شرح تنقيح الفصول

الباب الرابع في الأوامر وفيه ثمانية فصول
الفصل الأول في مسماه ما هو
أما لفظ الأمر فالصحيح أنه أهم لمطلق الصيغة الدالة على الطلب من سائر اللغات لأنه المتبادر للذهن منها، هذا مذهب الجمهور، وعند بعض الفقهاء مشترك بين القول والفعل، وعند أبي الحسين مشترك بينه وبين الشأن والشيء والصفة، وقبل هو موضوع للكلام النفساني دون اللساني وقيل هو مشترك بينهما.
يتحصل أن الأمر والهي وما سواهما مما يتعلق بالكلام هل ذلك موضوع للساني أو النفساني، أو مشترك بينهما؟ ثلاثة مذاهب. حجة الأول المبادرة للفهم، وحجة الثاني بيت الأخطل وهو:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما ... جعل اللسان على الفؤاد دليل
وحجة الاشتراك الجمع بين الأدلة، والاشتراك هو المشهور، وإذا قلنا بأنها حقيقة في اللساني فقط فيكون مدلولها لفظاً وهو القدر المشترك بين جميع صيغ الأوامر، وعلى هذا اختلفوا هل هي مشتركة بين القول المذكور وبين الفعل؟ نحو قولنا: كنا في أمر عظيم إذا كنا في الصلاة - وقال أبو الحسين هو موضوع مع القول المذكور للشيء أيضاً نحو قولنا ائتني بأمر ما، أي شيء، وللشأن نحو قوله

(1/126)


تعالى «وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر» (1) معناه ما شأننا في إيجادنا إلا ترتب مقدورنا على قدرتنا وإرادتنا من غير تأخر كلمح بالبصر، والصفة كقول الشاعر:
عزمت على إقامة ذي صباح ... لأمر ما يُسوِّد من يَسُود
أي لصفة ما يسود من يسود.
وأما اللفظ الذي هو مدلول الأمر فهو موضوع عند مالك رحمه الله، وعند أصحابه للوجوب، وعند أبي هاشم للندب، وللقدر المشترك بينهما عند قوم، وعند آخرين لا يعلم حاله.
في الأمر سبعة مذاهب: للوجوب، للندب، للقدر المشترك بينهما - اللفظ مشترك
بينهما، لأحدهما، لا يعلم حاله، للإباحة، الوقف في ذلك كله، ذكرها الإمام فخر الدين في المحصول، والمعالم بعضها هنا وبعضها هنا، حجة الوجوب قوله عليه الصلاة والسلام «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» ولفظة (لولا) تفيد انتفاء الأمر لوجود المشقة، والندب في السواك ثابت، فدل على أن الأمر لا يصدق على الندب بل ما فيه مشقة، وذلك إنما يتحقق في الوجوب. وقوله تعالى لإبليس «ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك» (2) ذمه على ترك المأمور به، وذلك يقتضي الوجوب، لأن الذم لا يكون إلا في ترك واجب أو فعل محرم. وقوله تعالى «وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون» (3) ذمهم على ترك الركوع إذ أمروا به، هو دليل الوجوب.
حجة الندب: أن الأمر ورد تارة للوجوب كما في الصلوات الخمس وتارة للندب كصلاة الضحى، ومن القسمين صور كثيرة في الشريعة، والاشتراك والمجاز خلاف الأصل، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو رجحان الفعل وجواز
_________
(1) 50 القمر.
(2) 12 الأعراف.
(3) 48 المرسلات.

(1/127)


الترك، لأنه الأصل من جهة براءة الذمة، وهذا بعينه هو مدرك القدر المشترك بينهما، إلا أنا نسكت عن جواز الترك ونقول هو مستفاد من الأصل لا من اللفظ، وحجة أنه لأحدهما لا بعينه وروده في القسمين، والأصل عدم الاشتراك، ولم يدل دليل على أنه أخص بأحدهما، فيجزم بالوضع، ويتوقف في تعيين الموضوع له حجة الإباحة أن الأقسام كلها مشتركة في جواز الإقدام، فوجب القول به حتى يكون اللفظ حقيقة في الجميع، والأصل عدم اعتبار الخصوصيات.
وحجة القاضي في التوقف في جميع الأقسام: تردد الصيغة بينهما، فلو علم أنه موضوع لأحدهما بعينه فإما بالعقل ولا مجال له في اللغات، أو بالنقل وهو إما تواتر أو آحاد، والأول باطل، وإلا لحصل العلم وارتفع الخلاف. والثاني لا يفيد إلا الظن، وهو لا يكفي في القواعد الأصولية.
والجواب أن المعلوم من حال الصحابة رضوان الله عليهم المبادرة لحمله على الوجوب كقوله عليه الصلاة والسلام في المجوس «سنّوا بهم سنة أهل الكتاب» لما رواه عبد الرحمن بن عوف، ولم يتوقفوا في حمله على الوجوب، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام «خذوا عني مناسككم» ، «صلوا كما رأيتموني أصلي» وغير ذلك من أوامره عليه الصلاة والسلام. وقال الله تعال «وما آتاكم الرسول فخذوه» (1) ، وأما قول القاضي لو علم بالتواتر لحصل العلم فمسلم. قوله: وارتفع الخلاف ممنوع؛ فإن التواتر لا يلزم عمومه لجميع الناس، فقد تتواتر قضية في الجامع يوم الجمعة بأن المؤذن سقط من
أعلى المنار ولا يعلم بقية أهل البلد ذلك فضلاً عن البلاد النائية، وإذا لم يعلم أمكن الخلاف ممن لا يبلغه ذلك التواتر.
وهو عنده أيضاً للفور وعد الحنفية، خلافاً لأصحابنا المغاربة والشافعية وقيل بالوقف.
قال القاضي عبد الوهاب في الملخص: الذي ينصره أصحابنا أنه على الفور، وأخذ
_________
(1) الحشر.

(1/128)


من (1) قول مالك إنه للفور من أمره بتعجيل الحج، ومنعه من تفرقة الوضوء، وعدة مسائل في مذهبه، ووافق القاضي أبو بكر الشافعية في التراخي؛ واختلف العلماء هل صح في الوجوب فقط أو يعمهما؟ قال وهو الصحيح، واتفقوا على أن الخلاف لا يتصور إذا قلنا إنه للتكرار والدوام؛ بل يتعين الفور.
واختلف القائلون بالفور فقيل لا يتصور ذلك إلا إذا تعلق الأمر بفعل واحد، وقيل يتصور ذلك إذا تعلق مجمله أفعال. ثم اختلف القائلون بأنه يقتضي فعلاً واحداً فتركه، هل يجب عليه الإتيان بدله بنفس الأمر الأول أو لا يجب إلا بنص آخر؟ فأكثرهم على الأول.
والقائلون بالتراخي اختلفوا هل يجوز تأخيره إلى غير غاية، فقال بعضهم إلى غير غاية على الإطلاق، وقيل إلى غير غاية بشرط السلامة، فإن مات قبل الفعل أثم، وقيل لا إثم عليه إلا أن يغلب على ظنه فواته ولم يفعله، وفصَّل آخرون فقالوا إ، غلب على ظنه أنه لا يموت فمات لم يأثم كرامي السهم يغلب على ظنه السلامة، وهو مختار القاضي أبي بكر، والقائلون بالتأخير اختلفوا، فمنهم من قال لا يجوز التأخير إلا إلى بدل، وهو العزم على أدائه في المستقبل ليفارق المندوب، وقيل العزم ليس ببدل بل هو شرط في جواز التأخير. والقائلون بأنه بدل اختلفوا، فمنهم من قال بدل من نفس الفعل، وقيل بدل من تقديمه، واحتج من قال بأن التراخي لا يتأتى إلا في الواجب أن التراخي معناه لا يأثم بالتأخير، وذلك متعذر في المندوب، لتعذر الإثم في نفسه في المندوب، وجوابه: أنه قد يندب على التراخي كما في صدقة التطور، وقد يكون على الفور كما في تحية المسجد.
حجة التراخي في الواجب: أن الأمر إنما يدل على الطلب وهو أعم من الوجوب على التعجيل، فوجب أن لا يدل على الفور إلا بدليل فيكون مخيراً وهو التراخي.
_________
(1) لعل لفظة (من) زائدة.

(1/129)


حجة الفور قوله لإبليس «ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك» (1) فلولا الفور لكان من حجة إبليس أن يقول إنك أمرتني بالسجود ولم توجب على الفور فلا أعتب، وحجة القول بأنه إذا فات لا يلزم مثله في وقت آخر إلا بدليل منفصل: إن الأوامر تابعة للمصالح، وكون الأوقات المستقبلة مساوية للوقت الحاضر أمراً مشكوكاً فيه، فوجب أن لا يجب إلا بأمر جديد يدل على مساواة الزمن الثاني للأول في المصلحة. فإن الأصل عدمها فضلاً عن مساواتها.
حجة القول بأنه يلمه في الزمن الثاني بالأمر الأول: أن الأمر دل على أصل الفعل والزمن الفوري والدال على المركب دال على مفرداته بالتضمن، وقد تعذر أحد الجزئين وهو الزمن الفوري، فيوجب أن يبقى الأمر متعلقاً بالجزء الآخر، وهو أصل الفعل، فيفعله المأمور في أي زمان شاء بعد ذلك.
وهو عنده للتكرار، قاله ابن القصار من استقراء كلامه، وخاله أصحابه وقيل بالوقف، لنا قوله تعالى لإبليس ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك رتب الذم على ترك المأمور به في الحال، وذلك دليل الوجوب والفور، وأما التكرار للصحة للاستثناء في كل زمان من الفعل.
قال القاضي عبد الوهاب في الملخص: مذهب أصحابنا للمرة الواحدة، وقاله كثير من الحنفية والشافعية، قلت: وقال الشيخ أبو إسحق الشيرازي في كتاب اللمع: إن القائلين بالتكرار قالوا بذلك في أزمنة الإمكان دون أوقات الضرورات، فيكون على هذا إطلاق غيره محمولاً على تقييده، وقولي في أصل الكتاب: عنده، أريد مالكاً، ويدل على التكرار أنه لو لم يكن للتكرار لامتنع ورود النسخ عليه بعد الفعل، ولأنه ضد النهي، وهو لتكرار، فيكون للتكرار؛ لأن العرب تحمل الشيء على ضده كما تحمله على مثله، كما نصبوا (بلا) قياساً على (أن) وهي ضدها، وحجة المرة الواحدة أنه ورد التكرار كما في الصلوات الخمس، وللمرة الواحدة كما في الصلاة على رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم -، والأصل عدم المجاز
_________
(1) 12 الأعراف.

