شرح تنقيح الفصول الباب الثالث عشر في
فعله عليه الصلاة والسلام
وفيه ثلاثة فصول
الفصل الأول في دلالة فعله عليه
الصلاة والسلام
إن كان بياناً لمجمل فحكمه حكم ذلك المجمل في الوجوب أو الندب
أو الإباحة وإن لم يكن بياناً وفيه قربة فهو عند مالك رحمه
الله تعالى والأبهري وابن القصار والباجي وبعض الشافعية
للوجوب، وعند الشافعي للندب، وعند القاضي أبي بكر هذا والإمام
وأكثر المعتزلة على الوقف، وأما ما لا قربة فيه كالأكل والشرب
فهو عند الباجي للإباحة، وعند بعض أصحابنا للندب وأما إقراره
عن الفعل فبدل على جوازه.
البيان يعد كأنه منطوق به في ذلك المبين، فبيانه عليه الصلاة
والسلام الحج الوارد في كتاب الله تعالى يعد منطوقاً به في آية
الحج، كأن الله تعالى قال: «ولله على الناس حج البيت» (1) على
هذه الصفة، وكذلك بيانه عليه السلام لآية الجمعة فعلها بخطبة
وجماعة وجامع وغير ذلك، فصار معنى الآية: «يا أيها الذين آمنوا
إذا نودي للصلاة» التي هذا شأنها «من يوم الجمعة فاسعوا إلى
ذكر الله» (2) وإذا كان البيان يعد منطوقاً به في المبين كان
حكمه حكم ذلك المبين إن واجباً فواجب أو مندوباً فمندوب أو
مباحاً فمباح، وحجة الوجوب القرآن والإجماع والمعقول.
أما القرآن فقوله تعالى: «وما أتاكم الرسول فخذوه» (3) والفعل
ما أتى به، فوجب أخذه، لأن ظاهر الأمر الوجوب وقوله تعالى: «إن
كنتم تحبون الله
_________
(1) 97 الأنعام.
(2) 9 الجمعة.
(3) 7 الحشر.
(1/288)
فاتبعوني يحببكم الله» (1) جعل تعالى اتباع
نبيه من لوازم محبتنا الله، ومحبتنا الله تعالى واجبة، ولازم
الواجب واجب؛ فاتباعه عليه الصلاة والسلام واجب، وقوله تعالى
«فاتبعوه» والأمر للوجوب.
وأما الإجماع فلأن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لما
أخبرتهم عائشة رضي الله عنها بأنه عليه الصلاة والسلام اغتسل
من النقاء الختانين رجعوا إلى ذلك بعد اختلافهم، وذلك يدل على
أنه عندهم محمول على الوجوب، ولأنهم واصلوا الصيام لما واصل،
وخلعوا نعالهم لما خلع عليه الصلاة والسلام، وكانوا شديدين
الاتباع له عليه الصلاة والسلام في أفعاله.
وأما المعقول فمن وجهين: الأوّل أن فعله عليه الصلاة والسلام
يجوز أن يكون المراد به الوجوب، ويجوز أن لا يكون، والاحتياط
يقتضي حمله على الوجوب. الثاني: أن تعظيم رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - واجب إجماعاً والتزام مثل فعله على سبيل الوجوب من
تعظيمه فيتعين.
حجة الندب أن الأدلة السابقة دلت على رجحان الفعل، والأصل الذي
هو براءة الذمة دل على عدم الحرج فيجمع بين المدركين، فيحمل
على الندب.
ووجوابه، أن ذلك الأصل ارتفع بظواهر الأوامر الدالة على
الوجوب.
حجة الوقف، تعارض المدارك ولأنه عليه الصلاة والسلام قد يفعل
ما هو خاص به وما يعمه مع أمته والأصل التوقف حتى يرد البيان.
