شرح تنقيح الفصول

الباب السادس عشر في الخبر
وفيه عشرة فصول
الفصل الأول في حقيقته
وهو المحتمل للصدق والكذب لذاته، احترازاً من خبر المعصوم والخبر عن خلافا الضرورة.
الخبر من حيث هو خبر يحتمل الصدق وهو المطابقة، والكذب وهو عدم المطابقة، والتصديق هو الإخبار عن كونه صدقاً، والتكذيب هو الإخبار عن كونه كذباً، فالصدق والكذب نسبتان بين الخبر ومتعلقه عدميتان لا وجود لهما في الأعيان بل في الأذهان، والتصديق والتكذيب. خبران وجوديان في الأعيان: ثم الخبر من حيث هو خبر يحتمل ذلك، أما إذا عرض له من جهة المتكلم به ما يمنع الكذب والتكذيب فإنه لا يقبلهما؛ ولذلك إذا قلنا الواحد نصف الاثنين يمتنع الكذب والتكذيب، أو الواحد نصف العشرة يمتنع الصدق والتصديق، ولكن ذلك النظر إلى متعلقه لا بالنظر إلى ذاته، فلذلك قلت - في الحد - لذاته.
سؤال: التصديق والتكذيب نوعان من الخبر والنوع لا يعرف إلاّ بعد معرفة الجنس، فتعريف الجنس به دَور والصدق والكذب نسبتان بين الخبر ومتعلقه

(1/346)


والنسبة بين الشيئين لا تعرف إلاّ بعد معرفتهما، فتعريف الخبر بهما تعريف الشيء بما لا يعرف إلاّ بعد معرفته فهذا دور أيضاً.
جوابه: إنه تقدم في أول الكتاب أن التحديد بمثل هذا يجوز، وإن الحد هو شرح اللفظ وبيان مسماه دون تخليص الحقائق بعضها من بعض، وبسطته هنالك فليطالع ثمّة.
وقال الجاحظ (1) : يجوز عروِّه عن الصدق والكذب، والخلاف لفظي.
قال أهل السنة: لا واسطة بين الصدق والكذب، لأنه لا واسطة بين المطابقة وعدمها.
وقالت المعتزلة: لفظ الكذب ليس موضوعاً لعدم المطابقة كيف كانت، بل لعدم المطابقة مع القصد لذلك، وبهذه الطريقة ثبتت الواسطة، فإنه قد لا يكون مطابقاً ولا يقصد ذلك ولا يعلم؛ فلا يكون صدقاً لعدم المطابقة ولا كذباً لعدم القصد لعدم المطابقة.
حجتنا قوله - عليه السلام -، من كذب علي متعمداً ليتبوأ مقعده من النار، فلما قيده بالمعمد دل على تصوره بدون العمد، كما قال تعالى: «ومن قتله منكم متعمداً» (2) وقال - عليه السلام -: «كفى بالرجل كذباً أن يحدث بكل ما سمع» فجعله كاذباً إذا حدث بكل ما سمع، وإن كان لا يعلم عدم مطابقته، فدل على أن القصد لعدم المطابقة ليس شرطاً في تحقق مسمى الكذب.
حجة المعتزلة قوله تعالى حكاية عن الكفار: «افترى على الله كذباً أم به جنة» (3) . فجعلوا الجنون قسيم الكذب لعدم القصد فيه، مع أن خبره على التقديرين غير مطابق فدل على اشتراط القصد في حقيقة الكذب.
وجوابهم: أنهم لم يقولوا كذب، بل افترى، والافتراء هو ابتداء الكذب
_________
(1) عمرو بن بحر 775-868م كاتب ولد ومات بالبصرة، انضم إلى المعتزلة وأجاد مذهبهم وأحاط بمعارف عصره. ألف أكثر من 250 كتاباً صور فيها جميع مظاهر النشاط في المجتمع الإسلامي من أشهر كتبه الحيوان، البيان والتبيين، المحاسن والأضداد.
(2) 95 المائدة.
(3) 15 الكهف.

(1/347)


واختراعه، فهم نوعوا الكذب إلى اختراع وجنون، لا أنهم قسموا كلامه إلى كذب وغيره، فيرجع الخلاف في ذلك إلى أن العرب هل وضعت لفظ الكذب لغير المطابق كيف كان، أو لعدم المطابقة مع القصد لذلك وهو معنى قولي؟ والخلاف لفظي.
واختلفوا في اشتراط الإرادة في حقيقة كونه خبراً، فعند أبي علي وأبي هاشم الخبرية معلنة بتلك الإرادة، وأنكره الإمام لخفائها، فكان يلزم أن لا يعلم خبر البتة، ولاستحالة قيام الخبرية بمجموع الحروف لعدمه، ولا ببعضه وإلا لكان خبراً، وليس فليس.
الخلاف في هذه المسألة مثل مسالة الأمر، قالوا الخبر قد يكون دعاء نحو غير الله لنا، وتهديداً نحو قوله تعالى: «سنفرغ لكم أيها الثقلان» (1) وأمراً نحو قوله تعالى: «والوالدات يرضعن أولادهن حولين» (2) وإذا اختلف موارد استعماله لا يتعين للخبر إلاّ بالإرادة، كما قالوا لا تتعين صيغة الأمر للطلب إلاّ بالإرادة.
والجواب: واحد، وهو أن الصيغة حقيقة في الخبر، فينصرف لمدلولها بالوضع لا بالإرادة، وإذا فرعنا على هذه الإرادة فهي علة عند أبي هاشم للخبرية وهي كون اللفظ خبراً، وفهم عنهم الإمام أن الخبرية أمر وجودي، فقال تلك الخبرية الموجودة لا يمكن أن يكون محلها مجموع الحروف؛ لأن مجموع الحروف لا يوجد، بل يستحيل أن يوجد من الحروف دائماً إلاّ حرف واحد؛ لأن الكلام من المصادر السيالة، والمعدوم لا يكون محلاً
للوجود، ولا يمكن أن يكون محلها بعض الحروف؛ لأن المحل يجب اتصافه بما قام به، فإذا قام السواد بمحل يجب أن يكون أسود، والعلم يجب أن يكون عالماً، كذلك إذا قامت الخبرية ببعض الحروف يجب أن يكون خبراً، لكن بعض الحروف لا يكون خبراً إجماعاً.
_________
(1) 31 الرحمن.
(2) 233 البقرة.

(1/348)


الفصل الثاني في التواتر
وهو مأخوذ من مجيء الواحد بعد الواحد بفترة بينهما.
ومن ذلك قوله تعالى: «ثم أرسلنا رسلنا تترا» (1) أي واحداً بعد واحد بفترةٍ بينهما. وقال بعض اللغويين: من لَحْن العوام قولهم تواترت كتبك عليّ ومرادهم تواصلت وهو لَحْن، بل لا يقال ذلك إلاّ في عدم التواصل كما تقدم، وقال بعضهم ليس هو مشتقاً من هذا بل من التوتر وهو الفرد، والوتر قد يتوالى وقد يتباعد بعضه عن بعض.
وفي الاصطلاح خبر أقوام عن أمر محسوس يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة.
الأخبار في الاصطلاح ثلاثة أقسام: المتواتر وهو ما تقدم، والآحاد وهو ما أفاد ظناً كان المخبر واحداً أو أكثر، وما ليس بتواتر ولا آحاد وهو خبر المفرد إذا احتفَّت به القرائن فليس متواتراً لاشتراطنا في التواتر العدد ولا آحاداً لإفادته العلم، وهذا القسم ما علمت له اسماً في الاصطلاح.
وقولي: (عن أمر محسوس) احتراز من النظريات، فإن الجمع إذا أخبروا عن حدوث العالم أو غير ذلك فإن خبرهم لا يحصل العلم، وتعني بالمحسوس ما يدرك إحدى الحواس الخمس.
قال الإمام في البرهان: يلحق بذلك ما كان ضرورياً بقرائن الأحوال كصفرة الرجل وحمرة الخجل فإنه ضروري عند المشاهدة.
وقولي: (يستحيل تواطؤهم على الكذب) احتراز عن أخبار الآحاد.
_________
(1) 44 المؤمنون.

(1/349)


وقولي: (عادة) احتراز من العقل، فإن العلم التواتري عادي لا عقلي، لأن العقل يُجوِّز الكذب عن كلّ عدد وإن عظم، وإنما هذه الاستحالة عادية.
وأكثر العقلاء على أنه مفيد للعلم في الماضيات الحاضرات. والسُّمَنية (1) أنكروا العلم واعترفوا بالظن، ومنهم من اعترف به في الحاضرات فقط.
لنا أن نقطع بدولة الأكاسرة والأقاصرة والخلفاء الراشدين ومن بعدهم من بني أمية وبني العباس من الماضيات وإن كنا لا نقطع بتفصيل ذلك، ونقطع بوجود دمشق وبغداد وخراسان وغير ذلك من الأمور الحاضرة، فقد حصل العلم بالتواتر من حيث الجملة.
احتجوا بأن كثيراً ما نجزم بالشيء ثم ينكشف الأمر بخلافه فلو كان التواتر يفيد العلم لما جاز انكشاف الأمر بخلافه ولأن كلّ واحد من المخبرين يجوز عليه الكذب فيجوز على المجموع لأن كلّ واحد من الزنج لما كان أسود كان مجموعهم أسود.
والجواب ن الأوّل: أن تلك الصور إنّما حصل فيها الاعتقاد، ولو حصل العلم لم يجز أن ينكشف الأمر بخلافه ونحن لم ندَّعِ حصول العلم في جميع الصور، بل ادَّعَينا أنه قد يحصل، وذلك لا ينافي عدم حصوله في كثير من الصور. وعن الثاني أن الأحكام قسمان: قسم لا يجوز ثبوته للآحاد بل لمجموعها فقط، كإرواء مجموع القطرات من الماء، وإشباع مجموع لقم الخبز، وغلَبَة مجموع الجيش للعدو وغير ذلك، فهذه أحكام ثابتة للمجموعات دون الآحاد. ومنه ما يثبت للآحاد فقط كالألوان والطعوم والروائح فإنَّها يستحيل ثبوتها إلاّ للآحاد أما المجموعات فأمور ذهنيّة، والأمور الذهنيّة لا يمكن أن تقوم بها كيفيات الألوان وغيرها فحصول العلم عند مجموع إخبارات المخبرين كحصول الري والشبع ونحوهما فلا يلزم ثبوته للآحاد فاندفع الإشكال.
_________
(1) السمنية: بضم السين وفتح الميم فرقة من عبدة الأصنام تقول بالتناسخ وتنكر وقوع العلم بالأخبار.

