شرح تنقيح الفصول

الباب السادس في العمومات
وفيه سبعة فصول
الفصل الأول في أدوات العموم
وهي نحو عشرين صيغة، قال الإمام: «وهي إما أن تكون موضوعة للعموم بذاتها نحو كلّ، أو بلفظ يضاف إليها كالنفي ولام التعريف والإضافة وفيه نظر» .
قد تقدم في الباب الأوّل حد صيغة العموم والكلام عليها تحريراً وإشكالاً وجواباً، وأما تقسيم الإمام فخر الدين إياها إلى ما يفيد العموم بنفسه نحو كلّ، وجميع، ومن، وما وإلى ما لا يفيد العموم إلاّ بلفظ يضاف إليها نحو النفي، كقولنا لا رجل في الدار، فإنه لولا النفي لم يبق إلاّ مطلق النكرة، وهي لا تفيد العموم بنفسها، أو لام التعريف نحو «اقتلوا المشركين» (1) ، فإنه لولا لام التعريف لم يبق إلاّ الجمع المنكر، وهو لا يفيد العموم، أو الإضافة نحو عبيدي أحرار، فلولا الإضافة لم يحصل العموم، ولم يعمم العتق، بل كان يلزمه عتق ثلاثة أعبد فقط، هذا معنى كلامه.
ومعنى قولي فيه نظر أن: من، وما، أيضاً لا يفيدان العموم إلاّ بإضافة آخر يضاف إليهما، وهي الصلة في الخبرية، نحو رأت من في الدار، أو لفظ هو شرط نحو من دخل داري فله درهم، أو لفظ مستفهم عنه نحو من عندك، فلو نطقنا: ممن
_________
(1) 5 التوبة.

(1/178)


وما، وحدهما لم يحصل عموم، بل قد يكون كلّ واحد منهما نكرة موصوفة أو غير ذلك، وكذلك: كلّ، وجميع، لا بد من إضافة كلّ واحد منهما للفظ آخر حتى يحصل العموم فيه، نحو كلّ رجل إنسان، أو جميع العالم ممكن فتخصيصه المحتاج للفظ آخر بتلك الثلاثة لا يتجه.
فمنها: كلّ، وجميع، ومن، وما، والمعرف باللام جمعاً مفرداً، والذي، والتي، وتثنيتهما، وجمعهما، وأي، ومتى في الزمان، وأين وحيث في المكان، قال القاضي عبد الوهاب، واسم الجنس إذا أضيف والنكرة في سياق النفي، فهذه عندنا للعموم، واختلف في الفعل في سياق النفي كقولك والله لا آكل، فعند الشافعي للعموم في المواكيل، فله تخصيصه بنيته في بعضها، وهذا هو الظاهر من مذهبنا. وقال أبو حنيفة لا يصح لأن
الفعل يدل على المصدر وهو لا واحد ولا كثير، فلا تعميم ولا تخصيص، واتفق الإمامان على قوله: لا أكلت أكلاً إنه عام يصح تخصيصه؛ وعلى عدم تخصيص الأوّل ببعض الأزمنة أو البقاع، لنا أنه إن كان عاماً صح التخصيص وإلا فمطلق يصح تقييده ببعض خاله، وهو المطلوب.
أما كلّ وجميع فيعمان فيما أضيفا إليه، وأما من وما، فاشترط الإمامان فخر الدين وجماعة معه أن يكونا في الشرط والاستفهام، واحترزوا بهذا الشرط عنهما إذا كانا نكرتين نحو مررت بما معجب لك، أو بمن معجب لك، فتخفض معجباً على الصفة، وفي هذه الحالة من، وما، ليستا للعموم، فخرجتا بقولهم إذا كانتا في الشرط والاستفهام، فنفعهم هذا التقييد في إخراج هذا. وهو ليس للعموم، وأضرهم هذا التقييد في إخراج: ما، ومن الخبريتين وهما للعموم، نحو قوله تعالى: «إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم (1) » ، وقوله تعالى: «كلّ من عليها فان» فإن هذين للعموم ولا شرط فيهما، ولا استفهام، فخرج من الحد فيكون غير جامع فلا بد من
_________
(1) 98 الأنبياء.

(1/179)


عبارة تخرج النكرة وتدخل الخبرية، بأن يقول إذا كانتا شرط أو استفهام ما، أو موصولاً، وحينئذ يصير الحد جامعاً.
والمعرف باللام جمعاً ومفرداً فيه إشكال، من جهة أن لام التعريف تعم أفراد ما دخلت عليه، فإن دخلت على الدرهم عمت أفراده، أو الفرس عمت أفراده، فكذلك ينبغي إذا دخلت على الجمع تعم أفراد الجموع وحينئذ يتعذر الاستدلال به حالة النفي أو النهي على ثبوت حكمه لفرد من أفراده، فإذا قال الله تعالى: «لا تقتلوا الصيد (1) » يجوز أن تقتل واحداً فإنا إنّما نهينا عن أفراد الجموع، والواحد ليس بجمع، وكذلك إذا قلنا لم أر إخوتك، يجوز أن تصدق وقد رأينا منهم واحداً وهو خلاف المعهود من صيغة العموم، وإنما يقتضي ثبوت حكمها لكل فرد من أفرادها أمراً ونهياً وثبوتاً ونفياً، ولا يختلف الحال في شيء من الوارد، وحينئذ لأجل هذا الإشكال يتعين أن يعتقد أن لام التعريف إذا دخلت على الجمع تبطل حقيقة الجمعية ويصير الجمع كالمفرد، وأن الحكم ثابت لكل فرد من الأفراد، كانت الصيغة مفرداً أو جمعاً، وأي: تعم فيما أضيفت إليه نحو أي رجل جاءني أكرمته، ومتى، وأين، وحيث للعموم، والمعلق عليها مطلق.
وبهذا نجيب عمن يقول إذا كانت هذه للعموم، فينبغي إذا قال متى دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت مراراً ينبغي أن يلزمه ثلاث تطليقات عملاً بالعموم، وليس كذلك، فلا
يكن للعموم، وكذلك أين وجدتك فأنت طالق، أو حيث وجدتك فأنت طالق، لأنا نقول المعلق عليه عام وهو: متى، وأين، وحيث، والمعلق مطلق، وهو مطلق الطلاق، فهو التزام مطلق الطلاق في جميع الأزمنة أو البقاع، فإذا لزمه طلقة واحدة فقط وقع ما التزمه من مطلق الطلاق فلا تلزمه طلقة أخرى، بل تنحل اليمين، كما لو قال أنت طالق في جميع الأيام طلقة؛ فالظرف عام والمظروف مطلق، كذلك هنا المعلق عليه عام والمعلق مطلق، فاندفع الإشكال. واسم الجنس إذا أضيف، قال صاحب الروضة: سواء كان مفرداً أو تثنية أو
_________
(1) في المخطوطة: لا تقتلوا الصبيان.

(1/180)


جمعاً، وأما الإمام فخر الدين فلم يذكر في المحصلو سوى الجمع، كقوله عبيدي أحرار، ومثال المفرد قوله عليه الصلاة والسلام «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» (1) فحصل العموم في جميع أفراد الماء والميتة، فالمضاف مفرد، وكذلك قوله عليه السلام «إلاّ بحقها» (2) ، يعم جميع حقوق الشهادة، مع أنه مفرد مضاف، والتثنية كقول الأعرابي المفسد لصومه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - «ما بين لابتيها أحوج مني (3) » واللابة الحجارة السود، فعم ذلك جميع الحجارة السود.
تنبيه: اسم الجنس قسمان، منه ما يصدق على القليل والكثير نحو ماء ومال وذهب وفضة، ومنه ما لا يصدق إلاّ على الواحد نحو: درهم ودينار ورجل وعبد، فلا يصدق على جماعة الدراهم أنها درهم، ولا الدنانير أنها دينار، ولا الرجال أنهم رجل، ولا العبيد أنهم عبد. فهذا الذي لا يصدق على الكثير ينبغي أن لا يعم بخلاف عبيدي أحرار ونسائي طوالق، فكان ينبغي أن يفصل بين القسمين في اسم الجنس إذا أضيف ويدعى العموم في أحدهما دون الآخر، لكني لم أره منقولاً، والاستعمالات العربية والعرفية تقتضيه.
وكذلك فرق الغزالي بين المفرد الذي فيه هاء التأنيث يمتاز بها عن الجنس نحو برة وبين ما ليس كذلك، فجعل لام التعريف تعم في الثاني دون الأوّل، فتعم في البر دون البرة، وفي التمر دون التمرة، وهو تفصيل حسن، وهو يعضد هذا الموضع أيضاً في اسم الجنس إذا أضيف.
وأما النكرة في سياق النفي فهي من العجائب في إطلاق العلماء من النحاة والأصوليين يقولون النكرة في سياق النفي تعم، وأكثر هذا الإطلاق باطل.
_________
(1) في شأن البحر.
(2) في شأن قتل الرقبة.
(3) حين أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإطعام ستين مسكيناً ولما لم يستطع حاول عليه السلام أن يكفر عنه فقال الأعرابي ما قال، انظر القصة بتمامها في كتب الحديث.

(1/181)


قال سيبويه
رحمه الله وابن السيد البطليوسي (1) في شرح الجمل: إذا قلت لا رجل في الدار بالرفع لا تعم بل هو نفي للرجل بوصف الوحدة، فتقول العرب لا رجل في الدار بل اثنان، فهذه نكرة في سياق النفي وهي لا تعم إجماعاً، وكذلك سلب الحكم على العموم حيث وقع، كقولك ما كلّ عدد زوج؛ فإن هذا ليس حكماً بالسلب على كلّ فرد من أفراد العدد، وإلا لم يكن فيه زوج وذلك باطل، بل مقصودك إبطال قول من قال كلّ عدد زوج، فقلت له أنت ليس كلّ عدد زوجاً، أي ليست الكليّة صادقة بل بعضها ليس كذلك، فهو سلب الحكم على العموم لا حكم بالسلب على العموم، فتأمل الفرق بينهما. فهذان نوعان من النكرة في سياق النفي ليسا للعموم.
ونص الجرجاني في أول شرح الإيضاح على أن الحرف قد يكون زائداً من حيث العمل دون المعنى، كقولك ما جاءني من رجل، فإن (من) هنا تفيد العموم، ولو قلت ما جاءني رجل لم يحصل العموم وهذه نكرة في سياق النفي، وكذلك قال الزمخشري وغيره في قوله تعالى: «ما لكم من إله غيره» (2) لو قال ما لكم إله غيره بحذف (من) لم يحصل العموم، وكذلك قوله تعالى: «ما يأتيهم من آية من آيات ربهم» (3) ، ولو قال ما يأتيهم آية بحذف (من) لم يحصل العموم، وهذا يقتضي أن هذه الصيغ الخاصة كلها إذا كانت في سياق النفي لا تفيد العموم؛ وإنما تفيده النكرات العامة، نحو أحد وشيء؛ فإذا قلت ما جاءني أحد حصل العموم، وكذلك نقله النحاة، وإذا قلت ما جاءني من أحد كانت (من) مؤكدة للعموم لا منشئة له. هذا نقل النحاة والمفسرين.
ونقل صاحب إصلاح المنطق وغيره أن اللفظ الذي يستعمل في النفي فقط وهو الذي في قولنا ما بها أحد ولا وابر، ولا صافر، ولا عريب، ولا كتيع،
_________
(1) بفتح الطاء وسكون اللام وفتح الباء.
(2) 59 الأعراف.
(3) 4 الأنعام.

(1/182)


ولا دبِّي من دبيب، ولا دبيح، ولا نافخ ضَرَمة، ولا ديّار، ولا طُورىَ، ولا دورىَ، ولا تُؤمُرِي، ولا لاعِي، ولا أرِم، ولا داع، ولا مجيب، ولا مُعْرِب، ولا أنيس، ولا ناخِر، ولا نامج، ولا ثاغٍن ولا راغ، ولا دُعْوىَ، ولا شُفْر، ولا صوات. وزاد الكراع في كتاب المنتخب طَوىَ أي ما بها أحد يطوى ولا بها طُوئي، ولا زابن، ولا تأمور، ولا عين، ولا عائن، وما لي منه بد.
فهذه الألفاظ وضعت للعموم في النفي، وذلك نحو ثلاثين صيغة، وما عداها يقتضي ظاهر النقول أنه لا يفيد العموم إلاّ بوساطة (من) .
فائدة: أحد الذي يستعمل في النفي غير أحد الذي استعمل في الثبوت، نحو «قل هو الله أحد» (1) فالذي يستعمل في الثبوت بمعنى: واحد ومتوحد، وأحد في
النفي معناه إنسان، وكأنه قال ما فيها إنسان، وبرأى صاحب وبر، وصافر من الصفير وهو الصوت الخاص، وعريب إما من الإعراب الذي هو البيان ومنه الثيب تعرب عن نفسها؛ أي ما فيها مبين، أو ما فيها من ينسب إلى يعرب بن قحطان، وكتيع من التكتع وهو التجمع، تقول تكتع الجلد إذا ألقى (2) في النار فاجتمع، ومنه أكتعون أبصعون ودبى من دبيب، ودبيح معناه متلون، والضرمة النار، وديرا من الدار منسوب إليها كحطاب والطورى من الطور وهو الجبل أي ليس فيها صاحب نار ولا دار ولا جبل، ودورى من الدور جمع دار، وتؤمري من التأموري وهو دم القلب ولاعى القرو قال الجوهري لاحس عسك من قدح والأرم الساكن ويطلق على ليالي الدارس، والداعي والمجيب من الدعاء والإجابة، ومعرب مثل عريب، والناخر من النخير، والنابح الكلب، والثغاء صوت الغنم، والرغاء صوت الإبل، والدعوى من الدعوة وهي وليمة الطعام، والشفر من الشفير وهي الحافة، والطوى من الطي أي ما هناك أحد يطوى، وزابن من الزبن، وأريم من الأرم، والتأمور من
_________
(1) 1 الإخلاص.
(2) في الأصول أبقى، والأصح ما أثبتناه.

(1/183)


القلب، وعائن وعين من العين، والبد الانفكاك أي مالي منه انفكاك.
إذا تقرر هذا فأقول النكرة في سياق النفي تقتضي العموم في أحد قسمين؛ مسموع وقياس، أما المسموع فهي هذه الألفاظ، وأما القياس فهي النكرة المبينة، وما عدا ذلك فلا عموم فيه، فهذا هو تلخيص ذلك الإطلاق فيما وصلت إليه قدرتي.
تنبيه: النكرة في سياق النفي تعم سواء دخل النفي عليها نحو لا رجل في الدار، أو دخل على ما هو متعلق بها نحو ما جاءني من أحد، وهل يعم ذلك متعلقات الفعل المنفي؟ الذي يظهر لي أنه إنّما يعم في الفاعل والمفعول إذا كانا متعلق الفعل، أما ما زاد على ذلك نحو قولنا ليس في الدار أحد أو لم يأتني اليوم أحد، فإن ذلك ليس نفياً للطرفين المذكورين، وكذلك ما جاءني أحد ضاحكاً وإلا ضاحكاً ليس نفياً للأحوال، وضاحك مثبت مستثنى من أ؛ وال مثبتة، ونصبه على أنه مستثنى من إيجاب، فتأمل هذا الموضع أيضاً فهو غريب عزيز، ويحرر إلى أي غاية ينتهي عموم النفي وأين يقف.
فائدة: الفعل في سياق النفي وقع في كلام العلماء على ثلاثة أقسام منهم من يقول الفعل في سياق النفي يعم ولا يزيد على هذه العبارة، فتتناول هذه الدعوى الفعل القاصر نحو: قام وقعد، فإذا قلنا لا تقوم يعم النفي أفراد المصادر، والفعل المتعدي نحو أكل وأعطى، ومنهم من يقول - وهو الغزالي وغيره - الفعل المتعدي إذا كانت له مفاعيل إلاّ يعم مفاعيله، فعلى هذه الدعوى لا يتناول الفعل القاصر. والأول قول القاضي عبد الوهاب
وجماعة معه، ومنهم وهو الإمام فخر الدين وجماعة معه من لا يزيد على قوله لا أكل، وهذا المثال يحتمل القولين الأولين، لأنه متعد له مفاعيل، وهو فعل في سياق النفي، والذي يظهر لي أنهما مسألتان متباينتان، الفعل في سياق النفي يعم نحو قوله تعالى: «لا يموت فيها ولا يحيى» (1) أي لا موت له ولا حياة، والفعل المتعدي إذا كانت له مفاعيل لا تعم مفاعيله، وهذا القائل الثالث راجع إلى الثاني.
_________
(1) 74 طه.

