شرح تنقيح الفصول

الباب الثاني في معاني حروف يحتاج إليها الفقيه
الواو لمطلق الجمع في الحكم دون الترتيب في الزمان:
قال جماعة من الكوفيين إنها للترتيب، لنا قوله تعالى «ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة» (1) وقوله تعالى «وقولوا حطة وادخلوا الباب» والقصة واحدة فلو كانت للترتيب لزم التناقض وهو محال، وقوله تعالى حكاية عن كفار العرب «وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيى وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم» (2) فلو كانت للترتيب لكانوا معترفين بالحياة بعد الموت والبعث، وليس كذلك، وقيل في هذه الآية إن المراد تموت كبارنا وتولد صغارنا فنحيا، فلا يلزم الاعتراف بالبعث على القول بالترتيب. والظاهر من اللفظ هو القول الأول، وأن مرادهم نحيا ونموت، والواو لا تفيد الترتيب، ولأن الواو قد تدخل فيما لا يمكن الترتيب فيه كقولنا: تضارب زيد وعمرو، ولا ترتيب في ذلك؛ فدل على أنها ليست للترتيب. احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: «بئس الخطيب أنت» لما قال الخطيب: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى، وأمره بأن يقول من يعص الله ورسوله فقد غوى، ولولا أن الواو للترتيب لما كان بين اللفظين فرق، ولما سمع عمر رضي الله عنه الشاعر يقول: كفى الشيب ... والإسلام للمرء ناهيا.
_________
(1) 58 البقرة.
(2) 24 الجاثية.

(1/99)


قال له لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك، ولولا أنها للترتيب لما كان بينهما فرق.
والجواب على الأول أن الترتيب له سببان أداة لفظية وحقيقة زمانية، فاللفظية نحو الفاء وثم، والحقيقة الزمانية هي أن أجزاء الزمان مرتبة بذاتها، فلا يقع الحال قبل الماضي، ولا المستقبل قبل الحال، ولا حين إلا قبل حين بعده، وبعد حين قبله، واجتماع الأزمان محال، فإذا كانت أجزاء الزمان مرتبة هكذا بعضها قبل بعض، والواقع في المرتب مرتب، وفي السابق سابق على الواقع في اللاحق، فالمنطوق به أولاً متقدم لتقدم زمانه على المنطوق به آخر التأخر زمانه، ولذلك أنا نقدم المفعول على الفاعل لشرفه بالحقيقة الزمانية فقط، فنقول أنشد النبيَّ حسانُ بن ثابت، ولا لفظ مرتب هنا، بل الزمان فقط، إذا تقرر هذا فنقول إذا قال الخطيب ومن يعص الله ورسوله، فقد حصل الترتيب بالحقيقة الزمانية
عندنا، واتجه عتب الخطيب عند عدمها، فلم قلتم أن الترتيب لأداة لفظية؟ بل لما ذكرنا، وهو مجمع عليه وما ذكرتموه مختلف فيه، وإضافة كلام الشارع للمتفق عليه أولى. وهو الجواب عن الثاني.
فائدة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما» فقد جمع بينهما في الضمير كما جمع الخطيب، فما الفرق وما الجواب؟
الجواب من وجهين: أحدهما ذكره الشيخ عز الدين عبد السلام - قدس الله روحه - فقال: إن منصب الخطيب حقير قابل للزلل؛ فإذا نطق بهذه العبارة قد يتوهم فيه لنقصه أنه إنما جمع بينهما في الضمير لأنه أهمل الفصل بينهما في الضمير والفرق، فلذلك امتنع لما فيه من إيهام التسوية، ومنصب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غاية الجلالة والبعد عن الوهم والتوهم، فلا يقع بسبب جمعه عليه الصلاة والسلام وإيهام التسوية.