(1/350)


وأما وجه الفرق بين الحاضرات والماضيات فلأن الماضيات غائبة عن الحس فيتطرق إليها احتمال الخطأ والنسيان؛ وذلك أن الدول المتقادمة لم يبق عندنا شيء من أحوالها وأما الحاضرات فمعضودة بالحس فيبعد تطرق الخطأ إليها.
والجواب: أن حصول الفرق لا يمنع من الاشتراك في الحكم وقد بيناه فيما تقدم، كما تقول زيد فقيه وهو حيوان وعمرو ليس بفقيه، لا يلزم أن لا يكون عمرو حيواناً لوجود الفرق.
والعلم الحاصل منه ضروري عند الجمهور خلافاً لأبي الحسين البصري وإمام الحرمين والغزالي.
حجة الجمهور أنا نجد العلم التواتري حاصل للصبيان والنسوان ومن ليس له أهلية للنظر فلو أنه نظري لما حصل إلاّ لمن له أهلية النظر.
حجة الفريق الآخر أنا نعلم بالضرورة أن المخبرين إذا توهم السامع أنهم متهمون فيما أخبروا به لا يحصل له العلم، وإذا لم يتوهم ذلك حصل له العلم، وإذا علم أنهم من أهل الديانة والصدق حصل له العلم بالعدد اليسير منهم، وإذا لم يحصل له العلم بأنهم
كذلك بل بالضد لم يحصل العلم بأخبار الكثير منهم، وإذا كان العلم يتوقف حصوله على ثبوت أسباب وانتفاء موانع، فلا بد من النظر في حصول تلك الأسباب وانتفاء تلك الموانع هل حصلت كلها أو بعضها فيكون العلم الحاصل عقيب التواتر نظرياً لتوقفه على النظر.
والجواب: أن ذلك صحيح لكن تلك المقدمات الحاصلة في أوائل الفطرة، والعلم لا يحتاج إلى كبير تأمل ولا يقال للعلم إنه نظري إلاّ إذا لم يحصل إلاّ لمن له أهلية النظر، وقد بينا أن الأمر ليس كذلك.
والأربعة لا تفيد العلم قاله القاضي أبو بكر وتوقف في الخامسة.
قال الإمام فخرا لدين: والحق أن عددهم غير محصور وخلافاً لمن حصرهم

(1/351)


في اثني عشر عدد نقباء موسى عليه السلام أو العشرين عند أبي الهذيل (1) لقوله تعالى: «إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين» (2) أو أربعين لقوله تعالى: «يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين» (3) وكانوا حينئذ أربعين، أو سبعين عدد المختارين من قوم موسى. أو ثلاثمائة عدد أهل بدر. أو عشرة عدد بيعة الرضوان.
إنّما جزم القاضي رحمه الله بأن الأربعة لا تفيد العلم، لأن شهود الزنا أربعة وهم محتاجون إلى التزكية فلو كان خبر الأربعة يفيد العلم لأفاد خبر كلّ أربعة وحينئذ لا يحتاج إلى التزكية في صورة لكنه خلاف الإجماع، وتوقف في الخمسة لاحتمال حصول العلم بخبرهم، وهذا البحث من القاضي يقتضي أن العدد بما هو عدد هو مدرك العلم، بل الحق أن القرائن لا بد منها مع الخير كما تقدم تقريره في حجة إمام الحرمين، وإذا كانت القرائن لا بد منها فأمكن حصولها مع الأربعة وفي تلك الصورة لا يحتاج إلى التزكية، والحق عند الجمهور أنه متى حصل العلم كان ذلك العدد هو عدد التواتر قل أو كثر، وربما أفاد عدد قليل العلم لزيد ولا يفيده لعمرو وربما لم يفد عدد كثير العلم لزيد وأفاد بعضه العلم لعمرو، وكل ذلك إنّما سببه اختلاف أحوال المخبرين والسامعين.
وهذه المذاهب المتقدمة في اشتراط عدد معين إنّما مدرك الجميع أن تلك الرتبة من العدد وصفت بمنقبة حسنة، فجعل ذلك سبباً لأن يحصل لذلك العدد منقبة أخرى وهي تحصيل العلم، وهذا غير لازم والفضائل لا يلزم فيها التلازم، وقد يحصل العلم بقول الكفار أحياناً؛ ولا يحصل بقول الأخيار أحياناً، بل الضابط حصول العلم فمتى حصل فذلك العدد المحصل له هو عدد التواتر.
_________
(1) العلاف أبو الهذيل 753-849م متكلم مسلم من أئمة المعتزلة جعل للفلسفة مساغاً إلى مذهبه الكلامي وقد خالفه المعتزلة في مسائل تتصل بالإلهيات والأخلاق والاستطاعة.
(2) 65 الأنفال.
(3) 64 الأنفال.

(1/352)


وهو ينقسم إلى اللفظي وهي أن يقع المشترك (1) بين ذلك العدد في اللفظ المروي والمعنوي وهو وقوع الاشتراك في معنى عام كشجاعة علي - رضي الله عنه - وسخاء حاتم.
اللفظي كما تقول: القرآن الكريم متواتر أي كلّ لفظ منه اشترك فيها العدد الناقل للقرآن، وكذلك دمشق وبغداد أي جميع النقلة نطقوا بهذه اللفظة، وأما المعنوي فلا يقع الشركة في اللفظ كما يروى أن علياً - رضي الله عنه - قتل ألفاً في الغزوة الفلانية وتروي قصص أخرى بألفاظ أخرى، وكلها تشترك في معنى الشجاعة، فنقول شجاعة علي - رضي الله عنه - ثابتة بالتواتر المعنوي، ويروى أن حاتماً وهب مائة ناقة ويروي آخر أنه وهب ألف دينار ونحو ذلك، حتى تتحصل حكايات مجموعها يفيد القطع بسخائه، وإن كانت كلّ حكاية من تلك الحكايات لم يتواتر لفظها فهذا هو التواتر المعنوي.
وشرطه على الإطلاق إن كان المخبر لنا غير المباشر استواء الطرفين والواسطة وإن كان المباشر فيكون المخبر عنه محسوساً فإن الأخبار عن العقليات لا يحصل العلم.
التواتر له أربع حالات: طرف فقط إن كان المخبر هو المباشر، وطرفان بغير واسطة إن كان المخبر لنا غير المباشر، وطرفان وواسطة وهو اجتماع ثلاثة المباشر وطائفة أخرى تنقل على الطائفة المباشرة، وطائفة ثالثة تنقل إلينا عن الواسطة الناقلة عن الطائفة المباشرة وطرفان ووسائط كما في القرآن الكريم، فإن سامعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقله عنه وسائط وقرون حتى انتهى إلينا بعد ستة أو سبعة ونحو ذلك، وعلى كلّ واحد من هذه الطرق لا بد من شرطين في الجميع أن تكون كلّ طائفة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة وأن يكون المخبر عنه أمراً حسياً. فهذا معنى قول العلماء: من شرط التواتر استواء الطرفين والواسطة، معناه إن كان له طرفان أو واسطة، وإلا فقد لا يلزم ذلك في التواتر كما تقدم بيانه.
_________
(1) في نسخة مخطوطة: أن تقع الشركة.

(1/353)


الفصل الثالث في الطرق المحصلة للعلم غير التواتر وهي سبعة
كون المخبر عنه معلوماً بالضرورة أو الاستدلال، وخبر الله تعالى، وخبر الرسول، وخبر مجموع الأمة أو الجمع العظيم عن الوجدانيات في نفوسهم، أو القرائن عند إمام الحرمين والغزالي والنظام خلافاً للباقين.
المعلوم بالضرورة نحو الواحد نصف الاثنين، وبالاستدلال نحو الواحد سدس عشر الستين فإن المخبر عن هذين يقطع بصدقه، وكذلك من أخبر عن خبر الله تعالى، أو أخبر
الله تعالى عن قيام الساعة فإن خبر الله تعالى وخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم - يقطع بصدقه، وكذلك مجموع الأمة لأنه معصوم، ومثال إخبار الجمع عن الوجدانيات أن يخبر كلّ واحد أنه وجد هذا الطعام شهياً أو كريهاً، فنقطع أن ذلك الطعام كذلك، فإن متعلق إخبارهم واحد وإن لم يحصل القطع بما في نفس كلّ واحد من تلك الكراهية، لأن كراهة كلّ واحد منهم لم يخبر عنها غيره وإخبار الآخر إنّما هو عن كراهة أخرى قامت به فخبراتهم متعدّدة وفي كلّ مخبر عنه خبر واحد فلا يحصل القطع به بخلاف متعلق تلك الكراهات أو اللذات فإنه واحد وهو كون ذلك الطعام كذلك فإن إخبارات الجميع اجتمعت فيه فحصل القطع، فهذا هو صورة هذه المسالة.
حجة إمام الحرمين: أنا نجد المخبر عن مرضه مع اصفرار وجه وسقم جسمه وغير ذلك من أحواله فإنا نقطع بصدقه حينئذ وكذلك كثير من الصور في غير المرض: من الغضب والفرح والبغضة وهو لا يُعد ولا يحصى.

(1/354)


حجة المنع: أن كثيراً ما يقطع بموت زيد ثم ينكشف الغيب عن كونه فعل ذلك خوفاً من السلطان أو لغرض آخر ومع قيام هذا الاحتمال لا يحصل العلم.
وجوابه أنا نمنع أن الحاصل في تلك الصورة علم بل اعتقاد ونحن لا ندعي أن القرائن تفيد العلم في جميع الصور بل في بعضها فحصل الظن، وفي بعضها الاعتقاد، وفي بعضها العلم، ونقطع في بعض الصور بما دلت عليه القرائن وأن الأمر لا ينكشف بخلافه، ومن أنصف وراجع نفسه وجد الأمر كذلك في كثير من الصور. نعم: في بعضها ليس كذلكن وما النزاع فيها، إنّما النزاع هل يمكن أن يحصل العلم في صورة أم لا؟ فأنتم تنفونه على الإطلاق، ونحن نثبته في صورة.