(1/184)


وأما قول أبي حنيفة إن المصدر لا يدخل في مفهومه الكثرة فلا يتحقق العموم فلا يتحقق التخصص فلا يخلصه، لأنا نقول لا أكل، يدل على نفي المصدر مطابقة وعلى المفعول التزاماً، لأنه من لوازم الفعل أن له مفعولاً، فهذا اللازم إن كان عاماً دخله التخصيص، وإن لم يكن عاماً، بل إن اللفظ يقتضي أن له مفعولاً ما وهو الصحيح؛ فيدخله التقييد، لأن المطلقات تقيد، وإنما كان لا يحنث لأنه لو قال والله لأكلت رجلاً ونوى تقييده يزيد لم يحنث بغيره، فالمقصود من عدم الحنث حاصل على تقديري التخصيص والتقييد، ومقصود أبي حنيفة فائت على التقديرين من عدم الحنث.
غير أن هنا قاعدة للحنفية أخبرني بها فضلاؤهم وهي أن النية إنّما تؤثر عندهم تخصيصاً أو تقييداً فيما دل اللفظ عليه مطابقة، أما التزاماً فلا، فلذلك ألغينا النية في هذه الصورة تخصيصاً وتقييداً، وبهذه القاعدة يظهر الفرق بين قوله لا كلمت رجلاً، يصح تقييده، وبين لا أكلت؛ لأن دلالة رجل على زيد بالمطابقة، بمعنى أن مسمى رجل صادق عليه، وفي المواكيل دلالة الالتزام فقط، ثم إن هذه القاعدة لم أر لهم عليها دليلاً بل دعوى مجردة، ويدل على بطلانها قوله عليه الصلاة والسلام «وإنما لكل امرئ ما نوى» وهذا قد نوى شيئاً فيكون له والأصل عدم المانع عن النية حتى يذكروا دليلاً عليه.
وأما استدلال أصحابنا عليهم بالمصدر إذا نطق به نحو: لا أكلت أكلاً بإلزام ظاهر؛ لأن النحاة اتفقوا على أن ذكر المصدر بعد الأفعال إنّما هو تأكيد للفعل والتأكيد للفعل لا ينشئ حكماً، بل ما هو ثابت قبله، فإذا صح اعتبار النية معه وجب اعتبارها قبله. فهذه كلام حق.
وأم إلزامهم لنا عدم جواز التخصيص بالزمان والمكان وقياسهم المفعول به على المفعول فيه، فنحن لا نساعدهم ولا الشافعية على الحكم في الظرفين، بل إذا قال: والله لا أكلت، ونوى يوماً معيناً أو مكاناً معيناً لم يحنث بغيره، فيلزمهم ما ألزمناهم ولا يلزمنا ما ألزمونا. والفعل في سياق النفي مطلقاً يعم،

(1/185)


فمدرك الخلاف فيه أن الفعل إذا نفى فقد نفى مصدره فيصير لا يقوم بمنزلة لا قيام ولا قيام يعم، فلا يقوم يعم، والقول الآخر مبني
على أن هذا القياس في اللغة ولنا منعه، أو يلاحظ صحة الاستثناء في التعميم.
فائدة: اختلف العلماء في هذا الفعل الخاص اختلافاً خاصاً، وهو قوله تعالى: «لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة» (1) ، فقيل يقتضي نفي الاستواء مطلقاً في كلّ شيء حتى في نفي القصاص بين المسلم والذمي إذا قتله المسلم، وقيل لا يفيد نفي الاستواء إلاّ من بعض الوجوه فلا يفيد نفي القصاص.
ومنشأ الخلاف أن قولنا استوى في سياق الثبوت هل هو موضوع في اللغة للاستواء من كلّ الوجوه، ولا يلزم من نفي المجموع إلاّ نفي جزء منه فيبقى بقية الوجوه لم يتعرض لها بالنفي، فلا يلزم النفي من جميع الوجوه، أو هو موضوع لمطلق الاستواء ولو من وجه، فيكون أمراً كلياً لا كلاً ومجموعاً، ويلزم من نفي الأمر الكليّ نفي جميع أفراده فينتفي القصاص؟ والذي يظهر لي أنها موضوعة للاستواء فيما وقع السياق لأجله لا لمطلق الاستواء في الفقه خاصة، وكذلك فيا لنفي، فإذا قال الله تعالى: «لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون» (2) ، دل على نفي الاستواء في الفوز، وأن أصحاب النار هلكى، ولا يتعدى النفي هذا الوجه فلا يقتضي نفي القصاص.
وقال الشافعي - رضي الله عنه - ترك الاستفصال في حكايات الأحوال يقوم مقام العموم في المقال، نحو قوله عليه الصلاة والسلام لغيلان حين أسلم على عشر نسوة: «أمسك أربعاً وفارق سائرهن» من غير كشف عن تقدم عقودهن أو تأخرها أو اتحادها أو تعددها.
روي عن الشافعي - رضي الله عنه - أيضاً أن حكايات الأحوال إذا تطرق إليها
_________
(1) 20 الحشر.
(2) 20 الحشر.

(1/186)


الاحتمال كساها الإجمال، وسقط بها الاستدلال، فجعلها مجملة لا يستدل بها مع الاحتمال، وفي القول الأوّل جعلها عامة ليستدل بها، فذكرت هذا لبعض العلماء الأعيان، فقال يحمل ذلك على أنه قولان له اختلفا كما يختلف أقول العلماء في المسائل بالنفي والإثبات.
والذي يظهر لي أن ذلك ليس باختلاف، بل هنا تحرير، وهو أن معنى قولا لعلماء حكاية الحال أو واقعة العين إذا تطرق إليها الاحتمال سقط بها الاستدلال أنه الاحتمال المساوي أو المتقارب، وأما الاحتمال المرجوح فلا يمكن أن يكون مسقطاً للاستدلال؛ فإنه لا يكاد يوجد نص لاحتمال فيه ولا واقعة لاحتمال فيها، ولكن تلك الاحتمالات مرجوحة، والعمدة على الظواهر، بل المقصود الاحتمال المساوي، لأن به يحصل الإجمال والظاهر لا إجمال فيه.
وإذا تقرر هذا فأقول: الاحتمال المساوي إما أن يكون في دليل الحكم أو في محل الحكم، فإن كان دليل الحكم حصل الإجمال في الدليل فيسقط به الاستدلال كقوله عليه الصلاة والسلام في المحرم: «لا تمسوه بطيب فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً» فهذا حكم في رجل بعينه يحتمل أن يكون ذلك خاصاً به فيجوز أن يمس غيره الطيب ويحتمل أن يعمه ويعم غيره من المحرمين كما قاله الشافعي. وليس في اللفظ تعرض لغيره بل يحمل التعميم وعدمه على الاستواء فيسقط به الاستدلال على تعميم الحكم في المحرمين؛ لأنه إجمال في الدليل، وتارة يكون الاحتمال المساوي في محل الحكم والدليل لا إجمال فيه كقصة غيلان، فإن قوله عليه الصلاة والسلام «أمسك أربعاً» ظاهر في الإذن في الأربع غير معينات، والإجمال إنّما هو في عقود النسوة التي هي محل الحكم، فيصبح الاستدلال على التعميم، فله أن يختار، تقدمت العقود أو تأخرت، اجتمعت أو تفرقت.
فأبو حنيفة يقول إذا تقدمت العقود على أربع وعقد بعد ذلك على غيرهن حرم عليه الاختيار من غير تلك الأربع لوقوعهن بعدهن، ونكاح الخامسة وما بعدها لا يقر، وإنما الحديث محمول على ما إذا عقد عليهن عقداً واحداً فلا يتعين الباطل من الصحيح، فيختار.

(1/187)


ونحن نقول أنكحة الكفار كلها باطلة وإنما الإسلام يصححها وإذا كانت باطلة فلا يتقرر أربع دون من عداهن لكون من عداهن يبطل عقده (1) ، والحديث لم يفصل، مع أنها تأسيس قاعدة وابتداء حكم، وشأن الشرع في مثل هذا رفع البيان إلى أقصى غاياته، فلولا أن الأحوال كلها يعمها هذا الاختيار، وإلا لما أطلق صاحب الشرع القول فيها، وكما لو قال صاحب الشرع أعتقوا رقبة في الكفارة ولم يفصل، استدللنا بذلك على عتق الطويلة والقصيرة والبيضاء والسوداء من جهة عدم التفصيل، لا لأن اللفظ عام، بل هو مطلق، غير أن عدم التفصيل يقوم مقام التعميم، فهذا تلخيص هذا الموضع عندي، وأن القولين من الشافعي - رضي الله عنه - محمولان على حالتين: فإحداهما في دليل الحكم، والأخرى في محل الحكم، وقد تقدم مبسوطاً ممثلاً فتأمله، فهو موضع حسن.
وخطاب المشافهة لا يتناول من يحدث بعد إلاّ بدليل لأن الخطاب موضوع في اللغة للمشافهة.
لا تقول العرب أكرمتكم أو أمرتكم أو نهيتكم أو قوموا، إلاّ لمن هو موجود، فعلى هذا قوله تعالى: «عليكم أنفسكم» (2) ، «واجتنبوا كثيراً من الظن» (3) ، ونحوه هو مختص بالموجودين وقت نزول هذا الخطاب، وتناوله لأهل القرون بعدهم ليس
من جهة اللغة، بل ذلك إما لأنه معلوم ن الدين بالضرورة، وأن الشريعة عامة على الخلائق إلى يوم القيامة، أو بالإجماع للعلماء، طريقتان في ذلك، وكلاهما حق.
وقول الصحابي - رضي الله عنه - نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر أو قضى بالشفعة أو حكم بالشاهد واليمين، قال الإمام رحمه الله تعالى لا عموم له لأن الحجة في المحكى لا في الحكاية، وكذلك قوله كان يفعل كذا، وقيل يفيده عرفاً.
_________
(1) في المخطوطة: فلا يتقرر أربع يكون من عداهن يبطل عقدهن.
(2) 105 المائدة.
(3) 12 الحجرات.

(1/188)


هذا الموضع مشكل، لأن العلماء اختلفوا في رواية الحديث بالمعنى، فإن منعناه امتنع هذا الفصل؛ لأن قول الراوي نهي ليس لفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن قلنا بجوازه فمن شرطه أن لا يزيد اللفظ الثاني على الأوّل في معناه ولا في جلائه وخفائه، فإذا روى العدل المعنى بصيغة العموم في قوله الغرر، تعين أن يكون اللفظ المحكى عموماً، وإلا كان ذلك قدحاً في عدالته حيث روى بصيغة العموم ما ليس عاماً، والمقرر أنه عدل مقبول القول، هذا خلف، فلا يتجه قولنا الحجة في المحكى لا في الحكاية، بل فيهما؛ لأجل قاعدة الرواية بالمعنى.
نعم قول الراوي قضى بالشفعة له معنيان: أحدهما قضى بمعنى نفذ الحكم بين الخصوم كما يفعله القضاة، فهذا يستحيل فيه العموم في اشلفعة، فإن جميع الشفعات إلى يوم القيامة يستحيل الحكم بها بين خصومها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وثانيهما حكم بمعنى ألزم من باب الفتيا وتقرير قواعد الشريعة كقوله تعالى: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلاّ إياه وبالوالدين إحسانا» ، أي أمركم بهذا وقدره فهذا يتصور فيه العموم، فإن تعلق الأمر بما لا يتناهى من العمومات ممكن، وكذلك القول في قوله حكم بالشاهد واليمين يحتمل التصرف بالقضاء، والتصرف بالتبليغ والفتيا، غير أن (حكم) أبلغ في الظهور في القضاء دون الفتيا من لفظ (قضى) ، ومتى تعارضت الاحتمالات سقط الاستدلال، غير أنه يحسن من الراوي أن يطلق لفظ العموم إذا كان المراد التصرف بالقضاء بناءً منه على أن المراد بلام التعريف حقيقة الجنس لا استغراق الجنس؛ اعتماداً على قرينة تعذر الحكم بجميع أفراد العموم وأما إن كان المراد الفتيا والتبليغ فيتعين أن المحكى عام مثل لفظ الحكاية وإلا لزم القدح في عدالة الراوي. وأما (كان) فأصلها أن تكون في اللغة كسائر الأفعال لا تدل إلاّ على مطلق وقوع الفعل في الزمان الماضي، وهو أعم من كونه تكرر بعد ذلك أو لم يتكرر، انقطع بعد ذلك أو لم ينقطع.
هذا هو مدلولها لغة، غير أن العادة جارية بأن القائل إذا قال كان فلان يتهجد بالليل لا يحسن ذلك منه إلاّ وقد كان ذلك متكرراً منه في الزمن الماضي، وأما

(1/189)


قوله تعالى: «وكان الله غفوراً رحيماً» (1) ، «وكان الله بكل شيءٍ عليماً» (2) فدلت قرينة
أن الله تعالى موصوف بذلك دائماً، على أن المراد الحالة المستمرة الماضي والحال والمستقبل، بخلاف قولنا كنا نفعل كذا، أو كان زيد يفعل كذا، إنّما يتناول التكرار في الزمن الماضي خاصة، وهذه كلها قرينة زائدة على اللغة، واللفظة من حيث اللغة لا تفيد العموم، وهو وجه من يقول إنها لا تفيد العموم، والقائل الآخر يقول يفيده عرفاً، ويريد بالعموم التكرر على الوجه المتقدم وهو غير العموم، فيكون إطلاقه العموم عليه مجازاً.
ووقع في (كان) بحث آخر للفضلاء أرباب المعقول، وهي أنها فعل يصدق على الوجود الواجب الذي يستحيل عليه العدم، كوجود الله تعالى، فمنعه جمع كثير وقالوا لا يصح على وجود الله تعالى (كان) فإنه يشعر بالتقضي والعدم؛ والصحيح جوازه، لأنه ليس فيها إلاّ أن الوجود قارن الزمان والماضي، أما إنه انعدم بعد ذلك فلا، فنقول كان الله ولا شيء معه، ولا محذور في ذلك فتأمل ذلك.
قال القاضي عبد الوهاب: إن (سائر) ليست للعموم، فإن معناها باقي الشيء لا جملته، وقال صاحب الصحاح وغيره من الأدباء إنها بمعنى جملة الشيء، وهو مأخوذة من سور المدينة المحيط، لا من السور الذي هو البقية، فعلى هذا يكون للعموم، وعلى الأوّل الجمهور والاستعمال.
الصحيح أن أصلها الهمزة من السور الذي هو البقية، وتسهل الهمزة فيقال سور بغير همز، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام «فارق سائرهن» أي باقيهن.
وقال ابن دريد:
حاشى لما أسأره فيّ الحجا ... والحلم أن أتبع روَّاد الخَنا
أي أبقاه في الحجا، والحجا العقل، وعلى هذا لا يكون للعموم بل بقية الشيء، وذلك صادق على أقل أجزائه.
_________
(1) 99 النساء.
(2) 40 الأحزاب.