(1/100)


وثانيهما: ذكره بعض الفضلاء فقال: كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جملة واحدة، وتقدم الظاهر من الجملة يبعد استعمال الظاهر موضع الضمير، بل الضمير هو الحسن، وكلام الخطيب جملتان إحداهما مدح والأخرى ذم، فلذلك حسن منه استعمال الظواهر مكان المضمرات.
والفاء للتعقيب والترتيب والتسبب نحو سها فسجد.
قال الإمام فخر الدين: الفاء للتعقيب بحسب الإمكان، احترازاً من قولهم دخلت بغداد فالبصرة، فإنه إذا كان بينهما ثلاثة أيام فدخل بعد الثلاثة فهذا تعقيب عادة، أو بعد خمسة أو أربعة فليس بتعقيب، ولا يشترط في تعقيب دخول البصرة أن يكون تليه بالزمن الفرد فذلك مستحيل، فلا يكون الوضع له.
وقولنا للتعقيب احتراز من (ثُم) فإنها للتراخي والتسبب، كما في قولنا سها فسجد، وسرق فقُطع، وزنا فرُجم، أي هذه المقدمات أسباب لما بعدها، والدليل على أنها للترتيب أنها يجب دخولها في جواب الشرط إذا كان جملة اسمية نحو: من دخل داري فله دينار، قال النحاة لو لم يقل (فله) بل قال (له) بغير فاء لكان إقراراً بالدينار ولزمه دفعه له، ولم يكن تعليقاً للدينار على دخول الدار، وكان الشرط المتقدم يبقى لغواً بغير جواب. وكذلك إن دخلت الدار فأنت طالق أو فأنت حر، لو حذف الفاء طلقت وعتق العبد في الحال، لأن الموجب لتعليق الطلاق إنما هو الفاء في الجملة الاسمية، فإذا عدمت انقطع الكلام عما قبله فصار إنشاء لا تعليقاً؛ من حيث دلالة اللفظ لا من حيث الإرادة والفتيا؛ فإذا كانت الفاء هي التي ترتب دل على أنها للترتيب.
وثم للتراخي.
هذا حقيقتها؛ فتقتضي أن ما بعدها وقع بعد ما قبلها وبينهما فترة، بخلاف الفاء وقد تستعمل لتراخي الرتب دون الزمان من باب مجاز التشبيه، كقوله تعالى:

(1/101)


«ثم كان من الذين آمنوا» (1) فرتبة الإيمان متراخية في العلو والشرف عن رتبة الإطعام والإعتاق المتقدمتين عليه فلذلك دخلت ثم، وكذلك قوله تعالى «ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم» (2) فإن السجود وإن وقع أولاً لكن رتبته كانت أشرف فرتبته متراخية. وكذلك قول الشاعر
إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده
ما بعد ثم هو قبل، غير أن المقصود هو التراخي في الرتب، فيقصد أن أباه كان أعظم رتبة منه، وجده كان أعظم رتبة من أبيه، فهذا المحسن للفظ ثُم.
وحتى وإلى للغاية:
نحو بعتك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة، أو سرت حتى دخلت مكة. واختلف العلماء في ابتداء الغاية وانتهائها هل يندرجان في المغيا أم لا؟ على أربعة أقوال: ثالثها الفرق بين أن تكون الغاية من الجنس فتندرج أم لا فلا تندرج؛ فإن كان المبيع رماناً والشجرتان رمانتان اندرجتا، وإلا فلا. الرابع: الفرق بين أن يكون الفصل بينهما أمراً حسياً كما في قوله تبارك وتعالى: «ثم أتموا الصيام إلى الليل» (3) فلا يندرج لأن الظلام متميز عن النهار بالبصر، أو لا فيندرج كما في قوله تعالى «وأيديكم إلى المرافق» (4) هذه الأربعة أنقلها في انتهاء الغاية، وأما ابتداؤها فلا أنقل فيه إلى قولين.
فائدة: المغيا لا بد أن يتكرر قبل الغاية بعد ثبوته، فإذا قلت سرت إلى مكة من مصر، فلا بد أن تثبت حقيقة لسير قبل مكة ويتكرر قبلها، أما ما لا يتكرر فلا تتصور فيه الغاية، فلذلك قال بعض علماء الحنفية أن العامل في قوله تعالى:
_________
(1) 17 البلد.
(2) 11 الأعراف.
(3) 178 البقرة.
(4) 6 المائدة.