(1/130)


والاشتراك، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو أصل الفعل حجة الوقف تعارض الأدلة.
فإن علق على شرط فهو عنده وعند جمهور أصحابه، والشافعية للتكرار، خلافاً للحنفية.
القائلون بالتكرار عند عدم الشروط قائلون به مع الشرط بطريق الأولى، لأن الشروط اللغوية أسباب، والحكم يتكرر بتكرر سببه، فيجتمع أمران لتكرار الوضع والسببية. وأما من قال بعدم التكرار عد عدم التعليق، فاختلفوا عند التعليق، فمنهم من طرد أصله وقال بعدم
التكرار، ومنهم من خالف أصله لأجل السببية الناشئة من التعليق. قال القاضي عبد الوهاب: القائلون بعدم التكرار في الأمر المطلق قالوا به عند تكرار الشرط والصفة وهو قول كثير من أصحابنا وأصحاب الشافعي، وقال الباقون من أصحابنا وأصحاب الشافعي وأبي حنيفة: لا يقتضيه، قال وهو الصحيح.
واختلف في النهي إذا قلنا إنه لا يقتضي التكرار، فهل يتكرر عند تكرر الشرط والصفة؟ وقال الصحيح تكرار النهي عند التعليق بخلاف الأمر. حجة القول بعدم التكرار عند وجود الشرط كقوله: إن زالت الشمس فصل، أو الصفة كقوله تعالى «الزانية الزاني فاجلدوا» أن هذا ليس فيه إلا الربط بالشرط. والصفة، والربط أعم من كونه يوصف بالدوام، والدال على الأعم غير دال على الأخص، فوجب أن لا يدل على التعليق على التكرار، حجة التكرار أن الصفة والشرط يجريان مجرى العلة، والحكم يتكرر بتكرر علته.
مسألة: قال القاضي عبد الوهاب: فإن كرر الأمر كقوله اضرب زيداً اضرب زيداً أو صل ركعتين صل ركعتين. قال: فالصحيح التكرار؛ كأن الأمر أوجب أو الندب، ما لم يمنع مانع، وقيل لا يتكرر. وقال بعد الواقفية بالوقف، قال والخلاف في ذلك إنما يتصور في الأمر الثاني إذا كان من جنس الأمر، أما غير الجنس فيتعين أن يكون مستأنفاً، وهو متفق عليه نحو صل صم، وكذلك لا يتصور الخلاف أيضاً إلا قبل صدور الفعل الأول، فإذا قال له صم بعد أن صام

(1/131)


يوماً تعين الاستئناف، حجة التكرار أن الأصل أن الفظ يحقق مقتضاه وأن يفيد معناه، وقد تكرر فيتكرر المعنى، حجة عدم التكرار أن الأول محقق والثاني يحتمل أن يكون إنشاء ويحتمل التأكيد، فلا يحمل على الإنشاء إلا بدليل (1) لأن الأصل براءة الذمة.
مسألة: قال القاضي عبد الوهاب: موانع التكرار أمور: أحدها إنه يمتنع التكرار إما عقلاً كقتل المقتول وكسر المكسور، وكذلك صم هذا اليوم، أو شرعاً كتكرار العتق في عبد فإنه كان يمكن أن يكون العتق كالطلاق. يتكرر ويكمل بالثلاث، وثانيها أن يكون الأمر الأول مستغرقاً للجنس فيتعين حمل الثاني على الأول، وكذلك الخبر كقوله: اجلدوا الزناة، أو خلقت الخلق فيتعين حمل الثاني على الأول وثالثها أن يكون هنالك عهد أو قرينة حال يقتضي الصرف للأول.
مسألة: قال: وإذا عطف على الأول أمر آخر ليس ضد الأول بل خلافه حمل على
التكرار نحو: اركعوا واسجدوا، وإن كان ضده فكذلك؛ لأن الشيء لا يؤكد بضده، ويشترط في ذلك أن يكون في وقتين نحو أكرم زيداً وأهنه (2) ، وإن اتحد الوقت حمل على التخيير، ولا يحمل على النسخ، لأن من شرطه التراخي حتى يستقر الأمر الأول ويقع التكليف والامتحان به، وتكون الواو حينئذ بمعنى (أو) حتى يحصل التخيير، وإن ورد الثاني بمثل الأول، لأن العطف يقتضي التغاير، واختاره القاضي أبو بكر، وهو الذي يجيء على قول أصحابنا. وقيل يكون الثاني هو عين الأول، وكما أن العطف يقتضي التغاير فالأصل براءة الذمة، ولا بد في هذا المذهب من التفصيل المتقدم من إمكان التكرار واستحالته.
لنا اتفاق النحاة على أن الشيء لا يعطف على نفسه، ولذلك منعوا العطف في التأكيد نحو رأيت زيداً نفسه وعينه، لأن التأكيد غير المؤكد، ولم يمنعوه في النعت لأن النعت غير المنعوت نحو رأيت زيداً الظريف والعاقل.
_________
(1) الأولى أن يقول: بدليل منفصل.
(2) 4 في الأصل أو أمنه، ولصواب ما أثبتناه.

(1/132)


فرع غريب: (1) إذا كان الأول مستغرقاً للجنس والثاني يتناول بعضه كقوله تعالى «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى (2) قيل يكون الثاني نقضاً للأول. قال القاضي عبد الوهاب: والصحيح أن ذلك محمول على ما سبق للوهم عند السامع من التفخيم والتعظيم للاسم المذكور، ثانياً اهتماماً به، فأفرد بالذكر؛ لأن العرب إذا اهتمت بنوع من جنس أو فرد منه أفردته بالذكر اهتماماً، ومنعاً له من أن يعتقد أن العموم مخصوص به وأنه يجوز خروجه منه، فمع التنصيص يمتنع ذلك، وإن كان الثاني أعم من الأول نحو: اقتلوا أهل الأوثان، واقتلوا جميع المشركين ففيه الخلاف المتقدم. قال: والصحيح التفخيم أيضاً والبداءة بما هو أهم، وإن كان غالب الكلام أن يؤخر، فقد تقدم.
فرع: قال الإمام فخر الدين: إذا تكرر الأمر والأول منكَّر والثاني معرَّف، نحو صل ركعتي صل الركعتين، أو صل الصلاة. يصرف للأول لأنها لام العهد، فإن عطف نحو صل ركعتين وصل الركعتين أو صل الصلاة فعند أبي الحسين الأشبه الوقف لأن العطف يعارضه لام العهد، فيجب الوقف. قال: وعندي يحمل على التغاير، لأن لام الجنس كما تستعمل للعهد تستعمل لبيان حقيقة الجنس؛ كقول السيد لعبد اشتر لنا الخبز واللحم، فما تعينت معارضتها للعطف، قال والأشبه إذا عطف العام على الخاص الوقف لأنه ليس ترك ظاهر العموم أولى من ترك ظاهر العطف.
ويدل على الإجزاء عند أصحابه خلافاً لأبي هاشم؛ لأنه لو بقيت الذمة مشغولة بالفعل لم يكن أتى بما أمر به؛ والمقدر خلافه؛ وهذا خلف.
الكلام في هذه المسألة شبيه بالكلام في مفهوم الشرط، فإذا قال لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار فلم تدخل، يقول القاضي الشرط لا مفهوم له يدل على
_________
(1) في واحدة من المخطوطات: مرتب.
(2) 238 البقرة.

(1/133)


عدم طلاقها عند عدم الدخول، بل عدم طلاقها مأخوذ من الاستصحاب في العصمة السابقة، والقائلون بالمفهوم يقولون عدم الطلاق من ذلك ومن مفهوم الشرط كذلك هنا الإنسان ولد بريئاً من الحقوق كلها، ورد الأمر باقتضاء شغل الذمة بذلك الفعل، فإذا أتى به كان الإجزاء وهو براءة ذمته بعد ذلك مستفاداً من الاستصحاب للبراءة لا من الإتيان بالمأمور به، وغيره يقول بل بالأمرين، والإجزاء عبارة عن سقوط التكليف.
وقولي عند أصحابه، أعني مالكاً رحمه الله، وما ذكرته من الدليل هو مستند الإمام في المحصول وليس بشيء؛ لأنه قال إن الأمر لو لم يدل على الإجزاء لبقي الأمر إما متعلقاً بذلك الفعل الواقع أو بغيره، والأول محال، لئلا يلزم تحصيل الحاصل، والثاني يقتضي أنه ما أتى بما أمر به، والمقدر خلافه فلا يبقى الأمر متعلقاً بعد الإتيان بالمأمور به.
هذا هو بسط ما ذكرته في الأصل، وهو قول الإمام في المحصول، غير أنه جعل عدم الدلالة نفس الدلالة على العدم، فإنه أنما بين أن الأمر لم يبق متعلقاً، وعدم تعلقه عدم دلالته، ومقصود هذه المسألة الدلالة على البراءة، وهي الدلالة على العدم وأين أحدهما من الآخر؟! فسورة الإخلاص فيها عدم الدلالة على وجوب الزكاة، وليس فيها دلالة على عدم وجوب الزكاة، فتأمل ذلك. واختلفت عبارة العلماء في هذه المسألة فبعضهم يقول الأمر يدل على الإجزاء بمعنى أنه يدل على وجوب فعل لو فعل أجزأ وبرئت الذمة، والأمر يدل بوسط، وبعضهم يقول الإتيان بالمأمور به يقتضي الإجزاء وهذا بغير وسط فهو أولى، قال القاضي عبد الوهاب: والذي يقتضيه مذهب أصحابنا المالكية أن الأمر يقتضي إجزاء المأمور به وهو قول جميع الفقهاء، قال وذهب أكثر من تكلم في الأصول إلى أنه لا يقتضي الإجزاء ومرادهم أنه لا يفيد بمجرده (1) أنه لا يلزم المكلف فعل مثله على وجه القضاء، لنا أنه يمتنع من العاقل الحكيم أن يقول لعبده افعل كذا فإذا فعلته على الوجه
_________
(1) في الأصل بمجرد. بحذف الهاء.

(1/134)


المعتبر لا يجزى عنك ويجب عليك الإتيان بمثله، ثم يلزم ذلك في المثل أيضاً، وذلك مخالف لطريقة العقلاء، بل المقصود حصول المصلحة، فإذا حصلت اكتفى العقلاء بها، هذه هو شأن اللغة.
وأما جواز تكليف ما لا يطاق وعدم اعتبار حصول المصالح حصلت أم لا فهذا إنما يبحث (1) بالنسبة إلى ما لا يحوز على الله تعالى، لا بالنسبة إلى اللغة، وكلامنا في اللغة من حيث هي لغة هل هي من هذا القبيل أم لا، لا في جهة الربوبية وما كان يجوز عليها.
والجواب عن الأول: أن كلامنا في الفعل المستجمع للشرائط في نفس الأمر لا في ظن المكلف فقط. وعن الثاني: أن تلك الأفعال مجزئة عن الأمر الوارد بالتمادي. وعن الثالث: أنا لا نسلم أن النهي لا يدل شرعاً على الفساد بل يدل عليه.
وعل النهي عن أضداد المأمور به عند أكثر أصحابه من المعنى لا من اللفظ خلافاً لجمهور المعتزلة وكثير من أهل السنة.
أريد بالضمير في قولي وأصحابه: مالكاً رضي الله عنه، وقولي من المعنى أريد به أن الأمر يدل بالالتزام لا بالمطابقة، قال القاضي عبد الوهاب في الملخص: قال المتكلمون ومن وافقهم في إثبات الصفات ونفي خلق القرآن أن الأمر بالشيء نهي عن ضده إذا كان ذا ضد واحد، وعن جميع أضداده إذا كان له أضداد، وقاله الأشعري
_________
(1) في نسخة: يجب.

(1/135)


وغيره، وقيل يشترط في ذلك أن يكون وجوباً لا ندباً، حكاه القاضي أبو بكر، وقال: ويشترط فيه أيضاً أن يكون مضيقاً لأن الموسع لا ينهى عن ضده لقبول الوقت لهما، وقال القاضي هو نهي عن ضده كان وجوباً أو ندباً، وقالت إن كان وجوباً نظاهر وإن كان ندباً يكون النهي عن الضد على سبيل الكراهة، وفي الأول على سبيل التحريم.
ومن محاسن العبارة في هذه المسألة أن يقال: إن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده، والنهي عن الشيء أمر بأحد أضداده، فإذا قال له اجلس في البيت فقد نهاه عن الجلوس في السوق والحمام والمسجد والطريق وجميع المواضع، فإذا قال لا تجلس في البيت؛ فقد أمره بالجلوس في أحد المواضع ولم يأمره بالجلوس في كلها. لنا أن الأمر بالشيء يدل على الوجوب؛ ومن لوازم الوجوب ترك جميع الأضداد، والدال على الشيء دال على لوازمه؛ فالأمر دال بالالتزام على ترك جميع الأضداد.
احتجوا بأن الآمر بالشيء قد يكون غافلاً عن ضده والغافل عن الشيء لا ينهى عنه.
وجوابه: أن القصد إنما يشترط في الدلالة باللفظ التي هي استعمال اللفظ، أما دلالة اللفظ فلا، وهذا من قبيل دلالة اللفظ لا من قبيل الدلالة باللفظ، وقد تقدم الفرق بينهما، وأن دلالة الالتزام من هذه دون تلك.
واعلم أن هذه المباحث تتعلق بالكلام اللساني. أما الكلام القديم النفساني فنفس الأمر هو نفس ما هو نهي؛ لأن كلام الله تعالى واحد، ولا يقال بالالتزام بل هو هو، ولا دلالة للنفساني توصف بالتزام (1) ولا مطابقة، بل الفرق بينهما من حيث التعلق فقط والحقيقة واحدة.
ولا يشترط فيه علو الآمر، خلافاً للمعتزلة، واختار الباجي من المالكية والإمام فخر الدين وأبو الحسين والمعتزلة الاستعلاء، ولم يشترط غيرهم
_________
(1) في الأصل: بالالتزام.

