شرح تنقيح الفصول ـ[شرح تنقيح الفصول]ـ
المؤلف: أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن
المالكي الشهير بالقرافي (المتوفى: 684هـ)
المحقق: طه عبد الرؤوف سعد
الناشر: شركة الطباعة الفنية المتحدة
الطبعة: الأولى، 1393 هـ - 1973 م
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
(/)
الباب الأول في
الاصطلاحات
وفيه عشرون فصلاً
الفصل الأول في الحد
الحد: هو شرح ما دل عليه اللفظ بطريق الإجمال.
إنما بدأت بالحد في هذا الكتاب؛ لأن العلم إما تصور أو تصديق،
والتصديق مسبوق بالتصور، فكان التصور وضعه أن يكون قبل التصديق
والتصور إنما يكتسب بالحد كما أن التصديق لا يكتسب إلا
بالبرهان، فكان الحد متقدماً على التصور المتقدم على التصديق،
فالحد قبل الكل طبعاً، فوجب أن يقدم وضعاً: فلذلك تعين تقديم
الحد أول الكل، وهذا السبب أيضاً في تقديم الباب الأول في
الاصطلاحات؛ فإن الاصطلاحات هي الألفاظ الموضوعة للحقائق،
واللفظ هو المفيد للمعنى عند التخاطب، والمفيد قبل المفاد،
فاللفظ ومباحثه متقدمة طبعاً، فوجب أن تتقدم وضعاً.
فإن الغزالي في مقدمة المستصفي (1) : أخلف الناس في حد الحد
فقيل: حد الشيء هو نفسه وذاته، وقيل: هو اللفظ المفسر لمعناه
على وجه يجمع ويمنع. فقال ثالث. تصير حينئذ هذه المسألة مسألة
خلاف، وليس الأمر كما قال هذا الثالث؛ فإن القائلين الأولين لم
يتواردا على محل واحد، بل الأول اسم الحد
_________
(1) أنظر المستصفي ص 31 - 32 طبعة مكتبة الجندي، وإن كان
المعنى واحداً فإن التعبير مختلف.
(1/4)
عنده موضوع لمدلول لفظ الحد، والثاني: اسم
الحد عنده موضوع للفظ نفسه، ومتى كان المعنى مختلفاً لم يتوارد
فلا خلاف بينهما. . قال: والمختار عندي أن الشيء له في الوجود
أربع رتب - حقيقة في نفسه وثبوت مثاله في الذهن ويعبر عنه
بالعلم التصوري. الثالث: تأليف أصوات بحروف تدل عليه وهي
العبارة الدالة على المثال الذي في النفس. الرابع: تأليف رقوم
تدرك بحاسبة البصر دالة على اللفظ وهي الكتابة، والكتابة تبع
اللفظ إذ تدل عليه، واللفظ تبع للعلم، والعلم تبع للمعلوم.
فهذه الأربعة متطابقة متوازية، إلا أن الأولين وجوديان حقيقيان
لا يختلفان في الأعصار والأمم، والآخرين وهما اللفظ والكتابة
يختلفان في الأعصار والأمم لأنهما موضوعان بالاختيار. والحد
مأخوذ من المنع، وإنما أستعبر لهذه المعاني لمشابهتها في معنى
المنع.
قلت ومنه سمي السجان حداداً لأنه يمنع المعتقل من الخروج من
السجن، وسميت الحدود حدوداً لأنها تمنع الجناة من العودة إلى
الجنايات.
قال: فانظر أين تجد المشابهة في هذه الأربعة، فإذا ابتدأت
بالحقيقة لم تشك في أنها حاضرة للشيء بخصوصه، لأنه حقيقة كل
شيء ليست لغيره وثابتة له فهي جامعة مانعة، وإذا نظرت إلى
الصورة الذهنية وجدتها أيضاً كذلك والعبارة أيضاً كذلك لأنها
مطابقة للعلم المطابق للحقيقة والمطابق للمطابق مطابق،
والكتابة مطابقة للفظ المطابق فهي مطابقة، فقد وجدنا المنع
والجمع في الكل، غير أن العادة لم تجر بإطلاق اسم الحد على
الكتابة ولا على العلم، بل اللفظ والحقيقة فقط؛ فاللفظ مشترك
بينهما، وكل واحد منهما يسمى حداً، واللفظ المشترك لا بد لكل
مسمى من مسمياته من حد يخصه، فمن حد المعنى الأول قال القول
الشارح: ومن حد الثاني قال حقيقة الشيء ونفسه. قلت: قال غيره
لكل حقيقة أربع وجودات: وجود في الأعيان ووجود في الأذهان
ووجود في البيان ووجود في البنان. يريد الأربعة المتقدمة.
مسألة: قال هل يجوز أن يكون للشيء الواحد حدان؟ قال أما اللفظي
والرسمي فلا ينضبط عددهما لإمكان تعدد اللفظ الدال على الشيء
وجواز تعدد
(1/5)
لوازم الشيء، فمن كل لازم رسم، ومن كل لفظ
يؤلف دلالة. قلت: ومعنى قولنا في حد الحد: إنه شرح ما دل عليه
اللفظ، نعني باللفظ لفظ السائل، فإنه إذا قال: ما حقيقة
الإنسان؟ فقلنا له هو الحيوان الناطق، فهو إن كان عالماً
بالحيوان وبالناطق فهو عالم بالإنسان وإنما سمع لفظ الإنسان
ولم يعلم مسماه وعلم أن له مسمى غير معنى؟
فبسطنا له نحن ذلك المسمى المجهول وقلنا له: هو الحيوان الناطق
فصال مفصلاً ما كان عنده مجملاً بالنظر إلى اللفظ لا بالنسبة
إلى مسمى اللفظ في نفسه، ولا بالنسبة إلى الحقيقة، وإن فرضناه
جاهلاً بحقيقة الإنسان فقد حددنا له بما هو مجهول عنده، فوجب
حينئذ أن يكون حدنا باطلاً، لأن التحديد بالمجهول لا يصح، لكنه
صحيح فدل ذلك على أنه كان عالماً بالحقيقة، فما أفاده حينئذ أن
يكون حدنا باطلاً، لأن التحديد بالمجهول لا يصح، لكنه صحيح فدل
ذلك على أنه كان عالماً بالحقيقة، فما أفاده حينئذ لفظنا إلا
بيان نسبة اللفظ إلى المعنى الذي يسأل عنه. .
فإن قلت: هل يتصور أن يكتسب بالحد حقيقة مجهولة فإن ما ذكرته
يمنع من ذلك؟ قلت: لا شك أن من لم يعرف الحبر قط إذا سأل عنه
يمكننا أن نقول له: هل تعرف الزاج
والعفص والسواد والماء؟ (1) فيقول: نعم، فنقول له: اعلم أنه
عبارة عن ماء العفص والزاج يجمع بينهما فيحدث حينئذ السواد،
فهذا هو الحبر؛ فيئول الحال إلى تعريف الهيئة الاجتماعية من
هذه البسائط المعلومة له، أما تعرفه بما يجهله فلا سبيل إليه،
والهيئة الاجتماعية وقعت في نفسه بعد أن كانت مجهولة، بخلاف
المثال المتقدم في الإنسان، ومع هذا فلا تخرج من هذه الصورة عن
الحد المتقدم، وإنما شرحنا ما كان مجملاً بألفاظ بسائط الزاج
وغيره.
وهو غير المحدود إن أريد به اللفظ وعينه إن أريد به المعنى.
هذا هو إشارة على القولين المتقدمين اللذين حكاهما الغزالي،
ولا شك أن لفظ الحيوان والناطق الذي وقع في التحديد هو غير
الإنسان، ومدلول هذا اللفظ هو عين الإنسان.
_________
(1) هي المواد المكونة للحبر
(1/6)
وشرطه أن يكون جامعاً لجملة أفراد المحدود
مانعاً من دخول غيره معه.
الحد أربعة أقسام: جامع مانع، ولا جامع ولا مانع، وجامع غير
مانع، ومانع غير جامع. وأمثِّلها كلها بالإنسان. فقولنا
الحيوان الناطق في حد الإنسان هو الجامع المانع. وقولنا في
حده: هو الحيوان الأبيض ما جمع، لخروج الحبشة وغيرهم من
السودان، وغير مانع لدخول الإبل والغنم والخيل والطير البيض.
وقولنا في حده: هو الحيوان جامع غير مانع، فجمع جميع أفراد
الإنسان لم يبق إنسان حتى دخل في لفظ الحيوان، وما منع الدخول
الفرس وغيره في حده. وقولنا في حده هو الحيوان، الرجل ما منع
لأنه لا يتناول هذا اللفظ إلا الإنسان، وغير جامع لخروج النساء
والصبيان وغيرهم منه، فهذه الأربعة ليس فيها صحيح غلا الأول
وهو الجامع المانع، والثلاثة الأخر باطلة لعدم الجمع أو عدم
المنع أو عدمهما، والحد إنما أريد للبيان، وليس بيان الحقيقة
بأن يترك بعضها لم يتناوله الحد، فيعتقد السائل أنه ليس منها
أو يدخل معها غيرها فيعتقد أنه منها فيقع في الجهل، وإنما قصد
الخروج منه بسؤالنا، وهذا الشرط يشمل الحدود والرسوم وتبديل
اللفظ باللفظ على ما سيأتي. وقولنا جامع هو معنى قولنا مطرد،
وقولنا مانع هو معنى قولنا منعكس، فالجامع المانع هو: المطرد
المنعكس.
قاعدة: أربعة لا يقام عليها برهان، ولا يطلب عليها دليل ولا
يقال فيها لِمَ؟ فإن ذلك كله نمط واحد، وهي: الحدود والعوائد
والإجماع والاعتقادات الكائنة في النفوس، فلا يطلب دليل على
كونها في النفوس، فلا يطلب دليل على كونها في النفوس بل على
صحة وقوعها في نفس الأمر.
فإن قلت: فإذا لم يطالب على صحة الحد بالدليل ونحن قد نعتقد
بطلانه، فكيف الحيلة في ذلك؟.
قلت: الطريق في ذلك أمران. أحدهما: النقص كما لو قال: الإنسان
عبارة عن الحيوان، فيقال له: ينتقض عليك بالفرس فإنه حيوان مع
أنه ليس بإنسان. وثانيهما: المعارضة كما لو قال: الغاصب من
الغاصب يضمن لأنه غاصب، أو ولد
(1/7)
المغصوب مضمون لأنه مغصوب؛ لأن الغاصب هو
من وضع يده بغير حق، وهذا وضع يده بغير حق فيكون غاصباً،
فنقول: تعارض هذا الحد بحد آخر وهو أن الغاصب هو رافع اليد
المحقة وواضع اليد المبطلة وهذا لم يرفع يداً محقة فلا يكون
غاصباً.
ويحترز فيه من التحديد بالمساوى والأخفى وما لا يعرف إلا بعد
معرفة المحدود والإجمال في اللفظ.
المراد بالمساوى أي في الجهالة كما لو سئلنا عن العرفج فنقول
هو العرفجين وهما متساويان عند السامع في الجهالة، والأخفى نحو
ما البقلة الحمقاء فيقال هي العرفج؛ فإن البقلة الحمقاء هي
أشهر عند السامع من العرفج والعرفجين. والجميع هي البقلة
المسماة بالرجلة التي جرت عادة الأطباء يصفون بزرها لتسكين
العطش، ونظير هذه التعريفات في الحدود: التزكية عند الحاكم،
فإذا طلب تزكية من لا يعرفه البتة فزكاه رجل آخر لا يعرفه
البتة لا يحصل المقصود. أو أتاه من يزكي وهو لا يعرفه البتة
ولا رآه أصلاً، والأول رآه الحاكم، فإذا طلب تزكية من لا يعرفه
البتة فزكاه رجل آخر لا يعرفه البتة لا يحصل المقصود. أو أتاه
من يزكى وهو لا يعرفه البتة ولا رآه أصلاً، والأول رآه الحاكم
يصلي في المسجد، فهذا الثاني أخفى من الأول، وفي المثال الأول
مساو، فكذلك في الحدود لا يحصل المقصود بالتعريف، كما لم يحصل
المقصود بتلك التزكية.
وأمّا ما لا يعرف إلا بعد معرفة المحدود فهو قسمان، تارة لا
يعرف إلا بعد معرفته بمرتبة وتارة بمراتب. مثال الأول: قولنا
في حد العلم هو معرفة المعلوم على ما هو به، مع أن المعلوم
مشتق من العلم، والمشتق لا يعرف إلا بعد معرفة المشتق منه، فلا
يعرف المعلوم إلا بعد معرفة العلم، والعلم لا يعرف إلا بعد
معرفة المعلوم لوقوعه في حد العلم فيلزم الدَّور، وكذلك قولنا:
الأمر هو القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به،
فالمأمور والمأمور به مشتقان من الأمر، فتعريف الأمر بهما دور
كما تقدم، وكذلك الطاعة تعرف بأنها موافقة الأمر، فلا تعرف إلا
بعد معرفة الأمر، فتعريف الأمر بها دور.
القسم الثاني: وهو ما لا يعرف المحدود إلا بعد معرفته بمراتب
نحو قولنا
(1/8)
ما الزوج؟ فيقول الاثنان، فيقال ما
الاثنان؟ فيقول المنقسم بمتساويين، فيقال ما المنقسم
بمتساويين؟ فيقال الزوج، وقد عرفنا الزوج بما لا يعرف إلا بعد
معرفته بمراتب، فهو أشد فساداً من القسم الأول.
وكان الخسروشاهي يجيب عن القسم الأول في تلك الحدود فيقول: هي
صحيحة لأن الحد هو شرح ما دل اللفظ الأول عليه بطريق الإجمال
فجاز أن يكون السائل يعرف معنى المعلوم ولا يعرف لفظ العلم لأي
شيء وضع، فيسأل عن مسمى العلم ما هو.
فإذا قيل له هو معرفة المعلوم على ما هو به وهو يعلم مدلول هذه
الألفاظ ويجهل مدلول لفظ العلم حصل مقصوده من غير دور، وكذلك
القول في المأمور والمأمور به، وأما الإجمال في اللفظ فهو أن
يقال ما العسجد؟ فيقال العين، مع أن العين لفظ مشترك بين الذهب
وعين الماء وعين الشمس والحدقة وعين الميزان وغيرها، وكل مشترك
مجمل فلا يحصل مقصود السائل من البيان، بل ينبغي أن يقول: هو
الذهب.
وقال جماعة ممن تكلم عن الحد لا يجوز أن يدخل في لفظ الحد:
المجاز، وقال الغزالي في مقدمة المستصفي «يجوز دخول المجاز إذا
كان معروفاً بالقرائن الحالية أو المقالية لحصول البيان حينئذ
فلا يختل المقصود، وإنما المحظور فوات المقصود من البيان» (1)
.
وكذلك أقول أنا أيضاً في اللفظ المشترك أنه يجوز وقوعه في
الحدود إذا كانت القرائن تدل على المراد به، فإنا إذا قلنا:
العدد إما زوج أو فرد، فإنا لا نفهم من هذا الكلام إلا التنويع
مع أن لفظة (أو) مشتركة بين خمسة أشياء؛ التخيير والإباحة
والشك والإبهام والتنويع (2) ، وكذلك إذا قلنا العالم إمَّا
جماد
_________
(1) أنظر المستصفي ص 30 وما بعدها طبعة مكتبة الجندي.
(2) المعروف أن أو حرف من حروف اعطف وتفيد هذه المعاني الخمسة
التي ذكرها المؤلف فمثال التخيير: تزوج هنداً أو أختها. وهي
اتي تأتي بعد الطلب فلا يجوز له الجمع بينهما ومثال الإباحة:
ذاكر النحو أو الفقه. ومثال الشك قوله تعالى «لبثنا يوماً أو
بعض يوم» ومثال الإبهام «وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال
مبين» وقد ذكر له المتأخرون معاني انتهت إلى اثني عشر. أنظر
حاشية العلامة الدسوقي صفحة 65 وما بعدها.
(1/9)
أو نبات أو حيوان لم يفهم أحد إلا التنويع
لقرينة هذا السياق، فإذا وقع مثل هذه السياقات في الحدود لا
يخل بالبيان فيجوز.
واتفقوا على أن النكايات لا تجوز في الحدود لأنها أمر باطن لا
يطلع السائل عليه فلا
يحصل له البيان فيقع الخلل جزماً، فلا يجوز أن يريد معنى لا
يدل عليه لفظه ولا يعذر بذلك، بل لا بد من التصريح.
قال الغزالي: الخلل يقع في الحدود من ثلاثة أوجه، تارة من جهة
الجنس وتارة من جهة الفصل وتارة من أمر مشترك بينهما؛ أما من
جهة الجنس فبأن يؤخذ الفصل بدله كما يقال في العشق: إنه إفراط
المحبة، بل ينبغي أن يقال إنه المحبة المفرطة، فالإفراط هو
الفصل ينبغي أن يؤخر، أو يؤخذ المحل بدل الجنس، كقولنا: الكرسي
خشب يجلس عليه، أو السيف حديد يقطع بها، بل يقال آلة آلة
صناعية من حديد مستطيلة عرضها كذا يقطع بها كذا؛ فالآلة جنس
والحديد محل الصولة لا جنس، وأبعد من ذلك أن يؤخذ بدل الجنس ما
كان في الماضي وعدم الآن؛ كقولنا في الرماد إنه خشب محترق
والولد نطفة مستحيلة، أو يؤخذ الجزء بدل الجنس نحو العشرة خمسة
وخمسة، أو توضع القدرة موضع المقدور نحو: العفيف هو الذي يقوى
على اجتناب اللذات الشهوانية بل هو الذي تركها، لأن الفاسق
يقوى على الترك، أو توضع اللوازم التي ليست ذاتية بدل الجنس
كالواحد والموجود إذا أخذته في حد الشمس أو الأرض، أو يوضع
النوع مكان الجنس كقولنا الشر ظلم الناس، والظلم نوع من الشر.
وأما من جهة الفصل فبأن نأخذ اللوازم والعرضيات بدل الذاتيات
وأن لا نورد جميع الفصول.
قلت: كقولنا في حد الحيوان: إنه الجسم الحساس ونترك المتحرك
بالإرادة وهو من جملة الفصول التي ميزت الحيوان عن النبات.
قال: وأما الأمور المشتركة فذكر ما هو أخفى كقولنا الحادث ما
تعلقت به
(1/10)
القدرة القديمة أو مساوٍ في الخفاء نحو
العلم ما يعلم به، أو يعرف الضد بالضد نحو العلم ما ليس بظن
ولا جهل حتى يحصر الأضداد، وحد الزوج ما ليس بقرد فلا يحصل به
بيان؛ لأنه يدور، أو يؤخذ المضاف في حد المضاف إليه وهما
متكافئان في الإضافة نحو الأب من له ابن لاستوائهما في الجهل،
أو يؤخذ المعلول في حد العلة مع أنه لا يوجد المعلول إلا بها،
كقولنا: الشمس كوكب يطلع نهاراً، والنهار زمان تطلع فيه الشمس
إلى غروبها.
والمعرفات خمسة؛ الحد التام، والحد الناقص، الرسم التام،
والرسم الناقص، وتبديل لفظ بلفظ مرادف له هو أشهر منه عند
السامع، فالأول التعريف بجملة الأجزاء نحو قولنا الإنسان هو
الحيوان الناطق، والثاني التعريف بالفصل وحده وهو الناطق،
والثالث التعريف بالجنس والخاصة كقولنا الحيوان الضاحك،
والرابع بالخاصة وحدها
نحو قولنا هو الضاحك، والخامس نحو قولنا ما البُرَ فتقول
القمح.
تقدم أن الحد أصله في اللغة المنع ثم يقصد به في الاصطلاح بيان
الحقائق التصورية، فإذا قيل لك عرف حقيقة وحدها معناه بينها.
ولما كنت إذا قيل لك ما حدود دار زيد أو حددها لنا فإنك تذكر
جميع جهاتها وحدودها الأربعة إلى حيث تنتهي من الجهات الأربع،
فلو اقتصرت على بعضها لم تكن مكملاً للمقصود؛ فلذلك سموا ذكر
الأجزاء كلها حداً تاماً لاشتماله على جميع الأجزاء كاشتمال
تحديد الدار على جميع الجهات، والاقتصار على بعضها حداً
ناقصاً، فإن عدلنا عن جميع الأجزاء إلى اللوازم والخارجة عن
الحقيقة سموه بالرسم؛ أي هو علامة على الحقيقة وإن لم يكشف
عنها حق الكشف، كما إذا قلت دار زيد قبالة دار الأمير فإن هذا
علامة على دار زيد، وإن كنا لا نعلم بذلك ما يحيط بدار زيد ولا
مقادير تناهيها.
وإن اجتمع الجنس والخاصة فهو تام لاشتماله على القسمين، وإن
اقتصرت على الخاصة وحدها سموه ناقصاً؛ كاقتصارك على الفصل وحده
يسمى حداً ناقصاً، فهما متشابهان في ذلك.
(1/11)
واختلفت عبارة أهل هذا الشأن في الرسم
التام فقيل الجنس والخاصة، وعلى هذا الاصطلاح لا يكون للفصل
والخاصة اسم جامع مانع محصل للمقصود أكثر من الجنس لذكرك
الميز، والخاصة وهي الفصل، وقيل الرسم التام: ما اجتمع فيه
الداخل والخارج كيف كان، وعلى هذا يصدق الرسم التام عليهما،
والأول عليه الأكثرون. وأما الخامس فاشترطت فيه المرادفة
احترازاً من الرسم الناقص. والحد الناقص؛ فإنه تبديل لفظ بلفظ
وله اسم يخصه ليس من هذا القبيل.
وقولي هو أشهر منه عند السامع لأن الشهرة قد تنعكس فيقول
الشامي للمصري ما الفول فيقول له الباقلي لأنه اللفظ الذي
يعرفه الشامي. ويقل المصري لشامي ما الباقلي فيقول له الفول
لأنه اللفظ المشهور عند المصري. أما لو كان متساوياً في
الجهالة أو أخفى مل يصح البيان به، فلذلك اشترطت الشهرة وقيل
المرادفة احترازاً عن الحدود والرسوم؛ فإن مسمى كل لفظ منها
غير المحدود فلا ترادف، بخلاف هذا القسم (1) .
فوائد
الفائدة الأولى: أن المراد بالضاحك والكاتب ونحو ذلك من خصائص
الإنسان
الضاحك بالقوة دون الفعل؛ فإن الضحك بالقوة هو الموجود في جميع
أفراد الإنسان فيكون جامعاً مانعاً. أما الضحك بالفعل فقد يعرى
عنه كثير من أفراد الإنسان ويكون معبِّساً، فلا يكون الحد
جامعاً، بل المراد القوة التي هي القابلية دون الفعل الذي هو
الوجود والوقوع، وقس عليه غيره.
الفائدة الثانية: بأي ضابط يعرف الجزء الداخل من اللازم الخارج
حتى يمتاز الحد عن الرسم؟ وهذا مقام قد أشكل على جمع كثير من
الفضلاء فمنهم من يقول الناطق والضاحك سيان لأنهما صفتان
للإنسان فلم قلتم أحدهما فصل والآخر خاصة؟! ومنهم من يقول نحن
نعلم بالعقل الماهية المركبة وأجزاءها وما عدا ذلك فهو خارج
عنهما وهذا معلوم بالعقل ضرورة.
وليس الأمر كما قال الفريقان. بل الحق أن هذه الأمور لا تعلم
بالعقل فإن
_________
(1) هذه المصطلحات التي وردت في هذا الجزء من الكتاب تنظر في
علم المنطق قبل قراءة علم أصول الفقه.
(1/12)
العقل إنما يجد في العالم جواهر وأعراضاً
وصفات وموصوفات وقابليات ومقبولات، وكلها بالقياس إلى الأجسام
خارجة عنها، وباعتبار مجموعها - أعني الصفات والموصوفات - تكون
داخلة فيها، وليس في العقل إلا هذان القسمان، ولا يوجد داخل
وخارج البتة.
وإنما يتعين الداخل من الخارج بأحد طريقين: أحدهما أن يعلم عن
واضع اللفظ أنه وضع لأمرين فيعلم أن كل واحد منهما داخل في
المسمى، وأن ما عداهما خارج عنهما، كما فهم عن العرب أنهم
وضعوا الإنسان للحيوان الناطق فقط، فلذلك كان الناطق داخلاً
والضاحك خارجاً، فلو فهم عنهم أنهم وضعوا الللفظ للحيوان
والضاحك داخلاً فصلا، أو وضعوا الثلاثة كان كل واحد مهما
داخلاً وعلى هذا القانون.
الطريق الثاني: أن يخترع العقل ويفرض حقيقة مركبة من شيئين
فيكون ما عداهما خارجاً عنهما أما إذا لم يوجد فرض عقلي ولا
وضع لغوي استد باب معرفة الداخل والخارج فتأمل ذلك؛ فأكثر
الناس ينكره ويقول نحن نعلم أجزاء الحقيقة والمركبات وأجزاءها
في بعض المواضع بالضرورة فرض وضع أم لا: وقد دخل الغلط عليه من
جهة أن تلك المركبات إنما حصلت في ذهنه على تلك الصورة من جهة
مسميات الألفاظ، وتقرر في ذهنه من كل لفظ مسمى فيه أجزءا داخلة
وما عداها خارج عنها، ولما استكشف ذلك اعتقد أنه بالعقل وإنما
جاءه من جهة الوضع، فإذا قيل له ما مسمى السكنجبين نقول له
جزءان الخل والسكر وما نفعه للصفراء أو غير ذلك فأمور خارجة،
وذلك إنما جاءه من جهة وضع لفظ السكنجبين لهذين الجزأين على
الصفة المخصوصة فلو فرضناه موضوعاً لأربعين عقاراً
كان كل واحد منهما داخلاً في المسمى، أو وضع السكر وحده لم يكن
الخل داخلاً، فهذا تحرير الداخل والخارج.
الفائدة الثالثة: أن الناطق معناه عندهم المحصول للعلوم بقوة
الفكر فهو يرجع إلى قبول تحصيل العلوم بالفكر وهذه القابلية
مثل قابلية الضحك في أنها قابلية
(1/13)
ولا مميز إلا الوضع كما تقدم وليس مرادهم
بالناطق اللساني؛ لأن الأخرس والساكت عندهم إنسان، وعلى هذا
يبطل الحد بالجن والملائكة لأنهم أجسام حية لها قوة تحصل العلم
بالفكر، فيكون الحد غير مانع، وبعضهم تخيل هذا السؤال فقال:
الحيوان المائت، والنقض يرد كما هو؛ لأن الفريقين يموتان
كالإنسان.
الفائدة الرابعة: يشترط في هذه الخاصة الخارجة إذا اقتصر عليها
في التعريف أن تكون لازماً مساوياً للحدود، فإنها إن كانت أعم
كان الحد غير مانع أو أخص كان غير جامع، وأن تكون معلومة
للسامع لأن التعريف بالمجهول لا يصح.
الفائدة الخامسة: يجوز أن تكون هذه الخاصة مفردة كقوة الضحك
ومركبة كقولنا في الصقالبي إنه الضاحك الأبيض؛ فبالضاحك امتاز
عن جميع الحيوانات البهيمية وبالأبيض امتاز عن السودان.
الفائدة السادسة: قال الإمام فخر الدين القول بالتعريف محال
لأنه إما أن يعرف بنفس الشيء وهو محال لوجوب تقديم العلم
بالمعرف على العلم بالمعرف، فيلزم تقديم الشيء على نفسه أو
بالداخل وهو محال؛ لأنه إن عرف جميع الأجزاء فقد عرف نفسه، وهو
محال لما تقدم، أو ما عداه فيئول الحال إلى التعريف بالخارج
وسنبطله بأن ذلك الخارج لا يوجب التعريف، حتى يعلم أنه مساو
ليس في غيره، وكونه ليس في غيره متوقف على معرفته هو فيلزم
الدور، ولأنه كونه ليس في غيره يتوقف على تصور جميع الأغيار
على سبيل التفصيل وذلك محال لاستحالة تصور ما لا يتناهى على
التفصيل.
ولهذه النكتة قال إنه لا شيء من التصورات بمكتسب. والجواب عنده
أنه قد تقدم أن الحد هو شرح ما دل عليه اللفظ، فعل هذا التفسير
المعرف نسبة اللفظ المسمى وهو أمر خارج عنه سواء وقع التعريف
بالأجزاء أو بالخواص، أو يقع التعريف بهيئة صورية كما تقدم
التمثيل بالحبر (1) ؛ كذلك تقول الملك جسم لطيف
_________
(1) أنظر ص 6 من هذا الكتاب وهامشها.
(1/14)
شفاف مخلوق من نور معصوم عن الرذائل مطبوع
على الطهارة والطاعة؛ فيحصل في ذهن السامع هيئة صورية هي
المعرفة، ولا
أجد الحدود والرسوم وتبديل اللفظ يفيد غير هذين القسمين،
وكلاهما تعريف بالخارج، فلنقتصر بالبحث عليه والجواب عنه.
فنقول: إن الوصف الخارجي قد نعلم أنه من خصائص حقيقة بعينها
دون غيرها بالضرورة من غير ما ذكره من استقراء ما لا يتناهى،
كما نعلم أن الزوج والفرد من خصائص العدد لا يوجدان في غيره
البتة، وكذلك الكشف من خصائص العلم لا يوجد في غيره بالضرورة،
ومن خصائص الحياة تصحيح محلها لأنواع الإدراك وأن ذلك لا يوجد
في غيرها، ومن خصائص الإرادة ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر
من غير احتياج إلى مرجح آخر ولا يوجد ذلك في غيرها، وهو كثير.