(1/190)


وقال الجبائي الجمع المنكر للعموم خلافاً للجمع في حلمهم له على أقل الجمع.
حجة الجمهور أنه نكرة في سياق الإثبات فلا يعم حتى يدخل عليه أداة العموم وهي لام التعريف والإضافة وحصول الاتفاق، ولو قال عند الحاكم له عندي دراهم لم يلزمه أكثر من ثلاثة، ولو حلف ليتصدقن بدراهم بَرَّ بثلاثة، وكذلك الوصية والنذر.
وحجة الجبائي أن حمله على العموم حمل اللفظ على جميع حقائقه فهو أولى.
جوابه: أن حقيقته واحدة وهي القدر المشترك بين الجموع، وأما أفراد الجموع فهو محل حقيقته، لا أنها حقائقه، فقوله جميع حقائقه كلام باطل.
والعطف على العام لا يقتضي العموم نحو قوله تعالى: «والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء» ثم قال تعالى: «وبعولتهن أحق بردهن» (1) فهذا
الضمير لا يلزم أن يكون عاماً في جملة ما تقدم. لأن العطف مقتضاه التشريك في الحكم الذي سيق الكلام لأجله فقط.
الضمير خاص بالرجعيات، لأن وصف الأحقية للأزواج إنّما هو فيهن، وإذا كان ضمير العام خاصاً هل يتعين أن يكون المراد بالعموم الأوّل ما أريد بالضمير فقط، لأن القاعدة استواء الظاهر والمضمر في المعنى، أو يحمل الظاهر على عمومه؛ لأن صيغته صيغة عموم والضمير على الخصوص، لانعقاد الإجماع على استواء الزوج والأجنبي في البائن، هذا هو الصحيح، لأن الأصل عدم التخصيص، فلا يكون الظاهر خاصاً، ولا المضمر عاماً.
وقال الغزالي المفهوم لا عموم له. قال الإمام: إن عنى أنه لا يسمى عاماً لفظياً فقريب، وإن عنى أنه لا يفيد عموم انتقاء الحكم فدليل كون المفهوم حجة ينفيه.
الظاهر من حال الغزالي في هذه المسألة أنه إنّما خالف في التسمية، وأن لفظ
_________
(1) 228 البقرة.

(1/191)


العموم موضوع في الاصطلاح لما كان الشمول فيه من جهة اللفظ نطقاً لا من جهة المفهوم، وأما عموم النفي في المسكوت فهو قائل به، لأنه من القائلين بأن المفهوم حجة.
وخالف القاضي أبو بكر في جميع هذه الصيغ، وقال بالوقف مع الواقفية، وقال أكثر الواقفية إن الصيغ مشتركة بين العموم والخصوص، وقيل يحمل على أقل الجمع، وخالف أبو هاشم مع الواقفية في الجمع المعرف باللام، وخالف الإمام فخر الدين مع الواقفية في المفرد المعرف باللام، لنا أن العموم هو المتبارد، فيكون مسمى اللفظ عموماً كسائر الألفاظ لصحة الاستثناء في كلّ فرد، وما صح استثناؤه وجب اندراجه.
سبب توقف القاضي في الجميع وجدانه أكثر صيغ العموم مستعملة في الخصوص، حتى قيل ما من عام إلاّ وقد خص إلاّ قوله تعالى: «والله بكل شيء عليم» فلما تعارضت الأدلة عنده من جهة أن الأصل عدم التخصيص وعدم المجاز وعدم الاشتراك، حصل له التوقف. وقال في مستند التوقف لو علم مسمى هذه الصيغ لعلم إما بالعقل وهو باطل لعدم استقلال العقل بدرك اللغات، أو بالنقل وهو إما متواتر وهو باطل وإلا لعلمه الكل لأن التواتر مفيد للعلم، أو آحاد وهو باطل؛ لأن الآحاد لا تفيد إلاّ الظن، والمسألة علمية، وهذا المستند طرده في الأوامر والعمومات وجميع الألفاظ التي حصل له فيها التوقف.
وجوابه: أنه علم بالاستقراء التام من اللغات على سبيل القطع والتواتر، ولا يلزم علم الكل به لعدم اشتراكهم في هذا الاستقراء التام، أو يعلم ذلك بدليل مركب من النقل
والعقل، وهذا المدرك لم يذكره في تقسيمه فقسمته غير حاصرة فلا تفيد، ومثاله أن ينقل إلينا أن الاستثناء يدخل على صيغة العموم، وأن الاستثناء عبارة عما لولاه لوجب اندراجه، فيستنبط العقل من هاتين المقدمتين النقليتين بوساطة: أن ما من نوع إلاّ يصح استثناؤه وما استثني فيجب اندراجه، فيحصل أن الصيغة للعموم، وحجة

(1/192)


الاشتراك أن اللفظ مستعمل فيهما، والأصل في الاستعمال الحقيقة، ولحسن الاستفهام عند قول القائل أكرمت كلّ من في الدار، فيقال له هل أكرمت زيداً معهم؟ والاستفهام طلب الفهم، وطلب الفهم مع حصوله عبث.
والجواب عن الأوّل: أن الأصل أيضاً عدم الاشتراك فيكون اللفظ مجازاً في الخصوص، والمجاز أولى من الاشتراك لما تقدم. وعن الثاني: أن الاستفهام يحسن لإبعاد المجاز، بل يحسن حيث ينتفي المجاز بالكلية كما في أسماء الأعداد، فإذا قيل لك بعث لك السلطان بعشرة آلاف دينار، تقول بعشرة آلاف دينار؟! استعظاماً لذلك، لاحتمال أن يكون المتكلم حصل له سهو في كلامه، ولفظ العشرة لا يحتمل المجاز البتة، فصيغة العموم أولى بصحة الاستفهام، وأما حمله على أقل الجمع فللجزم بعدم العموم (1) فصار الجمع المعرف عند هذا القائل كالجمع المنكر، والمنكر يحمل على أقل الجمع فكذلك هذا.
وأما الجمع المعرف باللام فتخيل أبو هاشم: أن اللام قد تكون لبيان حقيقة الجنس كقول السيد لعبده امض إلى السوق فاشتر لنا الخبز واللحم، فإن مراده ليس العموم إجماعاً، بل الإتيان بهاتين الحقيقتين، وقد تكون للعهد كقوله تعالى: «كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول» (2) ، أي المعهود ذكره الآن، وإذا صلحت للاستغراق وغيره لم يتعين الاستغراق، وهذا بعينه مدرك الإمام فخر الدين غير أنه يفرق بين الجمع والمفرد لو كان للعموم لصح نعته بالجمع، فتقول جاءني الفقيه الفضلاء ولا يؤكد بالجمع نحو جاءني الفقيه كلهم، وليس كذلك، فدل على أنه ليس للعموم.
وجوابه: أن العرب اشترطت في النعت والتأكيد مع المساواة في المعنى المناسبة اللفظية فلا ينعتون المفرد إلاّ بالمفرد، ولا التثنية إلاّ بالتثنية، ولا الجمع إلاّ بالجمع،
_________
(1) لعل صحة العبارة: فلعدم الجزم بالعموم.
(2) 16 المزمل.

(1/193)


فالمفرد وإن كان للعموم والجمع للعموم، غير أن المناسبة اللفظية فاتت، فلذلك امتنع نعت المفرد بالجمع، ويدل على أن هذه الصيغة التي ادعينا فيها العموم للعموم أمور أربعة حسن الجري على موجب العموم، فإذا قال من دخل داري فأعطه درهماً، يحسن من العبد إعطاء
كلّ داخل. وثانيها: العتب على ترك بعض الداخلين. والثالث: الثواب إذا فعل الجميع، والعقاب إذا ترك البعض. والرابع حسن الاستثناء، فهذه مطردة في جميع صور النزاع.
تنبيه: النكرة في سياق النفي يستثنى منها صورتان: إحداهما لا رجل في الدار بالرفع فإن المنقول عن العلماء أنها لا نعم، وهي تبطل على الحنفية ما ادعوه من أن النكرة إنّما عمت لضرورة ففي المشترك، وعند غيرهم عمت لأنها موضوعة لغة لإثبات السلب لكل واحد من أفرادها، وثانيهما سلب الحكم عن العمومات نحو ليس كلّ بيع حلالاً فإنه نكرة في سياق النفي ولا يعم لأنه سلب للحكم عن العموم، لا حكم بالسلب على العموم.
تقدم التنبيه على هاتين الصورتين عند ذكر النكرة في النفي.
وقالت الحنفية بالعموم بطريق الالتزام، لأنه يلزم من نفي الأمر الكليّ نفي أفراده وجزئياته.
ونحن نقول النفي حصل في الأنواع والأفراد مطابقة، وأن العرب وضعت النكرة في سياق النفي للقضاء بالحكم على كلّ فرد فرد حتى لا يبقى فرد، لا لأنها لقول القائل: هل من رجل في الدار؟ فكان الأصل أن يقال لا من رجل في الدار، مع إثبات (من) غير أن العرب حذفتها تخفيفاً وأبقت معناها وهو سبب البناء لأجل تضمن الكلام معنى المبني وهو (من) وإذا تقرر أن لفظة من هي في أصل الكلام، وهو سبب البناء (ومن) لا تدخل إلاّ للتبعيض هنا، والتبعيض لا يتأتى في ذلك الأمر الكليّ، بل في الإفراد، فيكون النافي إنّما نفي الإفراد وهو المطلوب.

(1/194)


وأما ما ذكرته من أن النكرة المرفوعة تبطل مذهبهم فليس كذلك، لأن قولنا لا رجل في الدار بالرفع معناه نفي مفهوم الرجولية بوصف الوحدة، فما دخل النفي على المشترك من حيث هو مشترك، بل على ما هو أخص منه، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، فما نفى الأعم الذي يلزم ن نفيه نفى أفراده، نعم لو كان هذا الكلام نفياً للمشترك من حيث هو مشترك ولم تنتف الأفراد لزمهم السؤال، لكن ذلك محال، فإن نفي المشترك يلزم منه نفي الإفراد قطعاً.
فائدة: النكرة في سياق النفي تعم سواء دخل النفي عليها نحو لا رجل في الدار، أو دخل على ما هو متعلق بها نحو ما جاءني أحد.
تقدم أيضاً التنبيه على هذا الموضع، والفرق بين الفعل والمفعول وغيرهما.
الفصل الثاني في مدلوله
وهو كلّ واحد لا الكل من حيث هو كلّ، فهو كليّة لا كلّ، وإلا لتعذر الاستدلال به حالة النهي أو النفي.
هذه الألفاظ ثلاثة: الكليّ والكل والكلية:
فالكلي: هو القدر المشترك بين الأفراد واللفظ الدال عليه يسمى مطلقاً، فهو مدلول المطلق، يصدق بفرد واحد في سياق الثبوت نحو رجل.
والكل: هو المجموع بحيث لا يبقى فردن فالحكم يكون ثابتاً لمجموع الأفراد، ولا يتناول الأفراد بعينها في سياق النفي، بل يتعين نفي المجموع بفرد لا بعينه ولا يلزم نفي جميع الأفراد، وهذا وضع له أسماء الأعداد وكل لفظ موضوع لنوع مركب من الجنس والفصل، فإذا قلنا ليس عنده عشرة لا يلزم نفي جميع أفرادها، فجاز أن يكون عنده تسعة، أو ليس عنده إنسان جاز أن يكون عنده حيوان ليس بإنسان، بخلاف الثبوت نحو عنده عشرة أو إنسان فإنه يدل على ثبوت التسعة وغيرها من أجزاء العشرة بالتضمن، وعلى ثبوت الناطق والحيوان بالتضمن.

(1/195)


والكلية: هي ثبوت الحكم لكل واحد بحيث لا يبقى واحد، ويكون الحكم ثابتاً للكل بطريق الالتزام وهذا كصيغ العموم كلها، فإذا قلنا كلّ إنسان يشبعه رغيفان غالباً، صدق باعتبار الكليّة دون الكل، أو كلّ رجل يشيل الصخرة العظيمة، صدق باعتبار الكل دون الكليّة: فلو كان مدلول العموم كلاً لما لزم ثبوت حكمه لفرد معين من أفراد إذا كان في سياق النفي أو النهي، لأنه لا يلزم من النهي، عن المجموع إلاّ ترك ذلك المجموع من حيث هو ذلك المجموع، وذلك يكفي في تحققه جزء منه، لكن العام هو الذي يقتضي ثبوت حكمه لكل فرد منه في النفي والنهي، وذلك إنّما يتحقق إذا كان مسماه كليّة لا كلاً.
وتندرج العبيد عندنا وعند الشافعي في صيغة الناس والذين آمنوا.
قال القاضي عبد الوهاب على اندراجهم جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية وغيرهم، وقال بعض متأخري الشافعية لا يندرجون. لنا أنهم من الناس، والذين آمنوا؛ لأنهم من بني آدم، وقد آمنوا، فيكونون ناساً ومؤمنين. حجة المخالف قوله تعالى: «والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء» (1) ، والأمة لا يلزمها ذلك، وآية الجمعة لم تتناولهم، والأصل عدم التخصيص، فلو تناولتهم هذه النصوص لزم دخول التخصيص فيها، ولأن الله تعالى إذا أرادهم بالحكم أفردهم بالذكر، فلو كان
الخطاب يتناولهم لزم التكرار، كقوله تعالى: «وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم» (2) .
والجواب عن الأوّل أن وجود المسمى، ولا يتناوله الاسم أيضاً خلاف الأصل وهم ناس ومؤمنون، والتخصيص أولى من اعتقاد أن الاسم لا يتناول مسماه، فإن التخصيص كثير وهذا لا يوجد في اللغة. وعن الثاني أن قوله تعالى: «وانكحوا» ضمير، والضمير لا عموم فيه لغة، وإنما يعلم المراد به من دليل من خارج؛ فإذا قال السيد لعبيده اخرجوا لا يعلم أنهم كلّ عبيده أو بعضهم إلاّ بدليل يدل على أن الواقف عنده في ذلك الوقت هل الكل أو البعض، وكذلك ضمير الغائب لا يعلم
_________
(1) 228 البقرة.
(2) 32 النور.

(1/196)


إلاّ من قبل الظاهر المفسر له، وأما المضمر من حيث هو مضمر فلا عموم فيه لغة فلما لم يكن عاماً لم يتعين تناوله للعبيد والإماء، فلذلك ذكرهم الله تعالى. وينبني على الخلاف صحة الاستدلال بنصوص التكاليف على ثبوتها في حقهم حيث يقع النزاع فيها بين العلماء.
ويندرج النبي - صلى الله عليه وسلم - في العموم عندنا وعند الشافعية وقيل علو منصبه يأبى ذلك، وقال الصيرفي إن صدر الخطاب بالأمر بالتبليغ لم يتناوله وإلا تناوله.
جرت عوائد الملوك أنهم لا يخطابون خاصتهم بخطاب يعم العامة معهم، بل يخصونهم بخطاب خاص، فمن لاحظ هذه القاعدة قال بعدم الاندراج، ومن لاحظ وجود مسمى اللفظ قال بالاندراج. وأجاب عن الأوّل بأن وزير الملك وقائد جيشه يكون في العظمة وصفات الكمال مقارباً للملك، وربما كان أكمل منه، فلذلك قبح اندراجهم مع العامة في الخطاب وتعين سلوك الأدب معهم. وأما خواص الله تعالى وإن عظمت أقدارهم غاية العظمة فهم كالعدم بالنسبة إلى الله تعالى، وجميع ما هم فيه من عطاء الله تعالى ومواهبه، وليس لهم من ذواتهم إلاّ العجز الصرف والحاجة والعدم والفناء والتغير والزوال. والله تعالى في غاية العظمة والكمال من جميع الجهات في ذاته وصفاته، غني عن غيره على الإطلاق فبعدت النسبة غاية البعد، بل النسبة منقطعة بالضرورة، فلذلك لم يلزم في حق الله تعالى مع خاصته ما يلزم في أحوال الملوك.
وأما الفرق بين الأمر بالتبليغ وغيره، فلأن الظاهر في الخطاب الذي يبلغه لغيره أنه لا يندرج فيه لغة كقوله تعالى: «قل للمؤمنين يغضُّوا من أبصارهم» (1) ، ونحو ذلك، فهذا لا يتناوله من حيث اللغة بل بدليل منفصل، أو يقال هو مأمور بأن يقول لنفسه أيضاً لأنه من جملة المؤمنين.
_________
(1) 30 النور.

