شرح تنقيح الفصول الباب الرابع عشر في
النسخ
وفيه خمسة فصول
الفصل الأول في حقيقته
قال القاضي منا والغزالي هو خطاب دال على ارتفاع حكم ثابت
بخطاب متقدم على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه. وقال
الإمام فخر الدين الناسخ طريق شرعي يدل على أن مثل الحكم
الثابت بطرق لا يوجد بعده متراخياً عنه، بحيث لولاه لكان
ثابتاً، فالطريق يشمل سائر المدارك: الخطاب وغيره، وقوله مثل
الحكم، لأن الثابت قبل النسخ غير المعدوم بعده، وقوله متراخياً
عنه لئلا يتهافت الخطاب، وقوله لولاه لكان ثابتاً، احتراز من
المغيات نحو الخطاب بالإفطار بعد غروب الشمس فإنه ليس نسخاً
لوجوب الصوم.
يرد على الأوّل أن النسخ قد يكون بالفعل كما تقدم فلا يكون
الحد جامعاً وكذلك ينتقض بالإقرار أو بجميع المدارك التي ليست
خطاباً، وكذلك يبطل بجميع ذلك اشتراطه في الحكم السابق أن يكون
ثابتاً بالخطاب، فإنه قد يكون ثابتاً بأحد هذه الأمور، فلذلك
عدل الإمام لقوله طريق شرعي ليعم جميع هذه الأمور، فإن قلت أنت
شرعت نحد النسخ والطريق ناسخة لا نسخ، والمصدر غير الفاعل فقد
خرج جميع أفراد المحدود من الحد فيكون باطلاً.
(1/301)
قلت الناسخ في الحقيقة إنما هو الله تعالى؛
ولذلك قال الله تعالى: «ما ننسخ من آية» (1) فأضاف تعالى فعل
النسخ غليه، وفعله تعالى هو هذه المدارك وجعلها ناسخة، فالمصدر
في التحقيق هو هذه الأمور المدارك فاندفع السؤال، وقولي مع
تراخيه عنه لأنه لو قال افعلوا لا تفعلوا لتهافت الخطاب، وأسقط
الثاين الأوّل، وكذلك لو قال عند الأوّل هو منسوخ عنكم بعد
سنة، كان هذا الوجوب مُغيَّا بتلك الغاية من السَّنة فلا يتحقق
النسخ، بل ينتهي بوصوله لغايته، وحينئذ يتعين أن يكون الناسخ
مسكوتاً عنه في ابتداء الحكم. وقولي: على وجه لولاء لكان
ثابتاً، احتراز مِمّا يجعل له غاية أول الأمر، فإنه لا يكون
ثابتاً إذا وصل إلى تلك الغاية، فلا يقبل النسخ إلاّ إذا كان
قابلاً للثبوت ظاهراً.
وقال القاضي منا، والغزالي الحكم المتأخر يزيل المتقدم. وقال
الإمام والأستاذ وجماعة هو بيان لانتهاء مدة الحكم - وهو الحق
- لأنه لو كان دائماً في نفس الأمر لعلمه الله تعالى دائماً،
فكان يستحيل نسخه، لاستحالة انقلاب العلم، وكذلك الكلام القديم
الذي هو خبر عنه.
قال القاضي: النسخ كالفسخ، فكما أن الإجازة إذا كانت شهراً
يستحيل فسخها إذا انقضى الشهر، ويمكن فسخها في أثناء الشهر،
لأن شأنها أن تدوم، فكذلك النسخ لا يكون إلاّ فيما شأنه أن
يدوم، والجماعة يمنعون هذا التشبيه، ويقولون إن الله تعالى
يعلم الأشياء على ما هي عليه، فلو كان الحكم دائماً في نفس
الأمر لعلم دوامه، ولو علم دوامه لتعذر نسخه، فإن خلاف المعلوم
محال في حقنا، فكيف في العلم القديم، وكذلك كلّ ما علمه الله
تعالى فهو مخبر عنه بالكلام النفساني، وخبر الله تعالى صدق
يستحيل الخلف فيه، فلو أخبر عن دوامه تعذر نسخه، وكذلك لو شرعه
دائماً لكان تعالى قد أراد دوامه لأنه من جملة الكائنات، ولو
أراد دوامه لوجب الدوام، وحينئذ يتعذر النسخ، ولو وقع النسخ
لزم مخالفة ثلاث صفات لله تعالى، وذلك محال.
_________
(1) 72 يوسف. البقرة.
(1/302)
فهذه مدارك قطعية توجب حينئذ أن الحكم كان
دائماً في اعتقادنا لا في نفس الأمر، فالناسخ مزيل للدوام في
اعتقادنا لا في نفس الأمر، وحينئذ يكون النسخ كتخصيص العام،
ولذلك قيل النسخ تخصيص في الأزمان، وهذا التفسير يحسن فيما
يتناول أزماناً أما ما لا يكون إلاّ في زمن واحد كذبح إسحق
عليه الصلاة والسلام (1) فلا يكون تخصيصاً في الأزمان، بل
رافعاً لجملة الفعل بجميع أزمانه.
الفصل الثاني في حكمه
وهو واقع وأنكره بعض اليهود عقلاً وبعضهم سمعاً، وبعض المسلمين
هؤلاء لما وقع من ذلك بالتخصيص. لنا أنه تعالى شرع لآدم تزويج
الأخ بأخته غير توأمته، وقد نسخ ذلك.
أما وقوع النسخ فلأن الله تعالى أوجب وقوف الواحد منا للعشرة
من الكفار في الجهاد، ثم نسخه بقوله تعالى: «الآن خفف الله
عنكم» (2) وصار الحكم أن يقف الواحد منا للاثنين لقوله تعالى:
«فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين» (3) ونسخ تعالى آيات
الموادعة، ويقال إنها نيف وعشرون آية بآية السيف وهي قوله
تعالى: «يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم»
(4) وبغيرها من الآيات الدالة على القتال، وهو كثير في الكتاب
والسنة.
وأما إنكار بعض اليهود له عقلاً فاحتجوا عليه بأنه النهي يعتمد
المفاسد الخالصة أو الراجحة، فلو جاز نسخه بعد ذلك لزم تجويز
أرم الله تعالى وإذنه في فعل المفاسد الخالصة أو الراجحة، وذلك
على الله تعالى محال، بناءً على التحسين والتقبيح، وقالوا
عبارة عامة: إن الفعل إما أن يكون حسناً أو قبيحاً، فإن كان
حسناً استحال النهي عنه، أو قبيحاً استحال الإذن فيه، فالنسخ
محال على التقديرين.