فبمثل هذا يقع التعريف بأن يكون معلوماً، وما وضع لفظ المحدد
له غير معلوم، فلا دور ولا استقراء غير متناه، فاندفع السؤال
وأمكن اكتساب التصورات.
الفصل الثاني في تفسير أصول الفقه
فاصل الشيء ما منه الشيء لغة ورجحانه أو دليله اصطلاحاً فمن
الأول أصل السنبلة البرة. ومن الثاني الأصل براءة الذمة،
والأصل عدم المجاز والأصل بقاء ما كان على ما كان. ومن الثالث
أصول الفقه أي أدلته.
ورد على التفسير اللغوي أن لفظة (من) لفظ مشترك وكذلك لفظ (ما)
أيضاً، والمشترك لا يقع في الحدود لإجماله، وأيضاً فإن معاني
(من) كلها لا تصح هنا؛ لأن النخلة ليست بعض النواة إذ النخلة
أضعافها، ولا ابتداء الغاية ولا انتهاءها لأن من شأن المغيا أن
يتكرر قبل الغاية والنخلة لم تتكرر، ويلزم أن كل ما فهي ابتداء
غاية أن يكون أصلاً، فقولنا سرت من النيل إلى مكة أن يكون
النيل أصل السير لغة وليس كذلك. ولا بيان الجنس، فإن النخلة
ليست أعم من النواة حتى تتبين بالنواة فهذه ثلاثة أسئلة.
(1/15)
الجواب أنه قد تقدم أن الاشتراك والمجاز
يصح دخولهما في الحدود إذا كان السياق مرشداً للمراد، والمراد
(بما) هنا الموصولة، وبمن مجاز ابتداء الغاية وهو شبهة به من
حيث النشأة من النواة وابتداؤها كما يبتدأ السير: أو تقول
المراد مجاز التبعيض لا حقيقته، فإن النخلة بعضها من النواة لا
كلها فجعلناها كلها جزءاً من النواة توسعاً من باب إطلاق لفظ
الجزء على الكل (1) ، وكذلك قولنا أصل الإنسان نطفة وأصل
السنبلة برة،
ولهذه الأسئلة اختار سيف الدين قوله: «أصل الشيء ما يستند
وجوده إليه من غير تأثير، احترازاً من استناد الممكن للصانع
المؤثر» ، فذكرت في هذا الكتاب في الأصل ثلاثة معان: منها واحد
لغوي واثنان اصطلاحيان وبقي واحد لم أذكره هنا وذكرته في شرح
المحصول وهو ما يقاس عليه، فإن من جملة ما يسمى أصلاً في
الاصطلاح الأصل الذي يقاس عليه: كالحنطة يقاس عليها الأرز في
تحريم الربا، فيصير الأصل أربعة معان.
والفقه هو الفهم والعلم والشعر والطب لغة، وإنما اختصت بعض هذه
الألفاظ ببعض العلوم بسبب العرف.
كذلك نقله المازري في شرح البرهان، وتقول العرب رجل طب إذا كان
عالماً. وقال الشاعر:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب
أي عارف، وشعر بكذا إذا فهمه ومنه قوله تعالى: «وهم لا يشعرون»
(2) ، أي لا يفهمون، ثم بعد ذلك اختص الطب بمعرفة مزاج
الإنسان، والشعر بمعرفة الأوزان، والفقه بمعرفة الأحكام.
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: «الفقه في اللغة إدراك الأشياء
الخفية فلذلك
_________
(1) في نسخة مخطوطة: إطلاق لفظ الكل على الجزء.
(2) آيات كثيرة من القرآن فيها: وهم لا يشعرون. «فأخذناهم بغتة
وهم لا يشعرون» (9 الأعراف) ، «وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم
هذا وهم لا يشعرون» (15 يوسف) . . الخ.
(1/16)
نقول فقهت كلامك ولا تقول فقهت السماء
والأرض» وعلى هذا النقل لا يكون لفظ الفقه مرادفاً لهذه
الألفاظ وعلى نقل المازري يكون مرادفاً، والثاني هو الذي يظهر
لي، ولذلك خصص الفقهاء اسم الفقه بالعلوم النظرية، وأخرجت
شعائر الإسلام من لفظ الفقه وحده.
والفقه في الاصطلاح هو العلم بالأحكام الشرعية العملية
بالاستدلال.
فقولنا بالأحكام احترازاً من الذوات كالأجسام والصفات نحو
الأعراض والعاني كلها، وقولي الشرعية احترازاً عن العقلية
والحسية كأحكام الحساب نحو ثلاثة في ثلاثة بتسعة، وغير الحساب
كالهندسة والموسيقى وغيرهما.
وقول: العملية احترازاً عن الأحكام الشرعية العلمية كالأحكام
في أصول الفقه وأصولا لدين فإنها شرعية؛ لأن الله تعالى أوجب
علينا تعلم أصول الفقه لنبني عليها الفقه، وتعلم ما يجب الله
تعالى وما يستحيل عليه، وما يجوز وغير ذلك من أصول الدين.
وقولي بالاستدلال احترازاً عن المقلد، وعن شعائر الإسلام كوجوب
الصلاة والصيام
والزكاة وغير ذلك مما هو معلوم بالضرورة من غير استدلال،
فالعلم بها لا يسمى فقهاً اصطلاحاً لحصوله للعوالم والنساء
والبله.
ويرد عليه أسئلة.
أحدها: أن أكثر الفقه ظن لا علم فإنه مستنبط من الأقيسة وأخبار
الآحاد والعمومات، فيخرج أكثر الفقه من حد الفقه.
وثانيها: أن العملية إن أريد بها عمل الجوارح فقط خرج عنها
الأحكام المتعلقة بالقلوب مما هو فقه في الاصطلاح: كوجوب
النيات والإخلاص وتحريم الربا وغير ذلك، وإن أريد العملية كيف
كانت دخلت أعمال القلوب فيندرج علم الأصول.
(1/17)
وثالثها: أن الحاصل للمقلد إن لم يكن علماً
فقد خرج بقولنا أول الحد العلم بالأحكام، وإن كان علماً فهو
بالاستدلال؛ لأن الفتاوى ليست بديهة غنية عن النظر فتكون
استدلالية فلا يخرج بقيد الاستدلال.
ورابعها: أن لام التعريف في الأحكام إن أريد بها الاستغراق لزم
أن لا يكون فقيهاً حتى يعلم جميع الأحكام، أو للعهد فلا معهود
بيننا، لأنه لو خرج مجتهد وظهرت له تصانيف وأتباع سمي مذهبه
فقهاً وأتباعه فقهاء؛ وليس ذلك من المعهود.
والجواب عن الأول: أن كل حكم شرعي معلوم؛ لأن كل حكم شرعي ثابت
بالإجماع، وكل ما ثبت بالإجماع فهو معلوم، فكل حكم شرعي معلوم،
(1/18)
وإنما قلنا إن كل حكم شرعي ثابت بالإجماع
لأن الأحكام على قسمين منها ما هو متفق عليه فهو ثابت بالإجماع
ومنها ما هو مختلف فيه، فقد انعقد الإجماع على أن كل مجتهد إذا
غلب على ظنه حكم شرعي فهو حكم الله في حقه وحق من قلده إذا حصل
له سببه، فقد صارت الأحكام في مواقع الخلاف ثابتة بالإجماع عند
الظنون؛ فكل حكم شرعي ثابت بالإجماع.
وقولنا فهو حكم الله في حقه خير من قول من يقول: فقد وجب عليه
العمل بمقتضى ظنه، لأن الاجتهاد قد يقع في المباح فلا يجب
العمل به، وكذلك في المحرم والمكروه والمندوب، وإذا قلنا فهو
حكم الله في حقه اندرج الجميع. وقولنا إذا حصل له سببه،
احترازاً من اجتهاده في الزكاة ولا مال له، أو الجنايات ولا
جناية عليه ولا منه، أو في الحيض أو العِدد وليس هو امرأة حتى
يثبت ذلك في حقه، لكنه في الجميع بحيث لو فرض حصول سبب ذلك في
حقه كان حكم الله ذلك عليه وفي حقه. وأما إن كل ما هو ثابت
بالإجماع فهو معلوم فبناءً على أن الإجماع معصوم على ما
تقرر في موضعه، ولأن كل حكم شرعي ثابت بمقدمتين قطعيتين، وكل
ما ثبت بمقدمتين قطعيتين فهو معلوم/ فكل حكم شرعي معلوم.
وإنما قلنا إن كل حكم شرعي ثابت بمقدمتين قطعيتين لأنا نفرض
الكلام في حكم ونقرر فيه تقريراً ونجزم باطراده في جميع
الأحكام. فنقول: وجوب التدليك في الطهارة مظنون لمالك قطعاً
عملاً بالوجدان وكل ما ظنه مالك فهو حكم الله قطعاً عملاً
بالإجماع؛ فوجوب التدليك حكم الله قطعاً. وهذا التقرير يطرد في
جميع صور الخلاف فتكون كلها ثابتة بمقدمتين قطعيتين، وأما إن
كال ما ثبت بمقدمتين قطعيتين فهو معلوم فلأن النتيجة تابعة
للمقدمات، فثبت بهاتين الطريقتين أن كل حكم شرعي معلوم.
وعن الثاني: أنا نلتزم صحة السؤال ونقول: الحق ما ذكره سيف
الدين الآمدي وهو العلم بالأحكام الشرعية الفروعية الخ، ولا
نقول العملية؛ فإن الفروعية تشمل ما يتعلق به الفقه. . كان في
الجوارح أو القلب.
وعن الثالث: أن بعض المقلدين المطلع على انعقاد الإجماع في
وجوب اتباع المقلد للمفتى هو المقصود هنا بالخروج، والعلم حاصل
له بمقدمتين قطعيتين، إحداهما هذا أفتاني به المفتي عملاً
بالسماع، وكل ما أفتاني به المفتي فهو حكم الله عملاً
بالإجماع، فهذا حكم الله. وهذا الاستدلال يطرد له في جميع
موارد التقليد فيكون العلم حاصلاً له، غير أن هذا الدليل عام
في جميع صور التقليد، وأدله الفقه خاصة بأنواعه؛ فدليل الزكاة
غير دليل الصيام فلا فرق بينهما إلا باختصاص الأدلة بالأنواع،
وأما في أعيان المسائل فاشترك الفريقان في عدم الدليل عليها؛
فينبغي أن يزاد في الحد: بأدلة مختصة بالأنواع.
وعن الرابع أن اللام للعهد، وتقريره أن الخاصة والعامة مجمعون
على سلب الفقه عن جماعة في العالم وإثبات الفقه لجماعة في
العالم، فلولا تصور ما لأجله يسلبون ويثبتون وإلا لتعذر منهم
ذلك. فتلك الصورة الذهنية هي المشار إليها بلام العهد وهي جملة
غالبة معلومة عندهم، ولا تختص بكتاب ولا مذهب معين.
(1/19)
ويقال فقه بكسر القاف إذا فهم وبفتحها إذا
سبق غيرها للفهم وبضمها إذا صار الفقه له سجية (1) .
كذلك نقله ابن عطية في تفسيره، وقاعدة العرب أن اسم الفاعل من
فعَل وفعِل هو فاعل نحو ضرب فهو ضارب وسمع فهو سامع، ومن فعُل
فعيل نحو ظرف فهو ظريف وشرف فهو شريف، فلذلك كان فقيه من فقه
بالضم دون الآخرين.
الفصل الثالث في الفرق بين الوضع
والاستعمال والحمل
فإنها تلتبس على كثير من الناس، فالوضع يقال بالاشتراك على جعل
اللفظ دليلاً على المعنى كسمية الولد زيداً وهذا هو الوضع
اللغوي، وعلى غلبة استعمال اللفظ في المعنى حتى يصير أشهر فيه
من غيره وهذا هو وضع المنقولات الثلاثة الشرعي نحو الصلاة
والعرفي العام نحو الدابة والعرفي الخاص نحو الجوهر والعرض عند
المتكلمين. والاستعمال إطلاق اللفظ وإرادة مسماه بالحكيم وهو
الحقيقة، أو غير مسماه لعلاقة بينهما وهو المجاز. والحمل اتقاد
السامع مراد المتكلم من لفظه أو ما اشتمل على مراده
_________
(1) الفقه: العلم بالشيء والفهم له وغلب على علم الدين
لسيادته. قال ابن الأثير واشتقاقه من الشق والفتح.
... وقد جعله العرف خاصاً بعلم الشريعة شرفها الله تعالى
وتخصصاً بعلم الفروع منها. وقال غيره من علماء اللغة: الفقه في
الأصل: الفهم. قال الله تعالى «ليتفقهوا في الدين» أي ليكونوا
علماء به.
ودعا النبي b
لابن عباس فقال: «اللهم علمه الدين وفقهه في التأويل» أي فهمه
تأويله.
أنظر في ذلك المعاجم وكتب اللغة.
(1/20)
فالمراد كاعتقاد المالكي أن الله تارك
وتعالى أراد بلفظ القرء الطهر والحنفي أن الله تعالى أراد
الحيض (1) ، والمشتمل نحو حمل الشافعي رضي الله عنه اللفظ
المشترك على جملة معانيه عند تجرده عن القرآن لاشتماله على
مراد المتكلمين احتياطاً.
أريد بصيرورة شهرته على غيره أن يصير هو المتبادر إلى الذهن
ولا يحمل على غيره غلا بقرينة كحال الحقيقة اللغوية مع المجاز،
ولذلك أن المنقولات حقائق عرفية وشرعية ولكنها مجازات لغوية؛
فالدابة منقولة عن مطلق ما دب، إلى الحمار مخصوصة بمصر،
وإلى الفرس مخصوصة بالعراق، فلا يفهم غير هذين إلا بقرينة
صارفة عنهما، وتسمية العرف خاصاً لاختصاصه بعض الفرق
كالمتكلمين، أو النحاة في الفعل والفاعل، ولفظ الدابة يشملهم
مع العوام، ولا يشترط عمومه في الأقاليم ولا في إقليم كامل؛
فربما خالف صعيد إقليم مصر شمالها، غير أنه في كل بقعة يشمل
أهل تلك البقعة كلهم، فمن قال رأيت أسداً وأراد مسماه الذي هو
الحيوان المفترس فهو حقيقة، أو رجلاً شجاعاً فهو مجاز، وكلاهما
استعمال، والعلاقة لا بد منها في حد المجاز، لأنها لو فقدت كان
نقلاً لا مجازاً كتسمية الولد جعفراً، ولا علاقة بين الولد
والنهر الصغير؛ فإنه الذي يسمى جعفراً لغة.
_________
(1) القَرء والقُرء: الحيض والطهر، ضد. وذلك أن القرء هو
الوقت، والوقت يكون للحيض أو الطهر. هكذا قال أبو عبيد. قال:
وأظنه من أقرأت النجوم إذا غابت. وتمسك الحنفية بحديث: «دعي
الصلاة أيام أقرائك» على أن اللفظ يدل على الحيض. وقد وافق
الشافعي مالك في تأويله لقوله تعالى «والمطلقات يتربصن بأنفسهن
ثلاثة قروء» أنها الأطهار، مستدلاً بأن ابن عمر لما طلق امرأته
وهي حائض فاستفتى عمر رضي الله عنه النبي
b فقال مره فليراجعها
فإذا طهرت فليطلقها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها
النساء.
ويحقق هذا الفهم قول الأعشى: ... لما ضاع فيها من فروء نسائكاً
فالقروء هنا الأطهار، لأن النساء إنما يؤتين في أطهارهن لا في
حيضهن.
أنظر في ذلك كتب الفروع الفقهية وكتب اللغة المطولة.
(1/21)
وأما حمل الشافعي المشترك على جميع معانيه
عند التجرد فهي مسألة اختلفوا فيها؛ فالجمهور خالفوه وقالوا
كما يحصل الاحتياط إذا قال له انظر للعين فنظر لجميع العيون
فيحصل المراد قطعاً ويضيع الاحتياط (1) من جهة أخرى فإنه قد
ينظر إلى عين امرأته أو ذهب (2) وذلك يسوؤه فيقع في المخالفة؛
فالصواب التثبت حتى يرد البيان، والمأمور معذور عند عدم البيان
وغير معذور إذا هجم بغير علم ولا ظن عند حصول الإجمال.
فاعتقاد الشافعي إن قلنا به هو مشتمل على المراد لا أنه
المراد؛ فإن فرعنا على عدم صحته أسقطناه من الحد.
ويتلخص من هذا الفصل أن الوضع سابق والحمل لاحق والاستعمال
متوسط، وهذا فرق جلي بينها وبقي من الوضع قسم ثالث لم أذكره
وهو ما يذكره جماعة من العلماء في قولهم هل من شرط المجاز
الوضع أم ليس من شرطه؟ قولان، ويريدون بالوضع هنا مطلق
الاستعمال ولو مرة يسمع من العرب استعمال ذلك النوع من المجاز
فيحصل الشرط؛ فصار الوضع جعل اللفظ دليلاً على المعنى أو غلبة
الاستعمال، وأصل الاستعمال من غير غلبة في المواطن المذكورة
خاصة فحصل الفرق بين الجميع.
_________
(1) في نسخة يضيع بحذف الواو.
(2) فالعين قد تطلق على الباصرة والذهب كما ذكر وقد تطلق أيضاً
على عين الماء الجارية.
(1/22)
الفصل الرابع في
الدلالة وأقسامها
فدلالة اللفظ فهم السامع من كلام المتكلم كمال المسمى أو جزأه
أو لازمه.
ذكر ابن سينا فيها مذهبين: أحدهما هذا. والآخر أنها كون اللفظ
بحيث إذا أطلق دل.
حجة الأول: أنه إذا دار اللفظ بين المتخاطبين فإن فهم منه شيء
قيل دل عليه، وإن لم يفهم منه شيء قيل لم يدل عليه؛ فدار إطلاق
لفظ الدلالة مع وجود (1) الفهم وجوداً وعدماً؛ فدل على أنه
مسماه، كما دار لفظ الإنسان مع الحيوان الناطق وجميع المسميات
مع أسمائها.
حجة الفريق الآخر: أن الدلالة صفة اللفظ لأنا نقول لفظ دال،
والفهم صفة للسامع فأين أحدهما من الآخر؟! أجاب الأولون بأن
الدلالة كالصياغة والنجارة والخياطة يجمعها وزن فعالة بكسر
الفاء؛ فكما تقول للشخص إنه صائغ وتاجر وخائط، مع أن الصياغة
في المصوغ والنجارة في الخشبة والخياطة في الثوب. فكذلك هنا
اللفظ دال والدلالة في السامع؛ ولأن ما ذكرتموه تسمية للشيء
باعتبار ما هو قابل له، وما ذكرناه تسمية باعتبار ما هو واقع
بالفعل، فيكون ما ذكرناه حقيقة وما ذكرتموه مجازاً، والحقيقة
أولى. والذي أختاره أن دلالة اللفظ إفهام السامع لا فهم
السامع، فيسلم من المجاز ومن كون صفة الشيء في غيره.
وأما قولهم الصياغة في المصوغ فذلك من باب تسمية المفعول
بالمصدر والصياغة ونحوها فعل الصائغ، وفعله ليس في المصوغ بل
أثره في المصوغ، وأما تلك
_________
(1) الأولى حذف لفظة وجود.
(1/23)
الحركات التي هي المصدر ففنيت من حينها
وليست في المصوغ، وكذلك بقية النظائر.
ولها ثلاثة أنواع: دلالة المطابقة، وهي فهم السامع من كلام
المتكلم كمال المسمى. ودلالة التضمن وهي فهم السامع من كلام
المتكلم (1) جزء المسمى، ودلالة الالتزام وهي فهم السامع من
كلام المتكلم لازم المسمى البين وهو اللازم له في الذهن،
فالأول كفهم مجموع الخمستين من لفظ العشرة. والثاني كفهم
الخمسة وحدها من اللفظ. الثالث كفهم الزوجية من اللفظ.
الحقائق أربعة أقسام متلازمة في الخارج وفي الذهن كالسرير
والارتفاع من الأرض، فإذا وقع في الخارج وقع مع الارتفاع، وإن
تُصور تصور مع الارتفاع، وغير متلازمة فيهما كزيد والسرير فقد
يوجد في الخارج بغير زيد وقد يتصوره العقل بغير زيد ويذهل عن
زيد. ومتلازمة في الخارج فقط كالسرير والإمكان فإن الإمكان لا
ينفك عن السرير فيا لخارج أما في الذهن فقد يذهل عن الإمكان
إذا تصورنا السرير فلا يكون ملازماً في الذهن؛ لأنا نعني
باللازم ما لا يفارق، ومتلازمة في الذهن فقط كالسرير إذا أخذ
زيد معه بقيد كونه نجاراً للسرير، فإنَّ تصوره من هذه الجهة
يستلزم تصور السرير قطعاً في الذهن، وإن لم تكن بينهما
ملازمة في الخارج، وكذلك السواد إذا تصورناه من حيث إنه ضد
البياض يجب حضور البياض معه في الذهن جزماً. أما لو تصورناه من
حيث هو السواد، أو زيد لا من جهة أنه نجار السرير لا يجب
حضورهما، فالملازمة إنما حصلت من جهة هذه النسبة ولا تلازم
بينهما في الخارج، بل السواد ينافي البياض. وقد مثلت الأربعة
بالسرير للتيسير على المتعلم.
فنعني باللازم البين ما كان لازماً في الذهن فيندرج فيه قسمان:
المتلازمان
_________
(1) في الأصول: فهم السامع كلام المتكلم بدون (من) والصحيح ما
أثبتناه.
(1/24)
فيهما والمتلازمان في الذهن فقط، ويخرج عنه
قسمان: المتلازمان في الخارج فقط واللذان لا تلازم بينهما.
وسر اشتراط اللزوم فيا لذهن أن اللفظ إذا أفاد مسماه واستلزم
مسماه لازمه في الذهن كان حضور ذلك اللازم في الذهن والشعور به
منسوباً لذلك اللفظ، فقيل اللفظ دل عليه بالالتزام، أما إذا لم
يلزم حضوره في الذهن من مجرد النطق بذلك اللفظ وحضور مسماه في
الذهن كان حضوره في الذهن منسوباً لسبب آخر؛ إذ لا بد في حضوره
من سبب؛ فإفادته منسوبة لذلك السبب لا اللفظ، فلا يقال إنه فهم
من دلالة الألفاظ التي نطق بها، فلفظ السقف يدل بالمطابقة على
مجموع الخشب والجريد مثلا مطابقة، وعلى الخشب وحده تضمناً لأنه
جزء السقف وعلى الحائط التزاماً؛ لأن الحائط لازم للسقف.
فإن قلت هل يشترط في اللزوم أن يكون قطعياً؟
قلت لا، بل يكفي الظن وأدنى ملازمة في بعض الصور؛ فلو أنك أول
مرة رأيت فيها زيداً كان عمرو معه ثم جاءك زيد بعد ذلك وحده
انتقل ذهنك إلى عمرو بمجرد اقترانه به في تلك الحالة، وكذلك
ينتقل الذهن عند سماع لفظ زيد لعمرو وجميع ما قارنه في تلك
الحالة، وكذلك ذكر لفظ البلاد والغزوات وغيرها يوجب انتقال ذهن
السامع لما قارنها عند مباشرته لها، فالقطع ليس بشرط.
فإن قلت: قولنا العالم متغير وكل متغير حادث، فالعالم حادث.
مجموع لفظ هذا البرهان دل على حدوث العلم وليس بالمطابقة لأنه
لم يوضع بإزائه ولا بالتضمن لأن العالم ليس جزء مسمى هذا
اللفظ، ولا بالتزام لأن حدوث العالم ليس لازماً لمسمى هذا
اللفظ، بل هذا اللفظ لم يوضح مجموعه لشيء البتة حتى يكون لذلك
لمسمى جزء ولازم.
قلت: دلالة هذا اللفظ على حدوث العالم بالعقل لا باللفظ، ونحن
إنما حصرنا دلالة اللفظ من حيث الوضع وبقية الدلالات لم نتعرض
لها، وكذلك اللفظ
(1/25)
المهمل إذا نطق به مراراً دل على حياة
المتكلم به بالعادة لا بالوضع، وليس مندرجاً في هذه الدلالات
الثلاث، ولم أتعرض إلا للحصر في الدلالة الوضعية خاصة.
فإن قلت: فصيغة العموم مساهماً كلية، ودلالتا على فرد منها
خارجة عن الثلاث وهي وضعية؛ فإن صيغة المشركين تدل على زيد
المشرك، وليس بالمطابقة؛ لأنه ليس كمال مسمى اللفظ ولا بالتضمن
لأن التضمين دلالة اللفظ على جزء مسماه والجزء إنما يقابله
الكل ومسمى صيغة العموم ليس كلاً، وإلا لتعذر الاستدلال بها
على ثبوت حكمها لفرد من أفرادها في النفي أو النهي، فإنه لا
يلزم من نفي المجموع نفي جزئه ولا من النهي عن المجموع النهي
عن جزئه بخلاف الأمر لثبوت، وخبر الثبوت، فحينئذ مسمى العام
كلية لا كل، والذي يقابل الكلية الجزئية لا الجزء لكنهم قالوا
في دلالة التضمين هي دلالة اللفظ على جزء مسماه وهذا ليس جزءاَ
فلا يدل اللفظ عليه تضمناً ولا التزاماً؛ لأن الفرد إذا كان
لازم المسمى وبقية الأفراد مثله، فأين المسمى حينئذ؟! فلا يدل
اللفظ عليه التزاماً؛ فبطلت الدلالات الثلاث، مع أن الصيغة تدل
بالوضع فما انحصرت دلالات الوضع في الثلاث.
قلت: هذا سؤال صعب وقد أورده في شرح المحصول وأجبت عنه بشيء
فيه نكادة وفي النفس منه شيء.
والدلالة باللفظ هي استعمال اللفظ إما في موضوعه وهو الحقيقة
أو غير موضعه وهو المجاز. والفرق بينهما أن هذه صفة للمتكلم
والفاظ قائمة باللسان وقصبة الرئة، وتلك صفة للسامع وعلم أو ظن
قائم بالقلب، ولهذه نوعان وهما الحقيقة والمجاز لا يعرضان
لتلك، وأنواع تلك ثلاثة لا تعرض لهذه.
الباء في الدلالة باللفظ للاستعانة، لأن المتكلم يستعين بنطقه
على إفهام السامع ما في نفسه فهي كالباء في كتبت بالقلم ونجرت
بالقدوم، والتفرقة بين الدلالة باللفظ ودلالة اللفظ من مهمات
مباحث الألفاظ، وقد ذكرت منها الفرق بينهما من ثلاثة أوجه، وفي
شرح المحصول ذكرت خمسة عشر وجهاً، وهذه الثلاثة تكفي في هذا
المختصر. وقولي أو في غير موضوعه وهو المجاز، يتعين أن يزاد
فيه لعلاقة بينهما، فإن بدونهما لا مجاز، ووجه تنويع دلالة
اللفظ إلى العلم أو الظن أن الإنسان إذا فهم من كلام إنسان
معنى قد يقطع به وقد يظن من غير قطع، وهو كثير في الكلام.
(1/26)
الفصل الخامس الفرق
بين الكلي والجزئي
فالكلي هو الذي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه سواء امتنع
وجوده كالمستحيل أو أمكن ولم يوجد كبحر من زئبق أو وجد ولم
يتعدد كالشمس أو تعدد
كالإنسان. وقد تركت قسمين أحدهما محال والثاني أدب. والجزئي هو
الذي يمنع تصوره من الشركة فيه.
ينبغي أن يشاهد الفرق بين قولنا إن تصور الكلي لا يمنع من
الشركة وبين قولنا إنه قابل للشركة؛ فإن تصوره إذا لم يمنع
يكون المانع من الشركة منفياً، ولا يلزم من نفي المانع وجود
الموجب؛ لأن مع نفي المانع الخاص قد يتحقق المنع من جهة أخرى
إما بمانع آخر أو بالذات بأن يكون المنع غير معلل بمر خارج.
كما نقول إن السواد لا يمنعه كونه جاعاً للبصر أن يكون علماً؛
لأن امتناع كونه علماً لذاته غير معلل. وكذلك الواحد ربع عشر
الأربعين فيستحيل عليه أن يكون نصف عشر الأربعين لذاته، مع أن
تصوره بما هو تصوره لا يمنع من ذلك عليه حتى نستحضر في ذهننا
مقدمات حسابية وهو أن ربع الأربعة واحد والأربعة عشر الأربعين
فالواحد ربع عشر الأربعين. أما مجرد التصور فلا.
فظهر حينئذ أن قولنا لا يمنع تصوره من الشركة، لا يوجب أن يكون
قابلاً للشركة، بل قد تمتنع عليه الشركة كما تقدم، وقد يقبلها
كما في مفهوم الإنسان؛ فإن تصوره لا يمنع من وقوع الشركة وهو
قابل لها واقعة فيه، وكذلك جميع الأجناس والأنواع، فهذا الحرف
هو الموجب لقول أن أرباب علم المنطق؛ إن من أقسام الكلي واجب
الوجود؛ فإن مجرد تصور أن للعالم إلهاً. هذا بمفرده لا يكفينا
في حصول العلم بالوحدانية، حتى نستحضر مقدمات برهان التمانع أو
غيره، وحينئذ يحصل العلم بالواحدانية، أما مجرد التصور فلا.
