شرح تنقيح الفصول

الباب التاسع عشر في الاجتهاد
وهو استفراغ الوسع في المطلوب لغة واستفراغ الوسع
في النظر فيما يلحقه فيه لوم شرعي اصطلاحاً
وفيه تسعة فصول
الفصل الأول في النظر
وهو الفكر، وقيل تردد الذهن بين أنحاء الضروريات، وقيل تحديق العقل إلى جهة الضروريات، وقيل ترتيب تصديقات يتوصل بها إلى علم أو ظن، وقيل ترتيب تصديقين، وقيل ترتيب معلومات، وقيل ترتيب معلومين. فهذه سبعة مذاهب. وأصحها الثلاثة الأول. وهو يكون في التصورات لتحصيل الحدود الكاشفة عن الحقائق المفردة على ترتيب خاص كما تقدم أول الكتاب، وفي التصديقات لتحصيل المطالب التصديقية على ترتيب خاص وشروط خاصة حررت في عالم المنطق، ومتى كان في الدليل مقدمة سالبة أو جزئية أو مظنونة كانت النتيجة كذلك لأنها تتبع أخس المقدمات ولا يلتفت إلى ما صحبها من أشرفها.
الثلاثة في النظر متقاربة في المعنى واختلافها في العبارات، والضروريات هي القضايا البديهية فإن العقل يقصدها ابتداءً ليستخرج منها التصديقات النظرية.
وأما قولهم ترتيب تصديقات فهو قول الإمام فخر الدين وهو باطل، فإن النظر إذا كان في الدليل كفى فيه مقدمتان، وتصديقات جمع ظاهر في الثلاث.
ولذلك قال القائل الآخر تصديقين وهو باطل أيضاً فإن النظر كما يقع في التصديقات في البراهين يقع في التصورات في الحدود والتصديقات لا تتناول التصورات التي في الحدود.

(1/429)


فلذلك قال الآخر: ترتيب معلومات حتى يشمل التصديقات والتصورات فقيل له إن معلومات جمع وقد يكفي معلومان في الدليل من تصديقين وفي الحد من تصورين.
فلذلك قال الآخر: ترتيب معلومين فقيل له إن النظر قد لا يتحصل منه إلا الحد الناقص وهو ذكر الفصل وحده أو الرسم الناقص وهو الخاصة وحدها ومع الوحدة لا ترتيب فقيد الترتيب لا يسوغ أصلاً لتوقفه على التعدد، فلذلك لم يصح إلا الثلاثة: الأول لعدم اشتراط الترتيب فيها والتعدد، مثال المقدمة السالبة والموجبة: كل إنسان حيوان ولا شيء من الحيوان بجماد فلا شيء من الإنسان بجماد. ومثال الجزئية والكلية، بعض الحيوان إنسان وكل إنسان ناطق فبعض الحيوان ناطق. ومثال المظنونة والقطعية: في البيت عصفور عملاً بإخبار زيد وهذه ظنية، وكل عصفور حيوان، وهذه قطعية، ففي الدار حيوان ظناً لا قطعاً. والضابط في الإنتاج أبداً أنك تحذف المكرر وتحكم بالثاني على الأول كما تقدم في المثل السابقة، والسبب في كونه النتيجة تتبع أخس المقدمات أن تلك المقدمة القوية متوقفة على تلك الخسيسة ولا تستقل بنفسها فلذلك صارت مع قوتها كالضعيفة.
الفصل الثاني في حكمه
مذهب مالك وجمهور العلماء رضي الله عنهم وجوبه وإبطال التقليد لقوله تعالى: «فاتقوا الله ما استطعتم» .
وقد استثنى مالك رحمه الله من ذلك أربع عشرة صورة لأجل الضرورة. الأولى قال ابن القصار قال مالك يجب على العوام تقليد المجتهدين في الأحكام كما يجب على المجتهدين الاجتهاد في أعيان الأدلة وهو قول جمهور العلماء خلافاً لمعتزلة بغداد، وقال الجبائي يجوز في مسائل الاجتهاد فقط.
قال إمام الحرمين في الشامل: لم يقل بالتقليد في الأصول إلا الحنابلة وقال الأستاذ أبو إسحق من اعتقد ما يجب عليه من عقيدة دينه بغير دليل لا يستحق بذلك اسم الإيمان ولا دخول الجنة والخلوص من الخلود في النيران ولم يخالف في ذلك إلا أله الظاهر. حجة الجمهور قوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} (1) أمر
_________
(1) 19 محمد.

