شرح تنقيح الفصول الباب السابع عشر في
القياس
وفيه سبعة فصول
الفصل الأول في حقيقته
وهو إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر لأجل اشتباههما في علة
الحكم عند المثبت فالإثبات المراد به المشترك بين العلم والظن
والاعتقاد ونعني بالمعلوم المشترك بين المعلوم والمظنون،
وقولنا عند المثبت ليدخل فيه القياس الفاسد.
لأنا إذا أثبتنا فقد نعلم ثبوت الحكم في الفروع، وقد نعقده
اعتقاداً جازماً لا يحتمل عدم المطابقة وقد نظنه، واشتركت
الثلاثة في الإثبات فهو مرادنا.
وقولي معلوم أولى من قول من قال إثبات حكم فرع لأصل (1) أو
إثبات حكم الأصل في الفرع لأن الأصل والفرع إنّما يعقلان بعد
معرفة القياس فتعريف القياس بهما دَور، فإذا قلنا معلوم اندفعت
هذه الشبهة الموجبة للدور.
وقولي لأجل اشتباههما في علة الحكم احتراز من إثبات الحكم
بالنص؛ فإن ذلك لا يكون قياساً كما لو ورد نص يخص الأرز بتحريم
الربا كما ورد في البر.
_________
(1) لعل صحة الجملة: إثبات حكم أصل لفرع.
(1/383)
وقولي مثل حكم، لأن الحكم الثابت في الفرع
ليس هو عين الثابت في الأصل بل مثله، وهما مختلفان بالعوارض
فالأول امتاز ثبوته بالإجماع، والثاني ثابت بالقياس، والأول لا
خلاف فيه والثاني فيه الخلاف، غير أنه مثله من جهة أنه تحريم
أو تحليل، والعوارض من جهة المحال والأدلة معينات ومميزات لأحد
المثلين عن الآخر، ولا بد لأحد المثلين من مميز وإلا كانا
واحداً والواحد ليس بمثلين.
ومعنى اندراج القياس الفاسد أنا لو قلنا لاشتراكهما في علة
الحكم لم يتناول ذلك إلاّ العلة المرادة لصاحب الشرع، فالقياس
بغيرها يلزم أن لا يكون قياساً؛ لكن الخلاف لما وقع في الربا
هل علته الطعم أو الكيل أو القوت أو غير ذلك من الماذهب في
العلل، وقاس كلّ إمام بعلته التي اعتقدها، فأجمعنا على أن
الجميع أقيسة شرعية لأنا إن قلنا كلّ مجتهد
مصيب فظاهر، وإن قلنا المصيب واحد فلم يتعين، فتعين أنيكون
الجميع أقيسة شرعية، مع أن جميع تلك العلل ليست مرادة لصاحب
الشرع، فالقائس بغير علة صابح الشرع قياسه فاسد وهو قياسه،
فلذلك قلنا عند المثبت ليتناول جميع تلك العلل كانت علة صاحب
الشرع أم لا.
فائدة: القياس معناه في اللغة التسوية، يقال قاس الشيء بالشيء
إذا ساواه به والقياس في الشريعة مساواة الفرع للأصل في ذلك
الحكم فسمي قياساً، فهو من باب تخصيص اللفظ ببعض مسمياته،
كتخصيص الدابة ببعض مسمياتها وهو الفرس عند العراقيين والحمار
عند المصريين، فالقياس على هذا حقيقة عرفة مجاز راجع لغوي.
(1/384)
الفصل الثاني في
حكمه
وهو حجة عند مالك رحمه الله وجماهير العلماء رحمة الله عليهم
خلافاً لأهل الظاهر لقوله تعالى: «فاعتبروا يا أولي الأبصار»
(1) ولقول معاذ - رضي الله عنه -: أجتهد رأيي. بعد ذكره الكتاب
والسنة.
وجه الاستدلال من الآية الأولى (2) أن قوله تعالى: «فاعتبروا»
مشتق من العبور وهو المجاوزة ومنه سمي المعبر للمكان الذي يعبر
منه من شط إلى الوادي ويعبر فيه وهو السفينة، وسميت العبرة
عبرة لأنها تعبر من الشؤن (3) إلى العين، عابر المنام هو
المتجاوز من تلك المثل المرئية إلى المراد بالمنام من الأمور
الحقيقية، والقائس عابر من حكم الأصل إلى حكم الفرع فيتناوله
لفظ الآية بطريق الاشتقاق.
سؤال: استدل جماعة من العلماء بهذه الآية وهي غير مفيدة
للمقصود بسبب أن الفعل في سياق الإثبات مطلق لا عموم فيه
والآية فعل في سياق الإثبات، فيتناول مطلق العبور، فلا عموم
فيها حتى تتناول كلّ عبور فيندرج تحتها صورة النزاع، وإذا كانت
مطلقة كانت دالة على ما هو أعم من القياس والدال على الأعم غير
دال على الأخص، كما أن لفظ الحيوان لا يدل على الإنسان، ولفظ
العدد لا يدل على الزواج.
ومما يدل على القياس إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على العمل
بالقياس، وذلك يعلم من استقراء أحوالهم ومناظرتهم، وقد كتب عمر
بن الخطاب - رضي الله
_________
(1) 2 الحشر.
(2) ليس هناك إلاّ هذه الآية فلعل كلمة الأولى زائدة أو لعلها
الأولى بالنسبة للحديث.
(3) الشؤن: مفرد الشؤون. وهي مواصل قبائل الرأس ومتلقاها،
ومنها تجيء الدموع.
(1/385)
عنه - إلى أبي
موسى الأشعري: «اعرف الأشياء والنظائر وما اختلج في صدرك
فالحقه بما هو أشبه بالحق» وهذا هو عين القياس، ولأنه - عليه
السلام - نبه على القياس في مواطن منها: أن عمر - رضي الله عنه
- سأله عن قبلة الصائم فقال له عليه السلام: «أرأيت لو تمضمضت
بماء ثم مججته أكنت شاربه» ؟! وجه الدليل من ذلك أنه عليه
السلام شبه المضمضة إذا لم يعقبها شرب بالقبلة (1) إذا لم
يعقبها إنزال بجامع انتفاء الثمرة المقصودة من الموضعين وهذا
هو عين القياس. ومنها قوله - عليه السلام - للخثعمية: «أرأيت
لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟ قالت نعم قال فدين الله أحق
أن يقضى» (2) وهذا هو عين القياس.
احتجوا بوجوه أحدها قوله تعالى: «ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الفاسقون» (3) والحكم بالقياس حكم بغير ما أنزل
الله. وثانيها قوله - عليه السلام -: «تعمل هذه الأمة برهة
بالكتاب وبرهة بالسنة وبرهة بالقياس فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا»
. وثالثها أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يذمون القياس،
فقال الصديق - رضي الله عنه -: أي سماء تضلني وأي أرض تقلني
إذا قلت في كتاب الله برأيي، وقال عمر رضي - رضي الله عنه -:
إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن
يحصوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا وقال أمير المؤمنين علي -
رضي الله عنه -: لو كان الدين يؤخذ قياساً لكان باطن الخف أولى
بالمسح من ظهره، وهذا يدل على اتفاقهم على منع القياس.
والجواب عن الأوّل: أن الحاكم بالقياس حاكم بما أنزل الله في
عمومات القرآن من جهة قوله تعالى: «فاعتبروا» (4) ومن جهة قوله
تعالى: «وما آتاكم الرسول فخذوه» (5) وقد جاءنا بالقياس.
_________
(1) لعل صحة العبارة: شبه القبلة بالمضمضة.
(2) حينما سألته - صلى الله عليه وسلم - عن جواز قضاء الحج عن
أبيها المتوفى.
(3) 47 المائدة.
(4) هو قوله تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار.
(5) 7 الحشر.
(1/386)
وعن الثاني: أن سلم صحته أنه محمول على
القياس الفاسد الوضع لمخالفته النصوص ومن شرط القياس أن لا
يخالف النص الصريح.
وعن الثالث: أن ذم الصحابة رضوان الله عليهم محمول على الأقيسة
الفاسدة والآراء الفاسدة المخالفة لأوضاع الشريعة، جمعاً بين
ما نقله الخصم وما نقلناه. [وعن قول علي - رضي الله عنه - أن
الدين في قوله: لو كان الدين فيه الألف واللام وهي للعموم
فيكون المعنى لو كان كلّ الدين بالرأي أو بالقياس، ونحن لم ندع
ذلك بل يكون مفهوم قوله: إن بعضه قياس وهو المطلوب اهـ] (1) .
فرع: قال الإمام فخر الدين: إذا كان تعليل الأصل قطعياً، ووجود
العلة في الفرع قطعياً كان القياس قطعياً متفقاً عليه، وأما
القياس الظني فهو حجة في الأمور الدنيوية اتفاقاً كمداواة
الأمراض والأسفار والمتاجر وغير ذلك، وإنما النزاع في كونه حجة
في الشرعيات ومستندات المجتهدين.
وهو مقدم على خبر الواحد عند مالك رحمه الله، لأن الخبر إنّما
ورد لتحصيل الحكم، والقياس متضمن للحكمة فيقدم على الخبر، وهو
حجة في الدنيويات اتفاقاً.
حكى القاضي عياض (2) في التنبيهات، وابن رشد في المقدمات في
مذهب مالك في تقديم القياس على خبر الواحد قولين، وعند الحنفية
قولان أيضاً.
حجة تقديم القياس أنه موافق للقواعد من جهة تضمنه لتحصيل
المصالح أو درء المفاسد، والخبر المخالف له يمنع من ذلك فيقدم
الموافق للقواعد على المخالف لها.
حجة المنع: أن القياس فرع النصوص والفرع لا يقدم على أصله.
بيان الأوّل:
_________
(1) ما بين المعكوفين ساقط من الأصل.
(2) في واحدة من المخطوطات القاضي عبد الوهاب.
(1/387)
أن القياس لم يكن حجة إلاّ بالنصوص، فهو
فرعها، ولأن المقيس عليه لا بد وأن يكون منصوصاً عليه، فصار
القياس فرع النصوص من هذين الوجهين، وأما أن المفرع لا يقدم
على أصله فلأنه لو قدم على أصله لأبطل أصله، ولو أبطل أصله
لبطل فلا يبطل أصله.
والجواب عن هذه النكتة: أن النصوص التي هي أصل القياس غير النص
الذي قدم عليه القياس فلا تناقضن فلم يقدم الفرع على أصله بل
على غير أصله.
وهو إن كان بإلغاء الفارق فهي تنقيح المناط عند الغزالي، أو
باستخراج الجامع من الأصل ثم تحقيقه في الفرع فالأول يسمى
تخريج المناط والثاني تحقيقه.
