شرح تنقيح الفصول الباب الثالث في
تعارض مقتضيات الألفاظ
يحمل اللفظ على الحقيقة دون المجاز، والعموم دون التخصيص،
والإفراد دون الاشتراك، والاستقلال دون الإضمار، وعلى الإطلاق
دون التقييد، وعلى التأصيل دون الزيادة، وعلى الترتيب دون
التقديم والتأخير، وعلى التأسيس دون التأكيد، وعلى البقاء دون
النسخ، وعلى الشرعي دون العقلي، وعلى العرفي دون اللغوي، إلا
أن يدل دليل على خلاف ذلك، لأن جميع ما ادعينا تقديمه ترجح عند
العقل احتمال وقوعه على ما يقابله والعمل بالراجح متعين.
مُثل هذه: الأسد حقيقة في الحيوان المفترس مجاز في الرجل
الشجاع، وقوله تعالى «وأن تجمعوا بين الأختين» (1) يحمل على
عمومه دون التخصيص الذي هو الأختان الحرتان. دون المملوكتين،
ولفظ النكاح يجعل لمعنى واحد وهو الوطء أرجح من كونه مشتركاً
بينه وبين سببه الذي هو العقد (2) والاستقلال كقوله تعالى «أن
يُقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنفوا
من الأرض» (3) .
يقول الشافعي رضي الله عنه: يقتلوا إن قتلوا وتقطع أيديهم إن
سرقوا، ونحن نقول الأصل عدم الإضمار، والإطلاق كقوله تعالى
«لئن أشركت ليحبطن عملك» (4) قلنا مطلق الشرك محبط للعمل.
_________
(1) 23 النساء.
(2) قد أطلق لفظ النكاح في القرآن الكريم على المعنيين.
(3) 33 المائدة.
(4) 65 الزمر.
(1/112)
قال الشافعي رضي الله عنه بل يقيد بالوفاة
على الكفر قلنا الأصل عدم التقييد.
ومثال الزيادة: قوله تعالى «لا اقسم بهذا البلد» (1) قيل لا
زائدة وأصل الكلام أقسم بهذا البلد، وقيل ليست زائدة وتقدير
الكلام لا أقسم بهذا البلد وأنت ليس فيه، بل لا يعظم ويصلح
للقسم إلا إذا كنت فيه.
والتقديم والتأخير: كقوله تعالى «والذين يظاهرون من نسائهم ثم
يعودون لما قالوا فتحرير رقبة» (2) الآية، فظاهرها أنه لا تجب
الكفارة غلا بالوصفين المذكورين قبلها وهما الظهار والعود؛
وقيل فيها تقديم وتأخير تقديره والذين يظاهرون من نسائهم
فتحرير رقبة ثم يعودون لما كانوا من قبل الظهار سالمين من
الإثم بسبب الكفارة، وعلى هذا لا يكون العود شرطاً في كفارة
الظهار.
ومثال التأكيد: قوله تعالى في سورة الرحمن «فبأي آلاء ربكما
تكذبان» من أول السورة إلى آخرها، فإن جعلناه تأكيداً وهو
مقتضى ظاهر اللفظ يلزم أن يكون التأكيد قد تكرر أكثر من ثلاث
مرات، والعرب لا تزيد في التأكيد على ثلاث، فيحمل الآي في كل
موطن على ما تقدم قبل لفظ ذلك التكذيب، ويكون التكذيب ذكر
باعتبار ما قبل ذلك اللفظ خاصة فلا يتكرر منها لفظ فلا تأكيد
البتة في السورة كلها، فقوله تعالى «يخرج منهما اللؤلؤ
والمرجان (3) ، فبأي آلاء ربكما تكذبان» فالمراد بآلاء خروج
اللؤلؤء والمرجان خاصة، وكذلك جميع السورة، وكذلك القول في
سورة «والمرسلات» فإن ظاهر تكرير قوله تعالى «ويل يومئذ
للمكذبين» إنه تكرار وتأكيد فيلزم الزيادة على الثلاث، فيحمل
على المكذبين بما ذكر قبل كل لفظ على حياله، فيكون الجميع
تأسيساً لا تأكيداً.