_________
(1) هذا أحد قولين في الذبيح والقول الثاني هو إسماعيل.
(2) 66 الأنفال.
(3) 66 الأنفال.
(4) 73 التوبة.
(1/303)
وجوابهم: أنا نمنع قاعدة الحسن والقبح، أو
نسلمها ونقول لمَ لا يجوز أن يكون الفعل مفسدة في وقت مصلحة في
وقت، وذلك معلوم بالعوائد؟ بل اليوم الواحد يكون الفعل فيه
حسناً في أوله قبيحاً في آخره، كما نقول في الأكل والشرب وليس
الفراء وشرب الماء البارد وغيره، ويحسن جميع ذلك ويقبح باعتبار
وقتين من الشتاء والصيف، والحر والبرد، والصوم والفطر، والشبع
والجوع، والصحة والسقم.
احتج منكروه سمعاً بوجهين: أحدهما أن الله تعالى لما شرع لموسى
عليه الصلاة والسلام شرعه، فاللفظ الدال عليه إما أن يدل على
الدوام أو لا، فإن دله على الدوام فإما أن يضم إليه ما يقتضي
أنه سينسخه أولاً، فإن كان الأوّل فهو باطل من وجهين: الأوّل:
أنه يكون متناقضاً وهو عبث ممنوع: الثاني: أن هذا اللفظ الدال
على النسخ وجب أن ينقل متواتراً، إذ لو جوزنا نقل الشرع غير
متواتر أو نقل صفته غير متواترة لم يحصل لنا علم بأن شرع
الإسلام غير منسوخ، ولأن ذلك من الوقائع العظيمة التي يجب
اشتهارها، فلا يكون نص على النسخ وحينئذ لا يكون منسوخاً؛ لأن
ذكر اللفظ الدال على الدوام فهذا مطلق يكفي في العمل به مرة
واحدة، وينقضي بذاته، فلا يحتاج للنسخ ويتعذر النسخ فيه.
والوجه الثاني: أنه ثبت بالتوراة قول موسى عليه الصلاة
والسلام: تمكنوا بالسبت أبداً، وقال تمسكوا بالسبت ما دامت
السموات والأرض، وهو متواتر والتواتر حجة.
والجواب عن الأوّل: أن نقول اتفق المسلمون على أن الله تعالى
شرع لموسى شرعه بلفظ الدوام، واختلفوا هل ذكر معه ما يدل على
أنه سيصير منسوخاً؟ فقال أبو الحسين يجب ذلك في الجملة وإلا
كان تلبيساً. وقال جماهير أصحابنا وجماهير المعتزلة لا يجب
ذلك، وقد تقدم البحث في ذلك في تأخير البيان عن وقت الحاجة.
والجواب على رأي أبي الحسين: أن ذلك القيد لم ينقل لوقوع الخلل
في اليهود
(1/304)
في زمن بختتصر فإنه أباد اليهود حتى لم يبق
منهم من يصلح للتواتر، وبه يظهر الجواب عن شرعنا نحن لسلامته
عن الآفات.
وعن الثاني: أن هذا النقل أيضاً لا يصح الاعتماد عليه لانقطاع
عدد اليهود كما تقدم، ولأن لفظ الأبد منقول في التوراة وهو على
خلاف ظاهره، قال في العبد يستخدم ست سنين ثم يعتق في السابعة،
فإن أبى العتق فلتثقب أذنه ويستخدم أبداً، مع تعذر الاستخدام
أبداً، بل العمر، فأطلق الأبد على العمر فقط.
وثانيها: قال في البقرة التي أمروا بذبحها تكون لكم سنة أبداً،
ومعلوم أن ذلك ينقطع بخراب العالم وقيام الساعة.
وثالثها: أُمروا في قصة دم الفصح (1) أن يذبحوا الجمل ويأكلوا
لحمه ملهوجاً (2) ولا يكسروا منه عظماً ويكون لهم هذا الجمل
سنة أبداً ثم زال التعبد بذلك أبداً.
وقال في السفر الثاني - فروا إلى كلّ يوم خروفين خروفاً غدوة
وخروفاً عشية قرباناً دائماً لأحقابكم - وهم لا يفعلون ذلك، ثم
مذهبهم منقوض بصور إحداها أن في التوراة أن السارق إذا سرق في
المرة الرابعة تثقب أذنه ويباع، وقد اتفقوا على نسخ ذلك.
وثانيتها: اتفق اليهود والنصارى على أن الله تعالى فدى ولد
إبراهيم من الذبح وهو نص التوراة، وهذا أشد أنواع النسخ، لأنه
قبل الفعل الذي منعه المعتزلة، وإذا جاز في الأشد جاز في غيره
بطريق الأولى.
وثالثتها: أن في التوراة أن الجمع بين الحرة والأمة في النكاح
كان جائزاً في شرع إبراهيم عليه الصلاة والسلام لجمعه بين سارة
الحرة وهاجر الأمة وحرمته التوراة.
ورابعتها: أن التوراة قال الله تعالى فيها لموسى - عليه السلام
-: أخرج أنت وشيعتك لترثوا الأرض المقدسة التي وعدت بها أباكم
إبراهيم، أن أرثها نسله فلما ساروا إلى التيه قال الله تعالى -
لا تدخلوها لأنكم قد عصيتموني - وهو عين النسخ.
وخامسها: تحريم السبت فإنه لم يزل العمل مباحاً إلى زمن موسى
عليه
_________
(1) الفصح كالفطر لفظاً ومعنى.
(2) اللحم الملهوج الذي لم يتم نضجه.
(1/305)
الصلاة والسلام وهو عين النسخ، وقد ذكرت
صوراً كثيرة غير هذه في شرح المحصول وفي كتاب (الأجوبة الفاخرة
عن الأسئلة الفاجرة في الرد على اليهود والنصارى) .
وأما من أنكر النسخ من المسلمين فهو معترف بنسخ تحريم الشحوم
وتحريم السبت
وغير ذلك من الأحكام، غير أنه يفسر النسخ في هذه الصورة
بالغاية وأنها انتهت بانتهاء غايتها، فلا خلاف في المعنى.
ويجوز عندنا وعند الكافة نسخ القرآن خلافاً لأبي مسلم
الأصفهاني لأن الله تعالى نسخ وقوف الواحد للعشرة في الجهاد
بثبوته لاثنين وهما في القرآن.