المناط اسم مكان الإناطة، والإناطة التعليق والإلصاق، قال حسان
بن ثابت فيمن هجاه:
وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
أي علق، وقال حبيب الطائي:
بلاد بها نيطت على تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها
أي علقت عليّ الحرور فيها، والعلة ربط بها الحكم وعلق عليها
فسميت مناطاً على وجه التشبيه والاستعارة، واختلف الناس في
تنقيح المناط فقال الغزالي هو إلغاء الفارق، كما تقول لا فارق
بين بيع الصفة وبيع الرؤية إلاّ الرؤية، وهي لا تصلح أن تكون
فارقاً
متعلقات أغراض البيع، فوجب استواؤهما في الجواز، ولا فارق بين
الذكور والإناث في مفهوم الرق (1) وتشطير الحد، فوجب استواؤهما
فيه، وقد ورد النص بذلك في أحدهما في قوله تعالى: «فعليهن نصف
ما على المحصنات نم العذاب» (2) ، ولا فارق بين الأمة والعبد
في التقويم على معتق الشقص فوجب استواؤهما في ذلك فإن النص
إنّما ورد في العبد الذكر خاصة في قوله - عليه السلام -: «من
أعتق شركاً له في عبد» ونحو ذلك، فهذا قياس يسمى تنقيح المناط
على اصطلاح هؤلاء.
_________
(1) في الأصل: في مفهوم عتق الرق، والأصح ما أثبتناه بحذف عتق.
(2) 25 النساء.
(1/388)
وقال الحسكفي في جدله وغيره: تنقيح المناط
هو تعيين علة من أوصاف مذكورة، وتخريج المناط هو استخراجها من
أوصاف غير مذكورة. مثال الأوّل حديث الأعرابي: «جاء أعرابي إلى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضرب صدره وينتف شعره فقال
هلكت وأهلكت: واقعت أهلي في شهر رمضان فأوجب عليه السلام عليه
الكفارة» الحديث المشهور فذكر في الحديث كونه أعرابياً، وضرب
الصدر ونتف الشعر، وهي لا تصلح للتعليل، وكونه مفسداً للصوم
مناسب للكفارة، فعين علة من أوصاف مذكورة. ومثال الثاني: نهيه
- عليه السلام - عن بيع البر بالبر إلاّ مثلاً بمثل يداً بيد،
ولم يذكر العلة ولا أوصافاً هي مشتملة عليها، فتعين الطعم
للعلة أو الكيل أو القوت أو المالية إخراج علة من أوصاف غير
مذكورة، فهذا هو تخريج المناط، لأننا أخرجنا العلة من غيب،
والأول تنقيح المناط. لأنه تصفية وإزالة لما لا يصلح عما يصلحن
وتنقيح الشيء إصلاحه، فهذا اصطلاح مناسب، فتحصل لنا في تنقيح
المناط مذهبان، وفي تخريج المناط قولان، وأما تحقيق المناط فهو
تحقيق العلة المتفق عليها في الفرع، مثاله أن يتفق على أن
العلة في الربا هي القوت الغالب ويختلف في الربا في التين بناء
على أنه يقتات غالباً في الأندلس، أو لا نظراً إلى الحجاز
وغيره، فهذا تحقيق المناط. ينظر هل هو محقق أم لا بعد الاتفاق
عليه. فقد ظهر الفرق بين تخريج المناط وتنقيح الماط، وتحقيق
المناط، وهي اصطلاحات لفظية.
الفصل الثالث في الدال على العلة
وهو ثمانية: النص والإيماء والمناسبة والشبه والدوران السير
والطرد وتنقيح المناط. فالأول النص على العلة وهو ظاهر. الثاني
الإيماء وهو خمسة: الفاء نحو قوله تعالى: «الزانية والزاني
فاجلدوا» (1) وترتيب الحكم
_________
(1) 2 النور.
(1/389)
على الوصف نحو ترتيب الكفارة
على قوله واقعت أهل في شهر رمضان قال الإمام سواء كان مناسباً
أو لم يكن، وسؤاله - عليه السلام - عن وصف المحكوم عليه نحو
قوله - عليه السلام -: «أينقص الرطب إذا جف» أو تفريق الشارع
بين شيئين في الحكم نحو قوله - عليه السلام -: «القاتل لا يرث»
أور ورود النهي عن فعل يمنع ما تقدم وجوبه.
النص على العلة نحو قوله: العلة كذا أو فعلته لأجل كذا، فهذا
نص في التعليل والفاء تدخل على المعلوم نحو ما تقدم، فإن الجلد
معلول الزنا وتدخل على العلة نحو قوله - عليه السلام -: «لا
تمسوه (1) بطيب فإنه يبعث يوم القيام محرماً» فالإحرام هو علة
المنع من الطيب، ومعنى قول الإمام فخر الدين سواء كان مناسباً
أو لم يكن يشير إلى أن المناسبة مستقلة بالدلالة على العلية،
وكذلك الترتيب، فإن القائل لو قال أكرم الجهلاء وأهن العلماء
أنكر السامعون هذا القول وعابوه، ومدرك الاستقباح أنهم فهموا
أنه جعل الجهل علة الإكرام والعلم علة الإهانة، وليس لهم مستند
في اعتقاد التعليل إلاّ ترتيب الحكم على الوصف لا المناسبة،
فإن المناسبة مفقودة هنا، فدل ذلك على أن الترتيب يدل على
العلية وإن فقدت المناسبة، وأما سؤال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - عن نقصان الرطب إذا جف لأنه لا يعلم ذلك بل ليعرف
به السامعون، ليكون ذلك تنبيهاً على علة المنع، فيكونا لسامع
مستحضراً لعلة الحكم حالة وروده عليه، فيكون ذلك أقرب لقبوله
الحكم، بخلاف ما إذا غابت العلة عن السامع ربما صعب عليه تلقي
الحكم واحتاج لنفسه من المجاهدة ما لا يحتاجها إذا علم العلة
وحضرت له، ومعنى التفريق بين الشيئين أن الآية وردت بتوريث
الأبناء مطلقاً بقوله تعالى: «يوصيكم الله في أولادكم للذكر
مثل حظ الأنثيين» (2) فلما قال - عليه السلام - «القاتل لا
يرث» علم، أن ذلك لأجل علة القتل، مع أن هذا أيضاً فيه ترتيب
الحكم على الوصف، ومثال النهي عن الفعل الذي يمنع ما تقدم
وجوبه قوله تعالى: «يا ألها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من
يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله» (3)
فهذا وجوب للجمعة، فقوله
_________
(1) في الأصل: لا تمسه.
(2) 11 النساء.
(3) 9 الجمعة..
(1/390)
تعالى بعد ذلك: «وذروا البيع» نهى عن
البيع، لأنه يمنع من فعل الجمعة بالتشاغل بالبيع، فيكون هذا
إيماء لأن العلة في تحريم البيع هي التشاغل عن الجمعة.
والثالث: المناسبة ما تضمن تحصيل مصلحة أو درء مفسدة، فالأول
كالغنى علة لوجوب الزكاة، والثاني كالإسكار علة لتحريم الخمر،
والمناسب ينقسم إلى ما هو في محل الضرورات، وإلى ما هو في محل
الحافجات، وإلى ما هو في محل التتمات، فيقدم
الأوّل على الثاني والثاني على الثالث عند التعارض، فالأول نحو
الكليات الخمس وهي حفظ النفوس والأديان والأنساب والعقول
والأموال قيل والأعراض، والثاني مثل تزويج الولي الصغيرة، فإن
النكاح غير ضروري، لكن الحاجة تدعوى إليه في تحصيل الكفؤ لئلا
يفوت، والثالث ما كان حثاً على مكارم الأخلاق كتحريم تناول
القاذورات وسلب أهلية الشهادات عن الأرقاء ونحو الكتابات
ونفقات القرابات، وتقع أوصاف مترددة بين هذه المراتب كقطع
الأيدي باليد الواحدة فإن شرعيته ضرورية صوناً للأطراف وإن
أمكن أن يقال ليس منه لأنه يحتاج الجاني فيه إلى الاستعانة
بالغير وقد يتعذر، ومثال اجتماعها كلها في وصف واحد أن نقطة
النفس ضرورية والزوجات حاجية والأقارب تتمة واشتراط العدالة في
الشهادة ضروري صوناً للنفوس والأموال وفي الإمامة على الخلاف
حاجية لأنها شفاعة، والحاجة داعية لإصلاح حال الشفيع، وفي
النكاح تتمة لأن الولي قريب يمنعه طبعه عن الوقوع في العار
والسعي في الأضرار، وقيل حاجية على الخلاف، ولا يشترط في
الإقرار لقوة الوازع الطبيعي ودفع المشقة عن النفوس مصلحة ولو
أفضت إلى خلاف القواعد، وهي ضرورية مؤثرة في الترخيص كالبلد
الذي يتعذر فيه العدول.
قال ابن أبي زيد في النوادر تقبل شهادة أمثلهم حالاً لأنها
ضرورة، وكذلك يلزم في القضاة وولاة الأمور، وحاجية على الخلاف
في الأوصياء في عدم اشتراط العدالة وتمامية في السلم والمساقاة
وبيع الغائب، فإن في منعها مشقة على الناس وهي من تتمات
معاشهم.
(1/391)
الكليات الخمس: حكى الغزالي وغيره إجماع
الملل على اعتبارها، وأن الله تعالى ما أباح النفوس ولا شيئاً
من الخمس المتقدمة في ملة من الملل، وأن المسكرات حرام في جميع
الملل وإن وقع الخلاف في اليسير الذي لا يسكر، ففي الإسلام هو
حرام، وفي الشرائع المتقدمة حلال، أما القدر المسكر فحرام
إجماعاً من الملل، واختلف العلماء، في عددها، فبعضهم يقول
الأديان عوض الأعراض، وبعضهم يذكر الأعراض ولا يذكر الأديان
وفي التحقيق الكل متفق على تحريمه فما أباح الله تعالى العرض
بالقذف والسباب قط، وكذلك لم يبح الأموال بالسرقة والغضب، ولا
الأنصاب بإباحة الزنا قط، ولا العقول بإباحة المسكرات، ولا
النفوس والأعضاء بإباحة القطع والقتل، ولا الأديان بإباحة
الكفر وانتهاك حرم المحرمات، وجعلهم الكتابات تتمة لأنها عون
على حصول العتق وإزالة الرق عن البشرية المكرمة من بني آدم،
فهو من مكارم الأخلاق وتتمات المصالح، وكذلك نفقات الأقارب من
تتمات مكارم الأخلاق. وقوله إن العدالة شرط في الولي على
الخلاف إشارة إلى ما وقع في الفقه في الولي إذا كان فاسقاً هل
تسقط ولايته بفسقه أم لا؟ قولان في مذهب
مالك، والمشهور عدم سلبها اكتفاءً بالوازع الطبيعي عن العدالة،
وعدم اشتراط العدالة في الإقرار، فيقبل إقرا البر والفاجر،
لأنه إلزام لنفسه ومضربهان ولا يقع الإقرار إلاّ كذلك، وإلا
كان دعوى أو شهادة، والوازع الطبيعي يمنع ن الإضرار بغير موجب،
فما أقر إلاّ والمقر به حق فيقبل منه، وإن كان فاجراً أو
كافراً من غير خلاف بين الأمة.
