنْ أَنْ يَثْبُتَ الشَّرْطُ حَتَّى تَنْعَقِدَ الْعِلَّةُ
فَحَلُّ الْقَيْدِ لَمَّا كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِبَاقِ
الَّذِي هُوَ عِلَّةُ التَّلَفِ كَانَ شَرْطًا فِي مَعْنَى
السَّبَبِ لَا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ
هَاهُنَا مُسْتَقِلَّةٌ غَيْرُ مُضَافَةٍ إلَى السَّبَبِ،
وَلَا حَادِثَةٍ بِهِ بِخِلَافِ سَوْقِ الدَّابَّةِ.
وَأَمَّا إذَا أَمَرَ عَبْدَ الْغَيْرِ بِالْإِبَاقِ فَأَبَقَ،
فَإِنَّمَا يَضْمَنُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ
اسْتِعْمَالٌ لِلْعَبْدِ، وَهُوَ غَصْبٌ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا
اسْتَخْدَمَهُ فَخَدَمَهُ. وَمَا يُقَالُ: فِي بَيَانِ
تَقَدُّمِ السَّبَبِ عَلَى صُورَةِ الْعِلَّةِ أَنَّ مَا هُوَ
مُفْضٍ إلَى الشَّيْءِ وَوَسِيلَةٌ إلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ
يَكُونَ سَابِقًا عَلَيْهِ لَيْسَ بِمُسْتَقِيمٍ؛ لِأَنَّهُ
مُفْضٍ إلَى الْحُكْمِ وَالْمَطْلُوبُ تَقَدُّمُهُ عَلَى
صُورَةِ الْعِلَّةِ وَهَاهُنَا نَظَرٌ، وَهُوَ أَنَّ وُجُوبَ
تَأَخُّرِ الشَّرْطِ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ إنَّمَا هُوَ فِي
الشَّرْطِ التَّعْلِيقِيِّ لَا الْحَقِيقِيِّ كَالشَّهَادَةِ
فِي النِّكَاحِ وَالطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْعَقْلِ فِي
التَّصَرُّفَاتِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ.
(قَوْلُهُ: لَهُ) أَيْ لِمُحَمَّدٍ أَنَّ فِعْلَ الطَّيْرِ
وَالْبَهِيمَةِ هَدَرٌ شَرْعًا، فَلَا يَصْلُحُ لِإِضَافَةِ
التَّلَفِ إلَيْهِ فَيُضَافُ إلَى الشَّرْطِ وَأَيْضًا هُمَا
لَا يَصْبِرَانِ عَنْ الْخُرُوجِ عَادَةً فَفِعْلُهُمَا
يَلْتَحِقُ بِالْأَفْعَالِ الطَّبِيعِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ
سَيَلَانِ الْمَائِعِ فَظَهَرَ أَنَّ كُلًّا مِنْ كَوْنِ
فِعْلِهِمَا هَدَرًا وَكَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ
(2/293)
إذَا عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَرْطَيْنِ
فَأَوَّلُهُمَا وُجُودًا شَرْطٌ اسْمًا لَا حُكْمًا حَتَّى
إذَا وُجِدَ الْأَوَّلُ فِي الْمِلْكِ لَا الثَّانِي لَا
تُطْلَقُ وَبِالْعَكْسِ تُطْلَقُ خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى -) .
صُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ: لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت هَذِهِ
الدَّارَ، وَهَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَبَانَهَا
فَدَخَلَتْ أَحَدَهُمَا، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَدَخَلَتْ
الْأُخْرَى يَقَعُ الطَّلَاقُ، عِنْدَنَا (لِأَنَّ الْمِلْكَ
شَرْطٌ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِصِحَّةِ الْجَزَاءِ لَا
لِصِحَّةِ الشَّرْطِ فَيُشْتَرَطُ عِنْدَ الثَّانِي لَا
الْأَوَّلِ، وَأَمَّا الْعَلَامَةُ فَقَدْ ذَكَرُوا فِي
نَظِيرِهَا الْإِحْصَانَ لِلرَّجْمِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَا
يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ إلَى أَنْ يُوجَدَ هُوَ
وَوُجُودُهُ مُتَأَخِّرٌ عَنْ وُجُودِ صُورَةِ الْعِلَّةِ
كَدُخُولِ الدَّارِ مَثَلًا وَهُنَا عِلِّيَّةُ الزِّنَا لَا
تَتَوَقَّفُ عَلَى إحْصَانٍ يَحْدُثُ مُتَأَخِّرًا أَقُولُ مَا
ذَكَرُوا) وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ أَمْرٌ مُتَأَخِّرٌ عَنْ
وُجُودِ صُورَةِ الْعِلَّةِ وَيَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعِلَّةِ
إلَى أَنْ يُوجَدَ هُوَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
الْأَفْعَالِ الطَّبِيعِيَّةِ مُسْتَقِلٌّ فِي الِاسْتِدْلَالِ
عَلَى الضَّمَانِ فَسَوْقُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى - لَيْسَ كَمَا يَنْبَغِي وَلِأَبِي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى
أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ أَنَّ فِعْلَ الطَّيْرِ وَالْبَهِيمَةِ
هَدَرٌ فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّهُ
لَا يُنَافِي اعْتِبَارَهُ فِي قَطْعِ الْحُكْمِ عَنْ
الشَّرْطِ، وَإِنْ أُرِيدَ أَنَّهُ هَدَرٌ مُطْلَقًا حَتَّى
لَا يُعْتَبَرَ فِي قَطْعِ الْحُكْمِ عَنْ الْغَيْرِ
فَمَمْنُوعٌ كَمَا إذَا أَرْسَلَ شَخْصٌ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ
فَمَال عَنْ سُنَنِ الصَّيْدِ، ثُمَّ اتَّبَعَهُ فَأَخَذَهُ
لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ، وَهُوَ الْمَيْلُ عَنْ
السُّنَنِ هَدَرٌ فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ لِكَوْنِهِ
بَهِيمَةً لَكِنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي مَنْعِ إضَافَةِ الْفِعْلِ
عَنْ الْمُرْسِلِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا جَوَابٌ عَنْ
الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَقَطْ مِنْ اسْتِدْلَالِ مُحَمَّدٍ
بِنَاءً عَلَى مَا سَاقَ كَلَامَهُ مِنْ أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ
وَاحِدٌ.