(1/102)


«إلى المرافق» ليس هو اغسلوا أيديكم، لأن غسل اليد لا يثبت إلا بعد غسل المرافق، لأن اليد اسم لها من الإبط إلى الأصابع، وغسل هذا لا يثبت قبل المرافق فضلاً عن تكرره، بل الثابت قبل المرفق بعض اليد، فيكون تقدير الآية اغسلوا أيديكم واتركوا من آباطكم إلى المرافق، فإلى المرافق غاية للترك لا للغسل، والترك ثبت قبل المرفق وتكرر إلى المرفق، وتفرع على هذا أن الغاية لا تدخل في المغيا، فلا تدخل المرافق في الترك، فيغسل مع المغسول، وهذا بحث حسن.
فائدة: حكاية العلماء الخلاف في اندراج انتهاء الغاية، ينبغي أن يحمل على (إلى)
دون (حتى) بسبب تضافر قول النحاة على أن حتى لها شروط: أن يكون ما بعدها من جنس ما قبلها وداخلاً في حكمه وآخر جزء منه، أو متصلاً به فيه معنى التعظيم أو التحقير، فنصوا على اندراج ما بعدها في الحكم، فما بقي لدخول الخلاف في اندراجه معنى، بل يندرج ليس إلا ويحمل الخلاف على (إلى) ، فإنه ليس فيها نقل يعارضنا.
و (في) للظرفية والسببية نحو قوله - صلى الله عليه وسلم - «في النفس المؤمنة مائة من الإبل» .
كونها للسببية أنكره جماعة من الأدباء، والصحيح ثبوته، فإن النفس ليست ظرفاً للإبل، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الإسراء «فرأيت في النار امرأة حميرية عُجِّل برحها إلى النار لأنها حبست هرة حتى ماتت جوعاً وعطشاً فدخلت النار فيها» معناه بسببها لأنها ليست في الهرة، ومنه «أحب في الله وأبغض في الله» ، أي أحب بسبب طاعة الله وأبغض بسبب معصية الله.
واللام للتملك نحو المال لزيد، والاختصاص نحو هذا ابن لزيد، والاستحقاق نحو السرج للدابة، والتعليل نحو هذه العقوبة للتأديب، وللتأكيد نحو إن زيداً لقائم، وللقسم نحو قوله تعالى «لنسفعاً بالناصية» (1) .
_________
(1) 15 العلق.

(1/103)


ضابط التمليك أن يضاف ما يقبل الملك لمن يقبله، فيفيد الملك، ومنه قلنا العبد لملك لقوله عليه الصلاة والسلام «من باع عبداً وله مال» والمواطن في ذلك ثلاثة: موطن لا يقبل الملك نحو المال المجمل، وموطن يقبل الملك وهو معين نحو المال لزيد، فيفيد لذلك في الثاني إجماعاً وعدمه في الأول إجماعاً، وموطن غير معين نحو قوله تعالى «إنما الصدقات للفقراء» (1) الآية فمن لاحظ قبول النوع للملك قال اللام للملك، ومن لاحظ عدم التعيين وعدم الحصر قال تمليك غير المحصور ولا يتصور جعلها للاختصاص. فالواحد والعدد المحصور متفق عليهما في إفادة الملك، وغير المحصور مختلف فيه، وقولنا في الاختصاص: هذا ابن لزيد أولى من قولنا أب لزيد فإن الأب لا يلزم اختصاصه بهذا الابن، فقد يكون له أولاد أخر، وأما الابن فلا يكون له أب واحد، والفرق بين الاستحقاق والاختصاص أن الاستحقاق أخص، فإن ضابطه ما شهدت به العادة، كما شهدت للفرس بالسرج والحمار بالبرذعة والدار بالباب، فهذا هو الاستحقاق. وقد يختص الشيء بالشيء من غير شهادة عادة، فإنه ليس من لازم الشيء أن يكون له ولد كما تقول في الفرس مع السرج.
والباء للإلصاق نحو مررت بزيد، والاستعانة نحو كتبت بالقلم، والتعليل نحو سعدت بطاعة الله، والتبعيض عند بعضهم، وهو منكر عند بعض أئمة اللغة.
بقي المصاحبة نحو خرج زيد بثيابه، وبمعنى (في) نحو سكنت بمصر، والقائلون بالتبعيض اشترطوا أن تكون مع فعل يتعدى بنفسه، حتى لا تكون للتعدية، وزعموا أن من ذلك قوله تعالى «وامسحوا برءوسكم» (2) فإن العرب تقول مسحت رأسي ومسحت برأسي، فلم يبق فرق إلا التبعيض، وليس كذلك، بل تقول: (مسح) له مفعولان يتعدى لأحدهما بنفسه والآخر بالباء، ولم تخير العرب بين المفعولين في هذه الباء، بل عينتها لما هو آلة المسح، فإذا قلت مسحت يدي بالحائط فالرطوبة
_________
(1) 60 التوبة.
(2) 6 المائدة.

