شرح تنقيح الفصول الباب الثامن عشر في
التعارض والترجيح
وفيه خمسة فصول
الفصل الأول هل يجوز تساوي
الأمارتين
اختلفوا هل يجوز تساويا لأمارتين فمنعه الكرخي وجوزه الباقون
والمجوزون اختلفوا فقال القاضي أبو بكر هنا وأبو علي وأبو هاشم
بتخير ويتساقطان عند بعض الفقهاء، قال الإمام إن وقع التعارض
في فعل واحد باعتبار حكمين فهذا متعذر وإن وقع في فعلين والحكم
واحد كالتوجه إلى جهتين للكعبة فيتخير، قال الباجي في القسم
الأول إذا تعارضا في الأقطار والإباحة تخير، وقال الأبهري
يتعين الحظر بناءً على أصله أن الأشياء عن الحذر، وقال أبو
الفرج يتعين الإباحة بناءً على أصله أن الأشياء على الإباحة،
فالثلاثة رجعوا إلى حكم العقل بناءً على أصولهم.
حجة منع تساويهما: أن الظنون لها مراتب تختلف باختلاف حكم
العقول والسجايا ولكن العقول والسجايا غير منضبطة المقدار، فما
نشأ عنها غير منضبط المقدار فيتعذر تساوي الأمارتين.
حجة الجواز: أن الغيم الرطب المشف في زمن الشتاء يستوي العقلاء
أو عاقلان فقط في موجبه وما يقتضيه حاله، وكذلك الجدار
المتداعي للسقوط لا بد أن يجتمع في العالم اثنان على حكمه، وإن
خالفهم الباقون فيحصل المقصود فإنا لا ندَّعي وجوب التساوي بل
جواز التساوي وذلك كافٍ فيما ذكرناه.
حجة القول بالتخير: أن التساوي يمنع الترجيح، والعلم بالدليل
الشرعي واجب
(1/417)
بحسب الإمكان فإن خيرناه بينهما فقد أعملنا
الدليل الشرعي من حيث الجملة، بخلاف إذا قلنا بالتساقط فإنه
إلغاء بالكلية.
حجة التساقط: أنا إن خيرناه فقد أعملنا دليل الإباحة، والتقدير
أنها متساوية لأمارة الحظر فيلزم الترجيح من غير مرجح، ولأنهما
إذا تعارضا لم يحصل في نفس المجتهد ظن، وإذا فقد الظن والعلم
حرمت الفتيا.
والجواب عن الأول: أنا لا نسلم أنه ترجيح لأمارة الإباحة
من حيث هي أمارة إباحة بل هذا التخيير نشأ عن التساوي لا عن
أمارة الإباحة، وقد يشترك المختلفان في لازم واحد، ولم يلزم
الترجيح من غير مرجح. وعن الثاني: أن اعتبار ظن أحدهما عيناً
منفي أما ظن التخيير الناشئ عن التساوي فلا نسلم أنه غير حاصل.
وقول الإمام هذا متعذر في حكمين في فعل وحد ليس كما قال، بل
المتعذر ثبوت حكمين لفعل واحد من وجه واحد، أما ثبوتهما له من
وجهين فليس كذلك، كالصلاة في الدار المغصوبة حرام وواجبة،
وأيسر من ذلك تعارض الأمارتين فإنا لم نقل بمقتضاها بل قلنا
اقتضيا حكمين متعارضين، فلو امتنع ذلك لامتنع وجود المقتضى
والمانع في جميع صور الشريعة وليس كذلك، فلا محال حينئذ.
ومثاله في حكم واحد في فعلين أن تدل أمارة على أن القبلة في
استقبال جهة وأمارة أخرى على أنها ف ي استدبار تلك الجهة،
فالاستقبال والاستدبار فعلان وحكمهما واحد وهو وجوب التوجه
فيخير بين الجهتين كما قاله الإمام.
ورجح سيف الدين الآمدي الحظر على الإباحة عند التعارض بثلاثة
أوجه: أحدها أن الحظر إنما يكون التضمن المفاسد ورعاية الشارع،
والعقلاء بدرء المفاسد أعظم من رعايتهم لتحصل المصالح فيقدم
الحظر عنده على الواجب والمندوب والمباح. وثانيها أن القول
بترجيح الحضر يقتضي موافقة الأصل، فإن موجبه عدم الفعل وعدم
الفعل هو الأصل، أما الوجوب ونحوه فموجبه الفعل وهو خلاف
الأصل. وثالثها أن الحظر يخرج الإنسان عن عهدته وإن لم يشعر به
فهو أهون وأقرب للأصول، بخلاف الوجوب ونحوه لا بد فيه من
الشعور حتى يخرج عن العهدة فهذه، ترجيحات غير تلك الأصول
المتقدمة.