(1/197)


وكذلك يندرج المخاطب في العموم الذي يتناوله، لأن شمول اللفظ يقتضي جميع ذلك.
المراد الخاطب بكسر الطاء الذي هو فاعل الخطاب، فإذا قال من دخل داري فامرأته طالق هل يندرج هو، فإذا دخل طلقت امرأته أو لا يندرج فلا تطلق امرأته ويبطل لفظه بالكلية مثل هذا المثال لأنه ليس له التصرف في طلاق امرأة غيره وكذلك في العتق.
والصحيح عندنا اندراج النساء في خطاب التذكير قاله القاضي عبد الوهاب، وقال الإمام فخر الدين إن اختص الجمع بالذكور لا يتناول الإناث وبالعكس كشواكر وشكر، وإن لم يختص كصيغة من تناولهما وإن لم يكن مختصاً، فإن كان مميزاً بعلامة الإناث لم يتناول الذكور كمسلمات، وإن تمز بعلامة الذكور كمسلمين لا يتناول الإناث وقيل يتناولهن.
أما إطلاق القاضي فبناء على أن النساء مثل الرجال في الأحكام إلاّ ما دل الدليل على تخصيصه والتحقيق ما قاله الإمام، فإن البحث في التناول إنّما هو بحسب دلالة اللفظ لغة، وذلك ينبغي أن يؤخذ من اللغة لا من الشريعة، وقاعدة العرب أن فواعل جمع فاعلة المؤنثة، ولا يكون جمع المذكر نحو صاحبة وصواحب وكافرة وكوافر، قال الله تعالى: «ولا تمسكوا بعصم الكوافر» (1) ، وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة وحفصة رضي الله عنهما: «إنكن لأنتن صواحب يوسف» قال أئمة اللغة: وقد شذ من ذلك فارس فوارس وهالك وهوالك، وأما فعل جمع فعول نحو شكر جمع شكور وصبور وصبر، فإنه للمذكر، فإن فعولاً أصله للمذكر فلا يتناول فواعل الذكور ولا فعل الإناث لغة، وغير المختص نحو فعائل مثل قبيلة وقبائل للمؤنث، ومقتل ومقاتل للمذكر يصلح للأمرين، فلما صلح لهما، ولام التعريف تقتضي العموم في كلّ ما يصلح اللفظ له، فيعم في الجميع. وأما جمع السلامة بالألف والتاء فيه
_________
(1) 10 الممتحنة.

(1/198)


علامة التأنيث، فيختص بالمؤنث هندات ومسلمات وعرفات لعلامة فيه، ولا يتناول المذكر لأن التاء فيه علامة التأنيث، ولذلك حذفت التاء الكائنة في المفرد لئلا يجتمع علامتا تأنيث. هذا نقل النحاة، وكذلك قالوا إن جمع السلامة بالواو والنون أو بالياء والنون نحو مسلمون / مسلمين خاص بالمذكر، وإن الواو فيه علامة للرفع والجمع والتذكير فلا يتناول المؤنث، بأن النحاة قالوا بأن عادة العرب إذا قصدت الجمع من المذكر والمؤنث. قالوا للكل بصفة المذكر، فيقولون زيد والهندات خرجوا، فيأتون بالواو التي هي علامة التذكير. لأن زيداً من جملتهن. وجوابهم أن هذا تناول طرأ عن إرادة المتكلم، وكلامنا في تناول من جهة الوضع اللغوي، فلا حجة فيه.
فائدة: قال الأصوليون (من) ، و (ما) في الاستفهام للعموم، فإذا قلنا من في الدار؟ حسن الجواب بقولنا زيد، وأجمعوا على أنه جواب مطابق؛ والعموم كيف ينطبق عليه
زيد؟ فانطباق زيد يقتضي أن الصيغة ليست للعموم، وكذلك ما عندك؟ فنقول درهم، وهذا سؤال مشكل جليل.
والجواب عنه عسير.
وجوابه: أن العموم إنّما هو باعتبار حكم الاستفهام لا باعتبار الكون (1) في الدار والاستفهام عن جميع الرتب، وكأن المستفهم قال إني أسألك عن كلّ أحد يتصور أن يكون في الدار، لا أخص بسؤالي عدداً دون عدد، ولا نوعاً دون نوع. والواقع من ذلك قد يكون فرداً أو أكثر ولا يكون في الدار أحد، ولذلك يقول المجيب ليس في الدار أحد، فالعموم ليس باعتبار الوقوع بل باعتبار الاستفهام، وشموله لجميع المراتب المتوهم من تلك المادة؛ ونظير هذا أن الله تعالى إذا قال: «واقتلوا المشركين» (2) ، فلم نجد في الأرض إلاّ مشركاً واحداً فقتلناه، فإنا نكون
_________
(1) في المخطوطة: الكائن.
(2) 5 التوبة.

(1/199)


قائمين بما توجه علينا من حكم ذلك العموم، مع أن الواحد ليس بعموم، ما ذاك إلاّ أن الوقوع غير وجوب القتل فالعموم إنّما هو باعتبار أن الله تعالى أوجب قتل كلّ من يتوهم وجوده في العالم من المشركين، فهذه هو العام. أما الواقع من ذلك فقد يكون واحداً أو أكثر أو لا يوجد مشرك البتة، وذلك لا يقدح في العموم ولا في حكمه، فما به حصل العموم غير ما به يخرج عن عهدة العموم.
فائدة: صيغ العموم وإن كانت عامة في الأشخاص فهي مطلقة في الأزمنة والبقاع والأحوال والمتعلقات، فهذه الأربعة لا عموم فيها من جهة ثبوت العموم ن غيرها حتى يوجد لفظ يقتضي العموم فيها، نحو لأصومن الأيام، ولأصلين في جميع البقاع، ولا عصيت الله في جميع الأحوال، ولأشتغلن بتحصيل جميع المعلومات، فإذا قال الله تعالى: «فاقتلوا المشركين» (1) فهذا عام في جميع أفراد المشركين، مطلق في الأزمنة والبقاع والأحوال والمتعلقات، فيقتضي النص قتل كلّ مشرك في زمان ما وفي مكان ما وفي حال ما وقد أشرك بشيء ما، ولا يدل اللفظ على خصوص يوم السبت، ولا مدينة معينة من مدائن المشركين، ولا أن ذلك المشرك طويل أو قصير، ولا أن شركه وقع بالصنم أو بالكوكب، بل اللفظ مطلق في هذه الأربعة.
فائدة: (من) في الاستفهام للعموم، وكل أيضاً إذا كانت في الاستفهام للعموم، فقولنا من في الدار؟ مثل قولنا كلّ الرجال في الدار فاستويا في العموم، واختلفا في أمور كثيرة منها أن كلاً يجاب بنعم أو بلى أو لا، ولا كذلك من، فنقول لمن قال أكل الرجال في الدار؟ نعم أو لا، ولا تقول لمن قال لك من في الدار نعم أو لا، وسبب الفرق وسره أن
نعم وبلى ولا أجوبة موضوعة في لسان العرب للجواب عن التصديقات الخبرية؛ فنعم للموافقة في النفي أو الإيجاب، ولا لمخالفة الإيجاب، وبلى لمخالفة النفي، فمن قال قام زيد وأردت موافقته قلت نعم، أو مخالفته قلت لا ومن قال لم يقم (2) وأردت موافقته قلت نعم أو مخالفته قلت بلى، وهو
_________
(1) 5 التوبة.
(2) في الأصل ألم يقم وغلا لأتى بباقي الجملة هكذا وأرادت موافقته قلت بلى أو مخالفته قلت نعم، لأن هذا جواب ألم.

(1/200)


السر في قول العلماء لو قالت ذرية آدم في قوله تعالى: «ألست بربكم» (1) نعم، كفروا بسبب أن ليس للسلب والاستفهام وقع عن السلب، فلو قالوا نعم كانوا قد قرروا عدم الربوبية وهو كفر، لكن قالوا بلى فكانوا نافين لذلك النفي فكانوا مثبتين للربوبية وهو الحق.
إذا تقرر أن هذه الحروف لا تستعمل إلاّ في جواب التصديق، فقول القائل أكل الرجل في الدار؟ سؤال عن تصديق، حسن جوابه بنعم أو لا. ومن في الدار؟ سؤال عن تصور، كأنه قال صور لي الحقيقة الكائنة في الدار من هي؟ فلا يسعه أن يقول إلاّ زيد ونحوه، ولم يسأله عن التصديق، حتى يجاوبه بجواب التصديق، وبهذا يظهر لك أن العموم تارة يكون في التصور، وتارة يكون في التصديق، وتارة يكون في متعلق التصديق، نحو أكرمت الرجال، أو الأمر نحو أكرم الرجال، أو النهي نحو لا تشتم الرجال، فهو أعلم من هذه الأقسام كلها، فقولنا من في الدار؟ طلب تصور الحقيقة الكائنة في الدار إن كانت وجدت وعم الاستفهام في جميع رتبها. وقولنا أَكُلَّ الرجال في الدار؛ سؤال على قول القائل كلّ الرجال في الدار، هل هو صادق أو كاذب، فإن قلت أنت نعم فقد صدق أو لا فقد كذب المخبر الأوّل الذي يسأل عن خبره، فإن قلت من عندك تصديق بالضرورة لأن من مبتدأ وعندك خبره بإجماع النحاة، ولذلك حسن السكوت عليه فينبغي أن يحسن فيه نعم أو لا، كما تقدم. قلت مسَلم هو تصديق لكن التصديق له حالتان، تارة يكون التصديق بين جزأيه للخبر، وتارة لا يكون، فمن الأوّل قولنا: الله ربنا ومحمد نبينا، ومن الثاني قولنا: قول الكافر العالم قديم؛ فالعالم قديم تصديق لكن التصديق فيه ليس لنا بل للكافر فنحن أخذنا بجزأيه جعلناه تصوراً مبتدأ، وأخبرنا عنه، وكذلك قلنا خبر الله تعالى صدق والخبر تصديق، وقد جعلناه نحن مبتدأ فجرى بالنسبة إلينا تصوراً، وهو تصديق باعتبار نسبته إلى الله تعالى، كذلك من عندك؟ هو تصديق لكن المستفهم أخذه على سبيل التصور لم يجزم بإسناد أحد جزأيه إلى الأخر، فهو تصور من هذا الوجه، وكذلك قولك ما الإنسان ما الحيوان؟ مبتدأ وخبر، ولا يحسن فيه الجواب بنعم أو لا؛ لأن السؤال وقع عن تصوير الإنسان أو الحيوان.
_________
(1) 172 الأعراف.

(1/201)


الفصل الثالث في مخصصاته
وهي عند مالك عشر، فيجوز عند مالك وأصحابه تخصيصه بالعقل خلاف القوم، كقوله تعالى: «الله خالق كلّ شيء» (1) خصص العقل ذات الله تعالى وصفاته.
الخلاف محكى على هذه الصورة، وعندي أنه عائد على التسمية، فإن خروج هذه الأمور من هذا العموم لا ينازع فيه مسلم، غير أنه لا يسمى التخصيص إلاّ ما كان باللفظ، هذا ما يمكن أن يقال. أما بقاء العموم على عمومه فلا يقوله مسلم.
وبالإجماع والكتاب بالكتاب، خلافاً لبعض أهل الظاهر.
مثال ما خصص بالإجماع قوله تعالى: «أو ما ملكت أيمانكم» (2) خرج منه الأخت من الرضاعة وغيرها من مؤطوءات الآباء والأبناء، والمخصص بالكتاب وهو قوله تعالى: «والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء» (3) عام في كلّ مطلقة خصصه قوله تعالى: «وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن» (4) احتجوا بقوله تعالى: «لنبين للناس ما نزل إليهم» (5) وهو يقتضي أن البيان لا يكون إلاّ بالسنة، والتخصيص بيان، فوجب أن يكون بالسنة فلا يكون الكتاب مخصصاً.
جوابه قوله تعالى في القرآن: «تبياناً لكل شيء» (6) وهو نفسه شيء، فيبين نفسه وهو المطلوب.
_________
(1) 16 الرعد. 0 ...
(2) 3 النساء.
(3) 228 البقرة.
(4) 4 الطلاق.
(5) 44 النحل.
(6) 89 النحل.

(1/202)


وبالقياس الجلي والخفي للكتاب والسنة المتواترة.
ووافقنا الشافعي وأبو حنيفة والأشعري وأبو الحسين البصري.
وخالفنا الجبائي وأبو هاشم في القياس مطلقاً، وقال عيسى بن أبان إن خص قبله بدليل مقطوع جاز وإلا فلا، وقال الكرخي إن خص قبله بدليل منفصل جاز وإلا فلا، وقال ابن سريج وكثير من الشافعية يجوز بالجلي دون الخفي، واختلف في الجلي والخفي فقيل الجلي قياس المعنى والخفي قياس الشبه، وقيل الجلي ما تفهم علته كقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يقضي القاضي وهو غضبان» ، وقيل ما ينقض القضاء بخلافه، وقال الغزالي إن استويا توقفنا وإلا طلبنا الترجيح، وتوقف القاضي أبو بكر وإمام الحرمين، وهذا إذا كان أصل القياس متواتراً، فإن كان خبر واحد كان الخلاف أقوى.
لنا أن اقتضاء النصوص تابع للحكم، والقياس مشتمل على الحكم فيقدم.
لنا أن القياس دليل شرعي والعموم دليل شرعي وقد تعارضا، فأما إن يعمل بهما فيجتمع النقيضان أو لا يعمل بهما فيرتفع النقيضان أو يقدم العام على الخاص وهو محال، لأن العام دلالته على ذلك الخاص أضعف من دلالة الخاص على ذلك الخاص، لجواز إطلاقه بدون إرادة ذلك الخاص، والخاص لا يجوز إطلاقه بدون إرادة ذلك الخاص، والأضعف لا يقدم على الأقوى، فيتعين تقديم الخاص عليه وهو المطلوب. وبيانه بالمثال قوله تعالى: «وأحل لكم البيع» (1) يقتضي حل بيع الأرز متفاضلاً ونسيئة، والقياس على البر يمنعه، فإن أعملناهما أبحنا التفاضل بالآية ومنعناه بالقياس؛ فيجتمع النقيضان، أو ألغيناهما فنلغي الحل من الآية والتحريم من القياس فيحل ولا يحل، وهو ارتفاع النقيضين أو الجمع بين النقيضين؛ فإن إلغاء العموم يقتضي أن لا يحل، وإلغاء القياس يقتضي أن لا يحرم، وإن قدمنا العموم لزم تقديم الأضعف، فإن العموم يجوز إطلاقه بدون إرادة
_________
(1) 275 البقرة.

(1/203)


الأرز، وقياس الأرز لا يمكن أن يثبت بدون التحريم في الأرز، وهذه الدلالة مطردة في جميع صور التخصيص على هذا التقدير.
احتجوا على منع القياس مطلقاً بأن (1) القياس فرع النصوص، وكل ما هو شرط في النصوص فهو شرط في القياس من غير عكس، فلو قدم القياس على النص لزم تقديم الفرع على الأصل وتقديم (2) ما هو أكثر مقدمات على ما هو أقل، وهو باطل، فإن الأقل أرجح مِمّا هو أكثر مقدمات وتقديم المرجوح على الراجح محال.
والجواب أن النص الذي هو من أصل القياس غير النص المخصوص بالقياس، فلم يتقدم الفرع على الأصل فحديث عبادة بن الصامت في الربا في الأشياء الستة هو أصل القياس مثلاً، والنص المخصوص هو الآية فما (3) قدم فرع على أصل.
حجة عيسى بن أبان: أنه إذا خص قبل القياس بدليل مقطوع فقد قطعنا بدخول المجاز فيه فقطعنا بضعفه، فجاز تسليط القياس عليه، أما إذا خص بدليل مظنون فلم يقطع بضعفه، أو لم يدخله التخصيص البتة فلا يتسلط القياس عليه.
حجة الكرخي أن التخصيص بالمخصص المتصل وهو أربعة: الاستثناء والشرط والغاية والصفة، وهذه أمور لا يمكن استقلالها بأنفسها فينبغي (4) أن تكون مع الكلام الذي دخلت عليه كلاماً واحد، موضوعاً لما بقي بعد التخصيص، فيكون حقيقة، فلا يتسلط القياس عليه لضعفه عن الحقيقة، أم المخصص المنفصل فكقوله عليه الصلاة والسلام: «لا
تبيعوا البر بالبر» الحديث ولا يمكن جعله مع الكلام المخصوص كلاماً واحداً موضوعاً لما بقي بعد التخصيص حتى يكون حقيقة، بل يتعين أن يكون مجازاً، وإذا كان مجازاً ضعف فأَسْلِط القياس عليه، وقياس المعنى كقياس الأرز على البر بجامع الطعم والنبيذ على الخمر بجامع السكر ونحو ذلك.
_________
(1) في نسخة: فإن.
(2) في نسخة وبتقديم.
(3) ما: هنا نافية.
(4) في المخطوطة: فيتعين.