(1/430)


بالعلم دون التقليد وقوله تعالى: {قل انظروا} (1) ، {أفلم ينظروا} (2) ، {وقل سيروا في الأرض فانظروا} (3) وهو كثير في الكتاب العزيز وذم التقليد بقوله تعالى ذماً لمن قال: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون} (4) وقال تعالى أيضاً: {وإنا على آثارهم مقتدون} (5) وقال تعالى: {قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم} (6) فأمر بالنظر في ذلك وقال: {فهم على آثارهم يهرعون} (7) .
حجة الشاذ: أنه عليه الصلاة والسلام كان يقبل إيمان الأعرابي الجلف البعيد عن النظر
ولو صح ما قلتموه ما أقرهم على ذلك أو حكم بإيمانهم، وسأل عليه الصلاة والسلام الجارية أين الله فقالت في السماء فقال للسائل أعتقها فإنها مؤمنة، وهذا كله يدل على عدم اشتراط النظر.
أجاب الجمهور عن هذه الصور: بأن ذلك كان من أحكام أوائل الإسلام لضرورة المبادئ أما بعد تقرر الإسلام فيجب العمل بما ذكرناه من موجب الآيات، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يكتفي في قواعد الشرع والتوحيد بأخبار الآحاد فيبعث الواحد إلى الحي من أحياء العرب يعلمهم القواعد والتوحيد والفروع، وقد لا يفيد خبره إلا الظن غالباً ومع ذلك فيكتفى به في أول الإسلام بخلافه الآن لا يكتفى بمثل هذا في الدين، ولا يحل أن يظن الإنسان نفي الشريك والوحدانية مع تجويز النقيض.
وأما التقليد في الفروع فحجة الجمهور قوله تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} (8) فأمرهم بالحذر عند إنذار علمائهم، ولولا وجوب التقليد لما وجب ذلك، ولقوله تعالى: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} (9) قال المفسرون: هم العلماء، وقيل ولاة الأمر والنهي من الملوك وغيرهم أوجب الطاعة وهو وجوب التقليد.
حجة المعتزلة: قوله تعالى {فاتقوا الله ما استطعتم} (10) ومن الاستطاعة ترك التقليد، ولأن العامي متمكن من كثير من وجوه النظر فوجب أن لا يجوز له تركها قياساً على المجتهد.
والجواب على الأول: أن الخطأ متعين في حق العوام إذا انفردوا بالأحكام لأنهم
_________
(1) 101 يونس.
(2) 6 ق.
(3) 69 النمل.
(4) 22 الزخرف.
(5) 23 الزخرف.
(6) 24 الزخرف.
(7) 70 الصافات.
(8) 122 التوبة.
(9) 54 النور.
(10) 16 التغابن.

(1/431)


لا يعرفون الناسخ والمنسوخ ولا المخصص ولا المقيد ولا كثيراً مما تتوقف عليه الألفاظ وما لا يضبطونه لا يحل لهم محاولته لفرط الغرر فيهز وهو الجواب عن الثاني.
حجة الجبائي: أن شعائر الإسلام الظاهرة لا تحتاج لمنصب المجتهد فلا حاجة إلى التقليد فيها كالصلوات الخمس وصوم رمضان ونحو ذلك، وأما الأمور الخفية من المجتهد فيه فيتعين التقليد فيه لغموضه.
والجواب: أن تلك الأمور إن انتهت إلى حد الضرورة بطل التقليد بالضرورة ولا نزاع في ذلك لأن تحصيل الحاصل محال لاسيما والتقليد إنما يفيد الظن الذي هو دون الضرورة بكثير وإن لم ينته إلى حد الضرورة تعين التقليد للحاجة في النظر إلى أدوات مفقودة في حق العامي.
فروع ثلاثة: الأول قال ابن القصار إذا استفتى العامي في نازلة ثم عادت لم
يحتمل أن يعتمد على تلك الفتوى لأنها حق ويحتمل أن يعيد الاستفتاء لاحتمال تغير الاجتهاد.
الثاني: قال يحيى الزناتي يجوز تقليد المذاهب في النوازل والانتقال من مذهب إلى مذهب بثلاثة شروط أن لا يجمع بينهما على وجه يخالف الإجماع كمن تزوج بغير صداق ولي ولا شهود فإن هذه الصورة لم يقل بها أحد وإن يعتقد فيمن يقلده الفضل بوصول أخباره غليه ولا يقلده رمياً في عماية وأن لا يتتبع رخص المذاهب. قال والمذاهب كلها مسالك إلى الجنة وطرق إلى الخيرات فمن سلك منها طريقاً وصله.
تنبيه: قال غيره يجوز تقليد المذاهب والانتقال إليها في كل ما لا ينقض فيه حكم الحاكم وهو أربعة ما خالف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي فإن أراد رحمه الله بالرخص هذه الأربعة فهو حسن متعين فإن ما لا تقره مع تأكده بحكم الحاكم فأولى أن لا نقره قبل ذلك، وإن أراد بالرخص ما فيه سهولة على المكلف كيف كان يلزمه أن يكون من قلد مالكاً في المياه والأرواث وترك الألفاظ في العقود مخالفاً لتقوى الله تعالى وليس كذلك.
قاعدة: انعقد الإجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء بغير حجر وأجمع الصحابة رضوان الله عليهم على أن من استفتى أبا بكر وعمر رضي

(1/432)