(1/136)


الاستعلاء ولا العلو، والاستعلاء في هيئة الأمر من الترفع وإظهار القهر؛ والعلو يرجع على هيئة الآمر من شرفه وعلو منزلته بالنسبة إلى المأمور.
قال القاضي عقد الوهاب في الملخص: الذي عليه أهل اللغة وجمهور أهل العلم اشتراط العلو واختاره هو أيضاً أعني القاضي عبد الوهاب، وقال الإمام فخر الدين إن الذي عليه المتكلمون أنه لا يشترط لا علو ولا استعلاء لأنه صيغة موضوعة لمعنى، فيصح مع هذه الصفات وأضدادها كالخبر والاستفهام والترجي والتمني، فإنها تصدق مع العلو والدنو والاستعلاء والتواضع، ولا يختلف الحال بحسب اختلاف حال المتكلمين بها، حجة العلو أنه لا يحسن في العادة أمرت الله إذا دعوته، ولا أمرت الملك ولا أمير المدينة، مع أن قولنا اهدنا واغفر لنا يا ربنا هي صيغة الأمر، وكذلك مخاطبات الملوك والأمراء، ولما تعذر تسمية ذلك أمراً في العرف وجب أن يقال إنه لغة كذلك، لأن الأصل عدم النقل والتغيير، فوجب أن يكون العلو شرطاً وتكون هذه الصيغة مع الدنو مسألة، وفي حق الله تعالى خاصة تسمى دعاء، ومع التساوي تسمى التماساً.
حجة الاستعلاء في أن من صدر منه الأمر برفق لا يقال آمر ومع الاستعلاء يقال له آمر، ولذلك يصفون من فعل ذلك بالحمق، ويقولون للعبد أتأمر سيدك إذا استعلى في لفظه، وإذا لم يستعل لا يقولون له ذلك، فدل على أن الاستعلاء شرط، ويرد على الفريقين أن الله تعالى يقال لهذه الصيغة في كتابه أمر إجماعاً، مع أن الله تعالى خاطب عباده أحسن الخطاب وألينه، فقال «اتفقوا الله الذي تساءلون به» (1) وفي موضع آخر «الذي خلقكم من نفس واحدة» إلى غير ذلك من التذكير بجميل نعمه وجزيل إحسانه، ومعلوم أن هذا ضد الاستعلاء، وقالت بلقيس لقومها «ماذا تأمرون» (2) وهي أعلى منهم، وقال دريد بن الصمة:
_________
(1) 1 النساء.
(2) 1 النساء.

(1/137)


أمرتهمُ أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد
وكان المأمور من هو أعظم منه في قومه، وقال عمرو بن العاص لمعاوية رضي الله عنهما:
أمرتك أمراً جازماً فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادماً
ومعاوية أعلى منه؛ فدل على عدم اشتراط العلو.
وأما كوننا لا نسمي طلبنا من الله تعالى أمراً فللأدب، وكذلك مع الملك وغيرهم، ولا يلزم من ترك إطلاق اللفظ للأدب أن لا يكون لغة كذلك، كما أنا لا نسمي الله تعالى علامة ولا سبحيا وإن كانت المسميات بذلك موجودة، ولكن حصل المنع لأجل إيهام التأنيث في العلامة (1) وأن العطاء بالسبحية التي لا تكون إلى في جسم؛ فكذلك هنا.
ولا يشترط فيه إرادة المأمور به ولا إرادة الطلب خلافاً لأبي علي وأبي هاشم من المعتزلة؛ لنا أنها معنى خفي يتوقف العلم به على اللفظ فلو توقف اللفظ عليها لزم الدور.
الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة في الإرادة ثلاثة مواطن: أحدها أنه هل يشترط إرادة استعمال اللفظ في الوجوب أم لا؟ فقالوا صيغة الأمر تستعمل في خمسة عشر محملاً. منها الوجوب، والندب، والتهديد، والتخيير، وغير ذلك، فلا يتعين الوجوب إلا بالإرادة. وأجيبوا بأنها موضوعة للوجوب، فينصرف للوجوب بمجرد الوضع كسائر الألفاظ، والمحتاج للنية إنما هو المجاز.
وثانيها: إرادة المأمور به فعندهم لا يأمر الله تعالى إلا بما يريد وعندنا ليس بين الأمر والإرادة ملازمة بل يأمر بما يريد في حق الطائع وربما لا يريد في حق
_________
(1) في الأصل: إيهام تاء التأنيث في العلامة. والأولى حذف لفظة التاء.

(1/138)


العاصي وبسط هذا في كتاب أصول الدين (1) .
ونقول الآن: إن الله تعالى علم أن الكافر لا يؤمن وعلم أن خلاف معلومه تعالى محال، وعلم أن الإرادة لا تتعلق بالمحال، فمن المحال إرادته تعالى الإيمان للكافر مع أنه مأمور به إجماعاً، فقد وجد الأمر بدون الإرادة.
وثالثها: أن هذه الإرادة التي هي إرادة المأمور به هل تفيد الصيغة أمرية فتصير أمراً، ومع غير هذه الإرادة الصيغة تكون تهديداً أو غيره، فقيل لهم هذه الصيغة التي هي الأمرية
إن قامت بحرف واحد كان ذلك الحرف وحده أمراً وإن قامت بأكثر من حرف قام الشيء الواحد بمحلين وهو محال.
الفصل الثاني ورود الأمر بعض الحظر
إن ورد بعض الحظر اقتضي الوجوب عند الباجي ومتقدمي أصحاب مالك وأصحاب الشافعي والإمام فخر الدين، خلافاً لبعض أصحابنا وأصحاب الشافعي في قولهم بالإباحة، كقوله تعالى «وإذا حللتم فاصطادوا» (2) بعد قوله تعالى «لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم» (3) لأن الأصل استعمال الصيغة في مسماها.
قال القاضي عبد الوهاب في الملخص الحظر قسمان تارة يرد معلقاً بغاية أو شرط
_________
(1) الله تعالى يفعل ما يريد ويحم بما شاء. فالإرادة غير الأمر فهو يأمر الكافر بالإيمان ولا يريده منه وينهاه عن الكفر ويريده منه. وإني أرى أن المعتزلة قد جانبهم الصواب في مسائل حينما قاسوا الله عز شأنه على البشر تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
(2) 2 المائدة.
(3) 95 المائدة.

(1/139)


أو علة، فإذا ورد الأمر بعد زوال ما علق الحظر عليه أفاد الإباحة عند جمهور أهل العلم، كقوله عليه الصلاة والسلام «كنت نهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث من أجل الرأفة، (1) فكلوا منها وادخروا» وكالآية المتقدمة وكذلك «فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض» (2) بعد قوله تعالى «وذروا البيع» (3) وتارة يرد غير معلل بعلة عارضة ولا معلق بشرط، فمذهب مالك وأصحابه أنه للإباحة ولذلك احتج على عدم لزوم الكتابة بقوله إنما ذلك توسعة من الله على عباده.
وقال أكثر أهل الأصول أنه يقتضي الوجوب، وأنه يحمل على ما كان يحمل عليه ابتداءً من وجوب أو ندب، إن قلنا إنه موضوع للندب، أو على الوقف إن قلنا بالوقف.
وحكى الإمام فخر الدين أن الحظر إذا ورد بعد الأمر هل يحمل على التحريم أم لا؟ قولان. وتقرير هذا الفصل أن الوجود والعدم مستويان بالنسبة إلى الفعل لأنه ممكن وكل ممكن يستوي الوجود والعدم بالنسبة إليه، والأمر يرجح جهة الوجود، والنهي يرجح جهة العدم؛ فالوجود والعدم بالنسبة إلى الفعل ككفتي الميزان، والأمر والنهي يرجحان، فإذا ورد الأمر ابتداءً ورد على استواء من الكفتين فيحصل به الرجحان في كفة الوجود، وإذا ورد بعد الحظر ورد بعد ترجيح كفة العدم بالنهي فيحص هو في الكفة الأخرى فيحصل التساوي فهذا هو الفرق بين حصول الأمر ابتداء وبعد الحظر عند من فرَّق، ومقتضي هذا الفرق أن يحمل النهي على الإباحة إذا ورد بعد الوجوب، فمنهم من طرد أصله في الفرق، ومنهم من ترك الفرق وفرَّق بين الأمر والنهي، فقال إن النهي يعتمد المفاسد والأمر يعتمد المصالح،
وعناية صاحب الشرع والعقلاء بدرء المفاسد أعظم من غايتهم بتحصيل المصالح، فلذلك راعينا هذا الفرق في الأمر وحملنا الأمر على الإباحة
_________
(1) وفي رواية الدافة، وهي الجماعة التي تأتي من بلد إلى بلد.
(2) 10 الجمعة.
(3) 9 الجمعة.

(1/140)


وألغينا المصلحة، ولم نفعل ذلك في النهي اهتماماً بدرء المفاسد، ولأنا إذا قلنا يحمل النهي على التحريم أوجبنا الترك وهو على وفق الأصل؛ لأن الأصل عدم الفعل، وإذا حملنا الأمر على الوجوب قلنا بالفعل وهو على خلاف الأصل. فهذان فرقان عظيمان بين الأمر والنهي لمن خالف أصله في الأمر، أما من طرد أصله فلا يحتاج لهذين الفرقين، ثم استقراء النصوص بعد هذا الكتاب والسنة يحكم بين الفِرَق (1) .
الفصل الثالث في عوارضه
مذهب الباجي والإمام فخر الدين وجماعة من أصحابنا أنه إذا نسخ الوجوب يحتج به على الجواز لأنه من لوازمه، ومنع من ذك بعض الشافعية وبعض أصحابنا.
الجواز يطلق بتفسيرين أحدهما: جواز الإقدام كيف كان حتى يندرج تحته الوجوب وغيره، وثانيهما استواء الطرفين وهو المباح في اصطلاح المتأخرين، والأول لا شك أنه لازم للوجوب، والثاني ضده، فلا يكون لازماً له.
وظاهر كلام العلماء أنهم يريدونه، ووجه تقريره أنا نجعله لازماً من الأمر والناسخ، فالأمر دال على جواز الإقدام، والنسخ دال على جواز الإحجام؛ فيحصل مجموع الجوازين من الأمر وناسخه، غير أن مجموع الجوازين لا يتعين للإباحة بمعنى استواء الطرفين، بل يقبل الندب، وأيضاً فينبغي أن تكون الدعوى هكذا: إذا نسخ بقي إما للإباحة أو الندب من الأمر وناسخه لا من الأمر فقط.
ومن هذه المسألة أن يرد الأمر ثم يقول الآمر رفعت الوجوب عنكم فقط
_________
(1) في الأصل تحكم بين الفرق. والصحيح ما أثبتناه.

