شرح تنقيح الفصول

الباب الثاني عشر في المجمل والمبين
وفيه ستة فصول
الفصل الأول في معنى ألفاظه
فالمبين هو اللفظ الدال بالوضع على معنى إما بالأصالة وإما بعد البيان. والمجمل هو الدائر بين احتمالين فصاعداً إما بسبب الوضع وهو المشترك أو من جهة العقل كالمتواطئ بالنسبة إلى جزئياته، فكل مشترك مجمل وليس كلّ مجمل مشتركاً، وقد يكون اللفظ مبيناً من وجه كقوله تعالى: «وآتوا حقه يوم حصاده» (1) فإنه ميز في الحق مجمل في مقداره.
تقدم أن المجمل مشتق من الجمل الذي هو الخلط في الباب الأوّل، والمبين من البيان، يقال لفظ مبين إذا كان نصاً في معناه، بمعنى أن واضعه ومستعمله وصلاه إلى أقصى غايات البيان، فهو مبين، فإذا كان اللفظ مجملاً، ثم بين قيل له مبين. كما تقول إن آية الزكاة مجملة في مقدارها، يقول عليه الصلاة والسلام: «فيما سقت السماء العشر» . ولفظ الفرس الآن لا إجمال فيه من جهة الاشتراك، بل يفهم جنسه عند سماع لفظه، فلو وضع لنوع آخر من الحيوان صار مشتركاً مجملاً لا يفهم منه خصوص الفرس إلاّ بقرينة، فهذا هو الإجمال الناشئ عن الوضع، وأما الناشئ عن العقل فإن اللفظ الموضوع لمعنى كليّ كالإنسان إذا قلنا في الدار إنسان كان هذا اللفظ دائراً بين جزئيات الإنسان، بحيث لا يتعين له منهم فرد،
_________
(1) 196 البقرة.

(1/274)


فهذا الإجمال إنّما جاءنا من جهة تجويز العقل لا من جهة الوضع، فالمجمل أعم من المشترك عموماً مطلقاً، وكانت آية الزكاة مجملة في المقادير لاحتمالها أن هذا الحق هو النصف أو الربع أو الثمن، أو غير ذلك من المقادير.
والمؤول هو الاحتمال الخفي مع الظاهر، مأخوذ من المآل إما لأنه يؤول إلى الظهور بسبب الدليل العاضد، أو لأن العقل يؤول إلى فهمه بعد فهم الظاهر، وهذا وصف له بما هو موصوف به في الوقت الحاضر، فيكون حقيقة، وفي الأوّل باعتبار ما يصير إليه وقد لا يقع فيكون مجازاً مطلقاً.
العقل إذا سمع اللفظ أول ما يسبق إليه الظاهر الذي هو الحقيقة مثلاً ثم ينتقل بعد ذلك إلى احتمال المجاز، ويجوز أن يكون مراداًن فهذا قد وقع للفظ، أما الدليل العاضد
فلم يقع بعدن وقد لا يقع البتة، فيكون الأوّل إطلاقاً بما هو موصوف به في الحال فيكون حقيقة كما تقدم في المشتق، والثاني باعتبار ما يقبله في الاستقبال، فيكون مجازاً.
الفصل الثاني فيما ليس مجملاً
إضافة التحليل والتحريم إلى الأعيان ليس مجملاً فيحمل على ما يدل العرف عليه في كلّ عين خلافاً للكرخي، فيحمل في الميتة على الأكل وفي الأمهات على وجوه الاستمتاع.
يقول الكرخي الحقائق غير مكتسبة إيجاداً ولا إعداماً، وما ليس مكتسباً لا يتعلق به تكليف، لأنا إنّما نكلف بما نقدر على كسبه من أفعالنا، وأما الأعيان فلا تُكتسب لنا، فيكون المنطوق به وهو الأعيان غير مراده، والمراد غير منطوق به، فليس تقدير بعض ما يصلح أولى من البعض فيتعين الإجمال.
والجماعة يجيبونه ويقولون: العرف عين المقصود بالتكليف في كلّ عين، حتى صار ذلك المركب في العرف موضوعاً لذلك الفعل المخاطب به في تلك العين،

(1/275)