وإذا نقل عن مجتهد قولان فإن كانا في موضعين وعلم التاريخ عد
الثاني رجوعاً عن الأول، وإن لم يعلم حكى عنه القولان ولا يحكم
عليه
(1/418)
برجوع، وإن كانا في موضع واحد بأن يقول في
المسألة قولان فإن أشار إلى تقوية أحدهما فهو قوله، وإن لم
يعلم فقيل يتخير السامع بينهما.
وإذا علم الرجوع عن الأول لا يجوز الفتيا به ولا تقليده فيه،
ولا بقي يعد من الشريعة، بل هو كالنص المنسوخ من نصوص صاحب
الشريعة لم يبق منها.
فإن قلت: لأي شيء جمع الفقهاء الأقوال كلها السابقة واللاحظة
في كتب الفقه، بل كان ينبغي، أن لا يضاف لكل إمام إلا قوله
الذي لم يرجع عنه.
قلت: ما ذكرتموه أقر للضبط، غير أنهم قصدوا معنى الآخر وهو
الاطلاع على المدارك واختلاف الآراء، وأن مثل هذا القول قد صار
إليه المجتهد في وقت فيكون ذلك اقرب للترقي لرتبة الاجتهاد،
وهو مطلب عظيم أهم من تيسير الضبط فذلك جمعت الأقوال
في المذاهب. وإذا لم يعلم التاريخ ولم يحكم عليه برجوع ينبغي
أن لا يعمل بأحدهما، فإنا نجزم بأن أحدهما مرجوع عنه منسوخ،
وإذا اختلط الناسخ والمنسوخ حرم العمل بهما، كاختلاط المذكاة
بالميتة، وأخت الرضاع بالأجنبية، فإن المنسوخ لا يجوز الفتيا
به، فذلك كله من باب اختلاط الجائز والممنوع فيحرم الفتيا
حينئذ بتلك الأقوال حتى يتعين المتأخر منها، أو يعلم أنهما
محمولة على أحوال مختلفة أو أقسام متباينة، فيحمل كل قول على
حالة أو قسم، ولا تكون حينئذ أقولاً في مسألة واحدة، بل كل
مسألة فيها قول.
وأما القولان في الموطن الواحد إذا لم يشر إلى تقوية أحدهما
توجه التخيير بينهما قياساً على تعارض الأمارتين، فإن نصوص
المجتهد بالنسبة إلى المقلد كنسبة نصوص صاحب الشرع للمجتهد،
ولذلك يحمل عام المجتهد على خاصة، ومطلقة على مقيده، وناسخه
على منسوخه، وصريحه على محتمله، كما يعمل ذلك في نصوص صاحب
الشرع، وأما كيف يتصور أن يقول المجتهد في المسألة قولان، مع
أنه لا يتصور عنده الرجحان إلا في أحدهما، فقيل معناه أنه أشار
إلى أنهما قولان للعلماء أو أنهما احتمالان يمكن أن يقول بكل
واحد منهما عام لتقاربهما من الحق، وأما إنه جازم بهما فمحال
ضرورة.
(1/419)
الفصل الثاني في
الترجيح
والأكثرون اتفقوا على التمسك به وأنكره بعضهم وقال يلزم
التخيير أو التوقف.
حجة الجواز: قوله عليه الصلاة والسلام: «عليكم بالسواد الأعظم»
وهو يقتضي تغليب الظاهر الراجح، وقوله عليه الصلاة والسلام:
«نحن نحكم بالظاهر» وقياساً على البناء على الظاهر في الفتيا
والشهادة وقيم المتلفات وغيرها، فإن الظاهر الصدق في ذلك
والكذب مرجوح، وقد اعتبر الراجح إجماعاً، فكذلك ههنا.
حجة المنع: أن الدليلين إذا تعارضا ورجح أحدهما ففي كل واحد
منهما مقدار هو معارض بمثلهن فسقط المثلان، ويبقى مجرد
الرجحان، ومجرد الرجحان ليس بدليل، وما ليس بدليل لا يجوز
الاعتماد عليه فلا يعتمد على الرجحان، بل ينبغي تخريج هذه
الصورة على صورة تساوي الأمارتين والحكم هناك التخيير على
المشهور والتوقف على الشاذ، فكذلك يجري ههنا لقولان.