(1/104)


الممسوحة على يدك، والحائط هو الآلة التي أزلت بها عن يدك، وإذا قلت مسحت الحائط بيدي فالشيء المزال هو على الحائط، ويدك هي الآلة المزيلة، وكذلك مسحت يدي بالمنديل، المنديل آلة، والمنديل بيدي، فالتنظيف إنما وقع في المنديل لا في يدك، هذه قاعدة عربية، ولم تخير العرب في ذلك، وحيث قالت العرب مسحت رأسي، فالشيء المزال إنما هو عن الرأس، وحيث قالت برأسي، فالشيء المزال عن غيرها وقد أزيل بها.
ولنا قاعدة أخرى إجماعية وهي أن الأئمة أجمعت على أن الله تعالى لم يوجب علينا إزالة شيء عن رءوسنا ولا عن جميع الأعضاء، بل أوج علينا أن ننقل رطوبة أيدينا لرءوسنا وجميع أعضاء الوضوء، وعلى هذا يتعين أن يكون الرأس له آلة مزيلة عن غيرها. لا أنها مزال عنها؛ فيتعين الباء فيها للتعدية؛ لأن العرب لا تعدي مسح للآلة بنفسها بل بالباء، فالباء ليست للتبعيض في الآية بل للتعدية، لأنها على زعمهم لا تكون للتبعيض إلا حيث يتعدى الفعل بنفسه.
وأو إما للتخير نحو قوله تعالى «هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً» (1) أو للإجابة نحو اصحب الفقهاء أو الزهاد، وله الجمع بينهما بخلاف الأول، أو للشك نحو جاءني زيد أو عمرو، أو للإيهام نحو جاءني زيد أو عمرو، وكنت عالماً بالتي منهما وإنما أردت التلبيس على السامع، بخلاف الشك، أو التنويع نحو العدد إما زوج أو فرد، أي هو متنوع إلى هذين النوعين.
يصح الإيهام والإيهام بالباء موحدة من تحتها والياء باثنتين من تحتها؛ لأن المقصود التلبيس على السامع، وأنت في الشك لا تعلم الآتي منهما، وهذه فروق بحسب كل واحدة منها على حدته، والفرق بين التخيير والإباحة والثلاثة الباقية أن الثلاثة الأخيرة لا تكون إلا في الخبر، والتخيير والإباحة لا يكونان إلا في
_________
(1) 95 المائدة.

(1/105)


