فتح القدير للكمال ابن الهمام بَابُ زَكَاةِ الْمَالِ فَصْلٌ فِي
الْفِضَّةِ (لَيْسَ فِيمَا دُونَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ صَدَقَةٌ)
لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَيْسَ
فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ» وَالْأُوقِيَّةُ
أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا (فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْنِ وَحَالَ
عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ) «لِأَنَّهُ
- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
[بَابُ زَكَاةِ الْمَالِ] [فَصْلٌ فِي الْفِضَّةِ]
مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا زَكَاةُ مَالٍ إلَّا أَنَّ فِي
عُرْفِنَا يَتَبَادَرُ مِنْ اسْمِ الْمَالِ النَّقْدُ
وَالْعُرُوضُ، وَقَدَّمَ الْفِضَّةَ عَلَى الذَّهَبِ
اقْتِدَاءً بِكُتُبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ
أَوَاقٍ صَدَقَةٌ» ) أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ هَكَذَا «لَيْسَ
فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ
خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ
صَدَقَةٌ» وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ
أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ» الْحَدِيثَ. وَقَوْلُهُ
وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ
مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَخْذًا مِنْ تَقْدِيرِ أَصْدِقَةِ
أَزْوَاجِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " قَالَتْ
عَائِشَةُ: كَانَتْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا
فَتِلْكَ خَمْسُمِائَةٍ، قَالَ أَبُو مَسْلَمَةَ: قُلْت مَا
النَّشُّ؟ قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ ".
رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَهُ مِنْ
تَمَامِ الْحَدِيثِ، وَشَاهِدُهُ مَا أَخْرَجَهُ
الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
- «لَا زَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْفِضَّةِ حَتَّى تَبْلُغَ
خَمْسَ أَوَاقٍ وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا»
مُخْتَصَرٌ وَفِيهِ يَزِيدُ بْنُ سِنَانٍ الرَّهَاوِيُّ أَبُو
فَرْوَةَ: ضُعِّفَ، وَالْأُوقِيَّةُ أُفْعُولَةٌ فَتَكُونُ
الْهَمْزَةُ زَائِدَةً، وَهِيَ مِنْ الْوِقَايَةِ لِأَنَّهَا
تَقِي صَاحِبَهَا الْحَاجَةَ.
وَقِيلَ هِيَ فَعِيلَةٌ فَالْهَمْزَةُ أَصْلِيَّةٌ وَهِيَ مِنْ
الْأَوْقِ وَهُوَ الثِّقَلُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي نِهَايَةِ
ابْنِ الْأَثِيرِ إلَّا الْأَوَّلَ قَالَ: وَهَمْزَتُهَا
زَائِدَةٌ وَيُشَدَّدُ الْجَمْعُ وَيُخَفَّفُ مِثْلُ
أُثْفِيَّةٍ وَأَثَافِيَّ وَأَثَافٍ، وَرُبَّمَا يَجِيءُ فِي
الْحَدِيثِ وَقِيَّةٌ وَلَيْسَتْ بِالْعَالِيَةِ
(قَوْلُهُ فَإِذَا كَانَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَخْ) سَوَاءٌ
كَانَتْ
(2/208)
كَتَبَ إلَى مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - أَنْ خُذْ مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ
دَرَاهِمَ، وَمِنْ كُلِّ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ ذَهَبٍ
نِصْفَ مِثْقَالٍ» . قَالَ (وَلَا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ
حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَيَكُونُ فِيهَا
دِرْهَمٌ ثُمَّ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ)
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا: مَا زَادَ عَلَى
الْمِائَتَيْنِ فَزَكَاتُهُ بِحِسَابِهِ، وَهُوَ قَوْلُ
الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
- فِي حَدِيثِ عَلِيِّ «وَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ
فَبِحِسَابِهِ» وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ شُكْرًا
لِنِعْمَةِ الْمَالِ، وَاشْتِرَاطُ النِّصَابِ فِي
الِابْتِدَاءِ لَتَحَقُّق الْغِنَى وَبَعْدَ النِّصَابِ فِي
السَّوَائِمِ تَحَرُّزًا عَنْ التَّشْقِيصِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ «لَا تَأْخُذْ مِنْ
الْكُسُورِ شَيْئًا»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مَصْكُوكَةً أَوْ لَا، وَكَذَا عَشَرَةُ الْمَهْرِ، وَفِي
غَيْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا تَجِبُ الزَّكَاةُ مَا لَمْ
تَبْلُغْ قِيمَتُهُ نِصَابًا مَصْكُوكًا مِنْ أَحَدِهِمَا
لِأَنَّ لُزُومَهَا مَبْنِيٌّ عَلَى التَّقَوُّمِ، وَالْعُرْفُ
أَنْ يُقَوَّمَ بِالْمَصْكُوكِ، وَكَذَا نِصَابُ السَّرِقَةِ
احْتِيَاطًا لِلدَّرْءِ (قَوْلُهُ كَتَبَ إلَى مُعَاذٍ)
اللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِهِ، وَإِنَّمَا فِي
الدَّارَقُطْنِيِّ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - أَمَرَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ
إلَى الْيَمَنِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ
دِينَارًا دِينَارًا، وَمِنْ كُلٍّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ»
الْحَدِيثَ، وَهُوَ مَعْلُولٌ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَبِيبٍ،
وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِالْمُدَّعِي فَإِنَّ أَحَادِيثَ أَخْذِ
رُبْعِ الْعُشْرِ مِنْ الرِّقَةِ مُفَسِّرَةٌ مِنْ كُلِّ
أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ كَثِيرَةٌ شَهِيرَةٌ (قَوْلُهُ
فَزَكَاتُهُ بِحِسَابِهِ) فَفِي الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ جُزْءٌ
مِنْ أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، وَمِمَّا يُبْنَى
عَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ كَانَ لَهُ مِائَتَانِ وَخَمْسَةُ
دَرَاهِمَ مَضَى عَلَيْهَا عَامَانِ عِنْدَهُ عَلَيْهِ
عَشَرَةٌ وَعِنْدَهُمَا خَمْسَةٌ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ
فِي الْعَامِ الْأَوَّلِ خَمْسَةٌ وَثُمُنٌ فَيَبْقَى
السَّالِمُ مِنْ الدَّيْنِ فِي الْعَامِ الثَّانِي مِائَتَانِ
إلَّا ثُمُنَ دِرْهَمٍ فَلَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ،
وَعِنْدَهُ لَا زَكَاةَ فِي الْكُسُورِ فَيَبْقَى السَّالِمُ
مِائَتَيْنِ فَفِيهَا خَمْسَةٌ أُخْرَى.
(قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ) تَقَدَّمَ حَدِيثُهُ فِي
زَكَاةِ الْعَوَامِلِ وَالْحَوَامِلِ وَفِي أَوَّلِ كِتَابِ
الزَّكَاةِ فِي مَسْأَلَةِ الْحَوْلِ (قَوْلُهُ وَبَعْدَ
النِّصَابِ فِي السَّوَائِمِ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ
هُوَ أَنَّهُ قَدْ عُفِيَ بَعْدَ النِّصَابِ فِي السَّوَائِمِ
أَعْدَادٌ فَقَالَ ذَلِكَ فِيهَا تَحَرُّزًا عَنْ
التَّشْقِيصِ، أَيْ إيجَابِ الشِّقْصِ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِ
الشَّرِكَةِ عَلَى الْمُلَّاكِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِلَازِمٍ
هُنَا (قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ إلَخْ) رَوَى
الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مُعَاذٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ
الْكُسُورِ شَيْئًا»
(2/209)
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ «وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ»
وَلِأَنَّ الْحَرَجَ مَدْفُوعٌ، وَفِي إيجَابِ الْكُسُورِ
ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَهُوَ ضَعِيفٌ بِالْمِنْهَالِ بْنِ الْجَرَّاحِ. وَأَمَّا مَا
نَسَبَهُ الْمُصَنِّفُ إلَى حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ
فَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ: رَوَى أَبُو
أُوَيْسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَمُحَمَّدِ ابْنَيْ أَبِي
بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ
جَدِّهِمَا عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَتَبَ هَذَا الْكِتَابَ لِعَمْرِو بْنِ
حَزْمٍ الْحَدِيثَ، وَذَكَرَ فِي الْفِضَّةِ فِيهِ «لَيْسَ
فِيهَا صَدَقَةٌ حَتَّى تَبْلُغَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَإِذَا
بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ،
وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ، وَلَيْسَ فِيمَا
دُونَ الْأَرْبَعِينَ صَدَقَةٌ» وَلَمْ يَعْزُهُ عَبْدُ
الْحَقِّ لِكِتَابٍ، وَكَثِيرًا مَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي
أَحْكَامِهِ، وَالْمَوْجُودُ فِي كِتَابِ ابْنِ حَزْمٍ عِنْدَ
النَّسَائِيّ وَابْنِ حِبَّانَ وَالْحَاكِمِ وَغَيْرِهِمْ
«وَفِي كُلِّ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ خَمْسَةُ
دَرَاهِمَ وَمَا زَادَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا
دِرْهَمٌ» وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ
الْحَسَنِ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ " فَمَا زَادَ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَفِي
كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ " وَتَقَدَّمَ فِي
الْحَدِيثِ الْمُصَحَّحِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «هَاتُوا رُبْعَ الْعُشُورِ مِنْ كُلِّ
أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ» .