والمركب حينئذ حقيقة عرفية، ولا يحتاج في هذه الحقيقة العرفية إلى تقدير شيء غير المتبادر من هذه الحقيقة، وقد تقدم أن النقل كما يحصل في المفردات يحصل في المركبات، ويكون ذلك المركب حقيقة عرفية مجازاً لغوياً، وهو مجاز في التركيب اشتهر حتى صار حقيقة عرفية، فإذا قال عليه الصلاة والسلام: «ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم» فُهم من الأوّل السفك، ومن الثاني الأكل، ومن الثالث التكلم والسب، وكذلك يفهم من الخمر الشرب، ومن الثوب اللبس، ومن الخنزير الأكل، وهلم جرا، فلا إجمال.
وإذا دخل النفي على الفعل كان مجملاً عند أبي عبد الله البصري، نحو قوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة إلاّ بطهور» ، «ولا نكاح إلاّ بولي» لدوران النفي بين الكمال والصحة، وقيل إن كان المسمى شرعياً انتفى ولا إجمال، وقولنا هذه صلاة فاسدة محمول على اللغوي وإن كان حقيقياً نحو الخطأ والنسيان، وله حكم واحد وانتفى، ولا إجمال، وإلا تحقق الإجمال، وهو قول الأكثرين.
كما ورد «لا صلاة إلاّ بطهور» ولزم نفي الإجزاء ورد «لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد» ولزم نفي الكمال فقط، فصار النفي متردداً بين هذين الأمرين، فلزم الإجمال. وقال غيره: لا يكون مجملاً بل يحمل على نفي الصحة، لأن ظاهر النفي يقتضي نفي الذات
الواقعة في الماضي، لأن معنى - لا صلاة - معناه إذا وقعت صلاة تكون باطلة، فالنفي في المعنى إنّما توجه لواقعن لكن نفي الواقع محال، فيتعين النفي لما هو أقرب لنفي الحقيقة وهو نفي الإجزاء، لأن المشابهة بين نفي الإجزاء ونفي الذات أشد من المشابهة بين نفي الكمال ونفي الذات، فإن منفي الصحة معدوم شرعاً بخلاف منفي الكمال، والمشابهة إحدى علاقات المجاز، وإذا كان الشبه أقوى كان المصير إليه أولى؛ ولأن النفي عام في الذات والصفات؛ أما في الذات فلظاهر اللفظ، وأما في الصفات فلأن الدال على نفي الذات مطابقة دال على نفي الصفات التزاماً، وإذا ثبت العموم في الجميع - وقد

(1/276)


أجمعنا على تخصيصه بالذات - يبقى على نفي العموم في الصفات كلها، فينتفي الإجزاء وهو المطلوب.
وأما الفرق بين أن يكون المسمى شرعياً فينتفي، لأن الحقيقة الشرعية ليست واقعة في صورة النهي أو النفي فأمكن أن يضاف النفي إليها، ويقول صاحب الشرع هذه الحقيقة منفية لفقدان هذا الشرط، وأما الحقيقي كالخطأ والنسيان لأنهما ليسا باصطلاح الشرائع وأوضاعها بل الفعل بوصف كونه خطأ أو نسياناً أمر معقول فرض وجود الشرائع أم لا، فلذلك قلنا هو أمر حقيقي، فهذا إذا فرض وقوعه تعذر نفيه؛ فقوله عليه الصلاة والسلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» معناه إذا وقعت منهم هذه الأمور لا إثم عليهم فيه، فما دخل النفي إلاّ على واقع، والواقع يستحيل نفيه، فيتعين العدول إلى حكمه، فإذا كان واحداً انتفى، ومثلوه بالشهادة على الزنا ليس لها صحة وكمال بل الجواز فقط. وإذا قال عليه الصلاة والسلام: «لا شهادة لمقذوف» ، معناه لا تجوز، وليس للشهادة حكم آخر سوى الجواز، وأما ماله حكمان كالفعل الخطأ، فإن فيه الإثم وإلزام الضمان؛ فيتعين الإجمال حتى يدل دليل على أن المراد الإثم دون الضمان، وإذا فرعنا على هذه الطريقة وقلتم إن المسمى الشرعي ينتفي، فكيف يقول صاحب الشرع هذه صلاة فاسدة، فنجمع بين قولنا صلاة وفاسدة، مع أن الصلاة الفرض انتفت.
وأجابوا عن هذا بأن المراد الصلاة اللغوية، بمعنى أن الصلاة اللغوية التي هي الدعاء فسدت عن أن تكون شرعية، فهذا معنى فسادها، وإلا فالدعاء في نفسه لم يفسد حيث يقضى بالفساد لعدم الطهارة مثلاً، فهذا جواب عن سؤال مقدر.