الفصل الرابع في الدال على كذب الخبر وهو خمسة
منافاته لما علم بالضرورة أو النظر أو الدليل القاطع أو فيما شأنه أن يكون متواتراً ولم يتواتر كسقوط المؤذن يوم الجمعة ولم يخبر به إلاّ واحد، وكقواعد الشرع، أو لهما جميعاً كالمعجزات أو طلب في صدور الرواة أو كتبهم بعد استقراء الأحاديث فلم يوجد.
قول القائل: الواحد ليس نصف الاثنين مخالف لما علم بالضرورة مثال الثاني الواحد ليس سدس عشر الستين، ومثال الدليل القاطع أن الشمس ليست طالعة وقواعد الشرائع هو وجوب الصلاة والزكاة أو تحريم الخمر ونحو ذلك مِمّا هو من قواعد الدين،
فإن شأن هذا أن يتواتر لتوفر الدواعي على نقله، كسقوط المؤذن شأنه أن يتواتر لغرابتهن وقواعد الدين شأنها أن تتواتر لشرفها، والمعجزات جمعت بين الغرابة لكونها من خوارق العادات والشرف لأنها أصل النبوات

(1/355)


فإذا لم يتواتر شيء من ذلك ولم ينقله إلاّ واحد دل على كذب الخبر إن كان قد حضره جمع عظيم، ولم يقم غيره مقامه في حصول المقصود منه، فالقيد الأوّل احتراز من انشقاق القمر، فإنه كان ليلاً ولم يحضره عدد التواتر. والقيد الثاني احتراز عن بقية معجزات الرسول عليه الصلاة والسلام كنبع الماء من بين أصابعه وإشباع العدد العظيم من الطعام القليل، فإنه حضره الجمع العظيم، غير أن الأمة اكتفت بنقل القرآن وإعجازه عن غيره من المعجزات، فنقلت آحاداً من أن شأنها أن تكون متواترة. وأما الأحاديث فلها حالتان: أول الإسلام قبل أن تدون وتضبط فهذه الحالة إذا طلب حديث ولم يوجد ثم وجد لا يدل على كذبه، فإن السنة كانت مفرقة في الأرض في صدور الحفظة. الحالة الثانية: بعد الضبط التام وتحصيلها إذا طلب حديث فلم يوجد في شيء من دواوين الحديث ولا عند رواته دل ذلك على عدم صحته، غير أنه يشترط استيعاب الاستقراء بحيث لا يبقى ديوان ولا راوٍ إلى وكشف أمره في جميع أقطار الأرض وهو عسر متعذر. وأما الكشف في البعض فلا يحصل القطع بكذبه لاحتمال أن يكون في البعض الآخر.
وقد ذكروا أبو حازم حديثاً في مجلس هارون الرشيد وحضره ابن شهاب الزهري فقال ابن شهاب: لا أعرف هذا الحديث فقال له أبو حازم أكل سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرفتها؟! فقال لا، فقال أثلثيها؟ فقال لا، قال أنصفها؟ فسكت فقال له اجعل هذا من النصف الذي لم تعرفه، هذا هو ابن شهاب الزهري شيخ مالك، فما ظنك بغيره؟!.

الفصل الخامس في خبر الواحد
وهو خبر العدل الواحد أو العدول المقيد للظن وهو عند مالك رحمة الله عليه وعند أصحابه حجة واتفقوا على جواز العمل به في الدنيويات والفتوى

(1/356)


والشهادات، والخلاف إنّما هو في كونه حجة في حق المجتهدين فالأكثرون على أنه حجة لمبادرة الصحابة رضوان الله عليهم إلى العمل به.
كون خبر الجماعة إذا أفاد الظن يسمى خبر الواحد هو اصطلاح لا لغة، وقد تقدم أول الباب أن الأخبار ثلاثة أقسام: تواتر وآحاد ولا تواتر ولا آحاد وهو خبر الواحد المنفرد إذا احتفت به القرائن حتى أفاد العلم، وجمهور أهل العلم على أن خبر الواحد حجة عند: مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم.
قال القاضي عبد الوهاب في «الملخص» : اختلف الناس في جواز التعبد بخبر الواحد فقال به الفقهاء والأصوليون وخالف بعض المتكلمين، والقائلون في جواز التعبد به اختلفوا في وقوع التعبد به، فمنهم من قال: لا يجوز التعبد لأنه لم يرد التعبد به بل ورد السمع بالمنع منه. ومنهم من يقول: يجوز العمل به إذا عضده غيره ووجد أمر يقويه، ومنهم من يقول لا يقبل إلى خير اثنين فصاعداً إذا كانا عدلين ضابطين قاله الجبائي، وحكى المازري وغيره أنه قال لا يقبل في الأخبار التي تتعلق بالزنا إلاّ أربعة قياساً للرواية على الشهادة.
حجة المنع من جواز التعبد به، أن التكاليف تعتمد تحصيل المصالح ودفع المفاسد وذلك يقتضي أن تكون المصلحة أو المفسدة معلومة وخبر الواحد لا يفيد إلاّ الظن وهو يجوز خطؤه فيقع المكلف في الجهل والفساد وهو غير جائز وهذه الحجة باطلة إما لأنها مبنية على قاعدة الحسن والقبح ونحن نمنعها، أو لأن الظن إصابته غالبة وخطؤه نادر، ومقتضى القواعد أن لا تترك المصالح الغالبة للمفسدة النادرة، فلذلك أقام صاحب الشرع الظن مقام العلم لغلبة صوابه وندرة خطئه.
حجة المنع من الوقوع: قاله تعالى: «ولا تقف ما ليس لك به علم» (1) ، خبر
_________
(1) 36 الإسراء.

(1/357)


الواحد لا يوجب علماً فلا يتبع وقوله تعالى: «إن الظن لا يغني من الحق شيئاً» (1) وقوله تعالى: «إن يتبعون إلاّ الظن» (2) في سياق الذم وذلك يقتضي تحريم اتباع الظن وهذه النصوص كثيرة.
وجوابها: أن ذلك مخصوص بقواعد الديانات وأصول العبادات القطعيات، ويدل على ذلك قوله - عليه السلام -: «نحن نقضي بالظاهر والله يتولى السرائر» وقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة» (3) فجعل تعالى الموجب للتبين كونه فاسقاً فعند عدم الفسق يجب العمل وهو المطلوب، ولقوله تعالى: «فلولا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون» (4) أوجب الله تعالى الحذر بقول الطائفة الخارجة من الفرقة مع أن الفرقة تصدق على الثلاثة فالخارج منها يكون أقل منها، فإذا وجب الحذر عند قولهم كان قولهم حجة وهو المطلوب، قياساً على الفتوى والشهادة.
ومعنى قولي اتفقوا على أنه حجة الدنيويات، أنه يجوز الاعتماد على قول العدل في الأسفار وارتكاب وارتكاب الأخطار إذا أخبر أنها مأمونة وكذلك سقي الأدوية ومعالجة المرضى وغير ذلك من أمور الدنيا، ويجوز بل يجب الاعتماد على قول المفتي وإن كان قوله لا يفيد عند المستفتين إلاّ الظن، ولذلك اجتمعت الأمة على أن الحاكم يجب عليه أن يحكم بقول
الشاهدين، وإن لم يحصل عنده إلاّ الظن، وإنما الخلاف إذا اجتهد العلماء في الأحكام المتعلقة بالفتاوى هل يجوز للمجتهد الاعتماد على ذلك؟
ويشترط في المخبر العقل والتكليف، وإن كان تحمل الصبي صحيحاً،
_________
(1) 36 يونس.
(2) 116 الأنعام.
(3) 6 الحجرات.
(4) 122 التوبة.

(1/358)


والإسلام، واختلف في المبتدعة إذا كفرناهم، فعند القاضي أبي بكر منا والقاضي عبد الجبار لا نقبل روايتهم، وفصل الإمام فخر الدين وأبو الحسين بين من يبيح الكذب وغيره. والصحابة رضوان الله عليهم عدول إلاّ عند قيام المعارض.
أما العقل فلأنه أصل الضبط، والتكليف هو الوازع عن الكذب فمن لا تكليف عليه هو آمن من عذاب الله تعالى في كذبه فيقدم عليه، ولا يحصل الوثوق به، وتحمل الصبي جائز لأنه إنّما يقبل أداؤه وروايته بعد بلوغه وحصول التكليف الوازع في حقه، وكذلك تحمل الكافر والفاسق، ويؤدون إذا زالت هذه النقائص عنهم، فإن من حصل له العلم بشيء جاز له الإخبار عنه ولا تضره الحالة المقارنة لحصول العلم.
ونقل في مذهب الشافعي رضي الله عنه قول بجواز رواية الصبي وهو منكر من حيث النظر والقواعد بخلاف التحمل، وما زال الصحابة رضوان الله عليهم يسمعون رواية العدول فيما تحملوه في حالة الكفر والصبا وذلك غير قادح، وكذلك الشهادة لا يقدح فيها أن وقت التحمل كان عدواً أو صبياً أو كافراً أو فاسقاً إذا سلمت حالة الأداء عن ذلك، فكذلك هنا. وأما الكافر الذي هو من غير أهل القبلة فلا تقبل روايته في الدين، وإن كان أبو حنيفة رضي الله عنه قبل شهادة أهل الذمة في الوصية وعلى بعضهم لقوله تعالى: «أو آخران من غيركم» (1) فالجمهور يقولون من غير تلك القبلة، وأبو حنيفة يقول من غير دينكم، والمسألة مستقصاة في الفقه والخلاف.
وأما المبتدعة فقد قبل البخاري وغيره روايتهم كعمرو بن عبيد (2) وغيره من
_________
(1) 106 المائدة.
(2) عمرو بن عبيد توفي سنة 762 تلميذ الحسن البصري وزميل واصل بن عطاء انفصل عن أستاذه وقال بالمنزلة بين المنزلتين للعاصي فاعتبروه غير مؤمن وغير كافر.