(1/204)


وقياس الشبه قال القاضي وغيره هو الذي لا يكون مناسباً في ذاته ويكون مستلزماً للمناسب، كقولنا في الخل إنه لا يزيل النجاسة مائع لا تبنى القنطرة على جنسه، فلا يجوز أن تزال به النجاسة كالدهن، فقوله لا تبنى القنطرة على جنسه ليس فيه مناسبة، لكن هذا الوصف يشعر بالعلة؛ فإن عدم البناء يدل على قلته لأن العادة جرت بأن القناطر لا تبنى إلاّ على المائع الكثير، فما لا تبنى عليه قنطرة فهو غير كثير، والطهارة مشروع عام يقتضي اللطف بالمكلف أن لا يشرع إلاّ بما هو متيسر موجود في كلّ مكان وزمان، فالعلة تناسب حينئذ المنع، فهذه هو المناسب الذي استلزمه ذلك الوصف الطردي.
ولا شك أن هذا قياس ضعيف بالنسبة إلى قياس المعنى فلا يتعين عند هذا القائل أن يسلطه على النصوص، حتى أن القاضي قال قياس الشبه ليس بدليل شرعي البتة، ومرادهم بقولهم ما تفهم علته أن يسبق إلى الفهم من كلام الشارع ما يعين علته (1) عند سماع اللفظ فإن قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يقضي القاضي وهو غضبان» يفهم منه أن المانع ما يشوش الفكر، فيتعدى للجائع والحاقن وغيرهما بجامع ما يشوش الفكر، وأما قول الآخر ما ينقض القضاء بخلافه فهو تفسير يلزم منه الدور، وذلك أن الفقهاء يقولون ينقض قضاء القاضي إذا خالف الإجماع أو النص أو القياس الجلي أو القواعد، فينبغي أن يكون القياس الجلي معلوماً قبل النقض، وإذا عرف بالنقض توقف كلّ واحد منهما على معرفة الآخر فلزم الدور.
وأما قول الغزالي، فتقريره أن القياس تختلف مراتبه في الظنون، فالمنصوص علته يفيد الظن أكثر من المستنبطة علته، والقياس على أصل مجمع عليه أولى من القياس على أصل منصوص عليه مختلف فيه، والثابت علته بالنص أولى من الثابت علته بالإيماء، وبالإيماء أقوى من المناسبة، وبالمناسبة أقوى من الطردي، إلى غير
_________
(1) في المخطوطة: ما يعين على علته.

(1/205)


ذلك، كما يذكر (1) في ترجيح الأقيسة، فظهر أن إفادة القياس المطلوب تختلف رتبته في ذلك، وكذلك العموم، فإن العموم متى كان قليل الأنواع كانت إفادته للظن أقوى مِمّا كثرت أنواعه، فإن احتمال التخصيص فيه أقل، والعام من اللفظ الذي لم تجر العادة باستعماله مجازاً يفيد الظن أكثر من
الذي جرت العادة باستعماله مجازاً، والمختلف في دخول التخصيص فيه أضعف مِمّا لم يجر الخلاف في تخصيصه بغير ذلك القياس، فرتب الظنون أيضاً مختلفة في العموم، وإذا كانت الرتبة مختلفة في القياس والعموم، فإذا تعارض قياس وعموم نظرنا بين الرتبتين، فإن وجدنا الظنين في أنفسنا سواء توقفنا حتى يحصل مرجح من خارج أو يسقطان، وإن وجدنا ظن أحدهما أقوى قدمنا الراجح، وهذا مذهب حسن بعضده قوله عليه الصلاة والسلام: «أمرت أن أقضي بالظاهر والله متولي السرائر» .
وأما توقف إمام الحرمين والقاضي فلتعارض المدارك. فهذه ستة مذاهب، وأما إذا كان أصل القياس ثابتاً بأخبار الآحاد كان المنع من التخصيص به أظهر، لأنه أظهر لضعف اصله.
وبجوز عندنا تخصيص السنة المتواترة بمثلها، وتخصيص الكتاب بالسنة المتواترة كانت قولاً أو فعلاً خلافاً لبعض الشافعية.
لنا أن الخاص والعام إذا اجتمعا فإما أن يعمل بهما، أو لا يعمل بهما، أو يقدم العام على الخاص، أو الخاص على العام، والأقسام الثلاثة الأوّل باطلة فتعين الرابع، وقد تقدم بسطه وتصوير هذه المسألة في السنتين المتواترتين في زماننا عسر فإن التواتر في الأحاديث قل في زماننا أو انقطع لقلة العناية برواية الحديث، ولم يبق فيها إلاّ ما يفيد الظن، حتى قال بعض الفقهاء ليس في السنة متواتر إلاّ قوله عليه الصلاة والسلام: «الأعمال بالنيات» ، وعند التحقيق لا نجده متواتراً عندنا، وأين العدد الذي يستحيل تواطؤهم على الكذب في جميع الطبقات بيننا وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! غايتنا أن نرويه عن اثنين عن ثلاثة عن عشرة وهو عزيز إسناداً
_________
(1) في المخطوطة: مِمّا يذكر.

(1/206)


متصلاً وهذا لا يحصل العلم فلا يكون متواتراً، بل يتصور هذه المسألة باعتبار الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، فإن الأحاديث كانت في زمانهم متواترة، أعني كثيراً منها، لقرب العهد بالمروي عنه، ولشدة العناية في الرواية، فيكون حكم الله تعالى مِمّا تقدم باعتبار تلك القرون، أما نحن فلا، أما تخصيص الكتاب بالسنة المتواترة، أما بالقول فقوله تعالى: «يوصيكم الله في أولادكم» (1) الآية. قال الأصوليون: خصص بقوله عليه الصلاة والسلام: «القاتل لا يرث» وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: لا يتوارث أهل القبلتين (2) وأهل الملتين» وأما الفعل فخصصوا قوله تعال: «الزانية والزاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة» (3) مِمّا تواتر عنه عليه الصلاة والسلام من رجم المحصن في قصة ماعز وغيره.
وهنا سؤالان: الأوّل ما تقدم في الحديث المتواتر (4) وجوابه ما تقدم، والثاني أن
قوله عليه الصلاة والسلام «القاتل لا يرث» ليس بتخصيص، لأنه تقدم أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع والمتعلقات، فيقتضي توريث كلّ ولد في حالة غير معينة، فالذي يناقضه أن بعض الأولاد لا يرث في حالة ما فإن الموجبة الجزئيّة إنّما يناقضها السالبة الكليّة، ولم نجد ولداً لا يرث في حالة ما بل الجميع يرثون في حالة ما، ولا يلزم من كون بعض الأولاد لا يرث في حالة خاصة أن لا يرث في حالة ما فإن نفي الخاص لا يلزم منه نفي العام، فإذا قلنا في الدار رجل، لا يناقضه ليس في الدار زيد، لأن (رجلاً) بصفة التنكير لم يتعين لزيد، فلا يلزم من نفي زيد نفيه، كذلك هنا لا يلزم من نفي الإرث في حالة القتل أو غيره من الأحوال الخاصة نفي التوريث في حالة منكرة، وكذلك يلزم أن يكون قوله تعالى: «اقتلوا المشركين» (5) غير مخصوص أما بالنساء فلأنهن لم يندرجن في
_________
(1) 11 النساء.
(2) أهل القبلتين ساقطة من المخطوطة.
(3) 2 النور.
(4) في المخطوطة: ما تقدم على حديث التواتر.
(5) 5 التوبة.

(1/207)


الصيغة لأنها صيغة تذكير، وأما الصبيان فلأنهم يقتلون في حالة ما وهي إذا كبروا وكذلك الرهبان يقتلون إذا قاتلوا، وهي حالة ما، وكذلك أهل الذمة، فلا يتصور فيه تخصيص بناء على هذه القاعدة؛ فإنا لم نجد فرداً من هذا العموم لا يقتل في حالة ما، وإنما يتصور ذلك في قوله تعالى: «الله خلق كلّ شيء» (1) فإن واجب الوجود لا يقبل هذا الحكم في حالة ما، وقوله تعالى: «وأوتيت من كلّ شيء» (2) فإنَّها لم تؤت النبوة، أو ملك الدنيا، أو الشمس أو القمر، وغير ذلك ي حالة ما، وقوله تعالى: «تدمر كلّ شيء بأمر ربها» (3) ،
لم تدمر الجبال، ولا السماء في حالة ما، فهذا تخصيص محقق لما فيه ن المناقضة للعموم، ومن شرط المخصص أن يكون مناقضاً للعموم، ولا تناقض بين ثبوت الحكم في حالة ما وبين عدم ثبوته في حالة مخصوصة، بل الناقض عدم ثبوته في جميع الحالات، وبهذه الطريقة يظهر لك أن أكثر ما يعتقد فيه التخصيص ليس مخصوصاً؛ فإن تلك الأفراد إنّما خرجت في أحوال خاصة لا في جميع الحالات، فلا يحصل التناقضز
ويجوز عندنا وعند الشافعي وأبي حنيفة تخصيص الكتاب بخبر الواحد وفصَّل ابن أبان والكرخي كما تقدمن وقيل لا يجوز مطلقاً، وتوقف القاضي فيه.
لنا أنهما دليلان متعارضان، وخبر الواحد أخص من العموم فيتقدم على العموم؛ لأن تقديم العموم عليه يقتضي إلغاء خبر الواحد بالكلية، وتقديم الخبر على العموم لا يبطل العموم، بل يبقى في غير ما يتناوله الخبر فكان أولى، ولإجماع الصحابة - رضوان الله عليهم - على تخصيص آية الإرث بقوله عليه الصلاة والسلام «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، وقوله تعالى: «وأحل الله البيع» (4) بخبر ابن مسعود في تحريم الربا، وقوله تعالى: «وأحل لكم ما وراء ذلكم» (5) بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها» .
_________
(1) 102 الأنعام.
(2) 23 النمل.
(3) 25 الأحقاف..
(4) 275 البقرة.
(5) 24 النساء.

(1/208)


احتجوا بأن الكتاب مقطوع، وخبر الواحد مظنون، فلا يقدم على المقطوع، ولقول عمر - رضي الله عنه - في خبر فاطمة بنت قيس لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها نسيت أم كذبت، ولم ينكر عليه أحد، فكان إجماعاً، وبالقياس على النسخ.
والجواب عن الأول: أن الكتاب مقطوع السند متواتر اللفظ أما دلالة العموم وتناوله الصورة التي تناولها خبر الواحد فأضعف من دلالة خبر الواحد عليها لما تقدم في دليلنا. وعن الثاني: أن الرد معلل بالتهمة بالنسيان أو الكذب ونحن نساعد عليه، إنّما النزاع إذا سلم الخبر عن المطاعن. وعن الثالث: الفرق أن النسخ إبطال لما ثبت أنه المراد فيحتاط فيه، أما التخصيص فبيان المراد من العموم، لا إبطال ما ثبت أنه مراد مجازه، وأما حجج الجماعة من التفرقة لعيسى بن أبان والكرخي فهي ما تقدم في التخصيص بالقياس، وكذلك مدرك التوقف.
فائدة: يلزم الغزالي أن ينظر هنا إلى مراتب الظنون كما تقدم له في القياس؛ فإن مراتب خبر الواحد في إفادة الظن مختلفة، وكذلك العموم، وليس له أن يقول خبر الواحد أقوى من القياس، لأنا نقول هب أنه أقوى، غير أن ذلك المدرك المتقدم موجود بعينه هنا، فيلزم انتقاضه، وهو خلاف الأصل والفرق لا ينجى من ذلكن فإن الفرق إن كان معتبراً لزم أن ينعطف منه وصف آخر مضافاً لما ذكرته من المدرك.
فائدة: أكثر النحاة والمحدثين على منع أبان من الصرف وهو مشكل، فإن وزنه في ظاهر الحال فعال وهو عربي فلم يبق فيه إلاّ العلمية، والعلة والواحدة لا تمنع الصرف على الصحيحن والنون فيه أصلية لأنه من أبَانَ.
وجوابه: أن وزنه أفعل، وأصله أبين ثم انقلبت الياء ألفاً لتحركها، ونقل حركتها لما قبلها، فمنع من الصرف مراعاة لأجل وزنه، فاجتمع وزن الفعل والعلمية كأحمد، فإن قيل يشكل ذلك برجل سُمي بِيع أو قِيل ونحوه من الأفعال المعتلة المبنية لما لم يُسم فاعله، فإن وزن ما لم يسم فاعله هو أولى في منع الصرف

(1/209)


من وزن الفعل المضارع؛ لأنه خاص بالأفعال ووزن المضارع يغلب في الأفعال ولا يخصها بدليل أفعل التفضيل، ومع ذلك فقد نصُّوا على جواز صرف هذا النوع وشبهه وقالوا إنه صار إلى وزن ما هو أصل في الأسماء نحن ديك وفيل، وأما أبان فلم يرجع بعد التغيير إلى بناء أصلي، فامتنع صرفه، فهذا هو الفرق، وأما من صرفه فزعم أن أصله فَعَال لا أفعل من التبيين، حكى ذلك ابن يعيش في المفصل.
وعندنا تخصيص فعله عليه الصلاة والسلام وإقراره الكتابة والسنة.
وفصل الإمام فقال إن تناوله العام كان الفعل مخصصاً له ولغيره إن علم بدليل أن حكمه كحكمه، لكن المخصص فعله مع ذلك الدليل، وكذلك إن كان العام متناولاً لأمته فقط وعلم بدليل أن حكمه حكم أمته، وكذلك الإقرار يخصص الشخص المسكوت عنه لما خالف العموم، ويخصص غيره إن علم أن حكمه على الواحد حكم على الكل.
أما تخصيص الفعل والإقرار للكتاب والسنة فلما تقدم من تخصيص خبر والواحد لهما خلافاً ومدركاً وسؤالاً وجواباً، والفعل والإقرار أضعف دلالة من القول؛ لأن القول يدل بنفسه والفعل لا يكون مدركاً شرعياً إلاّ بدليل من القول يدل على أنه حجة، كقوله تعالى: «ما أتاكم الرسول فخذوه» (1) وقوله عليه الصلاة والسلام: «خذوا عني مناسككم وصلوا كما رأيتموني أصلي» .
وأما تفضيل الإمام فمثاله قوله عليه الصلاة والسلام: «لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط ولكن شرقوا أو غربوا» فهذا متناول للأمة دونه عليه الصلاة والسلام، ثم روى ابن عمر رضي الله عنهما أنه صعد على ظهر بيت حفصة فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على لبنتين لقضاء الحاجة مستقبلاً بيت المقدس مستدبراً الكعبة، وقد علم بالدليل أن حكم أمته يتناوله، فيكون فعله عليه الصلاة والسلام مخصصاً له من حكم هذا النص الذي ثبت التعميم في حقه منه بالدليل، ومن
_________
(1) 7 الحشر.

(1/210)


العلماء من حمل فعله على حالة، وهو أن هذا حكم الأبنية، والنهي محمول على الصحارى والأفضية، ومثال ما يتناوله عليه الصلاة والسلام خاصة قوله عليه الصلاة والسلام: «نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً» فهذا خاص به من حيث اللفظ، وعلم بالدليل أن حكم أمته كحكمه، ومثال المتناول له عليه الصلاة والسلام لأمته قوله تعالى: «يوصيكم الله في أولادكم» (1) وغير ذلك من النصوص العامة، فإذا ثبت أنه عليه الصلاة والسلام فعل ما يقتضي أنه غير مراد بها فإن علم أن غيره كحكمه تخصص معه، وإذا أقر شخصاً على غير خلاف هذه النصوص نعلم أن ذلك الشخص غير مراد بتلك العمومات، فإن دل الدليل على مساواة غير ذلك الشخص له خصص الثاني كما خصص الأوّل، وقولنا إن علم أن حكمه كحكمه، لا يمكن أن يريد به جملة ما يصدق عليه أنه غيره، لأن ذلك يؤدي إلى خروج جملة الأفراد من ذلك اللفظ، ولا يبقى منه شيء، فيكون هذا نسخاً تخصيصاً وبياناً، بل يريد به بعض الأشخاص تحقيقاً للتخصيص.
وعندنا العوائد مخصصة للعموم، قال الإمام إن علم وجودها في زمن الخطاب وهو متجه.
القاعدة: أن من له عرف وعادة في لفظ إنّما يحمل لفظه على عرفهن فإن كان المتكلم
هو الشرع حملنا لفظه على عرفه وخصصنا عموم لفظه في ذلك العرف إن اقتضى العرف تخصيصاً، أو على المجاز إن اقتضى المجاز وتركا الحقيقة، أو إضمار أو غيرهن وبالجملة دلالة العرف مقدمة على دلالة اللغة، لأن العرف ناسخ للغة، والناسخ يقدم على المنسوخ، أما العوائد الطارئة بعد النطق لا يقضى بها على النطق فإن النطق سالم عن معارضتها، فيحمل على اللغة، وتظهيره إذا وقع العقد في البيع، فإن الثمن يحمل على العادة الاضرة في النقد، وما يطرأ بعد ذلك من العوائد في النقود لا عبرة به في هذا البيع المتقدم، وكذلك النذر والإقرار والوصية إذا تأخرت العوائد عليها لا تعتبر، وإنما تعتبر من العوائد ما كان مقارناً لها، فكذلك نصوص الشريعة لا تؤثر في تخصيصها إلاّ ما قارنها من العوائد.
_________
(1) 11 النساء.