فصال التصور غير مانع بما هو تصور، وهو مع
(1/27)
ذلك يستحيل عليه الشركة في نفس الأمر، كما
قلنا في الواحد مع نصف عشر الأربعين. لكن إطلاق لفظ الكلي على
واجب الوجود سبحانه وتعالى فيه إيهام تمنع من إطلاقه الشريعة؛
فلذلك قلت تركته أدباً. وأما القسم المستحيل فهو أنهم يقولون
المتعدد قد يكون متناهياً كالأفلاك فإنها عدد محصور وغير متناه
كالإنسان بناء منهم على قدم العالم، وأنه قد دخل في الوجود منه
أفراد غير متناهية، وكذلك في جميع الأنواع. ولما قامت البراهين
على حدوث العالم كان هذا القسم مستحيلاً.
فأقسام الكلي عندهم ستة وهي في هذا الكتاب أربعة. إذا ظهر
الفرق بين الكلي والجزئي فينبغي أيضاً أن يعلم مع ذلك الكلية
والكلي والجزئية والجزء، فالكلية هي الحكم على كل فرد فرد بحيث
لا يبقى فرد، كقولنا كل رجل يشبعه رغيفان غالباً؛ فالحكم صادق
باعتبار الكلية، دون الكل. والكل هو القضاء على المجموع من حيث
هو مجموع، كقولنا كل رجل يشيل الصخرة العظيمة، فهذا الحكم صادق
باعتبار
الكل دون الكلية. والجزئية هي الحكم على بعض أفراد الحقيقة من
غير تعيين كقولنا بعض الحيوان إنسان. والجزئي هو الشخص من كل
حقيقة كلية. الجزء هو ما تركب منه ومن غيره كلٌّ كالخمسة مع
العشرة. وجميع هذه الحقائق لها موضوعات في اللغة؛ فصيغة العموم
للكلية، وأسماء العدد للكل، والنكرات للكلي، والأعلام للجزئي،
وقولنا بعض الحيوان إنسان وبعض العدد زوج للجزئية، وقولنا جزء
موضوع للجزء، وهذه الحقائق يحتاج إليها كثيراً (1) (2) في أصول
الفقه فينبغي أن تعلم.
_________
(1) في نسخة: يحتاج إليها كثير - بلا ألف.
(2) تنظر هذه المصطلحات في علم المنطق.
(1/28)
الفصل السادس في
أسماء الألفاظ
المشترك هو اللفظ الموضوع لكل واحد من معنيين فأكثر كالعين.
وقولنا كل واحد احتراز من أسماع العدد فإنها لمجموع المعاني لا
لكل واحد، ولا حاجة لقولنا مختلفين فإن الوضع يستحيل للمثلين
فإن التعيين إن اعتبر في التسمية كانا مختلفين وإن لم يعتبر
كانا واحداً، والواحد ليس بمثلين.
جرت عادة المصنفين أن يقولوا هو اللفظ الموضوع لمعنيين مختلفين
فيندرج في لفظهم أسماء الأعداد، فإن لفظ الاثنين يصدق عليه أنه
وضع لمعنيين وهما الوحدتان اللتان تركب منهما مفهوم الاثنين،
ولفظ الثلاثة يصدق عليه أنه وضع لأكثر من معنيين، وكذلك بقية
أسماء العدد، مع أنها كلها غير مشتركة فيكون الحد غير مانع،
فقلت أنا: لكل واحد لتخرج أسماء الأعداد لأنها للمجموعات لا
لكل واحد، ويقولون: إن مختلفين يحترز به عن الأسماء المتواطئة،
كلفظ الإنسان فإنه يتناول جميع الأناسي وهي متماثلة من حيث
إنها أناسي؛ مع أن اللفظ غير مشترك وهذا لا يحتاج غليه؛ فإن
لفظ الإنسان وغيره من أسماء الأنواع والأجناس إنما وضع للقد
المشترك بينها لا لها، والمشترك مفهوم واحد، فما وضع اللفظ إلا
لواحد، وقد خرج هذا بقولي لمعنيين؛ فلا حاجة إلى إخراجه بقيد
آخر لأنه حشو في الحد بغير فائدة، والوضع للمتماثلين مستحيل
لما ذكرته من البرهان في الأصل.
وقولي فصاعداً لأن الاشتراك قد يقع بين أكثر من اثنين كالعين
وغيره من الألفاظ، وبين معنيين كالقرء والحيض والطهر (1)
والجون للأبيض والأسود.
_________
(1) أنظر صحيفة وهامش 21 من هذا الكتاب.
(1/29)
فائدة: ينبغي أن يفرق بين اللفظ المشترك
وبين اللفظ الموضوع للمشترك لأن اللفظ الأول مشترك والثاني
لمعنى واحد مشترك، واللفظ ليس بمشترك. والأول مجمل والثاني ليس
بمجمل لاتحاد مسماه.
والمتواطئ هو اللفظ الموضوع لمعنى كلي مستوفي محاله كالرجل.
والمشكك هو اللفظ الموضوع لمعنى كلي مختلف في محاله إما
بالكثرة وبالقلة كالنور بالنسبة إلى السراج والشمس، أو بإمكان
التغير واستحالته كالوجود بالنسبة إلى الواجب والممكن، أو
بالاستغناء والافتقار كالموجود بالنسبة إلى الجوهر والعرض.
المتواطئ مشتق من التواطؤ الذي هو التوافق يقال تواطأ القوم
على الأمر إذا اتفقوا عليه، ولما توافقت محال مسمى هذا اللفظ
في مسماه سمي متواطئاً. والمشكك من الشك لأنه يشكك الناظر فيه
هل هو مشترك أو متواطئ فإن نظر إلى إطلاقه على المختلفات قال
هو مشترك كالقراء أو إلى أن مسماه واحد قال هو متواطئ،
والمشترك مأخوذ من الشركة، شبهت اللفظة في اشتراك المعنى فيها
بالدار المشتركة بين الشركاء، والمترادفة من الردف، شبه اجتماع
اللفظين على معنى واحد باجتماع الراكبين على ردف الدابة
وظهرها، والمتباينة من البين الذي هو الافتراق والبعد، شبه
افتراق المسميات في حقائقها بافتراق الحقائق في بقاعها.
وأصل القسمة فيها رباعية وهي أن اللفظ والمعنى إما أن يتكثرا
معاً وهي المتباينة، أو يتحدا معاً كزيد والإنسان وهي
المتواطئة، أو يتكثر اللفظ فقط وهي المترادفة، أو المعنى فقط
وهي المشتركة. وقولنا في المتواطئة الموضوعة لمعنى كلي
احترازاً عن العلم فإنه لجزئي، وقولنا مستوفي محاله احترازاً
عن مشكك فإنه مختلف في محاله، وقولي في المشكك مختلف في محاله
احترازاً عن المتواطئ فإنه مستوفي محاله فلا فارق بينهما إلا
التساوي والاختلاف في المحال، ثم الاختلاف قد يقع بكثرة
الأفراد وقلتها كالنور فإن أفراد النور في الشمس أكثر وفي
السراج أقل، وقد يكون بامتناع التغير وقبوله كالوجود فإن
الوجود الواجب لا يقبل التغير
(1/30)
ولا الفناء ولا العدم ولا الزوال، والوجود
الممكن يخلاف ذلك، فصار وجوب الوجود وامتناع التغير كالكثرة في
الشمس وقبول ذلك كالقلة في السراج، وقد يكون بالاستغناء
كالجوهر مستغن عن محل يقوم به، والعرض مفتقر لمحل يقوم به،
فكان الاستغناء كالكثرة في الشمس والافتقار كالقلة في السراج.
فهذه أسباب التشكيك وهي ثلاثة وأصلها الأول.
سؤال قوي: وهو أن الرتبة العليا والدنيا قد اشتركتا في مقدار
من المسمى وامتازت العليا بزيادة والدنيا بنقص، فنقول: اللفظ
إذا كان موضوعاً للمشترك فقط فهذا المشترك مستوي محاله، إنما
صحبه زيادة في محل ونقص في محل آخر، وإذا كان مستوياً كان
متواطئاً لا مشككاً؛ فحصول الاستواء في المحال والاختلاف بغير
المسمى لا يقدح، بدليل أن المتواطئ لا بد أن تختلف مسمياته
بأمور خارجة عن المسمى؛ فإن مفهوم الرجل قد اختلف بغير
الرجولية من الطول والقصر والعلم والجهل وغير ذلك، حتى عد
الرجل الواحد بالألف من الرجال، وذلك لا يقدح في كونه
متواطئاً، وإن كان اللفظ المشكك موضوعاً للمشترك بين محاله
بقيد الزيادة في أحد المحلين والنقص في الآخر فهو موضوع
لمختلفين فهو مشترك لا مشكك، فلا حقيقة حينئذ للمشكك، بل هو
إما متواطئ وإما مشترك.
جوابه: أن ما وقع به الاختلاف إن كان من جنس المسمى فهو المشكك
فإن زيادة النور نور، أو من غير جنسه فهو المتواطئ فإن العلم
والشجاعة وغير ذلك أجناس أخر مباينة للرجولية وليست منها، فوقع
الاصطلاح على أن المختلف بجنسه هو المشكك والمختلف بغير جنسه
هو المتواطئ، واللفظ لم يوضع في القسمين إلا المشترك مع قطع
النظر عن الزيادة والنقص، فإن قلت: فيتعين عليك أن تزيد في
الحد في المشكك، فتقول: مختلف في محاله بجنسه حتى يخرج
المتواطئ الذي اختلافه من غير جنسه وإلا فحدك باطل لعدم المنع
لدخول المتواطئ فيه، قلت: نعم ذلك حق.
والمترادفة هي الألفاظ الكثيرة لمعنى واحد كالقمح والبر
والحنطة،
(1/31)
والمتباينة هي الألفاظ الموضوع كل واحد
منها لمعنى كالإنسان والفرس والطير، ولو كانت للذات والصفة
وصفة الصفة، تحو: زيد متكلم فصيح.
متى اختلف المفهومان، أعني (1) المسميين فاللفظان متباينان وإن
كانا في الخارج متحدين، كاللون والسواد متحدان في الخارج
ولفظاهما متباينان لتغاير المفهومين عند العقل، وقد يكون
متعددين في الخارج كالإنسان والفرس.
والمرتجل هو اللفظ الموضوع لمعنى لم يسبق بوضع آخر.
المرتجل مشتق من الرجل ومنه أنشد ارتجالاً أي أنشد من غير روية
وفكرة؛ لأن شأن الواقف على رجل يشتغل بسقوطه عن فكرته، فشبه
الذي لم يسبق بوضع بالذي لم يسبق بفكر، هذا هو اصطلاح الأدباء.
ذكره صاحب المفصل وغره، فجعفر في النهر
الصغير مرتجل وفي الشخص علماً ليس بمرتجل لتقدم وضعه للنهر
الصغير، وكذلك زيد مرتجل بالنسبة إلى المصدر الذي نقول فيه زاد
يزيد زيداً، وغير مرتجل بالنسبة لجعله علماً على شخص معين،
وقال الإمام فخر الدين هو المنقول عن مسماه لغير علاقة، ولم أر
أحداً غيره قاله فيكون باطلاً لأنه مفسر لاصطلاح الناس، فإذا
لم يوجد لغيره لم يكن اصطلاحاً لغيره، فعلى رأيه يكون جعفر
وزيد في الشخصين المعينين مرتجلين لأنهما نقلا لا لعلاقة.
والعلم: هو الموضوع لجزئي كزيد.
هذا هو علم الشخص ويكون في الأناسي كزيد، والملائكة كجبريل،
وقل في اسم الله تعالى: إنه علم، قاله صاحب الكشاف لجريان
النعوت عليه، فيقال الله الملك، القدوس. وتجري الأعلام في
الحيوان البهيمي نحو داحس والغبراء (2)
_________
(1) في الأصل: بين المسميين والصحيح ما أثبتناه.
(2) داحس والغرباء اسما فرسين لقيس بن زهير بن خذيمة العبسي.
ومنه حرب داحس: وذلك أن قيساً هذا وحذيفة بن بدر الذبياني ثم
الفزاري تراهنا على سبق عشرين بعيراً وجعلا الغاية مائة غلوة،
والمضمار أربعين ليلة، والمجرى من ذات الإصاد، فأجرى قيس
داحساً والغبراء وأجرى حذيفة الخطار والحنفاء، فوضعت بنو فزارة
كميناً على الطريق، فردوا الغبراء وللطموها، فهاجت الحرب بين
عبس وذبيان أربعين سنة.
(1/32)
للخيل، والبلاد كمكة، والجبال كأحد،
والأنهار كالنيل، والبقاع كنجد وتهامة. وأما علم الجنس كأسامة
وثعالة فإنه موضوع لكلي بقيد تشخصه في الذهن، فيصدق أسامة على
كل أسد في العالم وثعالة على الثعلب أين وجد، وكذلك جميع أعلام
الأجناس. وقد ذكر منها صاحب المفصل جملاً كثيرة.
وتحرير الفرق بين علم الأجناس وعلم الشخص، وعلم الجنس واسم
الجنس وهو من نفائس المباحث ومشكلات المطالب، وكان الخسروشاهي
يقرره ولم أسمعه من أحد إلا منه، وكان يقول ما في البلاد
المصرية من يعرفه وهو: أن الوضع فرع التصور فإذا استحضر الواضع
صورة الأسد ليضع لها فتلك الصورة الكائنة ذهنه هي جزئية
بالنسبة إلى مطلق صورة الأسد، فإن هذه الصورة واقعة في [نفس
الواضع وفي (1) ] هذا الزمان، ومثلها يقع في زمان آخر وفي ذهن
شخص آخر، والجميع مشترك في مطلق صورة الأسد، فهذه الصورة جزئية
من مطلق صورة الأسد، فإن وضع لها من حيث خصوصها فهو علم الجنس،
أو من حيث عمومها فهو اسم الجنس، وهي من حيث عمومها وخصوصها
تنطبق على كل أسد في العالم، بسبب أنا إنما أخذنا ما في الذهن
مجردة عن جميع الخصوصيات فتنطبق على
الجميع، فلا جرم يصدق لفظ الأسد واسامة على جميع الأسود لوجود
المشترك فيها كلها، فيقع الفرق بين اسم الجنس وعلم الجنس بخصوص
الصورة الذهنيةن والفرق بين علم الجنس وعلم الشخص أن علم الشخص
موضوع الحقيقة بقيد التشخص الخارجي، وعلم الجنس موضوع للماهية
بقيد التشخص الذهني.
المضمر هو اللفظ المحتاج في تفسيره إلى لفظ منفصل عنه إن كان
غائباً أو قرينة تكلم أو خطاب؛ فقولنا إلى لفظ احترازاً من
ألفاظ الإشارة، وقولنا منفصل عنه احترازاً من الموصولات،
وقولنا قرينة تكلم أو خطاب ليدخل فيه ضمير المتكلم والمخاطب.
المضمر مأخوذ من الضمور لأنه مختصر قليل الحروف بالنسبة إلى
الظاهر،
_________
(1) ساقطة من النسخ المطبوعة.
(1/33)
أو من الضمير لأنه كناية عما في الضمير وهو
الاسم الظاهر أو مسماه، ولا بد له من مفسر، فقد يكون لفظاً
منفصلاً عنه نحو زيد مررت به، وهذا هو الأصل، ثم يقوم مقامه
أمور أخر تصيِّره معلوماً كقوله تعالى «إنا أنزلناه في ليلة
القدر» (1) ولم يتقدم للقرآن الكريم ذكر بل كان معلوماً
بالمحاورات المتقدمة، وكقوله تعالى «كل من عليها فان» (2) ولم
يتقدم الأرض ذكر لكنها معلومة بالسياق، وكقوله تعالى «حتى
توارت بالحجاب» (3) ولم يتقدم للشمس ذكر. أما الموصلات فلا بد
أن تتصل صلاتها بها نحو مررت بالذي قام وبمن قام أو بما قام،
وأسماء الإشارة هذا وتلك وهؤلاء وأولاء لا بد معها من مفسر،
وأصله أن يكون فعلاً من إشارات الأعضاء أو غيرها، والمضمرات
ثلاثة أقسام للمتكلم والمخاطب والغائب، فالمحتاج لما تقدم إنما
هو ضمير الغائب نحو: هو وهي ونما وهم وهن، وأما المخاطب نحو
أنت وأنت وأنتما وأنتم وأنتن، والمتكلم نحو: أنا ونحن فلا
يحتاج شيء من هذين القسمين إلى معرفة (4) لفظ ظاهر، بل من قال
لك: أنا، عرفته وإن لم تعرف اسمه، وكذلك من قلت له أنت، انتظم
الكلام بينكما وإن لم تعرف اسمه، بل قرينة التكلم والخطاب
كافية في ذلك، فلذلك نوعت المحتاج إليه في بيان المضمر إلى لفظ
أو قرينة.
فائدة جليلة: اختلف الفضلاء في مسمى لفظ المضمر حيث وجد، هل هو
جزئي أو كلي؟ فرأيت الأكثرين على أن مسماه جزئي، واحتجوا على
ذلك بوجهين الأول: أن النحاة
أجمعوا على أن المضمر معرفة والصحيح أنه أعرف المعارف، فلو كان
مسماه كلياً لكان نكرة، فإن النكرة إنما كانت نكرة لأن مسماها
كلي مشترك فيه بين أفراد غير متناهية لا يختص به واحد منها دون
الآخر، والمضمر ليس كذلك، فلا يكون نكرة. الثاني: أن مسمى
المضمر إذا كان كلياً كان دالاً على ما هو أعم من الشخص
المعين، والقاعدة العقلية أن الدال على الأعم غير دال على
الأخص، فيلزم أن لا يدل المضمر على شخص خاص البتة وليس كذلك،
بل
_________
(1) 1 القدر.
(2) 26 الرحمن.
(3) 22 سورة ص.
(4) في واحدة من المخطوطات تقدم بدل معرفة.
(1/34)
كل من قال: أنا، فهمناه دون غيره، وكذلك
إذا قلت لزيد: أنت قائم، لا يفهم إلا نفسه.
والصحيح خلاف هذا المذهب وعليه الأقلون، وهو الذي أجزم بصحته
وهو أن مسماه كلي، والدليل عليه أنه لو كان مسماه جزئياً لما
صدق على شخص آخر غلا بوضع آخر كالأعلام؛ فإنها لما كان مسماها
جزئياً لم تصدق على غير من وضعت له إلا بوضع ثان، فإذا قال
قائل: أنا، فإن كان اللفظ موضوعاً بإزاء خصوصه من حيث هو هو،
وخصوصه ليس موجوداً في غيره، فيلزم أن لا يصدق على غيره إلا
بوضع آخر، وإن كان موضوعاً لمفهوم المتكلم بها وهو قدر مشترك
بينه وبين غيره والمشترك كلي فيكون لفظ أنا حقيقة في كل ممن
قال أنا؛ لأنه متكلم بها الذي هو مسمى اللفظ فينطبق ذلك على
الواقع، وأما قولهم في الوجهين: فالجواب عنه واحد، وهو أن
دلالة اللفظ على الشخص المعين لها سببان: أحدهما وضع اللفظ
بإزاء خصوصه فيفهم الشخص حينئذ الوضع بإزاء الخصوص وهذا
كالعلم. وثانيهما: أن يوضع اللفظ بإزاء معنى عام ويدل الواقع
على أن مسمى اللفظ محصور في شخص معين فيدل اللفظ عليه؛ لانحصار
مسماه فيه لا للوضع بإزائه، ومن ذلك المضمرات، وضعت العرب لفظ
أنا مثلاً لمفهوم المتكلم بها فإذا قال القائل: أنا، فهم هو؛
لأن الواقع أنه لم يقل هذه اللفظة الآن إلا هو، ففهمناه
لانحصار المسمى فيه لا للوضع بإزائه، وكذلك بقية المضمرات.
وهذا كما تقول رأيت قاضي مكة أو المدينة، فيفهم المتولي في ذلك
الوقت لهذه المدينة لن الواقع أنه هو المتولي، وفي وقت آخر
يفهم المتولي الآخر على حسب ما يحصر الواقع المسمى في شخص
معين، فكذلك المضمرات، حتى لو فرضنا جماعة قالوا أنا في وقت
واحد وأصوات متشابهة بحيث لا يميز الواقع واحداً منهم عن واحد
لم يفهم منهم واحد، وكذلك إذا قلت الجماعة بين يديك أنت أخاطب
واستوت نسبتك في الخطاب معهم ومواجهتك إليهم وإشارتك، لم يفهم
أحد منهم نفسه بخصوصه، وإنما يفهمها إذا حصر الواقع المخاطبة
فيه، فلما كان الغالب حصر الواقع مسمى اللفظ في شخص معين
فيفهم.
قال النحاة: هي معارف، فإن فهم
(1/35)
الجزئي لا يكاد ينفك عنها، وبه حصل الجواب
عن
القاعدة العقلية: أن اللفظ الموضوع لمعنى أعم لا يدل على ما هو
أخص منه؛ فإن الدلالة لم تأت من اللفظ وإنما أتت من جهة حصر
الواقع المسمى في ذلك الأخص.
إذا تقرر الجواب عن حجم وظهر بالبرهان أن مسماها كلي لا جزئي
فأعين مسمياتها، فأقول: مسمى مضمرات المتكلم وهي أنا ونحن
وإياي وإيانا وقمت وقمنا وأكرمني وأكرمنا وعملي ولي: مفهوم
المتكلم بها كائناً من كان، ومسمى ضمائر المخاطب وهي نحو: قمتَ
وأنتَ وأنتِ مفهوم المخاطب بها كائناً من كان، ومسمى مضمرات
الغائب وهي: هو وهي ونحوها مفهوم الغائب كائناً من كان.
فإن قلت فهل تقول: إن لفظ الغائب ولفظ المضمرات الموضوعة
للغيبة لمعنى واحد فيكونان مترادفين، أو تقول هما لمعنيين
فيكونان متباينين؟ .
قلت: بل أقول إنهما لمعنيين وإنهما متباينان؛ لأن لفظ الغائب
موضوع لمعلوم موصوف بالغيبة، والمضمرات الخاصة موضوعة لمعلوم
موصوف بالغيبة يقيد الاختصار والإيجاز في التعبير عنه، وبهذا
القيد صار مسمى المضمر أخص من مسمى لفظ الغائب فهما متباينان
لا مترادفان، ولذلك يجوز استعمال لفظ الغائب ابتداءً من غير أن
يكون للعقل بمسماه شعور، ولا يجوز في المضمر حتى يكون للذهن به
شعور بتقدم لفظ أو سياق أو غيرهما، ولا يجوز مع لفظ المضمر
النعت ويجوز مع لفظ غائب، إلى غير ذلك من الأحكام الدالة على
التباين.
والنص فيه ثلاثة اصطلاحات، قيل: ما دل على معنى قطعاً ولا
يحتمل غيره قطعاً كأسماء الأعداد، وقيل: ما دل على معنى قطعاً
وإن احتمل غيره كصيغ الجموع في العموم فإنها تدل على أقل الجمع
قطعاً وتحتمل الاستغراق، وقيل: ما دل على معنى كيف ما كان وهو
غالب استعمال الفقهاء.
النص أصله في اللغة وصول الشيء إلى غايته، ومنه قوله في الحديث
«كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير العنق فإذا وجد فجوة
نص» أي رفع السير
(1/36)
إلى غايته، ومنه منصة العروس لأنها ترفع
إلى غايتها اللائقة بالعروس، ومنه نصت الظبية جيدها إذا رفعته.
فمن لاحظ هذا المعنى سمى به القسم الأول فإن دلالته أقوى
الدلالات، ومن لاحظ أصل الظهور والارتفاع سمى به المعنى
الثالث، ومن توسط بينهما سمى به القسم المتوسط، والقسم الأول
هو أولى بهذا الاشتقاق لوجود ارتفاع الدلالة إلى غايتها وهو
الذي يجعل قبالة الظاهر.
فإذا قلنا اللفظ إما نص أو ظاهر فمرادنا القسم الأول، وأما
الثالث فهو غالب الألفاظ
وهو غالب استعمال الفقهاء، يقولون: نص مالك على كذا أولنا في
المسألة النص والمعنى، ويقولون: نصوص الشريعة متظافرة بذلك.
وأما القسم الثاني فهو كقوله تعالى: «اقتلوا المشركين (1) » ،
فإنه يقتضي قتل اثنين جزماً فهو نص في ذلك مع احتماله لقتل
جميع المشركين.
والظاهر هو المتردد بين احتمالين فأكثر هو في أحدهما أرجح،
والمجمل هو المتردد بين احتمالين فأكثر على السواء، ثم التردد
قد يكون من جهة الوضع كالمشترك وقد يكون من جهة العقل
كالمتواطئ بالنسبة إلى أشخاص مسماة نحو قوله تعالى: «وآتوا حقه
يوم حصاده (2) » فهو ظاهر بالنسبة إلى الحق مجمل بالنسبة إلى
مقاديره.
الظاهر من الظهور وهو العلن، فاللفظ متى رجح في احتمال من
الاحتمالات قلت أو كثرت سمي ذلك اللفظ ظاهراً بالنسبة إلى ذلك
المعنى، كالعموم بالنسبة إلى الاستغراق، فإن اللفظ ظاهر فيه
دون الخوض، وكذلك كل لفظ ظاهر في حقيقته دون مجازاته، والمجمل
مأخوذ من الجّمْل وهو الخلط ومنه قوله عليه السلام «لعن الله
اليهود حُرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها» أي
خلطوها بالسبك. ومنه العلم الإجمالي إذا اختلط فيه المعلوم
بغير المعلوم، واللفظ
_________
(1) 5 التوبة.
(2) 141 الأنعام.
(1/37)
المجمل اختلط فيه المراد بغير المراد فسمي
مجملاً، فإذا وضعت العرب اللفظ مشتركاً لزم الاشتراك الإجمال،
كما تقول الفرس الآن لا إجمال فيه بل يتبادر الذهن إلى الحيوان
الصاهل، فل ووضعوه لحيوان آخر صار مجملاً، فعلمنا أن الإجمال
نشأ عن الاشتراك، وأما إذا قلنا في الدار رجل فإنا نجوِّز أن
يكون زيداً وعمراً أو جميع رجال الدنيا على البدل، وذلك بطريق
التجويز العقلي لا بمن الوضع اللغوي، بل ما اقتضى الوضع إلا
القدر المشترك بين جميع الرجال، وهو مفهوم الرجل، وهو من هذا
الوجه ظاهر لا مجمل، وإنما جاء الإجمال من جهة التجويز العقلي،
فعلمنا أن الإجمال له سببان: الوضع اللغوي والتجويز العقلي.
ومثلا لرجل في ذلك كل نكرة ينطق بها، وأما لفظ الآية فإن
المقدار لم يتعرض له فلذلك احتمل العشر وغيره على السواء فكان
اللفظ مجملاً بالنسبة إلى المقادير. وظاهر في المشترك الذي هو
الحق من حيث الجملة.
والمبين ما أفاد معناه إما بسبب الوضع أو بضميمة بيان أليه.
المبين من البيان وهو الإيضاح، فإذا قال له عندي عشرة قلنا هذا
اللفظ مبين بالوضع أي بينه الواضع والمستعمل، فإن كان اللفظ
أولاً مجملاً نحو القرء ثم بينه بعد ذلك قلنا صار مبيناً، فصدق
المبين على القسمين، وكذلك المفسر يصدق على القسمين في
الاصطلاح واللغة.
والعام هو الموضوع لمعنى كلي بقيد تتبعه في خاله نحو المشركين.
المراد بالتتبع في المحال أي بالحكم كان وجوباً أو تحريماً أو
إباحة أو خبراً أو استفهاماً أي شيء كان الحكم، وسبب هذه
العبارة والاحتياج إليها إشكال كبير عادتي أورده ولم أر أحداً
قط أجاب عنه وهو، أن صيغة العموم بين أفرادها قدر مشترك ولها
خصوصيات؛ فاللفظ إما أن يكون موضوعاً للمشترك كمطلق المشترك في
المشركين أو الخصوصات أو المجموع المركب منهما والكل باطل فلا
يتحقق مسمى العموم ولا وضعه، بيانه: أن اللفظ إن كان وضع
للمشترك فقط يلزم أن يكون مطلقاً والمطلق ليس بعام، وإن وضع
للخصوصات وهي مختلفة فيلزم أن
(1/38)
يكون لفظ العموم مشتركاً مجملاً لوضعه بين
مختلفات، وصيغة العموم مسماها واحد ولا إجمال فيها، ولأن
الخصوصات غير متناهية، ووضع لفظ مشترك بين أمور غير متناهية
محال، لأن الوضع فرع التصور، وتصور ما لا يتناهى على التفصيل
محال. وإن كان موضوعاً للمجموع المركب من كل خصوصية مع المشترك
في كل فرد فرد على حياله لزم الاشتراك بين ما لا تناهى وهو
محال لما تقدم، أو لمجموع الأفراد بحيث يكون المسمى واحداً وهو
المجموع من حيث هو مجموع، فيصير نسبته إلى مسماه كنسبة لفظ
لعشرة لمسماها، فحينئذ يتعذر الاستدلال بصيغة العموم على ثبوت
حكمها لفرد من أفرادها في النهي أو النفي، لأنه لا يلزم من
النهي عن المجموع، أو الإخبار عن نفيه، نفي أجزائيه، ولا
اجتناب جميع أجزائي، لأن المجموع يكفي في صدق اجتنابه ترك جزء.