والجواب عن الأوّل قد ذهب التعارض بما تقدم من الجواب عن أدلة
الخصوم وعن الثاني: أن الأصل استواؤه عليه الصلاة والسلام مع
أمته في الأحكام إلاّ ما دل الدليل عليه حجة الإباحة فيما لا
قربة فيه، أن الأصل أن الطلب يتبع المصالح والقربات ولا قربة
فلا مصلحة فتعنيت الإباحة لعصمته عليه الصلاة والسلام من
المنهي عنه، أو لأنه خلاف ظاهر حالة عليه الصلاة والسلام. حجة
الندب:
_________
(1) 31 آل عمران.
(1/289)
ظواهر الأوامر الدالة على جميع ما أتى به
كما تقدمت، ومثال إقراره عليه الصلاة والسلام الدال على الجواز
أنه عليه الصلاة والسلام مر في مخرجه للهجرة براعٍ، فذهب أبو
بكر الصديق رضي الله عنه فأتاه منه بلبن فلم ينكر ذلك عليه،
فدل ذلك على جوازه، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
بُعث والناس يأكلون أنواعاً من الملاذ من لحوم الأنعام
والفواكه وغيرها، وكذلك المراكب وغيرها ولم ينكرها عليه الصلاة
والسلام، فدل ذلك على إباحتها إلاّ ما دل الدليل على منعه.
الفصل الثاني في اتباعه عليه
الصلاة والسلام
قال جماهير الفقهاء والمعتزلة يجب اتباعه عليه الصلاة والسلام
في فعله إذا علم وجهه وجب اتباعه في ذلك الوجه، لقوله تعالى:
«وما أتاكم الرسول فخذوه» (1) والأمر ظاهر في الوجوب، وقال أبو
علي بن خلاد به في العبادات فقط، وإذا وجب التأسي به وجب معرفة
وجه فعله من الوجوب والندب والإباحة، إما بالنص أو بالتخيير
بينه وبين غيره فيما (2) علم فيه وجهه فيسوى به، أي بما يدل
على نفي قسمين فيتعين الثالث، أو بالاستصحاب في عدم الوجوب، أو
بالقربة على عدم الإباحة فيحصل الندب، وبالقضاء على الوجوب
وبالإدامة مع الترك في بعض الأوقات على الندب وبعلامة الوجوب
عليه كالأذان، ويكون جزاء لسبب الوجوب كالنذر.
معنى يجب اتباعه في ذلك الوجه أي إن فعله على وجه الندب وجب
علينا أن نفعله على وجه الندب، أو فعله عليه الصلاة والسلام
على وجه الوجوب وجب علينا أن نفعله كذلك، إذ لو خالفناه في
النية ذهب الاتباع، ووجه
_________
(1) 7 الحشر.
(2) في نسخة مِمّا.
(1/290)
تخصيص الوجوب بالعبادات قوله عليه الصلاة
والسلام: «خذوا عني مناسككم وصلوا كما رأيتموني أصلي» وظاهر
المنطوق الوجوب، لأنه أمر، ومفهومه أن غير المذكور لا يجب وهو
المطلوب، ولحديث بريرة قالت: «يا رسول أفأمر منك أم تشفع، قال
إنّما أنا أشفع، فقالت لا حاجة لي به» ، فدل على أن ما عدا
الأمر الجازم لا يجب الاتباع فيه، وأصل التخيير التسوية، فإذا
خير بين ذلك الفعل وبين ما علم وجوبه كان ذلك الفعل واجباً، أو
خير بينه وبين مندوب كان ذلك الفعل مندوباً، أو بينه وبين ما
معلمت إباحته كان ذلك الفعل مباحاً.
سؤال: قال بعض فضلاء العصر: قول العلماء التخيير يقتضي التسوية
يشكل بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى ليلة الإسراء
بقدحين أحدهما لبن والآخر خمر، وخُير بينهما فاختار اللبن،
فقال له جبريل عليه الصلاة والسلام لو اخترت الخمر لغويت أمتك،
فالخمر موجب للإغواء، ومع ذلك خير بينة وبين موجب الهداية وهو
اللبن، وموجب الهداية مأمور به، وموجب الغي والإغواء منهي عنه،
فقد وجد التخيير لا مع الاستواء في الأحكام.