الله عنهما أو قلدهما فله أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما ويعمل بقولهم من غير نكير فمن ادعى رفع هذين الإجماعين فعليه الدليل الثالث إذا فعل المكلف فعلاً مختلفاً في تحريمه غير مقلد لأحد فهل نؤثمه بناءً على القول بالتحريم أو لا نؤثمه بناءً على القول بالتحليل مع أنه ليس إضافته إلى أحد المذهبين أولى من الآخر ولم يسألنا عن مذهبنا فنجيبه، ولم أر لأحد من أصحابنا فيه نقلاً.
وكان الشيخ الإمام عز الدين بن عبد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد من الشافعية يقول في هذا الفرع إنه آثم من جهة أن كل أحد يجب عليه أن لا يقدم على فعل حتى يعلم حكم الله تعالى فيهن وهذا أقدم غير عالم فهو آثم بترك التعلم، وأما تأثيمه بالفعل نفسه فإن كان مما علم من الشرع قبحه أثمناه وإلا فلا، وكان بمثله بما اشتهر قبحه كتلقي الركبان وهو من الفساد على الناس ونحو ذلك.
الثانية: قال ابن القصار يقلد القائف العدل عند مالك وروى لا بد من اثنين.
اختلف في مدرك هذه المسألة فقال أصحابنا إنه كالرواية فيكفي الواحد أو الشهادة فلا بد من اثنين، وقال الشافعية المدرك أنه حاكم والحاكم يكفي واحد أو شهادة فلا بد من اثنين.
الثالثة: قال يجوز عنده تقليد التاجر في قيم المتلفات غلا أن تتعلق القيمة بحد من حدود الله تعالى فلا بد من اثنين لدراية التاجر بالقيم، وروي عنه أنه لا بد من اثنين في كل موضع.
يريد بالقيمة التي يتعلق بها الحد كتقويم العرض المسروق هل وصلت قيمته إلى نصاب السرقة أم لا؟ فهذه الصورة لا بد فيها من اثنين لأن الحدود تدره بالشبهات، ولأنه عضو بيان فيحتاط فيه لشرفه.
الرابعة: قال: ويجوز عنده تقليد القاسم بين اثنين وابن القاسم لا يقبل قول القاسم لأنه شاهد على فعل نفسه.
مالك يجريه مجرى الحاكم أو نائب الحاكم يخبره بما ثبت عنده.
الخامسة: قال: ويجوز تقليد المقوم لأرش الجنايات.
السادسة: قال: يجوز تقليد الخارص فيما يخرصه عند مالك رحمه الله.

(1/433)


السابعة: قال يقلد عنده الراوي فيما يرويه.
الثامنة: قال يقلده عنده الطبيب فيما يدعيه.
التاسعة: يقلد الملاح في القبلة إذا خفيت أدلتها وكان عدلاً درباً في السير في البحر، وكذلك كل من كانت صناعته في الصحراء وهو عدل.
العاشرة: قال ولا يجوز عنده أن يقلد عامي عامياً في رؤية الهلال لضبط التاريخ دون العبادة.
الحادية عشرة: قال يجوز عنده تقليد الصبي والأنثى والكافر الواحد في الهداية والاستئذان.
قال الشافعية: هذه الصورة ونحوها احتفت فيها القرائن فنابت عن العدد والإسلام وربما حصل العلم.
الثانية عشرة: قال يقلد القصاب في الذكاة ذكراً كان أو أنثى مسلماً أو كتابياً، ومن مثله يذبح.
الثالثة عشرة: قال يقلد محاريب البلاد العامرة التي تتكرر الصلاة فيها ويعلم أن إمام المسلمين بناها ونصبها أو اجتمع أهل البلد على بنائها، قال لأنه قد علم أنها لم تنصب إلا بعد اجتهاد العلماء في ذلك، ويقلدها العالم والجاهل، وأما غير تلك فعلى العالم الاجتهاد، فإن تعذر عليه الأدلة صلى إلى المحراب إذا كان البلد عامراً لأنه أقوى من
الاجتهاد بغير دليل، وأما العامي فيصلي في سائر المساجد.
قلت: وهذا بشرط أن لا يشتهر الطعن فيها كمحاريب القرى وغيرها بالديار المصرية، فإن أكثرها ما زال العلماء قديماً وحديثاً ينبهون على فسادها، وللزين الدمياطي في ذلك كتاب ولغيره، وقد قصد الشيخ عز الدين بن عبد السلام تغيير محراب قبة الشافعي والمدرسة ومصلى حولان فعاجله ما منعه من ذلك، وكذلك محراب المحلة مدينة الغربية والفيوم ومنية ابن أبي خصيب وهي لا تعد ولا تحصى لا يجوز أن يقلدها عالم ولا عامي.
الرابعة عشرة: قال يقلد العامي في ترجمة الفتوى باللسان العربي أو العجمي وفي قراءتها أيضاً، ولا يجوز لعالم ولا جاهل التقليد في زوال الشمس لأنه مشاهد.