وقولي في الأوصياء: حاجية معناه أن الناس قد يحتاجون إلى أن
يوصوا لغير العدول وفيه خلاف، ومذهب مالك يشترط فيه أن يكون
مستور الحال، وعلى القول بعدم اشتراط العدالة مع أنها ولاية،
والولاية لا بد فيها من العدالة، فقد خالفنا القواعد في عدم
اشتراط العدالة في الأوصياء، دفعاً للشقة الناشئة من الحيلولة
بين الإنسان وبين من يريد أن يعتمد عليه، وكذلك خولفت القواعد
في السلم والمساقاة وبيع الغائب والجعالة والمضاربة والمغارسة
والصيد وغير ذلك فيما فيه جهالة في الأجرة وغرر، وأما الصيد
فلبقاء الفضلات وعدم تسهيل الموت على الحيوانات، فقد خولفت
القواعد لتتمة المعاش، فإن من الناس
(1/392)
من يحتاج في معاشه إلى أحد هذه الأمور،
فجعلت شرعاً عاماً لعدم الانضباط في مقادير الحاجات. وهذه
الرتب يظهر أثرها عند تعارض الأقيسة، فيقدم الضروري عل الحاجي،
والحاجي على التتمة.
وهو أيضاً ينقسم إلى ما اعتبره الشرع، وإلى ما ألغاه، وإلى ما
جهل حاله. والأول ينقسم إلى ما اعتبر نوعه في نوع الحكم
كاعتبار نوع الإسكار في نوع التحريم، وإلى ما اعتبر جنسه في
جنسه كالتعليل بمطلق المصلحة كإقامة الشرب مقام القذف لأنه
مظنته، وإلى ما اعتبر نوعه في جنسه كاعتبار الأخوة في التقديم
في الميراث، فتقدم في النكاح، وإلى ما اعتبر جنسه في نوع الحكم
كإسقاط الصلاة عن الحائض بالمشقة فإن المشقة جنس وهو أي
الإسقاط نوع من الرخص، فتأثير النوع في النوع مقدم على تأثير
النوع في الجنس وتأثير النوع في الجنس مقدم على تأثير الجنس في
النوع وهو مقدم على تأثير الجنس في الجنس، والملغى نحو المنع
من زراعة العنب خشية الخمر، والذي جهل أمره هو المصلحة المرسلة
التي نحن نقول بها، وعند التحقيق هي عامة في المذاهب.
الحكم أعم أجناسه كونه حكماً، وأخص منه كونه طلباً أو تخبيراً
وأخص منه كونه تحريماً أو إيجاباً، وأخص منه كونه تحريم الخمر
أو إيجاب الصلاة، وأعم أحوا الوصف كونه وصفاً، وأخص منه كونه
مناسباً وأخص من المناسب كونه معتبراً، وأخص منه كونه مشقة أو
مصلحة أو مفسدة خاصة، ثم أخص من ذلك كون تلك المفسدة في محل
الضرورات أو الحاجات أو التتمات، فهذا الطريق يظهر الأجناس
العالية والمتوسطة والأنواع السافلة للأحكام والأوصاف من
المناسب وغيره، فالإسكار نوع من المفسدة، والمفسدة
جنس له. ويحكى عن علي - رضي الله عنه - أنه قال لما سئل عن حد
شارب الخمر إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى فأرى عليه
حد المفتري. فأخذ علي - رضي الله عنه - مطلق المناسبة، ومطلق
المظنة. والأخوة نوع من الأوصاف، والتقدم في الميراث نوع من
الأحكام فهو نوع في نوع، وكذلك التقدم في النكاح أو صلاة
(1/393)
الجنازة نوع من الأحكام، فيقاس أحد النوعين
على الآخر، وجعلت المشقة جنساً لأنها متنوعة إلى مشقة قضاء
الصلاة ومشقة الصوم ومشقة القيام في الصلاة وغير ذلك من أنواع
المشاق، فمطلق المشقة جنس، وهو نوع باعتبار الوصف المصلحي أو
المناسب، وإسقاط الصلاة عن الحائض نوع من الأحكام، والإسقاطات
والرخص بتأثير النوع في النوع مقدم على الجميع؛ لأن الخصوصين
قد حصلا فيه: خصوص الوصف وخصوص الحكم، والأخص بالشيء مقدم على
الأعم، ولذلك قدمت البنوة في الميراث على الأخوة، والأخوة على
العمومة وكذلك قدم ليس النجس على الحرير، فمنع في الصلاة لأنه
أخص بالصلاة من الحرير ولأن تحريم الحرير لا يختص بالصلاة فكان
تحريم النجس أقوى منه لأنه مختص بها، وكذلك إذا لم يجد المحرم
إلاّ ميتة وصيداً أكل الميتة دون الصيد، لأن تحريم الصيد خاص
بالإحرام.
والقاعدة أن الأخص أبداً مقدم، فكما أن النوع في النوع أخص
الجميع، فالجنس في الجنس أعم الجميع، والمنقول أن النوع في
الجنس والجنس في النوع متساويان متعارضان مقدمان على الرابع
لوجود الخصوص فيهما من حيث الجملة، والذي في الأصل ما أرى نقله
إلاّ سهواً، وأما المصلحة المرسلة فالمنقول أنها خاصة بنا،
وإذا افتقدت المذاهب وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا وفرقوا بين
المسألتين لا يطلبون شاهداً بالاعتبار لذلك المعنى الذي به
جمعوا وفرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة
المرسلة، فهي حينئذ في جميع المذاهب.
ومن المعلوم أن المصلحة المرسلة أخص من مطلق المناسبة ومطلق
المصلحة، لأن مطلق المصلحة قد يلغى كما تقدم في زراعة العنب،
فإن المناسبة تقتضي أن لا يزرع سداً لذريعة الخمر، لكن أجمع
المسلمون على إلغاء ذلك، وكذلك المنع من التجاور في البيوت
خشية الزنا فإنه مناسب، لكن أجمع المسلمون على جواز المجاورة
بالنساء في الدور الجامعة وإلغاء هذا المناسب، فالمناسب حينئذ
أعم من المرسلة، لأن المرسلة مصلحة يفيد السكوت عنها فهي أخص.
الرابع: الشبه قال القاضي أبو بكر هو الوصف الذي لا يناسب
لذاته ويستلزم المناسب لذاته، وقد شهد الشرع لتأثير جنسه
القريب في جنس
(1/394)
الحكم القريب، والشبه يقع في الحكم كمشابهة
العبد المقتول بالحر، أو شبهه بسائر المملوكات. وعند ابن علية
يقع الشبه في الصورة كرد الجلسة الثانية إلى الأولى في الحكم،
وعند الإمام التسوية بين الأمرين إذا غلب على الظن أنه مستلزم
للحكم، وهو ليس بحجة عند القاضي منا.
مثال الشبه عند القاضي: قولنا في الخل مائع لا تبنى القنطرة
على جنسه فلا تزال به النجاسة كالدهن؛ فقولنا لا تبنى القنطرة
على جنسه ليس مناسباً في ذاته، غير أنه مستلزم للمناسب، فإن
العادة أن القنطرة لا تبنى على الأشياء القليلة بل على
الكثيرة: كالأنهار، والقلة مناسبة لعدم مشروعية المتصف بها من
المائعات للطهارة العامة، فإن الشرع العام يقتضي أن تكون
أسبابه عامة الوجود. أما تكاليف الكل بما لا يجده إلاّ البعض
فبعيد عن القواعد، فصار قولنا لا تبنى القنطرة على جنسه ليس
بمناسب، وهو مستلزم للمناسب، وقد شهد الشرع بجنس القلة والتعذر
في عدم مشروعية الطهارة، بدليل أن الماء إذا قل واشتدت إليه
الحاجة فإنه يسقط الأمر به، ويتوجه التيمم.
قال القاضي أبو بكر في هذا التقسيم: الوصف إن كان مناسباً
بذاته فهو المناسب، وإن لم يكن مناسباً في ذاته فلا يخلو ما إن
يكون مستلزماً للمناسب أو لا. الأوّل الشبه، والثاني الطردي
الملغى إجماعاً والعبد المقتول فيه كونه مملوكاً والملك حكم
شرعي، وكونه آدمياً، وهذا وصف حقيقي لا حكم شرعي، فقد حصل فيه
الشبهان، فمن غلب شبه الحكم الشرعي وهو مالك والشافعي أوجب فيه
قيمته بالغة ما بلغتن وإن زادت على دية الحر، ومن لاحظ شبه
الحر وهو الآدمية لم يوجب فيه الزيادة على دية الحر وهو أبو
حنيفة وابن علية أوجب الجلسة الأولى قياساً على الثانية في
الوجوب بجامع أنها جلسة، وهذا شبه صوري لا حكم شرعي.
قال الإمام فخر الدين: إذا غلب على الظن أن شيئاً من هذه
الشبهات علة الحكم ومستلزمه له شرعاً جعلناه علة كان صورة أو
حكماً أو غير ذلك عملاً بموجب الظن.
(1/395)
حجة القاضي: أن الشبه ليس بحجة لأن الدليل
ينفي العمل بالظن مطلقاً لقوله تعالى: «إن الظن لا يغني من
الحق شيئاً» (1) خالفناه في قياس المناسبة، فبقي قياس الشبه
على موجب الدليل، ولأن الصحابة إنّما أجمعت على المناسب. أما
الشبه فلا نوجب أن يكون حجة.
جوابه: أنه معارض لقوله تعالى: «فاعتبروا» لقوله عليه السلام:
«نحن نحكم بالظاهر» وهو يفيد الظن فوجب أن يندرج في عموم النص،
ولأنه مندرج في عموم قول معاذ بن جبل أجتهد رأيي، وهذا نوع من
الاجتهاد.
الخامس: الدوران، وهو عبارة عن اقتران ثبوت الحكم مع ثبوت
الوصف وعدمه مع
عدمه، وفيه خلاف، والأكثرون من أصحابنا وغيرهم يقول بكونه حجة.