(1/141)


لا يزيد على ذلك أما إن نسخ الأمر بالتحريم ثبت التحريم قطعاً، أو قال رفعت جملة ما دل عليه الأمر السابق من جواز وغيره، فإنه لا يستدل به على الجواز، والمدرك في هذه المسألة مبني على حرفين: أحدهما أن الدال على المركب دال على أجزائه والوجوب مركب من جواز الإقدام والمنع من الترك، فإذا ارتفع أحد الجزأين بقي الآخر، وثانيهما: أن الخصوص في الشيء قد يكون شرطاً كالطلاق المعلق فإنه أخص من مطلق الطلاق، ويلزم من انتفاء الخصوص الذي هو الشرط أن لا يثبت مطلق الطلاق لازماً للمعلق، لأن الخصوص هنا
شرط، وقد لا يكون شرطاً كالناطق مع الحيوان، لا يلزم من انتفاء الناطق انتفاء الحيوان، فمن قال بالمعنى الأولى قال إنه يدل على الجواز، ومن لاحظ الثاني قال الخصوص قد يكون شرطاً وقد لا يكون، فإذا حصل الشك توقفنا.
ويجوز أن يرد خبراً لا طلب فيه، كقوله تعالى «قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا» (1) أو أن يرد الخبر بمعناه كقوله تعالى «والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين» (2) وهو كثير.
فائدة: ورود الخبر بلفظ الأمر أن الأمر شأنه أن يكون مما فيه داعية للمر، والخبر ليس كذلك، فإذا عبر بلفظ الأمر أشعر بالداعية فيكون ثبوت صدقه أقرب.
وفائدة التعبير عن الأمر بلفظ الخبر: أن الخبر يستلزم ثبوت مخبره وقوعه، بخلاف الأمر، فإن عبر عن الأمر بلفظ الخبر كان آكد في اقتضاء الوقوع حتى كأنه واقع، ولذلك اختير للدعاء لفظ الخبر تفاؤلاً بالوقوع.
_________
(1) 75 مريم.
(2) 233 البقرة.

(1/142)


الفصل الرابع جواز تكليف ما لا يطاق
الأمر بالمركب أمر بأجزائه
الأمر بالفعل في وقت معين
يجوز تكليف ما لا يطاق خلافاً للمعتزلة والغزالي، وإن كان لم يقع في الشرع خلافاً للإمام فخر الدين، لنا قوله تعالى «ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به» (1) فسؤال دفعه يدل على جوازه، وقوله تعالى «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» (2) يدل على عدم وقوعه، وهنا دقيقة وهي أن ما لا يطاق قد يكون عادياً فقط كالطيران في الهواء، أو عقلياً فقط كإيمان الكافر الذي علم الله تعالى أنه لا يؤمن؛ أو عادياً وعقلياً معاً كالجمع بين الضدين، والأول والثالث هما المرادان هنا، دون الثاني.
وافقنا المعتزلة على أن الله تعالى بكل شيء عليم، وأنه يعلم أن خلاف المعلوم محال، فهو يعلم أن الكافر يكفر وأن صدور الإيمان منه محال، مع ذلك كله فقد كلفه بالإيمان، فقد كلفه بما يتعذر وقوعه عقلاً، وهذه المقدمات كلها وافق عليها المعتزلة، فتكليف ما لا يطاق عقلاً قالت به المعتزلة. وإنما الخلاف فيما لا يطاق عادة كالجمع بين البياض والسواد في محال واحد، وجعل الجسم في مكانين في وقت واحد، والجمع بين الحركة والسكون في وقت واحد، والطيران في الهواء تحيله العادة، والعقل يجوزه، وإيمان الكافر العقل يحيله، إذا سئل أهل العادة عنه جوزوه فهو عقلي فقط.
ووجه الاستدلال بالآية أن الدعاء بمتعذر الوقوع حرام، فلا يجوز اللهم
_________
(1) 286 البقرة.
(2) 286 البقرة.

(1/143)


اجمع بين الضدين ولا اغفر للكافر ولا غير ذلك من الممتنعات عقلاً وشرعاً، فلما سألوا رفعه وذكر الله تعالى ذلك في سياق المدح لهم، دل على أنهم لم يعصوا بدعائهم فيكون دعاء بما يجوز وهو المطلوب.
وأما قول الإمام إنه واقع فاعتمد في ذلك على أن جميع التكاليف إما معلومة الوجود فتكون واجبة الوقوع، أو معلومة العدم فتكون ممتنعة الوقوع، والتكليف بالواجب الوقوع أو الممتنع الوقوع تكليف بما لا يطاق، وهذا إنما يقتضي وقوع تكليف ما لا يطاق عقلاً لا عادة، فإن امتناع خلاف المعلوم إنما هو عقلي والنزاع ليس فيه بل في المحال العادي فقط. فلا يحصل مطلوب الإمام.

الفصل الخامس الأمر بالمركب أمر بأجزائه
الأمر بالفعل في وقت معين يكون لمصلحة تختص بذلك الوقت
فيما ليس من مقتضاه لا يوجب القضاء عند اختلال المأمور به عملاً بالأصل. بال القضاء بأمر جديد خلافاً لأبي بكر الرازي.
هذه المسألة مبنية على قاعدتين: القاعدة الأولى أن الأمر بالمركب أمر بأجزائه، القاعدة الثانية أن الأمر بالفعل في وقت معين لا يكون إلا لمصلحة تختص بذلك الوقت، وإلا لكان تخصيص ذلك الفعل بذلك الوقت من بين سائر الأوقات ترجيحاً من غير مرجح.
فمن لاحظ القاعدة الأولى قال الأمر في الوقت المعين بالصلاة المعينة يقتضي الأمر بشيئين: بالصلاة وبكونها في ذلك القوت، فهو أمر بمركب، فإذا تعذر أحد جزأي المركب وهو خصوص الوقت بقي الجزء الآخر وهو الفعل؛ فيوقعه في أي وقت شاء. فيكون القضاء بالأمر الأول.
ومن لاحظ القاعدة الثانية قال: إن القامة مثلاً اختصت بصلاة الظهر لمصلحة ما في القامة، وما دلنا دليل على مساواة غيرها من الأوقات لها، بل الظاهر عدم

(1/144)


المساواة، وإلا لما اختصت بوجوب الفعل، فلا تثبت الصلاة في غير القامة لعدم المصلحة في غير القامة، فإذا دل الدليل على وجوب القضاء علمنا أن الوقت الثاني يقارب الأول في مصلحة الفعل، وإذا لم يدل دليل فلا. فهذه هو مدرك هذه المسألة، وهذا إذا كان الوقت معيناً، فإن كان وظيفة العمر فقد تقدم أنه لا قضاء فيه، وأن الخلاف فيما هو على الفور في باب أن الأمر للفور.
وإذا تعلق بحقيقة كلية لا يكون معلقاً بشيء من جزئياتها، لأن الدال على الأعم غير دال على الأخص.
إذا قلنا في الدار جسم، لا يدل على أنه حيوان، لأن الجسم أعم، أو في الدار حيوان، لا يدل على أنه إنسان أو في الدار إنسان لا يدل على أنه زيد، ولهذه القاعدة قلنا إن الوكيل بالبيع لا يملك البيع بثمن المثل دون البخس (1) إلا بالعادة لا باللفظ؛ فإذا قال له بع سلعتي حمل على ثمن المثل بدلالة العادة لأن البيع حقيقة كلية مشترك فيها بين ثمن المثل والمساوي والغبن.
ولا يشترك مقارنته للمأمور به بل يجوز تعلقه في الأزل بالشخص الحادث خلافاً لسائر الفرق.
لم يقل بالكلام النفسي إلا نحن، فلذلك تصور على مذهبنا تعلقه في الأزل، فالكلام النفسي أزلي ومنه الأمر والنهي وجميع الأحكام، فحرم الله في الأزل المرأة على زيد على تقدير وجوده، ووجوب أسباب التحريم وشرائطه، وانتفاء موانعه فإذا وجدت هذه كلها فقد وجد التقدير الذي تعلق الحكم بالشخص فيه، وكذلك أحلها الله تعالى بتقادير، فالحكم كلام الله تعالى وتعلقه القديم قديم أيضاً، فإن الذي يحيل وجود علم بغير معلوم، يحيل وجود أرم بلا مأمور، ونهي بغير منهي، وإباحة بغير مباح متقرر في العلم لا في الوجود الخارجي، لأن التعلق نسبة، والنسبة يشترط فيها تقرر طرفيها لا وجود طرفيها، كالعلم تعلقه نسبة بينه وبين معلومه، ومعلومه قد يكون
_________
(1) في المطبوعة: النجس.

(1/145)


معدوماً، بل مستحيلاً، بلا لتقرر لا بد منه، فالحكم هو الكلام وتعلقه الخاص وهما قديمان، وإنما الحادث المتعلق فقط.
ولكنه لا يصير مأموراً إلا حالة الملابسة، خلافاً للمعتزلة. والحاصل قبل ذلك إعلام بأنه سيصير مأموراً لأن كلام الله تعالى قديم، والأمر متعلق بذاته فلا يوجد غير متعلق، والأمر بالشيء حالة عدمه محال للجمع بين النقيضين، وحالة إيقاعه محال لتحصيل الحاصل، فيتعين زمن الحدوث.
هذه المسألة لعلها أغمض مسألة في أصول الفقه، والعبارات فيها عسرة التفهم وسر البحث فيها أن الألفاظ اللغوية إنما وضعت لطلب ما هو ممكن من المأمور، فيتعين أن الآمر إنما طلب من المأمور الفعل في زمن ليس فيه عدمه، لأنه لو طلب منه الفعل في زمن فيه عدمه لطلب منه الجمع بين الوجود والعدم وذلك محال. فإذن لم يطلب منه الفعل إلا في
زمان ليس فيه عدمه، وكل زمان ليس فيه عدم الفعل فيه وجوده قطعاً؛ لأن الوجود والعدم لا يمكن ارتفاعهما معاً، وزمن وجود الفعل هو زمن الملابسة، وذلك هو المطلوب.
ومقصودنا بهذا بيان صفة التعلق، لا أن الملابسة شرط في التعلق، وإلا لتعذرت حقيقة العصيان، ولا يوجد عاص أبداً؛ لأنه يقول الملابسة شرط لكوني مأموراً وأنا لم ألابس، فشرط الأمر مفقود، فلست مأموراً؛ فلا أكون عاصياً بالترك. فحينئذ يتعين أن لا تكون الملابسة شرطاً في تعلق الأمر بالمكلف. بل صفة تعلقه بذلك فقط، أي ما تعلق لما تعلق إلا بإيقاع الفعل في زمان ليس فيه عدمه، وهو عاص إذا ترك؛ لأنه أرم أن يعمر زماناً مستقبلاً بالفعل بدلاً عن عدمه، فلم يفعل. فمعنى قولنا إنه إنما يصير مأموراً في حالة الملابسة، أي تلك الحالة هي التي تعلق بها الأمر، وتعلقه متقدم عليها بالفعل فيها.
والمعتزلة يقولون لا ينبغي أن يكون هذا صفة التعلق، لأنه لو تعلق بإيقاع الفعل في زمن الحدوث لتعلق بتحصيل الحاصل، فإن زمن الحدوث زمن وجود، لأنه أول أزمنة الوجود، وأول أزمة الوجود وجود، وطلب الوجود حالة الوجود طلب

(1/146)


تحصيل الحاصل، فيتعين أن يكون متعلقاً بما قبله زمان الوجود، وهو زمان العدم.
ونحن نقول لهم تعلقه بإيقاع الفعل حالة العدم يلزم منه اجتماع النقيضين، وأما قولكم يلزم من تعلقه بحالة الملابسة تحصيل الحاصل، فليس كذلك، لأن تحصيل الحاصل يشترط فيه تعدد الزمان بأن يكون الوجود حاصل في زمان، وقيل له بعد ذلك، افعل ذلك الذي وقع في الزمان الأول بعينه، فهذا تحصيل الحاصل، أما مع اتحاد الزمان فلا؛ لأن كل مؤثر، إنما يؤثر في فعله حالة حدوثه، ولا يمكن أن يكتب أحد (1) كتاباً إلا في الزمن الذي يكتبه فيه، ولا يبنى داراً إلا في الزمن الذي يقع البناء فيه، فمن الحدوث هو زمن التأثيرات، فلو منع التأثير لم يبق تأثير؛ فمثار الغلط حينئذ هو الغفلة عن شرط تحصيل الحاصل وهو تعدد الزمان أما مع اتحاده فلا، فهذا مأخذ البحث في هذه المسالة بين الفريقين.
ويتفرع عليه أن عند المعتزلة ينقطع تعلق الأمر بالدخول في الملابسة لانتفاء العدم الذي هو زمن التعلق، وعندنا يبقى التعلق حتى تفرغ الملابسة، فبالفراغ من الملابسة ينقطع التعلق إجماعاً، وفي زمن الملابسة قولان؛ عندنا المتعلق موجود، وعند المعتزلة لا، وقبل الملابسة قولان: التعلق حاصل عند المعتزلة وعندنا لا.
وأما كون المتقدم قبل ذلك إعلاماً أو أمراً فلم يقل الإمام فخر الدين إلا أنه إعلام معناه بأنه مأمور حالة الملابسة، وهو أمر بما في زمن الملابسة. وقال القاضي عبد الوهاب في الملخص: اختلف الناس هل هو أمر على الحقيقة أم إعلام، فقال كثير: إن الأمر في الحقيقة إنما هو المقارن، أما المتقدم بإعلام، وقال الباقون: هو أمر، واختلف المعتزلة في مقدار ما يتقدم عليه من الأوقات بعد اتفاقهم مع أصحابنا على تقدمه بوقت يحصل به للمأمور السماع والفهم، فمنهم من قال لا يجوز تقدم الأمر على المأمور بأزمنة كثيرة. بل بوقت واحد إلا لمصلحة، والذي اختاره القاضي أبو بكر - رحمه اله - أنه يجب تقدمه بوقتين: وقت السماع، ووقت الفهم. والعلم
_________
(1) في المطبوعة: أحداً.