(1/434)


الفصل الثالث فيمن يتعين عليه الاجتهاد
أفتى أصحابنا رحمهم الله بأن العلم على قسمين فرض عين وفرض كفاية وحكى الشافعي في رسالته والغزالي في إحياء علوم الدين الإجماع على ذلك، ففرض العين الواجب على كل أحد هو عامه بحالته التي هو فيها، مثاله رجل أسلم ودخل عليه وقت الصلاة فيجب عليه أن يتعلم الوضوء والصلاة، فإن أراد أن يشتري طعاماً لغذائه قلنا يجب عليك أن تتعلم ما تعتمده في ذلك، وإن أراد الزواج وجب عليه أن يتعلم ما يعتمده في ذلك وإن أراد أن يؤدي شهادة وجب عليه أن يتعلم حكم الصرف، فكل حالة يتصف بها يجب عليه أن يعلم حكم الله تعالى فيها، فعلى هذا لا ينحصر فرض العين في العبادات ولا في باب من أبواب الفقه كما يعتقده كثير من الأغبياء، وعلى هذا القسم يحمل قوله عليه الصلاة والسلام: «طلب العلم فريضة على كل مسلم» فمن توجهت عليه حالة فعلم وعمل بمقتضى علمه فقد أطاع الله طاعتين، ومن لم يعلم ولم يعمل فقد عصى الله معصيتين ومن علم ولم يعمل فقد أطاع الله طاعة وعصاه معصية، ففي هذا المقام يكون العالم خير من الجاهل والمقام الذي يكون الجاهل فيه خيراً من العالم من شرب خمراً بعلمه وشربه آخر بجهلهن فإن العالم به يأثم بخلاف الجاهل، وهو أحسن حالاً من العالم وكذلك من اتسع في العلم باعه تعظم مؤاخذته، لعلو منزلته بخلاف الجاهل فهذا أسعد حالاً من العالم في هذين الوجهين.
وأما فرض الكفاية فهو العلم الذي لا يتعلق بحالة الإنسان فيجب على الأمة أن يكون
منهم طائفة يتفقهون في الدين ليكونوا قدوة للمسلمين (1) حفظاً للشرع من الضياع، والذي يتعين لهذا من المسلمين من جاد حفظه وحسن إدراجه وطابت سجيته وسريرتهن ومن لا فلا.
لأن من لا يكون كذلك لا يحصل منه المقصود، إما لتعذره كسيئ الفهم يتعذر عليه أن يصل لمرتبة الاقتداء، أو لسوء الظن به فينفر الناس عنه فلا يحصل منه مقصود الاقتداء.
_________
(1) في المخطوطة: ليكونوا قدوة للناس.

(1/435)


الفصل الرابع في زمانه
وافقوا على جواز الاجتهاد بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وأما في زمانه فوقوعه منه عليه الصلاة والسلام قال به الشافعي وأبو يوسف، وقال أبو علي وأبو هاشم لم يكن متعبداً به لقوله تعالى: {إن هو إلا وحي يوحى} وقال بعضهم كان له - عليه السلام - أن يجتهد في الحروب والآراء دون الأحكام قال الإمام: وتوقف أكثر المحققين في الكل وأما وقوع الاجتهاد في زمانه عليه الصلاة والسلام من غيره فقليل وهو جائز عقلاً في الحاضر عنده عليه الصلاة والسلام والغائب عنه، فقد قال له معاذ بن جبل أجتهد رأيي.
حجة كونه عليه الصلاة والسلام كان يجتهد: ما روي أنه عليه الصلاة والسلام لما قال في تحريم مكة: «لا يعضد شجرها ولا يختلى خلالها: فقال له العباس إلا الأذخر» وهذا يدل على أنه لما بين له الحاجة إلهي أباحه بالاجتهاد للمصلحة، وكذلك لما أنشدته المرأة لما قتل أخاها.
أمحمد والنجل نجل كريمة ... في قومها والفحل فحلٌ معرق
ما كان ضَرك لو عفوت وربما ... مَنَّ الفتى وهو المغيظ المخَق
فقال عليه الصلاة والسلام لو سمعت شعرها قبل قتله ما قتلته، وهذا يدل على الاجتهاد. وحكم سعد في بني قريظة فحكم بأن يُقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، وما جعل لغيره أن يفعله فله هو عليه الصلاة والسلام أن يفعله لأن الأصل مساواة أمته له في الأحكام غلا ما دل الدليل على تخصيصه من ذلك، ويرد على الكل أن هذه الصورة يجوز أن يقارنها نصوص نزلت فيها أو تقدمتها نصوص؛ بأن يُوحى إذا كان كذا فافعل كذا وحينئذ هي بالوحي لا بالاجتهاد.
حجة القول بالفرق بين الحروب فيجوز أن الحروب أمرها على الفور لعظم المفسدة في التأخير من جهة استيلاء العدو فيفوض إليه، وقصة معاذ تدل عليه والأحكام يجوز التراخي فيها فلا يجتهد فيها.