مثاله: العنب حين كونه عصيراً ليس بمسكر ولا حرام، فقد اقترن
العدم بالعدم، وإذا صار مسكراً صار حراماً، فقد اقترن الثبوت
بالثبوت، فإذا تخلل لم يكن مسكراً ولا حراماً، فقد اقترن العدم
بالعدم. فهذا هو الدوران في صورة واحدة وهي الخمر، وقد يقع في
صورتين وهو دون الأوّل. مثاله: أن يدعى وجوب الزكاة في الحلي
المتخذ لاستعمال مباح، فنقول الموجب لوجوب الزكاة في النقدين
كونهما أحد الحجرين؛ لأن وجوب الزكاة دار مع كونه أحد الحجرين،
وجوداً وعدماً، أما وجوداً ففي المسكوك هو أحد الحجرين والزكاة
واجبة فيه، وأما عدماً فالعقار ليس أحد الحجرين ولا تجب الزكاة
فيه، وإنما رجحت الصورة الأولى على هذه، لأن انتفاء الحكم بعد
ثبوته في الصورة المعينة يقتضي أنه لم يبق معه ما يقتضيه في
تلك الصورة وإلا لثبت فيها. أما إذا انتفى من صورة أخرى غير
صورة الثبوت أمكن أن يقال إن موجب الحكم غير الوصف المدعى علة،
أما ما ذكرتموه من الوصف لو فرض انتفاؤه لثبت الحكم بذلك الوصف
الآخر، فما تعين عدم اعتبار غيره، بخلاف الصورة الواحدة.
_________
(1) 28 النجم.
(1/396)
حجة أن الدوران دليل العلية أن اقتران
الوجود بالوجود والعدم بالعدم يغلب على الظن أن المدار علية
الدائر، بل قد يحصل القطع بذلك، لأن من ناديناه باسم فغضب ثم
سكتنا عنه فزال غضبه ثم ناديناه به فغضب كذلك مراراً كثيرة،
حصل الظن الغالب بأن علة غضبه إنّما هو ذلك الاسم الذي ناديناه
به. ولذلك جزم الأطباء بالأدوية المسهلة والقابضة وجميع ما
يعطونه من المبردات وغيرها بسبب وجود تلك الآثار عند وجود تلك
العقاقير وعدمها عند عدمها، فالدوران أصل كبير في أمور الدنيا
والآخرة، فإذا وجد بين الوصف والحكم جزمنا بعلية الوصف للحكم،
أو نقول بعض الدوران حجة قطعاً كدوران قطع الرأس مع الموت في
مجرى العادات، فوجب أن يكون جميع الدورانات حجة لقوله تعالى:
«إن الله يأمر بالعدل والإحسان» (1) والعدل التسوية، وعدم
الاختلاف إحسان للخلق بتوفر خواطرهم عن الفحص عن الفكرة في
مدارك الفروق.
حجة المنع: أن بعض الدورانات ليس بحجة، فوجب أن يكون الجميع
ليس بحجة إلاّ ما أجمعنا عليه، أما أن بعض الدورانات ليس بحجة،
فإن الجوهر والعرض دائران كلّ واحد منهما مع الآخر وليس أحدهما
علة للآخر، والحكم دائر مع شرطه وجزء علته، وليس أحدهما علة
للآخر، وحركات الأفلاك دائرة مع الكواكب وليس أحدهما علة
للآخر. وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون فيها شيء حجة، فلأنه لو
كان حجة للزم النقض بذلك البعض الآخر والنقض خلاف الدليل.
والجواب: أنا لا ندعي أن الدوران حجة إلاّ بوصف كونه لا نقطع
بعدم عليه، والدوران الموصوف بهذه الصفة لم يوجد في صورة النقض
فلا يتجه النقض، لأن من شرط النقض وجود الموجب بجميع صفاتهن
وإن لم يوجد فلا نقض، فاندفع السؤال.
السادس: السبر والتقييم. وهو أن يقول إما أن يكون الحكم معللاً
بكذا أو بكذا والكل باطل إلاّ كذا فيتعين.
_________
(1) 90 النحل.
(1/397)
السبر معناه في اللغة الاختبار ومنه سمي ما
يختبر به طول الجرح وعرضه مسباراً، وتقول العرب هذه القضية
يسبر بها غور العقل: أي يختبر. والأصل أن نقول التقسيم والسبر،
لأنا نقسم أولاً ثم نقول في معرض الاختبار لتلك الأوصاف
الحاصلة في التقسيم هذا لا يصلح وهذا لا يصلح فتعين هذا،
فالاختبار واقع بعد التقسيم، لكن التقسيم لما كان وسيلة
للاختبار والاختبار هو المقصد. وقاعدة العرب تقديم الأهم
والأفضل، قدم السبر لأنه المقصد الأهم، وأخر التقسيم لأنه
وسيلة أخفض رتبة من المقصد، وهذه الطريقة مفيدة للعلة لأن
الحكم مهما أمكن أن يكون معللاً لا يجعل تعبداً، وإذا أمكن
إضافته للمناسب فلا يضاف لغير المناسب، ولم نجد مناسباً إلاّ
ما بقي بعد السبر، فوجب كونه علة بهذه القواعد.
السابع: الطرد وهو عبارة عن اقتران الحكم بسائر صور الوصف،
فليس مناسباً ولا مستلزم للمناسب، وفيه خلاف.
لأنه متى كان مناسباً كان ذلك طريقاً آخر غير الطرد، ونحن نقصد
أن نثبت طريقاً آخر غير المناسبة، وكذلك لا يكون مستلزماً
للمناسب، إذ لو كان مستلزماً للمناسب لكان هو الشبه، ونحن نقصد
طريقاً غير الشبه. فمجرد الاقتران هو طريق مستقل على الخلاف.
حجة الجواز: أن الحكم لا بد له من علة وليس غير هذا الوصف
عملاً بالأصل فتعين هذا الوصف نفياً للتعبد بحسب الإمكان، ولأن
الاقتران بجميع الصور مع انتفاء ما يصلح للتعليل غير المقترن
يغلب على الظن عليه ذلك المقترن والعمل بالراجح متعين.
حجة المنع: أن الأصل لا يعتبر في الشرائع إلاّ المصالح أو درء
المفاسد، فما لم يعلم فيه تحصيل مصلحة ولا درء مفسدة وجب أن لا
يعتبر، ولأن الصحابة رضوان الله عليهم إنّما نقل عنهم العمل
بالمناسب، أما غير المناسب فلا، فوجب بقاؤه على الأصل في عدم
الاعتبار.
الثامن: تنقيح المناط، وهو إلغاء الفارق فيشتركان في الحكم.
(1/398)
قد تقدم الخلاف في موضوع تنقيح المناط ماذا
هل هو إلغاء الفارق أو تعيين العلة من
أوصاف مذكورة؟ والدليل على أنه حجة بهذا التفسير أن الأصل في
كلّ مثلين أن يكون حكمهما واحداً فإذا استوى صورتان ولم يوجد
بينهما فارق فالظن القويّ القريب من القطع أنهما مستويان في
الحكم، ونجد في أنفسنا نم اعتقاد الاستواء في الحكم هنا أكثر
مِمّا نجده في الطرد والشبه، والعلم بهذا التفاوت ضروري عند من
سلك مسالك الاعتبار والنظر، فوجب كونه دليلاً على علية المشترك
على سبيل الإجمال، وإن كنا لا نعنيه، بل نجزم بأن ما اشتركا
فيه هو موجب العلة.
الفصل الرابع في الدال على عدم
اعتبار العلة
وهو خمسة: الأوّل النقض وهو وجود الوصف بدون الحكم، وفيه أربعة
مذاهب: ثالثها إن وجد المانع في صورة النقض فلا يقدح، وإلا
قدح، رابعها إن نص عليها لم يقدح وإلا قدح.
النقض قد يكون على العلة وعلى الحد وعلى الدليل، فوجود الحد
بدون المحدود نقض عليه، ووجود الدليل بدون المدلول نقض عليه،
والألفاظ اللغوية كلها أدلة، فمتى وجد لفظ بدون مسماه لغة فهو
نقض عليه. ويجمع الثلاثة أن تقول في حده: وجود المستلزم بدون
المستلزم.
حجة المنع مطلقاً: أن الوصف لو كان علة لثبت الحكم معه في جميع
صوره عملاً به ولم يثبت معه في جميع صوره فلا يكون علة، ولان
الوصف من حيث هو هو إما أن يكون مستلزماً للعلة أو لا يكون،
فإن كان يلزم وجود الحكم معه في جميع صوره، وإن لم يكن كان
الوصف وحده ليس بعلة حتى ينضاف إليه غيره والمقدر أنه علة،
وهذا خلف.
حجة الجواز مطلقاً: أن الموجب للعلية هو المناسبة فالمناسبة
تقتضي أنها حيث
(1/399)
وجدت ترتب الحكم معها وقد وجد فيما عدا
صورة النقض فوجب ثبوت الحكم معها وإن لم يوجد معها في صورة
النقض فتكون العلة كالعام المخصوص إذا خرجت عنه بعض الصور بقي
حجة فيما عدا صورة التخصيص، سواء عمل بموجب التخصيص أم لا،
كذلك هنا. فإن تناول المناسبة لجميع الصور كتناول الدلالة
اللغوية لجميع الصور، فهو في الحقيقة تخصيص، ولذلك يقول كثير
من الأصوليين والجدليين في النقض: إنه تخصيص للعلة، وهذا هو
المذهب المشهور.
حجة الثالث: أن الفرق إذا وجد في صورة النقض كان ذلك الفارق
مانعاً من ثبوت
الحكم مع العلة في صورة النقض، فكانا لعذر منتهضاً في دم ثبوته
في صورة النقض، أما إذا لم يوجد فارق كان عدم الحكم في صورة
النقض مضافاً لعدم علية الوصف لا لقيام المانع، فلا يكون الوصف
علة.
حجة الرابع: أن الوصف إذا نص على كونه علة تعين الانقياد لنص
صاحب الشرع وهو أعلم بالمصالح، ولا عبرة بالنقض مع نص صاحب
الشريعة بل النص مقدم، أما إذا لم يوجد نص تعين أن الوصف ليس
بعلة، لأنه لو كان علة لثبت الحكم معه في جميع صوره وليس فليس.
وجوب النقض إما بمنع وجود الوصف في صورة النقض أو بالتزام
الحكم فيها.
لما كان النقض لا يتم إلاّ بأمرين أحدهما وجود الوصف في صورة
النقض والثاني عدم الحكم فيها، كان انتفاء أحد هذين يمنع تحقق
النقض فإنه إذا لم يوجد الوصف لا يقال وجد الوصف بدون الحكم،
وكذلك إذا وجد الحكم فلك منع وجود الوصف في صورة النقض بأن
يعتبر بعض قيود العلة فلا نجده في صورة النقض، والمورد للنقض
يحيل أنه موجود فيمنعه حينئذ، مثال قولك في الوقف: عقد نقل،
فوجب أن يفتقر للقبول قياساً على البيع. فيقول السائل: يشكل
بالعتق، فنقول له لا نسلم أن العتق نقل بل هو إسقاط كالطلاق،
والإسقاط لا يقتقر للقبول بخلاف النقل والتمليك ولك منع عدم
الحكم في صورة النقض بناء على أحد القولين عندك في مذهبك بناءً
على الخلاف من حيث الجملة.