ومثال النسخ: اختلاف العلماء في إباحة سباع الطير، فقيل إنها
مباحة لقوله تعالى «قل لا أجد فيما أوحي إلى مُحرماً على طاعم
يطعمه إلا أن يكون ميتة أو
_________
(1) 1 البلد.
(2) 3 المجادلة.
(3) 23 الرحمن.
(1/113)
دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس أو
فسقاً أهل لغير الله به» (1) فالحصر في هذه الأربعة يقتضي
إباحة ما عداها ومن جملتها السباع، وورد نهيه
b عن أكل كل ذي ناب من
السباع وذي مخلب من الطير، فقيل ناسخ للإباحة وقيل ليس ناسخاً
والأكل مصدر أضيف للفاعل دون المفعول، وهو الأصل في إضافة
المصدر بنص النحاة، فيكون الخبر مثل قوله تعالى «وما أكل
السبع» (2) ويكون حكمها واحداً، وبحثه مستقصى في الفقه في كتاب
الذخيرة.
ومثال العقلي: قوله عليه الصلاة والسلام «الاثنان فما فوقهما
جماعة» فإن حملناه على معنى الاجتماع وأنه حصل بهما فذلك معلوم
بالعقل، وإن حملناه على حصول فضيلة الجماعة وذلك حكم شرعي وهو
أولى، لأن رسول الله b
إنما بعث لبيان الشرعيات.
ومثال العرفي: قوله b
«لا يقبل الله صلاة بغير طهور» إن حملناه على اللغوي وهو
الدعاء لزم أن لا يتقبل الله دعاء بغير طهارة ولم يقل به أحد،
فيحمل على الصلاة في العرف وهي العبادة المخصوصة فيستقيم.
فروع أربعة: الأول يجوز عند مالك والشافعي رضي الله عنهما
وجماعةم ن أصحاب مالك استعمال اللفظ في حقائقه إن كان مشتركاص
أو مجازاته أو مجازه وحقيقته، خلافاً لقوم، ويشترط فيه دليل
يدل على وقوعه، وهذا الفرع مبني على قاعدة وهي أن المجاز ثلاثة
أقسام جائز إجماعاً وهو ما اتحد محمله وقربت علاقته، وممتنع
إجماعاً وهو مجاز التعقيد، وهو ما افتقر إلى علاقات كثيرة نحو
قول القائل تزوجت بنت الأمير، ويفسر ذلك برؤيته لوالد عاقد
الأنكحة بالمدينة، معتمداً على أن النكاح ملازم للعقد الذي
هو ملازم للعاقد الذي هو ملازم لأبيه، ومجاز مختلف فيه وهو
الجمع بين حقيقتين أو
_________
(1) 145 الأنعام.
(2) 3 المائدة.
(1/114)
مجازين أو مجاز وحقيقة فإن الجمع بين
حقيقتين مجاز، وكذلك النافي، لأن اللفظ لم يوضع للمجموع فهو
مجاز فيه، فنحن والشافعية نقول بهذا المجاز، وغيرنا لا يقول به
لنا قوله تعالى «إن الله وملائكته يصلون على النبي» والصلاة من
الملائكة الدعاء ومن الله الإحسان فقد استعمل في المعنيين
احتجوا بأنه يمتنع استعماله حقيقة لعدم الوضع مجازاً لأن العرب
لم تجزه والجواب منع الثاني.
حرر الشيخ سيف الدين رحمه الله هذا الموضع فقال: اللفظة الوحدة
من متكلم واحد في وقت واحد إذا كانت مشتركة بين معنيين أو
حقيقة في أحدهما مجازاً في الآخر، ولم تكن الفائدة فيهما واحدة
هل يجوز أن يريد بها كلا المعنيين؟ خلاف فقصد باللفظة الواحدة
الاحتراز عن اللفظتين فإنه يصح أن يريد بهما معنيين إجماعاً،
وإن كان مشتركين فيهما، ويجوز للمتكلمين أن يريد أحدهما باللفظ
المشترك أحد المعنيين ويريد الآخر المسمى الآخر إجماعاً وفي
وقت واحد، احترازاً من إطلاق المتكلم الواحد اللفظ المشترك
للمعنيين في وقتين، فإن ذلك جائز إجماعاً، فتقول: رأيت عيناً
وتريد الباصرة، وفي وقت آخر رأيت عيناً وتريد الفوارة، وقوله
ولم تكن الفائدة فيهما واحدة احترازاً من إطلاق اللفظ المشترك
على معنيين مختلفين، والمقصود أمر مشترك بينهما، كما لو أطلقنا
لفظ القرء ونريد به معنى الجمع أو الانتقال، أو غير ذلك من
الأمور المشتركة بينهما، ولا نريد معه غيره، فهذا جائز إجماعاً
بخلاف ما إذا أريد خصوص كل واحد منهما فهو محل الخلاف.