الأمر فهذا فرق عام، والفرق الأول خاص، ومن التنويع قولنا العالم إما جماد أو نبات أو حيوان؛ أي هو متنوع إلى هذه الأنواع الثلاثة.
و (إن) وكل ما تضمن معناها: للشرط نحو إن جاء زيد جاء عمرو، ومن دخل داري فله درهم، وما تصنع أصنع، وأي شيء تفعل أفعل، ومتى أطعت الله سعدت، وأين تجلس أجلس.
(إذا) تتضمن معنى الشرط أيضاً نحو إذا جاء زيد فأكرمه، وقد تعرى عن الشرط نحو قوله تعالى «والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى» (1) أي أقسم بالليل في حالة غشيانه والنهار في حالة تجليه، فهي ظرف محض، وإذا كانت للشرط تقبل إن يعلق عليها المعلوم والمشكوك نحو إذا زالت الشمس فصل، فزوالها معلوم الوقوع، وإذا جاء زيد فائتني؛ فمجيه مشكوك في وقوعه، ولا يعلق على أن إلا المشكوك في وقوعه فلا يقال إن زالت الشمس فصل.
فائدة: قد وقعت (إن) في كتاب الله تعالى في غير ما موضع مع إن الله بكل شيء عليه فهل ذلك مجاز، لفقدان الشرط أم لا؟ والحق أنه حقيقي لا مجاز؛ لأن القرآن عربي، ومعنى ذلك أنه لو نطق بهذا الكلام عربي لكان وضعه أن يكون شاكَّاً والله تعالى وضع القرآن ونظمه كما نظمته العرب، أن لو كانوا متكلمين بذلك الكلام من حيث النظم لا من حيث وجوه الإعجاز، فإذا قال الله تعالى «وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا» (2) لو تكلم بهذا الكلام عربي لكان وضعه الشك فيه؛ فما استعملت (إن) إلا في موضعها.
فائدة: التعليق ينقسم أربعة أقسام مطلق على مطلق نحو إن جاء زيد فأكرمه؛ على مطلق الإكرام على مطلق المجيء، وعام على عام نحو كلما دخلت الدار فكل عبد لي حر، فكل دخلة معلق عليها، وتعق كل عبد معلق على كل دخلة، وعام على مطلق نحو إن دخلت الدار فكل عبد لي حر، ومطلق على عام نحو متى دخلت الدار
_________
(1) 1 الليل.
(2) 23 البقرة.

(1/106)


فأنت حر، علق حريته على كل فرد من أفراد الأزمنة التي يقع الدخول فيها.
وينشأ من هذه القاعدة فوائد جليلة عظيمة.
منها: أن اليمين تنحل بالمرة الواحدة في قولنا: متى دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت مراراً لا تطلق إلا مرة واحدة، وإن كان الأصوليون والفقهاء نصوا على أن متى وحيث وأين من صيغ العموم، لأن المعلق عليه وإن كان عاماً إلا أن المعلق مطلق، فانحلت اليمين بالمرة، ومنها الفرق بين قول الفقهاء: إذا قال كلما دخلت الدار فعليّ درهم، وبين قولهم إذا قال: إن دخلت الدار أو متى دخلت الدار فعليّ درهم؛ أن لزوم الدرهم يتكرر في الأول دون الثاني، بسبب أنه في الأول علق عاماً على عام فيتكرر، وفي الثاني مطلق على عام فلم يتكرر، ولذلك يتكرر عليه الطلاق في كلما دون متى ما وإن وإذا.
ومنها أن (إذا) وإن كانت مطلقة في الزمان مثل (إن) لكنها تدل على الزمان مطابقة لأنها من أسمائه (وإن) وإن كانت مطلقة في الزمان مثل إذا إلا أنها لا تدل على الزمان إلا بطريق الالتزام؛ لأنها لم توضع للزمان بل لربط أرم ما بما دخت عليه، وذلك لا بد فيه من الزمان؛ فدلت على الزمان التزاماً. وبالجملة هذه قاعدة شريفة يُعلم منها مباحث كثيرة في الأصول والفروع فينبغي أن تضبط.
(ولو) مثل هذه الكلمات في الشرط نحو لو جاء زيد أكرمته، وهي تدل على انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فمتى دخلت على ثبوتين فهما نفيان، أو على نفيين فهما ثبوتان، أو على ثبوت ونفي فالثابت منفي والمنفي ثابت.
من خصائص الشرط أن يدخل على المستقبل ليس إلا كما تقدم أن عشر حقائق تتعلق بالاستقبال: منها الشرط وجزاؤه، (ولو) تدخل على الماضي نحو لو زرتني أمس زرتك اليوم، فينبغي أن لا تكون للشروط، لكنها فيها ربط جملة بجملة فأشبهت الشرط من هذا الوجه، فقيل لها حرف شرط. مثال دخولها على النفيين قولك لو لم يأتين زيد لم أكرمه، فيدل كلامك على أنه أتاك وأكرمته، ومثال الثبوتين لو جاءني زيد أكرمته، فما جاءك ولا أكرمته، ومثال النفي والثبوت لو لم يأتني