فَإِنْ قِيلَ: هَبْ أَنَّ فَتْحَ الْبَابِ شَرْطٌ لَا عِلَّةٌ
لَكِنْ سَبَقَ أَنَّ الشَّرْطَ إذَا لَمْ يُعَارِضْهُ عِلَّةٌ
صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا فَالْحُكْمُ يُضَافُ
إلَى الشَّرْطِ وَهَاهُنَا كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ
الْبَهِيمَةِ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِلضَّمَانِ قُلْنَا لَا
نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِلضَّمَانِ عَلَى
الْمَالِكِ.
وَقَدْ يُقَالُ: الْحُكْمُ هَاهُنَا هُوَ التَّلَفُ لَا
الضَّمَانُ، وَلَا نِزَاعَ فِي صِحَّةِ إضَافَتِهِ إلَى فِعْلِ
الْبَهِيمَةِ.
قُلْنَا: وَكَذَلِكَ إلَى الْفِعْلِ الطَّبِيعِيِّ فَيَنْبَغِي
أَنْ لَا يَضْمَنَ فِي صُورَةِ شَقِّ الزِّقِّ.
(قَوْلُهُ: وَإِذَا قَالَ الْوَلِيُّ) فَإِنْ عُورِضَ بِأَنَّ
الظَّاهِرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُلْقِي نَفْسَهُ فِي
الْبِئْرِ.
أُجِيبَ بِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالظَّاهِرِ إنَّمَا يَصْلُحُ
لِلدَّفْعِ وَالْوَلِيُّ مُحْتَاجٌ إلَى اسْتِحْقَاقِ
الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ
الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ بِغَيْرِ
تَعَمُّدٍ مِنْهُ.
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا شَرْطٌ اسْمًا لَا حُكْمًا) كَمَا إذَا
قَالَ إنْ دَخَلْت هَذِهِ الدَّارَ وَهَذِهِ الدَّارَ فَأَنْتِ
طَالِقٌ فَأَوَّلُ الشَّرْطَيْنِ بِحَسَبِ الْوُجُودِ شَرْطٌ
اسْمًا لِتَوَقُّفِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ لَا
حُكْمًا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْحُكْمِ عِنْدَهُ، فَإِنْ
دَخَلَتْ الدَّارَيْنِ وَهِيَ فِي نِكَاحِهِ طَلُقَتْ
اتِّفَاقًا، وَإِنْ أَبَانَهَا فَدَخَلَتْ الدَّارَيْنِ، أَوْ
دَخَلَتْ إحْدَاهُمَا فَأَبَانَهَا فَدَخَلَتْ الْأُخْرَى لَمْ
تَطْلُقْ اتِّفَاقًا وَإِنْ أَبَانَهَا فَدَخَلَتْ إحْدَاهُمَا
ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَدَخَلَتْ الْأُخْرَى تَطْلُقُ عِنْدَنَا؛
لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْمِلْكِ حَالَ وُجُودِ الشَّرْطِ إنَّمَا
هُوَ لِصِحَّةِ وُجُودِ الْجَزَاءِ لَا لِصِحَّةِ وُجُودِ
الشَّرْطِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ دَخَلَتْ الدَّارَيْنِ فِي
غَيْرِ الْمِلْكِ انْحَلَّتْ الْيَمِينُ، وَلَا لِبَقَاءِ
الْيَمِينِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْيَمِينِ هِيَ الذِّمَّةُ
فَيَبْقَى بِبَقَائِهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ إلَّا عِنْدَ
الشَّرْطِ
(2/294)
(هُوَ تَفْسِيرُ الشَّرْطِ التَّعْلِيقِيِّ
لَا الشَّرْطِ الْحَقِيقِيِّ كَالشَّهَادَةِ لِلنِّكَاحِ
وَالْعَقْلِ لِلتَّصَرُّفَاتِ وَنَحْوِهِمَا) كَالْوُضُوءِ
لِلصَّلَاةِ وَطَهَارَةِ الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْمَكَانِ
لَهَا فَالشَّرْطُ التَّعْلِيقِيُّ مُتَأَخِّرٌ عَنْ صُورَةِ
الْعِلَّةِ. أَمَّا الشَّرْطُ الْحَقِيقِيُّ، فَلَا يَجِبُ
تَأَخُّرُهُ عَنْ وُجُودِ الْعِلَّةِ كَالْعَقْلِ وَالْوُضُوءِ
وَغَيْرِهِمَا فَكَوْنُ الْإِحْصَانِ مُتَقَدِّمًا لَا يَدُلُّ
عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ.