(1/400)
الثاني: عدم التأثير وهو أن يكون الحكم
موجوداً مع وصف، ثم يعدم ذلك الوصف ويبقى الحكم، فيقدح، بخلاف
العكس وهو وجود الحكم بدون الوصف في صورة أخرى فلا يقدح، لأن
العلل الشرعية يخلف بعضها بعضاً.
مثال عدم التأثير: أن تحريم الخمر ثابت مع اللون الخاص للخمر،
فإذا تغيرت إلى لون آخر فالتحريم باق، فيعلم أن علة التحريم
ليس هو ذلك اللون، والعكس هو عكس النقيض، فإن النقض وجود العلة
بدون الحكم والعكس وجود الحكم بدون العلة. مثال النقض تعليل
الزكاة بالغنى، فينقض بالعقار الذي فيه الأجرة العظيمة
والمنافع الجزيلة مع عدم وجوب الزكاة فيه، فهذا نقض، لأنه وجود
العلة التي هي الغنى بدون الحكم الذي هو وجوب الزكاة.
ومثال العكس: تعليل الحد بجناية القذف، فينقض بشرب الخمر أو
بغيره فلا يرد، لأن علل الشريعة يخلف بعضها بعضاً، وكما لو قال
قائل: الإنزال سبب وجوب الغسل
فينتقض بانقطاع دم الحيض، فإن الغسل واجب ولا إنزال، ولا يرد
هذا السؤال، لأن الأسباب يخلف بعضها بعضاً وكذلك الأسباب
والأدلة.
قال الشيخ سيف الدين الآمدي رحمه الله: يرد سؤال النقض ولا يرد
سؤالا لعكس، إلاّ أن يتفق المناظر أن على اتحاد العلة فيرد
النقض والعكس، وكثيراً ما تغلط طلبة العلم في إيراد العكس
فيوردونه كما يوردون النقض، وهو غلط كما بينت لك. فقد ظهر
الفرق بين النقض والعكس وعدم التأثير، فتأمل ذلك.
الثالث: القلب وهو إثبات النقيض الحكم بعين العلة كقولنا في
الاعتكاف لبث في مكان مخصوص، فلا يستقل بنفسه كالوقوف بعرفة،
فيكون الصوم شرطاً فيه، فيقول السائل لبث في مكان مخصوص فلا
يكون الصوم شرطاً فيه كالوقوف بعرفة، وهو إما أن يقصد به إثبات
مذهب السائل أو إبطال مذهب المستدل فالأول كما سبق، والثاني
كما يقول الحنفي ألمح ركن من أركان الوضوء فلا يكفي فيه أقل ما
يمكن أصله الوجه، فيقول الشافعي ركن من أركان الوضوء فلا يقدر
بالربع أصله الوجه.
القلب: يبطل العلة من جهة أنه معارضة في أنها موجبة لذلك
الحكم. فإذا
(1/401)
أثبت بها القالب نقيض ذلك الحكم في صورة
النزاع استحال إيجابها لذلك الحكم في صورة النزاع، وإلا اجتمع
النقيضان في صورة النزاع وهو محال.
ومعنى قوله فيكون الصوم شرطاً فيه: معناه أنه إذا لم يستقل
بنفسه، وكل من قال إن الاعتكاف لا يستقل بنفسه قال الذي يضاف
إليه هو الصوم، فالمقدمة الأولى ثابتة بقياس القلب، والثانية
ثابتة بالإجماع، من باب لا قائل بغير ذلك، فلو ثبت أن المضاف
غير الصوم لزم خلاف الإجماع.
وأما قول الحنفي: ركن من أركان الوضوء فلا يكفي فيه أقل ما
يمكن أصله الوجه، هو الاستدلال على الشافعي لأنه القائل يكفي
في الرأس أقل ما يسمى مسحاً فيبطل بهذا القلب مذهب الشافعي ولا
يثبت مذهب الحنفي في إيجاب مسح الربع من الرأس، بل جاز أن يكون
الواقع مذهب مالك وهو إيجاب الجميع، ولا يكفي أقل ما يمكن من
المسح.
وكذلك قول الشافعي لما قلب فلا يقدر بالربع أصله الوجه، لا
يلزم من عدم تمثيله بالربع الاكتفاء بأقل ما يمكن، بل جاز أن
يكون الواجب مسح الجميع، فليس في هذا القلب إثبات مذهب القالب،
بل إبطال مذهب المستدل فقط.
الرابع: القول بالموجب وهو تسليم ما ادعاه المستدل موجب علته
مع بقاء الخلاف في صورة النزاع.
أقول بالموجب يدخل في العلل والنصوص وجميع ما يستدل به، ومعناه
الذي يقتضيه ذلك الدليل ليس هو المتنازع فيه، وإذا لم يكن
المتنازع فيه أمكن تسليمه واستبقاء الخلاف على حاله في صورة
النزاع.
مثاله في العلل: قولا لقائل الخيل حيوان يسبق عليه فتجب فيه
الزكاة كالإبل: فإن الخيل يسابق عليها كالإبل، يقولا لسائل
أقول بموجب هذه العلة، فإن الزكاة عندي واجبة في الخيل إذا
كانت للتجارة، فإيجاب الزكاة من حيث الجملة أقول به، إنّما
النزاع في إيجاب الزكاة في رقابها من حيث هي خيل، فيسلم ما
اقتضته العلة، ولم يضره ذلك في صورة النزاع.
ومثاله في النصوص: قول المستدل إن المحرم لا يُغسل ولا يمس
بطيب، لقوله - صلى الله عليه وسلم - في محرم وقصت به ناقته:
«لا تمسوه بطيب فإنه يبعث يوم
(1/402)
القيامة ملبياً» يقول السائل النزاع ليس في
ذلك المحرم الذي ورد فيه النص، وإنما النزاع في المحرمين في
زماننا، والنص ليس فيه عموم يتناولهم، إنّما هو في شخص مخصوص
فلا يضرنا التزام موجبه، وكذلك لو استدل بعضهم على وجوب الزكاة
بصورة الإخلاص، فإنا نقول بموجبها الذي هو التوحيد، ولا يلزم
من ذلك وجوب الزكاة في صورة النزاع.
الخامس: الفرق وهو إبداء معنى مناسب للحكم في إحدى الصورتين
مفقود في الأخرى، وقدحه مبني على أن الحكم لا يعلل بعلتين،
لاحتمال أن يكون الفارق أحدهما، فلا يلزم من عدمه عدم الحكم،
لاستقلال الحكم بإحدى العلتين.
قولنا: مناسب احتراز من غير المناسب، وقد يكون الشيء لحكم غير
الحكم المتنازع فيه.
مثال غير المناسب: أن نقيس الأرز على البر في حكم الربا، فيقول
السائل الفرق بينهما أن الأرز أشد بياضاً أو أيسر تقشيراً من
سنبله.
مثال المناسب لغير الحكم المذكور: أن نقيس المساقاة على القراض
في جواز المعاملة على جزء مجهول، فيقول السائل: الفرق أن الشجر
إذا ترك العمل فيها هلكت بخلاف النقدين، وهذا مناسب لأن يكون
عقد المساقاة لازماً جائزاً بخلاف القراض، فإن القول بجوازه
يؤدي إلى جواز رده بعد مدة، فيتلف الشجر، أما باعتبار الغرر
فلا مدخل لمناسبة هذا الفرق فيه.
مثال المناسب للحكم المذكور أن تقيس الهبة على البيع في منع
الغرر فيها، فيقول المالكي الفرق أن البيع عقد معاوضة،
والمعاوضة مكايسة يخل بها الغرر، والهبة إحسان
صرف لا يخل به الغرر، فإن لم يحصل شيء فلا يتضرر الموهوب له،
بخلاف المشتري.
قال الإمام فخر الدين: وقدحه في القياس مبني على أن الحكم لا
يعلل بعلتين، فإن شأن تعليل الحكم بعلتين أن انفراد أحدهما
يوجب ثبوت الحكم وعدم الأخرى لا يضر، كما يقول في تعليل إجبار
الأب إنه معلل بالصغر والبكارة، فإن
(1/403)
انفردت إحدى العلتين وهي البكارة ثبت الجبر
كالمعنسة عل الخلاف، أو الصغر ثبت الجبر كالثيب الصغيرة، أو
اجتمعا معاً ثبت الجبر كالبكر الصغيرة، فإذا ورد السائل الفرق
يقول القائس: فرقك معنى مناسب هو علة أخرى في الأصل مع المشترك
بين صورة الأصل وصورة النزاع، وقد اجتمعنا معاً في الأصل،
فترتب الحكم وانفرد المشترك في صورة النزاع وهو إحدى العلتين،
فترتب الحكم عليه، ولا يضر عدم الفارق في صورة النزاع، لأن عدم
إحدى العلتين لا يمنع ترتب الحكم، فلذلك قال إن سماع الفرق
مبني على أن الحكم لا يعلل بعلتين. غير أن هنا إشكالاً وهو أن
الجمهور على جواز تعليل الحكم بعلتين، والجمهور على سماع الفرق
فيبطل قوله إن سماع الفرق ينافي تعليل الحكم بعلتين.
والجواب: أن الفرق قد يصلح للاستقلال بالعلية، كما نقول في
الصغر مع البكارة، وقد لا يصلح للاستقلال، كما يفرق بزيادة
المشقة ومزيد الغرر من باب صفة الصفة التي لا تصلح للتعليل
المستقل، فما لا يصلح للاستقلال يمكن أن يسمع مع جواز التعليل
بعلتين لأن قول السائل السابق حينئذ لا يتجه وهو الذي قال به
الجمهور، وما يصلح للاستقلال لا يمكن إيراده إذا جوزنا التعليل
بعلتين، فهذا تلخيص هذا الموضع.
الفصل الخامس في تعدد العلل
يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين منصوصتين خلافاً لبعضهم نحو
وجوب الوضوء على من بال ولامس ولا يجوز بمستنبطتين لأن الأصل
عدم الاستقلال فيجعلان علة واحدة.
حجة الجواز في المنصوصتين: أن لصاحب الشرع أن يربط الحكم بعلة
وبغير علة ووبعلتين فأكثر، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، ثم إن
المصالح قد تتقاضى ذلك في وصفين كما قلنا في الصغر والبكارة،
فينص الشرع عليهمان وعلى استقلال كلّ واحد منهما تحصيلاً لتلك
المصلحة، وتكثيراً لها.