(1/436)


والجواب: أن المفسدة تندفع بتقدم نصوص في مثل هذه الصور ويقال له إذا وقع كذا فافعل كذا ولا اجتهاد حينئذ، ويظهر من تعارض هذه المدارك حجة التوقف.
الفصل الخامس في شرائطه
وهو أن يكون عالماً بمعاني الألفاظ وعوارضها من التخصيص والنسخ وأصول الفقه، ومن كتاب الله تعالى ما يتضمن الأحكام وهي خمسمائة آية، ولا يشترك الحفظ بل العلم بمواضعها لينظرها عند الحاجة إليها، ومن السنة بمواضع أحاديث الأحكام دون حفظها، ومواضع الإجماع والاختلاف والبراءة الأصلية وشرائط الحد والبرهان، والنحو واللغة والتصريف وأحوال الرواة، ويقلد من تقدم في ذلك، ولا يشترط عموم النظر، بل يجوز أن يحصل صفة الاجتهاد في فن دون فن وفي مسألة دون مسألة خلافاً لبعضهم.
الحصر في خمسمائة آية قاله الإمام فخر الدين وغيره ولم يحصر غيرهم ذلك وهو الصحيح فإن استنباط الأحكام إذا حقق لا يكاد تعرى عنه آية فإن القصص أبعد الأشياء عن ذلك والمقصود منها الاتعاظ والأمر به وكل آية وقع فيها ذكر عذاب أو ذم على فعل كان ذلك دليل تحريم ذلك الفعل، أو مدحاً أو ثواباً على فعل فذلك دليل طلب ذلك الفعل وجوباً أو ندباً، وكذلك ذكر صفات الله عز وجل والثناء عليه المقصود به الأمر بتعظيم ما عظمه الله تعالى وأن نثني عليه بذلك، فلا تكاد تجد آية إلا وفيها حكم وحصرها في خمسمائة آية بعيد، وشرائطه الحد حتى يتحقق له الضوابط فيعلم اخرج عنها فلا يعتبره وما اندرج فيها أجرى عليه أحكام تلك الحقيقة، وشرائطه البرهان مقررة في علم المنطق وأما النحو والتصريف واللغة فلأن الحكم يتبع الإعراب كما قال عليه الصلاة والسلام: «ما تركنا صدقة» بالرفع فرواه الرافضة بالنصب أي لا يورث ما تركناه وقفاً وصار مفهومه أنهم يورثون في غيره وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»

(1/437)


رواه الشيعة أبا بكر وعمر فانعكس المعنى أي يا أبا بكر وعمر فيكونان مقتديين لا مقتدى بهما وهو كثير، واسم الفاعل من المفعول إنما يعلم من جهة التصريف، وإنما قلد من مضى في أحوال الرواة لبعد أحوالهم عنا فتعين التقليد لمن اطلع على حالهم لتعذر ذلك علينا.
حجة عدم اشتراط عموم النظر: أن المقصود البعد عن الخطأ بتحصيل شرائط الاجتهاد
فإذا حصل ذلك في فن واحد كان كحصوله في جميع الفنون.
حجة المنع: أن العلوم والفنون يمد بعضها بعضاً فمن غاب عنه فقد غاب نور فيما هو يعلمه وحينئذ لا يكمل النظر إلا بالشمول ولذلك أن النحوي الذي لا يحسن الفقه ولا المعقولات تجده قاصراً في نحوه بالنسبة لمن يعلم ذلك، وكذلك جميع الفنون.
الفصل السادس في التصويب
قال الجاحظ وعبد الله العنبري بتصويب المجتهدين في أصولا لدين؛ بمعنى عدم الإثم لا بمعنى مطابقة الاعتقاد، واتفق سائر العلماء على فساده، وأما في الأحكام الشرعية فاختلفوا هل لله تعالى في نفس الأمر حكم معين في الوقائع أم لا، والثاني قول من قال كلّ مجتهد مصيب وهو قول جمهور المتكلمين، ومنهم الأشعري والقاضي أبو بكر منا، وأبو علي وأبو هاشم من المعتزلة، وإذا لم يكن لله تعالى حكم معين فهل في الواقعة حكم لو كان لله تعالى حكم معين فهل في الواقعة حكم لو كان لله تعالى حكم معين في الواقعة لحكم به أو لا والأول هو القول بالأشبه وهو قول جماعة من المصوبين. والثاني قول بعضهم، وإذا قلنا بالحكم المعين فإما أن يكون عليه دليل ظني أو قطعي أو ليس عليه واحد منهما، والثاني قول جماعة من الفقهاء والمتكلمين. ونقل عن الشافعي - رضي الله عنه - وهو عندهم كدفين يعثر عليه بالاتفاق، والقول بأن عليه دليلاً ظنياً فهل كلف بطلب ذلك الدليل، فإن أخطأه تعين التكليف إلى ما غلب على ظنه وهو قول، أو لم يكلف بطلبه لحقائقه وهو قول كافة الفقهاء منهم الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما. والقائلون بأن عليه دليلاً قطعياً اتفقوا على أن المكلف مأمور بطلبه، وقال بشر المريسي إن أخطأ استحق

(1/438)


