شرح تنقيح الفصول الباب الخامس في
النواهي وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في مسماه
وهو عندنا التحريم وفيه من الخلاف ما سبق في الأمر.
نظير تلك المذاهب السبعة هنا أن نقول إنه موضوع: للتحريم،
للكراهة، للقدر المشترك بينهما وهو مطلق الترك، اللفظ مشترك
بينهما، هو موضوع لأحدهما لا يعلم بعينه، موضوع للإباحة،
الوقف. فهذه سبعة مذاهب في الأمر والنهي، وحكى القاضي عبد
الوهاب في الملخص أن من العلماء من فرق بين النهي فحمله على
التحريم، وبين الأمر فحمله على الندب، لأن عناية العقلاء وصاحب
الشرع بدرء المفاسد أشد من عنايتهم بالمصالح، والنهي يعتمد
المفاسد، والأمر يعتمد المصالح؛ فإذا جمعت البابين قلت ثمانية
أقوال، الثامن الفرق بين الأوامر والنواهي.
واختلف العلماء في إفادته التكرار وهو المشهور من مذهب العلماء
وعلى القول بعدم إفادته وهو مذهب الإمام فخر الدين لا يفيد
الفور عنده.
قال القاضي عبد الوهاب: واختلف في النهي المعلق بما يتكرر، فمن
قال إن
(1/168)
النهي لا يقتضي بمجرده الدوام والتكرار،
قال به أيضاً إذا علق بما يتكرر، وقيل يتكرر، قال وهو آكد من
مطلقه، وهو الصحيح بخلاف الأمر.
قلت للشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله يوماً إن القائل
بأن النهي لا يقتضي التكرار يلزمه أن لا يوجد عاص البتة في
الدنيا بمنهي، وذلك أن النهي عنده لا يقتضي إلا مطلق الترك كما
أن الأمر لا يقتضي إلا مطلق الفعل، فكما يخرج عن عهدة الأمر
فعل ما في زمن ما، كذلك يخرج عن عهدة النهي بمطلق الترك في زمن
ما، وأشد الناس عصياناً وفسوقاً لا بد أن يترك تلك المعصية في
زمن ما فيخرج عن عهدة النهي بذلك الزمن الفرد، فلا يكون عاصياً
أبداً، وما رأينا أحداً في العالم واظب على معصية فلم يفتر
عنها إلى أن مات، بل لا بد من فترات ولو لضرورات الحياة من
النوم والاغتداء وغير ذلك، فلزم السؤال.
قال لي - رحمه الله - هذه المسألة تتخرج على قاعدة، وهي أن
القاعدة أنه قد يكون
عام في مطلق، نحو أكرم الناس كلهم في يوم، أو مطلق في عام نحو
أكرم زيداً في جميع الأيام، أو عام في عام نحو أكرم الناس في
جميع الأيام، أو مطلق في مطلق نحو أكرم رجلاً في يوم، إذا
تقررت هذه القاعدة فالقائل بأن النهي يقتضي التكرار يقول هو
عموم في عموم أمر بجميع التروك في جميع الأزمان، والذي يقول
النهي لا يقتضي التكرار يقول المطلوب ترك واحد في جميع الأزمان
[فهو مطلق في عام] (1) فلا يجوز أن يلابس المنهي عنه في زمن ما
فيتحقق العصيان حينئذ بملابسة المنهي متى وقعت، فهذه صورة هذه
المسألة.
ثم بعد وفاته - رحمه الله - رأيت أن هذا الجواب لا يتم لوجهين.
أحدهما: أن هذا التقدير يقتضي أن لا يتحقق مذهب القائل أنه
يقتضي التكرار بسبب أن القائل بالتكرار لا يمكن أن يقول بجمع
بين تركين في زمن
_________
(1) ساقطة من المطبوعة.
(1/169)
واحد، لأن الجمع بين المثلين محال، بل
يقول: إن الثابت في كل زمان إنما هو ترك واحد، وهذا هو مذهب
القائل بعدم التكرار على تفسير الشيخ؛ فإن المطلق إذا عممناه
في الأزمان لا بد أن يحصل في كل زمن من فرد غير الفرد الحاصل
في الزمن الآخر، فهي أمثال تتوالى، فلا يبقى إلا مذهب واحد،
فلا يتحقق المذهبان.