(1/277)


الفصل الثالث في أقسامه
المبين إما بنفسه كالنصوص والظواهر وإما بالتعليل كفحوى الخطاب أي باللزوم كالدالة على الشروط والأسباب والبيان، إما بالقول أو بالفعل كالكتابة أو الإشارة، أو
بالدليل العقلي أو بالترك، فيعلم أنه ليس واجباً، أو بالسكوت بعد السؤال، فيعلم عدم الحكم الشرعي في تلك الحادثة.
وجه التعليل أن الله تعالى لما قال: «ولا تقل لهما أف» (1) فهمنا أن علة هذا النهي هو العقوق، ونحن نعلم أن العقوق بالضرب أشد فنأخذ من تحريم التأفيف تحريم الضرب بطريق الأولى، فصار تحريم الضرب بيناً بسبب التعليل، وقد تقدم بيان تسميته فحوى الخطاب.
والشرط المدلول عليه التزاماً كما تقول فلان صلى صلاة شرعية، يفهم بطريق اللزوم حصول الطهارة والسترة وغيرهما مِمّا هو متعين في الصلاة.
والدلالة على الأسباب كدلالة الاحتراق على وجود النار، والري على وجود الماء، والشبع على وجود الأكل دلالة ظاهرة.
مثال البيان بالقول قوله عليه الصلاة والسلام: «فيما سقت السماء العشر» في بيان قوله تعالى: «وآتوا حقه يوم حصاده» (2) .
مثال البيان بالفعل تبيينه عليه الصلاة السلام قوله تعالى: «ولله على الناس حج البيت» (3) بحجه عليه الصلاة والسلام. وبيان جبريل عليه الصلاة والسلام لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوقات الصلاة، بأن صلى به، وبيانه عليه الصلاة والسلام الشهر وقال: «الشهر هكذا وهكذا وهكذا وقبض أصبعه في الثالثة» أي تسع وعشرون.
_________
(1) 23 الإسراء.
(2) 141 الأنعام.
(3) 97 الأنعام.

(1/278)


ومثال البيان بالإشارة ما جاء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أشار بيده نحو المشرق وقال: «الفتنة من هنا من حيث يطلع قرن الشيطان» . وأشار عليه الصلاة والسلام إلى الحرير في يده وقال: «هذا حرام على ذكور أمتي» .
ومثال البيان بالكتابة تبيينه عليه الصالة والسلام نصب الزكاة في كتاب عمر ابن حزم وغيره من الكتب في مقادير الزكاة ومقادير الديات.
ومثال البيان بالدليل العقلي تبيين قوله تعالى: «الله خالق كلّ شيء» (1) بما دل العقل عليه من استحالة تعلق هذا النص بذات الله تعالى وصفاته، ومنه التخصيص بالقياس فإنه من أدلة العقل.
ومثال البيان بالترك ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن الشرب قائماً ثم فعله وترك الجلوس، فدل ذلك على أن الجلوس في الشرب ليس واجباً بل مندوباً، وكتركه عليه الصلاة والسلام للجلسة الوسطى لما قام من اثنتين، فيعلم عدم وجوبها.
ومثال السكوت بعد السؤال قصة عويمر العجلاني لما سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شأن
امرأته وأنه رأى منها ما يسوءه فلم يجبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسكت، فدل ذلك على عدم حكم اللعان، ثم نزلت آية اللعان، فقال عليه الصلاة والسلام: «قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآن» ولاعن بينهما.
فائدة: يمكن البيان من الله تعالى بالقول، وأما بالفعل والكتابة والإشارة، فقد صرح الإمام فخر الدين على استحالة البيان بها على الله تعالى، لأنه ذكره في الإشارة بمعنى يشمل الثلاثة، وفيما قاله نظر، بسبب أنه صرح بإمكان البيان بالقول من الله تعالى، والقول يستحيل عليه تعالى، لأن المراد به الحروف والأصوات الدالة على الكلام النفسيّ، وهذا يستحيل قيامه بذات الله تعالى، وإنما يبين به إذا خلقه في بعض مخلوقاته كجبريل عليه الصلاة والسلام، أو مَن
_________
(1) 16 الرعد.