والجواب: أن القول بالترجيح ليس حكماً بمجرد الرجحان بأن
بالدليل الراجح ولا نسلم أن الحصة المتساوية في جهة الرجحان
تسقط بمقابلها إذا عضدها الرجحان وإنما نسلم
السقوط مع المساواة، وهذا كما يقضي بأعدل البينتين ليس معناه
أنا نقضي بمزيد العدالة دون أصلها، بل بأصل العدالة مع
الرجحان، فيقضي بالبينة الراجحة لا برجحانها مع قطع النظر عنها
وكذلك ههنا.
ويمتنع الترجيح في العقليات لتعذر التفاوت بين القطعيين
ومذهبنا ومذهب الشافعي الترجيح بكثرة الأدلة، خلاف القوم.
لأن كثرة الأدلة توجب مزيد الظن بالمدلول فيكون من باب القضاء
بالراجح كما تقدم بيانه.
حجة المنع: القياس على المنع من الترجيح بالعدد في البينات فإن
المشهور المنع منه بخلاف الترجيح بمزيد العدالة.
والجواب: الفرق بأن الترجيح بكثرة العدد يمنع سد باب الخصومات
ومقصود
(1/420)
صاحب الشرع سده بأن يقول الخصم أنا آتي
بعدد أكثر من عدده فيتحيل ويأتي به، فيقول لآخر أنا أفعل كذلك
فلا تنفصل الخصومة، بخلاف الترجيح بمزيد العدالة ليس في قدرة
الخصم أن يصير بينه أعدل من بينة خصمه، وكذلك الأدلة لا تقبل
أن يصير مرجوحها راجحاً ولا قليلها كثيراً فإن الأدلة قد
استقرت من جهة صاحب الشرع فتتعذر الزيادة فيها، فالترجيح بكثرة
الأدلة كالترجيح بالعدالة لا كالترجيح بالعدد، فظهر الجواب
والفرق.
وإذا تعارض دليلان فالعمل بكل واحد منهما من وجه أولى من العمل
بأحدهما دون الآخر، وهما إن كانا عامين معلومين والتاريخ معلوم
نسخ المتأخر المتقدم، وإن كان مجهولاً سقطا، وإن علمت المقارنة
خير بينهما وإن كانا مظنونين فإن علم المتأخر نسخ المتقدم
والأرجح إلى الترجيح، وإن كان أحدهما معلوماً والآخر مظنوناً
والمتأخر المعلوم نسخ أو المظنون لم ينسخ، وإن جهل الحال تعين
المعلوم، وإن كانا خاصين فحكمهما حكم العامين، وإن كان أحدهما
بخلاف العكس، وإن كان أحدهما عاماً من وجه كما في قوله تعالى:
«وأن تجمعوا بين الأختين» (1) مع قوله تعالى: «أو ما ملكت
أيمانكم» (2) وجب الترجيح إن كانا مظنونين.
إنما يرجح العمل بأحدهما من وجه لأن كل واحد منهما يجوز إطلاقه
بدون إرادة ذلك الوجه الذي ترك، ولا يجوز إطلاقه بدون جميع ما
دل عليه، فإن ذلك هدر بالكلية؛ فكان الأول أولى كقوله عليه
الصلاة والسلام: «لا تستقبلوا القبلة ولا تتستدبروها ببول أو
غائط» وروى ابن عمر - رضي الله عنه - أنه رأى رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - فعل ذلك في بيته الحديثين المشهورين، فحملنا
الأول على الأفضية والثاني على الأبنية وإذا كانا عامين لا
يمكن
حملهما على حالين تعين نسخ المتأخر للمتقدم كانا معلومين أو
مظنونين، لأنا نشترط في الناسخ أن يكون مساوياً أو أقوى،
ويسقطان مع الجهل لاحتمال النسخ، فكل واحد منهما دائر بين أن
يكون ناسخاً حجة أو منسوخاً ليس بحجة، والأصل عدم الحكم وبراءة
الذمة، فيجب التوقف حتى يتعين موجب الشغل، وإذا علمت المقارنة
خير بينهما لأن
_________
(1) 23 النساء.
(2) 3 النساء.