وثانيهما: أن القائلين بعدم التكرار قالوا في حجتهم إنه ورد
للتكرار كالسرقة والزنا ونحوهما، وورد أيضاً لعدم التكرار كقول
الطبيب للمريض لا تأكل اللحم ولا تقصد، أي في هذا الزمان،
والمجاز والاشتراك خلاف الأصل، فوجب جعله حقيقة في القدر
المشترك بين القسمين وهو مطلق الترك، وهذا يدل منهم على أنهم
لا يستوعبون الأزمنة بمطلق الترك، لأن المشترك بين بعض الأزمنة
المعينة والتكرار يجب أن يكون مساوياً لأحد القسمين، وهو ذلك
البعض المعين، فتفسير الشيخ - رحمه الله تعالى - لا ينطبق على
مذهبهم بمقتضى حجتهم وظواهر ألفاظهم.
والذي أراه في دفع هذا الإشكال العظيم أن نقول مطلق الترك
مشترك بين جميع الأقسام ولنا أخص منه، وهو مشترك أيضاً، وهو
مطلق الترك بقيد كونه لا يقع إلاّ في أحد هذين النوعين، فكونه
بقيد لا يتعدى النوعين، وهو إما التكرار أو الزمن المعين، كما
في مثال الطبيب، فوجب كون هذا المشترك أخص من مطلق الترك.
والقاعدة: أن كلّ مشترك ليس له إلاّ نوعان، إذا فقد أحدهما
تعين الآخر، كالعدد ليس له إلاّ الزوج والفرد، فإذا تعذر
الزوج تعين الفرد، أو الفرد تعين الزوج، كذلك هنا إذا فرعنا
على عدم إفادته التكرار يكون موضوعاً لهذا المشترك الخاص بهذين
النوعين، لا أنه موضوع لمطلق الترك، وحينئذ تصح جميع هذه
المباحث، ويذهب الإشكال بأن نقول إن وجد دليل يدل على وقت معين
كان التكليف خاصة به، ومتى خالف فيه عصى، ومتى لم يوجد ذلك
تعين النوع الآخر بدليل بعينه، وحينئذ يتعين استغراق الأزمنة،
فيعصى بملابسة المنهي عنه في أي زمان كان، وإذا عرى عن دليل
على هذا وعلى النوع الآخر كان محتاجاً
(1/170)
للبيان، ويجب تعجيل البيان قبل وقت العمل،
فصح المذهب وتحقق العصيان من كلّ عاص في العالم، وانتظم
الاستدلال الذي قالوه من مثال الطبيب والمنجم، كما قالوا بقول
المنجم: لا تخرج إلى الصحراء، ولا تفصل جديداً، أي في هذا
اليوم، واندفعت الإشكالات كلها.
وإذا فرَّعنا على التكرار اقتضى الفور قطعاً، لأن الزمان
الحاضر يندرج في التكرار، وإن فرعنا على عدم التكرار لا يتعين
اقتضاؤه للفور فيجري فيه قولان، فقيل يتعين الترك بذلك المعين
في الزمن الحاضر، وقيل لا يتعين إلاّ بدليل منفصل، وهو موضع
مشكل جداً فتأمله.
حجة القائلين بالتكرار أن النهي يعتمد المفاسد، واجتناب
المفسدة إنّما يحصل إذا اجتنبها دائماً، كما إذا قلت لولدك لا
تقرب الأسد فمقصوده لا يحصل إلاّ بالاجتناب دائماً، ولأن النهي
منع من إدخال الماهية في الوجود، وذلك إنّما يتحقق إذا امتنع
منها دائماً، ولأنه يصح استثناء أي زمن شاء، والاستثناء عبارة
عما لولاه لاندرج المستثنى في الحكم، فيندرج جميع الأزمنة في
الحكم وهو المطلوب.
وأما حجة عدم التكرار فقد تقدمت.
ومتعلقة فعل ضد المنهي عنه، لأن العدم غير مقدور، وعن أبي هاشم
عدم المنهي عنه.