وبهذا يظهر بطلان استدلال الحنفية على أن المراد بآية الإقراء
في العدة الحيض بقوله عليه الصلاة والسلام «اتركي الصلاة أيام
إقرائك» فإن المراد الحيض إجماعاً، فيكون هذا بياناً للآية، مع
أن المتكلم متعدد وفي وقتين، فجاز أن المتكلم الأول أراد الطهر
والثاني أراد الحيض فلا دلالة في الحديث على ذلك قاله الشيخ
سيف الدين الآمدي.
فوائد: الأولى - القائلون بجواز الجمع اشترطوا أن يا يمتنع
الجمع بينهما.
الثانية: لم يقل منهم بوجوب الحمل عند التجرد إلا الشافعي
والقاضي، ولم يوجب المعتزلة ذلك.
(1/115)
الفائدة الثالثة: اختلفوا في المنع هل هو
لأجل الوضع أو القصد، والقائل بأنه للقصد الغزالي وأبو الحسين
البصري.
الفائدة الرابعة: بعض من منع من التعميم في الإيجاب قاله في
النفي كان اللفظ مفرداً أو جمعاً.
الفائدة الخامسة: قال ليس اللفظ المشترك عند الشافعي والقاضي
إذا أريد به مجموع
مسمياته مجازاً بل حقيقة كسائر الألفاظ العامة في صيغة العموم،
ولهذا حمله عند التجرد على العموم.
قلت: وكون المشترك من صيغ العموم وافق عليه المستصفى والبرهان
وجماعة؛ حتى إن سيف الدين والجماعة لم يضعوا هذه المسألة إلا
في باب العمومات.
وقال الشيخ شرف الدين بن التلمساني في شرح المعالم اختلف
المعممون فمنهم من قال حقيقة ويعزى للشافعي وهو بعيد، ومنهم من
قال بطريق المجاز، وإليه مال إمام الحرمين. قلت: مسمى العموم
واحد كما تقدم والمشترك مسمياته متعددة فليس من صيغ العموم
ولأن الفرض في لفظ وضع لكل واحد بخصوصه لا لمشترك بين أفراد
بوصف الكلية، ومن شرط العموم أن تكون أفراده غير متناهية
والمشترك أفراده متناهية، فإن وضع للمجموع كان المسمى واحداً
بغير اشتراك والفرض أنه مشترك، ولعل الشافعي رضي الله عنه يريد
بأنه حقيقة: أنه في كل فرد على حياله لا في الجميع، فلما كان
مشتملاً على الحقيقة من حيث الجملة سماه حقيقة وسعاً، ويكون
مدركه في الحمل على التعميم الاحتياط؛ ليحصل مقصود المتكلم
قطعاً، وهو اللائق بمنصب هذا الإمام العظيم.
الفائدة السادسة: مثَّل شرف الدين بن التلمساني استعمال
المشترك في النفي بقوله لا عين لي فهل يعم جميع مسميات العين
أم لا؟
الفائدة السابعة: قال النقشواني اللفظ المشترك إما مفرد أو جمع
والمفرد إما معرف باللام أو منكر، والجمع إما مذكور بلفظ الكل
والجميع، نحو اعتدي بكل قرء، وعلى التقادير فإما مكرر، نحو
اعتدي بقرء قرء أو اعتدي بالإقراء
(1/116)
والإقراء، وكل ذلك إما في الثبوت أو النفي
كما في النهي، أما المفرد المنكر غير المتكرر فلا يستعمل في
معنييه نفياً ولا إثباتاً؛ لأن التنكير يقتضي التوحيد وهو يضاد
الجمع، وإن كرر فقد جوز استعماله في جميع معانيه لاحتمال كل
إطلاق لمعنى، والمذكور بلفظ الكل والجمع قالوا يجب الحمل على
معانيه جميعاً لأنه لا كل ولا جمع في المفرد الواحد، لأن الحيض
والطهر لا يمكن الحمل على جميع أفرادها فتعين الجمع بينهما،
أما في مثل العين فقد يتصور ذلك فلا يجب الحمل، وإن كان بصيغة
العموم أو مفرداً محلى باللام.