حجة المنع: أنه لو علل بعلتين لاجتمع على الأثر الواحد مؤثران
مستقلان وهو
محال، وإلا لاستغنى بكل واحد منهما على كلّ واحد منهما فيلزم،
(1/404)
أن يقع بهما في حالة عدم وقوعه بهما، وأن
لا يقع بهما حالة وقوعه بهما، وهو جمع بين النقيضين، لأن
الوقوع بكل واحد منهما سبب عدم الوقوع من الآخر فلو حصل
العلتان وهو الوقوع بهما لحصل المعلولان وهو عدم الوقوع بهما،
ولأن تعليل الحكم بعلتين يفضي غلى نقض العلة وهو خلاف الأصل.
بيانه: أنه إذا وجدت إحدى العلتين ترتب عليها الحكم، فإذا وجدت
الأخرى بعدها لا يترتب عليها شيء، فقد وجدت العلة الثانية بدون
الترتيب لتقدم الترتيب عليها بناءً على العلة الأخرى، فيلزم
وجود العلة بدون وجود مقتضاها، وهو نقض عليها.
والجواب: عن الأول (1) أن علل الشرع معرفات لا مؤثرات، والمحال
المذكور إنما يلزم من المؤثرات، ويجوز اجتماع معرفين فأكثر على
مدلول واحد كما يعرف الله تعالى وصفاته العلية بكل جزء من
أجزاء العالم.
وعن الثاني: أن النقض لقيام المانع لا يقدم في العلة كما تقدم
في النقض فيقول به، هذا في المنصوصتين، أما المستنبطتان فلا
سبيل إلى التعليل بهما، لأن الشرع إذا ورد بحكم مع أوصاف
مناسبة وجب جعل كل واحد منهما جزء علة لا علة مستقلة، لأن
الأصل عدم الاستقلال حتى ينص صاحب الشرع على استقلالهما، أو
أحدهما فيستقل.
الفصل السادس في أنواعها
وهي أحد عشر نوعاً الأول التعليل بالمحل فيه خلاف، قال الإمام
فخر الدين إن جوزنا أن تكون العلة قاصرة جوزناه كتعليل الخمر
بكون خمراً أو البر يحرم الربا فيه لكونه براً.
والعلة القاصرة هي العلة التي لا توجد في غير محل النص، كوصف
البر والخمر إذا قلنا إن الخمر خاص بما عصر من العنب على صورة
خاصة، والخلاف
_________
(1) في الأصول: «والجواب عليهما وعن الأول» . فحذفنا كلمة
«عليهما» ليستقيم المعنى ولأنه بعد سطور سيذكر الجواب عن
الثاني.
(1/405)
في العلة القاصرة هو مع الحنفية منعوها
وأجازها الجمهور، غير أن الفرق بين المحل والعلة القاصرة من
حيث الصورة والمعنى لا من حيث جواز التعليل أن العلة القاصرة
قد تكون وصفاً اشتمل عليه محل النصر لم يوضع اللفظ له، والمحل
ما وضع اللفظ له، كوصف البرية مثلاً إذا قيل إن
البر اشتمل على نوع من الحرارة والرطوبة لاسم به مزاج الإنسان
ملاءمة لا تحصل بين الإنسان والأرز، فإن الأرز حار يابس يبساً
شديداً ينافي مزاج الإنسان، فحرم الربا في البر، ومنع بدل واحد
منه باثنين لأجل هذه الملاءمة الخاصة التي لا توجد في غير
البر، فهذا علة قاصرة لا محل، وأما وصف البرية بما هي برية فهو
المحل، فلذلك حسن من الإمام تخريج التعليل بالمحل على التعليل
بالعلة القاصرة، ولو كان شيئاً واحداً لم يحسن التخريج ولا
التفريع، إذا ظهر لك الفرق بينهما فكل ما يذكر في العلة
القاصرة من الحجاج بين الفريقين نفياً وإثباتاً فهو بعينه
ههنا، فيكتفى بذلك عن ذكره ههنا.
الثاني: الوصف إن لم يكن منضبطاً جاز التعليل بالحكمة وفيه
خلاف، والحكمة هي التي لأجلها صار الوصف علة، كذهاب العقل
الموجب لجعل الإسكار علة.
ومن الحكمة اختلاط الأنساب، فإنه سبب جعل وصف الزنا سبب وجوب
الجلد، وكضياع المال الموجب لجعل وصف السرقة سبب القطع.
حجة الجواز: أن الوصف إذا جاز التعليل به فأولى بالحكمة، لأنها
أصله، وأصل الشيء لا يقصر عنه، ولأنها نفس المصلحة والمفسدة
وحاجات الخلق، وهذا هو سبب ورود الشرائع، فالاعتماد عليها أولى
من الاعتماد على الفرع.
حجة المنع: أنه لو جاز التعليل بالحكمة لما جاز التعليل
بالوصف، لأن الأصل يعدل عنه إلى فرعه إلا عند تعذره، والحكمة
ليست متعذرة، فلا يجوز العدول عنها فيعلل بها، ومتى علل بها
سقط التعليل بالوصف، فظهر أنه لو صح التعليل بالحكمة لامتنع
التعليل بالوصف، لكن المنع من الوصف خلاف إجماع القائسين ولأنه
لو جاز التعليل بالحكمة (1) للزم تخلف الحكم عن علة وهو خلاف
الأصل بيانه أن وصف الرضاع سبب حرمة النكاح، وحكمته أن جزء
_________
(1) في الأصول: ولأنه لو جاز التعليل بالوصف، والصحيح ما
أثبتناه.
(1/406)
المرأة صار جزءاً للرضيع، لأن لبنها جزؤها
صار لحماً للجنين، فأشبه منها الذي صار جزءاً للجنين، فكما أن
ولد الصلب حرام فكذلك ولد الرضاع، وهو سر قوله عليه الصلاة
والسلام: «الرضاع لحمه كلحمة النسب» إشارة إلى الجزئية، فإذا
كانت هذه هي الحكمة، فلو أكل الجنين قطعة من لحم امرأة فقد صار
جزؤها جزأه، فكان يلزم التحريم ولم يقل به أحد، وكذلك إذا كانت
الحكمة في وصف الزنا اختلاط الأنساب، فإذا أخذ رجل صبياناً
صغاراً وفرقهم إلى حيث لم يرهم آباؤهم حتى صاروا رجالاً ولم
يعرفهم آباؤهم، فاختلطت أنسابهم حينئذ، فينبغي أن يجب عليه حد
الزنا لوجود حكمة وصف الزنا، لكنه خلاف الإجماع، فعملنا أنه لو
جاز التعليل بالحكمة للزم
النقض وهو خلاف الأصل، فلا يجوز التعليل بالحكمة وهو المطلوب.
والثالث: يجوز التعليل بالعدم خلافاً لبعض الفقهاء، فإن عدم
العلة علة لعدم المعلول.
حجة المنع: أن العدم نفي محض لا تمييز فيه، وما لا تمييز فيه
لا يمكن جعله علة، فإن العلة فرع التمييز، ولأن العلة وصف
وجودي لأنها نقيض أن لا علية المحمولة على العدم وأن لا علية
عدم، فتكون العلة وجودية، والوصف الوجودي لا يقوم بالعدم ولا
المعدوم، وإلا لزمنا الشك في وجود الأجسام، لأنا لا نرى من
العالم إلا أعراضه، فإذا جوزنا قيام الصفات الوجودية بالمعدوم،
جوزنا أن تكون هذه الألوان قائمة بالمعدوم فلا نجزم بوجود شيء
من أجزاء العالم وهو خلاف الضرورة.
والجواب عن الأول: أن العدم الذي يقع التعليل به لا بد أن يكون
عدم شيء بعينه فهو عدم متميز فيصح التعليل به، كما تقول عدم
علة التحريم علة الإباحة في جميع موارد الشريعة، لأن الإسكار
علة التحريم والتنجيس، فإذا عدم ثبت التطهير والإباحة وعن
الثاني: أن قولنا لا علية، حرف سلب دخل على اسم سلب، لأن
العلية عندنا نسبة وإضافة، والنسب والإضافات عدمية عندنا،
والسلب إذا دخل على السلب صار ثبوتاً فلا عليه ثبوت لا سلب،
فلا يتم مقصودكم فتكون العلية عدمية، فأن نقيضها ثبوت.
الرابع: المانعون من التعليل بالعدم امتنعوا من التعليل
بالإضافات لأنها عدم.
(1/407)
النسب والإضافات كالأبوة والبنوة، والتقديم
والتأخير، والمعية، والقبلية والبعدية وجودية عند الفلاسفة
عدمية عندنا، غير أن وجودها ذهني فقط، فهي موجودة في الأذهان
لا في الأعيان، والأوصاف العدمية عدم مطلقاً في الذهن والخارج،
فهذا هو الفرق بينهما، واستوى القسمان في العدم في الخارج
فلذلك من منع هناك منع هنا.
الخامس: يجوز التعليل بالحكم الشرعي للحكم الشرعي خلافاً لقوم،
كقولنا نجس فيحرم.
حجة الجواز: أن علل الشرع معرفات، فللشارع أن ينصب حكماً على
حكم آخر كما ينصب النجاسة التي هي حكم شرعي على تحريم البيع أو
الأكل الذي هو حكم شرعي.
حجة المنع: أن الحكم شأنه أن يكون معلولاً، فلو صار علة
لانقلبت الحقائق ولأن الحكمين متساويان في أن كل واحد منهما
حكم شرعي، فليس جعل أحدهما علة للآخر أولى من العكس.
والجواب عن الأول: ليس في ذلك قلب الحقائق، بل يكون ذلك الحكم
معلولاً لعلته
وعلة معرفة الحكم آخر غير علته فإن ادعيتم أن شأن الحكم أن لا
يكون علته البتة فهذا محل النزاع. وعن الثاني: أن المناسبة
تعين أحدهما للعلية والآخر للمعلولية، كما تقول نجس فيحرم،
وطاهر فيجوز به الصلاة، فإن النجاسة مناسبة للتحريم، والطهارة
مناسبة لإباحة الصلاة، فما وقع الترجيح إلا بمرجح، ولو عكس هذا
وقيل لا يجوز بيعه فيحرم لم ينتظم، فإنه قد يحرم بيعه لغصبه أو
لعجز عن تسليمه أو غير ذلك.
السادس: يجوز التعليل بالأصواف العرقية كالشرف والخسة، بشرط
اطرادها وتميزها عن غيرها.
أما الجواز: فإن الشرف يناسب التكريم والتعظيم وتحريم الإهانة
ووجوب الحفظ، والخسة: تناسب ضد هذه الأحكام من تحريم التعظيم
وإباحة الإهانة، فهذا وجه جواز التعليل بها، وأما اشتراط
اطرادها فإن ذلك الحكم إذا لم يوجد في جميع صور ذلك الوصف
ويوجد الحكم بدونه ومعه فهو عدم التأثير، وهو يدل على عدم
اعتبار ذلك الوصف، وأما التمييز فلأن التعليل بالشيء فرع
تمييزه عن غيره، لأن الحكم يعتمد التصور.