جوابه: أن الحكم الشرعي كان في القدحين واحداً، وهو الإباحة،
غير أن الشيئين قد يستويان في الحكم الشرعي، فيكون اختلافهما
بحسب العاقبة لا بحسب الحكم الشرعي، كما انعقد الإجماع على
جواز بناء ما شئنا من الدور وشراء ما شئنا من الدواب وزواج ما
شئنا من النساء، ومع ذلك إذا عدل الإنسان عن إحدى هذه إلى
غيرها أمكن أن يقول له صاحب الشرع: لو اخترت تلك الدار أو
الدابة أو المرأة لكانت مشئومة، كما جاء في الحديث، وإن كان
للعلماء فيه خلاف في تأويله، غير أن ذلك لا يمنع التمثيل، فإنه
يكفي الإمكان، فما يتوقع في العواقب لا يغير الحكم الشرعي،
كذلك القدحان حكمهما الإباحة، وأخبر جبريل عليه الصلاة والسلام
أن الله تعالى ربط بأحدهما حسن العاقبة وبالآخر سوء العاقبة
وذلك غير الأحكام الشرعية.
نعم: لو قال جبريل عليه السلام لو اخترت الخمر لأثمت أشكل. أما
العواقب
(1/291)
فلا تناقض تقدم الإباحة، وقولي أو ما يدل
على نفي قسمين فيتعين الثالث، معناه أن فعل النبي - صلى الله
عليه وسلم - لا يقع في فعله محرم لعصمته، ولا مكروه لظاهر
حاله، فلم يبق إلاّ الوجوب والندب والإباحة فهي ثلاثة، إذا دل
الدليل على نفي اثنين منها تعين الثالث لضرورة الحصر، فإذا
ذهبت الإباحة والندب تعين الوجوب، أو الوجوب والإباحة تعين
الندب، أو الندب والوجوب تعينت الإباحة.
ومعنى الاستصحاب في عدم الوجوب وبالقربة على عدم الإباحة أي من
وجوه الاستدلال أن نقول هذه قربة لأنها صلاة أو صيام مثلاً،
فلا تكون مباحة، لأن الصلاة في هذه الأبواب عدم الإباحة،
والأصل أيضاً عدم الوجوب فيتعين الندب وبالقضاء على الوجوب،
هذا على مذهب مالك أن النوافل لا تقضى. وأما على قاعدة الشافعي
رضي الله عنه أن العيدين يقضيان، وكل نافلة لها سبب، فلا يقدر
أن يقول هذا الفعل قضاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فيكون واجباً، لأن القضاء ليس من خصائص الوجوب، وإنما يأتي ذلك
على مذهب مالك ومن قال بقوله، وأما كون الأذان لا يكون غلا في
واجب فظاهر، فإذا بلغنا أنه عليه الصلاة والسلام أمر بالأذان
للصلاة، قلنا: تلك الصلاة واجبة لوجود خصيصية الوجوب، وإذا
بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نذر صلاة أو غيرها
من المندوبات وفعلها قضينا على ذلك الفعل بالوجوب، لأن فعل
المنذور واجب، فهذه وجوه من الاستدلال على حكم أفعاله عليه
الصلاة والسلام إذا وقعت.
تفريع: إذا وجب الاتباع وعارض قوله عليه الصلاة والسلام فعله
فإن تقدم القول وتأخر الفعل نسخ الفعل القول كان القول خاصاً
به أو بأمته أو عمهما، وإن تأخر القول وهو عام له ولأمته أسقط
حكم الفعل عن الكل، وإن اختص بأحدهما خصصه على عموم حكم الفعل،
وإن تعقب الفعل القول من غير تراخ وعم القول له ولأمته عليه
الصلاة والسلام وخصصه عن عموم القول، وإن اختص بالأمة ترجح
القول لاستغنائه بدلالته عن غيره من غير عكس، فإن عارض الفعل
الفعل بأن يقر شخصاً على فعل فعل هو عليه الصلاة والسلام ضده
فيعلم خروجه عنه.