وثانيها: أن الله تعالى أوجب على المتوفى عنها زوجها الاعتداد
حولاً بقوله تعالى: «والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية
لأزواجهم متاعاً إلى الحول» (1) ثم نسخ بقوله تعالى: «يتربصن
بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا» (2) ، ونسخ وجوب التصدق الثابت
بقوله تعالى: «فقدموا بين يدي نجواكم صدقة» (3) .
احتج أبو مسلم بأن الله تعالى وصف كتابه بأنه لا يأتيه الباطل
من بين يديه ولا من خلفه، فلو نسخ لبطل.
وجوابه: أن معناه لم يتقدمه من الكتب ما يبطله ولا يأتي بعده
ما يبطله ويبين أنه ليس بحق، والمنسوخ والناسخ حق، فليس من هذا
الباب.
فائدة: أبو مسلم كنيته، واسمه عمرو بن يحيى قاله أبو إسحاق في
اللمع.
ويجوز نسخ الشيء قبل وقوعه عندنا خلافاً لأكثر الشافعية
والحنفية والمعتزلة كنسخ ذبح إسحق عليه الصلاة والسلام قبل
وقوعه.
_________
(1) 240 البقرة.
(2) 234 البقرة.
(3) 12 المجادلة.
(1/306)
المسائل في هذا المعنى أربع: إحداهن أن
يوقت الفعل بزمان مستقبل فينسخ قبل حضوره. وثانيها: أن يؤمر به
على الفور فينسخ قبل الشروع فيه. وثالثها: أن يشرع فيه فينسخ
قبل كماله. ورابعها: أن يكون الفعل يتكرر فيفعل مراراً ثم
ينسخ. فأما الثلاثة الأولى فهي في الفعل الواحد غير المتكرر.
وأما الرابعة: فوافقنا عليها المعتزلة لحصول مصلحة الفعل بتلك
المرات الواقعة قبل النسخ، ومنه نسخ القِبْلة وغيرها، ومنعوا
قبل الوقت وقبل الشروع لعدم حصول المصلحة من الفعل، وترك
المصلحة عندهم ممتنع على قاعدة الحسن والقبح. والنقل في هاتين
المسألتين في هذا الموضع قد نقله الأصوليون. وأما بعد الشروع
وقبل الكمال فلم أر فيه نقلاً، ومقتضى مذهبنا جواز النسخ في
الجميع.
ومقتضى مذهب المعتزلة التفصيل لا المنع مطلقاً ولا الجواز
مطلقاً، فإن الفعل الواحد قد لا يحصل مصلحته إلاّ باستيفاء
أجزائه، كذبح الحوان، وإنقاذ الغريق، فإن مجرد قطع الجلد لا
يحصل مقصود الذكاة من إخراج الفضلات وزهوق الروح على وجه
السهولة، وإخراج الغريق إلى قرب البر وتركه هناك لا يحصل مقصود
الحياة، وقد تكون المصلحة متوزعة على أجزائه كسقي العطشان
وإطعام الجيعان وكسوة العريان، فإن كلّ جزء من ذلك
يحصل جزءاً من المصلحة الري والشبع والكسوة، ففي القسم الأوّل
مقتضى مذهبهم المنع لعدم حصول المصلحة، وفي الثاني الجواز
لحصول بعض المصلحة المخرجة للأمر الأوّل عن العبث، كما انعقد
الإجماع على حسن النهي عن القطرة الواحدة من الخمر، مع أن
الإسكار لا يحصل إلاّ بعد قطرات، لكنه لا يتعين له بعضها دون
بعض بل يتوزع عليها، فكذلك هنا، فتنزل الأجزاء منزلة الجزئيات،
كذلك يكتفى ببعض الأجزاء. غير أن هنا فرقاً أمكن ملاحظته، وهو
أن المصلحة في الجزئيات الماضية في صورة المنقول عنه مصالح
تامة أمكن أن يقصدها العقلاء قصداً كلياً دائماً، بخلاف جزء
المصلحة في نقطة الماء ونحوها، فإن القصد إليها نادر، ومع هذا
الفرق أمكن أن يقولوا بالمنع مطلقاً في هذا القسم من غير
تفصيل.
واحتج الشيخ سيف الدين الآمدي في هذه المسألة بنسخ الخمسين
صلاة ليلة الإسراء حتى بقيت خمساً، ويرد عليه أنها خبر واحد
فلا يفيد القطع، والمسألة
(1/307)
قطعية ولا نسخ قبل الإنزال (1) وقبل
الإنزال لا يتقرر علينا حكم، فليس من صورة النزاع.
والنسخ لا إلى بدل خلافاً لقوم كنسخ الصدقة في قوله تعالى:
«فقدموا بين يدي نجواكم صدقة» (2) لغير بدل.
قيل إن ذلك زال لزوال سببه وهو التمييز بين المؤمنين
والمنافقين، وقد ذهب المنافقون فاستغنى عن الفرق.
جوابه: روى أنه لم يتصدق إلاّ عليٌّ - رضي الله عنه - فقط مع
بقاء السبب بعد صدقته ثم نسخ حينئذ.
احتجوا بقوله تعالى: «ما ننسخ آية أو ننسها نأت بخير منها أو
مثلها» (3) فنص تعالى على أنه لا بد من البدل أحسن أو مثل.
جوابه: أن هذه صيغة شرط وليس من شرط الشرط أن يكون ممكناً فقد
يكون متعذراً كقولك إن كان الواحد نصف العشرة فالعشرة اثنان
وهذا الشرط محال والكلام صحيح عربي، وإذا لم يستلزم الشرط
الإمكان لا يدل على الوقوع به مطلقاً فضلاً عن الوقوع ببدل،
سلمناه لكنه قد يكون رفع الحكم لغير بدل خيراً للمكلف باعتبار
مصالحه والخفة عليه وبعده من الفتنة وغوائل التكليف.
ونسخ الحكم إلى الأثقل خلافاً لبعض أهل الظاهر كنسخ عاشوراء
برمضان.
ونسخ الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم، والرجم أشد من الحبس.
احتجوا بقوله تعالى: «نأت بخير منها أو مثلها» (4) وبقوله
تعالى: «يريد الله أن يخفف عنكم» (5) ، و «يريد الله بكم
اليسر» (6) والأثقل لا يكون خيراً ولا مثلاً ولا يسراً.
_________
(1) في المخطوطة: ولأنه نسخ قبل الإنزال.
(2) 12 المجادلة.
(3) 106 البقرة.
(4) 106 البقرة.
(5) 28 النساء.
(6) 185 البقرة.