(1/359)


المعتزلة وغيرهم، نظراً إلى أنهم من أهل القلة من حيث الجملة، وردها غيرهم لأنهم إما كفرة أو فسقة وهو مذهب مالك رحمه الله لقوله تعالى: «إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا» (1) وهؤلاء إما فسقة أو كفرة، والعدالة شرط لقوله تعالى: «ذوى عدل منكم» (2) مع قوله تعالى: «واستشهدوا شهيدين من رجالكم» (3) فهذا مطلق وذاك مقيد، والمطلق يحمل على المقيد لقوله تعالى في الآية الأخرى: «ممن ترضون من الشهداء» (4) وإذا اشترطت العدالة في الشهادة المتعلقة بأمر جزئيّ لا يتعداه الحكم للشهود به فأولى
الرواية، لأنها تثبت حكماً عاماً على الخلق إلى يوم القيامة، ولأن الدليل ينفي العلم بالظن خالفناه في حق العدل، فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. ولقوله تعالى: «إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا» دل على عدم قبول الفاسق فلا بد من العلم بعدم الفسق حتى يتعين حكم التوقف وذلك هو ثبوت العدالة وهو المطلوب.
ومعنى قول العلماء: الصحابة رضوان الله عليهم عدول أي الذين كانوا ملازمين له والمهتدين بهديه عليه الصلاة والسلام، وهذا هو أحد التفاسير للصحابة، وقيل الصحابي من رآه ولو مرة، وقيل من كان في زمانه، وهذان القسمان لا يلزم فيهما العدالة مطلقاً، بل فيهم العدل وغيره بخلاف الملازمين له - عليه السلام -، وفاضت عليهم أنواره، وظهرت فيهم بركاته وآثاره، وهو المراد بقوله - عليه السلام -: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» .
وقولي: عند قيام المعارض، حذراً من زنا ماعز والغامدية وغير ذلك مِمّا جرى في زمن عمر في قصة أبي بكرة وما فيها من القذف والجلد والقصة مشهورة، فمع قيام أسباب الرد لا تثبت العدالة، غير أنها هي الأصل فيهم من غير عصمة وغيرهم
_________
(1) 6 الحجرات.
(2) 2 الطلاق.
(3) 282 البقرة.
(4) 282 البقرة.

(1/360)


الأصل فيه عدم العدالة حتى تثبت العدالة عملاً بالغالب في الفريقين.
والعدالة اجتناب الكبائر وبعض الصغائر والإصرار عليها والمباحات الفادحة في المروءة.
الكبيرة والصغيرة يرجعان إلى كبر المفسدة وصغرها وقال بعض العلماء لا يقال في معصية الله تعالى صغيرة نظراً إلى من عُصي بها مع حصول الاتفاق على أن العدالة لا تذهب بجميع الذنوب، بل الخلاف في التسمية، قال بعض العلماء كلّ معصية فيها حد فهي كبيرة، وكذلك كلّ ما ورد في الكتاب أو السنة لعنة فاعلة أو التشديد في الوعيد عليه فهو كبيرة، ثم ما وقع من غير ذلك اعتبر بالنسبة غليه، فإن ساواه في المفسدة حكم بأنه كبيرة، ووردت السنة بأن القبلة في الأجنبية صغيرة والنظرة وأشياء نحوهما، فينظر أيضاً ما ساواهما فهو صغيرة، وأما الإصرار فيخرج الصغيرة عن أن تكون صغيرة، ولذلك يقال لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار. فالإصرار أن يكون العزم حاصلً على معاودة مثل تلك المعصية، أما من تقع منه الصغيرة فيقلع عنها ويتوب ثم يواقعها من غير عزم سابق على تكرار الفعل فليس بإصرار.
فائدة: ما ضابط الإصرار الذي تصير الصغيرة به كبيرة؟ قال بعض العلماء حد ذلك أن يتكرر منه تكراراً - يخل الثقة بصدقه كما تخل به ملابسة الكبيرة فمتى وصل إلى هذه الغاية صارت الصغيرة كبيرة، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص واختلاف الأحوال، والنظر
في ذلك لأهل الاعتبار والنظر الصحيح من الحكام وعلماء الأحكام الناظرين في التجريح والتعديل.
والمباحات الفادحة في المروءة نحو الأكل في الطرقات، والتعري في الخلوات ونحو ذلك مِمّا يدل على أنه غير مكترث باستهزاء الناس به. قال الغزالي إلى أن يكون ذلك فعل ممن يعمل ذلك على سبيل كسر النفس وإلزامها التواضع كما يفعله كثير من العُبَّاد.
وقولي بعض الصغائر: معناه أن من الصغائر ما لا يكون فيه إلاّ مجرد المعصية كالكذبة التي لا يتعلق بها ضرر، والنظرة لغير ذات محرم، ومنها ما يكون دالاً على الاستهزاء بالدين أو المروءة، كما لو قبَّل امرأة في الطريق أو أمسك فرجها

(1/361)


بحضرة الناس غير مكترث بهم فهذه أفعال من لا يوثق بدينه ولا مروءته، فلا تأمنه في الشهادة على الكذب فيها.
فائدة: ما تقدم من أن الكبيرة تتبع عظم المفسدة، فما لا تعظم مفسدته لا يكون كبيرة، استثنى صاحب الشرع من ذلك أشياء حقيرة المفسدة، وجعلها مسقطة للعدالة موجبة للفسوق، لقبح ذلك الباب في نفسه لا لعظم المفسدة، ولك كشهادة الزور فإنَّها فسوق مطلقاً، وإن كان لم يتلف بها على المشهود عليه إلاّ فلساً، ومقتضى القاعدة أنها لا تكون كبيرة إلاّ إذا عظمت مفسدتها، وكذلك السرقة والغصب لقبح هذه الأبواب في أنفسها، ومما يدل على التفرقة بين أسباب الفسوق وغيرها قوله تعال0ى: «وكرَّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان» (1) فرق تعالى بين الكفر والفسوق الذي هو من الكبائر، والعصيان الذي هو الصغائر التي ليست فسوقاً.
ثم الفاسق إن كان فسقه مظنوناً قبلت روايته بالاتفاق، وإن كان مقطوعاً قبل الشافعي رواية أرباب الأهواء إلاّ الخطابية من الرافضة (2) لتجويزهم الكذب لموافقة مذهبهم، ومنع القاضي أبو بكر من قبولها، واختلف العلماء في شارب النبيذ من غير سكر فقال الشافعي أحده وأقبل شهادته بناء أن فسقه مظنون وقال مالك أحده ولا أقبل شهادته كأنه قطع بفسقه.
معنى الفسق المظنون الذي تقبل معه الرواية أن يكون هو يعتقد أنه على صواب لمستند حصل له، ونحن نظن بطلان ذلك المستند ولا نقطع ببطلانه، فهو في حكم الفاسق
لولا ذلك المستند، أما لو ظننا فسقه ببينة شهدت بارتكابه أسباب الفسوق فليس هو من هذا القبيل، بل ترد روايته ومعنى أن أرباب الأهواء مقطوع بفسقهم أي خالفوا قطعياً، وهو يعتقدون أنهم على صواب. والقسم الأوّل خالف ظناً.
_________
(1) 7 الحجرات.
(2) الخطابية: طائفة من الشيعة أتباع أبي الخطاب الأجدع، الذي تتلمذ لجعفر الصادق، وزعم أن الألوهية حلت فيه، واستباح مع أتباعه ما حرم الله. وقد تبرأ منهم جعفر وحاربهم وأسر أبو الخطاب وقتل سنة 755م وامتزجت دعوته بالإسماعيلية.

(1/362)


حجة الشافعي: أنهم من أهل القبلة فتقبل روايتهم كما نورثهم ونرثهم ونجري عليهم أحكام الإسلام.
حجة القاضي: أن مخالفتهم القواطع تقتضي القطع بفسقهم، فيندرجون في قوله تعالى: «إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا» (1) ولأن قبول روايتهم ترويج لبدعتهم فيحرم (2) . وأما شارب النبيذ فالأمر فيه مبني على قاعدتين إحداهما أن الزواجر تعتمد المفاسد (3) ودرأها لا حصول العصيان ولذلك نؤلم الصبيان والبهائم استصلاحاً لهم وإن لم يكونوا عصاة؛ فلذلك يقام الحد على الحنفي لدرء مفسدة السكر وفساد العقل والتسبب له وإن لم يكن عاصياً لتقليده أبا حنيفة، فهذه القاعدة هي الموجبة لحده وقبول شهادته، ولا تناقض حينئذ لأن الزواجر لدرء المفسدة وقبول الشهادة لعدم المعصية.
ويرد على الشافعي في هذه القاعدة أنها وإن كانت صحيحة غير أنا لم نجدها إلاّ في الزواجر التي ليست محدودة، أما المحدودة فما عهدناها في الشرع إلاّ في المعاصي.
القاعدة الثانية: وهي أن قضاء القاضي ينقض إذا خالف أحد أربعة أشياء: الإجماع أو النص الجلي أو القياس الجلي أو القواعد. فمتى خالف إحدى هذه الأربعة قضاء قاض لا لمعارض له في القياس أو النص الجلي أو القواعد نقض هذا، وهو مدار الفتاوى في المذاهب المعمول بها، وإذا كنا لا نقره شرعاً مع تأكده بقضاء القاضي بنقضه، فأولى أن لا نقره شرعاً إن لم يتأكد، وإذا لم نقره شرعاً لم يجز التقليد فيه، ويكون الناطق به من المجتهدين كأنه ساكت لم يقل شيئاً والمقلد لذلك المجتهد كأنه لم يقلد أحداً، ومن لم يكن مقلداً في شرب النبيذ كان عاصياً، والعاصي بمثل هذه الفعلة يكون فاسقاً؛ فلهذه القاعدة قال مالك أحده للمعصية وأرد شهادته لفسقه وهو أوجه في النظر من قول الشافعي لما تقدم من الإشكال على
_________
(1) 6 الحجرات.
(2) في الأصول: فتحرم.
(3) في الأصول: الفاسد.