(1/292)
[أو يفعل ضده فيعلم خروجه عنه] (1) أو يفعل
ضده في وقت آخر يعلم لزوم مثله له فيه فيكون نسخاً للأول.
القاعدة: أن الدليلين الشرعيين إذا تعارضا، وتأخر أحدهما عن
الآخر كان المتأخر ينسخ المتقدم، ولذلك قلنا ينسخ الفعل القول
إذا تأخر، فإن كان خاصاً به والفعل أيضاً منه
حصل النسخ، والخاص بأمته يتقرر حكمه سابقاً ثم يأتي الفعل بعد
ذلك، ويجب تأسيهم به عليه الصلاة والسلام فيتعلق بهم حكم الفعل
أيضاً، وهو مناقض لما تقدم في حقهم ن القول، فنسخ اللاحق
الاسبق في حقهم أيضاً، لأنه القاعدة، وكذلك إذا عمهما، وحكم
الفعل أيضاً يعمهما. أما هو عليه الصلاة والسلام فلأنه المباشر
له، ولا يباشر شيئاً إلاّ وهو يجوز له عليه الصلاة والسلام
الإقدام عليه، وأما هم فلوجوب تأسيهم به واندراجهم في كلّ ما
شرع له عليه الصلاة والسلام إلاّ ما دل الدليل عليه، فيتناقض
ما تقدم في حقهم من دلالة القول، فينسخ الفعل المتأخر القول
المتقدم عنه وعنهم.
وبهذا يظهر أن القول إذا تأخر عن الفعل نسخه بطريق الأولى إذا
عمهما، لأنه أقوى من الفعل والأقوى أولى بالنسخ للأضعف من غير
عكس، فإن اختص القول بأحدهما أخرجه عن عموم حكم الفعل، وبقي
الآخر على حكم الفعل لعدم معارضة القول له في ذلك القسم،
والنسخ لا بد فيه من التعارض، فإن تعقب الفعل القول من غير
تراخ تعذر في هذه الصورة النسخ، لأن من شرط النسخ التراخي على
ما سيأتي، وإذا تعذر النسخ لم يبق إلاّ التخصيص، فإذا كان النص
عاماً له ولأمته عليه الصلاة والسلام خصصه هو عليه الصلاة
والسلام عن عموم ذلك القول، فيعلم أنه عليه الصلاة والسلام غير
مراد بالعموم، وإن اختص القول بالأمة، والفعل أيضاً شأنه أن
يترتب في حقهم حكمه وهما متناقضان متعارضان فيقدم القول على
الفعل لقوته، لأن دلالته بالوضع فلا يفتقر إلى دليل يدل على
أنه حجة بخلاف الفعل، لولا قوله تعالى: «وما آتاكم الرسول
فخذوه» (2) ونحوه تعذر علينا نصيب الفعل دليلاً، وإذا فعل عليه
الصلاة والسلام فعلاً وعلم بالدليل أن غيره مكلف بذلك الفعل،
ثم يرى
_________
(1) ما بين المعكوفين زائد في المطبوعة، ولا حاجة إليه.
(2) 23 الإسراء.
(1/293)
غيره يفعل ضد ذلك الفعل، فيعلم أن هذا
الفاعل لهذا الضد خارج عن حكم ذلك الفعل المتقدم، ويبقى غير
هذا الذي أقره عليه الصلاة والسلام يلزمه فعل في وقت فيراه قد
فعل ضد ذلك الفعل في ذلك الوقت، فيعلم نسخه عنه عليه الصلاة
والسلام في ذلك الوقت وما بعده، فهذا هو معنى المسالتين
الأخيرتين في هذا الفصل.
فائدة: قال الإمام فخر الدين: التخصيص والنسخ في الحقيقة ما
لحق إلاّ الدليل الدال على وجوب التأسي، فإنه يتناول هذه
الصورة وقد خرجت منه.