فَقَوْلُهُ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ خَرَجَ
تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ هَاتُوا رُبْعَ الْعُشُورِ فَيُفِيدُ
هَاتُوا رُبْعَ الْعُشُورِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّ
هَذِهِ الْجُمْلَةَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ الْمَفْعُولِ
فَتَكُونُ قَيْدًا فِي عَامِلِهِ الَّذِي هُوَ الْأَمْرُ
بِالْإِعْطَاءِ فَيَكُونُ الْوُجُوبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: قُصَارَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ
لِلنَّفْيِ عَمَّا دُونَهَا إلَّا بِمَفْهُومِ الصِّفَةِ،
وَلَا يُعْتَبَرُ عِنْدَنَا أَوْ بِالْإِضَافَةِ إلَى
الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ، وَحَدِيثُ عَلِيٍّ مُتَعَرِّضٌ
لِإِيجَابِهِ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ الْمَفْهُومُ كَانَ
الْمَنْطُوقُ مُقَدَّمًا عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ، خُصُوصًا
وَفِيهِ الِاحْتِيَاطُ. فَالْأَوْلَى حِينَئِذٍ إثْبَاتُ
الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ
(2/210)
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدَّرَاهِمِ وَزْنُ
سَبْعَةٍ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْعَشَرَةُ مِنْهَا وَزْنَ
سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ، بِذَلِكَ جَرَى التَّقْدِيرُ فِي
دِيوَانِ عُمَرَ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
حَدِيثِ عَلِيٍّ وَحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَأَثَرِ
عُمَرَ فَإِنَّهُمَا يُفِيدَانِ أَنَّ تَمَامَ حُكْمِ مَا
زَادَ أَنْ يَجِبَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمٌ فَلَا
يَكُونُ مِنْ حُكْمِ مَا زَادَ خِلَافُ ذَلِكَ وَإِلَّا لَمْ
يَكُنْ بَيَانًا لِحُكْمِ مَا زَادَ بَلْ لِبَعْضِهِ فَإِنْ
قِيلَ: يُحْمَلُ عَلَى إرَادَةِ مَا زَادَ مِنْ
الْأَرْبَعِينَاتِ دَفْعًا لِلْمُعَارَضَةِ.
قُلْنَا لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ مِثْلِهِ فِي
حَدِيثِ عَلِيٍّ بِأَنْ يُحْمَلَ مَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ:
أَيْ مَا زَادَ مِنْ الْأَرْبَعِينَاتِ فَبِحِسَابِ
الْخَمْسَةِ فِي الْمِائَتَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا
دِرْهَمٌ. فَإِنْ قِيلَ: بَلْ الْحَمْلُ فِي مُعَارِضِ حَدِيثِ
عَلِيٍّ أَوْلَى مِنْهُ فِيهِ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ وَذَلِكَ
مُسْقِطٌ فَيَكُونُ فِيهِ الِاحْتِيَاطُ، وَظَنُّ أَنَّ
حَدِيثَ مُعَاذٍ نَهْيٌ فَيُقَدَّمُ غَلَطٌ بِأَدْنَى
تَأَمُّلٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَهْيُ الْمُصَدِّقِ،
وَكَلَامُنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ
لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ أَنْ يُعْطِيَ بَلْ الْوَاقِعُ فِي حَقِّهِ
تَعَارُضُ السُّقُوطِ وَالْوُجُوبِ.
قُلْنَا: ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَلْزُومًا لِلْحَرَجِ
الْعَظِيمِ وَالتَّعَذُّرِ فِي بَعْضِهَا فِي كَثِيرٍ مِنْ
الصُّوَرِ وَهُوَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ
لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا مَلَكَ
مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَسَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَجَبَ عَلَيْهِ
عَلَى قَوْلِهِمَا خَمْسَةٌ وَسَبْعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ
أَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ، فَإِذَا لَمْ يُؤَدِّ
حَتَّى جَاءَتْ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ كَانَ الْوَاجِبُ
عَلَيْهِ زَكَاةَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَدِرْهَمٍ وَزَكَاةَ
ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا مِنْ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ لَا
يُعْرَفُ، وَلِأَنَّهُ أَوْفَقُ لِقِيَاسِ الزَّكَوَاتِ
لِأَنَّهَا تَدُورُ بِعَفْوٍ وَنِصَابٍ (قَوْلُهُ
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدِّرْهَمِ إلَخْ) هَذَا الِاعْتِبَارُ
فِي الزَّكَاةِ وَنِصَابِ الصَّدَقَةِ وَالْمَهْرِ وَتَقْدِيرِ
الدِّيَاتِ، وَإِذْ قَدْ أُخِذَ الْمِثْقَالُ فِي تَعْرِيفِ
الدِّرْهَمِ فَلَا بُدَّ مِنْ النَّظَرِ فِيهِ، وَظَاهِرُ
كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي صَدَقَةِ الذَّهَبِ أَنَّهُ
مَعْرُوفٌ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ وَلَمْ يَزَلْ
الْمِثْقَالُ فِي آبَادِ الدَّهْرِ مَحْدُودًا لَا يَزِيدُ
وَلَا يَنْقُصُ. وَكَلَامُ السَّجَاوَنْدِيِّ فِي كِتَابِ
قِسْمَةِ التَّرِكَاتِ خِلَافُهُ، قَالَ الدِّينَارُ:
بِسَنْجَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ عِشْرُونَ قِيرَاطًا
وَالْقِيرَاطُ خَمْسَةُ شَعِيرَاتٍ، فَالدِّينَارُ عِنْدَهُمْ
مِائَةُ شَعِيرَةٍ وَعِنْدَ أَهْلِ سَمَرْقَنْدَ سِتَّةٌ
وَتِسْعُونَ شَعِيرَةً، فَيَكُونُ الْقِيرَاطُ عِنْدَهُمْ
طَسُّوجًا وَخُمُسَهُ. وَذَكَرَ فِيهِ أَيْضًا فِي تَحْدِيدِ
الدِّينَارِ مُطْلَقًا فَقَالَ: اعْلَمْ أَنَّ الدِّينَارَ
سِتَّةُ دَوَانِيقَ وَالدَّانِقُ أَرْبَعُ طَسُّوجَاتٍ
وَالطَّسُّوجُ حَبَّتَانِ وَالْحَبَّةُ شَعِيرَتَانِ
وَالشَّعِيرَةُ سِتَّةُ خَرَادِلَ وَالْخَرْدَلَةُ اثْنَا
عَشَرَ فَلْسًا وَالْفَلْسُ سِتُّ فَتِيلَاتٍ وَالْفَتِيلُ
سِتُّ نَقِيرَاتٍ
(2/211)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَالنَّقِيرُ ثَمَانُ قِطْمِيرَاتٍ وَالْقِطْمِيرَةُ اثْنَتَا
عَشْرَةَ ذَرَّةً انْتَهَى.
فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْخَرَادِلِ أَوْ الشَّعِيرَةِ
الْمَعْرُوفُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاشْتِغَالِ بِتَقْدِيرِ
ذَلِكَ وَهُوَ تَعْرِيفُ الدِّينَارِ عَلَى عُرْفِ
سَمَرْقَنْدَ، وَتَعْرِيفُ دِينَارِ الْحِجَازِ هُوَ
الْمَقْصُودُ إذْ الْحُكْمُ خَرَجَ مِنْ هُنَاكَ، وَيُوَضِّحُ
ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْوَزْنُ
وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ» لَفْظُ النَّسَائِيّ عَنْ أَحْمَدَ
بْنِ سُلَيْمَانَ وَوَثَّقَهُ
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ لَهُمْ فِيهِ اصْطِلَاحٌ
خَاصٌّ فَلَمْ يَحْصُلْ مِمَّا ذَكَرَهُ تَحْدِيدٌ وَلَا
تَمْيِيزٌ عِنْدَ الْعَقْلِ لِأَنَّ الذَّرَّةَ حِينَئِذٍ هِيَ
مَبْدَأُ مَا يُقَدَّرُ بِهِ هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتُ
الِاصْطِلَاحِيَّةُ وَلَا يُعْرَفُ شَخْصُهَا، وَقَدْ لَا
يُقَدَّرُ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِهَا لَوْ عُرِفَ، وَأَنْتَ
تَعْلَمُ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَقْدِيرُ كَمِّيَّةِ شَيْءٍ
مَوْجُودٍ ثَابِتٍ، وَالتَّوَصُّلُ إلَى ذَلِكَ لَا
يَتَوَقَّفُ عَلَى هَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ مَعَ أَنَّهُ لَمْ
يَحْصُلْ بِذَلِكَ مَقْصُودٌ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ اقْتَصَرَ
عَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى
مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ فِي إفَادَةِ التَّقْدِيرِ إلَّا أَنْ
يَكُونَ الْمُرَادُ الْوَسَطَ بَيْنَ الشَّعِيرَاتِ
الْمَعْرُوفَةِ وَإِلَّا يَكُونُ تَجْهِيلًا
وَلَوْ انْتَهَى إلَى الْخَرْدَلِ كَانَ حَسَنًا إذْ لَا
يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ وَكَذَا بَعْضُ الْأَشْيَاءِ، وَهَذَا
كُلُّهُ عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِ الدِّينَارِ وَالْمِثْقَالِ
مُتَرَادِفَيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمِثْقَالَ اسْمٌ
لِلْمِقْدَارِ الْمُقَدَّرِ بِهِ وَالدِّينَارُ اسْمٌ
لِلْمُقَدَّرِ بِهِ بِقَيْدِ ذَهَبِيَّتِهِ، وَإِذْ قَدْ
عَرَفْت هَذَا فَقَالُوا: كَانَتْ الدَّرَاهِمُ عَلَى عَهْدِ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ كُلُّ عَشَرَةٍ وَزْنُ عَشَرَةِ
مَثَاقِيلَ، وَصِنْفٌ كُلِّ عَشَرَةٍ وَزْنُ خَمْسَةٍ،
وَصِنْفٌ كُلُّ عَشَرَةٍ بِوَزْنِ سِتَّةٍ، فَلَمَّا وَقَعَ
الْخِلَافُ فِي الْإِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ، وَقِيلَ أَرَادَ
عُمَرُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْخَرَاجَ بِالصِّنْفِ الْأَوَّلِ
فَالْتَمَسُوا التَّخْفِيفَ، فَجَمَعَ حِسَابَ زَمَانِهِ
فَأَخْرَجُوا عَشَرَةً وَزْنَ سَبْعَةٍ
وَقِيلَ أَخَذَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ كُلِّ
صِنْفٍ دِرْهَمًا فَخَلَطَهُ فَجَعَلَهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ
مُتَسَاوِيَةً فَخَرَجَ الدِّرْهَمُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ
قِيرَاطًا كُلُّ عَشَرَةٍ وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ فَبَقِيَ
الْعَمَلُ عَلَيْهَا وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَيْهَا، وَهَذَا
صَرِيحٌ فِي أَنَّ كَوْنَ الدَّرَاهِمِ بِهَذِهِ الزِّنَةِ
لَمْ تَكُنْ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-، وَلَا شَكَّ فِي ثُبُوتِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي زَمَانِهِ
- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَتَقْدِيرِهِ لَهَا
وَاقْتِضَاءِ عُمَّالِهِ إيَّاهَا خَمْسَةً مِنْ كُلِّ
مِائَتَيْنِ
فَإِنْ كَانَ الْمُعَيَّنُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي زَمَانِهِ
الصِّنْفَ الْأَعْلَى لَمْ يَجُزْ النَّقْصُ، وَإِنْ كَانَ مَا
دُونَهُ لَمْ يَجُزْ تَعْيِينُ هَذِهِ لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ
عَلَى الْمُقَدَّرِ تُوجِبُ نَفْيَ الْوُجُوبِ بَعْدَ
تَحَقُّقِهِ لِأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ يَتَحَقَّقُ
فِي مِائَتَيْنِ وَزْنُ خَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ، فَالْقَوْلُ
بِعَدَمِ الْوُجُوبِ مَا لَمْ تَبْلُغْ وَزْنُ مِائَتَيْنِ
وَزْنَ سَبْعَةٍ مَلْزُومٌ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ
أَنَّ أَيُّهَا وُجِدَ كَانُوا يُزَكُّونَهُ قَالَ: كَانَتْ
الدَّرَاهِمُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كِبَارًا وَصِغَارًا،
فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ وَأَرَادُوا ضَرْبَ الدَّرَاهِمِ
وَكَانُوا يُزَكُّونَهَا مِنْ النَّوْعَيْنِ فَنَظَرُوا إلَى
الدِّرْهَمِ الْكَبِيرِ فَإِذَا هُوَ ثَمَانِيَةُ دَوَانِيقَ
وَإِلَى الدِّرْهَمِ الصَّغِيرِ فَإِذَا هُوَ أَرْبَعَةُ
دَوَانِيقَ، فَوَضَعُوا زِيَادَةَ الْكَبِيرِ عَلَى نُقْصَانِ
الصَّغِيرِ فَجَعَلُوهَا دِرْهَمَيْنِ سَوَاءً كُلُّ وَاحِدٍ
سِتَّةُ دَوَانِيقَ، ثُمَّ اُعْتُبِرُوهَا بِالْمَثَاقِيلِ،
وَلَمْ يَزَلْ الْمِثْقَالُ فِي آبَادِ الدَّهْرِ لَا يَزِيدُ
وَلَا يَنْقُصُ فَوَجَدُوهَا عَشَرَةً مِنْ هَذِهِ وَزْنَ
سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ انْتَهَى.
وَإِنَّمَا سُقْنَا بَقِيَّةَ كَلَامِهِ لِيَظْهَرَ مَا فِيهِ
مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِمَا تَقَدَّمَ وَيَقْتَضِي أَنَّ
النِّصَابَ يَنْعَقِدُ مِنْ الصِّغَارِ، وَهُوَ الْحَقُّ
لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي تَفَاوُتِ الدَّرَاهِمِ
صِغَرًا وَكِبَرًا فِي زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فَبِالضَّرُورَةِ تَكُونُ الْأُوقِيَّةُ
مُخْتَلِفَةً أَيْضًا بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، وَقَدْ
«أَوْجَبَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي
(2/212)
(وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ عَلَى الْوَرِقِ
الْفِضَّةَ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْفِضَّةِ، وَإِذَا كَانَ
الْغَالِبُ عَلَيْهَا الْغِشُّ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْعُرُوضِ
يُعْتَبَرُ أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ نِصَابًا) لِأَنَّ
الدَّرَاهِمَ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ غِشٍّ لِأَنَّهَا لَا
تَنْطَبِعُ إلَّا بِهِ وَتَخْلُو عَنْ الْكَثِيرِ، فَجَعَلْنَا
الْغَلَبَةَ فَاصِلَةً وَهُوَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى النِّصْفِ
اعْتِبَارًا لِلْحَقِيقَةِ، وَسَنَذْكُرُهُ فِي الصَّرْفِ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، إلَّا أَنَّ فِي غَالِبِ الْغِشِّ لَا
بُدَّ مِنْ نِيَّةِ التِّجَارَةِ كَمَا فِي سَائِرِ
الْعُرُوضِ، إلَّا إذَا كَانَ تَخْلُصُ مِنْهَا فِضَّةٌ
تَبْلُغُ نِصَابًا لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي عَيْنِ
الْفِضَّةِ الْقِيمَةُ وَلَا نِيَّةُ التِّجَارَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
خَمْسِ أَوَاقٍ الزَّكَاة» مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ
بِصِنْفِ، فَإِذَا صَدَقَ عَلَى الصَّغِيرَةِ خَمْسُ أَوَاقٍ
وَجَبَ فِيهَا الزَّكَاةُ بِالنَّصِّ، وَيُؤَيِّدُهُ نَقْلُ
أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّهُمْ كَانُوا يُزَكُّونَ النَّوْعَيْنِ،
وَعَنْ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى
أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ كُلِّ أَهْلِ بَلَدٍ
دَرَاهِمُهُمْ.
ذَكَرَهُ قَاضِي خَانْ، إلَّا أَنِّي أَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ
يُقَيَّدَ بِمَا إذَا كَانَتْ دَرَاهِمُهُمْ لَا تَنْقُصُ عَنْ
أَقَلِّ مَا كَانَ وَزْنًا فِي زَمَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - وَهِيَ مَا تَكُونُ الْعَشَرَةُ وَزْنَ
خَمْسَةٍ لِأَنَّهَا أَقَلُّ مَا قُدِّرَ النِّصَابُ
بِمِائَتَيْنِ مِنْهَا حَتَّى لَا تَجِبَ فِي مِائَتَيْ مِنْ
الدَّرَاهِمِ الْمَسْعُودِيَّةِ الْكَائِنَةِ بِمَكَّةَ
مَثَلًا وَإِنْ كَانَتْ دَرَاهِمَ قَوْمٍ، وَكَأَنَّهُ
أَعْمَلَ إطْلَاقَ الدَّرَاهِمِ وَالْأَوَاقِي فِي
الْمَوْجُودِ وَمَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ وَيُسْتَحْدَثَ،
وَنَحْنُ أَعْمَلْنَاهُ فِي الْمَوْجُودِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ
أَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْكَلَامِ إلَى مَا هُوَ الْمَعْهُودُ
الثَّابِتُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَرَاهِمُ إلَّا كَبِيرَةٌ كَوَزْنِ
سَبْعَةٍ فَالِاحْتِيَاطُ عَلَى هَذَا أَنْ تُزَكَّى، وَإِنْ
كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْنِ إذَا بَلَغَ ذَلِكَ
الْأَقَلُّ قَدْرَ نِصَابٍ هُوَ وَزْنُ خَمْسَةٍ، أَلَا يُرَى
أَنَّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ الدَّرَاهِمُ إلَّا وَزْنَ عَشْرَةٍ
أَوْ أَقَلَّ مِمَّا يَزِيدُ عَلَى وَزْنِ سَبْعَةٍ وَجَبَ
الزَّكَاةُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْنِ مِنْهَا بِحِسَابِ
وَزْنِ السَّبْعَةِ. وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْغَايَةِ:
دَرَاهِمُ مِصْرَ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ حَبَّةً، وَهُوَ
أَكْبَرُ مِنْ دِرْهَمِ الزَّكَاةِ فَالنِّصَابُ مِنْهُ
مِائَةٌ وَثَمَانُونَ وَحَبَّتَانِ انْتَهَى.
فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ دِرْهَمَ الزَّكَاةِ مُقَدَّرٌ
شَرْعًا بِمَا هُوَ وَزْنُ سَبْعَةٍ بَلْ بِأَقَلَّ مِنْهُ
لِمَا قُلْنَا وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ الْأَقَلُّ فِي
الدَّرَاهِمِ الْكَبِيرَةِ فَتُزَكَّى إذَا بَلَغَتْ قَدْرَ
مِائَتَيْنِ مِنْ الصِّغَارِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
أَعْلَمُ. ثُمَّ مَا ذُكِرَ فِي الْغَايَةِ مِنْ دَرَاهِمِ
مِصْرَ فِيهِ نَظَرٌ عَلَى مَا اعْتَبَرُوهُ فِي دِرْهَمِ
الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْحَبَّةِ الشَّعِيرَةَ
فَدِرْهَمُ الزَّكَاةِ سَبْعُونَ شَعِيرَةً إذْ كَانَ
الْعَشَرَةُ وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ، وَالْمِثْقَالُ
مِائَةَ شَعِيرَةٍ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فَهُوَ إذًا
أَصْغَرُ لَا أَكْبَرُ
وَإِنْ أَرَادَ بِالْحَبَّةِ أَنَّهُ شَعِيرَتَانِ كَمَا
وَقَعَ تَفْسِيرُهَا فِي تَعْرِيفِ السَّجَاوَنْدِيِّ
الطَّوِيلِ فَهُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ، إذْ الْوَاقِعُ أَنَّ
دِرْهَمَ مِصْرَ لَا يَزِيدُ عَلَى أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ
شَعِيرَةً لِأَنَّ كُلَّ رُبْعٍ مِنْهُ مُقَدَّرٌ بِأَرْبَعِ
خَرَانِيبَ وَالْخُرْنُوبَةُ مُقَدَّرَةٌ بِأَرْبَعِ قَمْحَاتٍ
وَسَطٍ (قَوْلُهُ فَهُوَ فِضَّةٌ) أَيْ فَتَجِبُ فِيهِ
الزَّكَاةُ كَأَنَّهُ كُلَّهُ فِضَّةٌ لَا زَكَاةَ الْعُرُوضِ
وَلَوْ كَانَ أَعَدَّهَا لِلتِّجَارَةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا
كَانَ الْغِشُّ غَالِبًا، فَإِنْ نَوَاهَا لِلتِّجَارَةِ
اُعْتُبِرَتْ قِيمَتُهَا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهَا فَإِنْ
كَانَتْ بِحَيْثُ يَتَخَلَّصُ مِنْهَا فِضَّةً تَبْلُغُ
نِصَابًا وَحْدَهَا أَوْ لَا تَبْلُغُ، لَكِنْ عِنْدَهُ مَا
يَضُمُّهُ
(2/213)
فَصْلٌ فِي الذَّهَبِ (لَيْسَ فِيمَا دُونَ
عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ الذَّهَبِ صَدَقَةٌ. فَإِذَا
كَانَتْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَفِيهَا نِصْفُ مِثْقَالٍ)
لِمَا رَوَيْنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
إلَيْهَا فَيَبْلُغُ نِصَابًا وَجَبَ فِيهَا لِأَنَّ عَيْنَ
النَّقْدَيْنِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا نِيَّةُ التِّجَارَةِ
وَلَا الْقِيمَةُ، وَإِنْ لَمْ يَخْلُصْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ
لِأَنَّ الْفِضَّةَ هَلَكَتْ فِيهِ، إذْ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهَا
لَا حَالًا وَلَا مَآلًا فَبَقِيَ الْعِبْرَةُ لِلْغِشِّ.
وَهِيَ عُرُوضٌ يُشْتَرَطُ فِي الْوُجُوبِ فِيهَا نِيَّةُ
التِّجَارَةِ. وَعَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ الذَّهَبُ
الْمَغْشُوشُ.
وَإِذَا اسْتَوَى الْغِشُّ فِيهِمَا قِيلَ تَجِبُ فِيهِ
احْتِيَاطًا وَقِيلَ لَا تَجِبُ وَقِيلَ يَجِبُ دِرْهَمَانِ
وَنِصْفٌ. كَذَا حَكَاهُ بَعْضُهُمْ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ
الْمُرَادَ بِقَوْلِ الْوُجُوبِ أَنَّهُ تَجِبُ فِي الْكُلِّ
الزَّكَاةُ. فَفِي مِائَتَيْنِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ كَأَنَّهَا
كُلَّهَا فِضَّةٌ. أَلَا تَرَى إلَى تَعْلِيلِهِ
بِالِاحْتِيَاطِ، وَقَوْلُ النَّفْيِ مَعْنَاهُ لَا تَجِبُ
كَذَلِكَ. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ
عَلَى اعْتِبَارِ أَنْ يَخْلُصَ وَعِنْدَهُ مَا يَضُمُّهُ
إلَيْهِ فَيَخُصُّهُ دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ. وَحِينَئِذٍ
فَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا قَوْلَانِ؛ لِأَنَّ عَلَى
هَذَا التَّقْدِيرِ لَا يُخَالِفُ فِيهِ أَحَدٌ. فَحِكَايَةُ
ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ غَيْرُ وَاقِعٍ.
وَالذَّهَبُ الْمَخْلُوطُ بِالْفِضَّةِ إنْ بَلَغَ الذَّهَبُ
نِصَابًا فَفِيهِ زَكَاةُ الذَّهَبِ وَإِنْ بَلَغَتْ
الْفِضَّةُ نِصَابَهَا فَزَكَاةُ الْفِضَّةِ، لَكِنْ إنْ
كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْفِضَّةِ، أَمَّا إنْ كَانَتْ
مَغْلُوبَةً فَهُوَ كُلُّهُ ذَهَبٌ لِأَنَّهُ أَعَزُّ
وَأَغْلَى قِيمَةً. كَذَا ذَكَرَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ فِي الذَّهَبِ]
(قَوْلُهُ لِمَا رَوَيْنَا) يَعْنِي حَدِيثَ مُعَاذٍ
الْمُتَقَدِّمَ فِي صَدَقَةِ الْفِضَّةِ وَتَقَدَّمَ مَا
فِيهِ. وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِالدَّعْوَى فَقَدْ تَقَدَّمَ
حَدِيثُ عَلِيٍّ فِي الذَّهَبِ. وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ
مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ
عِشْرِينَ دِينَارًا نِصْفَ دِينَارٍ وَمِنْ الْأَرْبَعِينَ
دِينَارًا دِينَارًا» . وَهُوَ مُضَعَّفٌ بِإِبْرَاهِيمَ بْنِ
إسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَمِّعٍ. وَأَخْرَجَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ
زَنْجُوَيْهِ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ بِسَنَدِهِ عَنْ
عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
«لَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ شَيْءٌ، وَلَا فِيمَا
دُونَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ الذَّهَبِ شَيْءٌ، وَفِي
الْمِائَتَيْنِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ. وَفِي عِشْرِينَ
مِثْقَالًا نِصْفُ مِثْقَالٍ» وَفِيهِ الْعَزْرَمِيُّ
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ. وَتَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو
بْنِ حَزْمٍ فِي فَصْلِ الْإِبِلِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ دِينَارًا
دِينَارٌ» وَهُوَ حَدِيثٌ لَا شَكَّ فِي ثُبُوتِهِ عَلَى مَا
قَدَّمْنَاهُ
(2/214)
وَالْمِثْقَالُ مَا يَكُونُ كُلُّ سَبْعَةٍ
مِنْهَا وَزْنَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ (ثُمَّ
فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ قِيرَاطَانِ) لِأَنَّ
الْوَاجِبَ رُبْعُ الْعُشْرِ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا إذْ
كُلُّ مِثْقَالٍ عِشْرُونَ قِيرَاطًا (وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ
أَرْبَعَةِ مَثَاقِيلَ صَدَقَةٌ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ،
وَعِنْدَهُمَا تَجِبُ بِحِسَابِ ذَلِكَ وَهِيَ مَسْأَلَةُ
الْكُسُورِ، وَكُلُّ دِينَارٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي
الشَّرْعِ فَيَكُونُ أَرْبَعَةُ مَثَاقِيلَ فِي هَذَا
كَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا.