(وَهَذَا الْإِشْكَالُ اخْتَلَجَ فِي خَاطِرِي. وَالْجَوَابُ
عَنْهُ أَنَّ الشَّرْطَ إمَّا تَعْلِيقِيٌّ وَإِمَّا
حَقِيقِيٌّ وَالْحَقِيقِيُّ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ
يَكُونَ الشَّرْطُ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْعِلَّةِ كَحَفْرِ
الْبِئْرِ وَقَطْعِ حَبْلِ الْقِنْدِيلِ وَالْآخَرُ أَنْ
يَكُونَ مُتَقَدِّمًا كَالْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ) وَالْعَقْلِ
لِلتَّصَرُّفَاتِ، فَأَمَّا مَا هُوَ مُتَأَخِّرٌ أَقْوَى
مِمَّا هُوَ مُتَقَدِّمٌ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُقَارِنُ
الشَّرْطَ الَّذِي هُوَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ
فَيُضَافُ الْحُكْمُ إلَيْهِ، فَهُوَ شَرْطٌ فِي مَعْنَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ حَالَ نُزُولِ الْجَزَاءِ الْمُفْتَقِرِ
إلَى الْمِلْكِ وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَنْ وَجْهِ
قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إنَّ
الشَّرْطَيْنِ شَيْءٌ وَاحِدٌ فِي وُجُودِ الْجَزَاءِ، وَفِي
أَحَدِهِمَا يُشْتَرَطُ الْمِلْكُ، وَكَذَا فِي الْآخَرِ.
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا الْعَلَامَةُ) هِيَ عَلَى مُقْتَضَى
تَفْسِيرِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا
تَعَلَّقَ بِالشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ تَأْثِيرٍ فِيهِ، وَلَا
تَوَقُّفٍ لَهُ عَلَيْهِ بَلْ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَدُلُّ
عَلَى وُجُودِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فَيُبَايِنُ الشَّرْطَ
وَالسَّبَبَ وَالْعِلَّةَ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهَا مَا يَكُونُ
عَلَمًا عَلَى الْوُجُودِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ
وُجُوبٌ وَلَا وُجُودٌ، إلَّا أَنَّهُمْ مَثَّلُوا فِيهِ
بِالْإِحْصَانِ مَعَ أَنَّ وُجُوبَ الرَّجْمِ مَوْقُوفٌ
عَلَيْهِ وَسَمَّاهُ بَعْضُهُمْ شَرْطًا فِيهِ مَعْنَى
الْعَلَامَةِ وَبَعْضُهُمْ شَرْطًا عَلَى الْإِطْلَاقِ
لِتَوَقُّفِ وُجُوبِ الرَّجْمِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا تَقَدُّمُهُ
عَلَى وُجُودِ الزِّنَا، فَلَا يُنَافِي ذَلِكَ، فَإِنَّ
تَأَخُّرَ الشَّرْطِ عَنْ صُورَةِ الْعِلَّةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ
بَلْ مِنْ الشُّرُوطِ مَا يَتَقَدَّمُهَا كَشُرُوطِ الصَّلَاةِ
وَشُهُودِ النِّكَاحِ كَذَا فِي الْكَشْفِ، وَهُوَ حَاصِلُ
الْإِشْكَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى -.
وَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ لُزُومَ التَّأَخُّرِ عَنْ صُورَةِ
الْعِلَّةِ إنَّمَا هُوَ فِي الشَّرْطِ التَّعْلِيقِيِّ،
وَأَمَّا الْحَقِيقِيُّ أَعْنِي مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ
الشَّيْءُ عَقْلًا، أَوْ شَرْعًا، فَقَدْ يَتَقَدَّمُ عَلَى
صُورَةِ الْعِلَّةِ كَشُرُوطِ الصَّلَاةِ وَشُهُودِ
النِّكَاحِ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ كَالْحَفْرِ الْمُتَأَخِّرِ
عَنْ وُجُودِ ثِقْلِ زَيْدٍ وَقَطْعِ الْحَبْلِ الْمُتَأَخِّرِ
عَنْ وُجُودِ ثِقْلِ الْقِنْدِيلِ، وَالْمُتَأَخِّرُ
لِكَوْنِهِ أَقْوَى بِوَاسِطَةِ اتِّصَالِهِ بِالْحُكْمِ
يُسَمَّى شَرْطًا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ، وَالْمُتَقَدِّمُ
لِعَدَمِ مُقَارَنَةِ الْحُكْمِ يُسَمَّى عَلَامَةً.
وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطٌ إلَّا
أَنَّهُ سُمِّيَ عَلَامَةً لِمُشَابَهَتِهِ الْعَلَامَةَ فِي
عَدَمِ الِاتِّصَالِ بِالْحُكْمِ، ثُمَّ ظَاهِرُ كَلَامِ
الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَحَلُّ نَظَرٍ:
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الشَّرْطَ التَّعْلِيقَيَّ قَدْ
يَكُونُ مُتَقَدِّمًا، وَإِنَّمَا الْمُتَأَخِّرُ ظُهُورُهُ
وَالْعِلْمُ بِهِ كَمَا فِي تَعْلِيقِ عِتْقِ الْعَبْدِ
بِكَوْنِ قَيْدِهِ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ. وَأَمَّا ثَانِيًا
فَلِأَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ شَرْطٍ مُتَقَدِّمٍ يُسَمَّى
عَلَامَةً كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ، وَلَا كُلُّ شَرْطٍ
مُتَأَخِّرٍ يَكُونُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ كَشُهُودِ
الْيَمِينِ عَلَى مَا سَبَقَ. وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّ
(2/295)
الْعِلَّةِ بِخِلَافِ الشَّرْطِ الَّذِي
هُوَ مُتَقَدِّمٌ فَالْإِحْصَانُ هُوَ الشَّرْطُ الَّذِي
يَكُونُ مُتَقَدِّمًا عَلَى الْعِلَّةِ وَيُسَمَّى هَذَا
الشَّرْطُ عَلَامَةً، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ مُضَافًا
إلَيْهِ لَا يَكُونُ فِي حُكْمِ الْعِلَّةِ فَيُمْكِنُ أَنْ
يَثْبُتَ بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ مَعَ أَنَّهُ
لَا يُثْبِتُ الْعِلَّةَ وَهِيَ الزِّنَا بِهَذِهِ
الشَّهَادَةِ، وَلَمَّا كَانَ لِي نَظَرٌ فِي كَوْنِ
الْإِحْصَانِ عَلَامَةً لَا شَرْطًا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ
قُلْت: (ثُمَّ إنْ كَانَ الْإِحْصَانُ عَلَامَةً لَا شَرْطًا)
أَيْ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهِ عَلَامَةً لَا شَرْطًا فِي
مَعْنَى الْعِلَّةِ (يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ
النِّسَاءِ. فَإِنْ قِيلَ: فَيَجِبُ أَنْ يَثْبُتَ أَيْضًا
بِشَهَادَةِ كَافِرَيْنِ شَهِدَا عَلَى عَبْدٍ مُسْلِمٍ زَنَى
وَمَوْلَاهُ كَافِرٌ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ)
أَيْ لَمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِحْصَانَ يَثْبُتُ
بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ مَعَ أَنَّ الزِّنَا
لَا يُثْبِتُ الْإِحْصَانَ بِشَهَادَةِ الْكَافِرَيْنِ أَيْضًا
إذَا شَهِدَا عَلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
الشَّرْطَ الَّذِي فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ قَدْ يَتَقَدَّمُ
عَلَى صُورَةِ الْعِلَّةِ كَمَا إذَا كَانَ وِلَادَةُ مَنْ
سَقَطَ فِي الْبِئْرِ بَعْدَ حَفْرِ الْبِئْرِ، فَإِنَّ
ثِقْلَهُ الَّذِي هُوَ الْعِلَّةُ قَدْ حَصَلَ بَعْدَ
الشَّرْطِ أَعْنِي إزَالَةَ الْإِمْسَاكِ عَنْ الْأَرْضِ.
(قَوْلُهُ: وَلَمَّا كَانَ لِي نَظَرٌ فِي كَوْنِ الْإِحْصَانِ
عَلَامَةً لَا شَرْطًا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ) لِقَائِلٍ أَنْ
يَقُولَ: كَوْنُهُ عَلَامَةً، وَإِنْ صَلَحَ مَحَلًّا
لِلنَّظَرِ إلَّا أَنَّهُ لَا خَفَاءَ فِي أَنَّهُ لَيْسَ
شَرْطًا فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ.
إذْ الشَّرْطُ إنَّمَا يَكُونُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ إذَا
لَمْ يُعَارِضْهُ عِلَّةٌ صَالِحَةٌ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ
إلَيْهَا كَالزِّنَا هَاهُنَا مَعَ أَنَّ الْإِحْصَانَ
عِبَارَةٌ عَنْ خِصَالٍ حَمِيدَةٍ بَعْضُهَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ
وَبَعْضُهَا مَأْمُورٌ بِهِ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فِي
مَعْنَى الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ الْمَحْضَةِ.