(1/308)
والجواب عن الأوّل: قد يكون الأثقل أفضل
للمكلف وخيراً له باعتبار ثوابه واستصلاحه في أخلاقه ومعاده
ومعاشه. وعن الثاني أنه محمول على اليسر في الآخرة حتى لا
يتطرق إليه تخصيصات غير محصورة فإن في الشريعة مشاق كثيرة.
ونسخ التلاوة دون الحكم كنسخ - الشيخ والشيخة إذا زنيا
فارجموهما البتة نكالاً من الله - مع بقاء الرجم، والحكم دون
التلاوة كما تقدم في الجهاد، وهما معاً لاستلزام إمكان
المفردات إمكان المركب.
لأن التلاوة والحكم عبادتان مستقلتان، فلا يبعد في العقل أن
يصيرا معاً مفسدة في وقت أحدهما دون الآخر، وتكون الفائدة في
بقاء التلاوة دون الحكم ما يحصل من العلم بأن الله تعالى أنزل
مثل ها الحكم رحمة منه بعباده. وعن أنس نزل في قتلى بئر معونة
- بلغوا إخواننا أننا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا - وعن أبي
بكر كنا نقرأ من القرآن - لا ترغبوا عن أبائكم فإنه كفر بكم -
ومثال التلاوة والحكم معاً ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت
كان فيما أنزل الله - عشر رضعات - فنسخن - بخمس - وروي أن سورة
الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة.
ونسخ الخبر إذا كان متضمناً لحكم عندنا، خلافاً لمن جوزه
مطلقاً ومنعه مطلقاً وهو أبو علي وأبو هاشم وأكثر المتقدمين.
لنا أن نسخ الخبر يوجب عدم المطابقة وهو محال فإذا تضمن الحكم
جاز نسخه لأنه مستعار له ونسخه الحكم جائز كما لو عبر عنه
بالأمر.
قال الإمام فخر الدين: إذا كان الخبر خبراً عما لا يجوز
تغييره، كالخبر عن حدوث العالم، فلا يتطرق إليه النسخ، وإن كان
عما يجوز تغييره وهو إما ماضٍ أو مستقبل، والمستقبل إما وعد أو
وعيد أو خبر عن حكم كالخبر عن وجوب الحج فيجوز النسخ في الكل،
ومنع أبو علي وأبو هاشم وأكثر المتقدمون الكل.
قال: لنا أن الخبر إذا كان عن أرم ماض نحو عمرت نوحاً ألف سنة،
جاز أن
(1/309)
يبين من بعد بأنه ألف سنة إلاّ خمسين
عاماً، وإن كان خبراً عن مستقبل كان وعداً ووعيداً فهو كقوله
لأعاقبن الزاني ابداً فيجوز أن يبين أنه أراد ألف سنة، وإن كان
عن حكم الفعل في
المستقبل فإن الخبر كالأمر في تناوله الأوقات (1) المستقبلة
فيجوز أن يراد بعضها.
احتجوا بأن نسخ الخبر يوهم الخلف.
قال: وجوابه أن نسخ الأمر أيضاً يوهم البداء، قلت أسماء
الأعداد نصوص لا يجوز فيها المجاز وأراد المتكلم بالألف ألفاً
إلاّ خمسين عاماً مجاز فلا يجوز، وأما إطلاق الأبد على ألف سنة
فهو تخصيص في الخبر وهو مجمع عليه، إنّما النزاع في النسخ فأين
أحدهما من الآخر؟! وقد تقدمت الفروق بينهما.
وأما قولهم يوهم الخلف: ذلك مدفوع بالبراهين الدالة على
استحالة الخلف على الله تعالى والبداء عليهن والبداء هو إحدى
الطرق التي استدلت بها اليهود على استحالة النسخ، ومعناه أمر
بشيء ثم بدا له أن المصلحة في خلافه، وذلك إنّما يتأتى في حق
من تخفى عليه الخفيات، والله تعالى منزه عن ذلك.
وجوابهم: أن الله تعالى عالم بأن الفعل الفلاني مصلحة في وقت
كذا مفسدة في وقت كذا، وأنه نسخه إذا وصل وقت المفسدة، فالكل
معلوم في الأزل، وما تجدد العلم بشيء، فما لزم من النسخ البداء
فيجوز.
ويجوز نسخ ما قال فيه افعلوه أبداً خلافاً لقوم؛ لأن صيغة
أبداً بمنزلة العموم في الأزمان، والعموم قابل للتخصيص والنسخ.
احتجوا بأن صيغة (أبداً) لو جاز أن لا يراد بها الدوام لم يبق
لنا طريق إلى الجزم بخلود أهل الجنة في الجنة وأهل النار في
النار، لأن ذلك كله مستفاد من قوله تعالى: «خالدين فيها أبداً»
(2) .
والجواب: أن الجزم إنّما حصل في الخلود ليس بمجرد لفظ (أبداً)
بل بتكرره تكرراً أفاد القطع بسياقاته وقرائنه على ذلك، أما
مجرد لفظة واحد من أبداً فلا يوجب الجزم، والكلام في هذه
المسألة إنّما هو في مثل هذا.
_________
(1) في الأصول: في تناول الأوقات.
(2) لأهل الجنة: 122 النساء. ولأهل النار: 169 النساء.
(1/310)
الفصل الثالث في
الناسخ والمنسوخ
يجوز عندنا نسخ الكتاب بالكتاب وعند الأكثرين.
حجتنا ما تقدم من الرد على أبي مسلم الأصفهاني، احتجوا بقوله
تعالى: «لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه» (1) وقد تقدم جوابه.
والسنة المتواترة بمثلها هو كالكتاب بالكتاب لحصول المساواة
والتواتر في البابين الناسخ والمنسوخ.
والآحاد بمثلها.
لأن نشترط في الناسخ أن يكون مساوياً للمنسوخ أو أقوى والآحاد
مساوية للآحاد فيجوز.
وبالكتاب والسنة المتواترة إجماعاً.
بسبب أن الكتاب والسنة المتواترة ينسخان خبر الواحد، لأنهما
أقوى منه والأقوى أولى بالنسخ.
وأما جواز نسخ الكتاب بالآحاد فجائز عقلاً غير واقع سمعاً،
خلافاً لأهل الظاهر، والباجي منا مستدلاً بتحويل القبلة عن بيت
المقدس إلى مكة. لنا أن الكتاب متواتر قطعي فلا يرفع بالآحاد
المظنونة لتقدم العلم على الظن.
واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: «قل لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً
على طاعم يطعمه» (2) الآية نسخت بنهيه عليه الصلاة والسلام على
ألك كلّ ذي ناب من السباع وهو خبر واحد وبقوله تعالى: «وأحل
لكم ما وراء ذلكم» (3) نسخ ذلك
_________
(1) 42 فصلت.