قَالَ (وَفِي تِبْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَحُلِيِّهِمَا
وَأَوَانِيهِمَا الزَّكَاةُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا
تَجِبُ فِي حُلِيِّ النِّسَاءِ وَخَاتَمِ الْفِضَّةِ
لِلرِّجَالِ لِأَنَّهُ مُبْتَذَلٌ فِي مُبَاحٍ فَشَابَهُ
ثِيَابَ الْبِذْلَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
(قَوْلُهُ وَالْمِثْقَالُ مَا يَكُونُ إلَخْ) قِيلَ هُوَ
دَوْرٌ لِأَنَّهُ أَخَذَ كُلًّا مِنْ الْمِثْقَالِ
وَالدِّرْهَمِ فِي تَعْرِيفٍ آخَرَ فَتَوَقَّفَ تَصَوُّرُ
كُلٍّ مِنْهُمَا عَلَى تَصَوُّرِ الْآخَرِ. وَجَوَابُهُ
أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا تَعْرِيفًا لِأَنَّهُ قَالَ
وَهُوَ الْمَعْرُوفُ، فَأَفَادَ أَنَّ الْمِثْقَالَ
الْمَعْرُوفَ الَّذِي تَدَاوَلَهُ النَّاسُ وَعَرَفُوهُ
مِثْقَالًا، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى
تَعْرِيفِهِ كَمَا لَا يُعَرَّفُ مَا هُوَ بَدِيهِيُّ
التَّصَوُّرِ إذْ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، فَكَانَ
قَوْلُهُ وَالْمِثْقَالُ مَا يَكُونُ كُلُّ سَبْعَةٍ مِنْهَا
وَزْنَ عَشَرَةٍ إنَّمَا هُوَ لِإِزَالَةِ تَوَهُّمِ أَنْ
يُرَادَ بِالْمِثْقَالِ غَيْرَ الْمَذْكُورِ فِي تَعْرِيفِ
الدِّرْهَمِ، فَحَاصِلُ كَلَامِهِ حِينَئِذٍ أَنَّهُ قَالَ:
وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْمِثْقَالِ ذَاكَ الَّذِي تَقَدَّمَ
وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ النَّاسِ لَا شَيْءٌ آخَرُ،
وَهَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَحْسَنُ مِمَّا حَاوَلَ
فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الدَّفْعِ مِمَّا لَوْ
أَوْرَدْته أَدَّى إلَى طُولٍ مَعَ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ
بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ.
(قَوْلُهُ وَكُلُّ دِينَارٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي الشَّرْعِ)
أَيْ مُقَوَّمٌ فِي الشَّرْعِ بِعَشَرَةٍ كَذَا كَانَ فِي
الِابْتِدَاءِ، فَإِذَا مَلَكَ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ فَقَدْ
مَلَكَ مَا قِيمَتُهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا مِمَّا لَا
يَتَوَقَّفُ الْوُجُوبُ فِيهِ عَلَى نِيَّةِ التِّجَارَةِ
فَيَجِبُ فِيهِ قَدْرُ الدِّرْهَمِ وَهُوَ قِيرَاطَانِ بِنَاءً
عَلَى اعْتِبَارِ الدِّينَارِ عِشْرِينَ قِيرَاطًا، فَلَا
يَرُدُّ مَا أَوْرَدَهُ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِ فِي هَذَا
الْمَقَامِ (قَوْلُهُ وَحُلِيِّهِمَا) سَوَاءٌ كَانَ مُبَاحًا
أَوْ لَا حَتَّى يَجِبَ أَنْ يُضَمَّ الْخَاتَمُ مِنْ
الْفِضَّةِ وَحِلْيَةُ السَّيْفِ وَالْمُصْحَفُ وَكُلُّ مَا
انْطَلَقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ (قَوْلُهُ فَشَابَهُ ثِيَابَ
الْبِذْلَةِ) حَاصِلُهُ قِيَاسُ الْحُلِيِّ بِثِيَابِ
الْبِذْلَةِ بِجَامِعِ الِابْتِذَالِ فِي مُبَاحٍ وَدَفَعَهُ
اعْتِبَارُ مَا عَيَّنَهُ مَانِعًا مِنْ الْوُجُوبِ فِي
الْفَرْعِ، وَإِنْ كَانَ مَانِعًا فِي الْأَصْلِ، وَذَلِكَ
لِأَنَّ مَانِعِيَّتَهُ فِي الْأَصْلِ بِسَبَبِ أَنَّهُ
يَمْنَعُ وُجُودَ السَّبَبِ بِمَنْعِ جُزْئِهِ: أَعْنِي
النَّمَاءَ لَا لِذَاتِهِ وَلَا لِأَمْرٍ آخَرَ، وَمَنْعُهُ
ذَلِكَ فِي النَّقْدَيْنِ مُنْتَفٍ لِأَنَّهُمَا خُلِقَا
لِيُتَوَصَّلَ بِهِمَا إلَى الْإِبْدَالِ، وَهَذَا مَعْنَى
الِاسْتِنْمَاءِ فَقَدْ خُلِقَا لِلِاسْتِنْمَاءِ وَلَمْ
يُخْرِجْهُمَا الِابْتِذَالُ عَنْ ذَلِكَ، فَالنَّمَاءُ
التَّقْدِيرِيُّ حَاصِلٌ وَهُوَ الْمُعْتَبَرُ لِلْإِجْمَاعِ
عَلَى عَدَمِ تَوَقُّفِ الْوُجُوبِ الْحَقِيقِيِّ، وَإِذَا
انْتَفَتْ مَانِعِيَّتَهُ عَمِلَ السَّبَبُ عَمَلَهُ وَهَذَا
مَعْنَى مَا فِي الْكِتَابِ، ثُمَّ الْمَنْقُولَاتُ مِنْ
الْعُمُومَاتِ وَالْخُصُوصَاتِ تُصَرِّحُ بِهِ.
فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - «هَاتُوا صَدَقَةَ الرِّقَةِ مِنْ كُلِّ
أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ» رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ
الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُ كَثِيرٌ. وَمِنْ الْخُصُوصَاتِ
(2/215)
وَلَنَا أَنَّ السَّبَبَ مَالٌ نَامٍ
وَدَلِيلُ النَّمَاءِ مَوْجُودٌ وَهُوَ الْإِعْدَادُ
لِلتِّجَارَةِ خِلْقَةً، وَالدَّلِيلُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ
بِخِلَافِ الثِّيَابِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ أَنَّ «امْرَأَةً
أَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَمَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا وَفِي يَدِ بِنْتِهَا مَسَكَتَانِ
غَلِيظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لَهُمَا: أَتُعْطِينَ
زَكَاةَ هَذَا؟ قَالَتْ لَا، قَالَ: أَيَسُرُّكِ أَنْ
يُسَوِّرَكِ اللَّهُ بِهِمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سِوَارًا
مِنْ نَارٍ؟ قَالَ: فَخَلَعَتْهُمَا فَأَلْقَتْهُمَا إلَى
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ:
هُمَا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» قَالَ أَبُو الْحَسَنُ بْنُ
الْقَطَّانِ فِي كِتَابِهِ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَقَالَ
الْمُنْذِرِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، إسْنَادُهُ لَا مَقَالَ
فِيهِ، ثُمَّ بَيَّنَهُ رَجُلًا رَجُلًا.
وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ قَالَ
أَتَتْ امْرَأَتَانِ فَسَاقَهُ، وَفِيهِ «أَتُحِبَّانِ أَنْ
يُسَوِّر كَمَا اللَّهُ بِسِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟ قَالَتَا
لَا، قَالَ: فَأَدِّيَا زَكَاتَهُ» وَتَضْعِيفُ التِّرْمِذِيِّ
وَقَوْلُهُ لَا يَصِحُّ فِي هَذَا الْبَابِ عَنْ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْءٌ مُؤَوَّلٌ
وَإِلَّا فَخَطَأٌ.
قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: لَعَلَّ التِّرْمِذِيَّ قَصَدَ
الطَّرِيقَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرَهُمَا وَإِلَّا فَطَرِيقُ
أَبِي دَاوُد لَا مَقَالَ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ
بَعْدَ تَصْحِيحِهِ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد: وَإِنَّمَا
ضَعَّفَ التِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ لِأَنَّ عِنْدَهُ
فِيهِ ضَعِيفَيْنِ ابْنُ لَهِيعَةَ وَالْمُثَنَّى بْنُ
الصَّبَّاحِ.
وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ قَالَ «دَخَلْنَا عَلَى عَائِشَةَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَأَى فِي
يَدَيَّ فَتَخَاتِ وَرِقٍ فَقَالَ: مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟
فَقُلْتُ: صُغْتُهُنَّ لِأَتَزَيَّنَ لَك بِهِنَّ يَا رَسُولَ
اللَّهِ، قَالَ: أَفَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ؟ فَقُلْتُ: لَا،
فَقَالَ: هُنَّ حَسْبُكِ مِنْ النَّارِ» وَأَخْرَجَهُ
الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَعَلَّهُ الدَّارَقُطْنِيُّ
بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَطَاءٍ مَجْهُولٌ، وَتَعَقَّبَهُ
الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ الْقَطَّانِ بِأَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ
عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ أَحَدُ الثِّقَاتِ، وَلَكِنْ لَمَّا
نُسِبَ فِي سَنَدِ الدَّارَقُطْنِيِّ إلَى جَدِّهِ ظَنَّ
أَنَّهُ مَجْهُولٌ وَتَبِعَهُ عَبْدُ الْحَقِّ، وَقَدْ جَاءَ
مُبَيَّنًا عِنْدَ أَبِي دَاوُد بَيَّنَهُ شَيْخُهُ مُحَمَّدُ
بْنُ إدْرِيسَ الرَّازِيّ وَهُوَ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيّ
إمَامُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ.