(1/279)


شاء الله تعالى، وأما الكلام النفساني الذي هو قائم بذات الله تعالى فلا يمكن البيان به، لأن الصفات الربانية كلها مدلولة دلالة، وإنما يدلنا ما ظهر لحواسنا، والذي يظهر لحواسنا في مجاري العادات إنّما هو اللساني لا النفساني، وإذا تعذر تجويز البيان على الله تعالى بالبيان القولي وأنه يخلقه في بعض عباده، جاز أن يبين تعالى بالفعل والكتابة والإشارة، بأن يخلق هذه الأمور في بعض مخلوقاته، ويقع بياناً كما قلناه في الأصوات، ولا فرق بينهما إلاّ في الصورة.
الفصل الرابع في حكمه
يجوز ورود المجمل في كتاب الله تعالى وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - خلافاً لقوم، لنا أن آية الجمعة وآية الزكاة مجملتان وهما في كتاب الله تعالى.
حجة المنع أن الوارد في الكتاب والسنة إما أن يكون المراد به الإفهام أو لا، والثاني عبث، والأول إما أن يكون مع ذلك المجمل بيانه أو لا، والأول تطويل بغير فائدة، وإن لم يكن معه بيانه جاز أن لا يصل إلى السامع فيلزم التضليل وكل ذلك مفسدة ينزه الكتاب والسنة عنها.
وجوابه: أن عندنا يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، ولا يستحيل عليه تعالى إيقاع المكلف في الجهالة والضلالة، وأما على أصول المعتزلة ونحن أيضاً - إذا سلمنا ذلك - فلنا أن نقول في ذلك فوائد ومصالح: إحداها امتحان العبد حتى يظهر تثبته وفحصه عن البيان فيعظم أجره، أو إعراضه فيظهر تخلفه وعصيانه. وثانيتها: إذا ورد المجمل وورد بعده البيان ازداد شرف العبد بكثرة مخاطبة سيده له. وثالثتها: أن الحروف إذا كثرت الأجور لقوله عليه الصلاة والسلام: «من قرأ القرآن وأعربه كان له بكل حرف عشر حسنات» ،
ويعظم أيضاً أجر الحفظ والضبط والكتابة وغير ذلك. فهذه مصالح تترتب على الإجمال.

(1/280)


ويجوز البيان بالفعل خلافاً لقوم. وإذا تطابق القول والفعل فالبين القول والفعل مؤكد له، وإن تنافيا نحو قوله عليه الصلاة والسلام: «من قرن الحج إلى العمرة فليطف لهما طوافاً واحداً» وطاف عليه الصلاة والسلام لهما طوافين، فالقول مقدم لكونه يدل بنفسه، ويجوز بيان المعلوم بالمظنون خلافاً للكرخي.
حجة المنع من البيان بالفعل أن الفعل تطويل، وتأخير البيان مع إمكانه وتيسره عبث من المبين وهو على الله تعالى محال.
جوابه: أن البيان بالقول قد يكون أطول من البيان بالفعل كالأشياء الغامضة الدقيقة فإنَّها لا تظهر بألفاظ كثيرة وتكرار كثير جداً، ومجرد الفعل مرة واحدة يصير ضرورية عند من شاهد ذلك الفعل، سلمنا أنه أطول لكنه قد وقع كما تقدم بيانه في الحج وغيره، ثم ما فيه من التطويل معارض بأن البيان بالفعل أقوى عند النفس وأثبتن ولذلك أن الصنائع تنضبط بمشاهدة الأفعال دون الأقوال المجردة، كالتجارة والصياغة وغيرهما، وإنما قدم القول على الفعل في البيان، لأن القول يدل بمجرد الوضع، والفعل لا يدل إلاّ بالقول الدال على كونه دليلاً، كما دل قوله تعالى: «وما آتاكم الرسول فخذوه» (1) ولولا ذلك لم يكن الفعل حجة، وما هو حجة بنفسه أولى مِمّا لا يكون حجة بنفسه.
وتمثيلي بكونه عليه الصالة والسالم طاف لهما طوافين، مبني على أنه عليه الصلاة والسلام كان في حجة الوداع متمتعاً، وهي مسألة ثلاثة أقوال: قيل متمتعاً، وقيل مفرداً، وقيل قارناً. والإمام فخر الدين مثَّل بذلك فاتبعته.
وأما بيان المعلوم بالمظنون فيريد به بيان المتواتر بالآحاد، وذلك كما بين عليه الصلاة والسلام: «فيما سقت السماء العشر» ومعنى ذلك أن الحديث إذا بلغ إلينا جاز أن نعتمد عليه في البيان، وإن
_________
(1) 7 الحشر.