منشأ الخلاف في هذه المسألة النظر إلى صورة اللفظ وليس فيه
إلاّ العدم، فإذا قال له لا تتحرك فعدم الحركة هو متعلق النهي
عند أبي هاشم، أو يلاحظ أن الطلب إنّما وضع لما هو مقدور، فما
ليس بمقدور، لا يطلب عدمه، فلا يقال للنازل من شاهق لا تصعد
إلى فوق فإن الصعود غير مقدور، فلا ينهى عنه، والعدم نفي صرف،
فلا يكون مقدوراً، لأن القدرة لا بد لها من أثر وجودي، فلا فرق
بين قولنا ما أثرت القدرة أو أثرت عدماً صرفاً إلاّ في
العبارة، وإذا لم يمكن جعل العدم أثراً لا يكون العدم مقدوراً
فلا يتعلق به الطلب، فيتعين تعلق الطلب بالضد، وإذا قال له لا
تتحرك فمعناه اسكن، فملاحظة المعنى
مدرك الجمهور. وملاحظة صورة اللفظ هو مدرك
(1/171)
أبي هاشم، والمعنى أتم اعتباراً من صورة
اللفظ. احتج أبو هاشم بأن من دعاء الداعي إلى القتل فلم يفعل
أجمع العقلاء على مدحه، وتعليل ذلك المدح بأنه لم يفعل، ولا
يذكرون الضد. جوابه: أنهم إنّما يمدحون بما هو من صنعه، والعدم
الصرف ليس من صنعه، فلا يمدحونه به.
سؤال: ما الفرق بين هذه المسألة وبين قولهم النهي عن الشيء أمر
بضده، فإن هذه هو كقولكم متعلق النهي ضد المنهي عنه؟
جوابه: أن الأمر والنهي متعلقان - بكسر اللام - والمنهي وضده
متعلِّقان - بفتح اللام - فإذا قلنا النهي عن الشيء أمر بضده
هو بحث في المتعلقات بكسر اللام -، هل هو ذاك أو غيره، ثم إذا
تقرر بيننا شيء من المتعلِّقات بكسر اللام من اتحاد أو تعدد
أمكننا بعد ذلك أن نختلف في المتعلِّقات - بفتح اللام - هل
المتعلق نفس العدم أو الضد، فهذه مسألة أخرى وليست عين المسألة
الأولى. فهذا هو الفرق.
الفصل الثاني في أقسامه
وإذا تعلق بأشياء فإما على الجمع نحو الخمر والخنزير، وإما عن
الجمع نحو الأختين، أو على البدل مثل إن فعلت ذا فلا تفعل ذاك
كنكاح الأم بعد ابنتها، أو على البدل كجعل الصلاة بدلاً عن
الصوم.
المعنى بالنهي عن الجمع، أي على الجمع في النهي، أي كلّ واحد
منهما منهي عنه، ومعنى النهي عن الجمع أن متعلق النهي هو الجمع
بينهما، وكل واحد منهما ليس منهياً عنه، كالأختين فإن كلّ
واحدة منهما في نفسها ليست محرمة، بل المحرم هو الجمع فقط،
ونظير هذين قول النحاة تقول العرب: لا تأكل السمك، وتشرب
(1/172)
اللبن فيه ثلاثة أوجه إن جزمنا الفعلين
(تأكل وتشرب) كان كلّ واحد منهما متعلق النهي، وإن نصبنا
الثاني وجزمنا الأوّل لكان متعلق النهي هو الجمع بينهما فقط
وكل واحد منهما غير منهي عنه، وإن جزمنا الأوّل ورفعنا الثاني
كان الأوّل هو متعلق النهي فقط في حال ملابسة الثاني، أي لا
تأكل السمك في حالة شربك اللبن، فالحال ليس منهياً عنها، فإذا
قلت لا تسافر والبحر هائج، ولا تصل والشمس طالعة، فلست تنهى عن
هيجان البحر ولا عن طلوع الشمس، بل عن الأوّل فقط، كذلك هنا،
فتختلف المعاني باختلاف رفع الثاني ونصبه وجزمه، والأول فيا
لأحوال الثلاثة مجزوم، والنهي عن البدل يرجع إلى النهي عن
الجمع، فإن معنى قولنا إن فعلت ذا فلا تفعل ذاك، أن الجمع
بينهما محرم. والنهي عن البدل له صورتان: أن تجعل
غير الواجب بدلاً عن الواجب، كجعل التصدق بدرهم بدلاً عن
الصلاة، وأن تجعل بعض الواجب بدلاً عن كله؛ كجعل ركعة بدلاً عن
ركعتين.
الفصل الثالث في لازمه
هو عندنا يقتضي الفساد خلافاً لأكثر الشافعية والقاضي أبي بكر
هنا، وفرق أبو الحسين البصري والإمام بين العبادات فيقتضي وبين
المعاملات فلا يقتضي، لنا أن النهي إنّما يكون لدرء المفسدة
الكائنة في المنهي عنه، والمتضمن للمفسدة فاسد، ومعنى الفساد
في العبادات وقوعها على نوع من الخلل يوجب بقاء الذمة مشغولة
بها وفي المعاملات عدم ترتب آثارها عليها، إلاّ أن يتصل بها ما
يقرر آثارها على أصولنا في البيع وغيره، وقال أبو حنيفة ومحمد
بن الحسن لا يدل على الفساد مطلقاً ويدل على الصحة لاستحالة
النهي عن المستحيل.