وَمِنْهَا مَا أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَتَّابِ بْنِ
بَشِيرٍ عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أُمِّ
سَلَمَةَ قَالَتْ «كُنْتُ أَلْبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَنْزٌ هُوَ؟ فَقَالَ: مَا
بَلَغَ أَنْ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَزُكِّيَ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ»
وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ مُهَاجِرٍ عَنْ ثَابِتٍ بِهِ وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى
شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَلَفْظُهُ «إذَا أَدَّيْتِ زَكَاتَهُ
فَلَيْسَ بِكَنْزٍ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ
ثَابِتُ بْنُ عَجْلَانَ. قَالَ صَاحِبُ تَنْقِيحِ
التَّحْقِيقِ: وَهَذَا لَا يَضُرُّ فَإِنَّ ثَابِتَ بْنَ
عَجْلَانَ رَوَى لَهُ الْبُخَارِيُّ وَوَثَّقَهُ ابْنُ
مَعِينٍ.
وَقَوْلُ عَبْدِ الْحَقِّ لَا يُحْتَجُّ بِهِ قَوْلٌ لَمْ
يَقُلْهُ غَيْرُهُ. وَمِمَّنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ، وَنَسَبَهُ
فِي ذَلِكَ إلَى التَّحَامُلِ، وَقَوْلُ ابْنِ الْجَوْزِيِّ
مُحَمَّدِ بْنِ الْمُهَاجِرِ. قَالَ ابْنُ حِبَّانَ: يَضَعُ
الْحَدِيثَ عَلَى الثِّقَاتِ. قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ
فِيهِ: هَذَا وَهْمٌ قَبِيحٌ، فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ
الْمُهَاجِرِ الْكَذَّابَ لَيْسَ هُوَ هَذَا، فَهَذَا الَّذِي
يَرْوِي عَنْ ثَابِتِ بْنِ عَجْلَانَ ثِقَةٌ شَامِيٌّ أَخْرَجَ
لَهُ مُسْلِمٌ، وَوَثَّقَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ وَأَبُو
زُرْعَةَ وَدُحَيْمٌ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمْ.
وَعَتَّابُ بْنُ بَشِيرٍ وَثَّقَهُ ابْنُ مَعِينٍ وَرَوَى لَهُ
الْبُخَارِيُّ مُتَابَعَةً.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَيْسَ فِي
الْحُلِيِّ زَكَاةٌ» قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: بَاطِلٌ لَا أَصْلَ
لَهُ، إنَّمَا يُرْوَى عَنْ جَابِرٍ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَمَّا
الْآثَارُ الْمَرْوِيَّةُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ
وَأَسْمَاءَ بِنْتِ الصِّدِّيقِ فَمَوْقُوفَاتٌ وَمُعَارَضَاتٌ
بِمِثْلِهَا عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى
الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَنْ مُرْ مَنْ
قِبَلَك مِنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُزَكِّينَ
حُلِيَّهُنَّ وَلَا يَجْعَلْنَ الزِّيَادَةَ وَالْهَدِيَّةَ
(2/216)
فَصْلٌ فِي الْعُرُوضِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
بَيْنَهُنَّ تَقَارُضًا.
رَوَاهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
فِي الْحُلِيِّ الزَّكَاةُ، رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ
إلَى خَازِنِهِ سَالِمٍ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ حُلِيِّ
بَنَاتِهِ كُلَّ سَنَةٍ. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَرَوَى
ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ نِسَاءَهُ
أَنْ يُزَكِّينَ حُلِيَّهُنَّ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَطَاوُسٍ وَعَبْدِ
اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ أَنَّهُمْ قَالُوا: فِي الْحُلِيِّ
الزَّكَاةُ. زَادَ ابْنُ شَدَّادٍ: حَتَّى فِي الْخَاتَمِ.
وَأَخْرَجَ عَنْ عَطَاءٍ أَيْضًا وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ
أَنَّهُمْ قَالُوا: مَضَتْ السُّنَّةُ أَنَّ فِي الْحُلِيِّ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الزَّكَاةَ. وَفِي الْمَطْلُوبِ
أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مَرْفُوعَةٌ غَيْرَ أَنَّا اقْتَصَرْنَا
مِنْهَا عَلَى مَا لَا شُبْهَةَ فِي صِحَّتِهِ،
وَالتَّأْوِيلَاتُ الْمَنْقُولَةُ عَنْ الْمُخَالِفِينَ مِمَّا
يَنْبَغِي صَوْنُ النَّفْسِ عَنْ أَخْطَارِهَا وَالِالْتِفَاتِ
إلَيْهَا. وَفِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ مَا يُصَرِّحُ
بِرَدِّهَا، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ
مِمَّا يُعَكِّرُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا فِي الْمُوَطَّإِ
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ تَلِي بَنَاتِ
أَخِيهَا يَتَامَى فِي حِجْرِهَا فَلَا تُخْرِجُ مِنْ
حُلِيِّهِنَّ الزَّكَاةَ، وَعَائِشَةُ رَاوِيَةُ حَدِيثِ
الْفَتَخَاتِ، وَعَمَلُ الرَّاوِي بِخِلَافِ مَا رَوَى
عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِخِ فَيَكُونُ
ذَلِكَ مَنْسُوخًا. وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ الْحُكْمَ
بِأَنَّ ذَلِكَ لِلنَّسْخِ عِنْدَنَا هُوَ إذَا لَمْ يُعَارِضْ
مُقْتَضَى النَّسْخِ مُعَارِضٌ يَقْتَضِي عَدَمَهُ، وَهُوَ
ثَابِتٌ هُنَا فَإِنَّ كِتَابَةَ عُمَرَ إلَى الْأَشْعَرِيِّ
تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ حُكْمٌ مُقَرَّرٌ، وَكَذَا مَنْ
ذَكَرْنَاهُ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ. فَإِذَا وَقَعَ
التَّرَدُّدُ فِي النَّسْخِ، وَالثُّبُوتُ مُتَحَقِّقٌ لَا
يُحْكَمُ بِالنَّسْخِ هَذَا كُلُّهُ عَلَى رَأَيْنَا. وَأَمَّا
عَلَى رَأْيِ الْخَصْمِ فَلَا يَرِدُ ذَلِكَ أَصْلًا، إذْ
قُصَارَى فِعْلِ عَائِشَةَ قَوْلُ صَحَابِيٍّ وَهُوَ عِنْدَهُ
لَيْسَ بِحُجَّةٍ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُعَارَضًا بِالْحَدِيثِ
الْمَرْفُوعِ، وَعَمَلُ الرَّاوِي بِخِلَافِ رِوَايَتِهِ لَا
يَدُلُّ عَلَى النَّسْخِ بَلْ الْعِبْرَةُ لِمَا رَوَى لَا
لِمَا رَأَى عِنْدَهُ. وَلَا يُقَالُ: إنَّمَا لَمْ تُؤَدِّ
مِنْ حُلِيِّهِنَّ لِأَنَّهُنَّ يَتَامَى، وَلَا زَكَاةَ عَلَى
الصَّبِيِّ لِأَنَّ مَذْهَبَهَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي مَالِ
الصَّبِيِّ فَلِذَا عَدَلْنَا فِي الْجَوَابِ إلَى مَا
سَمِعْت، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
هَذَا وَيُعْتَبَرُ فِي الْمُؤَدَّى الْوَزْنُ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
الْخَيْرِيَّةُ، وَعِنْدَ زُفَرَ الْقِيمَةُ، فَلَوْ أَدَّى
عَنْ خَمْسَةٍ جِيَادٍ خَمْسَةً زُيُوفًا جَازَ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَكُرِهَ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ
مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فَيُؤَدَّى الْفَضْلُ، وَلَوْ أَدَّى
أَرْبَعَةً جَيِّدَةً عَنْ خَمْسَةٍ رَدِيئَةٍ لَا يَجُوزُ
إلَّا عَنْ أَرْبَعَةٍ عِنْدَ الثَّلَاثَةِ لِاعْتِبَارِ
مُحَمَّدٍ الْخَيْرِيَّةَ وَاعْتِبَارِهِمَا الْقَدْرَ،
وَيَجُوزُ عِنْدَ زُفَرَ لِلْقِيمَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[فَصْلٌ فِي الْعُرُوضِ]
الْعُرُوض جَمْعُ عَرَضٍ بِفَتْحَتَيْنِ: حُطَامُ الدُّنْيَا،
كَذَا فِي الْمُغْرِبِ وَالصِّحَاحِ. وَالْعَرْضُ بِسُكُونِ
الرَّاءِ الْمَتَاعُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فَهُوَ عَرْضٌ سِوَى
الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ:
الْعُرُوض الْأَمْتِعَةُ الَّتِي لَا يَدْخُلُهَا كَيْلٌ وَلَا
وَزْنٌ وَلَا يَكُونُ حَيَوَانًا وَلَا عَقَارًا، فَعَلَى
هَذَا جَعْلُهَا هُنَا جَمْعَ عَرْضٍ بِالسُّكُونِ أَوْلَى
لِأَنَّهُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْأَمْوَالِ الَّتِي هِيَ
غَيْرُ النَّقْدَيْنِ وَالْحَيَوَانَاتِ، كَذَا فِي
النِّهَايَةِ (قَوْلُهُ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ وَالْحَيَوَانِ
مَمْنُوعٌ) بَلْ فِي بَيَانِ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ
حَيَوَانًا
(2/217)
(الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِي عُرُوضِ
التِّجَارَةِ كَائِنَةً مَا كَانَتْ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهَا
نِصَابًا مِنْ الْوَرِقِ أَوْ الذَّهَبِ) لِقَوْلِهِ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهَا «يُقَوِّمُهَا
فَيُؤَدِّي مِنْ كُلِّ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ»
، وَلِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِلِاسْتِنْمَاءِ بِإِعْدَادِ
الْعَبْدِ فَأَشْبَهَ الْمُعَدَّ بِإِعْدَادِ الشَّرْعِ،
وَتُشْتَرَطُ نِيَّةُ التِّجَارَةِ لِيَثْبُتَ الْإِعْدَادُ،
قَالَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