العقاب وقال غمير لا يستحق العقاب.
واختلفوا أيضاً هل ينقض قضاء القاضي إذا قضى بخلافه قاله الأصم خلافاً للباقين، والمنقول عن مالك رحمه الله أن المصيب واحد واختاره الإمام، وقال الإمام علي عليه دليل ظني ومخالفه معذور والقضاء لا ينقض، لنا أن الله تعالى شرع الشرائع لتحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة أو درء المفاسد الخالصة أو الراجحة ويستحيل وجودها في النقيضين فيتحد الحكم: احتجوا بانعقاد الإجماع على أن المجتهد يجب عليه أن يتبع ما غلب على ظنه ولو خالف الإجماع، وكذلك من قلده، ولا نعني بحكم الله تعالى إلاّ ذلك فكل مجتهد مصيب وتكون ظنون المجتهدين تتبعها الأحكام كأحوال المضطرين والمختارين بالنسبة إلى الميتة، فيكون الفعل الواحد حلالاً حراماً بالنسبة إلى شخصين كالميتة.
حجة الجاحظ: أن المجتهد في أصول الدين إذا بذل جهده فقد فنيت قدرته فتكليفه بعد ذلك بما زاد على ذلك تكليف بما لا يطلق وهو منفي في الشريعة، وإن قلنا بجوازه لقوله تعالى: «لا يكلف الله نفساً إلها وسعها» (1) .
حجة الجمهور: أن أصول الديانات مهمة عظيمة فلذلك شرع الله تعالى فيها الإكراه دون غيرها فيكره على الإسلام بالسيف والقتال والقتل وأخذ الأموال والذراري وذلك أعظم الإكراه، وإذا حصل الإيمان في هذه الحالة اعتبر في ظاهر الشرع وغيره لو وقع بهذه الأسباب لم يعتبر، ولذلك لم يعذره الله بالجهل في أصول الدين إجماعاً، ولو شرب خمراً يظنه حلالاً أو وطئ أمرأة يظنها امرأته عذر بالجهل، وكذلك جعل النظر الأوّل واجباً من الجهل بالموجب وذلك تكليف ما لا يطاق، فكذلك إذا حصل الكفر مع بذل الجهد يؤاخذ الله تعالى به ولا ينفعه بذل جهده لعظم خطر الباب وجلالة رتبته، وظواهر النصوص تقتضي أنه من لم يؤمن بالله ورسوله ويعمل صالحاً فإن له نار جهنم خالداً فيها، وقياس الخصم الأصول على الفروع غلط لعظم التفاوت بينهما، وإذا قلنا ليس لله تعالى في نفس الأمر حكم معين فليس هناك إلاّ ما ظهر في ظنون المجتهدين فقد أصابوه، فكل مجتهد مصيب، أي إذا أفتى بشيء فقد أصابه أما لو انتهى به الحال للوقف فتمادى مهلة النظر فلا يقال له
_________
(1) 286 البقرة.

(1/439)


إنه مصيب ولا مخطئ، وإذا قلنا في نفس الأمر حكم معين وهو ما تضمنه المصلحة الخالصة أو الراجحة فمن صادفه فهو المصيب ومن لم يصادفه فهو مخطئ له، فليس كلّ مجتهد مصيباً.
ومعنى المذهب الثالث، وهو القول بالأشبه: أنه ليس في نفس الأمر حكم معين وإنما في نفس الأمر ما لو عين الله شيئاً لعينه فهو أشبه الأمور بمقاصد الشريعة، كما تقول لا نبي بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي الزمان رجل صديق خير لو أن الله تعالى يبعث نبياً لبعثه، والقائل الآخر يقول ليس في نفس الأمر شيء هو أشبه، والظاهر هو الأوّل فإن الأفعال المتخيلة لا تخلو عن الرجحان في بعضها، والقائل الثاني يقول إذا لم يعين الله تعالى شيئاً استوت الأفعال، كما لو أن المباحات كلها مباحة لم تختلف وإن كانت مصالحها مختلفة.
حجة الدليل القطعي على الحكم في نفس الأمر: أن تكليف الكل بشيء معين يعتمد دليلاً يظهر للكل وما ذاك إلاّ القطعي، أما الظني فيختلف فيه القرائح.
حجة الدليل الظني: أن الله سبحانه وتعالى امتحن الخلق بذلك الحكم في نفس الأمر وأمرهم ببذلك الجهد في طلبه، فلولا أنه ودليله في غاية الخفاء لعرفه الكل فزال الامتحان وليس كذلك.
حجة أنه ليس دليل لا ظني ولا قطعي: أنه لو كانت عليه أمارة لفهمها الكل ألا ترى أن المطر إذا كانت عليه أمارة علمها الكل، لكن الحكم ليس كذلك فلا أمارة عليه.
وقول بشر باستحقاق العقاب إذا أخطأه لأنه يجعل التقصير من جهته ومن قصر استحق العقاب.
حجة الجمهور: قوله عليه الصلاة والسلام: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران» فجعل الثواب مع الخطأ فلا عقاب حينئذ.
وأما قول الأصم: أنه ينقض قضاء القاضي إذا خالفه فإنه في غاية العسر من جهة تصوره، بسبب أن هذا الحكم غير معلوم، وكذلك دلسله. ونحن وإن قلنا المصيب واحد فهو غير معلوم، ونقض قضاء القاضي إنّما يكون بما يتحقق وما لا يتحقق كيف ينقض به القضاء فهذا المذهب مشكل.
وأما قول المصوبة: إنه يجب عليه اتباع ظنه وإن خالف الإجماع فمسلم، ولكن

(1/440)