(2) 145 الأنعام.
(3) 24 النساء.
(1/311)
بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تنكح
المرأة على عمتها ولا خالتها» الحديث، ولأنه دليل شرعي فينسخ
كسائر الأدلة، ولأنه يخصص الكتاب فينسخه، لأن النسخ تخصيص في
الأزمان.
والجواب عن الأوّل: أن الآية إنّما اقتضت التحريم إلى تلك
الغاية فلا ينافيها ورود تحريم بعدها، وإذا لم ينافها لا يكون
ناسخاً لأن من شرط النسخ التنافي. وعن الثاني: أن العام في
الأشخاص مطلق في الأحوال فيحمل العام على حالة عدم القرابة
المذكورة. سلمناه لكنه تخصيص ونحن نسلمه إنّما النزاع في
النسخ. وعن الثالث: الفرق أن تلك الأدلة المتفق عليها مساوية
أو أقوى وهذا مرجوع فلا يلحق بها. وعن الرابع: أن النسخ إبطال
لما اتصف بأنه مراد فيحتاط فيه أكثر من التخصيص لأنه بيان
للمراد فقط، وأما تحويل القبلة فقالوا احتفت به قرائن وجدها
أهل قباء لما أخبرهم المخبر من ضجيج أهل المدينة، وغير ذلك حصل
لهم العلم، فلذلك قبلوا تلك الرواية. سلمنا عدم القرائن لكن
ذلك فعل بعض الأمة، فليس حجة، ولعله مذهب لهم فإنَّها مسألة
خلاف.
ويجوز نسخ السنة بالكتاب عندنا خلافاً للشافعي - رضي الله عنه
- وبعض أصحابه.
لنا نسخ القبلة بقوله تعالى: «وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره»
ولم يكن التوجه لبيت المقدس ثابتاً بالكتاب عملاً بالاستقراء.
في كون التوجه لبيت المقدس ليس من القرآن، فيه نظر، من جهة أن
القاعدة أن كلّ بيان المجمل يعد مراداً من ذلك المجمل وكائناً
فيه. والله تعالى قال: «وأقيموا الصلاة» (1) ولم يبين صفتها،
فبينها عليه الصلاة والسلام بفعله لبيت المقدس وكان ذلك مراداً
بالآية، كما أن نقول في قوله عليه الصلاة والسلام: «فيما سقت
السماء العشر» بيان لقوله تعالى: «وآتوا الزكاة» (2) وهو مراد
منها، وكذلك هنا وهو القاعدة: أن كلّ بيان المجمل يعد مراداً
من ذلك المجمل، فكان التوجيه لبيت المقدس ثابتاً بالقرآن بهذه
الطريقة.
_________
(1) 43 البقرة.
(2) 43 البقرة.
(1/312)
حجة الشافعي - رضي الله عنه - قوله تعالى:
«لتبين للناس ما نزل إليهم» (1) فجعله عليه الصلاة والسلام
مبيناً بالسنة للكتاب المنزل، فلا يكون الكتاب ناسخاً للسنة
لأن الناسخ مبين للمنسوخ، فيكون كلّ واحد منهما مبيناً لصاحبه
فيلزم الدور.
والجواب عنه: أن الكتاب والسنة ليس كلّ واحد منهما محتاجاً
للبيان ولا وقع فيه النسخ، فأمكن أن يكون بعض الكتاب مبيناً
لبعض السنة، والبعض الآخر الذي لم يبينه الكتاب بيان للكتاب
فلا دور، لأنه لم يوجد شيئان كلّ واحد منهما متوقف على الآخر،
بل الذي يتوقف عليه من السنة غير متوقف والبعض المتوقف عليه من
الكتاب غير متوقف، سلمناه، لكنه معارض بقوله تعالى ف حق الكتاب
العزيز: «تبياناً لكل شيء» ، والسنة شيء، فيكون الكتاب تبياناً
لها فينسخها وهو المطلوب.
ويجوز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة لمساواتها له في الطريق
العلمي عند أكثر أصحابنا، وواقع كنسخ الوصية للوارث بقوله عليه
الصلاة والسلام: «لا وصية لوارث» ونسخ آية الحبس في البيوت
بالرجم. وقال الشافعي لم يقع، لأن آية الحبس في البيوت نسخت
بالجلد.
واحتجوا أيضاً على الوقوع بقوله عليه الصلاة والسلام: «لا وصية
لوارث» نسخت الوصية للأقربين الذين في الكتاب، وبقوله عليه
الصلاة والسلام: «لا تنكح المرأة على عمتها» الحديث ناسخ لقوله
تعالى: «وأحل لكم ما وراء ذلكم» وأما قول الشافعي - رضي الله
عنه - إن آية الحبس نسخت بالجلد، فذلك يتوقف على تاريخ لم
يتحقق، ومن أين لنا أن آية الجلد نزلت بعد آية الحبس؟! بل ظاهر
السنة يقتضي خلاف ما قاله، لأنه عليه الصلاة والسلام قال:
«خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً: الثيب بالثيب رجم
بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» فظاهره يقتضي أنه
الآن نسخ ذلك الحكم.
ويرد على الأوّل: الوصية جائزة لغير الوارث إذا كان قريباً
فدخله التخصيص
_________
(1) 44 النحل.
(1/313)
والمدعى للنسخ، وعلى الثاني أنه أيضاً
تخصيص دخل في الكتاب لا نسخ؛ لأن بعض ما أحل حرم ولا تنازع
فيه.
والإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به.
هذا نقل المحصول، وقال الشيخ سيف الدين كون الإجماع ينسخ الحكم
الثابت به نفاه الأكثرون وجوزه الأقلون، وكون الإجماع ناسخاً
منعه الجمهور وجوزه بعض المعتزلة وعيسى بن أبان.
وبنى الإمام فخر الدين هذه المسألة على قاعدة وهي: أن الإجماع
لا ينعقد في زمانه عليه الصلاة والسلام، لأنه بعض المؤمنين بل
سيدهم، ومتى وجد قوله عليه الصلاة والسلام فلا عبرة بقول غيره،
وإذا لم ينعقد إلاّ بعد وفاته عليه الصلاة والسلام لم يمكن
نسخه بالكتاب والسنة لتعذرهما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام،
ولا بالإجماع لأن هذا الإجماع الثاني إن كان لا عن دليل فهو
خطأ وإن كان عن دليل فقد غفل عنه الإجماع الأوّل فكان خطئاً
والإجماع لا يكون خطئاً فاستحال النسخ بالإجماع، ولا بالقياس
لأنه من شرطه أن لا يكون على خلاف الإجماع، فيتعذر نسخ الإجماع
مطلقاً، وأما كون الإجماع ناسخاً فقال: لا يمكن أن ينسخ كتاباً
ولا سنة لأنه يكون على خلافهما فيكون خطئا، ولا إجماعاً لأن
أحدهما يلزم أن يكون خطئاً لمخالفته لدليل الإجماع الآخر، ولا
قياساً لأن شرط القياس عدم الإجماع، فإذا أجمعوا على خلاف حكم
القياس زال القياس لعدم شرطه.