(1/147)


والتكليف يقع في الزمن الثالث، لأن إيقاع الفعل قبل العلم بمراد المتكلم محال. قال فهنا أربعة مطالب: أحدها وجوب تقدم الأمر على وقت المأمور، والثاني: أن تقدمه لا يخرجه عن كونه أمراً وإن كان إعلاماً وإنذاراً، والثالث: في وجوب تعلق الأمر بالفعل حالة إيجاده، والرابع: في مقدار ما يتقدم الأمر به على الفعل من الأوقات.
وقد أجمع المسلمون على أن أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم تتناولنا، وهي متقدمة علينا، وأنها أوامر؛ فالقول بالإعلام باطل، ولأنه لا يحتاج لأرم آخر بعده، ولو كان إعلاماً بأنه سيصير مأموراً لاحتجنا لأمر آخر حالة الملابسة، وليس كذلك.
والأمر بالأمر بالشيء لا يكون أمراً بذلك الشيء إلا أن ينص الآمر على ذلك كقوله عليه الصلاة والسلام «مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر» .
من أمر غيره أن يأمر شخصاً آخر، فهو كمن أمر زيداً أن يصيح على الدابة فإنه لا يصدق عليه أنه أمر الدابة، وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام «مروهم بالصلاة لسبع» ليس أمراً للصبيان، بل إنما فهمنا أمر الصبيان بالمندوبات، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الخثعمية «لما قالت يا رسول الله ألهذا حج قال نعم ولك أجر» ومن الناس من طرد القاعدة وقال أمر الصبي بالصلاة لا يحصل له فيها أجر، بل أمره بذلك على سبيل الاستصلاح، كاستصلاح البهائم على التفار والشماس لا لأن لها أجوراً، ومتى علم أن الآمر قصد بذلك الأمر التبليغ كان ذلك أمراً للثالث، كما قال عليه الصلاة والسلام لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في حق ابنه عبد الله لما طلق امرأته في الحيض «مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء» . ومقتضى هذه القاعدة أن ابن عمر رضي الله عنهما لا يجب عليه المراجعة، لأن الأمر بالأمر لا يكون أمراً، لكن

(1/148)


علم من الشريعة أن كل من أمره رسول الله b أن يأمر فإنما غيره هو على سبيل التبليغ ومتى كان على سبيل التبليغ صار الثالث مأموراً إجماعاً.
وليس من شرطه تحقق العقاب على تركه عند القاضي أبي بكر والإمام خلافاً للغزالي لقوله تعالى «ويعفو عن كثير (1) » .
هذه المسألة نقلتها هنا واختصرتها كما وقعت في المحصول، وليست المسألة على هذه الصورة في أصول الفقه، ولا قال القاضي هذه العبارة. ولا الغزالي أيضاً، بل المنقول في كتاب القاضي أنه قال إذا أوجب الله تعالى علينا شيئاً وجب، ولا يشترط في تحقق الوجوب استحقاق العقاب على الترك، بل يكتفى في الوجوب الطلب الجازم وقال غيره الوجوب والندب اشتركا في رجحان الفعل ولم يميز الوجوب إلا باستحقاق الذم أو العقاب، فإذا أسقطناه عن الاعتبار لم يبق فرق البتة، والحق ما قاله القاضي، فإنا إذا دعونا وقلنا الله توفنا مسلمين، فإنا نجد أنفسنا جازمة بهذا الطلب من غير رخصة في تركه، وإذا قلنا الله أعطني عشرة آلاف دينار فإني أجد رخصة في أنها لو كانت خمسة لم أتألم لذلك، فالطلب هنا غير جازم بخلاف الأول فقد تصورنا الطلب منا، في حق الله تعالى جازماً وغير جازم، مع استحالة الذم ونحوه، فإذا تصورنا الطلب الجازم بدون استحقاق الذم صح ما قاله القاضي، والغزالي لم يخالف في لزوم العقاب، بل الغزالي وكل منتمٍ إلى شريعة الإسلام يقول بجواز العفو ولو بعد التوبة، أما عدم الغفران مطلقاً فلم يقل به أحد.
_________
(1) 30 الشورى.

(1/149)


الفصل السادس في متعلقه
فالواجب الموسع وهو أن يكون زمان الفعل يسع أكثر منه وقد لا يكون محدوداً بل مغيا بالعمر، وقد يكون محدوداً كأوقات الصلوات، وهذا يعزى للشافعية منعه بناءً على تعلق الوجوب بأول الوقت، والواقع بعد ذلك قضاء يسد مسد الأداء، وللحنفية منعه بناءً على تعلق الوجوب بآخر الوقت الواقع قبله نفل يسد مسد الواجب؛ والكرخي منعه بناءً على أن الواقع من الفعل موقوف؛ فإن كان الفاعل في آخر الوقت من المكلفين فالواقع فرض وإلا فهو نفل.
ومذهبنا جوازه مطلقاً والخطاب عندنا متعلق بالقدر المشترك بين أجزاء الزمان الكائنة بين الحدين، فلا جرم صح أول الوقت لوجود المشترك، ولم يأثم بالتأخير، لبقاء المشترك في آخره، ويأثم إذا فوت جملة الوقت لتعطيل المشترك الذي هو متعلق الوجوب، فلا يرد علينا مخالفة قاعدة أببتة، بخلاف غيرنا.
من أنكر الواجب الموسع على الإطلاق، رأى أن التوسعة تقتضي جواز الترك،
والوجوب يقتضي المنع من الترك، والجمع بينهما محال. وهؤلاء خمس فرق لها خمسة أقوال.
الأول: أنه متعلق بأول الوقت؛ لأن الزوال مثلاً سبب لوجوب الظهر، والأصل ترتب المسببات على أسبابها، والشافعية اليوم ينكرون هذا المذهب، غير أنه منقول في عدة كثيرة من كتب الأصول، ويرد على هذا المذهب أن الإذن في تفويت

(1/150)


الأداء لفعل القضاء لغير عذر غير معلوم في الشريعة، وقد أجمعت الأمة على جواز التأخير في الصلوات، وجواز التعجيل، أما الإذن في تفويت الأداء لفعل القضاء لعذر فمعهود، كتفويت الأداء في حق المسافر ويصوم قضاءً، فهذا مدرك هذا المذهب وما يرد عليه.
القول الثاني: أن الوجوب متعلق بآخر الوقت، قاله الحنفية، لأن انتفاء خاصية الشيء يقتضي انتفاءه، وثبوت خاصة الشيء يقتضي ثبوته، وخاصية الوجوب الإثم على تقدير الترك، ولم نجد هذا إلا آخر الوقت، فيكون الوجوب متعلقاً بآخر الوقت، ووجدنا هذه الخاصية منفية أول الوقت وسطه فوجب انتفاء الوجوب من أول الوقت ووسطه، ويرد عليهم أنه إذا عجل لم يفعل الواجب على قولهم، وإجزاء غير الواجب عن الواجب خلاف الأصل والقواعد، فهذا مدرك هذا المذهب وما يرد عليه.
القول الثالث: قاله الكرخي من الحنفية، أنه موقوف، فإن كان الفاعل آخر الوقت مكلفاً قلت الفعل المتقدم واجب، فما أجزاء عن الواجب إلا واجب، فهذا هو الموجب للوقف، ويرد عليه أن صلاة تقع في الوجود لا توصف بكونها فرضاً ولا نفلاً، خلاف القواعد.
القول الرابع: أن الزمن الوجوب هو زمن من الإيقاع، أي وقت كان لا يتعداه حذراً من الإشكالات المتقدمة، ويرد عليه أن الوجوب وصفته ومتعلقه لا بد أن تتقدم الفعل فلا بد من تعيين الوقت قبل الفعل، أما متعلق أو صفة تثبت مع الفعل (1) فغير معهود في الشريعة.
القول الخامس: أن إيقاع الفعل قبل آخر الوقت يمنع من تعلق الوجوب المكلف آخر الوقت، فلا يجزى عن الواجب غير الواجب، بل سقط الوجوب في نفسه، ويرد عليه أن رسول الله
b وأصحابه رضوان الله عليهم
_________
(1) في المخطوطة: أما متعلق أو صفة تتبع الفعل.

(1/151)


ما كانوا يصلون آخر الوقت، بل يعجلون، فيلزم أنهم ما صلوا فرضاً قط فيفوتهم أجر الواجبات، وهو في غاية البعد فهذه مدارك هذه المذاهب وما يرد عليها من الإشكالات.
وأما القائلون بالتوسعة فقالوا الوجوب عندنا متعلق بالقدر المشترك بين أجزاء القامة الكائنة بين طرفيها فترتب الوجوب على سببه؛ لأن الوجوب في المشترك وجد عقيب الزوال ولم يلزمنا مخالفة شيء من هذه القواعد البتة، وهذه الفرقة لهم قولان في جواز التأخير؛ هل يشترط في جواز التأخير العزم على الفعل آخر الوقت لأن من لم يفعل ولا عزم على الفعل يعد معرضاً عن الأمر، أو لا يشترط لأن اللفظ ما دل إلا على الصلاة دون العزم. فهذه سبعة مذاهب في المسألة حكاها سيف الدين الآمدي في الأحكام، وأبو إسحق في اللمع وغيرهما، والقول بالتوسعة واشترط البدل هو مذهبنا ومذهب الشافعية.
وكذلك الواجب المخير قالت المعتزلة أيضاً الوجوب متعلق بجملة الخصال، وعندنا وعند بقية أهل السنة بواحد لا بعينه، ويحكى عن المعتزلة أيضاً أنه متعلق بواحد معين عند الله تعالى، وهو ما علم أن المكلف سيوقعه، وهم ينقلون أيضاً هذا المذهب عنا، والمخير عندنا كالموسع، والوجوب فيه متعلق بمفهوم إحدى الخصال الذي هو قدر مشترك بينهما وخصوصياتها متعلق التخيير، فما هو واجب لا تخيير فيه، وما هو مخير فيه لا وجوب فيه، فلا جرم يجزئه كل معين منها لتضمنه القدر المشترك، وفاعل الأخص فاعل الأعم، ولا يأثم بترك بعضها إذا فعل البعض لأنه تارك للخصوص المباح فاعل للمشترك الواجب، ويأثم بترك الجميع لتعطيله المشترك بينها.
عندنا المشترك بين الخصال المخير بينها متعلق به خمسة أحكام: الوجوب ولا يثاب ثواب الواجب إذا فعل إلا على القدر المشترك، ولا يعاقب عقاب تارك الواجب إذا ترك الجميع غلا على القدر المشترك، ولا تبرأ ذمته إذا فعل إلا بالقدر