(1/281)


كان بالنسبة إلينا مظنوناً لأنه في زماننا خبر واحد، وأما من سمع هذا الحديث من الصحابة - رضوان الله عليهم - فهو عندهم مقطوع لا مظنون، لأن التواتر لا يزيد على المباشرة.
حجة الكرخي أن المظنون يقصر على المقطوع فلا يعتمد عليه، وكذلك تخصيص القرآن بالقياس.
وجوابه: أن المقطوع في سنده قد يكون مظنوناً في دلالته، كما تقول في عمومات القرآن مقطوعة السند مظنونة الدلالة، فقد اشتركا في الظن، والبيان أخص، والأخص أقوى من الأعم، فما قدمنا إلاّ ما هو أقوى لا ما هو أضعف.
الفصل الخامس في ورقته
من جوز تكليف ما لا يطاق، جوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وتأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة جائز عندنا، سواء كان الخطاب ظاهراً وأريد خلافه، أو لم يكن، خلافاً لجمهور المعتزلة إلاّ في النسخ، لأنهم وافقوا على النسخ، ومنع أبو الحسين منه فيما له ظاهر أريد خلافه، وأوجب تقديم البيان الإجمالي دون التفصيلي، بأن يقول هذا الظاهر ليس مراداً.
مثال هذه المسألة أن يقول الله تعالى في رمضان: «فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين» (1) فرمضان وقت الخطاب، وأول صفر هو وقت الحاجة، فلا يجوز تأخيره عن المحرم إلاّ إذا جوزنا تكليف ما لا يطلق، ومذهبنا لا يحيله، بهذا العام الخصوص، وأن لا نقتل النسوان والرهبان وغيرهم، ومع ذلك نقتلهم لعدم البيان، ونأثم لعدم الإذن في نفس الأمر في قتلهم، فيكون هذا تكليف ما لا يطاق، وهو أن نأثم بما لا نعلمه.
_________
(1) 196 البقرة.

(1/282)


وأما تأخيره عن وقت الخطاب ففيه ثلاثة مذاهب: الجواز لنا، والمنع للمعتزلة، والتفصيل لأبي الحسين كما تقدم.
ومنشأ الخلاف بين الفرق أن الجهل مفسدة إجماعاً، فعند المعتزلة أن الله تعالى يستحيل عليه أن يوقع عبده في مفسدة فلا يؤخر البيان عن وقت الخطاب نفياً لهذه المفسدة، وعندنا لله تعالى أن يفعل في ملكه ما يشاء، وأبو الحسين توسط بيننا وبين فرقة المعتزلة فقال: الجهل قسمان بسيط ومركب، فالبسيط أن يجهل ويعلم أنه جاهل، كما إذا سئلنا عن عدد شعر رؤوسنا فإنا نقول نحن نعلم جهلنا به. والمركب: كاعتقاد الكفار والضلال، فإنهم جهلوا الحق في نفس الأمر، وجهلوا أنهم جاهلون، بل يعتقدون أنهم على بصيرة، والمركب أعظم مفسدة م البسيط لتركبه من جهلين، وهو يمكن سلامة البشر منه، أما البسيط فيستحيل خلو الخلق عنه لأن الإحاطة صفة لله وحده.
فيقول أبو الحسين أجوز على الله تعالى إيقاع عباده في الجهل البسيط لخفته دون المركب لفرط قبحه فيما لا ظاهر له، كاللفظ المشترك إذا تأخر فيه البيان إلى وقت الحاجة، إنّما يقع العبد في الجهل البسيط، وهو كونه لا يعلم مراد الله تعالى وذلك لا ضرر فيه لأنه من لوازم العبد، وأما ماله ظاهر كالعموم الذي أريد به الخصوص، فمتى تأخر البيان فيه عن وقت الخطاب اعتقد السامع أنه مراد الله تعالى، مع أنه ليس مراده، وذلك جهل مركب أحيله
على الله تعالى، فيجب تعجيل البيان الإجمالي؛ بأن يقول الله تعالى الظاهر ليس مراد، فيذهب الجهل المركب ويبقى البسيط فقط، فتأخر بيانه التفصيلي إلى وقت الحاجة، فهذا هو منشأ الخلاف بين الفرق.
وأما اتفاقهم معنا على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة عن وقت الخطاب، فسببه أن النسخ يستحيل أن يقع إلاّ هكذا، فإنه لو تعجل بيانه وقت الخطاب، ويقول الله تعالى: سأنسخ عنكم وقوف والواحد للعشرة بعد سنة، صار هذا الخطاب مُغيًّا بهذه الغاية وينتهي بوصوله إلى غايته، ولا يكون