وكذلك يصدق نفيه بنفي جزء؛ لكن لفظ العموم هو الذي يحسن
الاستدلال به على ثبوت حكمه لكل فرد حالة النفي أو النهي؛ فلا
يكون لفظ العموم للعموم على هذا التقدير، فهذا هو الإشكال.
وأجاب بعضهم بأن موضوع المشترك بقيد العدد فلا يكون مطلقاً
لحصول العدد ولا مشتركاً لأن مسماه واحد وهو المشترك ومفهوم
العدد.
فقلت له: مفهوم العدد كلي والمشترك كلي، والكلي إذا أضيف إلى
الكلي صار المجموع كلياً، والموضوع للكلي مطلق فلا يكون عاماً
بل يكتفى بما يصدق فيه المشترك والعدد، وذلك يصدق بثلاثة، فعلى
هذا إذا قلنا هو اللفظ الموضوع للقدر المشترك بقيد تتبعه في
محاله بحكمه اندفعت الأسئلة؛ لأن قيد التتبع في جميع المحال
ينفي الإطلاق فإن المطلق لا يتتبع بل يقتصر به على فرد ويكون
مجموع للقيدين هو المسمى، وهما المشترك وقيد التتبع، فيكون
المسمى واحداً فلا يكون مشتركاً، فحصل العموم من غير إشكال،
فهذا هو الملجئ لهذا الحد الغريب.
والمطلق هو اللفظ الموضوع لمعنى كل نحو رجل، والمقيد هو اللفظ
الذي أضيف إلى مسماه معنى زائد عليه نحو رجل صالح.
التقييد والإطلاق أمران إضافيان، فرب مطلق مقيد بالنسبة، ورب
مقيد
(1/39)
مطلق، فإذا قلت حيوان ناطق فهذا مقيد، وإذا
عبرت عنه بإنسان صار مطلقاً، وإذا قلت إنسان ذكر كان مقيداً،
وإذا عبرت عنه برجل صار مطلقاً، وكذلك ما من مطلق إلا ويمكن
جعله مقيداً بتفصيل مسماه والتعبير عن الجزأين بلفظين، وما من
مقيد إلا ويمكن أن يعبر عنه بلفظ واحد فيصير مطلقاً إلا ما
يندر جداً كالبسائط.
والأمر هو اللفظ الموضوع لطلب الفعل طلباً جازماً على سبيل
الاستعلاء نحو: قم، والنهي هو الموضوع للفظين فأكثر أسن مسمى
أحدهما إلى مسمى الآخر إسناداً يقبل التصديق للفظين فأكثر أسند
مسمى أحدهما إلى مسمى الآخر إسناداً يقبل التصديق والتكذيب
لذاته نحو زيد قائم.
جعل هذا الباب كله من باب اللفظ الموضوع يتخرج على أحد المذاهب
الثلاثة؛ وهي أن الكلام وجميع ما يتعلق به وبأنواعه وعوارضه من
الأمر والنهي والخبر والاستفهام والتكذيب والتصديق وغيرها هل
هي كلها موضوعة للكلام اللساني مجاز في النفساني لأنه المتبادر
عرفاً أو للنفساني مجاز في اللسان كقول الأخطل:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جُعل اللسان على الفؤاد دليل
أو الألفاظ كلها مشتركة بين اللساني والنفساني جمعاً بين
المدركين؟ ثلاثة مذاهب فوق التحديد في هذا مبنياً على المذهب
الأول، مع أن الثالث هو المشهور عند العلماء، كذلك حكاه إمام
الحرمين والإمام فخر الدين، فقولي فيا لأمر لطلب الفعل
احترازاً من طلب الترك الذي هو النهي، ومن الاستفهام لأنه لطلب
الحقائق دون الأفعال، وقولي طلباً جازماً احترازاً من الندب،
وقولي على سبيل الاستعلاء هو مذهب أبي الحسين البصري والإمام
فخر الدين، ومنهم من اشترط العلو دون الاستعلاء، والجمهور من
المتكلمين على عدم اشتراطهما، بل الصيغة من حيث هي صيغة تسمى
أمراً كانت من أعلى أو أدنى مع استعلاء أو تواضع كالخبر،
وسيأتي في الأمر تقرير ذلك إن شاء الله تعالى، ولم أر لهم مثل
هذا الخلاف في النهي فتركته، وتلزمهم التسوية بين البابين،
والاحترازات في الأمر هي بعينها في النهي فلا أعيدها.
(1/40)
قال العلماء: فرقت العرب بين قولنا ما
الزوج وبين قولنا أفهمني ما الزوج؟ فالأول طلب الحقيقة والثاني
طلب فعل يصدر من الخاطب، فإذا قال السيد لعبده من بالباب؟ فقال
غير ذلك العبد: زيد بالباب، حصل مقصود السيد ولا عُتب على
العبد الأول،
فإن المقصود إنما هو تحصيل فهم من بالباب، وإذا قال لعبده
اسقني ماء فسقاه غير ذلك العبد المأمور توجه العُتب على الأول
لكون صيغة الأمر موضوعة للتكليف والإلزام الذي من شأنه العتب
على تقدير الترك، هكذا نقله الأئمة عن اللغة في الفرق بين
الاستفهام والأمر، نقله فخر الدين وغيره، فلذلك قيل في حد
الاستفهام طلب حقيقة الشيء.
وقولي في الخبر للفظين فأكثر، فإن أقل الخبر لفظان نحو زيد
قائم، وقد يخبر بأكثر نحو: أكرم أخوك أباك يوم الجمعة متكئاً
في الدور إلا دار زيد إجلالاً له وخالداً، فهذا كله خبر واحد
هو ومتعلقاته وخالداً مفعول معه وإجلالاً مفعول لأجله (1) .
وقولي: أسند مسمى أحدهما إلى مسمى الآخر احتراز من قولنا زيد
عمرو في الكلام غير المنتظم.
وقولي: يقبل التصديق والتكذيب احتراز من الإسناد بالإضافة نحو
غلام زيد، أو الصفة نحو الرجل الصالح، وقولي: لذاته احتراز من
تعذر قبوله لأحدهما لعارض من جهة المخبر أو المخبر عنه، فالأول
خبر الله تعالى لا يقبل إلا الصدق، والثاني نحو قولنا الواحد
نصف الاثنين لا يقبل إلا الصدق، والواحد نصف العشرة لا يقبل
إلا الكذب، فلم يقبلها في هذه الأحوال، لكن هذه الأخبار بالنظر
إليها من حيث إنها خبر تقبلهما إذا قطعنا النظر عن المخبر
والمخبر عنه، وإنما جاء الامتناع لا من ذات الخبر فله من ذاته
قبولهما (2) .
_________
(1) وباقي إعراب المثال: أكرم فعل ماض. وأخوك فاعل. وأباك
مفعول به، ويوم ظرف. والجمعة: مضاف إليه. ومتكئاً حال وفي
الدور جار ومجرور. وإلا أداة استثناء. ودار مستثنى وزيد مضاف
إليه. والمعروف أن أغلب ألفاظ المثال هي مكملات للجملة
الرئيسية.
(2) وهذه ما يعبرون عنه في علم البلاغة: أنا خبر ما يقبل الصدق
والكذب لذاته.
(1/41)
الفصل السابع الفرق
بين الحقيقة والمجاز وأقسامهما
فالحقيقة استعمال اللفظ فيها وضع له في العرف الذي وقع به
التخاطب وهي أربعة: لغوية كاستعمال الإنسان في الحيوان الناطق.
وشرعية كاستعمال لفظ الصلاة في الأفعال المخصوصة. وعرفية عامة
كاستعمال لفظ الدابة في الحمار. وخاصة نحو استعمال لفظ الجوهر
في المتحيز الذي لا يقبل القسمة.
الحقيقة مشتقة من الحق الذي هو الثابت لأنه يقابل به الباطل،
فهو مرادف للموجود، وهي فعلية إما بمعنى فاعلة فيكون معناها
الثابتة، أو مفعولة فيكون معناها المثبتة؛
لأن هذا هو شأن فعيل من غير فعل بضم العين يكون إما فاعلاً أو
مفعولاً ويعدل عن ذلك إلى فعيل للمبالغة، وأما اسم الفاعل من
فعُل فهو فعيل بأصالته من غير مبالغة، نحو ظرُف، فهو ظريف
وشرُف فهو شريف، والتاء فيها للنقل عن الوصف إلى الاسمية؛ فإن
العرب إذا وصفت بفعيل مؤنثاً ونطقت بالموصوف حذفت التاء اكتفاء
بتأنيث الموصوف فيقولون امرأة قتيل وشاة نطيح. أما إذا حذفوا
الموصوف أثبتوا التاء فيقولون رأيت قتيلة بني فلان ونطيحتهم
لعدم ما يدل على التأنيث؛ فاحتاجوا لإظهاره نفياً للبس، ويكون
الاسم هنا لا يعرف صفة فلذلك قيل التاء للنقل من الوصفية إلى
الاسمية فهذا هو اصل الحقيقة ثم نقلت في عرف الأصوليين على
اللفظة المستعملة فيما وضعت له فصارت مجازاص لغوياً حقيقة
عرفية.
وكذلك المجاز أصله اسم مكان العبور أو زمانه أو مصدره فإن
مفعلة
(1/42)
ومفعلاً (1) يصلح لهذه الثلاثة، ثم وضع في
عرف الأصوليين للفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بينهما،
فهو أيضاً مجاز لغوي حقيقة عرفية؛ فالحقيقة والمجاز مجازان
لغويان حقيقتان عرفيتان.
وقولي في الكتاب: الحقيقة استعمال اللفظ في موضوعه، صوابه:
اللفظة المستعملة أو اللفظ المستعمل، وفرق بين اللفظ المستعمل
وبين استعمال اللفظ، فالحق أنها موضوعة للفظ المستعمل لا لنفس
استعمال اللفظ، فالمقضي عليه بأنه حقيقة أو مجاز هو اللفظ
الموصوف بالاستعمال المخصوص لا نفس الاستعمال، وقولي في العرف
الذي وقع به التخاطب ليشمل الحقائق الأربعة المتقدم ذكرها
بخلاف لو قلت هو اللفظ المستعمل فيما وضع له أولاً تناول
الحقيقة اللغوية فقط، وقولي حقيقة شرعية له تفسيران الأول أن
يقال إن حملة الشرع غلب استعمالهم للفظ الصلاة في الأفعال
المخصوصة حتى بقي اللفظ لا يفهم منه إلا هذه العبارة المخصوصة
وهذا لا نزاع فيه. والثاني: أن يقال إن صاحب الشرع وضع هذه
الألفاظ لهذه العبارات، وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال.
قال القاضي أبو بكر الباقلاني: لم يضع صاحب الشرع شيئاً وإنما
استعمل الألفاظ في مسمياتها اللغوية ودلت الأدلة على أن تلك
المسميات اللغوية لا بد معها من قيود زائدة حتى تصير شرعية.
وقالت المعتزلة: بل تحدد هذه العبارات كمولود جديد يتحدد فلا
بد له من لفظ يدل عليه. وقال الإمام فخرا لدين وطائفة معه: ما
استعمل في المسمى اللغوي ولا نقل بل استعمل اللفظ في خصوص هذه
العبارات على سبيل المجاز لأن الدعاء الذي هو
الصلاة لغة جزء الصلاة الشرعية؛ لأن فيها دعاء الفاتحة، ويبعد
غاية البعد أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام «لا يقبل الله
صلاة بغير طهور» أن يكون مراده الدعاء من حيث هو دعاء.
وقال القاضي فتح هذا الباب يحصل غرض الشيعة من الطعن على
الصحابة رضوان الله عليهم فإنهم يكفرون الصحابة، فإذا قيل إن
الله تعالى وعد المؤمنين
_________
(1) في نسخة مخطوطة: فإن مفعلاً ومفعلاً بفتح العين في الأول
وكسرها في الثاني.
(1/43)
بالجنة وهم قد أمنوا، يقولون إن الإيمان
الذي هو التصديق صدر منهم، ولكن الشرع نقل هذا اللفظ على
الطاعات وهم صدقوا وما أطاعوا في أمر الخلافة، فإذا قلنا إن
الشرع لم ينقل استد هذا الباب الرديء، ولقوله تعالى «قرآناً
عربياً» (1) وهذه الألفاظ موضوعة في القرآن فلو كانت منقولة لم
يكن القرآن كله عربياً، وفي هذه المواطن مباحث كثيرة مستوعبة
في شرح المحصول.
وأما الحقيقة العرفية العامة فهي التي غلب استعمالها في غير
مسماها اللغوي، فإن الدابة اسم لمطلق ما دب فقصرها على الحمار
في ارض مصر أو الفرس بأرض العراق وضع آخر، وهو حقيقة عرفية
مجاز لغوي، وكذلك لفظ الغائط اسم المكان المطمئن من الأرض لغة
ثم نقل للفضلة المخصوصة، والرواية اسم للجمل نقل للمزادة (2)
وهي قسمان تارة يقع النقل لبعض أفراد الحقيقة اللغوية كالدابة،
وتارة لأجنبي عنها كالنجو والرواية، والعرفية الخاصة سميت خاصة
لاختصاصها ببعض الطوائف بخلاف الأولى عامة مثل الجواهر والعرض
للمتكلمين، والنقض والكسر للفقهاء، والفاعل والمفعول للنحاة،
والسبب والوتد للعروضيين.
والمجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له في العرف الذي وقع به
التخاطب لعلاقة بينهما، وهو ينقسم بحسب الوضع إلى أربعة مجازات
لغوي كاستعمال الأسد في الرجل الشجاع، وشرعي كاستعمال لفظ
الصلاة في الدعاء، وعرفي عام كاستعمال لفظ الدابة في مطلق ما
دب، وعرفي خاص كاستعمال لفظ الجوهر في النفيس.
لما تقرر أن الحقائق أربع كانت المجازات أربعة؛ فلفظ الدابة
إذا استعمل في مطلق ما دب كان حقيقة لغوية مجازاً لغوياً، وإذا
استعمل في الحمار كان حقيقة عرفية مجازاً لغوياً لأنه استعمال
له في غير ما وضع له، ولفظ الصلاة إذا استعمل في الدعاء كان
حقيقة لغوية مجازاً شرعاً لأنه استعمال في غير ما وضع له
باعتبار الوضع الشرعي، وإن استعمل في
الأفعال المخصوصة كان حقيقة شرعية مجازاً لغوياً، وكذلك القول
في لفظ الجوهر وكل ما يعرض من هذا الباب.
_________
(1) 113 طه.
(2) إزادة في الأصل: الراوية التي تملأ بالماء. قال أبو عبيد:
لا تكون إلا من جلدين فأم بجلد ثالث بينهما.
(1/44)
والصحيح في حد المجاز أن يقال هذا اللفظ
المستعمل ولا يقال هو استعمال اللفظ كما تقدم تقريره، وهذا هو
الذي عليه جمهور العلماء في الإطلاق، والعبارة الأخرى قليلة في
استعمالهم، وقولي فيا لعرف الذي وقع به التخاطب لأن اللفظ إنما
يكون مجازاً بالنسبة إلى وضع مخصوص فإن لم يكن الخطاب باعتباره
لا يتحقق المجاز كما تقدم تمثيله، فإنه قد يكون حقيقة باعتبار
وضع آخر، والعلاقة لا بد منها وإلا كان منقولاً كجعفر فإنه
النهر الصغير لغة ووضع للشخص المخصوص وليس مجازاً فيه لعدم
العلاقة، وكذلك جميع المنقولات، وقولي بحسب الواضع أريد
بالواضع اللغة والشرع والعرف العام والخاص.
وبحسب الموضوع له إلى مفرد نحو قولنا أسد للرجل الشجاع، وإلى
مركب نحو قولهم:
أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الفداة ومر العشي
فالتفردات حقيقة وإسناد الإشابة والإفناء إلى الكر والمر مجاز
في التركيب، وغلى مفرد ومركب نحو قولهم أحياني اكتحالي بطلعتك
فاستعمال الإحياء والاكتحال في السرور والرؤية مجاز في الإفراد
وإضافة الإحياء إلى الاكتحال مجاز في التركيب فإنه مضاف إلى
الله تعالى.
المجاز المفرد هو ن يكون فظاً موضوعاً (1) لمعنى مفرد فتحوله
عن ذلك المفرد إلى مفرد آخر وتستعمله فيه فإن لفظ الأسد لمعنى
مفرد وهو الأسد؛ فاستعماله في الرجل الشجاع وهو مفرد فكان
المجاز مفرداً، وأعني بالمفرد ما ليس فيه إسناد خبري، والمجاز
في التركيب أن يكون اللفظ في اللغة وضع ليركب مع لفظ معنى آخر
فيركب مع لفظ غير ذلك المعنى فيكون مجازاً في التركيب كما تقول
لفظ السؤال وضع ليركب مع لفظ من يصلح للإجابة نحو سألت زيداً،
فلما ركب مع لفظ القرية التي لا تصلح للإجابة كان مجازاً في
التركيب، ومن ذلك: غرق في العلم، وإنما يغرق في الماء، وأكلت
الماء وإنما يؤكل الطعام وعلفتها ماء (2) وإنما يعلف التبن
والشعير وقوله تعالى «حرمت عليكم أمهاتكم» (3) الآية. الجميع
مجاز في التركيب لأن التحريم
_________
(1) في المخطوطة: هو أن يكون لفظه موضوعاً.
(2) ومنه قول الشاعر: ... علفتها تبناً وماءً بارداً ... حتى
غدت همالة عيناها
(3) 23 النساء.
(1/45)
إنما وضع ليركب مع الأفعال دون
الذوات، وعلى هذه الطريقة يفهم مجاز التركيب. فقولهم أحياني
أراد به سرني وهو من مجاز التشبيه، لأن الحياة توجب ظهور آثار
في محلها وبهجته وكذلك المسرة، فأطلق على المسرة لفظ الحياة
للمشابهة. وقوله اكتحالي يريد رؤيتي؛ عبر بلفظ الاكتحال عن
الرؤية من مجاز التشبيه. لأن العين تشتمل على الكحل كما تشتمل
على المرئي فلما تشابها أطلق لفظ أحدهما على الآخر مجازاً.
فهذا هو مجاز الإفراد، وجعل الاكتحال فاعلاً بالإحياء مجازاً ي
التركيب لأن الإحياء لا يصدر عنه ولا يركب معه فلم يقل أحياه
الكحل حقيقة وإلا لكان من مات يوضع في عينه الكحل فيعيش، فإذا
قلت أحياه الله تعالى كان حقيقة في التركيب؛ لأن اللفظ ركب مع
اللفظ الذي وضع للتركيب معه، ولا فرق في هذا الموضع بني الفاعل
والمفعول والمضاف وغرها، فسرج الدار مجاز في التركيب وباب
الدابة مجاز في التركيب، إلا أن تريد مطلق الإضافة لا أن الدار
لها سرج تركب به، فإنه قد يقال سرج الدار باعتبار أنه موضوع
فيها فتكون الحقيقة في التركيب.
وبحسب هيئته إلى الخفي كالأسد للرجل الشجاع والجلي الراجح
كالدابة للحمار.
الخفي هو الذي لا يفهم إلا بقرينة توجب الصرف عن الحقيقة إليه
والجلي هو الذي لا يفهم من اللفظ إلا هو حتى تصرف القرينة عنه
إلى الحقيقة فلا يفهم اليوم من الصلاة إلا العبادة المخصوصة في
وقتنا هذا حتى تصرفنا القرينة إلى الدعاء، وكذلك الدابة لا
يفهم منها إلى الحمار حتى تصرفنا القرينة إلى مطلق ما دب. فهذا
هو المجاز الراجح، وهو كله حقيقة إما شرعة أو عرفية.
وهنا دقيقة وهي أن كل مجاز راجح منقول وليس كل منقول مجازاً
راجحاً فالمنقول أعم مطلقاً والمجاز الراجح أخص مطلقاً.
المجاز الراجح منقول إما في الشرع كالصلاة أو في العرف العام
كالدابة أو
(1/46)
الخاص كالجوهر والعرض عند المتكلمين فإنا
لا نعني بالنقل إلا غلبة استعماله حتى صار لا يفهم عند عدم
القرينة إلا هو، دون الحقيقة الأصلية، وقد يوجد النقل بدون
المجاز الراجح، بأن يقع النقل لا لعلاقة كالجوهر، فإنه وضع في
اللغة للنفيس من كل شيء ثم نقل للمتحيز الذي لا يقبل القسمة،
وهو في غاية الحقارة، فلا مشابهة بينه وبين النفيس، ولا علاقة
تصلح بينهما؛ فإنا نشترط في العلاقة أن يكون لها اختصاص وشهرة
ولا يكتفى بمجرد الارتباط كيف كان، وإلا أمكن أن يقال النفاسة
لا تقع إلا في الجوهر فبينهما ملابسة فهو مجاز، ولو فتح هذا
الباب صح التجوز بكل شيء إلى كل شيء، وقد نصوا على منعه؛ فقد
قال الإمام فخر الدين إن استعمال لفظ السماء في الأرض لا يصلح
أن يكون
مجازاً مع أنها تقابلها وتلازمها والملازمة أحد أقسام العلاقة
لكنا نعني بالملازمة ما هو أخص من هذا كملازمة الراوية (1)
للجمل الحامل لها، والمسببات لأسبابها ونحو ذلك، وكذلك لفظ
الذات موضوع للمصاحبة لغة، ونقل في عرف المتكلمين لذات الشيء
وألغيت المصاحبة بالكلية، فهو منقول لا مجاز راجح؛ لانتفاء
العلاقة التي هي شرط في أصل المجاز، وإذا تعذر المجاز المطلق
تعذر المجاز الراجح بطريق الأولى؛ فحينئذ المنقول أعم مطلقاً
والمجاز الراجح أخص مطلقاً هذا إذا نسبنا المنقول إلى المجاز
الراجح، فإن نسبناه إلى أصل المجاز كان كل واحد منهما أعم من
الآخر من وجه وأخص من وجه، لأن كل واحد منهما قد وجد مع الآخر
وبدونه، وهذا هو ضابط الأعم من وجه والأخص من وجه، فوجد المجاز
ولا نقل كالأسد في الرجل الشجاع، والنقل ولا مجاز كالجوهر
والذات عند المتكلمين، واجتمعا معاً في الدابة والراوية.
فرع: كل محل قام به معنى واجب أن يشتق له من لفظ ذلك المعنى
لفظ ويمتنع الاشتقاق لغيره خلافاً للمعتزلة في الأمرين فإن كان
الاشتقاق باعتبار قيامه في الاستقبال فهو مجاز إجماعاً نحو
تسمية العنب بالخمر،
_________
(1) هي المزادة، أو (قربة الماء) .
(1/47)
..................... الحال فهو حقيقة
إجماعاً نحو تسمية الخمر خمراً أو باعتبار الماضي وفي (1) كونه
حقيقة، أو مجاز قولان أصحهما المجاز، وهذا إذا كان محكوماً به،
أما إذا كان متعلق الحكم فهو حقيقة مطلقاً نحو «اقتلوا
المشركين» (2) .
قيام المعاني بمحالها يوجب أحكامها لمحالها واستحقاق ألفاظ تلك
الأحكام، فقيام العلم بالمحل يوجب له حكماً وهو كونه عالماً،
واستحقاق لفظ هذا الحكم وهو لفظ عالم، والسواد إذا قام بمحل
أوجب لمحله حكماً وهو كونه أسود، واستحقاق لفظ دال على هذا
الحكم وهو لفظ أسود، ولا يقال لغيره الذي لم يقم به السواد
أسود، والمعتزلة وافقوا في مثل هذا؛ وإنما أصل هذه المسألة
والخلاف فيها أنهم قالوا في كلام الله تعالى إنه مخلوق في
الشجرة لموسى عليه الصلاة والسلام فسمعه منها فهو قائم بها،
ولم يشتق لها منه شيء، فلم يقل الله تعالى: وكلمت الشجرة موسى،
بل حصل الاشتقاق لله تعالى ولم يقم به الكلام عندهم، فقال الله
تعالى «وكلم الله موسى تكليماً» (3) وكذلك اشتقوا (4) لله
تعالى عالماً وقديراً ومريداً وغير ذلك؛ ولم يقولوا قام العلم
به، بل قالوا لم تقم به صفة
البتة، هذا أيضاً خالفوا فيه أهل الحق؛ فإن أهل الحق يقولون
الكلام إنما هو قائم بذات الله تعالى، وجميع الصفات المشتق
منها هذه الألفاظ قائمة به تعالى، فهذا موطن الخلاف. وأما ما
في العالم من الألوان والطعام وغيرها فلم أر لهم فيه خلافاً
وما أخالهم يخالفون فيه، فلذلك قلت خلافاً للمعتزلة في
الأمرين.
وقولي فإن كان الاشتقاق باعتبار الاستقبال أو الحال أو الماضي
أريد به
_________
(1) في النسخة المطبوعة: في كونه، بإسقاط الواو.
(2) تمام الآية: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم - الآية 5 سورة التوبة.
(3) النساء 164.
(4) في النسخة المطبوعة: اشتق بالإفراد.
(1/48)
الاشتقاق الكائن من المصادر في اسم الفاعل
نحو ضارب، أو اسم المفعول نحو مضروب، أو أفعل التفضيل نحو زيد
أضرب من عمرو، أو اسم الزمان أو المكان نحو مضرَب ومقتل ومخرج،
أو اسم الآلة نحو المروحة والمدهن والمسعط، أو اسما لهيئة نحو
الجلسة والعِمة. وأما الفعل الماضي فإنه مشتق وهو حقيقة في
الماضي دون غيره، وكذلك لفظ الأمر والنهي حقيقة في المستقبل
دون غيره، فليس في الماضي قولان أصحهما المجاز ولا صيغة الأمر
باعتبار المستقبل إجماعاً، بل ذلك خاص بما ذكرته من الصيغ؛
فتسمية الإنسان ميتاً باعتبار المستقبل إجماعاً، بل ذلك خاص
بما ذكرته من الصيغ؛ فتسمية الإنسان ميتاً باعتبار أنه سيموت
مجاز إجماعاً، وتسميته ميتاً وهو ميت حقيقة إجماعاً، وتسميته
نطفة وطفلاً باعتبار أنه كان كذلك مجاز على الأصح، وكذلك (1)
لا يصدق على أكابر الصحابة أنهم كفار باعتبار ما كانوا عليه.
وخالف ابن سينا في هذه المسألة وقال: هو حقيقة لأن من صدر منه
الضرب يصدق عليه بعد ذهابه أنه ضارب كما يصدق عليه أنه متكلم
ومخبر، وإن كان الكلام والخبر لم يوجد قط منه إلا حرف واحد،
فلو اشترط وجود المشتق منه حالة الإطلاق لما صدق في هذين
الموضعين، وجوابه أن هذين مستثنيان لتعذر الوجود، والعرب لا
تضع لفظ المحقق للمعتذر، واستيفاء الكلام في هذا الموضع مستوعب
في شرح المحصول.
وقولي: هذا إذا كان محكوماً به الخ، احتراز من سؤال صعب ما
رأيت أحداً أجاب عنه، وتقريره أن قولنا باعتبار الماضي أو
المستقبل أو الحال هذه الأزمنة إنما تعتبر بالنسبة إلى زمن
التخاطب، فإذا قلت أنا الآن: زيد ميت باعتبار أنه سيموت كان
باعتبار المستقبل، لأن زمان المخاطبة بهذا اللفظ فعلم أن هذه
الأزمنة إنما تعتبر باعتبار زمان المخاطبة، وعلى هذا نقول
الزمان الذي نزل فيه القرآن الكريم ونطق فهي رسول الله
بالأحاديث النبوية متقدم على زماننا، فزماننا
_________
(1) أظنها لذلك. بدل كذلك.
(1/49)
مستقبل باعتبار ذلك الزمان، وإذا كان كذلك
وجب حينئذ أن يكون جميع الصفات الواقعة في زماننا مجازاً
بالقياس إلى ذلك الزمان، فعلى هذا قوله تعالى
«الزانية والزاني (1) » «السارق والسارقة (2) » «واقتلوا
المشركين (3) » إلى غير ذلك إنا يتناول من وجد في حالة نزول
هذه الآيات وأما ما بعدها فلا يتناولها إلى بطريقة المجاز،
والأصل عدمه، فيتعذر علينا الاستدلال بهذه الأدلة في زماننا
على ثبوت أحكام هذه الآيات بها فإن ما من نص يستدل به غلا
وللمخالف أن يقول الأصل عدم التجوز على هذه الصورة، فيحتاج كل
دليل إلى دليل آخر من إجماع أو نص يدل على التجوز إلى هذه
الصورة، وهو خلاف ما عليه الناس، بل كل لفظ من هذه الألفاظ يتم
الاستدلال به من جهة اللغة فقط وهو حقيقة، فكيف الجمع بين ما
عليه الناس وبين هذه القاعدة.