(1/152)


المشترك، ولا ينوي أداء الواجب إلا بالقدر المشترك، فهو متعلق الوجوب والثواب والعقاب وبراءة الذمة والنية.
وقول المعتزلة إنه متعلق بالجميع، معناه بالجميع على وجه تبرأ ذمته بفعل البعض فلا يكون خلافاً للمذهب الآخر، وعند التحقيق تستوي المذاهب في هذه المسألة، وتبقى لا خلاف فيها، فإن المذهب الآخر هم ينكرونه، ولم يبق بين الفريقين إلا ما لخصته، فمن أعتق رقبة في كفارة اليمين برئت ذمته بما فيها من مفهوم إحدى الخصال، ومفهوم إحداها هو قدر مشترك بينها، لصدقه على كل واحد منها، والصادق على عدة أمور هو مشترك بينها، وخصوص العتق لا يدخل في الوجوب وإلا لأثم بتركه إذا أطعم وترك العتق، فمفهوم إحدى الخصال هو متعلق الأحكام الخمسة المتقدمة.
سؤال: على هذا التقدير يلزم أن الشاة الواجبة في الزكاة والدينار واجب مخير، فإن الله تعالى لم يوجب خصوص شاة بل مفهوم الشاة كيف كانت من غير تعيين، فيلزم أن تكون
هذه الأبواب كلها واجباً محيراً لتعلق الخطاب فيها بالقدر المشترك بعين ما قلتموه ولم يقل به أحد.
جوابه: إن تعلق الخطاب بالقدر المشترك قسمان: تارة يكون بين أجناس مختلفة من الحقائق كالعتق والكسوة، وتارة بين أفراد جنس متحد الحقيقة. فاصطلح العلماء على الأول يسمى واجباً مخيراً فلا يرد الثاني عليهم، لأنه غير المعنى الذي اصطلح على تسميته، ومن شرط النقض أن يكون بعين الذي يدعيه المتكلم.
فائدة: والفرق بين المخير والمرتب أن المخير يجوز العدول عن كل واحدة من الخصال لفعل الأخرى، والمرتب لا يجوز العدول عن الأول غلا عند تعذره، فالأول: ككفارة الحنث. والثاني نحو كفارة الظهار. ثم المرتب إذا شق على المكلف فعل الأول منه مشقة تسقط الوجوب فقط انتقل المرتب للمخير، كما إذا شق عليه الصوم لأنه يضر به، وإن تجشمه وفعله أجزأه؛ فإنه يخير بين الصوم

(1/153)


والإطعام، ويكون أثر المشقة في إسقاط خصوص الصوم وتعينه، ويبقى الواجب واحداً لا بعينه، ثم للتخيير والترتيب ألفاظ تدل عليهما في اللغة، والذي رأيته للفقهاء أن الله تعالى متى قال افعلوا كذا أو كذا فهو للتخيير، وكذلك إما كذا، وإما كذا، ومتى قال فمن لم يجد كذا فليفعل كذا وإن لم يجد كذا فليفعل كذا، كما قال الله تعالى في الظهار «فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين» (1) فصورة الشرط مستند الترتيب، ولفظ (أو) موجب للتخيير.
سؤال: يلزم على هذه القاعدة أن قوله تعالى «فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان» (2) يوجب أن الإنسان يحرم عليه أن يستشهد رجلاً وامرأتين عند القدرة على رجلين، أو يكون ذلك غير مشروع في حقه وإن لم يكن حراماً؛ وهو خلاف الإجماع، فيلزم أحد الأمرين: إما أن تكون هذه الصيغة لا تدل على الترتيب، وهو خلاف ما عليه الفقهاء، أو تدل فيلزم خلاف الإجماع في هذه الصورة.
جوابه: أن الحق في هذه المسألة أن هذه الصيغة لا تستقل بالدلالة على الترتيب، بل قد تستعمل للحصر، كقولك إن لم يكن هذا العدد زوجاً فهو فرد، وإن لم يكن زيد متحركاً فهو ساكن، وإن لم يكن حياً فهو ميت. فهذا كلام عربي، والمقصود بيان الحصر في هاتين الحالتين: الزوج والفرد، والحركة والسكون، والحياة والموت، وهو مقصود الآية (3) ، ومعناها أن الحجة الشرعية الكاملة من الشهادة في الأموال منحصرة في الرجلين
والرجل والمرأتين. وأما الشاهد واليمين، والنكول، ويغر ذلك، فليس حجة تامة من الشهادة، بل من الشهادة وغيرها وهو اليمين أو كلها لا شهادة فيها كاليمين والنكول، أما حجة تامة شرعية كلها شهادة ليس إلا هذين القسمين، فإذا تعذر أحدهما تعين الآخر فتصير هذه الآية دليلاً على عدم قبول
_________
(1) 92 النساء.
(2) 282 البقرة.
(3) هي قوله تعالى: «فاستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء» ، 282 البقرة.

(1/154)


أربع نسوة في الأموال كما نقل عن الشافعي رضي الله عنه. ومتى استعملت هذه الصيغة لبيان الحصر لا تدل على أن أحد القسمين لا يشرع إلا عند عدم الآخر، بل تدل على أن المشروع محصور فيهما في ذلك الباب الذي سيق الكلام لأجله.
وإذا تقرر هذا تعين أن هذه الصيغة تصلح للترتيب ولبيان الحصر، واللفظ الصالح للمختلفات لا يثبت به أحدهما إلا بدليل منفصل، فتحصل أن الحق أنها لا تستقل بالدلالة على الترتيب بمجردها، وحينئذ تقول قرينة كون الوضع لا يصلح للحصر قرينة دالة على أنها للترتيب، فإنه لا يحسن استعمالها لغيرهما، لو قلت إن لم يكن العدد عشرة فهو مائة لم يصح، أو إن لم يكن زيد في البيت فهو في السوق، حيث لا يعلم الحصر، لم يكن كلاماً عربياً، فهذا هو تلخيص هذا الموضع، وهو موضع حسن غريب، وينشأ منه سؤالان: أحدهما في الآية في اقتضائها الترتيب وهو خلاف الإجماع. وثانيهما: على قاعدة الترتيب فيقال قد تستعمل للحصر.
وكذلك فرض الكفاية المقصود بالطلب لغة إنما هو إحدى الطوائف الذي هو قدر مشترك بينها، غير أن الخطاب يتعلق بالجميع أول الأمر لتعذر خطاب المجهول، فلا جرم سقط الوجوب بفعل طائفة معينة من الطوائف، لوجود المشترك فيها، ولا تأثم طائفة معينة إذا غلب على الظن فعل غيرها لتحقيق الفعل من المشترك بينها ظناً، ويأثم الجميع، إذا تواطئوا على الترك لتحقق تعطيل الفعل المشترك، بينها ظناً إذا تقرر تعلق الخطاب في الأبواب الثلاثة، بالقدر المشترك، فالفرق بينها أن المشترك في الموسع هو الواجب فيه، وفي الكفاية هو الواجب عليه، وفي المخير الواجب نفسه.
سمي فرض الكفاية لأن البعض يكفي فيه، وسمي الآخر فرص الأعيان لتعلقه بكل عين، ولا يكفي البعض، وإنما قلت إن الخطاب متعلق في الكفاية بالمشترك لأن المطلوب فعل إحدى الطوائف، ومفهوم إحدى الطوائف قدر مشترك بينها لصدقه على كل طائفة، والصادق على أشياء مشترك بينها كصدق الحيوان على جميع أنواعه. واللغة لم تقتض إلا ذلك في النصوص الواردة بفرض الكفاية، كقوله

(1/155)


تعالى «ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر» (1) وكقوله تعالى «فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين» (2) الآية، ونحو هذه النصوص إنما مقتضى اللغة فيها غير معين وهو مشترك بين الطوائف المعينات، وفرقت الشريعة بين خطاب غير المعين
فمنعت منه لئلا يضيع الواجب فيقول كل شخص إني لم أتعين فيضيع الواجب، بخلاف الخطاب بالفعل الذي ليس بمعين جوزته الشريعة لأن المكلف متمكن من إيقاعه في المعين فلا يتعذر، كما خوطبنا بتحرير رقبة غير معينة ولم يفض ذلك لتعذره، وكذلك شاة من أربعين ودينار من أربعين.
فائدة: لا يشترط في فرض الكفاية تحقق الفعل بل ظنه، فإذا غلب على ظن هذه الطائفة أن تلك فعلت سقط عن هذه وإذا غلب على ظن تلك الطائفة أن هذه فعلت سقط عنها، وإذا غلب على ظن الطائفتين فعل كل واحدة منهما سقط عنهما.
أصل التكاليف أن لا تكون إلا بعلم لقوله تعالى «ولا تقف ما ليس لك به علم» (3) وقوله تعالى «وإن الظن لا يغني عن الحق شيئاً» (4) غير أنه تعذر حصول العلم في أكثر الصور أقام الشرع الظن مقامه لغلبة صوابه وندرة خطئه فأنيطت به التكاليف، فمن غلب على ظنه أن هذه امرأته جاز له وطؤها أو هذا الخمر جلاب (5) لم يأثم بشربه، أو غلب على ظنه أن زوجته امرأة أجنبية حرمت عليه، أو أن الجلاب خمر، حرم عليه، أو غلب على ظنه أنه متطهر وهو محدث أجزأته الصلاة وبرئت ذمته، وإن كان محدثاً حتى يطلع على أنه محدث،
_________
(1) 104 آل عمران.
(2) 122 التوبة.
(3) الإسراء.
(4) 38 النجم.
(5) الجلاب: ماء الورد، أو العسل أو السكر المعقود بماء الورد، معرب.

(1/156)


فكذلك هنا يقع التكليف بالظن ويسقط بالظن، كما تسقط الصلاة مع الحدث، وغيره من النظائر، وغير ذلك قد تعظم مشقته فأسقطه الشارع عن الخلق.
سؤال: إذا تقرر الوجوب على جملة الطوائف في فرض الكفاية فكيف يسقط عمن لم يفعل بفعل غيره، مع أن الفعل البدني كصلاة الجنازة والجهاد مثلاً لا يجزئ فيه فعل أحد عن أحد؟ وكيف يسوي الشارع بين من فعل ولم يفعل.
جوابه: أن الفاعل يساوي غير الفاعل في سقوط التكليف، واختلف السبب فسبب سقوطه عن الفاعل فعله وعن غير الفاعل تعذر تحصيل تلك المصلحة التي لأجلها وجب الفعل، فانتفى الوجوب لتعذر حكمته.
لا يلزم من حصول المساواة في أصل السقوط حصول المساواة مطلقاً في الثواب وغيره، بل حصل التساوي في أصل السقوط لأن الغريق إذا شيل من البحر يبقى التكليف بعد ذلك بنزول البحر لا فائدة فيه، فلا تكليف حينئذ، فيحصل التساوي في أصل السقوط، ويمتاز الفاعل بالثواب عن فعله إن فعله تقرباً.
قاعدة: الفعل على قسمين: منه ما تكرر مصلحته بتكرره كالصلوات الخمس، فإن مصلحتها الخضوع لذي الحلال، وهو متكرر بتكرر الصلاة، ومنه ما لا تتكرر مصلحته بتكرره كإنقاذ الغريق، فإنه إذا شل من البحر فالنازل بعد ذلك إلى البحر لا يحصل شيئاً من المصلحة، وكذلك إطعام الجائع، وكذلك كسوة العريان وقتل الكفار، فالقسم الأول جعله الشرع على الأعيان تكثيراً للمصلحة، والقسم الثاني على الكفاية لعدم الفائدة في الأعيان.
هذه القاعدة هي سر ما يشرع على الكفاية وما يشرع على الأعيان، تكرار المصلحة وعدم تكررها فمن علم ذلك علم ما هو الذي يكون على الكفاية، وما هو الذي يكون على الأعيان في الشريعة، غير أنه يشكل على هذه القاعدة صلاة الجنازة فإنها على الكفاية مع أن مصلحتها المغفرة للميت وذلك غير معلوم الحصول، فينبغي أن يصلى