سؤال: قال العلماء من شرط الناسخ أن يكون مساوياً للمنسوخ أو
أقوىن والفعل أضعف، فكيف جعلوه في هذا المقام ناسخاً مع ضعفه
عن المنسوخ؟
جوابه: أن المراد بالمساواة المساواة في السند لا غير، وذلك لا
يناقض كونه فعلاً،
وكذلك يجب أن يفصل في هذه المسألة فيقال القول والفعل إن كانا
في زمانه عليه الصلاة والسلام وبحضرته فقد استويا، وإن نقلا
إلينا تعين أن لا يقضى بالنسخ غلا بعد الاستواء في نقل كلّ
واحد منهما، فإن كان أحدهما متواتراً والآخر آحاداً منعنا نسخ
الآحاد للمتواتر، هذا تلخيص هذا الموضع ولا بد منه.
فائدة: قال الشيخ سيف الدين في الأحكام: إذا كان الفعل لا
يتكرر بل يختص بذلك الزمان بأن يقول عقبيه أو تراخياً عنه: هذا
الفعل لا يفعل بعد هذا الوقت، ثم يرد القول بعد ذلك لا يحصل
تعارض البتة.
فائدة: قال الشيخ سيف الدين أيضاً: أفعاله عليه الصلاة والسلام
لا يمكن وقوع التعارض بينها حتى ينسخ بعضها بعضاً أو يخصصه،
فإن الفعلين إن تماثلا وكانا في وقتين كالظهر اليوم والظهر
غداً فلا تعارض، وإن اختلفا وأمكن اجتماعهما كالصلاة والصوم
فلا تعارض، وإن تعذر اجتماعهما لتناقض أحكامهما كما لو صام في
وقت وأكل في مثل ذلك الوقت لم يتعارضا أيضاً، لأن الفعل لا
عموم له حتى يدل على لزوم ذلك الفعل في جميع الأوقات فيناقضه
ضده إذا وقع في تلك الأوقات الآخر، فإن دل دليل من خارج غير
الفعل على أن مثل ذلك الفعل يتكرر
(1/294)
فالتخصيص والتعارض إنّما عرض لذلك الدليل
الدال على التكرار، وكذلك إقراره عليه الصلاة والسلام لبعض
الأمة على الترك مع القدرة على الفعل، والعلم به لا يكون
مخصصاً وناسخاً إلا للدليل الدال على تكرار ذلك الفعل.
قال الغزالي في المستصفى لا يتصور التعارض بين الأفعال بما هي
أفعال البتة، لأن الفعلين لا يجتمعان في زمان واحد البتة، وإذا
تعدد الزمان فلا تعارض، بخلاف الأقوال لها صيغ تتناول بها
الأزمان، فيتصور فيها التعارض.
فائدة: مهما أمكن التخصيص لا يعدل عنه إلى النسخ، لأنه أقرب
إلى الأصل من جهة أنه بيان المراد فليس فيه إبطال مراد، بخلاف
النسخ فيه إبطال المراد.
الفصل الثالث في تأسيه عليه الصلاة
والسلام
مذهب مالك وأصحابه أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن متعبداً
بشرع من قبله قبل نبوته، وقيل كان متعبداً، لنا أنه لو كان
كذلك لافتخرت به أهل تلك الملة وليس فليس.
هذه المسألة المختار فيها أن نقول متعبداً بكسر الباء على أنه
اسم فاعل ومعناه أنه عليه الصلاة واللام كان كما قيل في سيرته
عليه الصلاة والسلام ينظر إلى ما عليه الناس
فيجدهم على طريق لا يليق بصانع العالم، فكان يخرج إلى غار حراء
يتحنث أي يتعبد، ويقترح أشياء لقربها من المناسب في اعتقاده.
ويخشى أن لا تكون مناسبة لصانع العالم، فكان من ذلك في ألم
عظيم، حتى بعثه الله تعالى وعلمه جميع طرق الهداية وأوضح له
جميع مسالك الضلالة، زال عنه ذلك الثقل الذي كان يجده، وهو
المراد بقوله: «ووضعنا عنك وزرك، الذي أنقض ظهرك» (1) على
_________
(1) 2-3 الشرح.