هذا الفصل في آثار النهي، وأثر الشيء لازم له، فلذلك قال في
لازمه،
(1/173)
ويتحصل في اقتضائه للفساد أربعة مذاهب:
يقتضي الفساد، لا يقتضيه، الفرق بين المعاملات والعبادات، يفيد
الفساد على وجه تثبت مع شبهة الملك وهو مذهب مالك.
حجة اقتضائه للفساد مطلقاً أما في العبادات فلأنه أتى بالمنهي
عنه، والمنهي عنه غير المأمور به؛ فلم يأتي بالمأمور به، ومن
لم يأت بالمأمور به بقي في عهدة التكليف، وهو المعنى بقولنا:
النهي يقتضي الفساد في العبادات، وأما في المعاملات فلأن النهي
يعتمد وجود المفسدة الخالصة أو الراجحة في المنهي عنه، فلو ثبت
الملك والإذن في التصرف لكان ذلك تقريراً لتلك المفسدة،
والمفسدة لا ينبغي أن تقرر، وإلا لما ورد النهي عنها. والمقدر
ورود النهي عنها، هذا خلف، وقياساً على العبادات.
حجة عدم اقتضائه مطلقاً، أما في العبادات فإنه لا تنافي بين
قول صاحب الشرع نهيتك عن الصلاة في الدار المغصوبة، وإذا أتيت
بها جعلتها سبباً لبراءة ذمتك، كما حكى فيها الإجماع، وعن
الوضوء بالماء المغصوب، والصلاة في الثوب المغصوب، والحج
بالمال المغصوب، وإذا أتيت بهذه العبادات جعلتها سبباً لبراءة
ذمتك، فإن مصالح العبادات حاصلة في تلك الصور، وإنما قارنتها
مفسدة، ومقصد البراءة حصول المصلحة لا عدم مقارنة المفسدة،
لأنه لو أعطاه دينه وضربه لم يقدح ذلك في براءة الذمة من
الدين، ولا في مصلحة الدراهم المأخوذة.
وأما الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - فقد طرد أصله وأبطل
العبادات في هذه الصور كلها، فيتعذر القياس معه، ويبقى
الاستدلال بحصول المصلحة. وأما في المعاملات فلأن الأسباب
الشرعية ليس من شرط إفادتها للملك أن تكون مشروعة في نفسها،
فالسرقة محرمة، وهي سبب القطع والغرم وسقوط العدالة غير ذلك،
وكذلك الزنا والحرابة والقذف محرمات. وهي أسباب لأحكام
إجماعاً، وكذلك الطلاق في زمن الحيض حرام، ويترتب عليه أثره
الذي هو إزالة العصمة، فقد يكون السبب حراماً، وقد يكون واجباً
كالزواج في حق من وجب عليه، ويكون ذلك سبباً لوجوب النفقة
وغيرها، والإعتاق واجب للولاء وغيره، وقد
(1/174)
يكون مندوباً كالزواج المندوب والعتق
المندوب، وقد يكون مباحاً كالزواج المباح، وقد يكون مكروهاً
كالزواج المكروه. فقواعد الشريعة تشهد أنه ليس من شرط السبب أن
يكون مشروعاً ولا مساوياً لمسببه في الحكم، بل يكون السبب
حراماً وللمترتب عليه واجباً.
وبهذا يظهر بطلان التشنيع على المالكية حيث جعلوا ترك السنة في
الصلاة سبباً لوجوب السجود، فقل لهم كيف يكون ترك المندوب سبب
الوجوب، وكيف يكون الفرع أقوى من أصله وجوابهم ما تقدم.
حجة الفرق: أن البراءة تعتمد الإتيان بالمأمور به ولم يأت به،
فتبقى العهدة، وإذا كان المندوب لا يجزئ عن العبادة الواجبة
فأولى المحرم، فلو صلى ألف ركعة ما نابت عن صلاة الصبح، وأما
المعاملات فهي أسبا، والسبب ليس من شرطه أن يكون مأموراً به،
حجة شبهة الملك مراعاة الخلاف، وأما ما يتصل به على أصولنا
فلأن البيع المحرم إذا اتصل به عندنا أحد أمور أربعة تقرر
الملك فيه بالقيمة: وهو تغير الأسواق أو تغير العين أو هلاكها،
أو تعلق حق الغير بها على تفصيل مذكور في كتب الفقه.