الأحكام التي على ألسنة المجتهدين وظنونهم متفق عليها وأنها أحكام الله تعالى، والنزاع في ثبوت أمر آخر في نفس الأمر غيرها فما أقاموا فيه الدليل لا نزاع فيه وما فيه النزاع لم يقيموا الدليل عليه، فلا ينبغي أن يقيموا الدليل على أن هذه أحكام الله تعالى، بل يقيمون الدليل على أنه ليس لله تعالى حكم غيرها فإنه محل النزاع، والقائلون بالتصويب يقولون إن الحكم إنّما يتبع المصلحة الخالصة أو الراجحة في مواقع الإجماع أما في محل الاختلاف فلا يسلمون ذلك، فهذا منع حسن أيضاً على دليل المخطئة.
الفصل السابع في نقض الاجتهاد
أما المجتهد في نفسه فلو تزوج امرأة علق طلاقها الثلاث على الملك بالاجتهاد فإن حكم به حاكم ثم تغير اجتهاده لم ينقض، وإن لم يحكم له نقض ولم يجز له إمساك المرأة وأما العامي إذا فعل ذلك بقول المفتي ثم تغير اجتهاده فالصحيح أنه يجب عليه المفارقة قاله الإمام، وكل حكم اتصل به قضاء القاضي استقر إلاّ أن يكون ذلك القضاء مِمّا ينقض في نفسه.
حكم الحاكم في مسائل الاجتهاد يعين ذلك الحكم الذي حكم به الحاكم، فإن الحاكم نائب الله تعالى في مسائل الخلاف، فإذا أنشأ حكماً في مسائل الاجتهاد كان ذلك كالنص الوارد في خصوص تلك الواقعة من تلك القاعدة العامة، والدليل الخاص مقدم على
العام في الصورة التي تناولها الخاص كما تقرر في أصول الفقه، وقد بسطت ذلك في كتاب (الإحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام وتصرف القاضي والإمام) إذا لم يحكم بالاجتهاد الأوّل حاكم نقض لأن تغير الاجتهاد يصيره كالمنسوخ والمنسوخ لا عبرة به، وكذلك تجب مفارقة المرأة من العامي إذا تغير اجتهاد من أفتاه لأن اجتهاده نسخ، وقيل لا يجب لأن الثاني اجتهاد أيضاً، وليس إبطال أحدهما بالآخر أولى من لاعكس فلا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد، نعم لو قطع بخطأ الأوّل وجبت المفارقة، والحكم الذي ينقض في نفسه ولا يمنع النقض هو ما خالف أحد أمور أربعة: الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي.

(1/441)


الفصل الثامن في الاستفتاء
إذا استثفتى مجتهد فأفتى ثم سئل ثانية عن تلك الحادثة فإن كان ذاكراً لاجتهاده الأوّل أفتى وإن نسي استأنف الاجتهاد، فإن أداه إلى خلاف الأوّل أفتى بالثاني قال الإمام والأحسن أن يعرف العامي ليرجع، ولا يجوز لأحد الاستفتاء إلاّ إذا غلب على ظنه أن الذي يفتيه من أهل العلم والدين والورع، فإن اختلف عليه العلماء في الفتوى فقال قوم. يجب عليه الاجتهاد في أعلمهم وأورعهم لتمكنه من ذلك، وقال قوم لا يجب ذلك لأن الكل طريق إلى الله تعالى ولم ينكر أحد على العوام في كلّ عصر ترك النظر في أحوال العلماء، وإذا فرعنا على الأوّل فإن حصل ظن الاستواء مطلقاً فأمكن أن يقال ذلك متعذر كما قيل في الأمارات، وأمكن أن يقال سقط عنه التكليف ويفعل ما يشاء، وإن حصل على الرجحان مطلقاً تعين العمل بالراجح وإن حصل من وجه فإن كان في العلم والاستواء في الدين فمنهم من خير ومنهم من أوجب الأخذ بقول الأعلم، قول الإمام وهو الأقرب ولذلك قدم في إمامة الصلاة وإن كان في الدين والاستواء في العلم فيتعين الأدين فإن رجح أحدهما في دينه والآخر في علمه فقيل يتعين الأدين وقيل الأعلم قال وهو الأرجح كما مر.
إن كان المجتهد ذاكراً للاجتهاد ينبغي أن لا يقتصر على مجرد الذكر بل يحركه لعله يظفر فيه بخطأ أو زيادة بمقتضى قوله تعالى: «فاتقوا الله ما استطعتم» (1) ولأن رتبة المجتهد أن لا يقصر ولا يترك من جهده شيئاً، فإن استقر له اجتهاد في زمن لا يلزمه استقراره دائماً، بل الله تعالى خلاق على الدوام، فيخلق في نفسه علوماً ومصالح لم يكن يشعر بها قبل ذلك فإهمال ذلك تقصير.
وإنما قال الإمام الأحسن أن يعرف العامي إذا تغير اجتهاده لأن الاجتهاد لا ينقض
بالاجتهاد ولكن الثاني أغلب على الظن من الأوّل فلو قطع ببطلان الأوّل وجب عليه تعريف العامي، ومدرك العامي في أن الذي يستفتيه من أهل العلم والدين والورع الأخبار وقرائن الأحوال فذلك عند العامة متيسر، وأما إذا لم
_________
(1) 16 التغابن.