(1/421)
من شرط النسخ التراخي والمقارنة ضده فلا
نسخ، فكل واحد منهما حجة قطعاً فتعين التخيير، وإذا كان
المتأخر هو المظنون لم ينسخ المعلوم، لما تقدم أن القاعدة أنا
نشترط في الناسخ أن يكون مساوياً أو أقوى، والمظنون أضعف من
المعلوم، ويتعين المعلوم عند جهل التاريخ لرجحانه بكونه
معلوماً، ومهما ظفرنا بجهة ترجيح تعين العمل بالراجح.
ويقدم الخاص على العام لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تقتلوا
الصبيان» مع قوله تعالى: «اقتلوا المشركين» (1) فإن تقديم
الحديث لا يقتضي إلغاءه ولا إلغاء الآية، وتقديم عموم الآية
يقتضي إلغاء الحديث، ولأن الآية يجوز إطلاقها بدون إرادة
الصبيان، ولا يجوز إطلاق الحديث بدون إرادة الصبيان، لأنهم
جميع مدلوله فيبقى هدراً، فالأول أولى. وقوله تعالى: «وأن
تجمعوا بني الأختين» (2) بتناول المملوكتين والحرتين، وقوله
تعالى: «أو ما ملكت أيمانكم» (3) يتناول الأختين والأجنبيتين،
وضابط الأعم والأخص من وجه أن يوجد كل واحد منهما مع الآخر
وبدونه، وقد وجد الأول في الأختين الحرتين بدون الملك، ووجد
الثاني في المملوكات الأجنبيات بدون الأخوة، واجتمعا معاً في
الأختين المملوكتين، فهما حينئذ كل واحد منهما أعم ن الآخر من
وجه وأخص من وجه، ولا رجحان لأحدهما على الآخر من هذا الوجه بل
من خارج، وقد رجح المشهور من المذاهب التحريم في الأختين
المملوكتين بأن أيتهما لم يدخلها التخصيص بالإجماع، بل قيل لا
تخصيص فيها وهو المشهور، وقيل يباحان، وقيل بالتوقف كما قاله
بعض الصحابة رضوان الله عليهم، (حللتهما آية وحرمتهما آية)
وأما آية الملك فمخصوصة إجماعاً بملك اليمين من موطوءة الآباء
وغيرهم، وما لم يخصص بالإجماع مقدم على ما خصص بالإجماع، فتقدم
آية الأختين فيحرم الجمع بينهما.
الفصل الثالث في ترجيحات الأخبار
وهي إما في الإسناد أو المتن، فالأول قال الباجي يترجح بأنه في
قضية مشهور والآخر ليس كذلك أو راوية أحفظ أو أكثر، أو مسموع
منه عليه الصلاة والسلام، والآخر مكتوب به أو متفق على رفعه
إليه عليه
_________
(1) 5 التوبة.
(2) 23 النساء.
(3) 3 النساء.
(1/422)
الصلاة والسلام، أو اتفق رواته على إثبات
الحكم
به أو راويه صاحب القضية أو إجماع أهل المدينة على العمل به أو
راويه أحسن نسقاً أو عالم من الاضطراب أو موافق لظاهر الكتاب،
والآخر ليس كذلك.
القضية المشهورة ببعد الكذب فيها بخلاف القضية الخفية،
والكتابة تحتملا لتزوير بخلاف المسموع، والمرفوع إلى النبي -
صلى الله عليه وسلم - حجة إجماعاً، أما الموقوف على بعض
الصحابة يقوله من قبل نفسه ولا يقول سمعت من رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -، فيحتمل أن يكون سمع من النبي - صلى الله
عليه وسلم - فيكون حجة إجماعاً، أو هو من اجتهاده فيخرج على
الخلاف في قول الصحابي وفعله هل هو حجة أول لا؟ والحجة إجماعاً
تقدم على المتردد بين الحجة وغيرها، واتفاق الرواة عند إثبات
الحكم دليل قوة الخبر وضبطه عندهم، وإذا اختلفوا دل ذلك على
ضعف السند أو الدلالة أو وجود المعارض، فكان الأول أرجح، وصاحب
القضية إذا رواها كان أعلم بها وأبعد عن الذهول والتخليط فيها،
بخلاف ما إذا روى غيره، وإجماع أهل المدينة مرجح لأنهم مهبط
الوحي ومعدن الرسالة، وإذا وقع شرع كان ظاهراً فيهم وعنهم يأخذ
غيرهم، وإذا لم يوجد شيء بين أظهرهم دل ذلك على بطلانه أو
نسخه، وحسن النسق أنسب للفظ النبوة فإنه عليه الصلاة والسلام
أنصح العرب، فإضافة الأفصح إليه أنسب من ضده، والاضطراب اختلاف
ألفاظ الرواة وهو يوجب خللاً في الظن عند السامع فما لا خلل
فيه أرجح، والمعتضد بالكتاب العزيز أقوى في الظن من المنفرد
لغير عاضد فيقدم.