قلت: والظاهر أن هذا التقسيم من النقشواني لا أنه منقول
ونقلته، لأن فيه مجالاً للنظر والتفصيل، وأقرب ذلك إذا كرر
المنكر أمكن أن يقال لا يتعين اللفظ الثاني في معنى ثان لصدق
اللفظ على الأول، وأمكن أن يقال بل يتعين لئلا يلزم التأكيد
والتكرار وهو خلاف الأصل، وكذلك العطف يثير أيضاً نوعاً من
النظر، لأن الشيء لا يعطف على نفسه فيتعين التغاير والجمع
بخلاف صورة عدم العطف، وكذلك إذا جاء التعريف بعد التنكير
نحو اعتدي بقرء اعتدي بالقرء، هل يجعل اللام للعهد أو للعموم،
موضع نظر، وكذلك إذا اجتمع العطف واللام يمكن القول بحصول
التعارض؛ لما في العطف من موجب التغاير فيتعدد، وما في اللام
من العهد فلا يتعدد؛ فكلها مباحث يمكن ملاحظتها.
سؤال: استشكل الإبياري قول القاضي بالعموم في المشترك مع أنه
مُنْكِر لصيغ العموم حيث اتحاد المسمى، وإنكار الجمع أقرب في
المشترك وهو مشكل كما قاله.
تنبه: الذين قالوا المانع من جهة القصد قالوا إنه باعتبار كونه
مريداً لهذا الفرد غير مريد لذلك الفرد، وباعتبار كونه مريداً
لذلك الفرد يكون مريداً له فيكون مريداً له ولا مريداً له،
وكذلك كونه مريداً للحقيقة يقتضي أنه غير مريد للمجاز وكونه
مريد للمجاز لا يكون مريداً للحقيقة، فيجتمع النقيضان، وإرادة
اجتماع النقيضين محال.
(1/117)
وجوابه: أن اجتماع النقيضين باعتبارين ليس
محالاً، ولا يكونان نقيضين ولا تناقض بينهما، والإرادة وعدمها
هنا باعتبار جهتين.
فائدة: احتجاجهم بآية الصلاة يرد عليه أنه يمكن إضمار الخبر عن
الأول فلا يحصل مقصودهم، ويكون التقدير أن الله يصلي وملائكته
يصلون، وكذلك قوله تعالى «ألم تر أن الله يسجد له من في
السموات ومن في الأرض» إلى قوله تعالى «وكثير من الناس» (1)
يمكن أن يقال يضمر ويسجد له كثير من الناس، فيكونان لفظين
استعملا في معنيين فلا جمع، أو يكون لفظ السجود استعمل مطلق
الانقياد دون خصوص الخضوع وخصوص وضع الجهة على الأرض، فيكون
المراد واحداً فلا جمع.
فائدة: عادة جماعة يقولون: الصلاة من الله تعالى بمعنى الرحمة
ومن الملائكة بمعنى الدعاء؛ فقد جمع بين المعنيين، ويفسرون
الصلاة في حق الله تعالى بالرحمة والدعاء، والدعاء مستحيل
والرحمة مستحيلة لأنها رقة في الطبع، فيفسرون المستحيل
بالمستحيل، وذلك غير جائز، فلذلك فسرتها بالإحسان؛ فأنه ممكن
في حق الله تعالى، وقولي أول المسألة: وجماعة من أصحابنا أريد
أصحاب مالك، وسبق القلم في الأصل إلى المالكية وصوابه ويجوز
عند مالك والشافعي وجماعة من أصحاب مالك (2) .
الفرع الثاني: إذا تجرد المشترك عن القرائن كان مجملاً لا
يتصرف فيه إلا بدليل بعين أحد مسمياته.