(1/408)
السابع: يجوز التعليل بالعلة المركبة عند
الأكثرين كالقتل العمد العدوان.
حجة الجواز: أن المصلحة قد لا تحصل إلا بالتركيب، فإن الوصف
الواحد قد يقصر، كما تقول إن وصف الزنا لا يستقل بمناسبة وجوب
الحد إلا بشرط أن يكون الواطئ عالماً بأنها أجنبية، فلو جهل
ذلك لم يناسب وجوب الحد، وكذلك القتل وحده لا يناسب وجوب
القصاص حتى يضاف إليه العمد العدوان.
حجة المنع: أن القول بتركيب العلة الشرعية يفضي إلى نقض العلة
العقلية. بيانه أن القاعدة العقلية إن عدم جزء المركب علة لعدم
ذلك المركب، فإذا فرضنا علة شرعية مركبة أو عقلية فعدم جزء
منها فلا شك أن ذلك المركب يعدم وتعدم تلك العلية تبعاً له،
فإذا عدم جزء آخر بعد ذلك لم يترتب عليه عدم ذلك المركب ولا
تلك العلية لتقدم ذلك على عدمه، وإلا لزم تحصيل الحاصل، فقد
وجدت العلة العقلية بدون أثرها وهو نقض العلة العقلية وهو
محال.
فإن قلت: هذا يقتضي أن لا يوجد مركب في العالم وهو خلاف
الضرورة.
قلت: لا معنى للمركب في الخارج إلا تلك الأجزاء، والمجموع إنما
هو صورة ذهنية، أما العلية فهي حكم شرعي خارجي عرَض لذلك
المركب فافترقا.
والجواب: أن نقض العلة العقلية غير لازم، لأنه إذا عدم جزء من
الثلاثة عدمت الثلاثة والباقي بعد ذلك هو جزء الاثنين لا جزء
الثلاثة، فإذا عدم أحد الاثنين الباقيين الآن
يعدم مجموع الاثنين، فعدمه علة لعدم الاثنين لا لعدم الثلاثة
لأن عدم الباقي ليس جزء الثلاثة؛ فإن جزئية الثلاثة أمر نسبي
يذهب عند ذهاب أحد الطرفين وهو الثلاثة.
الثامن: يجوز التعليل بالعلة القاصرة عند الشافعي وأكثر
المتكلمين خلافاً لأبي حنيفة وأصحابه إلا أن تكون منصوصة، لأن
فائدة التعليل عند الحنفية التعدية للفرع وقد انتفت. وجوابهم:
بقي سكون النفس للحكم والاطلاع على مقصود الشرع فيه.
قال القاضي عبد الوهاب بالقاصر، قال أصحابنا وأصحاب الشافعي
وانبنى على ذلك تعليل الذهب والفضة بأنهما أصول الأثمان
والمتمولات، ومنعها أكثر العراقيين، وفضل بعضهم بين المنصوصة
والمستنبطة، فمنع المستنبطة، إلا أن ينعقد فيها إجماع.
(1/409)
حجة المنع مطلقاً: أن القاصرة غير معلومة
من طريقة الصحابة رضوان الله عليهم فلا تثبت، لأن القياس
وتفاريعه إنما يتلقى من الصحابة، ويلزم من عدم المدرك عدم
الحكم.
حجة من فصل بين المنصوصة وغيرها: أن النص تعبد من الشارع يجب
تلقيه بالقبول أما استنباطنا نحن فلا يجوز أن يكون إلا
للتعدية.
والجواب عن الأول: أن المنقول عن الصحابة رضوان الله عليهم
الفحص عن حكم الشريعة وأسرارها بحسب الإمكان، ومن حكمة الشريعة
الاطلاع على حكم الشرع في الأصل، فيكون ذلك أدعى لطواعية العبد
وسكون نفسه للحكم.
وعن الثاني: أنا نستنبط لما تقدم من الفوائد، ولأنه قد يجتمع
في الأصل مع القاصرة وصف متعد، والحكم منفي عنه بالإجماع،
فيكون ذلك الوصف المتعدي إنما ترك لأجل عدم القاصرة، فإن عدم
العلة علة لعدم المعلول، فإن لم يعتبر القاصرة يكون المتعدي قد
ترك بلا معارض. وهذه فائدة أخرى في اعتبار القاصرة.
التاسع: اتفقوا على أنه لا يجوز التعليل بالاسم العاشر، اختار
الإمام أنه لا يجوز التعليل بالأوصاف المقدرة خلافاً لبعض
الفقهاء كتعليل العتق عن الغير بتقدير الملك.
أما الاسم بمجرده فلأنه طردي محض والشرائع شأنها رعاية المصالح
ومظانها أما ما لا يكون مصلحة ولا مظنة لمصلحة فليس دأب الشارع
اعتبارهن وأما المقدرات فقد اشتد نكير الإمام فخر الدين عليها،
وأنها من الأمور التي لا يجوز أن تعتقد في الشرائع، وأنكر كون
الولاء للمعتق عن الغير معللاً بتقدير الملك له، وأنكر تقدير
الأعيان في الذمة، وأنها لا تتصور.
واعلم أن المقدرات في الشريعة لا يكاد يعرى عنها باب من أبواب
الفقه، وقد بسطت ذلك في كتاب الأمنية. وكيف يتخيل عاقل أن
المطالبة تتوجه على أحد بغير أمر مطالب به،
وكيف يكون الطالب بلا مطلوب؟! وكذا المطلوب يمتنع أن يكون
معيناً في السلم وإلا لما كان سلماً، فيتعين أن يكون في الذمة،
ولا نعني بالتقدير إلا هذا، وكيف صح العقد على أردب من الحنطة
وهو غير معين ولا مقدر في الذمة، فحينئذ هذا عقد بلا معقود
عليه، بل لفظ بلا معنى، وكذلك إذا باعه
(1/410)
بثمن إلى أجل هذا الثمن غير معين، فإذا لم
يكن مقدراً في الذمة كيف يبقى بعد ذلك ثمن يتصور، وكذلك
الإجارة لا بد من تقدير منافع في الأعيان حتى يصح أن يكون مورد
العقد، إذ لولا تخيل ذلك فيها امتنعت إجارتها ووقفها وعاريتها
وغير ذلك من عقود المنافع، وكذلك الصلح على الدين وغيره لا بد
من تخيل المصالح عليه حتى يقابل بالطرف الآخر ويكون متعلق عقد
الصلح، وإذا لم يقدر الملك للمعتق عنه كيف يصلح القول ببراءة
ذمته من الكفارة التي أعتق عنها وكيف يكون له الولاء في غير
عبد يملكه وهو لم يملكه محققاً؟! فتعين أن يكون مقدراً، وكذلك
لا يكون يعرى باب من أبواب الفقه عن التقدير، فإنكار الإمام
منكر، والحق التعليل بالمقدرات.
الحادي عشر: يجوز تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي ولا يتوقف
على وجود المقتضى عند الإمام خلافاً للأكثرين في التوقف وهذا
هو تعامل انتفاء الحكم بالمانع فهو يقول المانع هو ضد علة
الثبوت والشيء لا يتوقف على ضده.
وجوابه: أنه لا يحسن في القادة أن يقال للأعمى أنه لا يبصر
زيداً للجدار الذي بينهما، وإنما يحسن ذلك في البصير.
مدرك الجماعة العوائد والشرائع، أما العوائد فكما تقدم في
الضرير ونحوه، أما الشرائع فلا نقول في الفقير إنه لا يجب عليه
الزكاة لأن عليه ديناً، وإنما نقول لأنه فقير، ولا نقول في
الأجنبي إنه لا يرث لأنه عبد بل لأنه أجنبي.
وأما حجة الإمام: فلأن المانع ضد المقتضى، وأحد الضدين لا يكون
شرطاً في الآخر، لأن من شرط الشرط إمكان اجتماعه مع المشروط
والضد لا يمكن اجتماعه مع ضده.
والجواب عنه: أن المانع ليس ضد المقتضى، بل أثره ضد أثره،
فالتضاد بين الأثرين لا بين المؤثرين، فالدين والنصاب لا تضاد
بينهما فيكون مديوناً وله نصاب من غير منافاة، لكن أثر الدين
عدم وجوب الزكاة، واثر النصاب وجوب الزكاة، والزكاة وعدمها
متناقضان، ونحن لم نقل بأن أحد الأثرين شرطاً في الآخر بل
نفينا أحد الأثرين جزماً، وإنما قلنا أحد المؤثرين شرط في
الآخر فأين أحد البابين من الآخر؟!.
(1/411)
الفصل السابع فيما
يدخل القياس
وهو ثمانية أنواع: الأول اتفق أكثر المتكلمين على جوازه في
العقليات ويسمونه إلحاق الغائب بالشاهد.
جعلوا الجامع في إلحاق الغائب بالشاهد أربعة: الجمع بالحقيقة
كقولنا حقيقة العالم من قام به العلم والله تعالى عالم فيقوم
به العلم. والجمع بالدليل كقولنا الإتقان في الشاهد دليل
العلم، والله تعالى متقن لأفعاله فيكون عالماً. والجمع بالشرط
كقولنا العلم في الشاهد مشروط بالحياة، والله تعالى عالم فيكون
حياً، والجمع بالعلة كقولنا العلم في الشاهد علة للعالمية
والله تعالى له علم فيكون عالماً. وكثير من مباحث أصول الدين
مبني على قياس الشاهد على الغائب.
حجة المنع أن صورة المقيس إذا كانت بعينها صورة المقيس عليه
فهما واحد ولا قياس حينئذ، وإن تغايرا فلكل واحد منهما تعين،
فلعل تعين الأصل شرط ولأجل ذلك صح ثبوت الحكم للأصل، وتعين
الفرع مانعاً ولا يثبت الحكم ومع الاحتمال لا يتعين، والمطلوب
بهذا القياس التعين.
والجواب: أن العقل قد يقطع بسقوط الخصوصيات عن الاعتبار، كما
تقول: إن اللون الذي قام بزيد مفتقر للجوهر، وكذلك الجماد
والنبات، وإن خصوصية الحيوان والجماد والنبات لا مدخل له في
افتقار اللون للمحل لا شرطاً ولا منعاً ولا موجباً، بل ذلك
لذات اللون من حيث هو لون، وكذلك علم زيد إنما هو مشروط
بالحياة لأنه علم لا بخصوص محل، ونحن إنما نقيس فيما هذا شأنه
فاندفع الاحتمال وحصل القطع باستواء الموضعين في العلم.
الثاني: اختار الإمام وجماعة جواز القياس في اللغات، وقال ابن
جني هو قول أكثر الأدباء خلافاً للحنفية وجماعة من الفقهاء.