(1/211)


فائدة: العوائد القولية تؤثر في الألفاظ تخصيصاً ومجازاً وغيره، بخلاف العوائد الفعلية، مثاله ما إذا كان الملك لا يلبس إلاّ الخز ويطلق دائماً الثوب على الخز وغيره، فإذا حلف لا يلبس ثوباً حنث بالخز وغيره، وعادته الفعلية لا تقضي على لفظه فتصيره خاصاً بالخز فلا يحنث بغيره، بل يحنث بالجميع، وسببه أن العوائد اللفظية الناسخة ناقلة للغة ومعارضة لها، من جهة أن الناسخ مقدم على المنسوخ ومبطل له، وأما ترك ملابسه بعض أنواع المسمى أو ملابسة بعضه فلا يؤثر في سبق الذهن إلى ذلك المسمى من حيث هو ذلك المسمى، فكون زيد لا يركب الفرس أو يركبه لا يقدح في أنه إذا قال ركبت حيواناً يتعين حمله على الفرس، إذا كانت عادته يطلق لفظ الحيوان على الجميع، أما إن كان لا يطلق لفظ الحيوان إلاّ على الفرس فهذه عادة لفظية تقضي على لفظه بحمله على الفرس، كذلك إذا قال الملك أو غيره لا دخلت في هذا النهار بيتاً فدخل بيتاً لم يدخله قط حنث، وإن كانت عادته بدخول غير هذا البيت، فتأمل ذلك تجده لا يعارض اللفظ في وضعه في اللغة أصلاً، بل ذلك عُرْف الإطلاق هو المؤثر ليس إلاّ، أما الفعل والملابسة فلا.
وقد حكى فيه الإجماع وليس منه قول العلماء: العرف الخاص هل يقدم على العرف العام؟ قولان، فإن مرادهم بالعرف الخاص عادة خاصة بالإطلاق لا بالفعل والمباشرة، فتأمل ذلك فقد غلط فيه جماعة من أكابر الفقهاء المالكية وغيرهم، حتى جعل بعضهم أن ما وقع للمالكية من حملهم أيمان المسلمين في الحلف على صوم شهرين متتابعين والحج دون الاعتكاف، أنه من باب العرف الفعلي، وأن عادة الناس يصومون كثيراً ويحجون كثيراً دون الاعتكاف. وليس كما قالوا، بل هو لأن عادتهم إذا نطقوا في الأيمان يحلفون بالتزام الحج والصوم، ولم تجر عادتهم بنطقهم في الأيمان بالتزام الاعتكاف، فلذلك لم يندرج الاعتكاف في أيمان المسلمين، ولذلك قالوا إذا حلف لا يأكل رؤوساً فمنهم من حنثه برؤوس الأنعام التي جرت العادة بأكلها خاصة، ومنهم من حنَّثه بجميع الرؤوس، فقال أيضاً منشأ الخلاف
العادة الفعلية بأكل هذه الرؤوس دون غيرها، وليس كما قالوا، بل منشأ الخلاف أن عبادة الناس إذا نطقوا بلفظ الرؤوس في الأيمان يخصون هذا النوع دون غيره، فهذه عادة نطقية، واختلفوا - أعني الفقهاء - هل وصلت هذه الغلبة في النطق إلى حد

(1/212)


النقل فتكون هذه العادة ناسخة للغة أم لم تصل إلى حد النقل؟ فهذا منشأ الخلاف في الحالف هل يحنث بجميع الرؤوس أم الفعلي فلا.
وكذلك لو قال رأيت رأساً لم يختلفوا في أن ذلك صادق على جميع الرؤوس، ولا يختص ذلك برؤوس الأنعام، لأن هذا التركيب لم يحصل فيه نقل وإنما حصل النقل في لفظ أكلت مع الرؤوس، أما إن ركب مع الرأس غيره من الأفعال نحو رأيت وأبصرت وأعلمت فلا يلزم ذلك، فالعرف الفعلي (1) لا مدخل له في الألفاظ البتة، وسببه عدم تعرضه للوضع الأولن بخلاف العرف القولي، فتأمل ذلك.
وعندنا تخصيص الشرط والاستثناء (2) للعموم مطلقاً، ونص الإمام، ونص الإمام على الغاية والصفة قال وإن تعقبت الصفة جملاً جرى فيها الخلاف الجاري في الاستثناء والغاية، حتى وإلى، فإن اجتمع غايتان كما لو قالوا لا تقربوهن حتى يطهرن حتى يغتسلن، قال الإمام فالغاية في الحقيقة الثانية والأولى سميت غاية لقربها منها.
تقدمت حقيقة الشرط في باب ما توقف عليه الحكم، وأما صورة التخصيص به فكقوله تعالى اقتلوا المشركين إن حاربوا، فهذا الشرط يقتضي إخراج من لم يحارب، وقد كان يقتل لولا هذا الشرط. واعلم أنه على ما تقدم من أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال يقتضي أن يكون الشرط مقيداً لتلك الحالة المطلقة لا مخصصاً، وكذلك الغاية والصفة؛ فإن المقتول عند الغاية الخاصة والصفة الخاصة والشرط الخاص مقتول في حالة ما لأنه مقتول في حالة معينة، والمعين يستلزم المطلق، وكل فرد من العموم يقتل في هذه الحالة فلم يعارض هذه التقييدات العموم، بل قيدت الحالة المطلقة فيها، وأما الاستثناء فيه حالتان إن استثنى نوعاً أو شخصاً وجعلناه لا يقتل في حالة فهذا تخصيص، لأنه لا يقتل في حالة ما، وإن استثنى
_________
(1) في الأصل: بالعرف والفعلي..
(2) في الأصل: ذكر بعد لفظه الاستفهام.

(1/213)


موصوفاً بصفة تمكن زوالها فهو مقيد لا مخصص لأن الحاصل اشتراط نقيض تلك الصفة فيئول إلى الشرط، وقد تقدم أنه تقييد لا تخصيص، مثال الأوّل اقتلوا المشركين إلاّ زيداً وإلا بني تميم، مثال الثاني إلاّ من يحارب فهذا غَوْر (1) بعيد لم أره لأحد، ويكاد الناس الكل على خلافه فتأمله.
فائدة: قال الشيخ سيف الدين الشرط شرطان شرط السبب وشرط الحكم، فإن كان عدمه مخلاً بحكمة السبب فهو شرط السبب، كالقدرة على التسليم في البيع، وما كان عدمه مشتملاً على حكمه مقتضاها نقيض حكم السبب مع بقاء حكم المسبب، فهو شرط الحكم كعدم الطهارة مع الصلاة، مع الإتيان بمسمى الصلاة، كما أن المانع مانعان مانع السبب ومانع الحكم، فمانع السبب كلّ وصف يخل وجوده بحكمة السبب نفياً كالدين في باب الزكاة مع ملك النصاب، ومانع الحكم هو كلّ وصف وجودي حكمته مقتضاها نقيض حكمة السبب، كالأبوة في باب القصاص مع القتل العمد العدوان.
فائدة: قال الإمام فخر الدين الشرط الداخل على الجمل، اتفق الإمامان أبو حنيفة والشافعي - رضي الله عنهما - أنه يعم الجمل، قلت والفرق بينه وبين الاستثناء الذي خالف أبو حنيفة على عوده على جميع الجمل وخصصه بالجملة الأخيرة، أن الشروط اللغوية أسباب كما تقدم في باب ما يتوقف عليه الأحكام، والسبب شأنه تضمن الحكم والمقاصد، فيتعين عموم تعلقه بجميع الجمل تكثيراً لتلك المصلحة، بخلاف الاستثناء إنّما هو إخراج ما هو غير مراد، ولعله لو بقي لم يخل بحكمة المذكور المراد فالاستثناء ضعف.
فائدة: قال الإمام فخر الدين: اتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام، بخلاف الاستثناء اختلفوا في جواز تأخيره بالزمن، قلت: والفرق ما تقدم من تضمنه للحكمة والمصلحة، فيقوى الاهتمام به فلا يتأخر، بخلاف الاستثناء.
فائدة: قالا لإمام فخر الدين يجوز تقديم الشرط في النطق وتأخيره، قاله
_________
(1) في الأصول: فهذا أغور.

(1/214)


والتقديم أحسن لأنه مؤثر فهو متقدم طبعاً فيتقدم وضعاً، وأجاز بعضهم التأخير لأنه لا يستقل بنفسه فأشبه الاستثناء.
ونص على الحس نحو قوله تعالى: «تدمر كلّ شيء بأمر ربها» (1) .
لأن البصر بشاه بقاء الجبال والسموات فيعلم العقل أنها غير مرادة بالعموم ويقرب من هذا الباب تخصيص يسمونه التخصيص بالواقع وقد لا يتعين ولا يعلم لنا كقوله تعالى: «ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم» (2) يقطع بأن الواقع أن بعض من صدق عليه العصيان لا يعذب، إما لأنه تاب أو بفضل الله تعالى لقوله تعالى: «ويعفو عن كثير» (3) أو بالشفاعة، لكن هذا الذي خصص من هذه الأنواع غير معلوم لنا الآن عدده ولا أشخاصه ولا صفته، وكذلك عموم قوله تعالى: «فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره» (4) بعض عامل الخير لا يرى خيراً لأنه ارتد أو ظلم فأخذ منه ذلك الخير في ظلمه، ومن عمل شراً لا يرى شراً لما تقدم.
وفي المفهوم نظر، وإن قلنا إنه حجة لكونه أضعف من المنطوق، لنا في سائر طرق النزاع أن ما يدعي أنه مخصص لا بد وأن يكون منافياً وأخص من المخصص، فإن أعملا أو ألغيا اجتمع النقيضان، وإن أعمل العام مطلقاً بطلت جملة الخاص، بخلاف العكس فيتعين، وهو المطلوب.
رأيت الجماعة من الأصوليين أن المفهوم يخصص من غير توقف، مثاله قوله عليه الصلاة والسلام: «في كلّ أربعين شاة شاة» هذا عام، ثم قال: «في الغنم السائمة الزكاة» ومقتضى مفهومه عدم الزكاة في المعلوفة؛ فمنهم من رجح العموم لأنه منطوق، والمنطوق أولى من المفهوم، ويقول بوجوب الزكاة في المعلوفة، ومنهم من يقول المفهوم أخص من العموم لأنه لم يتناول إلاّ المعلوفة والأخص مقدم على العموم، وهو قول الشافعي في خصوص مسألة الزكاة هذه.
_________
(1) 35 الأحقاف.
(2) 14 النساء.
(3) 15 المائدة.
(4) 7 الزلزلة.

(1/215)


الفصل الرابع فيما ليس من مخصصاته
وليس من مخصصات العموم سببه، بل يحمل عندنا على عمومه إذا كان مستقلاً لعدم المنافاة خلافاً للشافعي والمزني، وإن كان السبب يندرج في العموم أولى من غيره، وعلى ذلك أكثر أصحابنا، وعن مالك فيه روايتان.
رأيت في ثلاثة مذاهب يخصص، لا يخصص، الفرق بين المستقل، وبين غير المستقل فلا يخصص، حكاها ابن العربي وغيره، مثال المستقل قصة عويمر في اللعان (1) مثال غير المستقل قوله عليه الصلاة والسلام: «أينقص الرطب إذا جف قالوا نعم قلا فلا إذن» فقوله: فلا إذن لا يستقل بنفسه فيتعين ضمه إلى الكلام الأوّل بجملته، ويصير التقدير لا يباع الرطب بالتمر لأنه ينقص إذا جف، لأن (إذن) التنوين فيها موضوع للعوض من الجملة أو الجمل السابقة، ومنه قوله تعالى: «إذا زلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها، وقال الإنسان مالها، يومئذ تحدث أخبارها» (2) قوله يومئذ، أي يوم هذه الجمل المتقدمة، فالتنوين بدل منها.
حجة التخصيص به: أن الكلام إنّما سبق لأجله فهو كالجواب له، والجواب شأنه أن يكون مطابقاً للسؤال، ولا يزيد عليهن فيخصص العموم به.
حجة عدم التخصيص: أن الجمع ممكن فيثبت حكم السبب وحكم ما زاد عليه ولا
يتنافيا وإن سلمنا أنه يجري مجرى الجواب، والجواب إذا حصل فيه زيادة اعتبرت، كما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء من ماء البحر فقال «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» (3) وحكمها ثابت مع طورية الماء ولا تنافي في ذلك، ولأنه لو كانت العمومات تختص بأسبابها لاختصت آية اللعان وآية الظهار وآية السرقة بأسبابها وهو خلاف الإجماع، لأن غالب عمومات الشريعة لها أسباب فيلزم تخصيص أكثر العمومات.
_________
(1) عندما رأى على زوجته ما يريبه فنزلت آية اللعان.
(2) الآيات من 1 إلى 4 سورة الزلزلة.
(3) فزاد هنا حل الميتة.

(1/216)


فائدة: في قولي المخصص لا بد أن يكون منافياً للنص المخصص وهو الفرق بين النية المخصصة والنية المؤكدة، وأكثر الذين يفتون لا يطلبون الفرق بينهما في الفتاوى، بل يفتون الناس فيهما سواء، وإذا جاء الحالف وقد حلفت لا لبست ثوباً ونويت الكتان فيقولون لا تحنث بغيره، وليس كما قالوا بل يقولون إذا قال لا لبست ثوباً يقتضي حنثه بأي ثوب كان، ثم النية بعد ذلك لها أحوال: أحدها أن يقول نويت حملة الثياب فيقولون له تحنث بكل ثوب باللفظ وبالنية المؤكدة له. وثانيها: أن يقول نويت بعض الثياب وهي الكتان وتركت غيرها لم أتعرض له فيقول له تحنث بثياب الكتان باللفظ المؤكد بالنية، وبغير الكتان بمجرد اللفظ السالم عن معارضة النية، فإن الصريح يقتضي ثبوت حكمه من غير احتياج إلى نية، بدليل أنه، لو لم يكن لي نية البتة إلاّ في البعض ولا في الكل فإنه يحنث باللفظ الصريح ولا يحتاج معه غيره. وثالثها: أن يقول نويت إخراج غير الكتان من اليمين بأن استحضرته وأخرجته منافية لموجب اللفظ، واللفظ يقتضي الاندراج، وأنت نويت عدم الاندراج فحصل التنافي بين هذه النية وبين اللفظ فهي مخصصة بخلاف التي قبلها، إنّما هي مؤكدة للبعض الذي خطر بالبال، والبعض الآخر لم يخطر بالبال فلم تخرجه النية فوقع الحنث بالجميع.
فالواجب على المفتي أن لا يكتفي بقول المستفتي أردت الكتان، بل حتى يقول له هل أردت إخراج غير الكتان من يمينك فإذا قال نعم حينئذ يفتيه بتخصص حنثه بالكتان، وإلا فلا، فتأمل هذا الموضع فهو عزيز في تخصيصات العمومات في الفتاوى وغيرها.
فإن قلت: هل لو قال والله لا لبست ثوب الكتان لم يحنث بغير الكتان ولم يخطر غير الكتان بباله ولا نفاه بلفظه، وكونه نوى الكتان وذهل عن غيره هو بمنزلة هذا القيد اللفظي، وقد أجمعوا على عدم تحنيثه في هذا القيد اللفظي، وكذلك هذه النية فإنَّها مثله كما تقرر.
قلت: سؤال حسن قويّ، غير أن الجواب عنه حسن جميل؛ وهو أن نقول