وقال الشافعي حمله على الجميع احتياطاً.
الفرع الثالث: إذا دار اللفظ بين الحقيقة المرجوحة والمجاز
الراجح كلفظ الدابة
حقيقة مرجوحة في مطلق ما دب والدابة مجاز في الحمار، فيحمل على
الحقيقة عند أبي حنيفة ترجيحاً للحقيقة على المجاز، وعلى
المجاز الراجح عند أبي يوسف نظراً للرجحان.
_________
(1) 18 الحج.
(2) قد قمت بإصلاحها في أول المسألة.
(1/118)
وتوقف الإمام في ذلك كله للتعارض.
والظاهر مذهب أبي يوسف فإن كل شيء قُدِّم من الألفاظ إنما قدم
لرجحانه والتقدير رجحان المجاز فيجب المصير إليه.
وهنا دقيقة وهي أن الكلام إن كان في سياق النفي والمجاز الراجح
بعض أفراد الحقيقة كالدابة والطلاق، فيكون الكلام نصاً في نفي
المجاز الراجح بالضرورة فلا يتأتى توقف الإمام، وإن كان في
سياق الإثبات والمجاز الراجح بعض أفراد الحقيقة فهو نص في
إثبات الحقيقة المرجوحة بالضرورة، فلا يتأتى توقف الإمام،
وإنما يتأتى له ذلك إن سلم له في نفي الحقيقة، والكلام في سياق
النفي أو في إثبات المجاز والكلام في سياق الإثبات أو يكون
المجاز الراجح ليس بعض أفراد الحقيقة كالراوية والنجو.
وهذه المسألة مرجعها إلى الحنفية وقد سألتهم عنها ورأيتها
مسطورة في كتبهم على ما أصف لك.
قالوا المجاز إن كان مرجوحاً لا يفهم إلا بقرينة قدمت الحقيقة
إجماعاً، وإن غلب استعماله حتى ساوى الحقيقة، ولا راجح ولا
مرجوح بالكلية، فالحقيقة مقدمة عند أبي يوسف، ولا خلاف أيضاً،
وإن رجح المجاز فله حالتان، تارة تمات الحقيقة بالكلية فيرجح
أبو حنيفة إلى أبي يوسف ويقدم المجاز الراجح اتفاقاً، وإن كانت
الحقيقة تتعاهد في بعض الأوقات فهذا موضع الخلاف، مثال المساوي
لو حلف لا نكح والنكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد، فيحنث
بالعقد في تساويهما. ومثال المجاز الراجح والحقيقة لا تراد،
حلف لا يأكل من هذه النخلة واللفظ حقيقة في خشبها مجاز راجح في
تمرها، وقد أميتت هذه الحقيقة فلا يأكل أحد خشبها فيوافق أبو
حنيفة أبا يوسف، ولا يحنث إلا بالتمر. ولا يحنث بالخشب،
(1/119)
ومثال ما يتعاهد مع رجحان المجاز قوله
لأشربن من النهر فهو حقيقة بأن يشرب بفيه يكرع من النهر، مجاز
راجح إذا شرب من أداة؛ لأنه إذا غرف بالكوز وشرب فقد شرب من
الكوز لا من النهر، لكنه المجاز الراجح المتبادر، والحقيقة، قد
تراجع فإنه قد يكرع بعض الرعاة وآحاد الناس من النهر بفيه فلا
يبر عند أبي يوسف إذا شرب بفيه وكرع، بل من الأدوات لأنه
المجاز الراجح، ولا يبر عند أبي حنيفة حتى يشرب بفيه من غير
أداة. فهذا صورة المسألة وتحريرها.
وأما وجه بيان الحق فيها فقول الحنفية إنه إذا استوى الحقيقة
والمجاز تقدم الحقيقة لأن الأصل تقديمها فغير متجه؛ لأن
الحقيقة إنما قدمت لأنها أسبق للذهن من المجاز، وهذا السبق هو
معنى قولنا الأصل في الكلام الحقيقة أي الراجح، فإذا ذهب هذا
الرجحان بالتساوي بطل تقديم الحقيقة وتعين أن يكون الحق
الإجمال والتوقف حينئذ؛ فتقديم الحقيقة حينئذ غير متجه، وقول
الإمام ومن وافقه باطل بسبب أن المقدر رجحان المجاز، والرجحان
موجب لتقدم الراجح في الألفاظ والأدلة والبينات وجميع موارد
الشريعة فإهمال الرجحان هنا ليس بجيد.