(1/283)


نسخاً، كما ينتهي الصوم بوصوله إلى غايته التي هي الليل، ولا يكون نسخاً لقوله تعالى: «ثم أتموا الصيام إلى الليل» (1) فمن ضرورة النسخ تأخير البيان عنه، لذلك وافقوا عليه، وغيره من البيانات ليس ذلك من ضروراته، وبهذا الفرق يجيبون إذا قسنا نحن تأخير غيره من البيانات عليه، وألزمناهم إياه. حجتنا في جواز تأخير البيان مطلقاً قوله تعالى: «فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن عليا بيانه» (2) وكلمة (ثم) للتراخي، فدل ذلك على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة.
وثانيها: قوله تعالى في قصة بقرة بني إسرائيل: «إنها بقرة لا فارض - إنها بقرة صفراء - إنها بقرة ذلول» (3) فتصرف إلى ما أمروا به من ذبح البقرة، وهم لم يؤمروا إلاّ ببقرة منكرة والمراد بها معينة، فيحتاج إلى البيان، ويدل على أنها كانت معينة قوله تعالى: «إنها إنها» والأصل في الضمائر أن تعود إلى الظواهر، فهذا بيان تأخَّر عن وقت الخطاب، بل عن وقت الحاجة، لأنهم كانوا محتاجين إلى ذبح البقرة ليتبين أمر القتيل، وترتفع الفتنة التي كانت بينهم، والخصومات في أمر القتيل.
وثالثها: قوله تعالى: «إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون» (4) لما نزلت قال ابن الزبعري لأخصمن اليوم محمداً، فقال يا محمد قد عبدت الملائكة وعبد المسيح، فنزل قوله تعالى: «إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون» (5) فهذا تخصيص وبيان لم يتقدم فيه بيان إجمالي ولا تفصيلي.
ورابعها: أن الله تعالى يأمر المكلفين بأمر في المستقبل، مع أن بعضهم قد يموت قبل الفعل، فذلك الشخص لم يكن مراداً بالعموم ولم يتقدم بيانه، احتج أبو الحسين بأن العموم خطاب لما في الحال، فإن لم يقصد إفهامنا في الحال فهو عبث، وإن
_________
(1) 187 البقرة.
(2) 18- 19 القيامة.
(3) 68-71 البقرة.
(4) 98 الأنبياء.
(5) 101 الأنبياء.

(1/284)


قصدوا إفهامنا الظاهر فهو إغراء بالجهل وهو لا يجوز على الله تعالى، أو غير الظاهر وهو تكليف ما لا يطاق، لأن فهم غير الظاهر بغير بيان محال، فتعين تقديم الباين الإجمالي خلوصاً من الجهل.
الثاني لو جوزنا تأخير البيان مطلقاً فيما له ظاهر لم يكن لنا طريق إلى معرفة وقت الفعل، فإنه إذا قال افعلوا غداً فيجوز أن يريد بقوله غدا ما بعده مجازاً، ولم يبينه لنا فلا نثق بوقت البتة.
والجواب عن الأوّل: أن الجهل لا يستحيل امتحان الله تعالى الخلق به على أصولنا. وعن الثاني: أنا نكتفي بالظاهر المفيد للظن طابق أم لا، فإن ادعيت أنه لا بد من اليقين فممنوع.
ويجوز له عليه الصلاة والسلام تأخير ما يوحى إليه إلى وقت الحاجة، لنا قوله تعالى: «فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه» (1) وكلمة ثم للتراخي فيجوز التأخير وهو المطلوب.
لنا أن التبليغ يقتضي المصلحة فقد تكون في التعجيل وقد تكون في التأخير، ألا ترى أنه عليه الصلاة والسلام لو أوحي إليه بقتال أهل مكة بعد سنة كانت المصلحة تتقاضى تأخير ذلك إلى وقته لئلا يستعد العدو للقتال ويعظم الفساد، ولذلك أنه عليه السلام لما أراد قتالهم قطع الأخبار عنهم وسد الطرق حتى دهمهم، وكان ذلك أيسر لأخذهم وقهرهم، فكذلك يجوز تأخير الإبلاغ في بعض الصور بل يجب.
الفصل السادس في المبين
يجب البيان لمن أريد إفهامه فقط، ثم المطلوب قد يكون عِلماً فقط كالعلماء بالنسبة إلى الحيضن أو عملاً فقط كالنساء بالنسبة إلى أحكام الحيض
_________
(1) 18- 19 القيامة.