(1/217)


المخصصات اللفظية المتصلة من الغاية والشرط والصفة والإضافة ألفاظ لا تستقل بنفسها؛ وقاعدة العرب أن ما لا يستقل بنفسه إذا جاء عقيب ما يستقل بنفسه جعلت العرب ذلك المستقل بنفسه غير مستقل، ولا يعتبر إلاّ المجموع المركب منهما المستقل وما بعده مِمّا لا يستقلن فيصير الجميع كالكلمة الواحدة.
بدليل ما هو أشد الأشياء ضيقاً وهو الإقرار عند الحاكم، فلو قال له عندي الثياب الزرق أو الدراهم الزائفة لم يلزمه الحاكم غير الموصوف بتلك الصفة ولا يقضي عليه بعموم الثياب ولا الدراهم، فغير الإقرار بطريق الأولى، وما سره إلاّ ما تقدم من القاعدة اللغوية، فهذا هو شأن الصفة وغيرها، لا يستقل، وأما النية فليس للعرب فيها هذا الوضع، بل يعتبر ما نوى، فإن كانت مؤكدة له لم تُغير حكماً أو معارضة له قدمت النية، فافترق البابان.
ومن وجه آخر على تقديم تسليم عدم صحة هذه القاعدة وهو أن اللفظ له دلالة والنية لا دلالة لها، فإن الدلالات من خصائص الألفاظ والإرادة مدلول لا دليل، وإذا تقرر هذا فالقيد يدل بمفهومه على عدم دخول غير الكتان في يمينه بطريق المفهوم ودلالة الالتزام؛ فتكون دلالة اللفظ التزاماً معارضة لظاهر العموم مطابقة، فلما حصل التعارض أمكن التخصيص بالمعارض الأخص، كما تقدم تقريره، والنية لما لم تكن لها دلالة لم يوجد ما يعارض العموم في قصده الكتان خاصة وذهوله عن غيره.
فهذان جوابان سديدان، وبهذه المباحثة يفهم معنى قول العلماء إن العام قد يستعمل في الخاص، فإن معناه إرادة إخراج بعض مسماه عن مدلول اللفظ، وليس معناه إرادة بعضه بالحكم، فتأمل ذلك فالفرق بينهما هو في غاية الظهور، وعند أكثر الفقهاء في غاية الخفاء.
والضمير الخاص لا يخصص عموم ظاهره كقوله تعالى: «والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء» (1) وهذا عام ثم قال وبعولتهن أحق بردهن في
_________
(1) 228 البقرة.

(1/218)


ذلك، وهذا خاص بالرجعيات، نقله الباجي عنا خلافاً للشافعي والمزني.
معناه بل يبقى لفظ المطلقات على عمومه، لأنه جمع معرف باللام.
ومذهب الراوي يخصص عند مالك والشافعي رضي الله عنهما خلافاً لبعض أصحابنا وبعض أصحاب الشافعي.
هذه المسألة منقولة هكذا على الإطلاق، والذي أعتقده أنه مخصوص بما إذا كان الراوي صحابياً، شأنه الأخذ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقول إنه إذا خالف مذهبه ما رواه يدل ذلك منه على أنه اطلع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قرائن حالية تدل على تخصيص ذلك العام،
وأنه عليه الصلاة والسلام أطلق العام لإرادة الخاص وحده، فلذلك كان مذهبه مخالفاً لروايته، أما إذا كان الراوي مالكاً أو غيره من المتأخرين الذي لم يشاهدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يتأتى ذلك فيه، ومذهبه ليس دليلاً حتى يخصص به كلام صاحب الشرع، والتخصيص بغير دليل لا يجوز إجماعاً.
حجة التخصيص: ما تقدم فإن عدالته تمنعه من ترك بعض العموم إلاّ لمستند من قرائن صاحب الكلام؛ فإذا ثبتت القرائن ثبت التخصيص.
حجة عدم التخصيص: أن عموم كلام صاحب الشرع حجة، والراوي لم يتركه إلاّ لاجتهاد؛ ويجوز أن يكون أصاب أم لا، والأصل بقاء العموم على عمومه، ولو كان كلّ اجتهاد صحيحاً لكان قول كلّ مجتهد حجة وهو خلاف الإجماع.
وذكر بعض العموم لا يخصصه خلافاً لأبي ثور.
ذكر بعض العموم كقوله تعالى: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى» (1) فالإحسان بلام التعريف عام في جميع أنواع الإحسان، فيندرج فيه إيتاء ذي القربى، فذكره بعده ليس تخصيصاً للأول بإيتاء ذي القربى، بل اهتماماً بهذا النوع من هذا العام، وعادة العرب أنها إذا اهتمت ببعض أنواع العام
_________
(1) 90 النحل.

(1/219)


خصصته بالذكر إبعاداً له عن المجاز، والتخصيص بذلك النوع، فإذا نص عليه ينفى احتمال التخصيص فيه دون غيره فلا ينفي احتمال التخصيص فيه البتة، وكذلك قوله تعالى: «وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي» (1) مع أن المنكر عام للام التعريف فيه فهو بعمومه يشمل البغي (2) فذكره بعد ذلك إنّما هو إشعار بأنه أقبح المنكر وأهم أنواعه بالذكر، فلا يتوهم تخصيص العام المتقدم بإخراجه منه، وكذلك قوله تعالى: «وملائكته وجبريل» (3) خص جبريل اهتماماً به، وكثير من العلماء يمثل هذا الباب بقوله تعالى: «فيها فاكهة ونخل ورمان» (4) وليس منه لأن فاكهة مطلق لا عموم فيه حتى يكون أولاً قد تناول الرمان فيخصص بعد ذلك بالذكر، بخلاف المثل السابقة عامة تناولت ما ذكر بعدها.
إذا علم هذا فاعلم أنه قد وقع في المذهب استدلالات على خلاف هذه القاعدة فينبغي أن يتفطن لها فمن ذلك نهيه عليه الصلاة والسلام عن بيع ما لم يقبض، وهو عام في جميع المبيعات؛ ونهى عن بيع الطعام قبل قبضه، والطعام بعض ذلك العموم، فقال مالك - رحمه الله تعالى - لا يحرم إلاّ بيع الطعام قبل قبضه، قال جماعة من المالكية لأن
العموم المتقدم مطلق وهذا مقيد، والمطلق يحمل على المقيد، وهذا غلط، بل هذا تخصيص العام بذكر بعض أنواعه، والصحيح أنه باطل كما تقدم، والمطلق والمقيد، إنّما معناه أن يكون المطلق ماهية كليّة فيذكر معها أو بعدها قيد نحو «فتحرير رقبة» (5) وفي آية أخرى «فتحرير رقبة مؤمنة» (6) فهذه هو المطلق والمقيد الذي يحمل فيه المطلق على المقيد؛ لأن المقيد زاد على الثابت أو لا مدلول القيد، أما إذا كان اللفظ عاماً فالقيد يكون منقصاً إن
_________
(1) 90 النحل.
(2) في الأصل: المنكر وقد أصلحناها ليستقيم المعنى.
(3) 97 البقرة.
(4) 68 الرحمن.
(5) 3 المجادلة.
(6) 92 النساء.

(1/220)


أخرجنا ماعدا محل القيد، وفي المطلق لا يكون منقصاً، فلذلك كان الصحيح حمل المطلق على المقيد، والصحيح عدم تخصيص العموم بذكر بعضه، فهذا فرق عظيم ينبغي أن تلاحظه فهو نفيس في الأصول والفروع.
وكونه مخاطباً لا يخصص العام إن كان خبراً، وإن كان أمراً جعل جزاء قال الإمام يشبه أن يكون مخصصاً.
المراد المخاطب بكسر الطاء الفاعل للخطاب، مثال الخبر من دخل داري فهو سارق السلعة، هل يقتضي ذلك أنه إذا دخل هو أن يكون مخبراً عن نفسه أنه سارق؟ مثال الأمر الذي هو جزاء قوله من دخل داري فأعطه درهماً، فقوله أعطه أمر وهو جواب الشرط، ووجه الإحالة فيه أنه لا يأمر نفسه ولا يأمر لنفسه بدرهم من ماله، ومن ذلك قول المرأة زوجني ممن شئت، فهل له أن يزوجها من نفسه لاندراجه في العموم؟ أو قال بع سلعتي ممن رأيت فهل له شراؤها لأنه رأى نفسه؟ بين العلماء خلاف، والصحيح أنه مندرج في العموم لأنه متناول له لغة، والأصل عدم التخصيص.
وذكر العام في معرض المدح أو الذم لا يخصص، خلافاً لبعض الفقهاء.
مثاله أن يذكر الله تعالى فاعل المحرم ثم يقول بعد ذكره «إنه لا يفلح الظالمون» (1) فهل يقتضي أنه مخصوص بمن تقدم ذكره أو يكون عاماً ويندرج فيه المتقدم ذكره اندراجاً أولياً، وكذلك إذا ذكر الله تعالى فاعل المأمور به ثم يقول عقبه «إن الله مع المحسنين» (2) إنه «كان للأوابين غفوراً» (3) ونحو ذلك فهل يعم اللفظ والحكم كلّ محسن وكل أواب، أو يختص بمن تقدم ذكره، خلاف.
حجة التخصيص به أنه ذكر العام بعده يجري مجرى الجواب عنه، والجواب شأنه أن يكون مطابقاً للسؤال من غير زيادة، وكأنه قال مع المحسنين الذين تقدم ذكرهم، والأوابين الذين (4) تقدم ذكرهم.
_________
(1) 21 الأنعام.
(2) 69 العنكبوت.
(3) 2 الإسراء.
(4) في الأصل: الذي.

(1/221)


حجة عدم التخصيص أن اللفظ عام ولا ضرورة لتخصيصه بمن تقدم فإن حكم الجميع ثابت بالعموم، والأصل عدم التخصيص فيبقى اللفظ عاماً على حاله.
تنبيه: قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: ليس من هذا الباب العام المرتب على شرط تقدم بل يختص اتفاقاً، كقوله تعالى: «إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفوراً» (1) فالشرط المتقدم هو صلاح المخاطبين الحاضرين، وصلاحهم لا يكون سبباً للمغفرة لمن تقدم من الأمم قبلهم، أو يأتي بعدهم، فإن قواعد الشرع تأبى ذلك، وإن سعى كلّ أحد لا يتعداه لغفران غيره إلاّ أن يكون له فيه تسبب وهنا لا تسبب، فلا يتعدى، فيتعين أن يكون المراد فإنه كان للأوابين منكم غفوراً؛ فإن شرط الجزاء لا يترتب جزاؤه على غيره، وهذه قاعدة لغوية وشرعية، أما إذا لم يكن شرطاً أمكن جريان الخلاف.
وعطف الخاص على العام لا يقتضي تخصيصه خلافاً للحنفية كقوله عليه الصلاة والسلام «لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده» فإن الثاني خاص بالحربي، فيكون الأوّل كذلك عندهم.
القاعدة: أن الأدنى يقتل بالأعلى وبمساويه، وهل يقتل الأعلى بالأدنى؟ هو موضع الخلاف؛ فقوله عليه الصلاة والسلام: «لا يقتل مؤمن بكافر» عام في جميع الكفار فيتناول الذمي فلا يقتل به المسلم إذا قتله عمداً عندنا خلافاً للحنفية. قالوا أول الحديث لكم وآخره عليكم فإن ذا العهد يقتل بالذمي، لأن الذمي أعلى منه لأن عقد الذمة يدون للذرية، والمعاهدة لا تدوم، والأدنى يقتل بالأعلى، فيقتل المعاهد بالذمي، فيتعين أن الذي لا يقتل به المعاهد هو الكافر الحربي، والقاعدة أن العطف يقتضي التسوية، والمعطوف لا يقتل بالحربي، فيكون المعطوف عليه لا يقتل بالحربي عملاً بالتسوية، فيكون الكافر المذكور أول الحديث المراد به الحربي، وهو متفق عليه، إنّما النزاع في الذمي فدخل العام المعطوف عليه التخصيص بسبب عطف الخاص عليه.
_________
(1) 25 الإسراء.

(1/222)


والجواب عنه من أربعة أوجه: أحدها أنا نمنع أن الواو عاطفة بل هي للاستئناف فلا يلزم التشريك. وثانيها: سلمناه لكن العطف يقتضي التشريك في أصل الحكم دون توابعه. قالا لنحاة فإذا قال مررت بزيد قائماً وعمرو، لا يلزم أن يكون مررت بعمرو أيضاً قائماً بل في أصل المرور فقط، كذلك جميع التوابع من المتعلقات وغيرها يقتضي العطف هنا لأنه لا يقتل، أما تعيين من يقتل به الآخر فلا؛ لأن الذي يقتل به من توابع الحكم. وثالثها: لا نسلم أن معنى قوله عليه الصالة والسلام «ولا ذو عهد في عهده» معناه بحربي بل معناه التنبيه على السببيّة فإن (في) قد تقدم في باب الحروف تقرير أنها تكون للسببية فيصير معنى
الكلام ولا يقتل ذو عهد بسبب المعاهدة، فيفيدنا ذلك أن المعاهدة سبب يوجب العصمة، وليس المراد أنه يقتص منه ولا غير ذلك. ورابعها: أن معناه نفي الوهم عمن يعتقد أن عقد المعاهدة كعقد الذمة يدون؛ فنبه - عليه السلام - أن أثر ذلك العهد إنّما هو في ذلك الزمان خاصة لا يتعداه لما بعده وتكون (في) على هذا للظرفية، وهو الغالب عليها.
وتعقيب العام باستثناء أو صفة أو حكم لا يتأتى إلاّ في البعض لا يخصصه عند القاضي عبد الجبار، وقيل يخصصه وقبل بالوقف، واختاره الإمام، فالاستثناء كقوله تعالى: «لا جناح عليكم إن طلقتم النساء» إلى قوله «إلاّ أن يعفون» (1) فإنه خاص بالرشيدات، والصفة كقوله تعالى: «يا أيها النبي إذا طلقتم النساء» إلى قوله: «لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا» (2) أي الرغبة في الرجعة، والحكم كقوله تعالى: «وبعولتهن أحق بردهن» (3) فإن خاص بالرجعيات، فتبقى العمومات على عمومها، وتختص هذه الأمور بمن يصلح له. ولنا في سائر صور النزاع أن الأصل بقاء العموم على عمومه فمهما أمكن ذلك لا يعدل عنه تغليباً للأصل.
_________
(1) 236 - 237 البقرة.
(2) 1 الطلاق.
(3) 228 البقرة.

(1/223)


حجة التخصيص: أن الأصل الاتحاد في الضمائر وجميع ما يعود عليه الحكم المتأخر أي شيء كان، وليس يحصل الاتحاد إلاّ إذا اعتقدنا أن المراد بالسابق ما يصلح لذلك الحكم اللاحق، ومتى كان كذلك لزم التخصيص جزماً.
حجة الوقف تعارض الأدلة، وإنما جعلنا الرغبة في الرجعة صفة، وذلك لأنها أمر حقيقي وحالة من أحوال النفوس، والحكم الشرعي قائم بذات الله تعالى لا بنفس الخلق، فهي حينئذ صفة، وأما كون الزوج أولى بالرجعة، فذلك حكم شرعي يرجع إلى الإباحة، والتحريم على غيره أن يمنعه من ذلك، وهذه أحكام شرعية، بخلاف الرغبة، فلذلك اختلفت المثل.
الفصل الخامس فيما يجوز التخصيص إليه
ويجوز عندنا للواحد، هذا إطلاق القاضي عبد الوهاب، وأما الإمام فحكى إجماع أهل السنة على ذلك في (من) و (ما) ونحوهما قال: وقال القفال: ويجب إبقاء أقل الجمع في الجموع المعرفة، وقيل يجوز إلى الواحد فيها. وقال أبو الحسين البصري لا بد من الكثرة في الكل إلاّ إذا استعمله الواحد المعظم نفسه.
أما (من) و (ما) فلفظهما مفرد، ولذلك يجوز أن يعود الضمير عليهما مفرداً كقوله تعالى: «فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره» (1) ومن يعش عن ذكر الرحمن
_________
(1) 7 الزلزلة.