(1/363)


قول الشافعي. ومسألة النبيذ خولف فيها النصوص لقوله عليه السلام: «كلّ مسكر خمر وكل خمر حرام» ونحوه، وهو كثير في السنة، والقياس الجلي على الخمر والقواعد من جهة أن القاعدة سد الذريعة في صون العقول لانعقاد الإجماع على تحريم النقطة من الخمر وإن كانت لا تسكر سداً لذريعة الإسكار.
وقال أبو حنيفة: يقبل قول المجهول.
خالفه الجمهور في ذلك لقوله - عليه السلام -: «يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله» . وهذه صيغته صيغة الخبر ومعناه الأمر تقديره ليحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله فلولا أن العدالة شرط وإلا لبطلت حكمة هذا الأمر فإن العدل وغيره سواء حينئذ.
احتج أبو حنيفة بقوله تعالى: «إن جاءكم فاسق بنبأ» (1) فتبينوا. أوجب الله تعالى التثبت عند وجود الفسق، فعند عدم الفسق وجب أن لا يجب التثبت، فيجوز العمل وهو المطلوب. ولقوه تعالى: «فلولا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون» (2) أوجب الحذر عند قبولهم قولهم ولم يشترط العدالة فوجب جواز قبول قول المجهول. ولأن أعرابياً جاء يشهد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهلال فقبل شهادته وأمر الناس بالصوم. وإذا جاز ذلك في الشهادة جاز في الرواية بطريق الأولى؛ لأن الشهادة يشترط فيها ما لا يشترط في الرواية من الذكورية والحرية والعدد وغير ذلك.
والجواب عن الأوّل: أنا إذا علمنا زوال الفسق ثبتت العدالة لأنهما ضدان لا ثالث لهما متى علم نفي أحدهما ثبت الآخر. وعن الثاني: أن الطائفة مطلقة في الآية فيحمل على ما تقدم من تقييد السنة بقوله عليه السلام: «من كلّ خلف عدوله» وعن الثالث: أن القصة محتملة من حيث اللفظ، وليس في الحديث أنه كان مجهولاً ولا معلوماً، غير أن قضايا الأعيان تتنزل على القواعد وقاعدة الشهادة العدالة، ولو نقل
_________
(1) 6 الحجرات.
(2) 122 التوبة.

(1/364)


عن بعض قضاة الزمان أنه حكم بقول رجل ولم يذكر صفته حمل على أنه ثبتت عدالته فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى لاسيما وهو يقول: «إذا شهد ذوا عدل فصوموا أفطروا وانسكوا» فتصريحه - عليه السلام - بالعدالة يأبى قبول شهادة المجهول.
وتثبت العدالة إما بالاختبار أو بالتزكية واختلف الناس في اشتراط العدد في التزكية والتجريح فشرطه بعض المحدثين في التزكية والتجريح في الرواية والشهادة واشترطه القاضي أبو بكر في تزكية الشهادة فقط واختاره الإمام فخر الدين، وقال الشافعي يشترط إبداء سبب التجريح دون التعديل لاختلاف المذاهب في ذلك والعدالة شيء واحد وعكس قوم لوقوع الاكتفاء بالظاهر في العدالة دون التجريح، ونفى ذلك القاضي أبو بكر فيهما.
الاختبار كالمعاملة والمخالطة التي تطلع على خبايا النفوس ودسائسها، والتزكية ثناء العدول المبرزين عليه بصفات العدالة على ما تقرر في كتب الفقه. وتعلم العدالة أيضاً بغير
هاتين الطريقتين وهي السمعة الجميلة المتواترة والمستفيضة ولذلك يقطع بعدالة أقوام من العلماء والصلحاء من سلف هذه الأمة ولم نختبرهم، بل بالسماع المتواتر أو المستفيض، فهذا كافٍ وقد نص الفقهاء على أن من عرف بالعدالة لا يطلب له تزكية.
حجة اشتراط العدد في الجميع: أن التجريح والتعديل صفتان فيحتاجان إلى عدلين فصاعداً كالرشد والسفه والكفاءة وغيرها.
حجة القاضي: أن الرواية يكفي فيها الواحد على الصحيح فأصلها كذلك، والشهادة لا يكفي فيها الواحد فلا يكفي في أصلها الواحد تسوية بين البابين والفروع والأصول، وأما إبداء أسباب التجريح والتعديل فالفقه فيه أن المجرح

(1/365)


والمعدل إذا كان عالماً مبرزاً اكتفى الحاكم بعلمه عن سؤاله، فإن العالم لا يجرح إلاّ بما لو سمع به الحاكم كان جرحاً، وكذلك التعديل.
وأما اختلاف المذاهب فالعالم المتقن لا يجرح بأمر مختلف فيه يمكن أن يصح التقليد فيه، ولا يفسق بذلك إلاّ جاهل، فما من مذهب إلاّ وفيه أمور ينكرها أهل المذاهب الأخرى، ولا سبيل إلى التفسيق بذلك، وإلا لفسقت كلّ طائفة الطائفة الأخرى، فتفسق جميع الأمة، وهو خلاف الإجماع، بل كلّ من قلد تقليداً صحيحاً فهو مطيع لأمر الله تعالى، وإن كان غيره من المذاهب يخالفه في ذلك.
وأما الاكتفاء بالظاهر فهو شأن الجهلة الأغبياء الضعفاء الحزم والعزم ومثل هؤلاء لا ينبغي للحاكم الاعتماد على قولهم في التزكية. وكل من كان يغلب عليه حسن الظن بالناس لا ينبغي أن يكون مزكياً ولا حاكماً لبعده عن الحزم. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «الحزم سوء الظن» فمن ضيع سوء الظن فقد ضيع الحزم، نعم لا ينبغي أن يبنى على سوء ظنه شيئاً إلاّ لمستند شرعي وهو معنى قوله تعالى: «اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم» (1) أي اجتنبوا العمل به حتى يثبت بطريق شرعي فالحق مذهب القاضي.
ويقدم الجرح على العديل إلاّ أن يجرحه بقتل إنسان معين فيقول المعدل رأيته حياً وقيل يقدم المعدل إن زاد عدده.
إنّما قدم الجرح لأن الجارح مطلع على ما لم يطلع عليه المعدل؛ لأن المعدل مدركه استصحاب الحال والمطلع على الرافع للاستصحاب مقدم على المتمسك بالاستصحاب، أما إذا جرحه بقتل من شهد بحياته فلا يمكن أن يقال اطلع الجارح على ما ذهل عنه المعدل فيحصل التعارض والتوقف، وليس أحدهما أولى من الآخر فيستصحب الحالة السابقة المتقررة من غير هاتين البينتين، وكأن هاتين البينتين ما وجدتا ووجه تقدم العدد الأكثر أن الكثرة تقوي الظن والعمل بأقوى الظنين وواجب كما في الأمارتين والحديثين وغيرهما.
_________
(1) 36 يونس.

(1/366)


الفصل السادس في مستند الراوي
فأعلى [مراتبه] (1) أن يعلم قراءته على شيخه أو إخباره به أو يتفكر ألفاظ قراءته، وثانيها أن يعلم قراءة جميع الكتاب ولا يذكر الألفاظ ولا الوقت. وثالثها أن يشك في سماعه فلا تجوز له رواية بخلاف الأولين. ورابعها: أن يعتمد على خطة فيجوز عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد خلافاً لأبي حنيفة.
إذا علم قراءة جميع الكتاب ولا يذكر نطقه به فهو جازم بروايته عن شيخه من حيث الجملة فيجوز العمل بما رواه لحصول الثقة بذلك، كما أن من يقطع بأنه رأى مسألة في كتاب ولا يتذكر صورة حروفها يجوز له الاعتماد على ما جزم به من ذلك بخلاف الشك لا مستند له: لا علم ولا ظن، وأما الاعتماد على الخط في مسألة ذات أقوال: اعتبره مالك في الرواية والشهادة بناء على أن الإنسان قد يقطع بصور الحروف وأنها لم تتبدل بقرائن حالية عنده لتلك الحروف لا يمكن التعبير عن تلك القرائن، كما أن المنتقد للفضة والذهب يقطع بجيدها ورديئها بقرائن في تلك الأعيان لا يمكنه أن يعبر عنها. وقيل لا يعتمد على الخط مطلقاً لقوة احتمال التزوير ومن استقراء أحوال المزورين للخطوط علم أن وضع مثل الخط ليس من البعيد المتعذر بل نم القريب، حتى روى بعض المصنفين في مذهب مالك أن مالكاً رجع على الشهادة على الخط.
وفصل الشافعي بين الرواية فتجوز؛ لأن الداعية في التزوير فيها ضعيفة لأنها لا تتعلق بشخص معين، وبين الشهادة فيمتنع لأنها متعلقة بمعين وهو مظنة العداوة، ولا يتصور أن يعادي أحد الأمة إلى قيام الساعة، ولأن الشهادات إنّما تقع غالباً في الأموال النفيسة، وما هو متعلق الأغراض من الأمور الخطرة فتتوفر الدواعي على التزوير فيها لتحصيلها بمقتضى الطباع البشرية.
_________
(1) ساقطة من الأصل.

(1/367)


الفصل السابع في عدده
والواحد عندنا وعند جمهور الفقهاء يكفي خلافاً للجبائي في اشتراط الاثنين أو يعضد الواحد ظاهر أو عمل بعض الصحابة أو اجتهاد أو يكون منتشراً فيهم، ولم يقبل في الزنا إلاّ أربعة لنا أن الصحابة رضوان الله عليهم قبلوا خبر عائشة رضي الله عنها
في التقاء الختانين (1) وحدها وهو مِمّا تعم به البلوى.
احتج الجبائي بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سلم نم اثنتين فقال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟! فقال كلّ ذلك لم يكن، فقال قد كان بعض ذلك يا رسول الله فقال عليه السلام للصحابة «أحق ما قال» فقالوا نعم، فلم يقبل عليه السلام قول ذي اليدين وحده، ولأن عمر - رضي الله عنه - لم يقبل خبر أبي موسى الأشعري وحده في الاستئذان، ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعاً، ولأن النصوص مانعة من العمل بالظن كما تقدم بيانها خالفناه في العدد إذا أخبروا فيبقى فيما عدا هذا على مقتضى الدليل.
والجواب على الأوّل: أنا نقول بخبر المنفرد ما لم تحصل فيه ريبة وتلك واقعة عظيمة في جميع عظيم فلو لم يخبر بها غير ذي اليدين لكان ذلك ريبة يوجب الرد، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزوال الريبة لا لأن العددة شرط، وكذلك لم يرد عمر - رضي الله عنه - الخبر إلاّ لحصول الريبة بسبب أن الاستئذان أمر يتكرر فلو لم يعرفه إلاّ واحد لكان ذلك ريبة توجب الرد، وعن الثالث: أن ظواهر تلك النصوص مخصوصة بعمل الصحابة رضوان الله عليهم لقبولهم خبر عائشة المتقدم وخير عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس لما روى لهم قوله - عليه السلام - «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» .
_________
(1) وهو حديثها في وجوب الغسل بالتقاء الختانين أنزل أم لم ينزل.