(1/442)


يتضح له ذلك فلا يحل له الاستفتاء لأن دين الله تعالى لا يؤخذ على غير أهله، قال الله تعالى: «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون» (1) وقد قال تعالى: «فاسألوا أهل الذكر أن كنتم لا تعلمون» (2) فتعين أهل الذكر بالنطق يقتضي بالمفهوم تحريم سؤال غيرهم، والتخيير والسقوط عند استواء المفتين، فقد قيل بهما في الأمارتين إذا استويا فمذهب القاضي والجمهور التخيير، ومذهب بعض الفقهاء السقوط.
وجه التخيير عند الرجحان في العلم والاستواء في الدين: أن تقليد الأعلم غير واجب على المشهور وغاية هذا أن يكون أعلم فيتخير المستفتي.
حجة تقديم الأعلم: أن المقدم في كلّ موطن من مواطن الشريعة من هو أقوم بمصالح ذلك الموطن؛ فيقدم في الحروب من هو أعلم بمكايد الحروب وسياسة الجيوش، وفي القضاء من هو أعلم بالتفطن بحجاج الخصوم، ولأمانة الحكم من أعلم بتنمية الأموال وضبطها وأحوال الأيتام في مصالحها. ولذلك قدم في الصلاة الفقيه على القارئ لأن الفقيه أقوم بمصالح الصلاة في سهوها وعوارضها، وكذلك الفتوى الأعلم أخص بها من الدَّيِّن.

الفصل التاسع فيمن يتعين عليه الاستفتاء
الذي تنزل به الواقعة إن كان عامياً وجب عليه الاستفتاء، وإن كان عالماً لم يبلغ درجة الاجتهاد ال فالأقرب أنه يجوز له الاستفتاء وإن بلغ درجة الاجتهاد وكان قد اجتهد وغلب على ظنه حكم فقد اتفقوا على تعيينه في حقه، وإن كان لم يجتهد فأكثر أهل السنة على أنه لا يجوز له التقليد وهو مذهب مالك رحمه الله، وقال أحمد بن حنبل وإسحق بن راهويه وسفيان الثوري يجوز مطلقاً، وقيل يجوز تقليد العالم للأعلم وهو قول محمد بن الحسن، وقيل يجوز فيما يخصه دون ما يفتى به، وقال ابن سريج إن ضاق وقته عن الاجتهاد جاز وإلا فلان فهذه خمسة أقوال. لنا قوله تعالى: «فاتقوا الله ما استطعتم» (3) ولا يجوز التقليد في أصول الدين لمجتهد
_________
(1) 9 الزمر.
(2) 43 النحل.
(3) 16 التغابن.

(1/443)


ولا للعوام عند الجمهور لقوله تعالى: «ولا تقف ما ليس لك به علم» (1) ولعظم الخطأ والخطر في جوانب الربوبيةن بخلاف الفروع لأنه ربما كفر في الألو ويثاب في الثاني جزماً.
العامي ليس له أهلية فيتعين أن يقلد كما في القبلة، والعالم الذي لم يبلغ درجة
الاجتهاد احتمالات الخطأ في حقه موجودة غير أنها أقل من العامي، فهذا وجه التردد، وكما اتفقوا على تعيين الحكم في حق المجتهد فكذلك من قلده، ومعناه لو فرض موصوفاً بسببه وغلا فقد يجتهد في الغنم وزكاتها ولا غنم له أو في الجنايات ولا جناية له ولا عليه، بل قد يجتهد في أحكام الحيض والعدة وغيرها مِمّا لا يوصف بد منه، وقد تقدم أول الكتاب حجة منع التقليد على المجتهد مطلقاً أن الأصل أن لا يجوز الظن لقوله تعالى: «ولا تقف ما ليس لك به علم» (2) خالفناه في أعلى مراتب الظنون الناشئة عن الاجتهاد فيبقى ظن التقليد الضعيف على مقتضى الدليل.
حجة الجواز مطلقاً: أن غاية المجتهد في اجتهاده أن يحصل مثل ما حصله غيره وكما يجوز أن يكون الثاني أقوى يجوز أن يكون أضعف فيتساقطان فيبقى التساوي وأحد المثلين يقوم مقام الآخر، وبهذا يظهر تفنيد العالم للأعلم، لأن الظاهر أن اجتهاد الأعلم أقرب للصواب، وأما ما يخصصه فلأن الحاجة تدعو إليه بخلاف الفتيا فله أن يحيل المستفتي على غيرهن وكذلك إذا ضاق الوقت كانت حالة ضرورة بخلاف اتساعه، وأما أصول الدين فقد تقدم حكاية إمام الحرمين في الشامل أنه لم يخالف في ذلك إلاّ الحنابلةن وقول الإسفرايني أنه لم يخالف فيه إلاّ أهل الظاهر، مع أني سألت الحنابلة قالوا مشهور مذهبنا منع التقليد، والغزالي يميل إليه وجماعة، وقد حكى القاضي عياض في الشفاء ذلك عن غيره.
_________
(1) 36 الإسراء.
(2) 36 الإسراء.

(1/444)