ووجه الجمع أن تقول: المشتق قسمان تارة يكون محكوماً به نحو
زيد سارق فهذا هو موطن التقسيم والقاعدة المذكورة، وتارة يكون
المشتق متعلق الحكم لا محكوماً به نحو «اقتلوا المشركين (4) »
فإن الله تعالى لم يحكم في هذه الآية بشرك أحد ولا بأن أحداً
مشرك بل حكم بوجوب القتل، والمشركون متعلق هذا الحكم، وكذلك
الزانية والزاني لم يحكم الله تعالى بزنا أحد ولا بسرقته في
الآية الأخرى، بل بوجوب الجلد والقطع، والزناة والسراق متعلق
هذا الحكم؛ فحينئذ متى كان هو المشتق متعلق الحكم فهو حقيقة
مطلقاً، ولا تفصيل بين الأزمنة ماضيها ومستقبلها، ولا نحكي
خلافاً بل الكل حقيقة إجماعاً، وإن حكمنا بالمشتق على محل
وجعلناه نفس الحكم فهذا هو موطن الخلاف والتفصيل. فهذا وجه
الجمع بين القاعدة وإجماع الأمة؛ فلذلك ذكرت هذا القيد وهو من
غوامض القواعد.
_________
(1) منا لآية 2 النور وتمامها: الزانية والزاني فاجلدوا كل
واحد منهما مائة جلدة.
(2) رقم 38 المائدة. وتمامها «. . فاقطعوا أيديهما. .» .
(3) التوبة.
(4) التوبة.
(1/50)
الفصل الثامن في
التخصيص
وهو إخراج بعض ما يتناوله اللفظ العام أو ما يقوم مقامه، بدليل
منفصل في الزمان إن كان المخصص لفظياً، أو بالجنس إن كان
عقلياً قبل تقرر حكمه، فقولنا أو ما يقوم مقامه احتراز من
المفهوم فإنه يدخله التخصيص، وقولنا بالزمان احتراز من
الاستثناء، وقولنا بالجنس لأن المخصص العقلي مقارن، وقولنا قبل
تقرر حكمه احتراز من أن يعمل بالعام، فإن الإخراج بعد هذا يكون
نسخاً.
دخول التخصيص للمفهوم كقوله عليه الصلاة والسلام «إنما الماء
من الماء» مفهومه أنه لا يجب الغسل من القبلة ولا جميع أنواع
الاستمتاع إذا لم يكن فيه إنزال، خص من ذلك التقاء الختانين،
وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام «إنما الربا في النسيئة» خص عن
مفهومه ربا التفاضل، فإن السلب في المفهوم كعموم الثبوت في
المنطوق، وإذا ثبت معنى العموم دخله الإخراج، وهو التخصيص، وهو
لا يسمى عموماً في الاصطلاح، فلذلك قال أو ما يقوم مقامه وهو
المفهوم لدخول التخصيص فيه، والاستثناء لا يقع إلا متصلاً على
الصحيح (1) والمخصص يجوز أن يتراخى عن العموم كنهيه عليه
الصلاة والسلام عن قتل النسوان وغيرهم بعد الأمر بقتل المشركين
بزمان طويل، وهذا إذا وقع التخصيص بالملفظ، أما إذا وقع
بالفعل، كما في قوله تعالى «الله خالق كل شيء (2) » أو بالواقع
كما في قوله تعالى «تدمر كل شيء (3) » فإن الواقع المشاهد دل
على أن الريح لم تدمر السموات
_________
(1) الاستثناء المتصل: ما كان المستثنى من جنس المستثنى منه
نحو: جاء القوم إلا علياً (فعلياً) من جنس القوم.
(2) 62 الزمر وتمامها «وهو على كل شيء وكيل» .
(3) 35 الأحقاف.
(1/51)
والجبال والأرض وغيرها؛ فعلم بذلك التخصيص
في هذا العموم أو بالعوائد كقول القائل: رأيت الناس فلم أر
أحسن من زيد، ومعلوم بالعادة أنه لم ير جميع الناس، فيدخل
التخصيص بدليل العادة، لكن هذه المخصصات ليست لفظية لكن جنسها
غير جنس اللفظ، فالانقطاع هنا بالجنس لا بالزمان، فلذلك قال
منفصل بالزمان إن كان المخصص لفظياً أو بالجنس إن كان عقلياً،
أي الانفصال لا يكون في العقلي (1)
ونحوه في الزمان لأنه مقارن وإنما ذلك في اللفظي خاصة، وإذا
عمل بالعام كان الإخراج منه بعد ذلك نسخاً؛ لأن العمل به يقتضي
أن عمومه مراد لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ فلو
كان بعض هذا العموم غير مراد لما تأخر بيانه، فلما لم يتبين
اعتقادنا أنه مراد، وإبطال ما هو مراد نسخ، فلذلك اشترط في
التخصيص أن لا يتقرر الحكم.
وهذا الحد باطل مع هذا التحرير العظيم الذي لم أر أحداً جمع ما
جمعت فيه بالتخصيص بالأدلة المتصلة، وهي الغاية، كقولنا أكرم
قريشاً حتى يدخلوا الدار فإن الداخل للدار يخرج من هذا العموم،
والصفة كقولنا أكرم قريشاً الطوال، فإن القصار يخرجون، والشرط
كقولنا أكرمهم إن كانوا طوالاً. فهذه مخصصات لفظية، وقد خرجت
من الحد الاشتراطي الانفصال في الزمان فإنها متصلة في الزمان،
فينبغي أن يؤتى بعبارة تجمع هذه النقوض وتخرج الاستثناء وفيها
عسر.
_________
(1) في النسخة المطبوعة: لا يكون إلا في العقلي..
(1/52)
الفصل التاسع في لحن
الخطاب وفحواه ودليله وتنبيهه واقتضائه ومفهومه
فلحن الخطاب هو دلالة للاقتضاء وهو دلالة اللفظ التزاماً على
ما لا يستقل الحكم إلا به، وإن كان اللفظ لا يقتضيه وضعاً نحو
قوله تعالى «فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق» (1)
تقديره فضرب فانفلق وقوله تعالى «فأتيا فرعون» إلى قوله تعالى
حكاية عن فرعون «قال ألم نربك فينا وليدا (2) » تقديره فأتياه،
وقيل هو فحوى الخطاب والخلاف لفظي، قال القاضي عبد الوهاب
واللغة تقتضي الاصطلاحين، وقال الباجي هو دلل الخطاب وهو مفهوم
المخالفة وهو إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه، وهو عشرة
أنواع: مفهوم العلة نحو ما أسكر فهو حرام، ومفهوم الصفة نحو
قوله عليه الصلاة والسلام «في سائمة الغنم الزكاة» والفرق
بينهما أن العلة في الثاني الغنى، والسوم مكمل له، وفي الأول
العلة عين (3) المذكور، ومفهوم الشرط نحو من تطهر صحت صلاته،
ومفهوم الاستثناء نحو قام القوم إلا زيد، ومفهوم الغاية نحو
«أتموا الصيام إلى الليل (4) » ومفهوم الحصر «إنما الماء من
الماء» ومفهوم الزمان نحو سافرت يوم الجمعة، ومفهوم المكان نحو
جلست أمام زيد، ومفهوم العدو نحو قوله تعالى «فاجلدوهم ثمانين
جلدة (5) » ومفهوم اللقب وهو تعليق الحكم على مجرد الذوات نحو
في الغنم الزكاة وهو أضعفها، وتنبيه الخطاب
_________
(1) 63 الشعراء.
(2) 16، 17، 18 الشعراء.
(3) في المطبوعة: غير المذكورة.
(4) 187 البقرة.
(5) 4 النور.
(1/53)
وهو (1) مفهوم الموافقة عند القاضي عبد
الوهاب أو المخالفة عند غيره (2) وكلاهما وكلاهما فحو الخطاب
عند الباجي، فترادف تنبيه الخطاب وفحواه ومفهوم الموافقة لمعنى
واحد وهو إثبات حكم المنطوق به للمسكوت عنه بطريق الأولى كما
ترادف مفهوم المخالفة ودليل الخطاب وتنبيهه، ومفهوم الموافقة
نوعان أحدهما: ثباته في الأكثر نحو قوله تعالى «فلا تقل لهما
أف» (3)
فإنه يقتضي تحريم الضرب بطريق الأولى وثانيهما إثباته في الأقل
نحو قوله تعالى «ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤدي إليك»
(4) فإنه يقتضي ثبوت أمانته في الدرهم بطريق الأولى.
لحن الخطاب أصله في اللغة إفهام الشيء من غير تصريح ومنه قوله
تعالى «ولتعرفنهم في لحن القول (5) » أي في فلتات الكلام من
غير تصريح بالنفاق، ولذلك قال المأمون أيها الناس لا تضمروا
لنا بغضاً فإنه والله من يضمر لنا بغضاً ندركه في
فلتات كلامه وصفات وجهه ولمحات عينه، ومن ذلك قول الشاعر:
وحديث ألذه وهو مما ... يشتهي الناعتون يوزن وزنا
منطق صائب وتلحن أحيا ... نا وأحلى الحديث ما كان لحنا
أي تعريضاً وتشويقاً من غير تصريح، وقال ابن دريد اللحن
الفطنة، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام «ولعل بعضكم أن يكون
ألحن بحجته من بعض» أي أفطن لها، قال ابن يونس ذكر أهل اللغة
اللحن بإسكان الحاء أنه الخطأ، وبفتحها الصواب، وقال عبد الحق
في النكت: اللحن من أسماء الأضداد للصواب والخطأ، فلذلك قال
القاضي عبد الوهاب هنا اللغة تقتضي الاصطلاحين، وأما
_________
(1) في نسخة هو بحذف الواو.
(2) في نسخة من المخطوطات أسقط: عند غيره.
(3) 23 الإسراء..
(4) 75 آل عمران.
(5) 26 سورة محمد عليه السلام.
(1/54)
دلالة الاقتضاء فمعناها أن المعنى يتقاضها
لا اللفظ، حتى قال جماعة في ضابطها، أنها دلالة اللفظ على ما
يتوقف عليه صدق المتكلم، فإن قوله تعالى «فانفلق» (1) إنما
ينتظم بالإضمار المذكور وكذلك قوله تعالى «وإني مرسلة إليهم
بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون» إلى قوله تعالى «فلما جاء
سليمان» (2) فمجيء الرسول إلى سليمان عليه الصلاة والسلام فرع
إرساله فيتعين أن يضمر: فأرسلت رسولاً فلما جاء سليمان، فلذلك
قلت إن المعنى يقتضيه دون اللفظ، بخلاف دليل الخطاب وفحواه
اللذين هما مفهوم المخالفة ومفهوم الموافقة للفظ يتقاضاها
بمفهومه، بخلاف المثل المذكورة لا يتقاضاها منطوق ولا مفهوم،
بل المعنى فقط وانتظامه، وفحوى الخطاب معناه مفهومه تقول فهمت
من فحوى كلامه كذا أي من مفهومه فوضع العلماء ذلك لمفهوم
الموافقة، فهذه الألفاظ وضعها بإزاء هذه المعاني المذكورة هنا
اصطلاحي لا لغوي.
وقولي في مفهوم المخالفة إنه إثبات نقيض حكم المنطوق به
للمسكوت عنه، احتراز عما توهمه الشيخ بن أبي زيد وغيره
فاستدلوا بقوله تعالى «ولا تصل على أحد منهم مات أبداً» (3)
على وجوب الصلاة على أموات المسلمين بطريق المفهوم، وقالوا
مفهوم التحريم على المنافقين الوجوب في حق المسلمين. وليس كما
زعموا، فإن الوجوب هو ضد التحريم، والحاصل في المفهوم إنما هو
سلب ذلك الحكم المرتب في المنطوق، وعدم التحريم أعم من ثبوت
الوجوب، فإذا قال الله تعالى حرمت عليكم الصلاة على المنافقين
فمفهومه أن غير المنافقين لا تحرم الصلاة عليهم، وإذا لم تحرم
جاز أن تباح، فإن النقيض أعم من الضد، وإنما يعلم الوجوب أو
غيره بدليل منفصل، فلذلك يتعين أن لا يزاد في المفهوم على
إثبات النقيض.
_________
(1) 63 الشعراء «فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم» .
(2) 36 النمل.
(3) 84 التوبة.
(1/55)
ويعرض بين مفهوم العلة والصفة جواب عن سؤال
مقدر وهو إن علة الإسكار صفة،
فقولي بعد ذلك مفهوم الصفة تكرار بغير فائدة، فأردت أن أبين
بالفرق المذكور أن الصفة قد تكون متممة للعلة لا علة، فهي أعم
من العلة؛ فإن الزكاة لم تجب في السائمة لكونها تسوم وغلا
لوجبت الزكاة في الوحوش، وإنما وجبت لنعمة الملك وهي مع السوم
أتم منها مع العلف، وفي كون الاستثناء من باب المفهوم إشكال من
جهة أن (إلا) وضعت للإخراج فينبغي أن يكون الاتصاف بالعدم في
المخرج مدلولاً بالمطابقة، فلا يكون مفهوماً لأن المفهوم هو من
باب دلالة الالتزام.
وجواب هذا السؤال أن (إلا) وضعت للإخراج من المنطوق ولا يلزم
من ذلك دخول المستثنى في عدمه باللفظ بل بدلالة العقل على أن
النقيضين لا ثالث لهما، وحينئذ يتعين من الخروج من أحدهما
الدخول في الآخر، أما لو فرض لهما ثالث لا يلزم الدخول في
العدم بل في ذلك الثالث، أو في العدم فلا يتعين العدم؛ فحينئد
إنما استفدنا الاتصاف بالعدم من جهة دلالة العقل لا من اللفظ،
فكان الاتصاف بالعدم مدلولاً التزاماً لا مطابقة، وإنما
المدلول مطابقة هو نفس الخروج من المتقدم، أما الدخول في نقيضه
فمن جهة العقل، وكذلك نقول في مفهوم الغاية، وأما مفهوم الحصر
فقد نقل أبو علي في المسائل الشيرازيات أن (ما) في (إنما)
للنفي وأن النفي في المسكوت بها، فعلى هذا يكون منطوقاً لا
مفهوماً، وهو الذي يقوى في نفسي، هذا إن كان الحصر بإنما، وأما
بالنفي قبل إلا نحو «ما قام إلا زيد» فظاهر أنه ليس مفهوماً،
وأما في تقديم المعمولات أو المبتدأ مع الخبر فيترجح أنه
مفهوم، وسيأتي له باب - إن شاء الله تعالى - وفي مفهوم العدد
إشكال، وتفصيله مبسوط في المحصول، وشرحه يقدح في اعتباره،
والجمهور على عدم قدحه فلذلك تركته، ومفهوم اللقب إنما ضعف
لعدم رائحة التعليل فيه فإن الصفة تشعر بالتعليل وكذلك الشرط
ونحوه، بخلاف اللقب لجموده بعد التعليل فيه.
(1/56)
قال التبريزي: والألقاب كالأعلام. وجعلها
الأصل، وألحق بها أسماء الأجناس، وغيره أطلق في الجميع واعتمد
على صورة التخصيص وإنها لا بد لها من فائدة، وسمى فحوى الخطاب
مفهوم الموافقة وتنبيه الخطاب، لأن المسكوت وافق المنطوق في
حكمه، والمنطوق نبه على حكم المسكوت، وقولي كما يترادف مفهوم
المخالفة ودليل الخطاب وتنبيهه، صوابه: الاقتصار على الأولين
ونترك تنبيه الخطاب لأنه لم يتقدم له ذكر في مفهوم المخالفة.
الفصل العاشر في الحصر
هو إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه بصيغة إنما ونحوها
وأدواته أربعة
إنما نحو «إنما الماء من الماء» ، وتقدم النفي قبل غلا نحو «لا
يقبل الله صلاة إلا بطهور» ، والمبتدأ مع خبره نحو قوله عليه
الصلاة والسلام «تحريمها التكبير وتحليلها التسليم» (1)
فالتحريم محصور في التكبير والتحليل محصور في التسليم، وكذلك
«ذكاة الجنين ذكاة أمه» وتقديم المعمولات نحو قوله تعالى» إياك
نعبد وإياك نستعين (2) » وهم بأمره يعملون، أي لا نعبد إلا
إياك، وهم لا يعملون إلا بأمره، وهو منقسم إلى حصر الموصوفات
في الصفات وإلى حصر الصفات في الموصوفات نحو قولك إنما زيد
عالم إنما العالم زيد، وعلى التقديرين فقد يكون عاماً في
المتعلق نحو ما تقدم، وقد يكون خاصاً نحو قوله تعالى «إنما أنت
منذر» أي باعتبار
_________
(1) الحديث في شأن الصلاة.
(2) 5 الفاتحة.
(1/57)
من لا يؤمن، فإن حظه منه الإنذار ليس إلا،
فهو محصور في إنذاره ولا وصف له غير الإنذار باعتبار هذه
الطائفة وغلا فهذه الصيغة تقتضي حصره في الندارة فلا يوصف
بالبشارة ولا بالعلم ولا بالشجاعة ولا بصفة أخرى. ومن هذا
الباب قولهم زيد صديقي وصديقي زيد، فالأول يقتضي حصر زيد في
صداقتك فلا يصادق غيره، وأنت يجوز أن تصادق غيره، والثاني
يقتضي حصر أصدقائك فيه وهو غير محصور في صداقتك، بل يجوز أن
يصادق غيرك على عكس الأول.
قد تقدم أن الذي يلزم ثبوته في هذه المواطن كلها من المفهومات
إنما هو النقيض لا الضد ولا الخلاف.
وقولي بصيغة (إنما) ونحوها لا يحسن في الحدود، لأن نحوها ليس
هو مثلها في اللفظ وإلا لكان هو إياها بعينها. بل معناه ونحوها
مما يفيد الحصر والجاهل بالحصر كيف يعلم ما يفيده، فيصير هذا
تعريفاً بالمجهول. بل حسن ذلك أني فسرت ذلك بثلاث أخرى مبينة
بعدها، فذهب الإجمال.
وقولي تقديم النفي قبل إلا يعمم جميع أنواع النفي نحو ما قام
إلا زد، ولم يقم إلا زيد، ولن يقوم إلا زيد، ولما يقم إلا زيد.
كيفما تقلب النفي.
وقولي المبتدأ مع الخبر تارة يكون الخبر معرفة باللام أو
الإضافة، وتارة يكون نكرة، وعلى كل تقدير يفيد الحصر، لكن
يختلف الحصر. وإنما قلنا إن الحصر ثابت مطلقاً لأن المبتدأ
يجوز أ، يكون أخص أو مساوياً، ويمتنع عليه أن يكون أعم لغة
وعقلاً، فلا يجوز أن تقول الحيوان إنسان ولا الزوج عشرة، بل
الإنسان حيوان والعشرة زوج، حينئذ يصدق وقبل ذلك فهو كاذب،
والعرب لم تضع إلا للصدق دون الكذب، والمساوي يجب
أن يكون محصوراً في مساويه والأخص محصوراً في أعمه، وإلا لم
يكن أخص ولا مساوياً، فهذا برهان
(1/58)
على ثبوت الحصر مطلقاً كيف كان المبتدأ
وخبره، غير أنه إذا كان الخبر نكرة يقع الحصر في الخبر دون
نقيضه وضده، ولا يمنع هذا الحصر ثبوت الخلاف، فإذا قلت زيد
قائم فقد أثبت له مطلق القيام، فهي موجبة جزئية مطلقة، ونقيض
الموجبة الجزئية، السالبة الدائمة الكلية، ولا شك في أن هذا
النقيض كاذب إذ لو صدقت السالبة الدائمة لما صدقت المطللقة
المفروض صدقها، لكنها صادقة، وكذلك كل ما يضاد مطلق القيام يجب
نفيه، بل كل ما هو شرط في ثبوت مطلق القيام يجب ثبوته، وكل ما
هو مانع من مطلق القيام يجب نفيه لضرورة صدقه.
نعم يجوز ثبوت ما هو خلاف القيام مثل نحو كونه فقيهاً أو
شجاعاً أو شيخاً فاضلاً، فإن هذه الأمور كلها يمكن ثبوتها مع
قولنا قائم، وهي أمور تخالف مطلق القيام ولا تضاده ولا تناقضه،
فهذا تحرير الحصر مع التنكير، وأما مع التعريف فيجب سلب الخلاف
أيضاً فلا يوصف بغير ذلك الخبر فتقتضي الصفة أنه ليس موصوفاً
إلا بتلك الصفة خاصة؛ فإن كان في الواقع له صفة غيرها فهو
تخصيص لعموم الحصر. فقوله عليه الصلاة والسلام «تحليلها
التسليم» يقتضي أن المصلي لا يخرج من حرمات الصلاة إلى حلها
إلا بالتسليم دون جميع الصفات من الأضداد والنقائض والخلافات،
فإن الكل ساقط عن الاعتبار إلا بالتسليم، وكذلك قوله عليه
الصلاة والسلام: «تحريمها التكبير» يقتضي أنه لا يدخل في
حرماتها إلا بالتكبير دون جميع الأمور المتوهمة.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» فروي
برفع ذكاة الثانية وبنصبها، وتمسك المالكية والشافعية بالرفع
على أن الجنين إذا خرج وقد كمل خلقه ميتاً بعد ذكاة أمه أكل،
لأنه عليه الصلاة والسلام حصر ذكاة الجنين في ذكاة أمه فيكون
داخلاً فيها ومندرجاً فيؤكل بذكاة أمه التي فيها ذكاته، ولا
يفتقر إلى ذكاة أخرى، واحتج الحنفية برواية النصب على أنه
يستقل بذكاة نفسه وإذا لم يذكى لم يؤكل لأن النصب يقتضي أن
يكون التقدير ذكاة الجنين أن يذكى ذكاة
(1/59)
مثل ذكاة أمه، ثم حذف المصدر وصفته التي هي
مثل، وأقيم المضاف إليه مقامها، فأعرب بإعرابها؛ فنصب، لأنها
قاعدة حذف المضاف.
والجواب عن تمسكهم برواية النصب أن تقول: ليس التقدير كما
ذكرتموه، بل التقدير ذكاة الجنين داخلة في ذكاة أمه، ثم حذف
الخبر الذي هو داخله وحرف الجر من ذكاة أمه، وهذا أولى
الوجهين: الأول أنه أقل حذفاً والثاني أنه يؤدي إلى الجمع بين
الروايتين، وهو أولى من إطراح إحداهما، وأما تقديم المعمولات
فكونه مفيداً للحصر قاله الزمخشري وغيره، وخالفه جماعة في ذلك.
ومن المثل المقوية لقول الزمخشري قول العرب «إياك
أعني واسمعي يا جارة» فإنه يقتضي أنه لا يعني غيره، وعن
الأصمعي أنه مر ببعض أحياء العرب فشتمت رفيقه امرأة ولم تعين
الشتم له دون الأصمعي، ثم التفت إليها رفيقه فقالت له إياك
أعني، فقال للأصمعي انظر كيف حصرت الشتم فيّ.
وزاد الإمام فخر الدين في كتاب الإعجاز له: لام التعريف في
الخبر، وقال: هي تقتضي حصر الخبر في المبتدأ عكس الحصور كلها
في المبتدآت، فإن الأول يكون محصوراً في الثاني فإذا قلنا أبو
بكر الصديق الخليفة بعد رسول الله b
يكون الثاني محصوراً في الأول، وكذلك قولك زيد المتحدث في هذه
القضية أي لا يتحدث فيها غيره وهو كثير.
وذكرت حصرا لصفة في الموصوف وعكسه وبقي على ثالث وهو حصر الصفة
في الصفة: نحو النزاهة في القناعة، والدين الورع، والتدبير
العيش، والبشر حسن الخلق. وهو كثير، ومن باب الحصر بحسب بعض
الاعتبارات قوله عليه الصلاة والسلام «إنما أنا بشر وإنكم
تختصمون إليَّ» الحديث (1) حصر نفسه عليه الصلاة والسلام
الكريمة في البشرية دون غيرها باعتبار الاطلاع على بواطن
الخصوم
_________
(1) وباقي الحديث «ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي
له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من
النار» .
(1/60)
نقلاً صفة له عليه الصلاة والسلام باعتبار
هذا المقام إلا البشرية الصرفة وما عدا ذلك من الرسالة والنبوة
وجميع صفات كماله عليه الصلاة والسلام لا مدخل لها في الاطلاع
على بواطن الخصوم، بل كما قال عليه الصلاة والسلام فأقضي له
على نحو ما أسمع، وقال أقضي بالظاهر والله يتولى السرائر. ومن
ذلك قوله تعالى: «إنما الحياة الدنيا لعب ولهو» (1) وحصرها في
اللعب مع أنها مزرعة الآخرة، وفيها تحصل الولاية والصديقية،
وتكتسب المراتب العلية والدرجات الرفيعة، وكل خير مكتب في
الآخرة فهو من هذه الدار، وهذه خيرات حسان وفضائل علية للدنيا،
فكيف تحصر في اللعب؟! وإنما ذلك باعتبار من آثرها، فإنها في
حقه لعب صرف. وتلك المحاسن لا ينال هذا منها شيئاً، فهو حصر
بحسب بعض الاعتبارات، وهو كثير في القرآن الكريم. وقد ذكرت منه
جملاً كثيرة في كتاب الاستغناء في أحكام الاستثناء، وصديقي زيد
يجوز أن يصادق غيري لأن الأول أبداً محصور فيا لثاني، والثاني
يجوز أن يكون أعم فلا ينحصر في الأول، فلذلك يجوز أن يصادق زيد
غيري، لأني حصرت صداقتي فيه ولم أحصره في صداقتي، وكذلك قوله
تعالى «إنما يخشى الله من عباده العلماء» (2)
يقتضي حصر خشية الله تعالى في العلماء، فلا يجوز أن يخشاه
تعالى غيرهم، ويجوز أن يخشوا هم غيره تعالى بالنظر على دلالة
هذا اللفظ، ولو عكس فقيل: إنما يخشى العلماء الله
بتقديم الفاعل انعكس الحال، فلا يخشون غيره، ويجوز أن يخشاه
غيرهم بالنظر إلى دلالة اللفظ.
فائدة: باب الحصر ينقسم على حصر الثاني في الأول في تقديم
المعمولات، فالعبادة والاستعانة والعمل محصورات في تلك الآيات
فيما تقدم عليها. وكذلك لام التعريف فيما حكيته عن الإمام فخر
الدين، وإلى حصر الأول في الثاني فيما عدا ذلك.
_________
(1) من الآية 36 سورة محمد عليه السلام.
(2) 38 فاطر..
(1/61)
الفصل الحادي عشر
خمس حقائق لا تتعلق إلا بالمستقبل من الزمان وبالمعدوم وهي
الأمر والنهي والدعاء والشروط وجزاؤه.
صوابه أن يقول بالمعدوم وبالمستقبل، فقولنا بالمعدوم احتراز من
الحال، وقولنا المستقبل احتراز من الماضي، ولو قلت بالمستقبل
لأجزأ لكن التصريح بالمعدوم أحسن لأنه أنص على اعتبار المعدوم
في ذلك، وألحقت بعد وضع هذا الكتاب لهذه الخمسة، خمسة أخرى،
صارت عشرة، وهي: الوعد والوعيد والترجي والتمني والإباحة، ووجه
اختصاصها بالمستقبل أن الأمر والنهي والدعاء والترجي والتمني:
طلب، وطلب الماضي متعذر، والحال موجود، وطلب تحصيل الحاصل
محال، فتعين المستقبل، والشرط وجزاؤه ربط أرم يتوقف دخوله في
الوجود على دخول أمر آخر، والتوقف في الوجود إنما يكون في
المستقبل، فإذا قال ن دخلت الدار فأنت طالق، لا يمكن أن يكون
المعلق عليه دخله مضت، ولا المشروط طلقة مضت، بل مستقبلة.
وأما الوعد والوعيد، فإنه زجر عن مستقبل أو حث على مستقبل بما
تتوقعه النفس من خير في الوعد وشر في الوعيد والتوقع لا يكون
إلا في المستقبل، والإباحة تخيير بين الفعل والترك، والتخيير
إنما يكون في معدوم مستقبل؛ لأن الماضي والحاضر تعين، فتعين
تعلق العشرة بالمستقبل، وينبني عليها فوائد كثيرة نبهت على
بعضها في شرح المحصول.
(1/62)
الفصل الثاني عشر
حكم العقل بأمر على أمر
حكم العقل بأمر على أمر: إما غير جازم والاحتمالات إما مستوية
فهو الشك، أو بعضها راجح والراجح هو الظن والمرجوح وهم،
والجازم إما غير مطابق وهو الجهل المركب، أو مطابق وهو إما
لغير موجب وهو التقليد أو لموجب وهو إما عقل وده فإن
استغنى عن الكسب فهو البديهي وإلا فهو النظري، أو حس وحده وهو
المسحسوسات الخمس أو مركب منهما وهو المتواترات والتجريبات
والحسيات والوجدانيات أشبه بالمحسوسات، فتندرج معها في الحكم.