قال الإمام أو يكون راويه فقيهاً أو عالماً بالعربية أو عرفت
عدالته بالاختبار، أو علمت بالعدد الكثير أو ذكر سبب عدالته أو
لم يختلط عقله في بعض الأوقات، أو كونه من أكابر الصحابة رضوان
الله عليهم، أو له أهم واحد أو لم يعرف له رواية في زمن الصبا
والآخر ليس كذلك أو يكون مدنياً والآخر مكياً، أو راويه متأخر
الإسلام.
العلم بالفقه أو العربية مما يبعد الخطأ في النقل فيقدم على
الجاهل بهما، وعدالة الاختيار هي عدالة الخلطة فهي أقوى من
عدالة التزكية من غير خلطة للمزكى عنده، والمذكور سبب عدالته
دليل قوة سبب التزكية، فإنه لا يذكر إلا مع قوته. . وأما إذا
سكت المزكي عن سبب العدالة احتملا لضعف، والذي اختلط عقله في
(1/423)
بعض الأوقات يخشى أن يكون ما يرويه لنا
الآن مما سمعه في تلك الحالة، والذي لم يختلط عقله أمناً فيه
ذلك، والذي له اسم واحد يبعد التدليس فيه، والذي له اسمان يقرب
اشتباهه بغيره ممن ليس بعدل وهو مسمى بأحد اسميه فتقع الرواية
عن ذلك الذي ليس بعدل، فيظن السامع أنه العدل ذو الاسمين
فيقبله، والذي وقعت روايته في زمن الصبا إذا روى عنه لنا يجوز
أن يكون مما يقل عنه في زمن الصبا، ورواية الصبي غير موثوق بها
بخلاف الذي لم يرو إلا بعد البلوغ، وما روى بالمدينة ظاهر حالة
التأخر عن المكي لأنه بعد الهجرة، والمتأخر يرجح لأنه قد يكون
الناسخ، ولقول ابن عباس رضي الله عنهما كنا نأخذ الأحدث
فالأحدث من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيكون
مساوياً لمتأخر الإسلام، ويحتمل استماعه أول إسلامه فيكون
متقدماً في الزمان مرجوحاً في العمل، والذي لا احتمال فيه أولى
مما فيه احتمال المرجوحية.
وأما ترجيح المتن قال الباجي يترجح السالم من الاضطراب والنص
في المراد أو غير متفق على تخصيصه أو ورد على غير سبب، أو قضي
به على الآخر في موضع أو ورد بعبارات مختلفة، أو يتضمن نفي
النقص، عن الصحابة رضوان الله عليهم، والآخر ليس كذلك.
الاضطراب اختلاف ألفاظ الرواة، والنص هو الذي لا يحتمل المجاز
والذي لم يتفق على تخصيصه كما تقدم في آية الأختين والوارد على
سبب اختلف العلماء فيه، هل يقصر على سببه أم يخلى على عمومه؟
والذي لم يرد على سبب سلم عن هذا الاختلاف ويحمل على عمومه
إجماعاً، وإذا قدم أحد الخبرين على الآخر في موطن كان ذلك
ترجيحاً له عليه لأنها مزية له، وإذا ورد بعبارات مختلفة
والمعنى واحد قوى ذلك المعنى في النفس، وبعد اللفظ عن المجاز،
والعبارة الواحدة تحتمل المجاز وأن يراد غير ذلك المعنى الظاهر
وهذا غير الاضطراب فإنه اختلاف اللفظ واختلاف المعنى بالزيادة
والنقصان.
قال الإمام رحمه الله أو يكون نصبح اللفظ، أو لفظه حقيقة، أو
يدل على المراد من وجهين، أو يؤكد لفظه بالتكرار أو يكون
ناقلاً
(1/424)
عن حكم العقل أو لم يعمل بعض الصحابة أو
السلف على خلافه مع الاطلاع عليه، أو كان مما لا تعم به
البلوى، والآخر ليس كذلك.