(1/107)


زيد عتبته، فقد أتاك وما عتبته، والثبوت والنفي نحو قولك لو أتاني زيد لم أعتبه يقتضي أنه ما أتاك وقد عتبته.
وعلى هذه القاعدة أشكل قوله عليه الصلاة والسلام «نعم العبد صهيب؛ لو لم يخف الله لم يعصه» (1) يقتضي أنه خاف وعصى، وذلك ذم والكلام سيق للمدح وإبعاد طوره عن المعصية، وهي قد دخلت على نفيين فيتعين أن يكونا ثبوتين فيلزم ما تقدم، فقال ابن عصفور (لو) هنا بمعنى إن، (وإن) إذا دخلت على نفيين لا يكونان ثبوتين، فلا يلزم المحذور المتقدم. وقال الخسروشاهي: أصل (لو) إنما هي للربط فقط، وانقلاب النفي للثبوت أو الثبوت للنفي، إنما جاء من العرف، والحديث جاء بقاعدة اللغة دون العرف. وقال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام - رحمه الله - إن المسبب الواحد إذا كان له سبب واحد لزم انتفاؤه، لأنه يثبت مع السبب الآخر، وغالب الناس أن طاعتهم لله تعالى للخوف، فإنهم إذا لم يخافوا عصوا ولا يطيعوا، فأخبر عليه الصلاة والسلام أن صهيباً اجتمع في حقه سببان: الخوف والإجلال لله تعالى، فلو انتفى الخوف لم تصدر منه المعصية لأجل الإجلال، فلو لم يخف الله لم يعصه، وهذا غاية المدحة، كما تقول لو لم يمرض زيد لمات، أي
بالهرم، فإنه سبب آخر للموت، وحيث قلنا يلزم من النفي الثبوت إذا كان للفعل سبب واحد، فكلام النحاة محمول عليه.
فائدة: قال ابن يعيش - في شرح المفصل - (لو) تكون بمعنى (إن) تقول أعجبني لو قام زيد؛ أي قيامه، ومنه قوله تعالى «ودوا لو تدهن فيدهنون» (2) وقوله تعالى «ود كثير من أهل الكتاب لو يردوكم من بعد إيمانكم كفاراً» (3) ، فالمفعوف هو لو وما بعدها، وكذا الفاعل في المثال الأول وهو غريب.
_________
(1) أظن أنه من كلام عمر رضي الله عنه.
(2) 9 القلم.
(3) 159 البقرة.

(1/108)


ولولا تدل على انتفاء الشيء لوجود غيره لأجل أن لا نفت النفي الكائن مع لو فصار ثبوتاً، وإلا فحكم لو لم ينتقض، لقوله - صلى الله عليه وسلم - «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» يدل على انتفاء الأمر لوجود المشقة المرتبة على تقدير ورود الأمر.
الأصل فيما تدخل عليه لو مما هو ثابت في ظاهر اللفظ أن يكون منفياً في المعنى، فلما كان منفياً في المعنى (ولا) حرف نفي، والنفي إذا دخل على النفي صار ثبوتاً فلا جرم كان اسم لولا وجوداً؛ فقلنا تدل على انتفاء الشيء الذي هو جوابها لوجود غيره الذي هو اسمها، ونفي جواب لولا يحكم على معناه بالنفي، وإن كان ظاهر اللفظ يقتضي ثبوته، فهذا تقرير كون حكم (لو) لم ينتقض.
وقولي على تقدير ورود الأمر: قصدت به التنبيه على أن قول النحاة لوجود غيره ليس هو كما يفهمه أكثر الناس: أن المراد وجوده بالفعل كما في قول عمر رضي الله عنه «لولا علي لهلك عمر» (1) فعليّ موجود حقيقة، والوجود في لولا أعم من كونه واقعاً، فإن المشقة في الحديث ليست واقعة ولا تقع، وإنما هي واقعة على تقدير ورود الأمر، وذلك التقدير لم يقع ولا يقع، فقصدت إفهام هذا العموم.
و (بل) لإبطال الحكم عن الأول وإيجابه للثاني نحو جاء زيد بل عمرو، وعكسها (لا) نحو جاء زيد لا عمرو، ولكن للاستدراك بعد الجحد نحو ما جاءني زيد لكن عمرو، ولا بد من أن يتقدمها النفي في المفردات، أو يحصل تناقض بين المركبات.
أصل (بل) لإبطال الحكم عن الأول، وقد تستعمل مجازاً للإضراب عن الحديث في الجمل، فهي لإبطال المخبر عنه، وقد تستعمل لقطع الخبر وإبطاله مجازاً لما بين المخبر والخبر من التعلق، والارتباط كقوله تعالى «بل ادّارك علمهم في الآخرة بل هم
_________
(1) أي لولا علم علي، وكان رضي الله عنه من أكابر الصحابة لقد كان عمر يستفتيه. إنظر ذلك مفصلاً في مقدمة ابن القيم في كتابه «أعلام الموقعين» بتحقيقنا ط مكتبة الكليات الأزهرية.