الشك اسم لاحتمالين فأكثر مستوية، فسماه مركب ومسمى الظن
والوهم بسيط، لأن الظن اسم للاحتمال الراجح والوهم للاحتمال
المرجوح، والجهل المركب سمي بذلك لتركبه من جهلين؛ فإنه يجهل
ويجهل أنه يجهل كأرباب البدع والأهواء، فإنهم يجهلون الحق في
نفس الأمر، وإذا قيل لهم أنتم عالمون أو جاهلون؟ قالوا عالمون،
فقد جهلوا جهلهم، فاجتمع لهم جهلان فيه فسمي جهلاً مركباً. وقد
جمع المتنبي ثلاث جهالات في بيت حيث قال:
ومن جاهل بي وهو يجهل جهله ... ويجهل علمي أنه بي جاهل
وكذلك كل من اعتقد في رجل أنه صالح وهو طالح، أو طالح وهو صالح
وكل من اعتقد شيئاً على خلاف ما هو عليه، والجهل المركب يقابله
الجهل البسيط، وهو أن يجهل ويعلم أنه يجهل، كما إذا قيل له أنت
تعلم عدد شعر رأسك أو تجهله؟ يقول أجهله، فإذا قيل له فأنت
تعلم أنك جاهل بذلك؟ يقول نعم. وهذه العبارة لا تجمع الجهل
المركب كله؛ فقد يدخل الجهل المركب في التصورات، فإن من تصور
الحقائق على خلاف ما هي عليه فهو جاهل جهلاً مركباً، كمن يتصور
الإنسان أنه الحيوان
(1/63)
فقط، وإذا طابق الحكم بغير موجب فهو تقليد؛
كما يعتقد عوام المسلمين قواعد عقائدهم عن أئمتهم، فإذا سئلوا
عن أدلة تلك القواعد لا يعلمون أدلتها.
فالتقليد هو أخذ القول من قائله من غير مستند وقد يكون مطابقاً
كما تقدم، وغير مطابق كتقلد عوام الكفار وأهل الضلال لرؤسائهم
وأحبارهم.
والعقلي المستغني عن الكسب كقولنا الواحد نصف الاثنين، فإن
تصور المحكوم به والمحكوم عليه كاف في الجزم بإسناد أحدهما إلى
الآخر، فهذا بديهي من التصديقات والبديهي من التصورات هو الغني
عن الحدود والاكتساب بها، كأحوال النفس من جوعها وعطشها وألمها
ولذاتها وغير ذلك، فإن هذه الحقائق ضرورية للبشر ولا يحتاج في
معرفتها لتعلم ولا كسب بحد، بخلاف تصور معنى الحكم الشرعي
والحقائق الخفية، فيحتاج فيها للحدود والرسوم الضابطة لها،
وكذلك ما احتاج من التصديقات للكسب بالأدلة والبراهين فهو كسبي
نحو حدوث العالم وكون الواحد عشر سدس الستين، وجميع المطالب
المحتاجة للفكر، والعلوم الحسية هي العلوم المتفادة عن الحواس
الخمس، وهي كلها في الرأس،
فأربعة خاصة به، وواحد يتعداه إلى غيره وهو اللمس، والمختصة
السمع والبصر والذوق والشم.
فائدة: قال بعض اللغوين قولهم محسوسات لحن فإن الفعل المأخوذ
من الحواس رباعي تقول أحس زيد بكذا، قال الله تعالى فلما أحس
عيسى منهم الكفر. وأما حس الثلاثي فله ثلاثة معان أخر، تقول
العرب حسه إذا قتله، وحسه إذا مسحه، ومنه حس الفرس، وحس إذا
ألقى عليه الحجارة المحماة لينضج، فهذه الثلاثة يقول للمفعول
فيها محسوس، وأما الحواس فمحس مثل مكرم ومعطى، وجميع الأفعال
الرباعية فيكون جمعها محسات بضم الميم لا محسوسات، غير أن أكثر
اللغويين يتوسعون في هذا الباب، ووقعت هذه العبارة لجمع كثير
من الفضلاء كابي علي وغيره، وكأنهم نحوا بها نحو معلومات
لاشتراك الجمع في الإدراك.
فائدة: قال بعض الفضلاء: هذا معنى قول العرب ضربت أخماسي في
أسداسي، أي فكرت بحواسي الخمس في جهات الست لأن الجمع ست: فوق
وأسفل وقدام
(1/64)
وخلف ويمنة ويسرة، ولقد أحس الحريري وأوجز
حيث جمعها في بيت من الشعر في الملحمة حيث قال:
ثم الجهات الست فوق وورا ... ويمنة وعكسه بلا مرا
فأخذ كل جهة وترك ضدها ليتنبه السامع له، وبقي معه بقية في
البيت لا يحتاجها فخشاها بقوله بلا مرا، وقيل ليس من هذا بل من
إظماء الإبل، والأخماس والأسداس ترجع إلى أيام ورودها للماء
لخمس أو سدس، فإذا وقعت المغالطة من الراعي ضرب الخمس في السدس
وأخرها عن شربها (1) . ووجه تركب المستند في المتواترات من
الحس والعقل أنه لا بد من سماع أخبار جماعة عن الأمر المتواتر
فهذا حظ السمع، ثم إن قال العقل هؤلاء يستحيل تواطؤهم عن الكذب
حصل العلم فهذا حظ العقل، وإن لم يقل ذلك لم يحصل العلم، وكذلك
التجريبات وتسمى المجربات أيضاً نحو كون الليمون حامضاً والصبر
مراً والتمر حلواً ونحو ذلك، فإن أول مرة يباشر الحس ذلك النوع
يجوز
العقل أن يكون ذلك الفرد من ذلك النوع أصابه عارض أوجب له ذلك،
كما توجد المرارة في بعض أفراد الفقوس والخيار والنوع في نفسه
ليس كذلك، فإن كثرت تكرار ذلك على الحس والعقل قال العقل عند
حد من الكثرة في التكرار: كلي ليمونة حامضة وكل تمرة حلوة،
فهذه المقدمة هي نصيب العقل لا بد منها، وعندما يحصل العلم،
وكذلك الحدسيات كنقد الفضة ونضج الفاكهة فإن البصر يدرك أول
مرة الدرهم الرديء فلا يعرفه، فيقال له إنه رديء فيتأمله
ويتكرر ذلك عليه كثيراً حتى يحصل عند العقل قرائن لا يمنك
التعبير عنها، فيقول لأجلها كل ما كان كذا فهو درهم رديء.
فهذه المقدمة هي تصيب العقل، وعندها يحصل العلم، واشتركت
المتواترات والحدسيات والمجريات في أن أول مرة ربما حصل الشك
وعند التكرار الظن، وبعد ذلك قد
_________
(1) وأصل ذلك أن شيخاً كان في إبله ومعه أولاده رجالاً يرعونها
قد طالت غربتهم عن أهلهم. فقال لهم ذات يوم ارعوا إبلكم ربعاً
فرعوا ربعاً نحو طريق أهلهم. فقالوا لو رعيناها خمساً فزادوا
يوماً قبل أهلهم. فقالوا لو رعيناها سدساً؛ ففطن الشيخ لما
يريدون فقال ما أنتم إلا ضرب أخماس لأسداس ما همتكم رعيها إنما
همتكم أهلكم، وأنشأ يقول: ... وذلك ضرب أخماس أراه ... لأسداس
عسى أن لا تكونا
(1/65)
يحصل العلم وقد لا يحصل، وأنها تحتاج للحس
والعقل، غير أن الفرق بينها أن المتواترات تختص بالأخبار
والحدسيات تحتاج إلى نظر حالة القضاء على الجزئيات، والمجربات
لا تحتاج إلى نظر حالة القضاء على الجزئيات، فإذا قال لك أحد
أن معي مسك هي هو عطر أم لا؟ قلت هو عطر، أو معي ليمونة هل هي
حامضة أم لا؟ قلت هي حامضة، أو معي حنظلة هل هي مرة أم لا؟ قلت
مرة، من غير احتياجك إلى نظر في ذلك الفرد، أما لو قال لك معي
درهم هل هو جيد أم لا؟ قلت حتى أنظر غليه. أو معي رمانة هل هي
نضيجة أم لا؟ قلت حتى أنظر إليها. أو عندي رجل هل هو شجاع أو
جبان؟ قلت حتى أنظر إليه. فهذا هو الفرق بينها.
سؤال: يلزم أن الاستدلال بوجود العالم على وجود الصانع من هذا
الباب وليس كذلك، بل هو عقلي، فإن الحس إذا شاهد الصنعة قال
لها صانع، فقد اجتمع الحس والعقل، ولو فقد أحدهما لم يحصل
العلم.
جوابه: إن هذا عقلي والملازمة بينهما عقلية، والفرق بينه وبين
المجربات والحدسيات من وجوه: الأول إن هذا عقلي وتلك عادية،
وثانيها هذا يكفي فيه مطلق المشاهدة، وتلك لا بد فيها من
التكرار، وثالثها إن هذا يكون في مادة الوجوب وتلك في مادة
الإمكان. وإنما كانت الوجدانيات أشبه بالحسيات لأن الحس لا
يدرك إلا جزئياً فلا يسمع كل صوت ولا يمكن أن يذوق كل طعم ولا
يلمس كل لبونة أو حرارة، بل فرداً خاصاً من ذلك النوع، فمدركات
الحس أبداً جزئية، والعقل هو المدرك للأمور الكلية فهو الذي
يقول كل مسك عطر وكل ليمونة حامضة؛ فمدركات العقول كليات
ومدركات الحواس جزئيات، والوجدانيات أمور جزئية فإنه لا يقوم
بالإنسان كل جوع ولا كل عطش، بل فرد من ذلك، فهي جزئية وليست
حسية لأن من فقد حواسه كلها وجد ألمه، وليست عقلية لأنها
جزئية، فلذلك ألحقها العلماء بالحسيات دون العقليات، وهي قبيل
قائم بذاته غيرهما.
فائدة: اختلف العلماء هل الحواس مع العقل كالحجاب مع الملك أو
كالطاقات؟ فقيل كالحجاب، والحواس تدرك أولاً ويحصل لها العلم
ثم تؤدي تلك العلوم الجزئية
(1/66)
للنفس فتحكم عليها، وتقول كل ما كان كذا
فهو كذا، وقيل بل الحواس طاقات والنفس كملك في بيت له خمس
طاقات قبالة كل طاقة مشاهدات ليست قبالة الأخرى، والنفس التي
هي الملك تنظر من كل طاقة لقبيل من المدركات لا توجد إلا
هنالك، ويدل على الأول أن البهائم لا عقل لها وهي تدرك
بحواسها، فدل ذلك على أن الحواس مستقلة بالإدراك دون النفس،
ويدل على المذهب الثاني أن الإنسان إذا نام وفتحت عيناه لا
يدرك شيئاً مع وجود العين بجملتها: السبع طبقات وثلاث رطوبات
والعصب الأجوف والروح الباصرة، ولا يزال كذلك غير مدرك حتى
يستيقظ فيأتي شيء للبصر وجميع الحواس، وحينئذ يحصل الإدراك،
فدل على أن الحواس طاقات للنفس.
الفصل الثالث عشر في الحكم وأقسامه
الحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى القديم المتعلق بأفعال
المكلفين بالاقتضاء أو التخيير، فالقديم احتراز من نصوص أدلة
الأحكام فإنها خطاب الله تعالى وليست حكماً وإلا اتحد الدليل
والمدلول، وهي محدثة، والمكلفين احتراز من المتعلق بالجماد
وغيره، والاقتضاء احتراز عن الخبر وقولنا أو التخيير ليندرج
المباح.
إني اتبعت في هذا الحد الإمام فخر الدين رحمه الله تعالى مع
أني غيرت بالزيادة في قولي القديم، ومع ذلك فلفظ الخطاب،
والمخاطبة إنما يكون لغة بين اثنين وحكم الله تعالى قديم فلا
يصح فيه الخطاب، وإنما يكون ذلك في الحادث، والصحيح أن يقال
كلام الله القديم، فالكلام لفظ مشترك بين القديم واللساني
الحادث كما تقدم فيه حكاية ثلاثة أقوال، وقولي القديم ليخرج
الحادث من الألفاظ التي هي أدلة الحكم فإنها كلام الله تعالى
وهو متعلق بأفعال المكلفين نحو قوله تعالى
(1/67)
«أقيموا الصلاة» (1) فلو كانت حكماً لا تحد
الدليل والمدلول، وقولي المكلفين احتراز عن المتعلق بالجماد
مثاله قوله تعالى «ويوم نسير الجبال» (2) فإنه كلام متعلق
بالجبال وهو جماد ونحو هذا، فإذا قلنا المتعلق بأفعال المكلفين
خرج هذا النوع وقولي بالاقتضاء احتراز من الخبر فإن قوله تعالى
«وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس» (3) كلام
متعلق بأفعال المكلفين وليس حكماً بل هو خبر عن تكليف تقدم.
ويدخل في الاقتضاء أربعة أحكام اقتضاء الوجود بالوجوب: أو
الندب واقتضاء العدم بالتحريم، أو الكراهة، فتبقى الإباحة لم
تندرج، فقلت أو التخيير لتندرج الإباحة وتكمل الأحكام الخمسة
تحت الحد فيكون جامعاً، وقبل ذلك لم يجمع؛ فإن قلت أو للشك وهو
لا يصلح في الحد قلت (أو، وأما) لها خمسة معان الإباحة
والتخيير نحو أصحاب العلماء أو الزهاد فلك الجمع بينهما، وخذ
الثواب أو الدينار (4) فليس لك الجمع بينهما، والشك نحو جاءني
زيد أو عمرو وأنت لا تدري الآتي منهما، والإبهام نحو جاءني زيد
أو عمرو وأنت تعلم الآتي منهما، وإنما قصدت الإبهام على السامع
خشية مفسدة في التعيين، والتنويع نحو العدد إما زوج أو فردي أي
العدد متنوع لهذين النوعين فأو هنا للتنويع أي الحكم الشرعي
متنوع لهذين النوعين بلا شك وقد قال بعض الفضلاء في مثل هذا
السؤال هذا حكم بالترديد لا ترديد في الحكم، والثاني هو الشك
دون الأول لأنه جزم لا شك.
فإن قلت إذا سلمنا أن (أو) لها خمسة معان فالمشتركات لا تصلح
في الحدود لإجمالها.
قلت: قد تقدم في أول الكتاب في الكلام عن الحد أن المجاز
والاشتراك يجوز دخولهما في الحد إذا دل السياق أو القرائن على
تعيين المجاز أو المشترك.
_________
(1) 43 البقرة.
(2) 47 الكهف.
(3) 34 البقرة.
(4) كان الأولى أن يمثل بهذا المثال: تزوج هند أو أختها، فإنه
لا يصح الجمع بينهما. وهذا هو معنى التخيير.
(1/68)
وعلى الحد بعد هذا كله أسئلة أحدها أن
تفسير الحكم بالكلام القديم لا يستقيم، لأنه صفة فعل العبد
تقول: فعل واجب وفعل حرام، وصفة الحادث أولى أن تكون حادثة.
وثانيها أنه يعلل بالحوادث فيقال حلت المرأة بالعقد وحرمت
بالطلاق، والمعلل بالحوادث حادث. وثالثها: أنه يوصف بأنه مسبوق
بالعدم فيقال حلت المرأة بعد أن لم تكن حلالاً، والمسبوق
بالعدم حادث. ورابعها أنه قد تعلق بفعل غير المكلفين فلا يكون
جامعاً كإيجاب الضمان على الصبيان والمجانين في أموالهم.
وخامسها أنه غير جامع لخروج أحكام الوضع عنه وهي نصب الأسباب
كالزوال لوجوب الظهر، والشروط، كالحول شرط للزكاة، والموانع،
كالحيض يمنع من الصلاة، والتقديرات الشرعية وهي إعطاء المعدوم
حكم الموجود كتقدير الملك للمعتق عنه في الكفارة حتى يبرأ من
الكفارة ويثبت الولاء له وتقدير تقدم الملك للعتق عنه في
الكفارة حتى يبرأ من الكفارة ويثبت له الولاء له وتقدير تقدم
الملك في الدية للمقتول خطأ قبل موته بالزمن الفرد حتى يصح أن
يؤرث عنه، وإعطاء الموجود حكم المعدوم كتقدير نفي الإباحة
السابقة في الأمة بردها
بالعيب، وتقدير عدم الطلاق في حق المطلق في المرض عند مالك
رحمه الله تعالى حتى ترث مع البينونة وهو كثير في الشرع، وقد
بينت في كتاب الأمنية أنه لا يخلو باب من الفقه عنه.
والجواب عن الأول: أن الشيء قد يوصف بما ليس قائماً به، كقولنا
في قيام الساعة أنه مذكور ومعلوم بذكر قام بنا وعلم قام بنا،
ووصف الفعل بالأحكام من هذا القبيل، وإنما يلزم الحدوث من
الصفة في الحادث إذا كانت تقوم به كالسواد والبياض، والأقوال
المتعلقة بالأفعال لا تكون صفات لها وإلا لكان القول صفة
للمعدوم والمستحيل، فإنا نخبر عنه، وإذا قال السيد لعبده أسرج
الدابة فقد أوجب عليه الإسراج، والإسراج واجب عليه إيجاب قام
بالسيد دون الإسراج، وكذلك إذا أباحه له وعن الثاني أن علل
الأحكام معرفات لا مؤثرات والمعروف يجوز أن يتأخر عن المعرف
كما عرف الله تعالى بصنعته، وعن الثالث أن معنى قولنا حلت
المرأة بعد ما لم تكن حلالاً أنها وجدت الحالة التي تعلق بها
الحل في الأزل وهي حالة اجتماع الشرائط وانتفاء الموانع؛ فإن
التعلق في الأزل إنما كان متعلقاً بهذه الحالة، فالحدوث في
المتعلق لا في المتعلق بكسرها
(1/69)
ولا في التعلق خلافاً لمن قال إن التعلق
حادث، وقد صرح بذلك تاج الدين في الحاصل وغيره، فإن الذي يحيل
حصول علم في الأزل بلا معلوم يحيل حصول أمر في الأزل بلا
مأمور، وإذا كان له مأمور فله به اختصاص، وذلك الاختصاص هو
التعلق، والتعلق قديم. وعن الرابع أن الوجوب في تلك الحالة
إنما هو على الولي أن يخرج من مال المحجور، أما المحجور عليه
فلا وجوب عليه ولا حكم. وعن الخامس أنه سؤال صحيح والحد ليس
جامعاً لكل ما هو حكم شرعي بل أحد نوعيه خاصة وهو أحكام
التكليف، أما الوضع فلا، وهو أحكام لا تعلم إلا من قبل الشرع
تعبدنا الله تعالى باتباعها؛ فالإيجاب بعد الزوال قيد في
الوجوب وهو غير الوجوب المطلق وسببه الزوال حكم شرعي، وتختلف
فيه الشرائع.
فالحق أن نقول في الحد الحكم الشرعي هو كلام الله القديم
المتعلق بأفعال المكلفين على وجه الاقتضاء أو التخيير أو ما
يوجب ثبوت الحكم أو انتفائه، فما يوجب ثبوت الحكم هو الأسباب
وما يوجب انتفاءه هو الشرط بعدمه أو المانع بوجوده، فيجتمع في
الحد (أو) ثلاث مرات، وحينئذ يستقيم ويجمع جميع الأحكام
الشرعية، وهذا هو الذي أختاره، ولم أر أحداً ركَّب الحد هذا
التركيب.
واختلف في أقسامه فقيل خمسة: الوجوب والتحريم والندب والكراهة
والإباحة، وقيل أربعة والمباح ليس من الشرع، وقيل اثنان
التحريم والإباحة وفسرت بجواز الإقدام الذي سشمل الوجوب والندب
والكراهة والإباحة، وعليه يتخرج قوله عليه الصلاة والسلام
«أبغض المباح إلى الله تعالى الطلاق» فإن البغضة تقتضي رجحان
الترك والرجحان مع التساوي محال.
والأول هو المشهور (1) ومنشأ الخلاف في أن المباح هل هو من
الشرع أم لا لاختلافهم في تفسير المباح، فمن فسره بنفي الحرج
ونفي الحرج ثابت قبل الشرع، أفلا يكون من الشرع، ومن فسره
بالإعلام بنفي الحرج، والإعلام به إنما يعلم من قبل الشرع
فيكون شرعاً، وتفسير الإباحة بنفي الحرج مطلقاً حتى يندرج فيها
_________
(1) يقصد بالأول هنا: ألقول الأول الذي أدخل الإباحة.
(1/70)
الوجوب والمكروه هو اصطلاح المتقدمين وبه
وردت السنة في الحديث المتقدم؛ وتفسيرها باستواء الطرفين هو
اصطلاح المتأخرين، فإذا اندرج فيها المكروه، ويكون الطلاق من
أشد المكروهات فيفهم الحديث حينئذ، وإلا يتعذر فهمه، لأن
(أفعل) في لسان العرب لا يضاف إلا لجنسه، فلا تقول زيد أفضل
الحمير. (وأبغض) صيغة تفضيل وقد أضيفت إلى المباح المستوي
الطرفين فيكون المبغوض بل الأبغض مستوي الطرفين وهو محال.
فالواجب ما ذم تاركه شرعاً والمحرم ما ذم فاعله شرعاً، وقيد
الشرع احتراز عن العرف، والمندوب ما رجح فعله على تركه شرعاً
من غير ذم، والمكروه ما رجح تركه على فعله شرعاً من غير ذم،
والمباح ما استوى طرفاه في نظر الشرع.
تنبيه: ليس كل واجب يثاب على فعله ولا كل حرام يثاب على تركه
أما الأول فكنفقات الزوجات والأقارب والدواب ورد المغصوب
والودائع والديون والعواري فإنها واجبة، فإذا فعلها الإنسان
غافلاً عن امتثال أمر الله تعالى فيها وقعت واجبة مجزئة مبرئة
للذمة ولا ثواب حينئذ. وأما الثاني فلأن المحرمات يخرج الإنسان
عن عهدتها بمجرد تركها وإن لم يشعر بها فضلاً عن القصد إليها
حتى ينوي امتثال أمر الله تعالى فيها، فلا ثواب حينئذ، نعم متى
اقترن قصد الامتثال في الجميع حصل الثواب.
قوله ما ذم فاعله عليه إشكال من جهة أنه قد لا يفعل فلا يوجد
فاعله ولا الذم المترتب عليه، وكذلك قولهم تاركه قد لا يوجد
تاركه بأن يفعل الواجب وهو كثير، فتخرج هذه الصور كلها من الحد
فلا يكون جامعاً.
وجوابه: أن التحديد قد يقع بذوات الأوصاف، كقولنا ما رجح فعله
على تركه وقد
يقع بحيثيات الأوصاف نحو هذا ومعناه هو الذي بحيث إذا ترك ترتب
الذم عليه، وهذه الحيثية ثابتة له فعل أو ترك؛ فتنبه لهذه
القاعدة فهي غريبة وقد بسطتها في شرح المحصول.
(1/71)
الفصل الرابع عشر في
أوصاف العبادة
وهي خمسة الأول الأداء وهو إيقاع العبادة في وقتها المعين لها
شرعاً لمصلحة اشتمل عليها الوقت، فقولنا في وقتها احتراز من
القضاء، وقولنا شرعاً احتراز من العرف، وقولنا اشتمل عليها
الوقت احتراز من تعيين الوقت لمصلحة المأمور به لا لمصلحة في
الوقت، كما إذا قلنا الأمر للفور فإنه يتعين الزمن الذي يلي
ورود الأمر ولا يوصف بكون أداء في وقته ولا قضاء بعد وقته وكمن
بادر لإزالة منكر وإنقاذ غريق فإن المصلحة هنا في نفس الإنقاذ
سواء كان في هذا الزمان أو في غيره. وأما تعيين أوقات العبادة
فنحن نعتقد أنها المصالح في نفس الأمر اشتملت عليها هذه
الأوقات وإن كنا لا نعلمها، وهكذا كل تعبدي معناه أنا لا نعلم
مصلحته لا أنه ليس فيه مصلحة، طرداً لقاعدة الشرع في عادته في
رعاية مصالح العباد على سبيل التفضل، فقد تلخص أن التميز في
الفوريات لتكميل مصلحة المأمور به. وفي العبادات لمصلحة في
الأوقات تظهر الفرق.
قولي؛ إذا قلنا الأمر للفور لأنه يتعين الزمن الذي يلي ورود
الأمر، ليس كذلك، بل قال القاضي أبو بكر رحمه الله لا بد من
زمان لسماع الصيغة وزمان لتقييم معناها، وفي الثالث يكون
الامتثال، وهو متجه لا يتأتى المخالفة فيه، وقولي طرداً لقاعدة
الشرع في رعاية مصالح العباد على سبيل التفضل احتراز من قول
المعتزلة إنه تعالى يراعيها على سبيل الوجوب العقلي ويستحيل
عليه تعالى خلاف ذلك، وعند أهل الحق له أن يفعل في ملكه ما
يشاء ويحكم ما يريد، ومثال ما ذكرته أن ملكاً لو كانت عادته أن
لا يخلع الأخضر إلا على الفقهاء، فرأيناه خلع أخضر على من لا
نعرفه اعتقدنا أنه فقيه لقاعدة ذلك الملك، ولما استقرينا
(1/72)
لشرائع وجدناها مصالح، ولا يأمر الله تعالى
فيها إلا بخير ولا ينهى إلا عن ضرر، ووجدنا أشياء لم نعلم ما
هي وهي قليلة بالنسبة لما علمناه، قلنا هي من جنسها مصالح
كتعيين زمان رمضان للصوم، والأوقات المعينة للصلاة نصب الزكاة
والحدود وغير ذلك، وغيرت قيود الجماعة بسب أنهم يقولون الأداء
إيقاع الواجب في وقته والقضاء إيقاع الواجب خارج وقته فيرد
عليهم الطم والرم (1) من الصور التي ذكرناها.
الثاني القضاء وهو إيقاع العبادة خارج وقتها الذي عينه الشرع
لمصلحة فيه.
ينتقض هذا الحد بأن العلماء يقولون حجة القضاء مع أن وقتها غير
معين بالتفسير المتقدم، وتسميتهم ما أدركه المسبوق من الصلاة
أداء ما يصليه بعد الإمام قضاءً يقولون هل يكون قاضياً فيما
فاته أو بانياً خلاف للعلماء، وبقوله تعالى: «فإذا قضيت الصلاة
فانتشروا في الأرض (2) » ، مع أنها في وقتها، وقد سماها الله
تعالى قضاءً. والجواب: أن القضاء في اللغة نفس الفعل كيف كان
كقول الشاعر: ...
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبع (3)
فسمي فعله للزرديات قضاء، وليس المسمى اللغوي هو المحدود بل
الاصطلاحي، فلا يرد اللغوي عليه، وهو الذي في الآية، وأما قضاء
الحج وصلاة المسبوق فهو اصطلاحي، غير أن الجواب عنه أن القضاء
في اصطلاح العلماء له ثلاثة معان: أحدهما إيقاع الفعل الواجب
خارج وقته كما تقدم تحريره. وثانيها ما وقع بعد تعيين بسببه
والشروع فيه، وهذا هو القضاء في الحج؛ لأنه لما أحرم به وتعين
بالشروع سمي بعد ذلك قضاءً. وثالثها ما فعل على خلاف نظامه
ومنه قضاء الصلاة، فإن وضع الجهر
_________
(1) الطم والرم: الكثرة.
(2) 10 الجمعة.
(3) المسرد: الدرع. والسوابغ: الطويلة الواقية. وتُبَّع: لقب
ملوك اليمن القدامى.
(1/73)
في صلاة المغرب مثلاً أن يكون قبل السر،
فإذا وقع آخر الصلاة فقد وقع على خلاف نظامه، وإذا كان اللفظ
مشتركاً بين ثلاثة معان وحددنا أحدها لا يرد عليه الباقي نقضاً
لاختلاف الحقائق، كما أن من حد الحدقة الباصرة لا يرد عليه
الذهب نقضاً لأنه يسمى عيناً.
تنبيه: لا يشترط في القضاء تقدم الوجوب بل تقدم سببه عنه
الإمام والمازري وغيرهما من المحققين خلافاً للقاضي عبد الوهاب
وجماعة من الفقهاء؛ فإن الحائض تقضي ما حرم عليها فعله في زمن
الحيض، والحرام لا يتصف بالوجوب وبسط ذلك ذكرته في الفقه، ثم
تقدم السبب قد يكون مع الإثم كالمعتمد المتمكن، وقد لا يكون
كالنائم والحائض، والمزيل للإثم قد يكون من جهة العبد كالسفر
وقد لا يكون كالحيض، وقد يصح معه الأداء كالمرض، وقد لا يصح
أما شرعاً كالحيض أو عقلاً كالنوم.
قولي خلافاً للقاضي عبد الوهاب معناه أنه قال إن الحيض يمنع من
صحة الصوم دون وجوبه، فاشترط في خصوص هذه الصورة تقدم الوجوب
مع السبب، ولم يجعل ذلك شرطاً عاماً، ووافقه الحنفية، غير أنهم
صرحوا بأن الصوم واجب عليها وجوباً موسعاً، والقاضي وغيره لم
أره تعرض لوصف التوسعة في ذلك.
احتج القائلون بالوجوب بأمور أحدها: عمومات النصوص الدالة على
وجوب الصوم. وثانيها: أنها تنوي قضاء رمضان فلولا تقدم الوجوب
وإلا لكان هذا واجباً مبتدأ فلا حاجة لإضافته لرمضان. وثالثها؛
أنه مقدر بقدر الفائت من رمضان فأشبه تقدير قيم المتلفات بها
فيكون بدلاً كالقيمة بدلاً من المنقوم، ويقوم مقام ما تقدم من
الوجوب كما تقوم القيمة مقام المتلف، ولذلك سميت قيمة.