وأما قول أبي حنيفة في الصحة فحجته أن الصحة لو كانت مفقودة
لامتنع النهي، لأنه لا يقال للأعمى لا تبصر، ولا للزمن لا
تطير، وما ذاك إلاّ لعدم صحة ذلك منهما، فدل على أن النهي يدل
على حصول الصحة، والصحة عبارة عن ترتب الملك والآثار والمكنة
من التصرفات، فلهذه القاعدة قالوا إنه إذا باع درهماً بدرهمين
أو غيره من الربويات متفاضلاً حصل الملك في أحد الدرهمين ورد
الدرهم الزائد، وكذلك إذا اشترى أمة شراءً فاسداً يجوز له
وطئها ابتداءً، ويجوز له أكل الطعام وغير ذلك مِمّا اشتراه
شراءً فاسداً، بناءً على حصول الصحة المفسرة بالإذن في التصرف.
القاعدة: الصحة ثلاثة أقسام: صحة عقلية، وهو إمكان الشيء
وقبوله للوجود
والعدم في نظر العقل، كإمكان العالم والأجسام والأعراض، وصحة
عادية كالمشي
(1/175)
أماماً ويميناً ويساراً دون الصعود في
الهواء. وصحة شرعية وهو الإذن الشرعي في جواز الإقدام على
الفعل، وهو يشمل الأحكام الشرعية إلاّ التحريم، فلا إذن فيه،
والأربعة الباقية فيها الإذن.
إذا تقررت هذه القاعدة فالنزاع مع الحنفية إنّما هو في الصحة
الشرعية، وهو الإذن في جواز الإقدام، واستدلُّوا بحديث الأعمى
والمقعد، وذلك إنّما يوجب اشتراك الصحة العادية وهي مجمع
عليها، اتفق الناس على أنه ليس في الشريعة منهي عنه، ولا مأمور
به، ولا مشروع على الإطلاق إلاّ وفيه الصحة العادية، وكذلك حصل
الاتفاق أيضاً على أن اللغة لم يقع فيها طلب وجود ولا عدم إلاّ
فيما يصح عادة، وإن جوزنا تكليف ما لا يطلق فذلك بحسب ما يجوز
على الله تعالى لا بحسب ما يجوز في اللغة، فاللغات موضع إجماع؛
فعلى هذا دليلهم لا يمس صورة النزاع.
قال الإمام فخر الدين - رحمه الله: سلمنا أن دليلكم يدل على
الصحة الشرعية لكن تلك الصحة متقدمة على النهي لا متأخرة عنه.
وتقرير ذلك أن الموكل إذا عزل وكيله بقوله لا تبع هذه السلعة
التي وكلتك على بيعها، فيكون هذا النهي عزلاً له ونسخاً لتلك
الصحة السابقة، وكذلك الخلائق وكلاء الله في أرضه، لقوله
تعالى: «ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون» (1) ، وقوله
تعالى: «وأنفقوا مِمّا جعلكم مستخلفين فيه» (2) ، وإذا ورد
النهي بعد ذلك عليهم كان ناسخاً لتلك الصحة السابقة، وأنتم
تطلقون على أنه يدل على صحة لاحقة حتى تثبتون الملك في عقود
الربا بناءً على النهي.
تنبيه: قال مالك الشافعي وابن حنبل: «إن النهي يدل على الفساد»
، وقال أبو حنيفة: «ويدل على الصحة» فالكل طردوا أصولهم إلاّ
مالكاً. فقال أبو حنيفة: «يجوز التصرف في المبيع بيعاً فاسداً
ابتداءً وهذا هو الصحة» . وقال الشافعي ومن وافقه: «إن الملك
لا يثبت أصلاً ولو تداولته الأملاك وهذا هو الفساد» . وقال
مالك
_________
(1) 139 الأعراف.
(2) 7 الحديد.
(1/176)
بالفساد في حالة عدم الأمور الأربعة
المتقدم ذكرها وبعدمه، وتقرر الملك إذا طرأ أحدها، فلم يطرد
أصله.
ويقضي الأمر بضد من أضداد المنهي عنه.
قد تقدم أن النهي أمر بأحد الأضداد، والأمر بالشيء نهي عن جميع
الأضداد، كقوله اجلس في البيت؛ فإنه نهى عن الجلوس في السوق
والحمام وجميع البقاع، وكقوله لا تجلس في البيت، أمر بالجلوس
في أحد المواضع، أما جميع المواضع المضادة للبيت فلا؛ لأنه
نهي.
(1/177)
|