(قَوْلُهُ: فَإِنْ قِيلَ:) مَبْنَى هَذَا السُّؤَالِ عَلَى
الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْأَسْرَارِ وَهِيَ أَنَّ
عِتْقَ هَذَا الْعَبْدِ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ
الْكَافِرَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا حُجَّةً عَلَى
هَذَا الْعِتْقِ لَوْلَا الزِّنَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ قَبُولَ
الشَّهَادَةِ فِي الْإِعْتَاقِ قَبْلَ: الزِّنَا يَسْتَلْزِمُ
إيجَابَ الرَّجْمِ عَلَى الْمُسْلِمِ ضَرُورَةَ تَحَقُّقِ
الْإِحْصَانِ، وَالْمَذْكُورُ فِي الْهِدَايَةِ وَأَكْثَرِ
الْكُتُبِ أَنَّهُ يَثْبُتُ الْعِتْقُ تَضَرُّرًا عَلَى
الْمَوْلَى الْكَافِرِ، وَلَا يَثْبُتُ سَبْقُ تَارِيخِ
الْإِعْتَاقِ عَلَى الزِّنَا فِيهِ مِنْ تَضَرُّرِ الْمُسْلِمِ
بِوُجُوبِ الرَّجْمِ عَلَيْهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا تَتَضَمَّنُ ثُبُوتَ
الْعِتْقِ وَتَقَدُّمَهُ عَلَى الزِّنَا وَضَرَرُ الْأَوَّلِ
يَرْجِعُ إلَى الْكَافِرِ فَتُقْبَلُ وَالثَّانِي إلَى
الْمُسْلِمِ، فَلَا تُقْبَلُ.
(قَوْلُهُ: وَهُنَا لَا يُثْبِتُهَا) أَيْ فِي صُورَةِ ثُبُوتِ
الْإِحْصَانِ بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ لَا
تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ الْعُقُوبَةُ؛ لِأَنَّ
الْإِحْصَانَ عَلَامَةٌ لَا عِلَّةٌ، أَوْ سَبَبٌ، أَوْ شَرْطٌ
فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ لِيَكُونَ إثْبَاتُهُ إثْبَاتَ
الْعُقُوبَةِ.
قَوْلُهُ: " وَهُوَ " يَصْلُحُ الضَّمِيرُ لِلشَّهَادَةِ
تَذْكِيرُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَصْدَرَ فِي مَعْنَى أَنْ
مَعَ الْفِعْلِ.
(قَوْلُهُ: وَهُوَ مَا ذُكِرَ) أَيْ إضْرَارُ الْمُسْلِمِ فِي
هَذِهِ الصُّورَةِ تَكْذِيبُهُ فِي ادِّعَائِهِ الرِّقَّ
وَدَفْعُ إنْكَارِهِ لِاسْتِحْقَاقِهِ الرَّجْمَ وَحَاصِلُ
الْكَلَامِ أَنَّ امْتِنَاعَ قَبُولِ شَهَادَةِ
(2/296)
عَبْدٍ مُسْلِمٍ زَنَى بِأَنَّ مَوْلَاهُ
أَعْتَقَهُ وَالْحَالُ أَنَّ مَوْلَاهُ كَافِرٌ فَتَكُونُ
الشَّهَادَةُ عَلَى الْمَوْلَى الْكَافِرِ فَتُقْبَلُ
فَيَثْبُتُ عِتْقُهُ وَالْحُرِّيَّةُ مِنْ شَرَائِطِ
الْإِحْصَانِ فَيَثْبُتُ إحْصَانُهُ بِشَهَادَةِ الْكَافِرِ.
(قُلْنَا لِشَهَادَةِ النِّسَاءِ خُصُوصٌ بِالْمَشْهُودِ بِهِ
دُونَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ) أَيْ فِي عَدَمِ الْقَبُولِ
فَإِنَّ الْعُقُوبَاتِ لَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ
مَعَ النِّسَاءِ (فَإِنَّهَا لَا تُثْبِتُ الْعُقُوبَةَ
وَهُنَا لَا تُثْبِتُهَا؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ لَيْسَ إلَّا
عَلَامَةً لَكِنْ يَتَضَمَّنُ ضَرَرًا بِالْمَشْهُودِ
عَلَيْهِ) ، وَهُوَ تَكْذِيبُهُ وَرَفْعُ إنْكَارِهِ
بِمَنْزِلَةِ الْكَافِرِ (وَهِيَ تَصْلُحُ لِذَلِكَ) أَيْ
شَهَادَةُ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ تَصْلُحُ لِلضَّرَرِ
عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُسْلِمُ.