(1/368)


الفصل الثامن فيما اختلف فيه من الشروط
قال الحقيقة إذا لم يقبل راوي الأصل الحديث لا تقبل رواية الفرع، قال الإمام إن جزم كلّ واحد منهما لم يقبل وإلا عمل بالراجح، وقال أكثر أصحابنا والشافعية والحنفية إذا شك الأصل في الحديث لا يضر ذلكن خلافاً للكرخي.
حجة الحنفية: أن اعتبار الفرع: فرع اعتبار الأصل، والأصل أنكر أن يكون الفرع روي عنه فلا يقبل الفرع، كما لو قال الأصل في الشهادة: لم أعلم هذه الشهادة، أو أجزم بعدم تحملها فإن الشهادة لا تقبل.
قال الإمام فخر الدين: إذا لم يجزم بعدمه بل قال لا أذكر أنه رواه عني قبلت رواية الفرع، لأن عدالته تقتضي صدقه، وعدم علم الأصل لا ينافي صدقه، فلمثبت مقدم على النافي، وإن جزم الأصل بعدم الرواية ولم يجزم الفرع بل قال: الظاهر أني رويته، قدم الأصل لجزمه، وإن جزم كلّ واحد منهما: هذا بالرواية وهذا يعدمها حصل التوقف، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر.
ووجه قول أصحابنا. أنه يقبل في شك الأصل أن عدالة الفرع تمنعه الكذب والشك من الأصل لا يعارض اليقين.
والمنقول عن مالك أن الراوي إذا لم يكن فقيهاً فإنه كان يترك روايته ووافقه أبو حنيفة وخالفه الإمام فخر الدين وجماعة.
حجة مالك: أن غير الفقيه يسوء فهمه فيفهم الحديث على خلاف وضعه، وربما خطر له أن ينقله بالمعنى الذي فهمه معرضاً عن اللفظ، فيقع الخلل في مقصود

(1/369)


الشارع، فالحزم أن لا يروى عن غير فقيه، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «نصر الله امرءاً سمع مقالتي فأداها كما سمعها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه إلى من ليس بفقيه» فجعل الحامل إما فقيهاً وغيره أفقه منه، أو غيره جاهلاً، ولم يجعل من جملة الأقسام أن الحامل جاهل.
حجة الجواز قوله - عليه السلام -: «يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله» ولم يشترط الفقه، فكان ساقطاً عن الاعتبار، ولأن العدالة تمنع من تبديل اللفظ إلاّ بشروطه، ومتى كان هذا هو لفظ صاحب الشرع أو بدل لفظه بشروط، أمنا الخلل فإن من شرط تبديل اللفظ مساواته في الدلالة.
قال الإمام فخر الدين لا يخل بالراوي تساهله في غير الحديث، ولا جهله بالعربية، ولا الجهل بنسبه، ولا مخالفة أكثر الأمة لروايته، وقد اتفقوا على أن مخالفة الحفاظ لا تمنع من القبول، ولا كونه على خلاف الكتاب، خلافاً لعيسى بن أبان.
المقصود ضبط الشرائع فالتساهل في غيرها لا يضر، إذا علم ضبطه وتشديده في الحديث، وإذا جهل العربية عدالته تمنعه أن يروي إلاّ كما سمع وعلى إعرابه وصورته، وأنه متى شك في شيء تركه. هذا كله أثر العدالة وهي موجودة فيكتفى بها، والجهل بنسبه إنّما يتوقع منه التدليس به، وتزكنه على نسب آخر فيقع التدليس ولكن هذا أمر يتعلق بالراوي عنه الذي يدلس به، أما هو فلا، ومخالفة الأكثر لروايته أو الحفاظ لا تقدح لأنه قد ينفرد بما لم يطلعوا عليه.
حجة عيسى بن أبان: ما روي عن رسولا لله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا روي لكم عني حديث فاعرضوه على كتبا الله فإن وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه» .
جوابه أنه معارض بقوله تعالى: «لتبين للناس ما نزل إليهم» (1) ومن البيان
_________
(1) 44 النحل.

(1/370)


التخصيص والمخصص مخالف للعام المخصص، فكان يلزم رده وليس كذلك لظاهر الآية، ولأن ظاهر الحديث يقتضي رده وإن كان متواتراً وليس كذلك بل يحمل الحديث على ما إذا دلت قواطع الكتاب نقيض مقتضاه مع تعذر التأويل.
ولا كون مذهبه على خلاف روايته وهو مذهب أكثر أصحابنا، وفيه أربعة مذاهب، قال الحنفية إن خصصه رجع إلى مذهب الراوي لأنه أعلم. وقال الكرخي ظاهر الخبر أولى. وقال الشافعي إن خالف ظاهر الحديث رجع إلى الحديث، وإن كان أحد الاحتمالين رجع إليه. وقال القاضي عبد الجبار إن كان تأويله على خلاف الضرورة ترك وإلا وجب النظر في ذلك.
هذه المسالة عندي ينبغي أن تخصص ببعض الرواة، فتحمل على الراوي المباشر للنقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى يحسن أن يقال هو أعلم بمراد المتكلم أما مثل مالك ومخالفته الحديث بيع الخيار الذي رواه وغيره من الأحاديث فلا يندرج في هذه المسألة، لأنه لم يباشر المتكلم حتى يحسن أن يقال فيه لعله شاهد من القرائن الحالية أو المقالية ما يقتضي مخالفته، فلا تكون المسألة على عمومها.
حجة الاعتماد على الحديث مطلقاً: أن الحجة في لفظ صاحب الشرع لا في مذهب الراوي فوجب المصير إلى الحديث.
حجة الحنفية: أن المباشر يحصل له من القرائن ما يقتضي تخصيص العام فيرجع إليه في التخصيص، كما يرجع إليه في أصل الحديث.
حجة الشافعي: أن الحديث إذا كان له ظاهر يرجع إليه، لأن الحجة في ظواهر الشريعة لا في مذاهب الرواة، أما إذا لم يكن له ظاهر فقد سقطت الحجة منه فيعتمد على تفسير الراوي، لأنه أعلم بحال المتكلم ولم يعارضه ظاهر سرعي، وهذا كاللفظ المشتركن كما إذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «اعتدّي بقرء وقرء وقرء» فحمله الراوي على الإظهار صح ذلك.

(1/371)


وأما مذهب القاضي عبد الجبار فقد حكى خلافاً وذلك عسر؛ لأن ما هو على خلاف الضرورة كيف يمكن أحد أن يقول هن معتبر، فكأنه تفسير لا خلاف. وأما قوله نظر في ذلك فهو خلاف لمن جزم بتقديم الخبر أو المذهب، ووجهه أنه موضع تعارض لما تقدم من المدارك المتعارضة، فينظر في كلّ مادة ما يقتضي ترجيح بعض ذلك على بعض.
وإذا ورد الخبر في مسألة علمية وليس في الأدلة القطعية ما يعضده، رد لأن الظن لا يكفي في القطعيات وإلا قبل.
مسائل أصول الدين المطلوب فيها اليقين وهو المكلف به فيها عند الجمهور، فإذا ورد ما يفيد الظن وفي الأدلة العقلية ما يقتضي ذلك المطلوب بعينه حصل المقصود بذلك القطعي
وبقي السمعي مؤكداً له ومؤنساً؛ فإن اليقين ما ورد فيه السمع والعقل بخلاف العقل وحده (1) وإن لم يكن غيره رد لعدم الفائدة فيه، لأن ما يفيده ذلك الخبر لا يعتبر، والذي هو معتبر لا يفيده ذلك الخبر، فسقط اعتباره.
وإن اقتضى عملاً تعم به البلوى قبل عند المالكية والشافعية، خلافاً للحنفية. لنا حديث عائشة المتقدم في التقاء الختانين.
قالت الحنفية: ما تعم به البلوى شأنه أن يكون معلوماً عند الكافة، لوجود سببه عندهم، فيحتاج كلّ منهم لمعرفة حكمه فيسأل عنه ويروى الحديث فيه، فلو كان فيه حكم لعلمه الكافة، فحيث لم يعلمه الجمهور دل ذلك على بطلانه.
وقد نقضوا أصلهم بأحاديث قبلوها فيما تعم به البلوى، فأثبتوا الوضوء من القهقهة والحجامة والفصادة بأحاديث أخبار آحاد، مع أن هذه الأمور مِمّا تعم بها البلوى، وكذلك الوضوء من القيء والرعاف ونحو ذلك. واحتجوا أيضاً بقوله تعالى: «إن الظن لا يغني من الحق شيئاً» (2) خالفناه في قبول الواحد إذا لم تعم
_________
(1) في نسخة: فإن النفس بما ورد فيه السمع والعقل آلس بخلاف العقل وحده.
(2) 36 يونس.

(1/372)


به البلوى فيبقى على مقتضى الدليل فما عداه، وهو معارض بقوله تعالى: «إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا» (1) ومقتضاه الجزم بالعمل عند عدم المفسق كان فيما تعم به البلوى أم لا.
الفصل التاسع في كيفية الرواية
إذا قال الصحابي سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - أو أخبرني أو شافهني فهذا أعلى المراتب.
وثانيها: أن يقول قال - عليه السلام -.
وثالثها: أمر عليه السلام بكذا أو نهى عن كذا، وهذا كله محمول عند المالكية على أمره - عليه السلام -، خلافاً لقوم.
الفرق بين قال وما قبلها، أن قوله قال يصدق من الوساطة وإن لم يشافه كما يقول أحدنا اليوم: قال النبي - عليه السلام -، وإن كان لم يسمعه، ولا شك أن اللفظ الدال على المشافهة أنص في المقصود وابعد عن الخلل المتوقع من الوسائط ودون ذلك أمر أو نهي، لأنه يدخله احتمال الوسائط وتوقع الخلل من قبلها مضافاً إلى الخلل الحاصل من اختلاف الناس في صيغتي الأمر والنهي. هل هما للطلب الجازم أم لا؟ واحتمال آخر هو أن ذلك الأمر للكل أو البعض وهل دائم أو غير دائم.
وقولي: إنه محمول عند المالكية على أمره - عليه السلام - أريد إذا لم يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمر، بل يقول الراوي: أمر بكذا أو أمرنا بكذا، فإن اللفظ يحتمل أن يكون فاعل هذا الأمر هو النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيره،
_________
(1) 6 الحجرات.