وهذه الطريقة مشكلة بسبب وجود النبي - صلى الله عليه وسلم - لا
يمنح وجود الإجماع، لأنه عليه الصلاة والسلام شهد لأمته
بالعصمة فقال: «لا تجتمع أمتي على خطأ» وصفة المضاف غير المضاف
إليه، وهو عليه الصلاة والسلام لو شهد لواحد في زمانه عليه
الصلاة والسلام بالعصمة لم يتوقف ذلك على أن يكون بعده عليه
الصلاة والسلام، فالأمة أولى.
ثم إنه نقض هذه القاعدة بعد ذلك فقال يمكن نسخ القياس في زمانه
- عليه السلام - بالإجماع، فصرح بجواز انعقاد الإجماع في زمانه
عليه السلام.
وأما سيف الدين فلم يقل ذلك، بل قال الإجماع الموجود بعد وفاته
عليه الصلاة والسلام لا ينسخ بنص ولا غيره إلى آخر التقسيم.
(1/314)
وقال أبو الحسين البصري في المعتمد الموضوع
له في أصول الفقه كما قاله المصنف، ثم قال إن قيل يجوز أن ينسخ
إجماعاً وقع في زمانه عليه الصلاة والسلام قلنا
يجوز، وإنما منعنا الإجماع بعده أن ينسخ، وأما في حياته
فالمنسوخ الدليل الذي أجمعوا عليه لا حكمه.
وقال أبو إسحق: ينعقد الإجماع في زمانه عليه السلام.
وقال ابن برهان في كتاب الأوسط ينعقد الإجماع في زمانه عليه
الصلاة والسلام، وجماعة المصنفين وافقوا الإمام فخر الدين على
دعواه على ما فيها من الإشكال.
وأما حجة الجواز لمن خالف في هذه المسألة فهي مبنية على أنه
يجوز أن ينعقد إجماع بعد إجماع مخالف له، ويكون كلاهما حقاً،
ويكون انعقاد الأوّل مشروطاً بأن لا يطرأ عليه إجماع آخر وهو
شذوذ من المذاهب، فبنى الشاذ على الشاذ، والكل ممنوع.
ويجوز نسخ الفحوى الذي هو مفهوم الموافقة تبعاً للأصل، ومنع
أبو الحسين من نسخه مع بقاء الأصل دفعاً للتناقض بين تحريم
التأفيف مثلاً وحل الضرب، ويجوز النسخ به وفاقاً، لفظية كانت
دلالته أو قطعية أو على الخلاف.
قال الإمام فخر الدين اتفقوا على جواز نسخ الأصل والفحوى معاً،
وأما نسخ الأصل وحده فإنه يقتضي نسخ الفحوى، لأن الفحوى تبع،
وأما نسخ الفحوى مع بقاء الأصل فمنعه أبو الحسين، لئلا ينتقض
الغرض في الأصل كما تقدم في التأفيف، فتحريمه لنفي العقوق
وإباحة الضرب أبلغ في العقوق، فيبطل المقصود من تحريم التأفيف.
قال سيف الدين: تردد قول القاضي عبد الجبار في نسخ الفحوى دون
الأصل، فجوزه تارة ورآه من باب التخصيص، لأنه نص على الجميع،
ثم خصص البعض، ومنعه مرة للتناقض ونقض الغرض.
وقولي: كانت دلالته لفظية أو قطعية: أريد بالقطعية العقلية
الذي هو القياس؛
(1/315)
فإن الناس اختلفوا في تحريم الضرب مثلاً في
تلك الآية (1) هل هو ثابت بالقياس على تحريم التأفيف بطريق
الأولى، أو هو بدلالة اللفظ عليه التزاماً بالقياس، وإن كانت
دلالة التزام صح النسخ بها، أو قياساً صح النسخ بها، لأنه حكم
مناقض لحكم متقدم، فصح النسخ كسائر ما يجوز به النسخ، نعم
يشترط في المنسوخ به أن يكون مثله في السند أو أخفض رتبة.
مسألة: قال الإمام فخر الدين في المحصول نسخ القياس إن كان في
حياته عليه الصلاة والسلام فلا يمتنع رفعه بالنص وبالإجماع
وبالقياس، بأن ينص - عليه السلام - في
الفروع، بخلاف حكم القياس بعد استقرار التعبد بالقياس، وأما
بالإجماع فلأنه إذا اختلفت الأمة على قولين قياساً، ثم أجمعوا
على أحد القولين، كان إجماعهم رافعاً لحكم القياس المقتضي
للقول الآخر، وأما بالقياس فبأن ينص في صورة بخلاف ذلك الحكم
ويجعله معللاً بعلة موجودة في ذلك الفرع، وتكون أمارة عليتها
أقوى من أمارة علة الوصف للحكم الأوّل في الأصل الأوّل.
وأما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام فإنه يجوز نسخه في المعنى
وإن كان لا يسمى نسخاً في اللفظ، كما إذا أفتى مجتهد بالقياس
ثم ظفر بالنص أو بالإجماع أو بالقياس المخالف للأول، فإن قلنا
كلّ مجتهد مصيب كان هذا الوجدان ناسخاً لقياسه الأوّل، وإن
قلنا المصيب واحد لم يكن القياس الأوّل متعبداً به، وأما كون
القياس ناسخاً فيمتنع في الكتاب والسنة والإجماع، لأن تقدمها
يبطله، وأما القياس فقد تقدم القول فيه.
والعقل يكون ناسخاً في حق سقطت رجلاه فإن الوجوب ساقط عنه،
قاله الإمام.
هذا ليس نسخاً فإن بقاء المحل شرط، وعدم الحكم لعدم سببه أو
شرطه أو قيام مانعه ليس نسخاً وإلا كان النسخ واقعاً طول
الزمان لطريان الأسباب وعدمها.
_________
(1) في قوله تعالى: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلاّ إياه وبالوالدين
إحساناً. إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقلبات
الأحوال لهما أفٍ ولا تنهرهما. .» .