(وَشَهَادَةُ الْكُفَّارِ بِالْعَكْسِ) فَإِنَّهَا لَا
تَصْلُحُ عَلَى الْمُسْلِمِ وَهِيَ تَتَضَمَّنُ ضَرَرًا
بِالْمُسْلِمِ أَيْ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ فِي هَذِهِ
الصُّورَةِ تَتَضَمَّنُ ضَرَرًا بِالْمُسْلِمِ، وَهُوَ
الْعَبْدُ الَّذِي أَثْبَتُوا حُرِّيَّتَهُ لِيَثْبُتَ
عَلَيْهِ الرَّجْمُ (فَلَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ) أَيْ لَا
تَصْلُحُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ لِلْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِ،
وَهُوَ مَا ذُكِرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
النِّسَاءِ لِخُصُوصِيَّةٍ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ، وَهُوَ
الْحَدُّ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ فِي الْإِحْصَانِ لِأَنَّهُ
عَلَامَةٌ لَا مُوجِبٌ وَامْتِنَاعُ قَبُولِ شَهَادَةِ
الْكُفَّارِ لِخُصُوصِيَّةٍ فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ
كَوْنُهُ مُسْلِمًا، فَلَا يُقْبَلُ فِي الصُّورَةِ
الْمَذْكُورَةِ لِتَضَرُّرِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ، فَإِنَّ
الرِّقَّ مَعَ الْحَيَاةِ خَيْرٌ مِنْ الْعِتْقِ مَعَ
الرَّجْمِ.
(قَوْلُهُ: وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - لَا تُقْبَلُ) شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ فِي
الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ فِي حَقِّنَا
لَيْسَتْ بِعَلَامَةٍ بَلْ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ
الْمُثْبِتَةِ لِلنَّسَبِ ضَرُورَةَ أَنَّا لَا نَعْلَمُ
ثُبُوتَ النَّسَبِ إلَّا بِهَا فَيُشْتَرَطُ لِإِثْبَاتِهَا
كَمَالُ الْحُجَّةِ رَجُلًا، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ
بِخِلَافِ مَا إذَا وُجِدَ الْفِرَاشُ الْقَائِمُ، أَوْ
الْحَبَلُ الظَّاهِرُ، أَوْ إقْرَارُ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ،
فَإِنَّ كُلًّا مِنْ ذَلِكَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ يُسْتَدَلُّ
إلَيْهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ فَتَكُونُ الْوِلَادَةُ عَلَامَةَ
مَعْرِفَةٍ.
(قَوْلُهُ: وَإِذَا عَلَّقَ بِالْوِلَادَةِ طَلَاقَ) يَعْنِي
فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْحَبَلُ ظَاهِرًا، وَلَا الزَّوْجُ
مُقِرًّا بِهِ إذْ لَوْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا فَعِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ
إقْرَارِهَا بِالْوِلَادَةِ كَمَا فِي تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ
بِالْحَيْضِ وَوَجْهُ إيرَادِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هَاهُنَا
أَنَّ الْوِلَادَةَ عَلَامَةٌ لِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَإِنْ
جُعِلَتْ شَرْطًا تَعْلِيقًا فَيُعْتَبَرُ عِنْدَهُمَا جَانِبُ
كَوْنِهِ عَلَامَةً حَتَّى يَثْبُتَ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ
فَيَثْبُتَ مَا يَتْبَعُهَا مِنْ الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ،
وَعِنْدَهُ يُعْتَبَرُ جَانِبُ الشَّرْطِيَّةِ حَتَّى لَا
يَثْبُتَ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ،
أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَلَا امْتِنَاعَ فِي ثُبُوتِ
الْوِلَادَةِ فِي حَقِّ نَفْسِهَا لَا فِي حَقِّ وُقُوعِ
الطَّلَاقِ كَمَا أَنَّهُ لَا امْتِنَاعَ فِي ثُبُوتِ
ثِيَابَةِ الْأَمَةِ فِي نَفْسِهَا لَا فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ
الرَّدِّ عَلَى الْبَائِعِ فِيمَا إذَا اشْتَرَى أَمَةً عَلَى
أَنَّهَا بِكْرٌ فَادَّعَى الْمُشْتَرِي عَلَى أَنَّهَا
ثَيِّبٌ وَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ بِذَلِكَ.
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ لِلْوِلَادَةِ أَصْلًا وَوَصْفًا،
وَهُوَ كَوْنُهَا شَرْطًا وَالثَّابِتُ بِشَهَادَةِ
الْوَاحِدَةِ هُوَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي، وَأَمَّا
ثُبُوتُ النَّسَبِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ بِالْفِرَاشِ
الْقَائِمِ وَبِالْوِلَادَةِ يَظْهَرُ أَنَّ النَّسَبَ كَانَ
ثَابِتًا بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ وَقْتَ الْعُلُوقِ كَذَا فِي
شَرْحِ التَّقْوِيمِ.
(قَوْلُهُ: بِخِلَافِ الْجَلْدِ) جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: إنَّ
الْجَلْدَ وَرَدَّ الشَّهَادَةِ قَدْ رُتِّبَا عَلَى الرَّمْيِ
وَالْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4]
(2/297)
مِنْ تَكْذِيبِهِ وَرَفْعِ إنْكَارِهِ
بِمَنْزِلَةِ الْكَافِرِ.
(وَعَلَى هَذَا) أَيْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَلَامَةَ
لَيْسَتْ فِي حُكْمِ الْعِلَّةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ بِمَا
لَا يَثْبُتُ بِهِ الْعِلَّةُ.