(1/295)
أحد التأويلات، أي النقل الذي كنت تجده من
أمر العبادة والتقرب، فهذه يتجه، وأما بفتحها فيقتضي أن يكون
الله تعالى تعبده بشريعة سابقة، وذلك يأباه ما يحكونه من
الخلاف هل كان متعبداً بشريعة موسى أو عيسى فإن شرائع بني
إسرائيل لم تتعدهم إلى بني إسماعيل، بل كان نبي من موسى وعيسى
عليهما الصلاة والسلام وغيرهما إنّما كان يبعثه الله إلى قومه
فلا يتعدى رسالته قومه، حتى نقل المفسرون أن موسى عليه الصلاة
والسلام لم يبعث إلى أهل مصر بل لبني إسرائيل ليأخذهم من القبط
من يد فرعون، ولذلك لما عدى البحر لم يرجع إلى مصر ليقيم فيها
شريعته، بل عرض عنهم إعراضاً كلياً لما أخذ بني إسرائيل،
وحينئذ لا يكون الله تعبد محمداً - صلى الله عليه وسلم -
بشرعهما البتة فبطل قولنا إنه كان متعبداً بفتح الباء بل
بكسرها كما تقدم، وهذا بخلافه بعد نبوته عليه الصلاة والسلام،
فإنه تعبده تعالى بشرع من قبله على الخلاف في ذلك بنصوص وردت
عليه في الكتاب العزيز فيستقيم الفتح (1) فيما بعد النبوة دون
ما قبلها.
ومما يؤكد أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن متعبداً قبل نبوته
بشرع أحد، أن تلك الشرائع كانت دائرة لم يبق فيها ما يمكن
التمسك به لأهلها فضلاًَ عن غيرهم، وهو عليه الصلاة والسلام لم
يكن يسافر ولا يخالط أهل الكتاب حتى يطلع على أحوالهم، فيبعد
مع هذا غاية البعد أن يعبد الله تعالى على تلك الشرائع، ولأنه
لو كان يتعبد بذلك لكان يراجع علماء تلك الشرائع، ولو وقع ذلك
لاشتهر.
احتج القائلون بذلك بأنه عليه الصلاة والسلام تناولته رسالة من
قبله فيكون متعبداً بها، ولأنه عليه الصلاة والسلام كان يأكل
اللحم ويركب البهيمة ويطوف بالبيت، وهذه أمور كلها لا بد له
فيها من مستند، ولا مستند إلاّ الشرائع المتقدمة، خصوصاً على
قول الأشاعرة: أن العقل لا يفيد الأحكام وإنما تفيدها الشرائع.
والجواب عن الأوّل: أن ما ذكرتموه إنّما يتأتى في إسماعيل
وإبراهيم ونوح عليهم
الصلاة والسلام، لأنه عليه الصلاة والسلام من ذريتهم، أما موسى
وعيسى عليهما الصلاة والسلام فلا، وقد وقع الخلاف في هؤلاء
كلهم أيهم كان يعبد الله
_________
(1) 23 الإسراء.
(1/296)
تعالى على شريعته، فأما هؤلاء الثلاثة فقد
درست شرائعهم، وما درس لا يكون حجة ولا يعبد الله تعالى به.
وعن الثاني: أن هذه الأفعال وإن قلنا بأن الأحكام لا تثبت إلاّ
بالشرع فإنَّها يستصحب فيها براءة الذمة من التبعات، فإن
الإنسان ولد بريئاً من جميع الحقوق، فهو يستصحب هذه الحالة،
حتى يدل دليل على شغل الذمة بحق، فهذا يكفي من مباشرته عليه
الصلاة والسلام لهذه الأفعال.