الناقل عن البراءة الأصلية أرجح لأنه مقصود بعثة الرسل، وأما
استصحاب حكم العقل فيكفي فيه حكم العقل فيقدم الناقل كما يقدم
المنشئ على المؤكد، وعمل الأكابر على خلاف الخبر مع اطلاعهم
عليه يدل على اطلاعهم على نسخه، فالسالم عن ذلك مقدم عليه، أما
غذا لم يطلع جاز أن يكون تركه لعدم اطلاعه عليه فيسقط الترجيح،
والذي تعم به البلوى اختلف العلماء في قبوله: منعه الحنفية من
أخبارا لآحاد والكلام فيه فيضعف الخلاف في قبوله، فالسالم عن
هذا الخلاف مقدم.
الفصل الرابع في ترجيح الأقيسة
قال الباجي يترجح أحد القياسين على الآخر بالنص على علته أو
لأنه يعود على
أصله بالتخصيص أو علته مطردة منعكسة، أو شهد لها أصول كثيرة،
أو يكون أحد القياسين فرعه من جنس أصله، أو علته متعدية أو يعم
فروعها أو هي أعم أو هي منتزعة من أصل منصوص عليه أو أقل
أوصافاً والقياس الآخر ليس كذلك.
النص على العلة يدل على العلية أكثر من الاستنباط، فإن
اجتهادنا يحتمل الخطأ، والنصر صواب جزماً، ومثال ما يعود على
أصله بالتخصيص جعلنا علة منع بيع الحيوان باللحم معللاً
بالمزابنة وهي بيع المجهول بالعلوم من جنسه (1) فاقتضى ذلك حمل
الحديث على الحيوان الذي يقصد منه اللحم، فخرج بسبب هذه العلة
أكثر الحيوانات وبطل حكم النهي فيها، وكذلك تعليل منع بيع
الحاضر للبادي، بأن الأعيان على أهل البادية تقوم بغير مال
كالحطب والسمن وغيرهما، فاقتضى هذا التعليل أن يخرج الأعيان
التي اشتراها البدوي، وإن نصحه فيها متعين وإعانته،
_________
(1) المزانية: مثل بيع الرطب على رؤوس الهخل بالتمر كيلاً،
وكذلك كل ثمر بيع على شجرة بثمر كيلاً وأصله من الزبن الذي هو
الدفع وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن المزابنة
ورخص في العرايا لأن التمر لا يجوز غلا مثلاً بمثل وهذا بيع
مجازفة لا بد أن يكون أحد المتبايعين مغبوناً فيه.
(1/425)
بخلاف القسم الأول فالتحامل عليه فيه بتركه
مع الحضري ولا ينصح، فالعلة التي لا تعكر على أصلها بالبطلان
أولى، والعلة المتعدية أولى من القاصرة، غير أن هذا لا يستقيم
من جهة أن القاصرة لا قياس فيها، والكلام إنما هو هو في ترجيح
الأقيسة، فإن كان في ترجيح العلل من غير قياس صح، والعلل التي
تعم فروعها تقدم بسبب أنها إذا لم تعم تكون بقية الفروع معللة
بعلة أخرى، وتعليل الأحكام المستوية بالعلل المختلفة مختلف فيه
والمتفق عليه أولى، والتي هي أعم يكون فائدتها أكثر فتقدم،
والمنتزعة من أصل منصوص عليه مقدمة على ما أخذ من أصل اتفق
عليه الخصمان فقط، والعلة إذا قلت أوصافها أو كانت ذات وصف
واحد كانت مقدمة لأن المركب يسرع غليه العدم بطريقين من جهة
عدم كل واحد من أوصافه، وما كثرت شروطه كان مرجوحاً.
قال الإمام أو يكون أحد القياسين متفقاً على علته أو أقل
خلافاً أو بعض مقدماته يقينية أو علته وصف حقيقي، ويترجح
التقليل بالحكمة على الدم والإضافي والحكم الشرعي والتقديري،
والتعليل بالعدم أولى من التقديري، وتعليل الحكم الوجودي
بالوصف الوجودي أولى من العدمي بالعدمي ومن العدمي بالوجودي
ومن الوجودي بالعدمي، لأن التعليل بالعدم استلزم تقدير الوجود
وبالحكم الشرعي أولى من التقديري، لكون التقديري على خلاف
الأصل، والقياس الذي يكون ثبوت الحكم في أصله أقوى أو بالإجماع
أو بالتواتر أقوى مما ليس كذلك.