(1/157)


عليه أبداً ويكون على الأعيان، بخلاف إنقاذ الغريق فإن مصلحته حصلت ويتعذر تكررها.
والجواب: أن مصلحة صلاة الجنازة حصول المغفرة ظناً، وقد حصل ظن المغفرة بالدعاء في المرة الأولى لقوله تعالى «ادعوني أستجب لكم» (1) ولأنه لا يحصل القطع أبداً والشرع إنما يكلف بالمصالح التي يمكن تحصيلها قطعاً أو ظناً، وهذا لا يمكن أن يحصل فيه القطع، فلو لم يكن الظن كافياً لتعذر التكليف.
فوائد ثلاث: الأولى الكفاية والأعيان كما يتصوران في الواجبات يتصوران في المندوبات، كالأذان والإقامة والتسليم والتشميت وما يفعل بالأموات من المندوبات، فهذه على الكفاية وعلى الأعيان، كالوتر والفجر وصيام الأيام الفاضلة وصلاة العيدين والطواف في غير النسك والصدقات.
هذه مندوبات يكتفى فيها ببعض الناس، كما اكتفى في الواجبات بالبعض، وقصدت بهذه الفائدة التنبيه على أن الندب يوصف بالكفاية، وأكثر الناس إنما يتخيلون ذلك في الفروض الواجبة، فلذلك نبهت عليه.
الثانية: نقل صاحب الطراز وغيره أن اللاحق بالمجاهدين وقد كان سقط عنه الفرض يقع فعله فرضاً بعد ما لم يكن واجباً عليه، وطرد غيره من العلماء في سائر فروض الكفاية، كمن يلحق بمجهزي الأموات من الأحياء، وبالساعين في تحصيل العلم من العلماء، فإن ذلك الطالب للعلم يقع فعله واجباً، معللاً لذلك بأن مصلحة الوجوب لم تتحقق ولم تحصل إلا بفعل الجميع، فوجب أن يكون فعل الجميع واجباً ويختلف ثوابهم بحسب مساعيهم.
الوجوب يتبع المصلحة، فإذا لم تحصل المصلحة بقي الخطاب بالوجوب ومن أوقع مصلحة الوجوب استحق ثواب الواجب، والجميع موقع لمصلحة الوجوب، فوجب اشتراكهم في ثواب الواجب، والكلام حيث لم تتحقق المصلحة، أما من جاء بعد تحققها فلا.
_________
(1) 60 غافر.

(1/158)


الثالثة: الأشياء المأمور بها على الترتيب أو على البدل قد يحرم الجمع بينها، كالمباح والميتة من المرتبات وتزويج المرأة من أحد الكفؤين من المشروع على سبيل البدل، وقد يباح كالوضوء والتيمم من المرتبات والسترة بأحد الثوبين من باب البدل، وقد تستحب كخصال الكفارة في الظهار وخصال كفارة الحنث فيما يشرع على البذل.
المرتبات هي التي لا يجوز فعل الثاني إلا عند تعذر الأول حساً أو شرعاً وذوات البدل هي التي يتخير المكلف بينها كثياب السترة وإباحة التيمم مع الوضوء، إذ معناه صورة التيمم، أما التيمم الشرعي المبيح للصلاة فلا تتصور حقيقته مع الوضوء، لأنه حينئذ غير مشروع طهارة، وإن أبيحت صورته، وكفارة الظهار مرتبة، وكفارة حنث اليمين مخير فيها على البدل، والكل يستحب الجمع بين خصالها من العتق والكسوة والإطعام والصيام، لأنها مصالح وقربات تكثر وتجمع، وإن كان بعضها إذا انفرد لا يجزئ في المرتبة.
فرع: اختار القاضي عبد الوهاب أن الأمر المعلق على الاسم يقتضي الاقتصار على أوله، والزائد على ذلك إما مندوب أو قساط.
هذه المسألة مشهورة بالأخذ بأوائل الأسماء أو بأواخرها، قولان للعلماء، وكثير من الفقهاء غلط في تصويرها حتى خرَّج عليها ما ليس من فروعها، ظاناً أنه من فروعها، فقال أبو الطاهر وغيره في قول الفقهاء. التيمم إلى الكوعين أو إلى المرفقين أو إلى الإبطين ثلاثة أقوال أن ذلك يتخرج على هذه القاعدة، هل يؤخذ بأوائل الأسماء فيقتصر على الكوع أو بأواخرها فيصل إلى الإبط؟ ويجعلون كل ما هو من هذا الباب مخرَّجاً على هذه القاعدة، وهذا باطل إجماعاً، ومنشأ الغلط إجراء أحكام الجزئيات على الأجزاء والتسوية بينهما، ولا خلاف أن الحكم في الكل لا يقتصر به على جزئه، فلا تجزئ ركعة عن ركعتين في الصبح، ولا يوم عن شهر رمضان في الصوم ونظائره كثيرة.
إنما معنى هذه القاعدة إذا علق الحكم على معنى كلي له محال كثيرة وجزئيات

(1/159)


متباينة في العلو والدناءة والكثرة والقلة، هل يقتصر بذلك الحكم على أدنى المراتب لتحقق المسمى بجملته فيه أو يسلك طريق الاحتياط فيقصد في ذلك المعنى الكلي أعلى المراتب؟ هذا موضع الخلاف، ومثاله إذا قال رسول الله b «إذا ركعت فاطمئن راكعاً» فأمر بالطمأنينة، فهل يكتفى بأدنى رتبة تصدق فيه الطمأنينة، أو يقصد أعلاها؟ وكذلك قوله عليه
الصلاة والسلام «خللوا الشعر وأنقوا البشرة» يقتضي التدليك، هل يقتصر على أدنى رتبة التدليك أو أعلاها؟ فهذه صورة هذه القاعدة في الجزئيات في المحل لا في الأجزاء، ثم الفرق أن الجزء لا يستلزم الكل، والجزئي يستلزم الكلي، فلذلك أجزأ الثاني دون الأول؛ فأدنى رتب الموالاة موالاة، وليست الركعة ركعتين، ولا اليوم شهراً.
وعبارة القاضي صحيحة في قوله يقتضي على أوله، أي أول رتبة، فمن فهم أول أجزائه فقد غلط. وقوله: والزائد على ذلك إما مندوب أو ساقط، فالمندوب كزيادة الطمأنينة، والساقط كزيادة التدلك، فإن الشرع لم يندب لزيادة التدلك كما ندب لزيادة الطمأنينة، ووجب الاقتصار على أول الرتب جمعاً بين الدال على الوجوب، وأن الأصل براءة الذمة. كما أنه لو وجب عتق رقبة واقتصرنا على ما يسمى رقبة أجزأ وإن كانت أدنى الرقاب، ولا يجب علينا أن تعتق رقبة بألف دينار. فهذه صورة القاعدة ومدركها من حيث النظر.
الفصل السابع في وسيلته
وعندنا وعند جمهور العلماء ما لا يتم الواجب المطلق إلا به وهو مقدور للمكلف فهو واجب، لتوقف الواجب عليه، فالقيد الأول احتراز من أسباب الوجوب وشروطه وانتفاء موانعه، فإنها لا تجب إجماعاً مع التوقف عليها، وإنما الخلاف فيما تتوقف عليه الصحة بعد الوجوب، والقيد الثاني احترازاً من توقف فعل العبد بعد وجوبه على تعلق علم الله تعالى وإرادته وقدرته بإيجاده، ولا يجب على المكلف تحصيل ذلك إجماعاً.

(1/160)


وقالت الواقفية إن كانت الوسيلة سبب المأمور به وجبت وإلا فلا، لم الوسيلة إما أن يتوقف عليها المقصد في ذاته أو لا يتوقف. والأول إما شرعي كالصلاة على الطهارة، أو عرفي كنصب السلم لصعود السطح، أو عقلي كترك الاستدبار لفعل الاستقبال. والثاني نجعله وسيلة إما بسبب الاشتباه نحو إيجاب خمس صلوات لتحصيل صلاة منسية، أو كاختلاط النجس بالطاهر والمذكاة بالميتة والمنكوحة بالأخت، أو لتيقن الاستيفاء كغسل جزء من الرأس مع الوجه، أو إمساك جزء من آخر الليل مع نهار الصوم.
أجمع المسلمون على أن ما يتوقف الوجوب عليه من سبب أو شرط أو انتفاء مانع لا يجب تحصيله إجماعاً، فالسبب كالنصاب يتوقف عليه وجوب الزكاة ولا يجب تحصيله إجماعاً وإلا فإنه يتوقف عليها وجوب الصوم، ولا يجب الإقامة لأجله إجماعاً وكالدين يمنع وجوب الزكاة ولا يجب دفعه حتى تجب الزكاة إجماعاً، فكل ما يتوقف عليه الوجوب لا يجب تحصيله إجماعاً.
وإنما النزاع فيما يتوقف عليه إيقاع الواجب بعد تحقق الوجوب فقيل يجب لتوقف الواجب عليه، وقيل لا يجب لأن الأمر ما اقتضى إلا تحصيل المقصد، أما الوسيلة فلا، ولأنه إذا ترك المقصد كصلاة الجمعة أو الحج فإنه يعاقب عليه، أما المشي إلى الجمعة أو الحج فلم يدل على دليل على أنه يعاقب عليه مع عقابه على المقصد، وإذا لم يستحق عقاباً عليه لم يكن واجباً، لأن استحقاق العقاب من خصائص الوجوب، فمعنى قولنا مطلقاً، أي أطلق الوجوب فيه فيصير معنى الكلام الواجب المطلق إيجابه، ففرق بين قول السيد لعبده اصعد السطح، وبين قوله إذا نصب السلم اصعد السطح، فالأول: مطلق في إيجابه فهو موضع الخلاف، والثاني: مقيد في إيجابه فلا يجب تحصيل الشرط فيه إجماعاً.
وأما قولنا إذا كان مقدوراً فاحتراز عن المعجوز عنه، فإنه لا يجب بناءً على نفي التكليف بما لا يطاق وإن كنا نجوزه، ومن الشرط المعجوز عنها تعلق صفات الله تعالى بفعل العبد من المحال أن يصلي حتى يقدر الله تعالى له أن يصلي،

(1/161)


ويعلم أنه يصلي، ويخلق له حركات الصلاة وسكناتها، فتعلق هذه الصفات شرط في إيقاع الواجب، ولا يمكن إيجابها على العبد لعجزه عن التصرف في صفات الله تعالى، وأما وجه الفرق بين الأسباب فتجب وغيرها من الشروط وانتفاء الموانع فلا تجب عند الواقفية، فلأن السبب يلزم من وجوده الوجود، بخلاف الشرط، وعدم المانع لا يلزم منهما وجود الواجب كما تقدم بيانه فيما يتوقف عليه الأحكام فإذا أوجبوا تحصيل السبب فقد أوجبوا وجود ما يلزم منه وجود الواجب، بخلاف ذينك.
وقولي المتوقف عليه شرعاً، كالصلاة مع الطهارة أريد كما قال إمام الحرمين أنه إذا تقرر أن الطهارة شرط، ثم ورد الأمر بعد ذلك بصلاة ركعتين، فإنه تجب الطهارة، أما من غير هذا الوجه فلا، فلو قال اله تعالى: صلوا ابتداءً، صلينا بغير وضوء، حتى يدل دليل على اشتراط الطهارة، وإيجاب خمس صلوات لأجل صلاة أنسيها مجهولة العين فيها فما ذاك لتوقف الصلاة في ذاتها على أربعة تضاف إليها؛ بل لعله الاشتباه، بخلاف السلم في صعود السطح، هو متوقف عليه في ذاته عادة، وكذلك بقية النظائر إنما حصل التوقف فيها لأمر غير الذات من أمور خارجة.