فائدة: تقدم أن الصواب كسر الباء وهو الذي يظهر لي، غير أنه
وقع لسيف الدين في هذه المسالة كلام يدل على خلاف ذلك، وهو إن
قال غير مستعبد في العقد أن يعلم الله تعالى مصلحة شخص معين في
تكليفه شريعة من قبله، وهذا كلام يقتضي فتح الباء، فانظر في
ذلك لنفسك، وأما غيره فلم أر له تعرضاً لذلك، فما أدري هل أغتر
بالموضع فأطلق هذه العبارة في الاستدلال، أو هو أصل يعتمد
عليه.
فائدة: حكاية الخلاف في أنه عليه الصلاة والسلام كان متعبداً
قبل نبوته بشرع من قبله، يجب أن يكون مخصوصاً بالفروع دون
الأصول، فإن قواعد العقائد كان الناس في الجاهلية مكلفين بها
إجماعاً، ولذلك انعقد الإجماع على أن موتاهم في النار يعذبون
على كفرهم، ولولا التكليف لما عذبوا، فهو عليه الصلاة والسلام
متعبد بشرع من قبله بفتح الباء بمعنى مكلف هذا لا مرية فيه،
إنّما الخلاف في الفروع خاصة؛ فعموم إطلاق العلماء مخصوص
بالإجماع.
قائدة: قال المازري والأبياري في شرح البرهان، والإمام، وإمام
الحرمين: هذه المسألة لا تظهر لها ثمرة في الأصول ولا في
الفروع البتة، بل تجري مجرى التواريخ المنقولة ولا ينبني عليهم
حكم في الشريعة البتة، وكذلك قاله التبريزي.
وأما بعد نبوته عليه الصلاة والسلام، فمذهب مالك وجمهور أصحابه
وأصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة رحمة الله عليهم أنه متعبد
بشرع من قبله، وكذلك أمته، إلاّ ما خصصه الدليل ومنع من ذلك
القاضي أبو بكر
(1/297)
وغيره، لنا قوله تعالى: «أولئك الذين هدى
الله فبهداهم اقتده» (1) وهو عام لأنه اسم جنس أضيف.
شرائع من قبلنا ثلاثة أقسام: منها ما لا يعلم إلاّ بقولهم، كما
ف لفظ ما بأيديهم من التوراة أن الله حرم عليهم لحم الجدي بلبن
أمه يشيرون إلى المضيرة (2) ومنه ما علم بشرعنا
وأمرنا نحن أيضاً به وزشرع لنا، فهذا أيضاً لا خلاف أنه شرع
لنا كقوله تعالى: «كتب عليكم القصاص في القتلى» (3) مع قوله
تعالى: «وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس» (4) الآية.
وثالثها أن يدل شرعنا على أن فعلاً كان مشروعاً لهم ولم يقل
لنا شرع لكم أنتم أيضاً، فهذا هو محل الخلاف لا غير كقوله
تعالى حكاية عن المادي الذي بعثه يوسف عليه الصلاة والسلام:
«ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم» (5) فيستدل به على جواز
الضمانن وكذلك قوله تعالى حكاية عن شعيب وموسى عليهما الصلاة
والسلام: «إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني
ثماني حجج، فإن أتممت عشراً فمن عندك» (6) الآية. يستدل بها
على جواز الإجازة، بناء على أن شرع من قبلنا شرع لنا أم لا،
أما ما لا يثبت إلاّ بأقوالهم فلا يكون حجة لعدم صحة السند
وانقطاعه. ورواية الكفار لو وقعت لم تقبل، فكيف وليس من أهل
الكتاب من يروي التوراة فضلاً عن غيرها؟! وما لا رواية فيه كيف
يخطر بالبال أنه حجة.
وبهذا يظهر لك بطلان من استدل في هذه المسألة بقصة رجم
اليهوديين، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتمد على
أخبار ابن صوريا أن فيها الرجم، ووجد فيها كما قال، فإن من
أسلم من اليهود لم يكن له رواية في التوراة، وإنما كانوا
يعملون فيها ما رأوه، أما أن لهم سنداً متصلاً بموسى عليه
الصلاة والسلام كما فعله المسلمون في كتب الحديث فلا، وهذا
_________
(1) 90 الأنعام.
(2) طعام يطبخ باللبن الحامض ودقيق ولحم وأبزار.