(1/316)
الفصل الرابع فيما
يتوهم أنه ناسخ
زيادة صلاة على الصلوات أو عبادة على العبادات ليست نسخاً
وفاقاً، وإنما جعل أهل العراق الوتر ناسخاً لما فيه من رفع
قوله تعالى: «حافظوا على الصلوات والصلاة والسطى» (1) فإن
المحافظة على الوسطى تذهب لصيرورتها غير وسطى.
زيادة الحج على العبادات في آخر الإسلام ليس نسخاً لما تقدمه
من العبادات، فعدم المنافاة، ومن شرط النسخ التنافي، وأما
زيادة الوتر لما اعتقد الحنفية أنه واجب صار الصلوات عندهم
ستاً، وكان عدد زوج لا توسط فيه، إنّما يمكن التوسط في عدد
فرد، فالخمسة اثنان واثنان وواحد بينهما، وأما الستة ثلاثة
وثلاثة لا يبقى شيء ستوسط بينهما، فارتفع الطلب المتعلق
بالوسطى لزوال الوصف، والطلب لذلك حكم شرعي، فقد ارتفع حكم
شرعي، فيكون نسخاً وهذا البحث مبني على أنها سميت وسطى لتوسطها
بين عددين، وقيل لتوسطها بين الليل والنهار وهي الصبح، وقيل
لتوسطها بين الأعداد الثنائية والرباعية، فتتوسط الثلاثية،
فتكون المغرب. على القول الأوّل تكن العصر، لأنها قبلها الصبح
والظهر، وبعدها المغرب والعشاء.
والزيادة على العبادة الواحدة ليست نسخاً عند مالك وعند أكثر
أصحابه والشافعي، خلافاً للحنفية، وقيل إن نفت الزيادة ما دل
عليه المفهوم الذي هو على الخطاب أو الشرط كانت نسخاً وإلا
فلا، وقيل إن لم يجز الأصل بعدها فهي نسخ وغلا فلا، فعلى
مذهبنا زيادة التغريب على الجلد ليست نسخاً، وكذلك تقييد
الرقبة بالأيمان وإباحة قطع السارق في الثانية، والتخيير بين
الواجب وغيره، لأن المنع من إقامة الغير مقامه عقلي لا شرعي،
وكذلك لو وجب الصوم إلى الشفق.
_________
(1) 238 البقرة.
(1/317)
حجتنا أن الله تعالى إذا أوجب الصلاة
ركعتين ركعتين ثم جعلها أربعاً فإن هذه الزيادة لم تبطل وجوب
الركعتين الأوليين ولا تنافيهما، وما لا ينافي لا يكون نسخاً.
فإن قلت: التشهد يجب عقيب ركعتين والسلام بآخر ذلك، فبطل ذلك
وصار في موضع آخر وهو بعد الأربع، فقد بطل حكم شرعي فيكون
نسخاً.
قلت: لا نسلم أن الله تعالى أوجب السلام عقيب الركعتين لكونهما
ركعتين بل أوجبه آخر الصلاة كيف كانت ثنائية أو ثلاثية أو
رباعية، ولا مدخل للعدد في إيجاب السلام، بل كونه آخر الصلاة
فقط، وكون السلام آخر الصلاة لم يبطل، بل هو على حاله فهو لا
نسخ.
وهذا السؤال هو مدرك الحنفية، واحتجوا أيضاً بأن الركعتين
كانتا مجزئتين والآن هما غير مجزئتين، والإجزاء حكم شرعي فيكون
نسخاً، ولأن إباحة الأفعال بعد الركعتين كانت حاصلة مع الزيادة
بطلت هذه الإباحة، والإباحة حكم شرعي ارتفع فيكون نسخاً.
والجواب عن الأوّل: أن معنى قولنا هما مجزئتان أنه لم يبق شيء
آخر يجب على المكلف، وقولنا لم يجب عليه شيء إشارة إلى عدم
التكليف، وعدم التكليف حكم عقلي لا شرعي والحكم العقلي رفعه
ليس نسخاً إجماعاً. وعن الثاني: أن إباحة الأفعال بعد الركعتين
تابع لكونه ما وجب عليه شيء آخر، وقولنا ما وجب عليه، إشارة
إلى نفي الحكم الشرعي، وبراءة الذمة التي هي حكم عقلي، والتابع
للعقلي عقلين فلا يكون رفعه نسخاً.
ومثال نفي الزيادة بالشرط أن يقوم صاحب الشرع: إن كانت الغنم
سائمة ففيها الزكاة، ثم يقول في الغنم مطلقاً الزكاة، فإن هذا
العموم ينفيه مفهوم الشرط المتقدم.
ومثال المفهوم أن يقول: في الغنم السائمة الزكاة، ثم يقول في
الغنم الزكاة،
(1/318)
فإن هذا العموم رافع للمفهوم المتقدم فيكون
نسخاً، فإنه ما هو ثابت بدليل شرعي وهو الشرط أو المفهوم، وهذا
التفريق مبني على أن النفي الأصلي قد تقرر بمفهوم الشرط ومفهوم
الصفة، وأن تقرير النفي الأصلي حكم شرعي، وليس كذلك، لأن الله
تعالى لو
قال لا أشرع لكم في هذه السنة حكماً ولا أكلفكم بشيء، لم يكن
لله تعالى فيه هذه السنة شريعة عملاً بتنصيصه تعالى على ذلك،
مع أنه تعالى قد قرر النفي الأصلي، وكذلك لما قرر رفع التكليف
عن المجنون والنائم وغيرهما لم يكن ذلك حكماً شرعياً بل إخبار
عن عدم الحكم. والجنوح إلى مفهوم الصفة هو قول القاضي عبد
الجبار، وهو مع تدقيقه قد فاته هذا الموضع.
ومثال ما لا يجزئ بعد الزيادة أن الصلاة فرضت مثنى مثنى كما
جاء في الحديث، فلما زيد في صلاة الحضر ركعتان، بقيت الركعتان
الأوليان لا يجزئان بدون هذه الزيادة، ومثال ما يجزئ منفرداً
بعد الزيادة زيادة التغريب بعد الجلد؛ فإن الإمام لو اقتصر على
الجلد واستفتى بعد ذلك، فقيل له لا بد من التغريب، فإنه لا
يحتاج إلى إعادة الجلد مرة أخرى، بخلاف المصلي يحتاج إلى إعادة
الجميع، ووجه الفرق على هذا المذهب أن الأصل إذا لم يجز بعد
الزيادة اشتد التغيير فكان نسخاً، بخلاف القسم الآخر، التغيير
فيه قليل.