ثم قولهم: إن اللفظ لا ينصرف لأحدهما إلا بالنية، مع أن
القاعدة أن النية إنما يحتاج إليها إذا كان اللفظ متردداً بين
الإفادة وعدمها، أما ما يفيد معناه أو مقتضاه قطعاً أو ظاهراً
فلا يحتاج للنية، ولذلك أجمع الفقهاء على أن صرائح الألفاظ لا
تحتاج إلى نية لدلالتها إما قطعاً أو ظاهراً وهو الأكثر، وكذلك
النقود إذا غلبت وصارت ألفاظ العقود تنصرف إليها ظاهراً انصرف
للنقد الغالب من غير قصد ولا تعيين، وكذلك الأعيان المستأجرة
تتعين بظاهرها للمنفعة المقصودة منها عادة، فالبقر ينصرف
بظاهره للحرث والفرس للكر والفر وأنواع الركوب، والجمل للحمل،
والعمامة للرأس، والقميص للجسد، والقدوم للنجر، والمسحاة للحفر
وغير ذلك.
والمعتمد في ذلك كله أو الظهور مغنٍ عن القصد والتعيين، إذا
تقررت هذه القاعدة فنقول المجاز إن كان أجنبياً عن الحقيقة
كالراوية والنجو فإن الرواية ليس بعض
(1/120)
أنواع الجمال، والنجو ليس بعض المواضع
المرتفعة، بخلاف الحمار بعض أفراد الدابة، فإذا قال القائل ليس
في الدار دابة فليس فيها حمار قطعاً؛ لأنا إن حملنا اللفظ على
نفي الحمار انتفى، أو على نفي الحقيقة التي هي مطلق ما دب
انتفى الحمار أيضاً؛ لأنه يلزم من نفي الأعم نفي الأخص، فصار
الكلام نصاً في نفي المجاز الراجح فلا توقف على النية لانتفائه
على كل تقدير، أما الحقيقة المرجوحة فهي منتفية على تقدير وغير
منتفية على تقدير، فلما حصل التردد حسن توقيف الحكم عليها
بالانتفاء على النية، وإن كان الكلام في سياق الثبوت كان نصاً
في ثبوت أو المجاز الراجح ثبتت أيضاً؛ لأنه يلزم من ثبوت الأخص
ثبوت الأعم، وإذا ثبت على كل تقدير امتنع توقيف إثبات الحكم
لها على النية.
والمجاز لما كان ثابتاً على تقدير، وليس ثابتاً على تقدير، حسن
توقيف الحكم له على النية، فصارت الصور خمساً يمكن التوقيف على
النية في ثلاث إذا سلم التوقيف، وإلا فهو ممنوع للرجحان؛
فالثلاثة: المجاز الأجنبي إذ لا يلزم من ثبوت حقيقته ثبوته ولا
من
ثبوته ثبوت حقيقته، وكذلك العدم والمجاز الراجح الذي هو بعض
أفراد الحقيقة، والكلام في سياق الثبوت، والحقيقة المرجوحة،
والكلام في سياق النفي، فهذا وجه البحث في هذه المسألة. المظهر
أن الحق مذهب أبي يوسف وحده وإن توقف الإمام، إنما يتأتى في
قسمين من الخمسة المتقدمة.
الفرع الرابع: إذا دار اللفظ بين احتمالين مرجوحين فيقدم
التخصيص والمجاز والإضمار والنقل والاشتراك على النسخ الأربعة
الأول على الاشتراك والثلاثة الأول على النقل، والأولان على
الإضمار، والأول على الثاني لأن النسخ يحتاط فيه أكثر لكونه
يصير اللفظ باطلاً، فتكون مقدماته أكثر فيكون مرجوحاً، فتقدم
لرجحانها عليه، والاشتراك مجمل عند عدم القرينة بخلاف الأربعة،
والنقل يحتاج إلى اتفاق على إبطال وإنشاء وضع بعد وضع،
والثلاثة يكفي فيها مجرد القرينة
(1/121)
فتقدم عليها، ولأن الإضمار أقل فيكون
مرجوحاً، ولأن التخصيص في بعض الحقيقة بخلاف المجاز.