(1/373)


لكن العادة أن من له رئيس معظم فقال أمر بكذا أو أمرنا بكذا إنّما يريد أمر رئيسه، ولا يفهم عنه إلاّ ذلك، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو عظيم الصحابة ومرجعهم والمشار إليه في أقوالهم وافعالهم؛ فتصرف إطلاقاتهم إليه - صلى الله عليه وسلم -، أما مع تعيين الفاعل للأمر فلا يبقى هناك احتمال البتة.
حجة غير المالكية: أن الفاعل إذا حذف احتمل النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره، فلا نُثبت شرعاً بالشك.
وجوابه: ظاهر الحال صارف للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم تقريره.
ورابعها: أن يقول أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا، فعندنا وعند الشافعي يحمل على أمره ونهيه - صلى الله عليه وسلم -، خلافاً للكرخي.
وخامسها: أن يقول السنة كذا فعندنا يعمل على سنته - عليه السلام - خلافاً للقوم.
قد تقدم تقرير أمرنا ونهينا، وأما السنة فأصلها في اللغة الطريقة، ومنه سنن الطريق الذي يمشي فيه، غير أنها في عرف الاستعمال صارت موضوعة لطريقته - عليه السلام - في الشريعة، فمن رجح اللغة توقف لعدم تعين ذلك النوع من السنة التي تقتضيها اللغة، ومن لاحظ النقل حمله على الشريعة. وللعلماء خلاف في لفظ السنة، فمنهم من يقول السنة هو المندوب، ولذلك تذكر قبالة الفرض، فيقال فروض الصلاة كذا وسنتها كذا، ومنهم من يقول السنة ما ثبت من قبله عليه السلام بقول أو فعل غير أن القرآن كان واجباً أو سنة، فيقال من السنة كذا، ويريد أنه واجب بالسنة، ولذلك يقول الشافعي الختان من السنة وهو عنده واجب، ومنهم من يقول السنة ما فعله - عليه السلام - وواظب عليه.
وسادسها: أن يقول عن النبي - عليه السلام -، فقيل يحمل على سماعه هو قيل لا.
يحتمل أن يكون المراد روي عن النبي، فلا يلزم أن يكون هو سامعاً، أو يكون المراد أخذت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو نقلت، فيكون هو السامع،

(1/374)


فاللفظة محتملة، فمنهم من غلب ظاهر حال الصحابي، وإن الغالب عليه أن يكون هو السامع فجعله مباشراً، أو ينظر إلى احتمال اللفظ فلا تتعين المباشرة.
وسابعها: كنا نفعل كذا وهو يقتضي كونه شرعاً.
لأن مقصود الصحابي أن يخبرنا بما يكون شرعاً بسبب أنهم كانوا يفعلون ذلك، وأن الغالب اطلاعه - عليه السلام - على ذلك وتقريره عليه، وذلك يقتضي الشرعية، وأيضاً
فالصحابة رضوان الله عليهم حالهم يقتضي أنهم لا يقرون بين أظهرهم إلاّ ما يكون شرعاً فيكون ذلك شرعاً.
وأما غير الصحابي فأعلى مراتبه أن يقول حدثني أو أخبرني أو سمعته، وللسامع منه أن يقول حدثني أو أخبرني أو سمعته يحدث عن فلان، إن قصد إسماعه خاصة أو في جماعة، وإلا فيقول سمعته يحدث.
إذا حدث جماعة هو أحدهم صدق لغة أن يقول: حدثني وأخبرني، وأما إذا لم يقصد إسماعه ولا إسماع جماعة هو فيهم لا يصدق أنه حدثه ولا أخبره، بل يصدق أنه هو سمعه فقط، فإن سماعه لا يتوقف على قصد إسماعه.
وثانيها: أن نقول له سمعت هذا من فلان فيقول نعم، أو يقول بعد الفراغ الأمر كما قرئ، فالحكم مثل الأوّل في وجوب العمل ورواية السامع.
لأن لفظة نعم في لغة العرب تقتضي إعادة الكلام الأوّل وتقريره، فإذا قلت لغيرك قام زيد فقال نعم تقديره نعم قام زيد، فإذا قيل له سمعت هذا فقال نعم تقديره نعم سمعته، وقوله الأمر كما قرئ المراد بالأمر مسموعه وما ضبطه تقديره الذي سمعته وضبطته مثل الذي قرئ فيكون عين المسموع له، لأنا لا نعني بعينه إلاّ ذلك، فإن اللفظ إذا أعيد بعينه كان الثاني مثل الأوّل قطعاً، وكلما كرر الإنسان الفاتحة كانت أصواته الثانية مثل أصواته الأولى لا عينها، بل هي أمثال تكرر.

(1/375)


وثالثها: أن يكتب إلى غيره سماعه، فللمكتوب إليه أن يعمل بكتابه إذا تحققه أو ظنه، ولا يقول سمعت ولا حدثني، ويقول أخبرني.
قد تقدم أن الاعتماد على الخط والكتاب جوزه في الرواية كثير ممن منعه في الشهادة، وتقدم الفرق بينهما، وتوجيه الخلاف في ذلك، وكون المكتوب إليه يقول أخبرني معناه أعلمني، والإعلام والإخبار يصدق لغة بالرسائل، وفي التحقيق هو مجاز لغوي حقيقة اصطلاحية، فإن الإخبار لغة إنّما هو في اللفظ، وتسمية الكتابة إخباراً وخبراً لأنها تدل على ما يدل عليه الإخبار، والحروف الكتابية (1) موضوعة للدلالة على الحروف اللسانية فلذلك سميت خبراً وإخباراً من باب تسمية الدليل باسم المدلول.
ورابعها: أن يقال له هل سمعت هذا؟ فيشير برأسه أو بأصبعه فيجب العمل به، ولا يقول المشار إليه أخبرني ولا حدثني ولا سمعته.
هذا الإشارة قائمة في اللغة والعرف مقام قوله نعم، فيغلب على الظن أنه معتقد صحة ما قيل له، والعمل بالظن واجب في هذا الباب، ولا تسمى هذه الإشارة خبراً ولا إخباراً ولا حديثاً، ولا هي شيء يسمع، فلا يقول سمعته، ويحتاج في هذا المقام إلى الفرق بينها وبين الكتابة، فإن كليهما فعل، وكلاهما لا يصدق عليه الإخبار حقيقة لغوية، فيقع الفرق من وجهين أحدهما: أن الكتابة أمسّ بالإخبار في كثرة الاستعمال، فلما اطرد ذلك صار كأنه موضوع للإخبار، والإشارة أقل في الكتابة في ذلك، وتداول المكاتبات بين الناس أكثر من تداول الإشارات، ولذلك امتلأت الخزائن من الكتب والدول من الدواوين كلها بطريق الكتابة. وثانيها في القرق: أن الكتابة فيها وضع اصطلاحي بخلاف الإشارة.
وخامسها: أن يقرأ عليه فلا ينكره بإشارة ولا عبارة، ولا يعترف، فإن
_________
(1) في الأصل: والحروف والكتابة.

(1/376)


غلب على الظن اعترافه لزم العمل به، وعامة الفقهاء جوازوا روايته وأنكرها المتكلمون، وقال بعض المحدثين ليس له أن يقول إلاّ أخبرني قراءة عليه.
وكذلك الخلاف لو قال القارئ للراوي بعد قراءة الحديث أرويه عنك قال نعم وهو السادس، وفي مثل هذا اصطلاح المحدثين وهو من مجازا التشبيه، شبه السكوت بالإخبار.
إذا غلب على الظن احترافه لزم العمل به لأن العمل بالظن واجب، غير أن هنا إشكالاً وهو أن مطلق الظن كيف كان لم يعتبره صاحب الشرع، بل ظن خاص عند سبب خاص، فما ضابط هذا الظن الحاصل هنا، فإن قلنا يكفي مطلق الظن ضعف من حيث القواعد، وإن قلنا المطلوب ظن خاص ضعف ضبطه، ووجه تجويز الرواية أمران: أحدهما قياساً على العمل، وثانيهما إن الظن حصل باعترافه فتجوز الرواية، كما لو قال نعم.
حجة المنع: أن الرواية هي التحمل والنقل، وهو لم يأذن في شيء فيتحمل عنه، والتحمل بغير سماع ولا ما يقوم مقام السماع لا يجوز، وقوله أخبرني قراءة عليه معناه أن إخباره لم يكن بإسماعي لفظاً من قبله، لأنه ساكت بل إخباري قراءة عليه، فكأنه فسر الإخبار بأنه قرأ عليه، فإن قراءة منصوب على التمييز والتمييز مفسر، وأما قوله نعم فهو أقوى من الأوّل لوجود التصريح بالجواب من حيث الجملة.
وسابعها: إذا قال له حدث عني ما في هذا الكتاب ولم يقل له سمعته، فإنه لا يكون محدثاً له وبه، وإنما أذن له في التحدث عنه.
وثامنها: الإجازة تقتضي أن الشيخ أباح له أن يحدث به، وذلك إباحة للكذب، ولكنه في عرف المحدثين معناه أن ما صح عندك أني سمعته فاروه عني، والعمل عندنا
بالإجازة جائز خلافاً لأهل الظاهر في اشتراطهم

(1/377)


المناولة، وكذلك إذا كتب إليه أن الكتاب الفلاني رويته فاروه عني إن صح عندك، فإذا صح عنده جازت له الرواية، وكذلك إذا قال له مشافهة ما صح عندك من حديثي فاروه عني إن صح عندك، فإذا صح عنده جازت له الرواية.
لا يمكنه أن يسند الرواية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لم يقل له سمعته فإنه لم يثبت له أصل بنفسه فيبطل العمل به، والإجازة تقتضي بظاهرها الكذب، لأن لفظها أجزت لك أن تروي عني كلّ شيء، أو أجزت لك الرواية عني مطلقاًن فهذا يقتضي أنه يروي عنه كلّ شيء، وهو إباحة الكذب، أما لو قيدت بقوله أجزت لك أن تروي عني ما صح عندك أني أرويه لم يكن إباحة للكذب، وكذلك إذا قال له المجيز أجزت لك ذلك بشرطه المعتبر عند أهل الأثر فهذا كله مقيد، وليس فيه غباحة كذبن والعمل بالإجازة جائز، معناه إذا صح عنده أن مجيزه يروي هذا بطريق صحيح، فيرويه هو عنه بمقتضى الإجازة، فيتصل السند وإذا اتصل السند جاز العمل.
قال القاضي عبد الوهاب: اختلف أهل العلم في الإجازة وهي أن يقول الراوي لغيره قد أجزت لك أن تروي هذا الكتاب عني أو يكتب إليه بذلك فقبلها مالك وأشهب وعليه أكثر الفقهاء، واختلفوا فيما يقول المُجاز إذا أجزنا ذلك فقيل يقول أخبرني إجازة ولا يقول أخبرني مطلقاً ولا حدثني. وقيل يقول كتب إلى وأجازني فقط.
حجة أهل الظاهر: أن خصوص هذا الكتاب الذي وجده الآن لم يسمعه نم شيخه فلم يتصل السند فيه، فلا يجوز نسبته إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا يجوز العمل به.
وجوابهم: أن السند متصل بالطريق الذي بينّاه وقد صح عنده رواية مجيزه له فاتصل السند، ولا حاجة للمناولة، لأنه إذا ثبت أن مجيزه يرويه، فهذا الطريق يقوم مقام المناولة، والمقصود حصول اتصال السند بطريق صحيح كيف كان، ومعنى قوله إن الكتاب الفلاني رويته فاروه عني إذا صح عندك، أن النسخة