وأما عن أصلنا فهذه الصور كلها ليست نسخاً، أما التغريب فلأنه
رافع لعدم وجوبه، وعدم الوجوب حكم عقلي، ورافع الحكم العقلي
ليس نسخاً. وتقييد الرقبة بالإيمان رافع لعدم لزوم تحصيل
الإيمان فيها، وذلك حكم عقلي، وإباحة قطع السارق في الثانية
ليست نسخاً، لأنه رافع لعدم الإباحة وهو حكم عقلي فلا يكون
نسخاً.
فإن قلت: الآدمي أجزاؤه محرمة مطلقاً، وهذا التحريم حكم شرعي
فيكون نسخاً لما رفع.
قلت: لنا هنا مقامان أحدهما أن ندعي أن الأصل في الآدمي وغيره
عدم الحكم لا تحريم ولا إباحة؛ لأن الأصل في أجزاء العالم كلها
عدم الحكم حتى وردت الشرائع، كما تقرر أنه لا حكم للأشياء قبل
الشرائع، فعلى هذا الإباحة
(1/319)
رافعة لعدم الحكم لا للتحريم فلا يكون
نسخاً، أو نسلم التحريم، ونقول حكم التحريم بمقتضى آدميته
وشرفه من غير نظر إلى الجنايات، وهذا التحريم باق، ولا تنافي
بين التحريم له من حيث هو هو، وإباحته من جهة الجنايات، كما أن
إباحة الميتة من جهة الاضطرار لا يكون نسخاً للتحريم الثابت
لها من حيث هي هي، وإنما يحصل التنافي أن لو أبحناه من حيث هو
هو، أو أبحنا الميتة من حيث هي ميتة، وإذا لم يحصل التناقض لا
يكون نسخاً فلا يكون إباحة يده مع الجناية نسخاً بل رفعاً لعدم
الحكم، فإن أحكام الجناية لم تكن مترتبة، بل صارت مترتبة،
وكذلك التخيير بين الواجب وغيره ليس نسخاً لأنه إن قيل لك لمَ
لا تتخير بين صلاة الظهر وصدقة درهم؟
نقول لأن البدل لم يشرع، فيشير إلى عدم المشروعية، وعدم
المشروعية حكم عقلي، فمتى خير بين واجب وغيره، فقد رفع عدم
مشروعية ذلك البدل فقط، ووجوب الصوم إلى الشفق يرفع عدم الوجوب
من المغرب إلى الشفق، فهو حكم عقلي، ولهذه التقيرات يتضح لك ما
هو نسخ مِمّا ليس بنسخ فتأملها!.
ونقصان العبادة نسخ لما سقط دون الباقي إن لم يتوقف، وإن توقف
قال القاضي عبد الجبار هو نسخ في الجزء دون الشرط، واخترا فخر
الدين والكرخي عدم النسخ.
مثال نسخ ما لا يتوقف عليه العبادة نسخ الزكاة بالنسبة إلى
الصلاة، فإنه لا يكون نسخاً، مثال الجزء ركعة من الصلاة، مثال
الشرط الطهارة مع الصلاة.
لنا أن إيجاب ذلك كله يجري مجرى إثبات الحكم للعموم، وكما أن
إخراج بعض صور العموم لا يقدح، فكذلك هنا.
احتجوا بأن نسخ هذه الركعة مثلاً يقتضي نفي عدم إجزاء الركعة
الباقية، فإنَّها كانت لا تجزئ صارت تجزئ، ويقتضي رفع وجوب
تأخير التشهد إلى بعد الركعة المنسوخة، فإنه ما بقي ذلك بعد
النسخ، بل يتعجل التشهد عقيب الباقي بعد النسخ، وكانت الركعة
الباقية تجزئ إذا فعل معها المنسوخة، والآن وجب علينا إخلاء
الصلاة منها، والإجزاء حكم شرعي.
(1/320)
والجواب: أن عدم الإجزاء يرجع إلى إيجاب
الركعة الثانية، ونحن قد سلمنا أنه انتسخ، إنّما نتكلم في
الركعة الباقية، وأما تأخير التشهد، فالتشهد لم يشرع عقيب
ركعتين، ولا ركعة بل آخر الصلاة، وما زال يجب آخر الصلاة، فما
حصل نسخ، وكذلك إجزاء الصلاة مع المنسوخة كان تابعاً لوجوبها،
ونحن نسلم أن وجوبها نسخ، إنّما النزاع فيما بقي.
الفصل الخامس فيما يعرف به النسخ
يعرف النسخ بالنص على الرفع أو على ثبوت النقيض أو الضد، ويعلم
التاريخ بالنص على التأخير أو السنة أو الغزوة أو الهجرة،
ويعلم نسبة ذلك إلى زمان الحكم أو برواية من مات قبل رواية
الحكم الأخير، قال القاضي عبد الجبار قول الصحابي في الخبرين
المتواترين هذا قبل ذلك مقبول، وإن لم يقبل قوله في نسخ
المعلوم، كثبوت الإحصان بشهادة اثنين بخلاف الرجم وشهادة
النساء في الولادة دون النسب، وقول
الإمام فخر الدين قول الصحابي هذا منسوخ لا يقبل الجواز أن
يكون اجتهاداً منه، وقال الكرخي إن قال إذا نسخ ذلك لم يقبل،
وإن قال هذا منسوخ قبل لأنه لم يخل للاجتهاد مجالاً فيكون
قاطعاً به، وضعفه الإمام.
متى ثبت نقيض الشيء أو ضده انتفى فكان ذلك دليل الرفع، وأما
النص على السنة بأن يقول كان هذا التحريم سنة خمس ونعلم أن
الإباحة سنة سبع، فتكون الإباحة ناسخة لتأخير تاريخها، وإن قال
في غزوة كذا كان ذلك كتعيين السنة، فإن الغزوات معلومة السنين
وينظر نسبة ذلك لزمان الحكم فينسخ المتأخر المتقدم وكذلك إذا
قال قيل الهجرة أو بعدها، فهو كتعيين السنة أيضاً، ونظير قوله
هذا منسوخ فقبل، لأنه لم يخل للاجتهاد مجالاً. قولهم في خبر
المرسل، قال بعضهم هو أقوى من المسند، لأنه إذا بين المسند
ورجاله فقد جعل لك مجالاً في النظر في عدالتهم، أما إذا سكت
عنه فقد التزمه في ذمته فهو أقوى في العدالة ممن لم يلتزم به.
(1/321)
|