(3) 178 البقرة.
(4) 45 المائدة.
(5) 72 يوسف.
(6) 27 القصص.
(1/298)
معلوم بالضرورة لمن اطلع على أحوال القوم
وكاشفهم وعرف ما هم عليه، بل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يجب أن يعتقد أنه إنّما اعتمد في رجم اليهوديين على وجي جاءه
من قبل الله تعالى، وأما غير ذلك فلا يجوز، ولا يُقدم رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - على دماء الخلق بغير مستند صحيح،
فالاستدلال في هذه المسألة بهذه القضية لا يصح، بل لا يندرج في
هذه المسألة إلاّ ما علم أنه من شرعهم بكتابنا، ومن قِبل نبينا
فقط.
حجة المثبتين من وجوه: أحدها ما تقدم من الآية، وثاينها قوله
تعالى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليه
وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا
فيه» (1) (وما) عامة في جملة ما وصى به نوحاً ووصى به إبراهيم
وموسى وعيسى. وثالثها: قوله تعالى: «ملة أبيكم إبراهيم» ن
تقديره اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم.
ويرد على الكل أن المقصود قواعد العقائد لا جزئيات الفروع،
لأنها هي التي وقع الاشتراك فيها بين الأنبياء كلهم، وكذلك
القواعد الكليّة من الفروع، أما جزئيات المسائل فلا اشتراك
فيها، بل هي مختلفة في الشرائع.
حجة النافين من وجوه: أحدها أنه لو كان عليه الصلاة والسلام
متعبداً بشرع من قبله
لوجب عليه مراجعة تلك الكتب، ولا يتوقف إلى نزول الوحي، لكنه
لم يفعل ذلك لوجهين: أحدهما أنه لو فعله لاشتهر. والثاني: أن
عمر رضي الله عنه طالع ورقة من التوراة فغضب رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -، وقال: «لو كان موسى حياً ما وسعه إلاّ
اتباعي» .
وثانيها: أنه - صلى الله عليه وسلم - لو كان متعبداً لوجب على
علماء الأمصار والأعصار أن يفعلوا ذلك ويراجعوا شرع من قبلهم،
ليعلموا ما فيه، وليس كذلك.
_________
(1) 13 الشورى.
(1/299)
وثالثها: أنه عليه الصلاة والسلام صوب
معاذاً في حكمه باجتهاد نفسه إذا عدم الحكم في الكتاب والسنةن
وذلك يقتضي أنه لا يلزمه اتباع الشرائع المتقدمة.
والجواب عن الأوّل أنه قد تقدم أن شرع من قبلنا إنّما يلزمنا
إذا علمناه من قبل نبينا عليه الصلاة والسلام بوحي، أما من
قبلهم فلا يلزم مراجعتهم لعدم الفائدة في ذلك، وهو الجواب عن
الثاني. وعن الثالث: أن من جملة الكتب دلالته على اتباع
الشرائع المتقدمة.
فائدة: قال الإمام فخر الدين: إذا قلنا بأنه كان متعبداً فقيل
بشرع إبارهيم وقيل بل بموسى، وقيل بل بعيسى عليهم الصلاة
والسلام، وهذا الذي نقله هذا النقل بعينه فيما قبل النبوة،
ونقل المازري الخلاف بعينه في المسألتين، وكذلك نقل من قال كان
متعبداً بشريعة كلّ نبي تقدمه إلاّ ما نسخ أو درس، وهذا لم
ينقله الجماعة، مع أنه غالب بحث الفقهاء في المباحث، فلا
يخصصون شرعاً معيناً دون غيره.
قال القاضي: ومذهب المالكية أن جميع شرائع الأمم شرع لنا إلاّ
ما نسخ ولا فرق بين موسى عليه الصلاة والسلام وغيره، قال ابن
برهان وقيل كان متعبداً قبل النبوة بشرع آدم، لأنه ألو
الشرائع، وقيل كان على دين نوح عليه الصلاة والسلام - والله
أعلم.
(1/300)
|