(1/285)


وفقهه، أو العلم والعمل كالعلماء بالنسبة إلى أحوالهم، أو لا علم ولا عمل كالعلماء بالنسبة إلى الكتب السالفة، ويجوز إسماع المخصوص بالعقل من غير التنبيه عليه وفاقاً، والمخصوص بالسمع بدون بيان مخصص عن النظام وأبي هاشم، واختاره الإمام، خلافاً للجبائي وأبي الهذيل.
من لم يرد إفهامه لا حاجة إلى البيان له، ولا يمتنع، وقولهم إن النساء أردن بالعمل فقط، غير متجه بسبب أن النساء أيضاً مأمورات بتحصيل العلم، فكذلك من سلف هذه الأمة عائشة رضي الله عنها التي قال فيها عليه الصلاة والسلام: «خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء» وكانت من سادات الفقهاء، وكذلك جماعة من نساء التابعين وغيرهم، غاية ما في الباب أن التقصير عن رتبة العلم ظهر في النساء أكثر، وذلك لا يبعثنا على أن نقول المطلوب منهن العمل فقط، بل الواقع اليوم ذلك، إما أنه حكم الله فغير ظاهر، وقولي أو العلم
والعمل كالعلماء بالنسبة إلى أحوالهم مبني على أن المجتهد لا يجوز له أن يقلد، بل يحصل العلم بتلك المسألة، ويعمل بمقتضى ما حصل له، فإن قلت المتحصل بالاجتهاد إنّما هو الظن فقط، فلم سميته علماً؟ قلت تقدم أن الحكم الشرعي معلوم من جهة انعقاد الإجماع، على أن ما غلب على ظنه فهو حكم الله في حقه وحق من قلده إذا حصل له سببه، فصار الحاصل له علماً بهذا الطريق، وأما الكتب السالفة فلم يؤمر بتعلمها لعدم صحتها وأدباً مع الأفضل منها وهو القرآن، ولا العمل بما فيها من حيث هو فيها لعدم الصحة، وإنما نعمل بما فيها من حيث دلالة شرعنا على اعتباره من العقائد والقواعد الكليّة وغيرها من الفروع، أما من جهة تلك الكتب فلا وإنما حصل الاتفاق على إسماع المخصوص بالفعل، من جهة تلك الكتب فلا وإنما حصل الاتفاق على إسماع المخصوص بالفعل، من جهة أن العقل حاصل في الطباع فيحصل البيان بالتأمل، فتأخره إنّما هو من جهة تفريط المكلف، لا من جهة المتكلم، وأما المخصص السمعي فليس في الطباع، والمكلف إذاً لم يسمعه معذور.
سؤال: ما الفرق بين هذه المسألة، وبين مسألة تأخير البيان دون وقت الخطاب المتقدمة.

(1/286)


جوابه: أن تلك المسألة مفروضة فيما إذا لم ينزل البيان البتة، وهذه إذا نزل، ولكن سمعه البعض فقط والذي لم يسمعه هو صورة النزاع.
لنا أن أحدنا قد يسمع العموم ولا يسمع مخصصه، وذلك معلوم من الدين بالضرورة، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن في تبليغه يطوف على القبائل حتى يستوعب أنواعهم وأشخاصهم بكل حكم، بل يبلغ من حيث الجملة، ويقول: «بلغوا عني ولو آية، فرحم الله أمرءا سمع مقالتي فوعاها فأدها كما سمعها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» ، وهذا يدل على أنه كان يُسمع البعض فقط، وذلك معلوم من حاله عليه الصلاة والسلام بالضرورة، فيكون أكثر المكلفين لم يسمع المخصص وهو صورة النزاع.
احتج الخصم بأن ذلك يفضي إلى اعتقاد السامع الحكم على خلاف ما هو عليه، وأنه مفسدة لا تليق بالحكيم.
وجوابه: أن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.

(1/287)