والجواب عن الأول: أن ظواهر النصوص معارضة بأدلة العقل
القطعية، فإن الصوم حرام راجح الترك، وما كان راجح الترك لا
يكون راجح الفعل قطعاً، وكيف يتصور فيمن منع من الفعل أن يلزم
بذلك الفعل إلا بناءً على تكليف ما لا يطاق وليس واقعاً في
الشريعة؟! وإذا تعارضت القواطع والظواهر قدمت القطعيات
(1/74)
وعن الثاني أن العبادة لا بد لها من نية
مخصصة مميزة لها عن غيرها، وهذا القضاء ليس نفلاً ولا كفارة
ولا نذراً ولا تجدد سببه، فتعين إضافته لذلك السبب، فلم يبق له
معنى إلا إضافته لرمضان ليتميز عن غيره، لا لأنه تقدمه وجوب.
وعن الثالث أن التعذر في رمضان جعله الشرع سبباً لوجوب ما هو
قدره؛ فلذلك تبعه في المقدار لا لتقدم الوجوب؛ لأن السبب كذلك
نصبه الشارع.
قالت الحنفية: لا يرد علينا مصادمة الوجوب والتحريم في زمن
واحد، لأنا لم نعين زمن الحيض للوجوب، بل قلنا هو على التوسعة،
بخلاف القاضي عبد الوهاب.
قلت: وإن لم يرد عليهم هذا الإشكال يرد عليهم أن الواجب الموسع
شأنه أن يفعل في أول الوقت إن شاء المكلف، وهذه لو أرادت أن
تصوم في زمن الحيض منعت، فلم يبق للوجوب ظرف إلا بعد الحيض،
وهو متفق عليه، فذكر التوسعة مغالطة لا يحصل منها طائل بل
يتعين. أما مذهب القاضي أو مذهب المازري بعدم الوجوب مطلقاً
وهذه الحجاج وأجوبتها مبسوطة في الفقه في كتاب الذخيرة.
وقولي: المزيل للإثم قد يصح معه الأداء المرض، والمرض قسمان
تارة يسقط الوجوب لأجل فرط المشقة لطفاً بالمكلف من غير فساد
عضو ولا نفس، فهذا يصح معه الأداء كالصلوات الخمس جزماً وتارة
يكون الصوم محرماً يفضي لهلاك نفس أو عضو فهذا
قال الغزالي في المستصفي: يحتمل إذا فعل لا يجزئ عنه لأنه
حرام، والحرام لا يجزئ عن الواجب، ويحتمل تخرجه على الصلاة فيا
لدار المعصوبة، فإنه تصح: لأنه مطيع لله تعالى بصومه وجان على
النفس بالفساد كما جنى الغاصب على منافع المغصوب وفيه احتمال.
فائدة: العبادة قد توصف بالأداء والقضاء كالصلات الخمس، وقد لا
توصف بهما كالنوافل، وقد توصف بالأداء وحده كالجمعة والعيدين.
تمثيلي بالعيدين إنما هو على مذهب مالك رحمه الله، وإلا
فالشافعي وأحمد رضي الله عنهما يقولان بالقضاء أيضاً في
العيدين وكل صلاة نافلة لها سبب، وعلى الجمعة إشكال من جهة أن
العرب لا تصف الشيء بصفة إلا إذا كان قابلاً لضدها، فلا
(1/75)
يقولون للحائط أنه أعمى وإن كان لا يبصر
لأنه لا يقبل البصر عادة، وكذلك لا يقولون له أصم لأنه لا يقبل
السماع، ولذلك قال الإمام فخر الدين في المحصول: إن العبادة لا
توصف بالإجزاء إلا إذا أمكن وقوعها على وجهين الإجزاء وعدمه
أما على وجه واحد فلا، كمعرفة الله تعالى، كذلك هنا لما كانت
الجمعة لا تقبل القضاء ينبغي أن لا تصف بالأداء، ويحتمل أن
يجاب عنه: بأن الامتناع المعتبر هو العقلي كالمعرفة أو العادي
كالجدار، وأما هبنا فالجمعة قابلة عادة وعقلاً أيضاً أن يدخلها
القضاء، لكن الشرع هو الذي منع، فالمنع الشرعي أحفض رتبة في
إطلاقات اللغات؛ فإن اللغات إنما تنبني على ما هو معود كالعقل
والعادة، وأما خصوص الشرائع فأمور لا تخطر ببال واضع اللغة حتى
تقع، وقد لا تقع فلا يبنى عليها قواعد اللغة العامة.
الثالث: الإعادة وهي إيقاع العبادة في وقتها بعد تقدم إيقاعها
على خلل في الأجزاء، كمن صلى بدون ركن، أو في الكمال كصلاة
المنفرد.
هذا هو لفظ المحصول في اشتراط الوقت، وأما مذهب مالك فإن
الإعادة لا تختص بالوقت بلفي الوقت إن كان لاستدراك المندوبات
أو بعد الوقت كفوات الواجبات.
الرابع: الصحة وهي عند المتكلمين ما وافق الأمر، وعند الفقهاء
ما أسقط القضاء، والبطلان يتخرج على المذهبين فصلاة من ظن
الطهارة وهو محدث صحيحه عند المتكلمين، لأن الله تعالى أمره أن
يصلي صلاة يغلب ظنه طهارته، وقد فعل فهو موافق للأمر، وباطله
عند الفقهاء لكونها لم تمنع من ترتيب القضاء، وأما فساد العقود
فهو خلل يوجب عدم ترتيب آثارها عليها إلا أن تلحق بها عوارض
على أصولنا في البيع الفاسد.
اتفق الفريقان على جميع الأحكام، وإنما الخلاف في التسمية؛
فاتفقوا على أنه موافق لأمر الله وأنه مثاب، وأنه لا يجب عليه
القضاء إذا لم يطلع عل الحدث،
(1/76)
وأنه يجب عليه القضاء إذا اطلع، وإنما
اختلفوا في وضع لفظ الصحة هل يضعونه لما وافق الأمر سواء وجب
القضاء أم لم يجب، أو لما لا يمكن أن يتعقبه قضاء. ومذهب
الفقهاء أنسب للغة؛ فإن النية إذا كانت صحيحة من جميع الجهات
إلا من جهة واحدة فإن العرب لا تسميها صحيحة وإنما تسمى صحيحاً
ما لا كسر فيه البتة بطريق من الطرق، وهذه الصلاة هي مختلة على
تقدير الذكر فهي كالآنية المكسورة من وجه.
ووجه تخريج البطلان على المذهبين أنا إن فسرنا الصحة بموافقة
الأمر كان البطلان مخالفة الأمر، وإن فسرنا الصحة بما أسقط
القضاء كان البطلان ما أمكن أن يترتب فيه القضاء، وآثار العقود
هي التمكن من البيع والهبة والأكل والوقف وغير ذلك.
وأما العوارض التي تلحق بها على أصولنا فذلك أن النهي يدل على
الفساد عندنا وعند الشافعية، وعلى الصحة عند الحنفية، فطرد
الحنفية أصلهم، وقالوا: إذا اشترى أمة شراءً فاسداً جاز له
وطؤها، وكذلك جميع العقود الفاسدة، وطرد الشافعية أصلهم وقالوا
يحرم عليه الانتفاع مطلقاً وإن بيع ألف بيع وجب نقض الجميع،
ونحن خالفنا أصلنا وراعينا الخلاف في المسألة، وقلنا إن البيع
الفاسد يفيد شبهة الملك فيما يقبل الملك، فإذا لحقه أحد أربعة
أشياء تقرر الملك بالقيمة وهي حوالة الأسواق، وتلف العين،
ونقصانها، وتعلق حق الغير بها على تفصيل في ذلك في كتب الفروع،
فهذه هي العوارض.
الخامس: الإجزاء؛ وهو كون الفعل كافياً في الخروج عن عهدة
التكليف وقيل ما أسقط القضاء.
الإجزاء شديد الالتباس بالصحة، فإن الصلاة الصحيحة مجزئة،
وقولنا الكافي في الخروج عن العهدة هو معنى قولنا في الصحة هي
موافقة الأمر، وقولنا هنا ما أسقط القضاء هو مذهب الفقهاء في
الصحة فيلزم أن يكونا مسألة واحدة، فلم عملوهما مسألتين؟
(1/77)
والجواب: أن العقود توصف بالصحة ولا توصف
بالإجزاء، وكذلك النوافل من العبادات توصف بالصحة دون الإجزاء،
وإنما يوصف بالإجزاء ما هو واجب، فلذلك استدل جماعة من العلماء
على وجوب الأضحية بقوله عليه الصلاة والسلام لأبي بردة بن نيار
«تجزيك ولا تجزي أحداً بعدك» بحينئذ الصحة أعم من الإجزاء
بكثير، فبما حقيقتان متباينتان فأمكن جعلهما مسألتين.
وقولهم الإجزاء ما أسقط القضاء غير متجه، ومن جهة أن الذي يسقط
القضاء هو
المجزئ لا الإجزاء؛ فالأولى لصاحب هذا المذهب أن يقول وهو كون
الفعل مسقطاً للقضاء فيجعله صفة في الفعل لا نفس الفعل.
وحكى الإمام فخر الدين أنه قيل إنه سقوط القضاء، فجعله صاحب
هذا المذهب نفسالسقوط، فيلزمه حيث وجد سقوط القضاء يوجد
الإجزاء وليس كذلك، بل من مات في وسط الوقت ولم يصل أو صلى
صلاة فاسدة فإنه وجد في حقه سقوط القضاء ولم يوجد الإجزاء، فإن
القضاء إنما يتوجه بعد خروج الوقت وبقاء أهلية التكليف، والميت
ليس أهلاً لتكليف، ولأنا نعلل سقوط القضاء بالإجزاء، والعلة
مغايرة للمعلول، فلا يكون الإجزاء نفس سقوط القضاء.
الفصل الخاس عشر فيما تتوقف عليه
الأحكام
وهي ثلاثة السبب والشرط وانتفاء المانع فإن الله تعالى شرع
الأحكام وشرع لها أسباباً وشروطاً وموانع، وورد خطابه على
قسمين خطاب تكليف يشترط فيه علم المكلف وقدرته وغير ذلك
كالعبادات، وخطاب وضع لا يشترط فيه شيء من ذلك وهو الخطاب
بكثير من الأسباب والشروط والموانع، وليس ذلك عاماً فيها،
فلذلك نوجب الضمان على المجانين والغافلين بسبب الإتلاف لكونه
من باب الوضع الذي معناه أن الله تبارك وتعالى قال إذا وقع هذا
في الوجود فاعلموا أن حكمت بكذا ومن
(1/78)
ذلك الطلاق بالإضرار والإعسار والتوريث
بالأنساب، وقد يشترط في السبب العلم كإيجاب الزنا للحد والقتل
للقصاص.
لا يوجد متوقف عليه وهو كما ما يتوقف عليه إلا أحد هذه الثلاثة
في العقليات والشرعيات والعبادات.
وقولي وهو كمال ما توقف عليه احتراز من جزء السبب وجزء الشرط،
فإن جزء السبب يتوقف عليه، وكذلك جزء الشرط، بخلاف جزء المانع
لا يتوقف على انتفائه؛ بل يكفي انتفاء تلك الحقيقة، ويكفي في
انتفائها انتفاء جزء من أجزائها إذ لو كان الجزء أيضاً مانعاً
لكان ذلك موانع لا مانعاً، وسميت الأحكام الخمسة خطاب تكليف
توسعاً في العبارة، فإن التكليف من الكلفة والمشقة، وذلك إنما
يتحقق في الواجب للكلفة في تركه أو المحرم للكلفة في فعله وما
عداهما لا كلفة في فعله ولا في تركه؛ لأن الكلفة هي توقع
العقوبة الربانية، وهي لا توجد في غيرهما، ولذلك نقول: الصبي
غير مكلف وإن كان مندوباً للحج والصلاة عل الأصح؛ فغلب لفظ
التكليف على الثلاثة الأخر تجوزاً وتوسعاً، ويدل على
اشتراط العلم في التكليف قوله تعال «وما كنا معذبين حتى نبعث
رسولاً (1) » نفي التعذي حتى يحصل العلم بالتبليغ للسامع،
وقوله تعالى «رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله
حجة بعد الرسل» (2) يدل على أن الحجة للخلق من جهة الجهل بعدم
التبليغ، وبقوله تعالى «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» (3) ،
والتكليف مع عدم العلم تكليف بغير الوسع، ولإجماع الأمة على أن
من وطئ امرأة يظنها زوجته أو شرب خمراً يظنه خلاً لا يأثم لعدم
العلم، وكذلك العاجز غير مكلف إجماعاً.
ويشترط مع العلم والقدرة شروط أخر تختص بكل عبادة منها شروط،
كما يشترط في الصلاة البلوغ، والزوال والإقامة في الجمعة،
والصوم ودوران الحول في الزكاة، وهو كثير مبسوط في كتب الفقه.
ويسمى القسم الآخر خطاب وضع به لأنه شيء وضعه الله تعلى في
شرائعه لا أنه أمر به عباده ولا أناطه بأفعالهم من
_________
(1) 51 الإسراء.
(2) 165 النساء.
(3) 233 البقرة.
(1/79)
حيث هو خطاب وضع، فلا يشترط العلم ولا
القدرة في أكثر خطاب الوضع نحو التوريث بالأسباب؛ فإن الإنسان
إذا مات له قريب دخلت التركة في ملكه وإن لم يعلم ولا ذلك
بقدرته، حتى لو كان فيها رقيق يعتق عليه عُتق، وكذلك يطلق
بالإعسار، وإن كان الزوج مجنوناً غير عالم وعاجزاً عن النفقة،
وكذلك يجب الضمان بالإتلاف وإن لم يعلم المتلف ما أتلفه لكونه
غافلاً أو مجنوناً ولا قدرة له على التحرز من ذلك وهو كثير في
الشريعة، وبعض الأسباب يشترط فيه العلم والقدرة وهو كل ما كان
فيه جناية كالزنا وشرب الخمر ونحوه مما هو سبب للعقوبة؛ فإن
قواعد الشرع تتقاضى أنه لا يعاقب من لم يقصد المفسدة، ولم يشعر
بها إذا وقعت بغير كسبه، ولذلك اشترط في كل سبب هو جناية:
العلم والقدرة. بخلاف المثل السابقة لأنها ليست أسباب عقوبات،
فإن الإتلاف وإن كان جناية إلا أنه ليس بسبب عقوبة، بل الغرامة
جابرة لا زاجرة، والعقوبة لا تكون إلا زاجرة.
ويستثنى من أسباب العقوبات نوع آخر ليس منها وهو أسباب انتقال
الأملاك في المنافع والأعيان والأبضاع فإنه يشترط في هذه
الأسباب العلم والرضا لقوله عليه الصلاة والسلام «لا يحل مال
امرئ مسلم إلا عن طيب نفس» فكان ذلك أصلاً في انتقال الأملاك
والمنافع والأعيان والأبضاع فيشترط العلم لأنه شرط في الرضا؛
فلذلك قلت وليس عدم الاشتراط عاماً في خطاب الوضع، بل هذا هو
شأنه حتى يعرض له أمر خارج يوجب له اشتراط ذلك، وبقي من خطاب
الوضع التقادير الشرعية وهي إعطاء الموجود حكم المعدوم، وإعطاء
المعدوم حكم الموجود كتقدير الأثمان في الذمم والأعيان في
السَّلم في ذمة المسلم إليه، والذمة نفسها هي من جملة
المقدرات، فإنها معنى شرعي مقدر في المحل قابل للإلزام
والإلزام، وقد تقدم من مثلها جملة في حد الحكم.
فائدة: قد يجتمع خطاب الوضع وخطاب التكليف، وقد ينفرد خطاب
الوضع في شيء واحد، ويكون ما يترتب عليه من خطاب التكليف في
شيء آخر، مثال اجتماعهما في شيء واحد الزانا والسرقة والعقود،
فإنها أسباب تعلق بها التحريم أو الوجوب أو الإباحة في العقود،
وهي أسباب العقوبات وانتقال الأملاك، وكذلك الوضوء والستارة
شرطان فهما خطاب وضع، وواجبان فهما
(1/80)
خطاب تكليف، والزواج واجب أو مندوب أو
مباح، وهو سبب الإباحة، والطلاق كذلك وهو سبب تحريم، والقتل
حرام وهو سبب حرمان الإرث، واللعان سبب التحريم ونفي الولد،
وهو واجب أو مباح، فاجتمع الأمران. مثال انفراد الوضع زوال
الشمس، وجميع أوقات الصلوات أسباب لوجوبها ورؤية الهلال سبب
لوجوب رمضان، وصلاة العيدين والنسك، وهذه التجددات ليس في
قطعها خطاب تكليف، ودوران الحول شرط، والحيض مانع، والبلوغ
شرط، وجميع ما يترتب على هذه هو شيء آخر غيرها، فالوضع في شيء
والتكليف في شيء آخر، ولا يتصور انفراد التكليف إذ لا تكليف
إلا وله سبب أو شرط أو مانع، وأبعد الأمور عن ذلك الإيمان
بالله تعالى ومعرفته وهما سببان لعصمة الدم والمال، والكفر
والنفاق وهما سببان للإباحة فيهما.
إذا تقرر هذا فنقول: السبب ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه
العدم لذاته، فالأول احتراز من الشرط، والثاني احتراز من
المانع، والثالث احتراز من مقارنته فقدان الشرط أو وجود
المانع، فلا يلزم من وجوده الوجود أو إخلافه بسبب آخر، فلا
يلزم من عدمه العدم.
إنما قلت احتراز من الشرط لأنه لا يلزم من وجود الشرط ولا عدم،
وقولي يلزم من عدمه العدم احتراز من المانع فإن عدم المانع لا
يلزم منه شيء، كما تقول الدين مانع من الزكاة، فإذا لم يكن
عليه دين لا يلزم أن تجب عليه الزكاة، لاحتمال فقره مع عدم
الدين، ولا أن لا تجب الزكاة لاحتمال أن يكون عنده نصاب حال
عليه الحول، وكذلك دوران الحول شرط، ولا يلزم من وجوده وجوب
الزكاة لاحتمال فقره، ولا عدم وجوب الزكاة لاحتمال غناه، فإن
قارن السبب فقدان الشرط كالنصاب قبل الحول فإنه لا يلزم من
وجود الحكم الذي هو وجوب الزكاة، وكذلك وجود المانع الذي هو
الدين لا يلزم الوجود، وكذلك إذا أخلف السبب سبب آخر لا يلزم
العدم، كما إذا فقد الزنا لا يلزم أن لا يجب الجلد لإخلافه
بالقذف، وكذلك الردة بسبب القتل فقد تخلفها جناية القتل
(1/81)
عمداً أو ترك الصلاة أو غير ذلك؛ فيلزم
وجود الحكم لأن الأسباب الشرعية يخلف بعضها بعضاً، فإذا قلت:
لذاته خرجت هذه النقوض، فإن هذه الأسباب كلها بالنظر لذاتها
إذا قطعنا النظر عن كونها لها شروط أو أبدال أو موانع لزم من
وجودها الوجود ومن عدمها العدم، وإنما لا
يلزم ذلك في الحالين، إذا عرض لها هذه الأمور فهي بالنظر إلى
ذاتها تقتضي ذلك، وبالنظر إلى الأمور الخارجية يتأخر عنها ذلك،
ولا تنافي بين اقتضاء الشيء بالات وبين تخلفه للعوارض.
والشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم
لذاته، فالأول احتراز ممن المانع والثاني احتراز من السبب
والمانع أيضاً، والثالث احتراز من مقارنته لوجود السبب، فيلزم
الوجود عند وجوده أو قيام المانع فيقارن العدم، والمانع ما
يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لدائته،
فالأول احتراز من السبب والثاني احتراز من الشرط والثالث
احتراز من مقارنة عدمه لوجود السبب، فالمعتبر من المانع وجوده
ومن الشرط عدمه ومن السبب وجوده وعدمه.
مثال الشرط: الحول في الزكاة يلزم من عدمه عدم وجوب الزكاة ولا
يلزم من وجوده وجوبها لاحتمال عدم النصاب، ولا عدم وجوبها
لاحتمال وجود النصاب. وكذلك جمع الشروط. أما إذا قارن وجود
السبب فإنه يلزم وجوب الزكاة ولكن لا لذاته بل لذات وجود
السبب؛ أو يقارن وجود الشروط قيام المانع الذي هو الدين فيلزم
العدم لكن للمانع لا لذات الشرط، فالشرط بالنظر إلى ذاته لا
يلزم من وجوده شيء وإنما يتأتى اللزوم بالنظر إلى الأمور
الخارجة كما تقدم في السبب؛ وكذلك القول في تقرير المانع.
فوائد خمس: الأولى الشرط وجزء العلة كلاهما يلزم من عدمه
العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم فهما يلتبسان، والفرق
بينهما أن جزء العلة مناسب في ذاته والشرط مناسب في غيره كجزء
النصاب، فإنه مشتمل
(1/82)
على بعض الغنى في ذاته. ودوران الحول ليس
فيه شيء من الغنى وإنما هو مكمل للغنى الكائن في النصاب.
إذا رتب الشارع الحكم مع أوصاف وأناطه بها فإن كانت كلها
مناسبة فهي كلها علة واحدة، وكل واحد منهما جزء علة إن لم نجد
بعضها استقل بالحكم كالقصاص مع القتل العمد العدوان؛ فإن
الثلاثة سبب للقصاص، وكل واحد منها جزء علة: لأن بعضها لم نجده
استقل بوجوب القصاص.
وإن وجدنا بعضها يستقل بالحكم كان كل واحد منها علة مستقلة،
فإن اجتمعت ترتب الحكم، وإن انفرد بعضها ترتب الحكم أيضاً،
كالبكارة والصغر مع الإجبار إن اجتمعا فللأب الإجبار، وإن
انفرد أحدهما كالثيب الصغيرة أو البكر المعنسة فله الإجبار على
الخلاف، هذا إذا كانت كلها مناسبة فلا شرط فيها بل هي علة
واحدة أو علل كما تقدم.
وإن كان بعضها مناسباً وبعضها غير مناسب فالمناسب العلة وغير
المناسب شرط لضرورة توقف الحكم على وجوده، ولا بد في عادة
الشرط من أن يكون مكملاً لحكمة السبب وهو الوصف الآخر، كالحول
مع النصاب، لما وقف صاحب الشرع وجزء العلة من جهة المناسب
وعدمها.
الثانية إذا اجتمعت أجزاء العلة ترتب الحكم وإذا اجتمعت العلل
المستقلة ترتب الحكم أيضاً، فما الفرق بين الوصف الذي هو جزء
العلة وبين الوصف الذي هو علة مستقلة والفرق بينهما أن جزء
العلة إذا انفرد لا يثبت معه الحكم كأحد أوصاف القتل العمد
العدوان، فإن المجموع علة سبب القصاص، وإذا انفرد جزء العلة لا
يترتب عليه القصاص والوصف الذي هو علة مستقلة إذا اجتمع مع
غيره ترتب الحكم، وإذا انفرد ترتب الحكم أيضاً، كإيجاب الوضوء
على من لامس وبال ونام، وإذا انفرد أحدها وجب الوضوء أيضاً.
(1/83)
الثالثة: الحكم كما يتوقف على وجود سببه
يتوقف على وجود شرطه فيم يعلم كل واحد منهما؟
الجواب: يعلم بأن السبب مناسب في ذاته والشرط مناسبته في غيره
كالنصاب مشتمل على الغنى في ذاته، والحول مكمل لحكمة الغنى في
النصاب بالتمكن من التنمية.
الرابعة الموانع الشرعية على ثلاثة أقسام: منها ما يمنع ابتداء
الحكم واستمراره، ومنها ما يمنع ابتداءه فقط، ومنها ما اختلف
فيه هل يلحق بالأول أو بالثاني، فالأول كالرضاع يمنع ابتداء
حكم النكاح واستمراره إذا طرأ عليه، والثاني كالاستبراء يمنع
ابتداء النكاح ولا يبطل استمراره إذا طرأ عليه، والثالث
كالإحرام بالنسبة إلى وضع اليد على الصيد، فإنه يمنع من وضع
اليد على الصيد ابتداءً، فإن طرأ على الصيد فهل تجب إزالة اليد
عنه؟ فيه خلاف بين العلماء، وكالطول (1) يمنع من نكاح الأمة
ابتداءً فإن طرأ عليه فهل يبطله؟ خلاف، كوجود الماء يمنع من
التيمم ابتداءً فإن طرأ بعد فهل يبطله فيه خلاف.
مثال طرو الرضاع على النكاح أن يتزوج بنتاً في المهد فترضعها
أمه فتصير أخته من الرضاع فتحرم عليه، والمستبرأة كالمعتدة لا
يجوز العقد عليها صوناً لماء الغير عن
الاختلاط، فإذا غصبت امرأة متزوجة أو زنت اختياراً أو وطنت
بشبهة فإنه تستبرأ من هذا الماء ليتبين هل منه ولد فيلحق
بالغير في وطء الشبهة أو يلاعن منه في الزنا، ومع ذلك فالنكاح
لا يبطل بهذا الاستبراء، فقد قوى الاستبراء على منع المبادئ،
وما قوى على قطع الفادي، والمحرم لا يحل له أن يضع يده على
الصيد، والإحرام يمنع من وضع الصيد؛ فإن أحرم وهو عنده فهل يجب
عليه إفلاته أم لا؟ فيه خلاف.
_________
(1) الطول: القدرة على تكاليف الزواج.
(1/84)
الخامسة الشروط اللغوية أسباب لأنه يلزم من
وجودها الوجود ومن عدمها العدم، بخلاف الشروط العقلية كالحياة
مع العلم، والشرعية كالطهارة مع الصالة، والعادية كالغذاء مع
الحياة في بعض الحيوانات.
إذا قلت إن دخلت الدار فأنت حر، يلزم من دخول الدار الحرية ومن
عدم دخولها عدم الحرية، وهذا هو شأن السبب، أن يلزم من وجوده
الوجود ومن عدمه العدم لذاته كما تقدم تحديده، وأما الحياة فلا
يلزم من وجودها معرفة مذهب مالك، ويلزم من عدم الحياة عدم
معرفته، وهذا هو حقيقة الشرط كما تقدم تحديده، ويلزم من عدم
الطهارة عدم صحة الصلاة حيث كانت شرطاً في صورة القدرة عليها،
ولا يلزم من وجود الطهارة صحة الصلاة لاحتمال عدم الصلاة
بالكلية، أو يصليها بدون شرط أو ركن، وقولي في بعض الحيوانات
احتراز عما يحكى عن الحياة أنها تمكث تحت التراب في الشتاء
بغير غذاء وقيل تتغذى بالتراب فلا يحترز عنها حينئذ.
الفصل السادس عشر في الرخصة
والعزيمة
الرخصة جواز الإقدام على الفعل مع اشتهار المانع منه شرعاً،
والعزيمة طلب الفعل الذي لم يشتهر فيه مانع شرعي، ثم الرخصة قد
تنتهي للوجوب كأكل المضطر الميتة، وقد لا تنتهي كإفطار
المسافر، وقد يباح سببها كالسفر، وقد لا يباح كالغصة بشرب
الخمر.
الرخصة مشتقة من الترخص، والرخص هو اللين، فهي من حيث الجملة
من السهولة المسامحة واللين.
وفسرها الإمام فخر الدين في المحصول بجواز الإقدام مع قيام
المانع، وذلك
(1/85)
مشكل؛ لأنه يلزم منه أن تكون الصلوات الخمس
رخصة والحدود والتعازير والجهاد والحج رخصة، لأن ذلك جميعه
يجوز الإقدام عليه، وفيه مانعان؛ أحدهما ظواهر النصوص المانعة
من
التزامه، وهو قوله تعالى «وما جعل الله عليكم في الدين من حرج»
(1) ، وقوله تعالى «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر»
(2) ، وقوله عليه الصلاة والسلام «لا ضرر ولا ضرار» ، وجميع
ذلك يمنع أن تجب هذه الأمور علينا لأنه حرج وعسر وضرر، غير أن
ما فيها من المصالح العاجلة والمثوبات الآجلة هو المعارض الذي
لأجله خولفت ظواهر هذه النصوص. وثانيهما صورة الإنسان مكرمة
معظمة لقوله تعالى «ولقد كرمنا بني آدم» (3) ، وقوله تعالى
«لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم» (4) ، والمكرم المعظم يناسب
أن لا تهلك بنيته بالجهاد ولا يلزم المشاق والمضار، ولذلك قلت
أنا في حدي: مع اشتهار المانع اشرعي، وأريد باشتهار المانع
نفور الطبع الجيد السليم عند سماع قولنا أكل فلان الميتة، أو
أفطر في رمضان، أو شرب الخمر للغصة، ونحو ذلك، وعلى هذا تخرج
هذه النقوض عن حد الرخصة؛ فإنه لا ينفر أحد من قولنا أقيم الحد
على الإنسان، ولا صلى الإنسان، ونحو ذلك، ولا يستعظم كيف اجتمع
ذلك مع وصف الإنسانية كما يستعظم اجتماع الأكل مع الميتة
والإفطار مع رمضان، ومع هذا الاحتراز لا يسلم الحد عن الفساد.