(قَالَا إنَّ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ
تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ فِرَاشٍ) أَيْ فِي الْمَبْتُوتَةِ
وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا (وَلَا حَبَلٍ ظَاهِرٍ)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: مِنْ غَيْرِ فِرَاشٍ (وَلَا إقْرَارٍ
بِهِ) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ، وَلَا حَبَلٍ أَيْ بِلَا
إقْرَارِ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ (لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ)
هُنَا (أَيْ فِي شَهَادَةِ الْقَابِلَةِ) إلَّا تَعْيِينُ
الْوَلَدِ وَهِيَ مَقْبُولَةٌ فِيهِ أَيْ شَهَادَةُ
الْقَابِلَةِ مَقْبُولَةٌ فِي تَعْيِينِ الْوَلَدِ، (فَأَمَّا
النَّسَبُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ السَّابِقِ
فَيَكُونُ انْفِصَالُهُ عَلَامَةً لِلْعُلُوقِ السَّابِقِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لَا
تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبٌ ظَاهِرٌ كَانَ
النَّسَبُ مُضَافًا إلَى الْوِلَادَةِ فَشَرَطَ لِإِثْبَاتِهَا
كَمَالَ الْحُجَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا وُجِدَ أَحَدُ
الثَّلَاثَةِ) ،
وَهُوَ إمَّا الْفِرَاشُ وَإِمَّا الْحَبَلُ الظَّاهِرُ
وَإِمَّا إقْرَارُ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ.
(وَإِذَا عُلِّقَ بِالْوِلَادَةِ طَلَاقٌ تُقْبَلُ شَهَادَةُ
امْرَأَةٍ عَلَيْهَا فِي حَقِّهِ) أَيْ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ
(عِنْدَهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ الْوِلَادَةُ بِهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
الْآيَةَ، فَإِذَا كَانَ الْعَجْزُ عَلَامَةً فِي حَقِّ رَدِّ
الشَّهَادَةِ فَكَذَا فِي حَقِّ الْجَلْدِ فَيَنْبَغِي أَنْ
يُقَدَّمَ الْجَلْدُ عَلَى الْعَجْزِ لَا سِيَّمَا أَنَّ
الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ
عِنْدَ الشَّافِعِيِّ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّ قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا}
[النور: 4] عَطْفٌ عَلَى: {يَرْمُونَ} [النور: 4] فَيَكُونُ
شَرْطًا مِثْلَهُ كَمَا إذَا قِيلَ: إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ،
ثُمَّ كَلَّمْتِ زَيْدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ وَعَبْدِي حُرٌّ
كَانَ تَكَلُّمُ زَيْدٍ شَرْطًا لِلطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ
جَمِيعًا مِثْلَ الدُّخُولِ فِي الدَّارِ، فَلَوْ جَعَلَ
مُجَرَّدَ الدُّخُولِ شَرْطًا فِي حَقِّ الْعِتْقِ لَزِمَ
إلْغَاءُ الشَّرْطِ الثَّانِي فِي حَقِّهِ قُلْنَا لَوْ سَلِمَ
أَنَّ قَوْله تَعَالَى: وَلَا تَقْبَلُوا عَطْفٌ عَلَى:
فَاجْلِدُوهُمْ لَا عَلَى مَجْمُوعِ الْجُمْلَةِ
الِاسْمِيَّةِ، فَإِنَّمَا جَعَلْنَا الْعَجْزَ عَنْ إقَامَةِ
الْبَيِّنَةِ لَغْوًا فِي حَقِّ رَدِّ الشَّهَادَةِ لِمَا
لَاحَ مِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ فِي حَقِّهِ عَلَامَةٌ
لَا شَرْطٌ حَقِيقِيٌّ، وَفِي حَقِّ الْجَلْدِ شَرْطٌ لَا
عَلَامَةٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقَذْفَ فِي نَفْسِهِ كَبِيرَةٌ
فَيَكْفِي فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ. وَتَقَدُّمُ الْجَلْدِ
عَلَى الْعَجْزِ لَيْسَ بِمُمْكِنٍ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ
فَيَكُونُ شَرْطًا.
(قَوْلُهُ: قُلْنَا) يَعْنِي لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْقَذْفَ
فِي نَفْسِهِ كَبِيرَةٌ مُوجِبَةٌ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ بَلْ
هُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ جِنَايَةً فَيَكُونَ
فِسْقًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى
مَنْعًا لِلْفَاحِشَةِ، وَلَوْ كَانَ فِي نَفْسِهِ كَبِيرَةً
وَفَاحِشَةً لَمْ تَكُنْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ مَقْبُولَةً
أَصْلًا.
فَإِنْ قِيلَ: لَمَّا احْتَمَلَ الْحِسْبَةَ، وَلَمْ يَكُنْ
جِنَايَةً مَحْضَةً كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهِ
الْحَدُّ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ.