(1/109)


في شك منها بل
هم منها عمون» (1) لم تبطل شيئاً مما أخبر عنه تعالى، بل معنى، بل يكفي الحديث في هذه القصة ولندخل في قصة أخرى، وكذلك قوله تعالى «بل الذين كفروا في تكذيب» (2) للإضراب عن الخبر فيما تقدم دون المخبر عنه، والتناقض بين المركبات مثل قولك سافر زيد لكن عمرو مقيم، فالإقامة تناقض السفر، فكأنك قلت ما زيد مقر لكن عمرو، فإن قلنا سافر زيد لكن عمرو فقيه لم يجز لعدم التناقض بين السفر والفقه، فلم يوجد ما يقوم مقام النفي من التناقض (3) .
والعدد يذكر فيه المؤنث ويؤنث فيه المذكر، ولذلك قلنا إن المراد بقوله تعالى «والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء» (4) الأطهار دون الحيض لأن الطهر مذكر والحيضة مؤنثة، وقد ورد النص بصيغة التأنيث فيكون المعدود مذكراً لا مؤنثاً.
هذا من الثلاثة إلى العشرة، أما الواحد والاثنان فاكتفت العرب فيهما بلفظ الجنس والواحد والتثنية، فيحصل لفظ واحد والعدد والمعدود معاص، أعني الوحدة والجنس، والتثنية والجنس، يقولون رجل ورجلان فيتعين المقصود، وأما رجال فيحتمل الثلاثة وغيرها من مراتب الأعداد فلا ينضبط المراد، فأتوا بلفظ العدد مع اللفظ الدال على الجنس فقالو: ثلاثة رجال وثلاث نسوة، فذكروا مع المؤنث لئلا يجتمع تأنيثان أحدهما في العدد والآخر في المعدود، وأنثوا المذكر لضرورة الفرق، والأمر كذلك إلى العشرة، فيجري الأحد عشر والاثني عشر على تأنيث المؤنث وتذكير المذكر، كما كانا قبل الوصول إلى التركيب مع العشرة، ومن الثلاثة عشر إلى التسعة عشر يكون الكلام له صدر وهو ما دون العشرة
_________
(1) 66 النمل.
(2) 19 البروج.
(3) أنظر معاني هذه الأدوات تفصيلاً في كتب النحو ولم أعلق عليها ملاحظاً أن هذا ليس مكانه.
(4) 238 البقرة.

(1/110)


وعجز وهو العشرة، فأما الصدر فيجري الحال فيه كما كان قبل العشرة من تذكير المؤنث وتأنيث المذكر فلا تنتقض قاعدته، وأما عجز الكلام وهو العشرة فيخالف صدره، فيؤنث مع المؤنث ويذكر مع المذكر، فنقول جاني خمسة عشر رجلاً وخمس عشرة امرأة، ولا تزال كذلك إلى التسعة عشر، وإذا قلت ثلاثمائة ذكرت، لأنه جمع المائة وهي مؤنثة، وإذا قلت ثلاثة آلاف أنثت، لأن الألف مذكر فأنثت في هذين على قاعدة ما قبل العشرة تذكر المؤنث وتؤنث المذكر.

(1/111)