(1/224)


نقيض له شيطاناً» (1) ، «والسماء وما بناها» (2) ، «ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم» (3) فلذلك حسن أن يراد بهما الواحد ويجوز التخصيص إليه ويخالفهما الجمع المعرف كلفظ المشركين، فإن المحافظة على صيغة الجمع تمنع من إرادة الواحد والتخصيص إليه، وحجة الجواز إلى الواحد في الجموع أيضاً أن الجمع قد يطلق ويراد به الواحد كما في قوله تعالى: «الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم» (4) قيل الجامع أبو سفيان وهو المراد بالناس، وكذلك في قوله تعالى: «أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله» (5) قيل المحسود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو المراد بالناس.
واحتج أبو الحسين أن البيت إذا كان ملآن من الرمان وقال أكلت ما في البيت من الرمان وأراد واحدة أن ذلك يقبح، فحينئذ لا بد من كثرة يحسن إطلاق العموم لأجلها، وإلا امتنع. وقد نص إمام الحرمين وغيره على استقباح تخصيص الحنفية قوله عليه الصلاة والسلام «أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل» بالمكاتبة أو بالأمة وأن هذا التخصيص في غاية البعد، ولا يجوز لغة، مع أن نوع المكاتبة أو الأمة أفراده غير متناهية، فكيف إذا لم يبق إلاّ فرد واحد فكان أشد بالقبح.
وأما المعظم نفسه فهو في معنى الجمع العظيم فقد وُزن أبو بكر بالأمة، فرجح، ووُزن عمر بالأمة فرجح - رضي الله عنهما - فكيف بالأنبياء عليه الصلاة والسلام، فكيف بسيد المرسلين - صلى الله عليه وسلم -.
_________
(1) 36 الزخرف.
(2) 5 الشمس.
(3) 3، 4 الكافرون.
(4) 173 آل عمران.
(5) 54 النساء.

(1/225)


الفصل السادس في حكمه بعد التخصيص
لنا وللشافعية والحنفية في كونه بعد التخصيص حقيقة أو مجازاً قولان، واختار الإمام وأبو الحسين التفصيل بين تخصيصه بقرينة مستقلة عقلية أو سمعية، فيكون مجازاً، وبين تخصصه بالمتصل كالشرط والاستثناء والصفة، فيكون حقيقة.
الحق أنه مجاز لأنه وضع للعموم واستعمل في الخصوص، فقد استعمل في غير موضوعه، واللفظ المستعمل في غير موضوعه مجاز إجماعاً.
حجة كونه حقيقة أن لفظ المشركين إذا أريد به الحربيون فقط، والحربيون مشركون قطعاً، فيكون اللفظ مستعملاً في موضوعه فيكون حقيقة.
جوابه: أن الحربيين مشركون، غير أن صيغة العموم لم توضع لمفهوم مشركين، بل وضعت للكلية التي هي كلّ فرد فرد، وبحيث لا يبقى فرد، وهذه الكليّة لم يستعمل اللفظ فيها بل في غيرها فيكون مجازاً.
حجة التفريق أن القرينة المتصلة لا تستقل بنفسها، فإن الاستثناء والشرط والصفة لفظ لا يستقل. وقاعدة العرب أن اللفظ المستقل إذا تعقبه ما لا يستقل بنفسه صيره مع اللفظ المستقل كلفظة واحدة، ولا يثبتون للأول حكماً إلاّ به فيكون المجموع حقيقة فيما بقي بعد التخصيص، حتى قال القاضي وجماعة إن الثمانية لها عبارتان (1) ثمانية، وعشرة إلاّ اثنين، وتقول الحنفية الاستثناء تكلُّم بالباقي بعد الثُّنيا ومرادهم ما ذكرناه، وأما التخصيص المنفصل كنهيه عليه الصلاة والسلام عن قتل النسوان والصبيان بعد الأمر بقتل المشركين، ونهيه عليه الصلاة والسلام
_________
(1) في الأصل: لها امتياران.

(1/226)


عن بيع الغرر، بعد قوله تعالى: «وأحل الله البيع» (1) ، فهذه لأجل استقلاله يستحيل جعله مع الأصل كلاماً واحداً، فيتعين أن اللفظ الأوّل استعمل في غير موضوعه فيكون مجازاً.
وجوابه: أن جعل غير المستقل مع الأصل كلاماً واحداً غير صحيح، فإن (إلاّ) للإخراج إجماعاً واشتقاقاً من الثَّنْي وهو فرع وجود شيء يرجع ويثنى عليه ومتى جعل الجميع كلاماً واحداً بطل هذا كله، بل الحق أن كلام أخرج منه كلام. نعم معنى الكلام الأوّل لا يستقر حتى بتعقبه السكوت، وعدم استقرار حكم الأوّل لا يصيره جزء كلام، ثم إن هذا إذا سلم يتأتى في المخصص اللفظي المتصل وهو لا يتأتى في المخصص العقلي؛ فإن العقلي مستقل.
وهو حجة عند الجميع إلاّ عيسى بن أبان وأبا ثور، وخصص الكرخي التمسك به إذا خصص بالمتصل، وقال الإمام فخر الدين إن خصص تخصيصاً إجمالياً نحو قوله هذا العام مخصوص فليس بحجة، وما أظنه يخالف في هذا التفصيل.
لنا أنه وضع للاستغراق ولم يستعمل فيه فيكون مجازاً ومقتضياً لثبوت الحكم لكل أفراده، وليس البعض شرطاً في البعض، وإلا لزم الدور، فيبقى حجة في الباقي بعد التخصيص.
كونه حجة هو الصحيح، وقد قيل ما من عام إلاّ وقد خص إلاّ قوله تعالى: «والله بكل شيء عليم» وروى ذلك عن ابن عباس، وحينئذ لا يبقى حجة في جميع عمومات الكتاب والسنة، وذلك تعطيل للاستدلال.
حجة عيسى بن أبان بأن حقيقة اللفظ هي الاستغراق وهو غير مراد، وإذا خرجت الحقيقة عن الإرادة لم يتعين مجاز يحمل اللفظ عليه، إذ ليس البعض أولى من البعض، فيتعين الإجمال، فسقط الاستدلال.
_________
(1) 173 آل عمران.

(1/227)


جوابه: هذا إنّما يصح إذا كان المجاز أجنبياً عن الحقيقة كالأسد إذا لم تكن الحقيقة فيه مراده، وليس بعض الشجعان، أولى من بعض فيتعين الإجمال، أما المجاز في العام المخصوص فمتعين لأنه ليس أجنبياً بل محرر التجوز ما بقي بعد التخصيص فلا إجمال.
وأما مستند الكرخي في التفصيل، فهو بناء منه على أن المخصص المتصل يصير مع الأصل حقيقة فيما بقي، والحقيقة حجة والمخصص المنفصل لا يمكن جعله حقيقة مع الأصل، فيتعين المجاز والإجمال.
وجوابه ما تقدم.
وأما تفصيل الإمام فخر الدين فليس تفصيلاً في التحقيق بل راجع إلى القول بأنه حجة، فإن الله تعالى إذا قال: «اقتلوا المشركين» ثم قال حرمت عليكم طائفة معينة لا أعينها لكم، فلا شك أنا نتوقف عن القتل قطعاً حتى نعلم الواجب قتله من المحرم قتله، وهذا لا يتصور فيه الخلاف، بل هذا تفريع على أنه بعد التخصيص حجة إلاّ أن يكون التخصيص إجمالياً.
وقولي ليس البعض شرطاً في البعض هذه حجة الإمام في المحصول، وبسطها أن ثبوت الحكم في البعض الباقي بعد التخصيص إما أن يتوقف على ثبوته في البعض المخرج أو لا يتوقف، فإن لم يتوقف كان حجة فيما بقي، فإن عدم ما لا يتوقف عليه لا يضر، وإن كان ثبوت الحكم في هذا البعض متوقفاً على ثبوته في ذلك البعض فإما أن يكون ثبوته في ذلك البعض أيضاً متوقفاً على ثبوته في هذا البعض أو لا، فإن حصل التوقف من الطرفين لزم الدور، وإن حصل من أحد الطرفين دون الآخر لزم الترجيح من غير مرجح وهو محال.
فيتعين أن الحق في هذا التقسيم أن ثبوت الحكم في هذا البعض الباقي غير متوقف على ثبوته في ذلك البعض، وحينئذ يكون حجة، وهو المطلوب. وهذه الحجة ضعيفة بسبب أننا نختار التوقف من الطرفين.

(1/228)


قوله: يلزم الدور.
قلنا: لا نسلم وذلك أن التوقف قسمان: توقف معي وتوقف سبقي، والدور في الثاني دون الأوّل، فإن الإنسان إذا قال لغيره لا أخرج من هذا البيت حتى تخرج معي. وقال الآخر له: وأنا لا أخرج من هذا البيت حتى تخرج أنت معي، خرجا معاً وصدقا معاً فيما
التزماه، ولا دور ولا محال، أما إذا قال لا أخرج من هذا البيت حتى تخرج أنت قبلي، وقال الآخر وأنا لا أخرج حتى تخرج أنت قبلي، فإنهما إذا صدقا في ذلك يستحيل خروج واحد منهما للزوم الدور في توقف خروج كلّ واحد منهما على خروج الآخر توقفاً سبقياً، فعلمنا أن الدور إنّما يلزم من التوقف السبقي دون التوقف المعي، والتوقف في العموم بين بعضيه على وجه المعية دون السبقية، فلا دور.
فالحق حينئذ أن نقول اللفظ اقتضى ثبوت الحكم في جميع الأفراد على وجه واحد ونسبة واحدة، والأصل عدم الشرطية فلا يضر خروج البعض عن الإرادة ويكون اللفظ حجة الباقي، فهذه طريقة حسنة وسالمة عن المنوع.
والقياس على الصورة المخصوصة إذا علمت جائز عند القاضي إسماعيل منا، وجماعة من الفقهاء.
إذا خرجت صورة من العموم بخصص كما خرج بيع البر متفاضلاً من قوله تعالى: «وأحل الله البيع» (1) فهل يجوز قياس الأرز عليها بجامع القوت أو الطعم؟ خلاف.
حجة المنع أن الصورة المخصوصة على خلاف قاعدة العموم، فلو قسنا عليها أفضى ذلك إلى تكثير مخالفة الأصل وكثرة التخصيص، وهو غير جائز.
حجة الجواز أن قواعد الشرائع مراعاة الحكم والمصالح، فإذا استثنى الشارع
_________
(1) 275 البقرة.

(1/229)


صورة لحكمة ثم وجد صورة أخرى تشاركها في تلك الحكمة وجب ثبوت ذلك الحكم، فيها تكثيراً للحكم والمصالح، وهذا مراعاة التخصيص؛ فإن إبقاء العموم على عمومه اعتبار لغوي، ومراعاة المصالح اعتبار شرعي، والشرعي مقدم على اللغة.
الفصل السابع في الفرق بينه وبين النسخ والاستثناء
إن التخصيص لا يكون إلاّ فيما يتناوله اللفظ بخلاف النسخ، ولا يكون إلاّ قبل العمل بخلاف النسخ، فإنه يجوز قبل العمل وبعده، ويجوز نسخ شريعة بأخرى ولا يجوز تخصيصها بها.
والاستثناء مع المستثنى منه كاللفظ الواحدة الدالة على شيء واحد ولا يثبت بالقرينة الحالية ولا يجوز تأخيره، بخلاف التخصيص. وقال الإمام والتخصيص كالجنس للثلاثة لاشتراكها في الإخراج، فالتخصيص والاستثناء إخراج الأشخاص، والنسخ إخراج الأزمان.
كون التخصيص لا يكون إلاّ فيما يتناوله اللفظ، اصطلاح وعبارة، لا معنى من المعاني، فإن القرائن أو غيرها إذا دلت على ثبوت حكم لعدة صور، فإذا خرجت منها صورة من الصور كان ذلك كإخراج صور من صورة تناولها صيغ العموم، غير أنه لا يسمى تخصيصاً اصطلاحاً، ويدخل النسخ فيما يتناوله اللفظ أو ثبت بالقرائن أو الفعل أو الإقرار، ولا يكون التخصيص إلاّ قبل العمل، لأن التخصيص بيان المراد، فإذا عمل به صار الجميع مراداً، فلا يبقى الإخراج بعد ذلك إلاّ نسخاً وإبطالاً لما هو مراد، والتخصيص هو إخراج غير المراد عن المراد، وبعد العمل بالجميع يتعذر ذلك، ويجوز النسخ أيضاً قبل العمل إذا علم أن مدلول اللفظ مراد.
وأما نسخ شريعة بشريعة فذلك لم يقع بين الشرائع في القواعد الكليّة، ولا في العقائد

(1/230)


الدينية، بل في بعض الفروع، مع جوازه في الجميع عقلاً، غير أنه لم يقع، وإذا قيل إن شريعتنا ناسخة لجميع الشرائع؛ فمعناه في بعض الفروع خاصة، فالشريعة الناسخة هي المتأخرة.
وأما تخصيص شريعة بشريعة فيمتنع. أما السابقة باللاحقة فلأن التخصيص بيان وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فلو خصصت المتأخرة المتقدمة لتأخر البيان عن وقت الحاجة، وأما تخصيص المتأخرة بالمتقدمة فلأن عادة الله أن لا يُنزل على قوم ولا يخاطبهم إلاّ بما يتعلق بهم خاصة، فلو نزل في المتقدمة ما يكون بياناً وتخصيصاً للمتأخرة لخوطبوا بما لا يتعلق بهم، وهذا كله عادة ربانية لا وجوب عقلي.
وأما الاستثناء فهو مع اللفظ المستثنى منه كاللفظة الواحدة الدالة على معنى واحد وهو ما بقي. قال القاضي أبو بكر: فالخمسة لها عبارتان: خمسة، وعشرة إلاّ خمسة. واعلم أن تعليلهم ذلك بأن الاستثناء غير مستقل بنفسه يلزم أن يكون التخصيص بالصفة والشرط والغاية كذلك، ولم يذكروه إلاّ في الاستثناء، وهنا فرق آخر يخص الاستثناء وهو أنه يخرج من العدد فتقول له عشرة إلاّ اثنين، وغير الاستثناء لا يمكن ذلك فيه، ولذلك لا يثبت بالقرينة الحالية، فإنه لو قال له عشرة إلاّ اثنين ودلت القرينة على أنه أراد خمسة، لزم أن يكون لفظ العشرة المجاز لا يجوز في لفظ العدد، والتخصيص يجوز بالقرينة، لأن التخصيص مجاز، والمجاز يدخل في العمومات إجماعاً، ولا يجوز أن يتأخر الاستثناء، فلا يقول له عشرة وبعد يوم يقول إلاّ اثنين، لأنه فضْلة في الكلام لا يستقل بنفسه وما لا يستقل بنفسه لا ينفرد بالنطق، وكذلك الشرط والغاية والصفة.
وأما التخصيص بالمخصص المنفصل فلا يمكن جعله مع العام المخصوص لفظاً واحداً؛ لاستقلال كلّ واحد منهما بنفسه. والصواب أن تقول الإخراج جنس للثلاثة: التخصيص والنسخ والاستثناء، فإن الشيء لا يكون جنساً لنفسه، فإذا قلنا التخصيص جنسي للثلاثة لزم أن يكون التخصيص جنساً لنفسه وهو محال. وقولنا التخصيص والاستثناء

(1/231)


إخراج للأشخاص, النسخ إخراج للأزمان ليس على إطلاقه، بل قد يكون التخصيص في الأزمان والاستثناء، فتقول ما رأيته طول الدهر أو جميع الأيام ومرادك عمرك خاصة، وتستثني أيامنا فتقول إلاّ يوم الجمعة مثلاً، وهذا بحسب ما يقع فيه العموم، فإن وقع في الأزمان وقع جواز التخصيص والاستثناء فيها، أو في الأشخاص وقع جواز التخصيص والاستثناء فيها، وقد يقع النسخ ولا إخراج زمان كنسخ الفعلة الواحدة التي لا يتعدد زمانها فلا يقبل الإخراج لأن الإخراج من الشيء فرع تعدده بين المخرج والمخرج عنه كأمر إبراهيم بذبح إسحق (1) عليه الصلاة والسلام ولم يخرج منه بعض الأزمنة وبقي بعضها، بل بطل المأمور به بعض الأزمنة، وخرج المستقبل بعدها بالنسخ.
_________
(1) ويقال إنه إسماعيل.

(1/232)