قُلْنَا: هُوَ وَإِنْ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ حِسْبَةً إلَّا
أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ
صَادِقًا إلَّا أَنْ يُوجَدَ الشُّهُودُ فِي الْبَلَدِ،
فَإِذَا مَضَى زَمَانٌ يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْضَارِ الشُّهُودِ،
وَهُوَ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَإِلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ، وَهُوَ الْمَجْلِسُ الثَّانِي
فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -،
وَلَمْ يُحْضِرْهُمْ صَارَ الْقَذْفُ كَبِيرَةً مُقْتَصِرَةً
عَلَى الْحَالِ لَا مُسْتَنِدَةً إلَى الْأَصْلِ لِاحْتِمَالِ
أَنَّهُ قَذْفٌ وَلَهُ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ إلَّا
(2/298)
يَثْبُتُ مَا كَانَ تَبَعًا لَهَا. لَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ شَرْطٌ
لِلطَّلَاقِ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا الْوُجُودُ فَيُشْتَرَطُ
لِإِثْبَاتِهِ) أَيْ لِإِثْبَاتِ الشَّرْطِ (مَا يُشْتَرَطُ
لِإِثْبَاتِ حُكْمِهِ) ، وَهُوَ الطَّلَاقُ (كَمَا فِي
الْعِلَّةِ) فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ لِإِثْبَاتِ الْعِلَّةِ مَا
يُشْتَرَطُ لِإِثْبَاتِ حُكْمِهَا.
(عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحُجَّةَ ضَرُورِيَّةٌ، فَلَا
تَتَعَدَّى) أَيْ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ حُجَّةٌ
ضَرُورِيَّةٌ لَا تُقْبَلُ إلَّا فِيمَا لَا يَطَّلِعُ
عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَهُوَ الْوِلَادَةُ، فَلَا تَتَعَدَّى
عَنْهُ إلَى مَا لَا ضَرُورَةَ فِيهِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ؛
لِأَنَّ الطَّلَاقَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ،
فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَاحِدَةِ. (كَمَا فِي
شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى ثِيَابَةِ أَمَةٍ
بِيعَتْ عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ) فِي حَقِّ الرَّدِّ فَإِنَّ
شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ لَا تُقْبَلُ فِي حَقِّ الرَّدِّ وَإِنْ
كَانَتْ مَقْبُولَةً فِي حَقِّ الْبَكَارَةِ وَالثِّيَابَةِ
فَكَذَا هُنَا (بَلْ يُحَلَّفُ الْبَائِعُ. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: الْأَصْلُ فِي
الْمُسْلِمِ الْعِفَّةُ وَالْقَذْفُ كَبِيرَةٌ، ثُمَّ
الْعَجْزُ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يُعَرِّفُ ذَلِكَ)
أَيْ كَوْنَهَا كَبِيرَةً أَيْ يَتَبَيَّنُ بِالْعَجْزِ عَنْ
إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَنَّ الْقَذْفَ حِينَ وُجِدَ كَانَ
كَبِيرَةً (لَا أَنَّهُ يَصِيرُ كَبِيرَةً عِنْدَ الْعَجْزِ
فَيَكُونُ الْعَجْزُ عَلَامَةً لِجِنَايَةٍ فَيَثْبُتُ سُقُوطُ
الشَّهَادَةِ، وَهُوَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
أَنَّهُ عَجَزَ عَنْ إحْضَارِهِمْ لِمَوْتِهِمْ، أَوْ
غَيْبَتِهِمْ، أَوْ امْتِنَاعِهِمْ عَنْ الْأَدَاءِ، وَإِذَا
كَانَ ثُبُوتُ الْفِسْقِ وَرَدُّ الشَّهَادَةِ مُقْتَصِرًا
عَلَى حَالِ الْعَجْزِ كَانَ الْعَجْزُ شَرْطًا لَا عَلَامَةً.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ الْقَذْفُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ
الْحِسْبَةِ وَالْجِنَايَةِ فَكَمَا اُعْتُبِرَ جِهَةُ
الْجِنَايَةِ رِعَايَةً لِجَانِبِ الْمَقْذُوفِ بِإِقَامَةِ
الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ جِهَةُ
الْحِسْبَةِ رِعَايَةً لِجَانِبِ الْقَاذِفِ.
قُلْنَا: قَدْ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ فِي أَنَّهُ إنْ أَتَى
بِالْبَيِّنَةِ عَلَى زِنَا الْمَقْذُوفِ قَبْلَ تَقَادُمِ
الْعَهْدِ أُقِيمَ الْحَدُّ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَتَى بِهَا
بَعْدَهُ بَطَلَ رَدُّ شَهَادَةِ الْقَذْفِ وَصَارَ مَقْبُولَ
الشَّهَادَةِ لَكِنْ لَمْ يُقَمْ الْحَدُّ عَلَى الْمَقْذُوفِ؛
لِأَنَّ تَقَادُمَ الْعَهْدِ شُبْهَةٌ يُدْرَأُ بِهَا الْحَدُّ
وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ التَّقَادُمِ فَأَشَارَ فِي
الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إلَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَفَوَّضَهُ
أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - إلَى رَأْيِ
الْقَاضِي فِي كُلِّ عَصْرٍ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مُقَدَّرٌ
بِشَهْرٍ. |