الوصف الحقيقي كالإسكار، والعدمي كقولنا غير مستحق أو عدوان
فإنه سلب محض، والإضافي نحو قولنا البنوة مقدمة على الأبوة
وهما علة الميراث، وهما إضافيتان ذهنيتان لا وجود لهما في
الأعيان، وتقدم أن الحكمة هي علة علية العلة، كإتلاف المال في
السرقة، واختلاط الأنساب في الزنا، فهي أولى من العدم الصرف،
والحكم الشرعي كتعليل منع البيع بالنجاسة والتقديري كتعليل
ثبوت الولاء للمعتق عنه بتقدير الملك له، وتوريث الدية في
الخطأ
(1/426)
بتقدير ثبوت الملك للمقتول قبل موته في
الزمن الفرد فإنه حي يستحقها، وما لا يملكه لا يورث عنه،
والملك بعد الموت محال فيتعين تقدير الملك قبل الزهوق بالزمن
الفرد، وقدم العدم على التقديري لأن التقديري هو إعطاء الموجود
حكم المعدوم أو المعدوم حكم الموجود، ووضع المعلوم على خلاف ما
هو عليه خلاف الأصل، والعدم هو على وضعه لم يخالف فيه أصل فكان
مقدماً إنما استدعى العدم تقدير الوجود، لأن العلة العدمية لا
بد أن تكون عدماً، مضافاً لشيء معين كقولنا عدم الإسكار علة
إباحة الخمر ونحو ذلك، فلا بد من تقدير معنى هذا عدمه، والحكم
الشرعي حقيقي بخلاف التقديري فيه مخالفة الأصل كما تقدم.
الفصل الخامس في ترجيح طرق العلة
قال الإمام رحمه الله المناسبة أقوى من الدوران خلاف القوم،
ومن التأثير والسبر المظنون والشبه والطرد والمناسب الذي اعتبر
نوعه في نوع الحكم على ما اعتبر جنسه في نوع الحكم، أو نوع
الحكم في جنسه، أو جنسه في جنسه، لأن الأخص بالشيء أرجح وأولى
به والثاني والثالث متعارضان، والثلاثة راجحة على الرابع، ثم
الأجناس عالية وسافلة ومتوسطة، وكلما قرب كان أرجح، والدوران
في صورة أرجح منه في صورتين، والشبه في الصفة أقوى منه في
الحكم وفيه خلاف.
المناسبة المصلحة بادية فيها، والدوران فيه إلا مجرد الاقتران،
والشرائع مبنية على المصالح.
حجة المنع: أن الدوران فيه طرد وعكس لاقتران الوجود بالوجود
والعدم بالعدم، والعلة المطردة المنعكسة أشبه بالعلل العقلية
فيكون أرجح.
والجواب: المناسب المطرد المنعكس أرجح من المناسب الذي لا يكون
كذلك، أما مجرد الطرد والعكس فممنوع، والتأثير هو اعتبار الجنس
في
(1/427)
الجنس، والاعتبار يضعف عن المناسب لما
تقدم، والشبه هو المستلزم للمناسب، فالمناسب مقدم عليه، وقد
تقدم تمثيله
في طرق العلة والسب والتقسيم، ووقع التعيين فيه بإلغاء الغير
أو تقدم اعتباره، والمناسب الاعتبار فيه بالذات، وتقدم في طرق
العلة تقدير الطرد وهو مجرد اقتران الحكم بجملة الوصف،
والاقتران بمجرده أضعف من المناسب لما تقدم أنه معدن الحكمة،
وتقدم في المناسب تمثيل أجناس الأوصاف والأحكام عالية وسافلة،
وتمثيل الدوران في صورتين وفي صورة ووجه الترجيح بينهما، وتقدم
الشبه في الصفة لأن الأوصاف هي أصل العلل، والأصل أن تكون
الأحكام معلولات لا عللاً.
وقيل: لا، وحجته أن الحكم يستلزم علته فيقع الشبه في أمرين
فيكون أرجح.
وجوابه: أنه لا يلزم من الشبه في الحكم الشبه في العلة؛ فإن
الأحكام المتماثلة تعلل بالعلل المختلفة.
(1/428)
|