فإن في الشريعة رخصاً لم ألهم لها حالة ذكرى لهذا الحد وهي
الإجازة رخصة من بيع المعدوم الذي لا يقدر على تسليمه، والسلم
رخصة لما فيه من الغرر بالنسبة إلى المرئي، والقراض والمساقاة
رخصتان لجهالة الأجرة فيهما، والصيد رخصة لأكل الحيوان مع
اشتماله على دمائه ويكتفى فيه بمجرد جرحه وخدشه، ومع ذلك فلا
ينفر أحد إذا ذكر له ملابسة هذه الأمور، فلا يكون حدي جامعاً.
_________
(1) 78 الحج.
(2) 185 البقرة.
(3) 70 الإسراء.
(4) 4 التين.
(1/86)
ثم استقراء الشريعة يقتضي أن ما من مصلحة
إلا وفيها مفسدة، ولو قلَّت على البعد، ولا مفسدة إلا وفيها
مصلحة وإن قلت على البعد ولو في الكفر فإن فيه تعظيم أهله
وعصابته لمن شايعهم وعداوة أهل الحق له وطلب دمه وماله. وكذلك
تقول في الإيمان، وإذا كان هذا في أعظم الأشياء مصلحة وأعظمها
مفسدة فما ظنك بغيرهما، وقد قال الله تعالى في الخمر والميسر
«قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما» (1)
، وعلى هذا ما في الشريعة حكم إلا وهو مع المانع الشرعي، لأنه
لا يمكن أن يراد بالمانع ما سلم عن المعارض الراجح، فإن أكل
الميتة وغيره وجد فيه معارض راجح على مفسدة الميتة، فحينئذ ما
المراد إلا المانع المغمور بالراجح المعارض له، وحينئذ تندرج
جميع الشريعة لأن كل حكم فيه مانع مغمور لمعارضته لما تقدم.
والذي تقرر عليه حالي في شرح المحصول وهنا أني عاجز عن ضبط
الرخصة بحد جامع مانع، أما جزئيات الرخصة من غير تحديد فلا عسر
فيه إنما الصعوبة فيه الحد على ذلك الوجه، وقولي وقد لا يباح
سببها كالغصة لشرب الخمر، أريد أنه لا يباح لأحد أن
يغص نفسه حتى يشرب الخمر ولا لغير شرب الخمر، بل الغصة حرام
مطلقا.
وقال في المحصول: العزيمة هي جواز الإقدام مع عدم المانع.
فيرد عليه أن أكل الطيبات ولبس الثياب من العزائم لأنه يجوز
الإقدام عليها، وليس فيها مانع على زعمه في المانع، ولا يمكن
أن تكون من العزائم؛ فإن العزائم مأخوذة من العزم وهو الطلب
المؤكد فيه، ولا طلب في هذه الأمور فلذلك زدت في حدي: طلب
الفعل مع عدم اشتهار المانع الشرعي، فقيد الطلب ليخرج أكل
الطيبات ونحوها، وعدم اشتهار المانع احتراز من الرخصة إذا طلبت
كأكل المضطر الميتة وقصدت بأصل الطلب (2) ولم أعين الوجوب لأن
المالكية قالوا إن السجدات المندوب السجود عند تلاوتها عزائم،
فقالوا عزائم القرآن إحدى عشرة سجدة، فذكرت الطلب ليندرج
المندوب والواجب.
_________
(1) 219 البقرة.
(2) الأولى أن يكون: وقصدت أصل الطلب بحذف الباء.
(1/87)
الفصل السابع عشر في
الحسن والقبح
حسن الشيء وقبحه يراد بهما ما يلائم الطبع أو ينافره كإنقاذ
الغرقى واتهام الأبرياء وكونهما صفة كمال أو نقص نحو العلم حسن
والجهل قبيح، أو كونه موجباً للمدح أو الذم الشرعيين، والأولان
عقليان إجماعاً والثالث شرعي عندنا لا يعلم ولا يثبت إلا
بالشرع، فالقبيح ما نهى اله تعالى عنه والحسن ما لم ينه عنه.
وعند المعتزلة هو عقلي لا يفتقر إلى ورود الشرائع، بل العقل
يستقل بثبوته قبل الرسل، وإنما الشرائع مؤكدة لحكم العقل فيما
علمه ضرورة كالعلم بحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار، أو
نظراً كحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع، أو مظهرة لما لا
يعلمه العقل ضرورة ولا نظراً، كصوم آخر يوم من رمضان، وتحريم
أول يوم من شوال.
وعندنا الشرائع الواردة منشئة للجميع، فعلى رأينا لا يثبت حكم
قبل الشرع خلافاً للمعتزلة في قولهم إن كل ما يثاب بعد الشرع
فهو ثابت قبله، وخلافاً للأبهري من أصحابنا القائل بالحظر
مطلقاً، وأبي الفرج القائل بالإباحة مطلقاً، وكذلك قال بقولهما
جماعة من المعتزلة فيما لا يطلع العقل على حاله كآخر يوم من
رمضان وأول يوم من شوال. لنا قوله تعالى «وما كنا معذبين حتى
نبعث رسولا» (1) نفى التعذيب قبل البعثة فينتفي ملزومه وهو
الحكم.
احتجوا بأننا نعلم بالضرورة حسن الإحسان وقبح الإساءة.
قلنا محل الضرورة مورد الطباع وليس محل النزاع.
_________
(1) 15 الإسراء.
(1/88)
معنى قولي الأولان عقليان إجماعاً: أنا
وافقنا المعتزلة على أن الحسن والقبح بهذين التفسيرين يستقل
العقل بإدراكهما من غير ورود الشرائع، فيدرك العقل أن الإحسان
ملائم والإساءة منافرة، وأن العلم كمال والجهل نقص.
أما كون الفعل يثيب الله عليه أو يعاقب، فهذا لا يعلم إلا
بالشرع عندنا وبالعقل عندهم، فمن أنقذ غريقاً ففي فعله أمران:
أحدهما كون الطباع السليمة تنشرح له وهذا عقلي، وثانيهما أن
الله تعالى يثيبه على ذلك وهذا محل النزاع وكذلك من غرَّق
إنساناً ظلماً فيه أمران أحدهما كونه يتألم منه الطبع السليم
وهذا عقلي، وثانيهما كونه يعاقبه الله تعالى عليه وهذا محل
النزاع، فهذا تلخيص محل النزاع.
وكذلك يدرك العقل أن العلم كمال وأن الجهل نقص وإن لم يبعث
الله الرسل، كما يدرك أن خمسة في خمسة بخمسة وعشرين، وجميع
الأحكام العقلية من الحسابيات والهندسيات، وكذلك الأمور
العادية كالطيبات وغيرها لا يتوقف دركها على الشرائع، وكذلك
الأمور الإلهية فيما يجب لله تعالى ويستحيل عليه أو يجوز في
أفعاله يكفي فيها العقل، وأما وقوع أحد طرفي الجائز على الله
تعالى فلا يستقل العقل به، ولا يتوقف كله على الشرائع، بل قد
يكفي فيه الحواس الخمس أو إحداها، كما ندرك أن الله تعالى خلق
الرائحة في المسك واللون في الثلج والصوت في الجنين والخشونة
فيا لقنفذ، أو بقرائن الأحوال كخجَل الخجِل ووجَل الوجِل وغير
ذلك.
وأما الثواب والعقاب العاجل في الدنيا أو الآجل في الآخرة أو
أ؛ وال القيامة أو الأحكام الشرعية فإن هذا ونحوه لا يعلم
عندنا إلا بالرسائل الربانية، وعندهم تدرك الأحكام والثواب
والعقاب وكثير من أحوال القيامة بالعقل: فإنهم يوجبون بالعقل
خلود الكافر وصاحب الكبيرة في النار، وخلود المؤمن ووجوب دخوله
الجنة، وغير ذلك مما هو عندهم من باب العدل وفروع الحسن
والقبح، ونحن عندنا هذه الأمور كلها يجوز على الله تركها
وفعلها، ولا نعلم وقوعها وعدم
(1/89)
وقوعها إلا بالشرائع، فالقبيح عندنا ما نهى
الله تعالى عنه، والحسن ما لم ينه الله تعالى عنه، وعند
المعتزلة القبيح هو المشتمل على صفة لأجلها يستحق صاحبه الذم،
والحسن ما ليس كذلك، ومقصودهم بالصفة المفسدة، ومقصودنا
ومقصودهم بقولنا وقولهم في الحسن ما ليس كذلك، والاكتفاء بمطلق
هذا السبب أمران:
أحدهما أن تكون الأفعال الإلهية حسنة لصدق عدم النهي عليها،
ويندرج أيضاً فعل الساهي والغافل وأفعال البهائم. ولو قلنا
الحسن هو المأمور به لم تندرج الأفعال الإلهية لعدم الأمر
فيها.
وثانيهما: أن ينطبق على قوله تعالى «ليجزينهم الله أحسن ما
عملوا» (1) مفهومه أن الله تعالى لا يجازيهم على الحسن وهو
كذلك، إذا فسرنا الحسن بما ليس منهياً عنه، كان أدنى رتبة
الإباحة أو أعلى رتبة المطلوب، فيكون المباح الحسن والمطلوب
الأحسن والجزاء إنما يقع في المطلوب، فالجزاء إنما هو في
الأحسن لا في الحسن، فقد عملنا بالآية مفهوماً ومنطوقاً.
ثم المدرك عند المعتزلة في هذه المسألة أن الله تعالى حكيم
فيستحيل عليه تعالى إهمال المفاسد لا يحرمها، وإهمال المصالح
فلا يأمر بها، فكذلك كل ما هو ثابت بعد الشرع هو ثابت قبله، إذ
لو لم يثبت قبله لوقع إهمال المفاسد والمصالح؛ فالعقل عندهم
أدرك أن الله تعالى حكم بتحريم المفاسد، وإيجاب المصالح، لا
لأن العقل هو الموجب، والمحرم، بل الموجب والمحرم هو الله
تعالى، ولكن ذلك عندهم يجب له لذاته لكونه حكيماً، كما يجب له
لذاته كونه عليماً.
ونحن نقول معنى كونه تعالى حكيماً كونه تعالى متصفاً بصفات
الكمال من العلم العام المتعلق والقدرة العامة التأثير،
والإرادة النافذة ونحو ذلك من صفاته تعالى، لا بمعنى أنه تعالى
يراعي المصالح والمفاسد، بل له تعالى أن يضل الخلق أجمعين وأن
يهديهم أجمعين، وأن يفعل في ملكه ما يشاء ويحكم ما يريد، فكل
نعمة منه فضل
_________
(1) 38 النور.
(1/90)
وكل نقمة منه عدل، والخلائق دائرون بين
فضله وعدله؛ فعندنا لا يثبت حكم قبل الشرع، ولا يجب شكر المنعم
إلا بالشرع، وعندهم ذلك كله عقلي بالتفسير الذي تقدم من إدراك
العقل لا من حكمه، والحاكم هو الله تعالى في الجميع.
ولما كانت هذه قاعدتهم قالوا في الكذب الضار أن قبحه مدرك
بالضرورة، إذ كونه كذباً جهة قبح، وكونه ضرراً جهة قبح، والصدق
النافع حسن بالضرورة، لأن كونه صدقاً جهة حسن، وكونه نفعاً جهة
حسن، فلا مدخل للنظر هنا، بل الصدق الضار مجال النظر لاحتمال
أن يرجح مصلحة الصدق على مفسدة الضرر فيقضي بالحسن، أو بالعكس
فيقضي بالقبح، أو يستويان فيجب التوقف، وكذلك الكذب النافع
ينقسم إلى الأقسام الثلاثة، فالكذب من العظيم أقبح منه من
الحقير، وفيا لشيء الحقير أقبح منه في حفظ المال الخطير أو
النفس المؤمنة الزكية، فلا بد من النظر في كل صورة حتى يقضي
بحسنها أو بقبحها، أو
يتوقف فيها، وقد يتعذر النظر كآخر يوم من رمضان لا يقدر العقل
أن يدرك فرقاً بينه وبين أول يوم من شوال، بل الشرائع عندهم
إذا وردت عرفتهم أنه كان فيه مصلحة، وفي أول يوم من شوال
مفسدة، وأما عندنا فلا ضرورة ولا نظر، ولا الشرع كاشف بل منشئ
في الجميع، وعندهم الشرائع إما مؤكدة فيما تقدم علمه، أو كاشفة
فيما لم يتقدم علمه.
لنا أن العالم حادث؛ فهو إما أن يكون فيه مصالح أو لا يكون،
فإن كان الأول فقد أخر الله تعالى فعل المصالح دهوراً لا نهاية
لها، فلا يقال أن الله تعالى لا يهمل المصالح، وحينئذ لا يجزم
العقل بثبوت الأحكام قبل الشرائع ولا بمراعاة المصالح، وإن كان
العالم ليس فيه مصالح، وقد فعل الله تعالى مالا مصلحة فيه، فلا
يكون العقل جازماً بأن الله تعالى لا يفعل إلا ما فيه مصلحة،
بل يجوز عليه فعل لا حكمة فيه على رأيهم، وذلك يخرم قاعدة
الحكمة بتفسيرهم، فهذا برهان قاطع على بطلان الحسن والقبح
العقليين، ولم أره مسطوراً، وقد نقلت في شرح المحصول طرقاً
عديدة عن الأصحاب، وبينت ما عليها من الإشكال وأخرت هذه
الطريقة.
(1/91)
احتجوا بأنه لولا مراعاة المصالح والمفاسد،
لكان تخصيص الفعل المعين من بين سائر الأفعال بالحكم المعين من
بين سائر الأحكام ترجيحاً من غير مرجح، لكن ما خصص بعضها
بالتحريم وبعضها بالوجوب وبعضها بالإباحة، دل على أن الوجوب
للمصالح والتحريم للمفاسد والإباحة لعرو الفعل عنهما أو
لاستوائهما فيه، وذلك هو المطلوب.
جوابه: أن الأمر كما ذكرتم في مراعاة المصالح والمفاسد، لكن
على سبيل التفضل لا على سبيل الوجوب، ولم يحصل لكم دليلكم إلا
أصل المراعاة لا وجوبها، فنقول بموجب دليلكم.
تنبيه: قول من قال من الفقهاء بأن الأفعال قبل الشرع على الحظر
أو على الإباحة ليس هو موافقاً للمعتزلة، بل هو من أهل السنة،
غير أنه قال ذلك لمدارك شرعية، أما دليل كونها على التحريم
متقدماً، فلقوله تعالى «ويسئولونك ماذا أحل لهم» (1) ومفهومه
أن المتقدم قبل الحل هو التحريم، وكذلك قوله تعالى «أحلت لكم
بهيمة الأنعام» (2) ومفهومه أنها كانت قبل ذلك محرمة، فدل على
أن حكم الأشياء كلها كانت على الحظر، وأما دليل الإباحة فقوله
تعالى «خلق لكم ما في الأرض جميعاً» وقوله تعالى «أعطى كل شيء
خلقه ثم هدى» (3) وذلك يدل على أن الإذن في الجميع بهذه
المدارك الشرعية الدالة على الحل قبل ورود الشرائع، فلو لم ترد
هذه النصوص لقال هؤلاء الفقهاء لا علم لنا بتحريم ولا إباحة.
وتقول المعتزلة المدرك عندنا العقل فلا يضرنا عدم ورود
الشرائع، فمن هنا افترق هؤلاء الفقهاء من المعتزلة.
وأما قولي وكذلك قال بقول الأبهري وأبي الفرج جماعة من
المعتزلة فيما لم
_________
(1) 4 المائدة.
(2) 1 المائدة.
(3) 50 طه.
(1/92)
يطلع العقل عليه، فلا شك أن الشيخ سيف
الدين قال اختلف جماعة من المعتزلة البصريين وغيرهم في حكم ما
لم يدركه العقل ضرورة ولا نظراً من الأشياء قبل الشرع، فقيل
بالحظر وقيل بالإباحة، وحكاه الإمام فخر الدين عاماً في جميع
الأفعال وهو مناف لقواعد الاعتزال من جهة أ، القول بالحظر
مطلقاً يقتضي تحريم إنقاذ الغريق وإطعام الجائع وإكساء العريان
وذلك تأباه قواعد الاعتزال، والقول بالإباحة مطلقاً يقتضي
إباحة القتل والفساد في الأرض، وذلك تأباه قواعد الاعتزال
أيضاً؛ فلذلك اخترت طريق سيف الدين على طريق الإمام فخر الدين،
لأن ما لم يطلع العقل على مفسدته ولا مصلحته أمكن أن يكون
محظوراً، ولا منافاة بينه وبين إيجاب ما تُعلم مصالحه، لأنه
تصرف في ملك الغير بغير إذنه فيكون حراماً غائباً؛ كأخذ مال
الغير شاهداً، وأمكن القول بإباحته وليس فيه إباحة مفسدة
معلومة فلا تتناقض قواعد القوم بأنه تصرف لا ضرر فيه على
المالك الذي هو الله تعالى، ولا على المنتفع الذي هو العبد،
فوجب أن يكون مباحاً كالتنزه على بستان الغير والنظر لنهره
وداره.
غير أني بعد وضع هذا الكتاب رأيت كلام أبي الحسين في كتابه
المعتمد في أصول الفقه، وقد حكى عن شيعة المعتزلة الخلاف
مطلقاً من غير تقييد، كما حكى الإمام، فرجعت إلى طريقة الإمام،
وقد قررت ذلك نقلاً وبحثاً في شرح المحصول.
وأجاب أصحابنا عن مدركي الإباحة والحظر المتقدمين أن من شرط
القياس اتحاد باب المقيس والمقيس عليه، فلا تقاس العقليات إلا
على العقليات، والعاديات إلا على العاديات، والشرعيات إلا على
الشرعيات. أما العقليات على الشرعيات أو العاديات أو بالعكس
فلا، وحينئذ نقول الحظر في مال الغير والإباحة في النظر
لبستانه؛ إن ادعيتم أنهما عقليان منعناكم ذلك، فإنه لا مدرك
عندنا إلا الشرع، وإن قلتم هما شرعيان سلمنا ذلك، غير أن
القياسين يبطلان لأن المقيس حكم عقلي إذ هو ما قبل الشرائع،
والمقيس عليه شرعي، فما اتحد الباب، فلا يصح القياس.
(1/93)
فائدة: الاستدلال بقوله تعالى «وما كنا
معذبين حتى نبعث رسولا» (1) لا يتم إلا بمقدمتين؛ فإنه لا يلزم
من نفي التعذيب نفي التكليف، لاحتمال أن يكون المكلف أطاع فلا
تعذيب حينئذ، مع أن التكليف واقع، أو يكون عصى، غير أن العذاب
قد تأخر إلى بعد البعثة، كما تأخر عن بعد البعثة إلى يوم
القيامة، فلا بد من مقدمتين وهما قولنا
كلفوا قبل البعثة لتركوا عملاً بالغالب، فإن الغالب على العالم
العصيان لقوله تعالى «وما وجدنا لأكثرهم من عهد» (2) وقوله
تعالى «وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله» (3) فهذه
إحدى المقدمتين، الثانية أنهم لو تركوا لعوقبوا عملاً بالأصل،
لأن الأصل ترتيب المسبب على سببه، والعصيان سبب العقوبة فيترتب
عليه فتنتظم ملازمتان هكذا: لو كلفوا لتركوا، ولو تركوا
لعذبوا؛ فالعذاب لازم التكليف ولازم اللازم لازم، فانتفاء
اللازم الأخير يقتضي انتفاء الملزوم الأول، كما أن انتفاء شرط
الشرط يقتضي انتفاء المشروط، فلذلك يلزم من انتفاء العذاب قبل
البعثة انتفاء التكليف قبل البعثة، وهو معنى قولي: نفي التعذيب
قبل البعثة فينتفي ملزومه.
ومعنى قولي محل الضرورة مورد الطباع، وليس محل النزاع أن العقل
إنما أنما أدرك حسن الإحسان من جهة أنه ملائم للطبع لا من جهة
أنه يثاب عليه، وقبح الإساءة من جهة منافرتها للطبع لا من جهة
أنه يعاقب عليها، والضرورة حينئذ إنما هي في مورد الطباع الذي
هو الملاءمة والمنافرة، لا في صورة النزاع الذي هو الثواب
والعقاب.
_________
(1) 15 الإسراء.
(2) 102 الأعراف.
(3) 116 الأنعام.
(1/94)
الفصل الثامن عشر في
بيان الحقوق
فحق الله تعالى أمره ونهيه، وحق العبد مصالحه، والتكاليف عن
ثلاثة أقسام حق لله تعالى فقط كالإيمان، وحق للعبد فقط كالديون
والأثمان، وقسم اختلف فيه هل يغلب فيه حق الله تعالى أو حق
العبد كحد القذف، ومعنى حق العبد المحض أنه لو أسقطه لسقط وغلا
فما من حق للعبد إلا فيه حق لله تعالى وهو أمره تعالى بإيصال
ذلك الحق إلى مستحقه.
هذا هو تفسير الحقوق باعتبار اصطلاح العلماء، فإذا قالوا
الصلاة حق لله تعالى إنما يريدون أنه أوجبها ولم يريدوا صورة
الفعل، وقد ورد في الحديث الصحيح ما يرد هذا وهو «أن السائل
سأل رسول الله b
فقال ما حق الله على عباده فقال رسول الله
b أن يعبدوه ولا
يشركوا به شيئاً، قال فما حق العباد على الله قال إذا فعلوا
ذلك أن لا يعذبهم، ففسر حق الله تعالى بفعلهم لا بأمره تعالى
بذلك الفعل، فقال أن يعبدوه، فيحتمل أن يكون أراد عليه الصلاة
والسلام العبادة من حيث هي مأمور بها وهو الظاهر، لأن الفعل لو
وقع ولم يقصد به هذا لم يكن عبادة، فلا بد في العبادة أن يقصد
بها أمر الله تعالى وامتثاله، ويحتمل أن يكون حذف الأمر وهو
مراده تقديره حقه تعالى أمره بأن يعبدوه ولا
يشركوا به شيئاً؛ فحذف الأمر وحرف الجر، أو يكون عبَّر
بالعبادة عن المتعلق به وهو الأمر مجازاً لا لأنه حذف الأمر.
واختلف العلماء في حد القذف فقيل هو حق للعبد لأنه جناية على
عرضه وقيل حق لله تعالى؛ كما نقول في الأعضاء إن حفظها هو حق
لله تعالى، كذلك الأعراض، ولو أذن أحد في عضو من أعضائه لم يصح
إذنه. والقول الثالث الفرق بين أن يصل إلى الإمام فيغلب حق
الله تعالى لوصوله لنائبه، وإن لم يصل إلى الإمام كان حقاً
للعقد فيصح إسقاطه.
(1/95)
الفصل التاسع عشر في
العموم والخصوص والمساواة والمباينة وأحكامها
الحقائق كلها أربعة أقسام إما متساويات وهما اللذان يلزم من
وجود كل واحد منهما وجود الآخر ومن عدمه عدمه، كالرجم وزنا
المحصن، وإما متباينان وهما اللذان لا يجتمعان في محل واحد
كالإسلام والجزية، وإما أعم مطلقاً وأخص مطلقاً وهما اللذان
يوجد أحدهما مع وجود كل أفراد الآخر من غير عكس كالغسل
والإنزال المعتبر، فإن الغسل أعم مطلقاً، والإنزال أخص مطلقاً،
وإما كل واحد منهما أعم من وجه وأخص من وجه، وهما اللذان يوجد
كل واحد منهما مع الآخر وبدونه كحل النكاح مع ملك اليمين،
فيوجد حل النكاح بدون ملك اليمين في الحرائر، ويوجد الملك بدون
حل النكاح في موطوءات الآباء من الإماء، ويجتمعان معاً في
الأمة التي ليس فيها مانع شرعي، فيستدل بوجود المساوي على وجود
مساويه وبعدمه على عدمه، وبوجود الأخص على وجود الأعم، وبنفي
الأعم على نفي الأخص، وبوجود المباين على عدم وجود مباينه، ولا
دلالة في الأعم على نفي الأخص وبوجود المباين على عدم وجود
مباينه، ولا دلالة في الأعم من وجه مطلقاً، ولا في عدم الأخص،
ولا وجود الأعم.
دليل الحصر أن المعلومين إما أن يجتمعا أو لا. الثاني:
المتباينان. والأول لا يخلو إما أن يصدق كل واحد منهما في جميع
موارد الآخر أو لا، الأول المتساويان والثاني إن صدق أحدهما في
كل موارد الآخر من غير عكس فهو الأعم مطلقاً، والأخص مطلقاً،
وإلا فهو الأعم من وجه من وجه، والأخص من وجه، مثلتها بهذه
المثل الفقهية لأنها أقرب لطلبة العلم، وأمثلها أيضاً بالموارد
العقلية. فالمتساويان كالإنسان، والضاحك بالقوة، يلزم من وجود
كل واحد منهما وجود الآخر ومن عدمه عدمه؛ فلا إنسان إلا وهو
ضاحك بالقوة، ولا ضاحك بالقوة إلا وهو إنسان، وتعني بالقوة
كونه قابلاً له ولم يقع، ويقابله الضاحك بالفعل، وهو المباشر
للضحك، والمتباينان كالإنسان والفرس، فما هو إنسان ليس بفرس،
وما هو فرس ليس بإنسان، فيلزم من صدق أحدهما على ملح عدم صدق
الآخر، والأعم
(1/96)
مطلقاً والأخص مطلقاً كالحيوان والإنسان،
فالحيوان صادق في جميع أفراد الإنسان ولا يوجد الإنسان بدون
الحيوان البتة.
والأعم من وجه ضابطه أنهما يجتمعان في صورة وينفرد كل واحد
منهما بصورة؛ كالحيوان والأبيض، فإن الحيوان إن وجد بدون
الأبيض في السودان، ووجد الأبيض بدون الحيوان في الجير والحجر
الأبيض والثلج، واجتمعا معاً في الحيوانات البيض، فلا يلزم من
وجود الأبيض وجود الحيوان، ولا من وجود الحيوان وجود الأبيض،
ولا من عدم أحدهما عدم الآخر، فلا جرم ولا دلالة فيه مطلقاً لا
في وجوده ولا في عدمه.
بخلاف الأعم مطلقاً: يلزم من عدم الحيوان أن عدم الإنسان، ومن
وجود الإنسان الذي هو الأخص وجود الحيوان، ولا يلزم من عدم
الأخص عدم الأعم، لأن الحيوان قد يبقى موجوداً في الفرس وغيره
من أنواعه. ففائدة هذه القاعدة الاستدلالات ببعض الحقائق على
بعض، وتمثيلي المتساويين بالرجم وزناً المحسن بناءً على أن
اللائط لا يرجم، أما لو فرعنا على أه يرجم كان الرجم أعم من
الزنا عموماً مطلقاً، كالغسل والإنزال المعتبر، فإن الغسل أعم
مطلقاص لوجوده بدون الإنزال في انقطاع دم الحيض، والتقاء
الختانين، وعدم ذلك من أسباب الغسل.
الفصل العشرون في المعلومات
المعلومات كلها أربعة أقسام؛ نقيضان، وهما اللذان لا يجتمعان
ولا يرتفعان كوجود زيد وعدمه، وخلافان وهما اللذان يجتمعان
ويرتفعان كالحركة واللون، وضدان وهما اللذان لا يجتمعان ويمكن
ارتفاعهما مع الاختلاف في الحقيقة، كالسواد والبياض؛ ومثلان
(1/97)
وهما اللذان لا يجتمعان ويمكن ارتفاعهما مع
التساوي في الحقيقة كالبياض والبياض.
دليل الحصر أن المعلومين إما أن يمكن اجتماعهما أو لا، فإن
أمكن فهما الخلافان، وإن لم يمكن، فإما أن يمكن ارتفاعهما أو
لا. الثاني النقيضان والأول لا يخلو إما أن يختلفا في الحقيقة
أو لا، الأول الضدان، والثاني المثلان.
سؤال: كيف يقال في حد الضدين إنهما يمكن ارتفاعهما، والحركة
والسكون ضدان ولا يمكن ارتفاعهما عن الجسم، والحياة والموت لا
يمكن ارتفاعما عن الحيوان، والعلم والجهل لا يمكن ارتفاعهما عن
الحي؟
جوابه: أن إمكان الارتفاع أعم من إمكان الارتفاع مع بقاء
المحل، فنحن نقول
يمكن ارتفاعهما من حيث الجملة، وهما ممكنا الرفع مع ارتفاع
المحل، فقبل العالم لا متحرك ولا ساكن، ولا من العالم حي ولا
ميت ولا عالم ولا جاهل فصح الحد.
فائدة: الخلافان قد يتعذر ارتفاعهما الخصوص حقيقة غير كونهما
خلافين، كذات واجب الوجود سبحانه مع صفاته، وقد يتعذر
افتراقهما كالعشرة مع الزوجية خلافان، ويستحيل افتراقهما،
والخمسة مع الفردية، والجوهر مع الأكوان، وهو كثير، ولا تتنافى
بين إمكان الافتراق والارتفاع بالنسبة إلى الذات، وتعذر
الارتفاع بالنسبة إلى أمر خارجي عنهما.
فائدة: حصر المعلومات كلها في هذه الأربعة الأقسام حق لا يخرج
منها شيء إلا ما توحد الله تعالى به وتفرد به فإنه ليس ضد
الشيء ولا نقيضاً ولا مثلاً ولا خلافاً لتعذر الرفع، وهذا حكم
عام في ذاته تعالى وصفاته العلى لتعذر رفعها بسبب وجوب وجودها.
(1/98)
|