هذه الأمور مرجوحة بالنسبة إلى أضدادها كما تقدم أول هذا
الباب، لكنها إذا تعينت وفقد الراجح الذي هو الأصل، فإن انفرد
واحد منها حمل اللفظ عليه، وإن اجتمع منها اثنان فأكثر ولم
يتعذر الجمع بينها حمل اللفظ عليه، وإن اجتمع منها اثنان فأكثر
ولم يتعذر الجمع بينها حمل اللفظ عليها إن دل على الجمع قرينة
وإلا اقتصر على واحد منها تقليلاً لمخالفة الدليل بحسب
الإمكان؛ لأن (1) أسباب الترجيح ما تقدم ذكره، فأولى الكل
التخصيص، ثم المجاز، ثم الإضمار، ثم النقل، ثم النسخ، فالتخصيص
يرجح بأن اللفظ يبقى في بعض الحقيقة كلفظ المشركين إذا بقي في
الحربيين، وخرج غيرهم، والحربيون هم بعض المشركين، فهو مجاز
أقرب للحقيقة.
الوجه الثاني: أن البعض إذا خرج بالتخصيص بقي اللفظ مستصحباً
في الباقي من غير احتياج إلى قرينة وهذان الوجهان لا يوجدان في
غير التخصيص، والمجاز والإضمار كلاهما يحتاج إلى قرينة.
واختلف قول الإمام فخر الدين فقال في المحصول: هما سواء، لأن
كل واحد محتاج للقرينة. وقال في المعالم: المجاز أرجح من
الإضمار لكثرة المجاز في اللسان، والإضمار أقل منه، والكثرة
تدل على الرجحان، وهما يقدمان على النقل، لأن النقل لا يحصل
إلا بعد اتفاق الكل على إبطال الوضع الأول وإنشاء وضع آخر وذلك
متعذر أو متعسر، والمجاز والإضمار والتخصيص تكفي فيها القرينة
فقدمت عليه، وقدم النقل على الاشتراك؛ لأن النقل إن عُلم حمل
اللفظ على المعنى الثاني، وإلا حمل اللفظ على المسمى الأول،
فلا
يوجد اللفظ معطلاً أصلاً، وأما الاشتراك فإنه إن فقدت فيه
القرينة بقي معطلاً مجملاً، فكان مرجوحاً بالنسبة إلى تلك
الأربعة والنسخ إبطال الحكم بعد إرادته فيحتاط فيه أكثر، فلا
ينسخ المتواتر بالآحاد، وتخصيصه بها وبالقرائن.
_________
(1) في نسخة من المخطوطات: لكن.
(1/122)
مثال تعارض الاشتراك والنقل قوله
b «إذا ولغ الكلب في
إناء أحدكم فليغسله سبعاً» يقول الشافعي رضي الله عنه: الطهارة
في عرف الشرع منقولة إلى إزالة الحدث أو الخبث، ولا حدث،
فيتعين الخبث. يقول المالكي: الطهارة لفظها مشترك في اللغة بين
إزالة الأقذار والغسل على وجه التقرب إلى الله تعالى؛ لأنه
مستعمل فيها حقيقة إجماعاً، والأصل عدم التغيير.