الفصل الثامن في خطاب الكفار
أجمعت الأمة على أنهم مخاطبون بالإيمان، واختلفوا في خطابهم بالفروع، قال الباجي وظاهر مذهب مالك خطابهم بها خلافاً لجمهور الحنفية وأبي حامد الإسفرائيني،
لقوله تعالى حكاية عنهم «قالوا لم نك من المصلين» (1) ولأن العمومات تتناولهم، وقيل مخاطبون بالنواهي دون
_________
(1) 43 المدثر.

(1/162)


الأوامر، وفائدة الخلاف، ترجع إلى مضاعفة العذاب في الآخرة، وعينه الإمام أو على غير ذلك، وبسطه في غير هذا الكتاب.
في خطاب الكفار بالفروع ثلاثة أقوال، ثالثها: الفرق بين النواهي والأوامر كما تقدم، وسبب الخلاف يحتمل أن يكون عند من منع أن التقرب بالفعل فرع اعتقاد صدق المخبر بالتكليف به، ومن لم يصدق تعذر عليه أن يتقرب، فلا يكلف بالتقرب، وعلى هذا المدرك تكون هذه المسالة من فروع مسألة منع التكليف مما لا يطاق، ويحتمل أن يكون المدرك تكون هذه المسألة من فروع مسألة منع التكليف مما لا يطاق، ويحتمل أن يكون المدرك إنما هو أن الله تعالى لا يقبل الفروع منهم لأجل كفرهم، فلا يكلفهم بها، لأن الله تعالى لا يقبلها، والاحتمال الأول هو الظاهر من احتجاجات العلماء في هذه المسألة ومن أقوالهم، ومنه يظهر سر الفرق بين النواهي والأوامر.
فإن النواهي يخرج المكلف عن عهدتها بمجرد تركها، وإن لم يشعر بها فضلاً عن القصد غليها، فإذا لم يعتقد التكليف وترك خرج عن عهدة العقوبة.
وأما الأمر فلا يخرج عن عهدته حتى يعتقد وجوبه، وهذا أيضاً سر إلزام القائل بعدم التكليف أن الدهري مكلف بالإيمان بالرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك متعذر عليه حتى يعتقد وجود الصانع، وأن المحدث مكلف بالصلاة حالة الحدث مع تعذرها في تلك الحالة، فإلزام هذين المتعذرين لمن نفى التكليف يقتضي أن مدرك العدم إنما هو التعذر، وإذا كان هذا هو المدرك فهو مشكل، لأن الكفار أربعة اسم: منهم من كفر بظاهره وباطنه كجمهور الحربيين، ومنهم من آمن بظاهره وباطنه وكفر بعدم الإذعان للفروع، كما يحكى عن أبي طالب أنه كان يقول إني لأعلم ما تقوله - يا ابن أخي - لحق، ولولا أني أخاف أن يعيرني نساء قريش على المغازل لاتبعتك، وفي شعره يقول:
لقد علموا أن ابننا لا مُكذَّب ... لدينا ولا يعزى لقول الأباطل
فهذا تصريح باللسان واعتقاد بالجنان، غير أنه لم يذعن، وكذلك من يقول من الكفار: إني لأعلم أن دين الإسلام حق ولكني أخاف من الإسلام فوات منصب

(1/163)


أو ميراث، فهو معترف بلسانه وجنانه، وكافر ببطانه دون ظاهره وهو المنافق وكافر بظاهره دون باطنه وهو المعاند كأحبار اليهود الذين قال الله تعالى فيهم وفي نظائرهم «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم» (1) .
إذا تقررت هذه الأقسام الأربعة فمن آمن بظاهره وباطنه منهم، أو بظاهره فقط، معتقد صدق التكليف فالتعذر في حقه ساقط، وكذلك من كان كفره بالفعل كلقي المصحف في
القاذورات أو باني كنيسة مريداً للكفر فيها، أو كان كفره مجحده آية من كتاب الله تعالى فقط، أو يجحد سليمان النبي عليه الصلاة والسلام فقط، فإن هؤلاء كلهم يعتقدون صحة الفروع، فلا يتعذر منهم التقرب بالفروع فلا يتجه التعليل بتعذر التقرب، ثم إذا فرعنا أيضاً على الفريق الذي كفره بظاهره وباطنه، فلا يتم المقصود أيضاً، لأن من الفروع ما اجتمعت الشرائع عليه نحو الكليات الخمس: حفظ الدماء والأعراض والأنساب والعقول والأموال، وأنواع الإحسان كإطعام الجوعان وكسوة العريان، وغير ذلك مما لم تختلف فيه الشرائع، فيصح منه التقرب به عادة، بناءً على اعتقاده إياه من دينه وإن كفر بديننا، فهذا وجه الإشكال في هذه المسألة.
وأما حجة الخطاب من حيث الجملة فقوله تعالى «ولله على الناس حج البيت» (2) وهو عام فيتناول الكافر: الأمر بالحج، وإذا تناوله الأمر تناوله النهي، لأن كل من قال بالأمر قال بالنهي، بخلاف العكس، وكقوله تعالى «وويل للمشركين، الذين لا يؤتون الزكاة» وكقوله تعالى «والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون، ومن يفعل ذلك يلق أثاما» (3) فقوله تعالى: ومن يفعل ذلك، يتناول جميع ما تقدم، فيكون القتل والزنا يعاقب عليهما كما يعاقب على دعوى الإله مع الله تعالى، ولولا الكافر مخاطب بفروع الشرائع وإلا لما انتظم هذا الكلام.
_________
(1) 14 النمل.
(2) 97 آل عمران.
(3) 68 الفرقان.

(1/164)


وحجة عدم الخطاب أنه لو أمر بالفروع لأمر بها إما حالة الكفر وهو خلاف الإجماع فإن الأمة مجمعة على أنه لا يقال صل وأنت كافر، وإما بعد الكفر، وهو أيضاً خلاف الإجماع لقوله عليه الصلاة والسلام «الإسلام يجبُّ ما قبله» .
وجواب هذه النكتة أن زمن الكفر ظرف للتكليف لا لوقوع المكلف به، كما نقول المحدث مأمور بالصلاة إجماعاً ومعناه أن زمن الحدث ظرف للخطاب للصلاة والتكليف بها لا لإيقاع الصلاة، فلا نقول له صل وأنت محدث، بل يجب عليك أن تزيل الحدث وتصلي، وأنت الآن مكلف بذلك، كذلك نقول للكافر أنت الآن مكلف بإزالة الكفر ثم إيقاع الفروع، لا أنك مكلف بإيقاع الفروع في زمن الكفر؛ فزمن الكفر ظرف للتكليف لا لوقوع المكلف به، فقوله أما أن يكلف حالة الكفر أو بعده، قلنا حالة الكفر قوله لا يصح منه، قلنا لم ندَّع أن ذلك الزمان ظرف لإيقاع المكلف به حتى نلزم صحته، أو نقول بعده على سبيل التسليم والحديث حجة على الخصم، لأن الجب القطع، وإنما يقطع ما هو متصل، فهذا يدل على أنه لولا القاطع اتصل التكليف فبقي التكليف مستمراً.
وأما قولي: فائدة الخلاف ترجع إلى مضاعفة العذاب في الآخرة، وعيّنه الإمام أو إلى غير ذلك، فمعناه أن الإمام فخر الدين أجاب عن هذه النكتة المتقدمة بأن فائدة التكليف إنما هو مضاعفة العذاب في الآخرة لا الوجوب قبل ولا بعد، واكتفى بهذا الجواب، وهو لا يتم له بسبب أن العقاب في الدار الآخرة إنما يتضاعف ويعذب الكافر عذابين أحدهما: وهو الأعظم لأجل الكفر، والثاني للفروع، إذا قلنا بتقدم التكليف في الدنيا، أما عقابه في الآخرة من غير تقديم تكليف فغير معقول، فإذا تعين تقدم التكليف فيتعين أن نختار أحد القسمين، وهو إما حالة الكفر أو بعد؛ ويذكر الجواب مفصلاً محرراً كما تقدم، فظهر أن جوابه - رحمه الله - غير تام.
وأما أن فائدة الخلاف ترجع على غير مضاعفة العذاب فقد ذكرت وجوهاً كثيرة في شرح المحصول، وأذكر منها هنا نبذاً أحدها تيسير الإسلام عليه، فإنه إذا كان مخاطباً وهو خير النفس بفعل الخيرات من الصدقات وأنواع البر وغيرها

(1/165)


كان ذلك سبباً في تيسير إسلامه استنباطاً من قوله عليه الصلاة والسلام «إن المؤمن ليختم له بالكفر بسبب كثرة ذنوبه» فيناسب أن يختم للكافر بالإيمان بسبب كثرة إحسانه وحسناته، وإن أجمعنا على أنه لا يثاب عليها في الآخرة إلا أنه ورد الحديث الصحيح، أنه يطعم بها في الدنيا، ولم يرد دليل على أنها لا تكون سبباً لتيسير الإسلام فبقي استنباطه لا مانع منه. وثانيها: الترغيب في الإسلام، فإنه إذا كان كثير القتل والفتك والفساد وقيل إن الإسلام من شرفه أن يهدم جميع آثام هذه الأفعال كان ذلك أوقع في نفسه، من قولنا إن الإسلام لا ينهض إلا بالكفر وحده. ثالثها: تخفيف العذاب في الدار الآخرة؛ فإن الدليل ما دل إلا على تخليد الكافر في العذاب وأما مقداره في الكمية فالتفاوت واقع فيه قطعاً، لذلك قال تعالى «إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار» (1) واليهود أسفل من النصارى كما جاء في الحديث الصحيح من ترتيب طبقات النار - أجارنا الله منها - فإذا قلنا هو مخاطب وفعل ذلك كان سبباً لتخفيف العذاب عنه مع الخلود، فهذه فوائد تظهر من ثمرة الخلاف في كونهم مخاطبين.
فائدة: القاضي عبد الوهاب في الملخص الخلاف في هذه المسألة في فصلين: أحدهما أن العموم هل هو صالح لتناول الكافر كتناوله للمسلم؟ خلاف كما جرى في صلاحية العموم للعبد، الفصل الثاني: أنهم هل يتناولهم التكليف بالفروع أم لا؟ فقال: منهم من فرق بين المرتد فيخاطب، وبين غير المرتد فلا يخاطب، فيتحصل من نقله ونقل الإمام فخر الدين في المسألة أربعة أقوال. ثالثها: الفرق بين النواهي وغيرها، ورابعها الفرق بين المرتد وغيره، ومر بي في بعض الكتب - لست أذكره الآن - أن لكفار وإن كانوا مخاطبين بفروع الشريعة، فالجهاد خاص بالمؤمنين، لم يخاطب الله تعالى بوجوب الجهاد كافراً، وهو
متجه أن يكون وجوب الجهاد مستثنى من الفروع لعدم حصول مصلحته من الكفار، أو يقال إن الله تعالى حيث ذكر الجهاد لم يذكر صيغة يندرج فيها الكفار، بل «يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين» (2) ويا أيها
_________
(1) 145 النساء.
(2) 73 التوبة.

(1/166)


الذين آمنوا فقط، ويمكن أن يقال: لنا عمومات تتناولهم كقوله تعالى «يا أيها الناس اتقوا ربكم» (1) والتقوى يندرج فيها جميع الواجبات وكذلك قوله تعالى «وما أتاكم الرسول فخذوه» (2) ومن جملة ما أتى به الجهاد، وهذه العمومات كثيرة فيمكن اندراج الكافر فيها، وأما حصول المصلحة منه. فجوابه: أنا لم نكلفه بالجهاد وهو كافر، بل كُلف بأن يسلم ثم يجاهد، كما قلنا في الصلاة؛ فإذا لم يسلم عوقب في الآخرة على الكفر وعلى ترك الجهاد مع جملة الفروع.
_________
(1) 1 النساء.
(2) 7 الحشر.

(1/167)