(1/378)


التي معك هي النسخة التي رويتها أنا، أو هي مقابلة عليها مقابلة لا تشك أن هذه مثل تلك من غير زيادة ولا نقص، أما صحة أصل الرواية في ذلك الديوان من حيث الجملة لا تبيح له إباحة جميع نسخه كيف كانت، لاحتمال الزيادة أو النقص فلا تجوز الرواية ولا العمل، وفي الأوّل تجوز الرواية والعمل، ومعنى جواز العمل به أنه يجوز للمجتهد أن يجعله مستنده في الفتيا بحكم الله تعالى: أما من ليس بمجتهد فلا يجوز له العمل بمقتضى حديث وإن صح عنده سنده، لاحتمال نسخه وتقييده وتخصيصه وغير ذلك من عوارضه التي لا يضبطها إلى المجتهدون، وكذلك لا يجوز للعامي
الاعتماد على آيات الكتاب العزيز لما تقدم، بل الواجب على العامي تقليد مجتهد معتبر ليس إلاّ، لا يخلصه من الله تعالى إلاّ ذلك، كما أنه لا يخلص المجتهد التقليد، بل ما يؤدي إليه اجتهاده بعد بذل جهده بشرطه.
الفصل العاشر في مسائل شتى
فالأولى: المراسيل عند مالك وأبي حنيفة وجمهور المعتزلة حجة، خلافاً للشافعي، لأنه إنّما أرسل حيث جزم بالعدالة فيكون حجة.
حجة الشافعي - رضي الله عنه -، أنه إذا سكت عن الراوي جاز أن يكون إذا اطلعنا نحن عليه لا نقبل روايته، ولم نكلف نحن بحسن ظن المرسل فيه، فحصول الظن لنا إذا كشفنا حاله أقوى من حصوله إذا قلدنا فيه وجهلناه، والدليل ينفي العمل بالظن كما تقدم خالفناه إذا علمت عدالة الراوي بالبحث والمباشرة، فيبقى على مقتضى الدليل فما عداه.
حجة الجواز: أن سكوته عنه مع عدالة الساكت وعلمه أن روايته يترتب عليها شرع عام، فيقتضي ذلك أنه ما سكت عنه إلاّ وقد جزم بعدالتهن فسكوته كإخباره بعدالته، وهو لو زكاه عندنا قبلنا تزكيته وقبلنا روايته، فكذلك سكوته

(1/379)


عنه، حتى قال بعضهم أن المرسل أقوى من المسند بهذا الطريق، وهو أن المرسل قد تذمم الراوي وأخذه في ذمته عند الله تعالى: وذلك يقتضي وثوقه بعدالته، وأما إذا أسند فقد فوض أمره للسامع ينظر فيه ولم يتذممه، فهذه الحالة أضعف من الإرسال.
فرع: نقل عن الشافعي - رضي الله عنه - أنه قال: لا أقبل من المراسيل إلاّ مراسيل سعيد بن المسيب، فإني أعتبرتها فوجدتها مسندة، ففي الحقيقة ما أعتبر إلاّ مسنداً.
قال القاضي عبد الوهاب في الملخص: ظاهر مذهب الشافعي رد المراسيل مطلقاً وهو قول أصحاب الحديث، ومن أصحابه من يقول إن مذهبه قبول مراسيل الصحابة وأما مراسيل التابعين فيعتبرها بأمور تقويها. أحدها إذا كان ظاهر حاله أن ما يرسله يسنده غيره. وثانيها أن ما أرسله قال به بعض الصحابة. وثالثها أن يفتي به عامة العلماء. ورابعها أن يعلم من حاله أنه إذا سمى لا يسمي مجهولاً ولا من فيه علة تمنع قبول حديثه، ومن أصحابه من يقول مذهبه قبول مراسيل سعيد بن المسيب والحسن دون غيرهما، وحكى عن بعض من يقبل المراسيل أنه شرط أن يكون المرسل صحابياً أو تابعياً دون تابعي التابعي إلاّ أن يثبت أنه إمام، قاله عيسى بن أبان.
سؤال: الإرسال هو إسقاط صحابي من السند، والصحابة كلهم عدول فلا فرق بين ذكره والسكوت عنه، فكيف جرى الخلاف.
[جوابه: أنهم عدول إلاّ عند قيام المعارض وقد يكون المسكوت عنه منهم عرض في حقه ما يوجب القدح فيتوقف في قبول الحديث حتى تعلم سلامته عن القادح وإسقاط تابعي أو غيره يسمى منقطعاً لا مرسلاً وهي اصطلاحات] (1) .
ونقل الخبر بالمعنى عند أبي الحسين وأبي حنيفة والشافعي جائز خلافاً لابن سيرين وبعض المحدثين بثلاثة شروط: أن لا تزيد الترجمة ولا تنقص ولا تكون أخفى لأن المقصود إنّما هو إيصال المعاني، فلا يصر فوات غيرها.
_________
(1) ما بين المعكوفين ساقط من النسخ المطبوعة وقد وجدته في واحدة من المخطوطات.

(1/380)


متى زادت عبارة الراوي فقد زاد في الشرع أو نقص، وذلك حرام إجماعاً، ومتى كانت عبارة الحديث جلية فقد غيَّرها بعبارة خفية فقد أوقع في الحديث وهنا يوجب تقديم غيره عليه بسبب خفائه، فإن الأحاديث إذا تعارضت في الحكم الواحد يقدم أجلاها على أخفاها، فإن كان أصل الحديث جلياً فأبدله يخفى فقد أبطل منه مزية حسنة تخل به عند التعارض، وكذلك إذا كان الحديث خفى العبارة فأبدلها بأجلى منها فقد أوجب له حكم التقديم على غيره، وحكم الله أن يقدم غيره عليه عند التعارض، فقد تسبب بهذا التغيير في العبارة إلى تغيير حكم الله تعالى، وذلك لا يجوز، فهذا هو مستند هذه الشروط، فإذا حصلت هذه الشروط حينئذ يجري الخلاف في الجواز أما عند عدمها فلا يجوز إجماعاً.
حجة الجواز: أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسمعون الأحاديث ولا يكتبونها ولا يكررون عليها ثم يروونها بعد السنين الكثيرة، ومثل هذا يجزم الإنسان فيه أن نفس العبارة لا تنضبط بل المعنى فقط، ولأن أحاديث كثيرة وقعت بعبارات مختارة وذلك مع اتحاد القصة، وهو دليل جواز النقل بالمعنى، ولأن لفظ السنة ليس متعبداً به بخلاف لفظ القرآن، فإذا ضبط المعنى فلا يضر فوات ما ليس بمقصود.
حجة المنع: قوله - عليه السلام -: «رحم الله - أو نضر الله - امرءاً سمع مقالتي فأداها كما سمعها، فرب عامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه إلى من ليس بفقيه» فقوله: أداها كما سمعها يقتضي أن يكون اللفظ المؤدى كاللفظ المسموع عملاً بكاف التشبيه، والمسموع في الحقيقة إنّما هو اللفظ وسماع المعنى تبع له، والتشبيه وقوع بالمسموع فلا يشبهه حينئذ إلاّ مسموع، أما المعنى فلا، وذلك يقتضي أنه - عليه السلام - أوجب نقل مثل ما سمعه لا خلافه، وهو المطلوب.
وإذا زادت إحدى الروايتين على الأخرى والمجلس مختلف قبلت، وإن كان واحداً وتأتى الذهول عن تلك الزيادة قبلت، وإلا لم تقبل.

(1/381)


قال القاضي عبد الوهاب في الملخص: إذا انفرد بعض رواة الحديث بزيادة وخالفه بقية الرواة، فعن مالك وأبي الفرج من أصحابنا يقبل إن كان ثقة ضابطاً.
وقال الشيخ أبو بكر الأبهري وغيره لا تقبل ونفوا الزيادة المروية في حديث عدي بن حاتم - وإن أكل فلا تأكل - وبالأول قال الشافعية.
حجة الجواز: أن انفراده بالزيادة كانفراده بحديث آخر فيقبل كما يقبل الحديث الأجنبي، وأما ما يفرق به أن انفراده بالزيادة يوجب فيه وهناً بخلاف الحديث الأجنبي، فدفوع بأنه قد يسمع ولا يسمعون ويكر وينسون وعدالته وضبطه يوجب قبول قوله مطلقاً، وقد يكون المجلس واحداً ويلحق بعضهم ما يشغله عن سماع جميع الكلام.
حجة المنع: أن رواية جميع الحفاظ غير هذا الراوي عدم الزيادة في روايتهم تقوم مقام تصريحهم بعدمها وتصريحهم مقدم على روايته هو.
الجواب: أنه ليس كالتصريح بل يتعين حمله على الذهول الشاغل، جمعاً بين ظاهر عدالة راوي الزيادة وعدالة التاركين لها.
قال القاضي: واختلف في صفة الزيادة المعتبرة فقيل: الاعتبار بالزيادة اللفظية فقط مفيدة لحكم شرعين ولا تكون تأكيداً ولا قصة لا يتعلق بها حكم شرعي، كقولهم في محرم وقصت به ناقته في (أخافيق جرذان) فإن ذكر الموضع لا يتعلق به حكم شرعي، وكذلك الناقة دون الفرس، وأما الزيادة في المعنى فلا عبرة بها بل يجب الأخذ بالزيادة اللفظية وإن أدت إلى نقصان من جهة المعنى كالتخصيص، ولا تقيد بزيادة المعنى في باب الترجيح، لأن الزيادة إنّما تكون في النقل، والنقل إنّما يكون في اللفظ، ويصير ذلك كخبر مفيد مبتدأ.

(1/382)