قال سيف الدين الآمدي: لا يجوز القياس في اللغات، وقال بعضهم:
جميع
(1/412)
اللغات اليوم ثابتة بالقياس؛ لأن العرب
إنما وضعت أسماء الأجناس للأعيان التي شاهدوها، فإذا هلكت تلك
الأعيان وجاءت أعيان أخرى فإنما يطلق عليها الاسم بالقياس،
فلفظ الفَرَس وغيره من الحيوانات اليوم إنما يطلق بالقياس وهذا
غلطن فإن العرب إنما وضعت لما تصورته بعقولها لا لما شاهدته
بأبصارها والمتصور في العقل موجود في الأشخاص الماضية والحاضرة
على حد واحد، فمفهوم الفرس المعقول هو الموضوع له، ويصير معنى
ذلك أن
الواضع قال كل ما ينطبق عليه هذه الصورة الذهنية هو المسمى
بالفرس عندي، وكذلك بقية أسماء الأجناس. ولم يوضع لما في
الخارج من المشاهد بالبصر إلا أعلام الأشخاص دون أعلام
الأجناس، فهذا ذكره الشيخ أبو إسحق في اللمع، وعلته ما ترى
إنما القياس في اللغة مثل كون العرب وضعت السرقة لأخذا لمال
على صورة مخصوصة، حتى فرقت بين الغاصب والمحارب والجاحد
والخائن والمختلس والسارق، فحينئذ السرقة موضوعة لشيء مخصوص،
فهل يسمى النباش للقبور سارقاً لأجل مشابهته للسارق أو يسمى
اللائط زانياً لمشابهته للزاني؟ هذا موضع الخلاف.
حجة المنع: أنه لو صح القياس لبطل المجاز خصوصاً المستعار، فإن
المشابهة هي علاقته، فحينئذ إن أرادوا بالقياس أنه يصير حقيقة
بطل هذا المجاز كله وقد أجمعنا على ثبوته، وإن أرادوا جواز
الإطلاق على سبيل المجاز فهو متفق عليه فعلم بأن القول بالقياس
لا سبيل إليه، ولأن الأبلق يقال للفرس لاجتماع السواد والبياض
فيهن ولا يقال ذلك لغيره من الحيوانات، فلو كان القياس سائغاً
لساغ ذلك، لكن أهل اللغة منعوه، وكذلك القارورة تقال للزجاجة
لأجل ما يستقر فيها، ولا يقال ذلك للنهر ولا لغيره وإن استقرت
فيه المائعات.
حجة الجواز: أن الفاعل يرفع في زماننا والمفعول ينصب وغير ذلك
من المعمولات وذلك في أسماء لم يسمعها العرب من الأعلام
وغيرها، فلا يمكن أن يقال ذلك بالوضع لأن العرب لم تسمع هذه
الأسماء، والوضع، فرع التصور، فيتعين أن يكون القياس.
والجواب: أن ذلك بالوضع، والعرب لما وضعت الفاعل ورفعته لم
تضعه لشيء بعينه بل للحقيقة الكلية، وتلك الحقيقة الكلية هو
كونه مسند إليه للفعل وما في معنى الفعل من اسم الفاعل ونحوه،
وذلك موجود في جميع هذه الصور، فلا جرم صح الإطلاق، وكان
عربياً حقيقة لا مجازاً ولا قياساً.
(1/413)
الثالث: المشهور أنه لا يجوز إجراء القياس
في الأسباب كقياس اللواط على الزنا في وجوب الحد، لأنه لا يحسن
أن يقال في طلوع الشمس إنه موجب للعبادة كغروبها.
حجة الجواز: أن السببية حكم شرعي فجاز القياس فيها كسائر
الأحكام، ولأن السبب إنما يكون سبباً لأجل الحكمة التي اشتمل
عليها، فإذا وجدت في غيره وجب أن يكون سبباً تكثيراً لتلك
الحكمة.
حجة المنع: أن الحكمة غير منضبطة لا، ها مقادير من الحاجات،
وإنما المنضبطة الأوصاف، ولذلك إنما ترتب الحكم على سببه وجدت
حكمة أم لا، بدليل أنا نقطع بالسرقة
وإن لم يتلف المال بأن وُجد مع السارق، ونحد الزاني وإن لم
يختلط نسب بل تحيض ولا يظهر حبل، فعلمنا أن الحكمة إنما هي
مرعية في الجملة، والمعتبر إنما هو الأوصاف، فإذا قسنا فإنما
نجمع بالحكمة وهي غير منضبطة، والجمع بغير المنضبط لا يجوز.
الرابع: اختلفوا في جواز دخول القياس في العدم الأصلي، قال
الإمام والحق أنه يدخله قياس الاستدلال بعدم خواص الشيء على
عدمه دون قياس العلة، وهذا بخلاف قياس الإعدام فإنه حكم شرعي.
العدم الأصلي كعدم صلاة سادسة، وعدم وجوب صوم شهر غير رمضان،
ونحوه.
حجة الجواز: أنه يمكن أن يقال إنما لم يجب الفعل الفلاني لأنه
فيه مفسدة خالصة أو راجحة، وهذا الفعل مشتمل على مفسدة خالصة
أو راجحة، فوجب أن لا يجب.
حجة المنع: أن العدم الأصلي ثابت مستمر بذاته، وما هو مستمر
بذاته يستحيل إثباته بالغير، ولا يمكن إثباته بالقياس.
حجة الإمام أن العلة إنما تكون في المعاني الموجودة، والعدم
نفي محض فلا يتصور فيه العلل.
وجوابه: ما تقدم أن العدم قد يعلل بدرء المفسدة، كما تقول إنما
لم يبح الله تعالى الزنا ونحوه لما فيه من المفاسد، وأما
الإعدام فهو رفع الحكم بعد ثبوته، ولا شك أن رفع الثابت يحتاج
إلى رافع، بخلاف تحقق ما هو محقق فإنه يلزم منه تحصيل الحاصل،
فظهر الفرق بين العدم والإعدام.
(1/414)
الخامس قال الجبائي (1) والكرخي لا يجوز
إثبات أصولا لعبادات بالقياس.
حجة المنع: أن الدليل ينفي العمل بالظن، خالفناه في إثبات فرع
العبادات بالقياس فيبقى على مقتضى الدليل في أصولها. والفرق أن
أصل العبادة أمر مهم في الدين، فيكون بالتنصيص من جهة صاحب
الشرع لاهتمامه به. والفرع بعد ذلك ينبه عليه أصله فيكفي فيه
القياس.
حجة الجواز: أن الشريعة غذا وجد فيها أصل عبادة لنوع من
المصالح، ووجد ذلك النوع من المصالح في فعل آخر وجب أن يكون
مأموراً به عبادة، قياساً على ذلك النوع
الثابت بالنص تكثيراً للمصلحة، والأدلة الدالة على القياس لم
تفرق بين مصلحة ومصلحة، وما ذكرتموه من الفرق معارض بأن مصلحة
أصل العبادة إما أعظم من مصلحة الفرع أو مثلها، لأن الأصل لا
يكون أضعف من فرعه، وعلى كل تقدير وجب القول بالقياس تحصيلاً
لتلك المصلحة التي هي أعظم بطريق الأولى، أو المصلحة المساوية،
لأن حكم أحد المثلين حكم الآخر.
السادس: يجوز عند ابن القصار والباجي والشافعي جربان القياس في
المقدرات والحدود والكفارات خلافاً لأبي حنيفة وأصحابه لأنها
أحكام شرعية.
حجة المنع: أن المقدرات كنصب الزكوات والحدود كجلد الزاني مائة
والكفارات كصيام ثلاثة أيام لا يعقل معنى هذه الحدود دون ما هو
أقل منها كتسعة عشر ديناراً في الزكاة، وتسعة وتسعين سوطاً أو
يمين أو أحد وستين في كفارة الطهارة مثلاً، وما لا يعقل معناه
يتعذر القياس فيه.
والجواب: أنا إنما نقول بالقياس حيث ظفرنا بالمعنى الذي لأجله
ثبت الحكم فحيث تعذر ذلك وكان تعبداً فإنا لا نقيس، فلا يرد
علينا مواطن التعبد.
السابع: يجوز القياس عند الشافعي على الرخص، خلافاً لأبي حنيفة
وأصحابه.
حكى المالكية عن مذهب مالك قولين في جواز القياس على الرخص،
_________
(1) أبو علي محمد بن عبد الوهاب 849-915 ولد بخوزستان وانتقل
إلى البصرة أخذ عن الشحام تلميذ العلاف. من أشهر تلاميذه ابنه
أبو هاشم والأشعري. وهو رئيس معتزلة البصرة. أنكر الصفات
توكيداً لوحدة الله تعالى.
(1/415)
وخرجوا على القولين فروعاً في المذهب، منها
ليس خف على خف وغير ذلك.
حجة المنع: أن الرخص مخالفة للدليل، فالقول بالقياس عليها يؤدي
إلى كثرة مخالفة الدليل، فوجب أن لا يجوز.
حجة الجواز: أن الدليل إنما يخالفه صاحب الشرع لمصلحة تزيد على
مصلحة ذلك الدليل عملاً بالاستقراء، وتقديم الأرجح هو شأن صاحب
الشرع وهو مقتضى الدليل، فإذا وجدنا تلك المصلحة التي خولف
الدليل لأجلها في صورة وجب أن يخالف الدليل بها أيضاً عملاً
برجحانها، فنحن حينئذ كثرنا من موافقة الدليل لا مخالفته.
الثامن: لا يدخل القياس فيما طريقه الحلقة والعادة كالحيض،
وفيما لا يتعلق به عمل كفتح مكة عنوة، ونحوه.
لا يمكن أن نقول فلانة تحيض عشرة أيام وينقطع دمها وجب أن تكون
الأخرى كذلك قياساً عليها فإن هذه الأمور تتبع الطباع والأمزجة
والعوائد في الأقاليم. فرب إقليم يغلب عليه معنى لا يغلب على
غيره من الأقاليم، وأما فتح مكة عنوة فإن أريد به أنه وجب أن
يكون الواقع العنوة في دمشق كما وقعت في بلد علم أنه عنوة فهذا
صحيح، فإن العنوة
تتبع أسبابها، ولا يمكن إثبات عنوة ولا صلح بالقياس، وإن أريد
أن العنوة ليس فيها حكم شرعي فليس كذلك، بل لنا أن نثبت العنوة
أحكاماً شرعية بالقياس كالحبس في الأراضي وغيرها من الإجارات
والشفعات وصحة القسمة والإرث وغير ذلك، فقد قال مالك إن أرض
العنوة يمتنع فيها جميع ذلك، وقال الشافعي يجوز فيها جميع ذلك،
فهذا تعلق به أحكام شرعية أمكن التمسك في بعضها بالقياس إذا
وجد جامع يقتضيه، غير أن الإمام فخر الدين أطلق القول في ذلك،
والحق في التفصيل.
(1/416)
|