مثال الاشتراك والإضمار قوله تعالى «امسحوا برءوسكم» (1) يقول
الشافعي رضي الله عنه يجوز الاقتصار على مسح بعض الرأس، لأن
الباء مشتركة بين الإلصاق في الفعل القاصر وبين التبعيض في
الفعل المتعدي، فتكون هنا للتبعيض لأنه فعل متعد؛ فلو قال
امسحوا رءوسكم لصح، يقول المالكي هنا مضمر تقديره امسحوا ماء
أيديكم برءوسكم، فالرأس ممسوح بها، والفعل لا يتعدى للآلة بغير
باء وقد تقدم في باب الحروف بسطه (2) مثال الاشتراك والمجاز
يقولا لمالكي لا تحل المبتوتة (3) إلا بالوطء لقوله تعالى «حتى
تنكح زوجاً غيره» (4) والنكاح حقيقة في التداخل مجاز في العقد،
والأصل عدم المجاز، يقول سعيد بن المسيب رضي الله عنه: بل هو
مشترك بين التداخل، والعقد، لأنه مستعمل فيهما، والأصل في
الاستعمال الحقيقة فيكون مجملاً، فيسقط الاستدلال به، مثال
تعارض الاشتراك والتخصيص قوله تعالى «فانكحوا ما طاب لكم من
النسا» (5) يقول المالكي: الطيب ميل النفس، وقد مالت نفس العقد
على الأربع فيجوز له زواجهن، يقول الشافعي لو حمل على ميل
النفس لزم التخصيص بالنساء اللاتي تحرم عليه، بل المراد
بالطيب: الحلال، والنزاع في كون الأربع حلالاً، مثال تعارض
النقل والإضمار قوله صلى الله عليه وسلم
_________
(1) 6 المائدة.
(2) انظر في الباء في باب الحروف.
(3) المبتوتة: المطلقة ثلاثاً.
(4) 230 البقرة.
(5) 3 النساء.
(1/123)
«والصائم المتطوع أمير نفسه» يقول الشافعي:
يجوز إبطال الصوم المتطوع به لأنه وكله إلى مشيئته بعد نقله
للصوم الشرعي، فيقول المالكي ليس منقولاً بل هو في مسماه
اللغو، ومعنى الكلام الذي من شأنه أن يتطوع أمير نفسه، وسماه
متطوعاً باعتبار ما يؤول إليه، وهذا الإضمار أولى من النقل.
مثال تعارض النقل والمجاز قوله b
«بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة» ويقول الحنبلي الصلاة
منقولة للعبادة المخصوصة فمن تركها كفر، يقول المالكي الصلاة
الدعاء
لغة والدعاء طلب، ومن أعرض عن طلب الله فهو كافر، واستعمالها
في هذه العبادة مجاز، والمجاز أولى من النقل.
مثال تعارض النقل والتخصيص قوله تعالى «الذين يظاهرون من
نسائهم» (1) الآية يقول المالكي فيلزم الظهار من الأمة لأنها
من نسائه يقول الشافعي لفظ النساء صار منقولاً في عرف الشرع
للحرائر المباحة فلا يتناول الأمة محل النزاع، ولو لم يكن
منقولاً لزم التخصيص بذوات المحارم فإنهن من نسائه.
مثال تعارض الإضمار والمجاز قوله تعالى «إذا قمتم إلى الصلاة
فاغسلوا وجوهكم (2) » الآية يقول المالكي والشافعي: تقديره إذا
قمتم محدثين، ولولا هذا الإضمار لكان الأمر بالطهارة بعد
الصلاة، يقول السائل هذا المحذور يزول بجعل القيام مجازاً عبر
به عن إرادة القيام.
مثال تعارض الإضمار والتخصيص قوله تعالى «فكلوا مما أمسكن
عليكم» (3) والضمير في أمسكن عام، فيقول المالكي الكلب طاهر
لاندراجه فيها مع جواز أكل ما أمسك ولو كان نجساً لحرم حتى
يغسل والأصل عدم ذلك. يقول الشافعي: يلزم جواز أكل كل ما أمسك
بعد القدرة عليه من غير ذكاة، وليس كذلك، فيلزم التخصيص، بل
هنا إضمار تقديره كلوا من حلال ما أمسكن عليكم، وكون موضع فمه
حلالاً محل النزاع.
_________
(1) 3 المجادلة.
(2) 6 المائدة.
(3) 4 المائدة.
(1/124)
مثال تعارض المجاز والتخصيص قوله تعالى
«وأتموا الحج والعمرة لله» (1) يقول الشافعي الأمر للوجوب فتجب
العمرة، يقول المالكي تخصيص النص بالحج والعمرة المشروع فيهما،
لأن استعمال الإتمام في الابتداء مجاز.
وفي هذه المواطن مباحث ومثل كثيرة نقلتها في كتاب شرح المحصول
وجعلتها مسائل خلاف مستقلة ومعها مباحث شريفة هنالك لا يحتمل
هذا الشرح المختصر ذلك.
_________
(1) 196 البقرة.
(1/125)
|