أَوْ غَيْرَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ السَّائِمَةَ
الْمَنْوِيَّةَ لِلتِّجَارَةِ تَجِبُ فِيهَا زَكَاةُ
التِّجَارَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ جِنْسِ مَا تَجِبُ فِيهِ
زَكَاةُ السَّائِمَةِ كَالْإِبِلِ أَوْ لَا كَالْبِغَالِ
وَالْحَمِيرِ، فَالصَّوَابُ اعْتِبَارُهَا هُنَا جَمْعَ عَرْضٍ
بِالسُّكُونِ عَلَى تَفْسِيرِ الصِّحَاحِ فَتَخْرُجُ
النُّقُودُ فَقَطْ لَا عَلَى قَوْلِ أَبِي عُبَيْدٍ وَإِيَّاهُ
عَنَى فِي النِّهَايَةِ بِقَوْلِهِ وَعَلَى هَذَا فَإِنَّهُ
فَرَّعَ عَلَيْهِ إخْرَاجَ الْحَيَوَانِ (قَوْلُهُ كَائِنَةً
مَا كَانَتْ) كَائِنَةً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ عُرُوضِ
التِّجَارَةِ، وَلَفْظُ مَا مَوْصُولٌ خَبَرُهَا وَاسْمُهَا
الْمُسْتَتِرُ فِيهَا الرَّاجِعُ إلَى عُرُوضِ التِّجَارَةِ،
وَكَانَتْ صِلَةُ مَا وَاسْمُهَا الْمُسْتَتِرُ الرَّاجِعُ
إلَى الْعُرُوضِ أَيْضًا، وَخَبَرُهَا مَحْذُوفٌ وَهُوَ
الْمَنْصُوبُ الْعَائِدُ عَلَى الْمَوْصُولِ تَقْدِيرُهُ
كَائِنَةً أَوْ كَانَتْ إيَّاهُ عَلَى الْخِلَافِ فِي
الْأَوْلَى فِي هَذَا الضَّمِيرِ مِنْ وَصْلِهِ أَوْ فَصْلِهِ،
وَالْمَعْنَى: كَائِنَةً الَّذِي كَانَتْ إيَّاهُ مِنْ
أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ، وَاَلَّذِي عَامٌّ فَهُوَ كَقَوْلِهِ:
كَائِنَةً أَيَّ شَيْءٍ كَانَتْ إيَّاهُ. (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ
- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - " يُقَوِّمُهَا " إلَخْ)
غَرِيبٌ
وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ مَرْفُوعَةٌ وَمَوْقُوفَةٌ، فَمِنْ
الْمَرْفُوعَةِ: مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد عَنْ سَمُرَةَ
بْنِ جُنْدَبٍ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ
الصَّدَقَةَ مِنْ الَّذِي يُعَدُّ لِلْبَيْعِ» اهـ. سَكَتَ
عَلَيْهِ أَبُو دَاوُد ثُمَّ الْمُنْذِرِيُّ، وَهَذَا
تَحْسِينٌ مِنْهُمَا، وَصَرَّحَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِأَنَّ
إسْنَادَهُ حَسَنٌ، وَقَوْلُ عَبْدِ الْحَقِّ خُبَيْبِ بْنِ
سُلَيْمَانَ الْوَاقِعُ فِي سَنَدِهِ لَيْسَ بِمَشْهُورٍ وَلَا
يُعْلَمُ رَوَى عَنْهُ إلَّا جَعْفَرُ بْنُ سَعْدٍ وَلَيْسَ
جَعْفَرُ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ لَا يَخْرُجُ حَدِيثُهُ
عَنْ الْحَسَنِ، فَإِنَّ نَفْيَ الشُّهْرَةِ لَا يَسْتَلْزِمُ
ثُبُوتَ الْجَهَالَةِ وَلِذَلِكَ رَوَى هُوَ نَفْسُهُ
حَدِيثَهُ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ «مَنْ كَتَمَ غَالًّا فَهُوَ
مِثْلُهُ» عَنْ خُبَيْبِ بْنِ سُلَيْمَانَ وَسَكَتَ عَنْهُ،
وَهَذَا تَصْحِيحٌ مِنْهُ، وَبِهَذَا تَعَقَّبَهُ ابْنُ
الْقَطَّانِ. وَمِنْهَا فِي الْمُسْتَدْرِكِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «فِي الْإِبِلِ
صَدَقَتُهَا وَفِي الْغَنَمِ صَدَقَتُهَا وَفِي الْبَزِّ
صَدَقَتُهُ، وَمَنْ رَفَعَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ
تِبْرًا أَوْ فِضَّةً لَا يَعُدُّهَا لِغَرِيمٍ وَلَا
يُنْفِقُهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ كَنْزٌ يُكْوَى بِهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ» صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ. وَأَعَلَّهُ
التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْبُخَارِيِّ بِأَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ
لَمْ يَسْمَعْ مِنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، وَتَرَدَّدَ
الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي
الْإِمَامِ فِي أَنَّهُ بِالزَّايِ أَوْ الرَّاءِ بِنَاءً
عَلَى أَنَّهُ رَآهُ فِي أَصْلٍ مِنْ نُسَخِ الْمُسْتَدْرَكِ
بِضَمِّ الْبَاءِ فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى زَكَاةِ
التِّجَارَةِ، لَكِنْ صَرَّحَ النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِ
الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ أَنَّهُ بِالزَّايِ، وَأَنَّ
بَعْضَهُمْ صَحَّفَهُ بِالرَّاءِ وَضَمِّ الْبَاءِ اهـ وَقَدْ
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ طَرِيقَيْنِ، وَفِي رِوَايَةٍ
«وَفِي الْبَزِّ صَدَقَةٌ» قَالَهَا بِالزَّايِ هَكَذَا
مُصَرِّحًا فِي الرِّوَايَةِ غَيْرَ أَنَّهَا ضُعِّفَتْ
(قَوْلُهُ وَتُشْتَرَطُ نِيَّةُ التِّجَارَةِ) لِأَنَّهُ
لَمَّا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ خِلْقَةً فَلَا يَصِيرُ
لَهَا إلَّا بِقَصْدِهَا فِيهِ، وَذَلِكَ هُوَ نِيَّةُ
التِّجَارَةِ، فَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا مَثَلًا لِلْخِدْمَةِ
نَاوِيًا بَيْعَهُ إنْ وَجَدَ رِبْحًا لَا زَكَاةَ فِيهِ،
وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مِمَّا يَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ
التِّجَارَةِ كَمَا قَدَّمْنَا، فَلَوْ اشْتَرَى أَرْضًا
خَرَاجِيَّةً لِلتِّجَارَةِ فَفِيهَا الْخَرَاجُ لَا
الزَّكَاةُ، وَلَوْ كَانَتْ عُشْرِيَّةً فَزَرَعَهَا حَكَى
صَاحِبُ الْإِيضَاحِ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَجِبُ الْعُشْرُ
وَالزَّكَاةُ، وَعِنْدَهُمَا الْعُشْرُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ نِيَّةَ التِّجَارَةِ فِي الْأَصْلِ
تُعْتَبَرُ ثَابِتَةً فِي بَدَلِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ
شَخْصُهَا فِيهِ،
(2/218)
(يُقَوِّمُهَا بِمَا هُوَ أَنْفَعُ
لِلْمَسَاكِينِ) احْتِيَاطًا لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ قَالَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَهَذَا رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ وَفِي الْأَصْلِ خَيَّرَهُ لِأَنَّ الثَّمَنَيْنِ
فِي تَقْدِيرِ قِيَمِ الْأَشْيَاءِ بِهِمَا سَوَاءٌ،
وَتَفْسِيرُ الْأَنْفَعِ أَنْ يُقَوِّمَهَا بِمَا تَبْلُغُ
نِصَابًا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَهُوَ مِمَّا يُلْغَزُ فَيُقَالُ عَرْضٌ اُشْتُرِيَ مِنْ
غَيْرِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ يَجِبُ عِنْدَ الْحَوْلِ
تَقْوِيمُهُ وَزَكَاتُهُ وَهُوَ مَا قُوِّضَ بِهِ مَالُ
التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ وَإِنْ لَمْ
يَنْوِ فِيهِ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ مَا
لَمْ يُخْرِجْهُ بِنِيَّةِ عَدَمِهَا، وَعَنْ هَذَا لَوْ كَانَ
الْعَبْدُ لِلتِّجَارَةِ فَقَتَلَهُ عَبْدٌ خَطَأً وَدَفَعَ
بِهِ يَكُونُ الْمَدْفُوعُ لِلتِّجَارَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ
كَانَ الْقَتْلُ عَمْدًا فَصُولِحَ مِنْ الْقِصَاصِ عَلَى
الْقَاتِلِ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهُ بَدَلُ
الْقِصَاصِ لَا الْمَقْتُولِ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِنَا
أَنَّ مُوجِبَ الْعَمْدِ الْقِصَاصُ عَلَيْنَا لَا أَحَدُ
الْأَمْرَيْنِ مِنْهُ وَمِنْ الدِّيَةِ
وَلَوْ ابْتَاعَ مُضَارِبٌ عَبْدًا وَثَوْبًا لَهُ وَطَعَامًا
وَحَمُولَةً وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي الْكُلِّ وَإِنْ قَصَدَ
غَيْرَ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ إلَّا
لِلتِّجَارَةِ، بِخِلَافِ رَبِّ الْمَالِ حَيْثُ لَا يُزَكَّى
الثَّوْبُ وَالْحَمُولَةُ: لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ
لِغَيْرِ التِّجَارَةِ، كَذَا فِي الْكَافِي، وَمَحْمَلُ
عَدَمِ تَزْكِيَةِ الثَّوْبِ لِرَبِّ الْمَالِ مَا دَامَ لَمْ
يَقْصِدْ بَيْعَهُ مَعَهُ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي فَتَاوَى
قَاضِي خَانْ النَّخَّاسُ إذَا اشْتَرَى دَوَابَّ لِلْبَيْعِ
وَاشْتَرَى لَهَا مَقَاوِدَ وَجِلَالًا، فَإِنْ كَانَ لَا
يَدْفَعُ ذَلِكَ مَعَ الدَّابَّةِ إلَى الْمُشْتَرَى لَا
زَكَاةَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ يَدْفَعُهَا مَعَهَا وَجَبَ
فِيهَا، وَكَذَا الْعَطَّارُ إذَا اشْتَرَى قَوَارِيرَ
(قَوْلُهُ يُقَوِّمُهَا) أَيْ الْمَالِكُ فِي الْبَلَدِ
الَّذِي فِيهِ الْمَالُ حَتَّى لَوْ كَانَ بَعَثَ عِنْدَ
التِّجَارَةِ إلَى بَلَدٍ أُخْرَى لِحَاجَةٍ فَحَالَ الْحَوْلُ
يَعْتَبِرُ قِيمَتَهُ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَلَوْ كَانَ فِي
مَفَازَةٍ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ فِي أَقْرَبِ الْأَمْصَارِ
إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَكَذَا فِي الْفَتَاوَى.
ثُمَّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ: إنَّهُ تُعْتَبَرُ
الْقِيمَةُ يَوْمَ الْوُجُوبِ وَعِنْدَهُمَا يَوْمَ
الْأَدَاءِ، وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ
عِنْدَهُمَا جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ وَلَهُ وِلَايَةُ مَنْعِهَا
إلَى الْقِيمَةِ فَتُعْتَبَرُ يَوْمَ الْمَنْعِ كَمَا فِي
مَنْعِ الْوَدِيعَةِ وَوَلَدِ الْمَغْصُوبِ، وَعِنْدَهُ
الْوَاجِبُ أَحَدُهُمَا ابْتِدَاءً، وَلِذَا يُجْبَرُ
الْمُصَدِّقُ عَلَى قَبُولِهَا فَيَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ
ثُبُوتِ الْخِيَارِ وَهُوَ وَقْتُ الْوُجُوبِ. وَلَوْ كَانَ
النِّصَابُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا أَوْ مَعْدُودًا كَانَ
لَهُ أَنْ يَدْفَعَ رُبْعَ عُشْرِ عَيْنِهِ فِي الْغَلَاءِ
وَالرُّخْصِ اتِّفَاقًا، فَإِنْ أَحَبَّ إعْطَاءَ الْقِيمَةِ
جَرَى الْخِلَافُ حِينَئِذٍ، وَكَذَا إذَا اُسْتُهْلِكَ ثُمَّ
تَغَيَّرَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مِثْلٌ فِي الذِّمَّةِ فَصَارَ
كَأَنَّ الْعَيْنَ قَائِمَةٌ، وَلَوْ كَانَ نُقْصَانُ
السِّعْرِ لِنَقْصٍ فِي الْعَيْنِ بِأَنْ ابْتَلَّتْ
الْحِنْطَةُ اُعْتُبِرَ يَوْمَ الْأَدَاءِ اتِّفَاقًا
لِأَنَّهُ هَلَاكُ بَعْضِ النِّصَابِ بَعْدَ الْحَوْلِ، أَوْ
كَانَتْ الزِّيَادَةُ لِزِيَادَتِهَا اُعْتُبِرَ يَوْمَ
الْوُجُوبِ اتِّفَاقًا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بَعْدَ الْحَوْلِ
لَا تُضَمُّ، نَظِيرُهُ، اعْوَرَّتْ أَمَةُ التِّجَارَةِ
مَثَلًا بَعْدَ الْحَوْلِ فَانْتَقَصَتْ قِيمَتُهَا تُعْتَبَرُ
قِيمَتُهَا يَوْمَ الْأَدَاءِ، أَوْ كَانَتْ عَوْرَاءَ
فَانْجَلَى الْبَيَاضُ بَعْدَهُ فَازْدَادَتْ قِيمَتُهَا
اُعْتُبِرَ يَوْمَ تَمَامِ الْحَوْلِ (قَوْلُهُ وَتَفْسِيرُ
الْأَنْفَعِ أَنْ يُقَوِّمَهَا بِمَا بَلَغَ نِصَابًا) صَرَّحَ
الْمُصَنِّفُ بِاخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ وَأَقْوَالِ
الصَّاحِبَيْنِ
(2/219)
يُقَوِّمُهَا بِمَا اشْتَرَى إنْ كَانَ
الثَّمَنُ مِنْ النُّقُودِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي مَعْرِفَةِ
الْمَالِيَّةِ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ النُّقُودِ
قَوَّمَهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ
يُقَوِّمُهَا بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ كَمَا
فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ (وَإِذَا كَانَ النِّصَابُ
كَامِلًا فِي طَرَفَيْ الْحَوْلِ فَنُقْصَانُهُ فِيمَا بَيْنَ
ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ) لِأَنَّهُ يَشُقُّ اعْتِبَارُ
الْكَمَالِ فِي أَثْنَائِهِ أَوْ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي
ابْتِدَائِهِ لِلِانْعِقَادِ وَتَحَقُّقِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فِي التَّقْوِيمِ أَنَّهُ بِالْأَنْفَعِ عَيْنًا أَوْ
بِالتَّخْيِيرِ أَوْ بِمَا اشْتَرَى بِهِ إنْ كَانَ مِنْ
النُّقُودِ وَإِلَّا فَبِالنَّقْدِ الْغَالِبِ أَوْ
بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ مُطْلَقًا. ثُمَّ فَسَّرَ الْأَنْفَعَ
الَّذِي هُوَ أَحَدُهَا بِأَنْ يُقَوَّمَ بِمَا يَبْلُغُ
نِصَابًا، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ بِحَيْثُ إذَا
قَوَّمَهَا بِأَحَدِهِمَا لَا تَبْلُغُ نِصَابًا وَالْآخَرُ
تَبْلُغُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّقْوِيمُ بِمَا يَبْلُغُ
فَأَفَادَ أَنَّ بَاقِيَ الْأَقْوَالِ يُخَالِفُ هَذَا
وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَا خِلَافَ فِي تَعَيُّنِ
الْأَنْفَعِ بِهَذَا الْمَعْنَى عَلَى مَا يُفِيدُهُ لَفْظُ
النِّهَايَةِ وَالْخُلَاصَةِ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ فِي وَجْهِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: إنَّ
الْمَالَ كَانَ فِي يَدِ الْمَالِكِ يَنْتَفِعُ بِهِ زَمَانًا
طَوِيلًا فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَنْفَعَةِ الْفُقَرَاءِ
عِنْدَ التَّقْوِيمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ
يُقَوِّمُهُ بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ يَتِمُّ النِّصَابُ
وَبِالْآخَرِ لَا فَإِنَّهُ يُقَوِّمُهُ بِمَا يَتِمُّ بِهِ
النِّصَابُ بِالِاتِّفَاقِ فَهَذَا مِثْلُهُ انْتَهَى. وَفِي
الْخُلَاصَةِ قَالَ: إنْ شَاءَ قَوَّمَهَا بِالذَّهَبِ وَإِنْ
شَاءَ بِالْفِضَّةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُقَوِّمُ
بِمَا هُوَ الْأَنْفَعُ لِلْفُقَرَاءِ.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ يُقَوِّمُ بِمَا اشْتَرَى، هَذَا إذَا
كَانَ يَتِمُّ النِّصَابُ بِأَيِّهِمَا قُوِّمَ، فَلَوْ كَانَ
يَتِمُّ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ قُوِّمَ بِمَا يَصِيرُ
بِهِ نِصَابًا انْتَهَى. فَإِنَّمَا يُتَّجَهُ أَنْ يَجْعَلَ
مَا فَسَّرَ بِهِ بَعْضَ الْمُرَادِ بِالْأَنْفَعِ،
فَالْمَعْنَى يُقَوِّمُ الْمَالِكُ بِالْأَنْفَعِ مُطْلَقًا
فَيَتَعَيَّنُ مَا يَبْلُغُ بِهِ نِصَابًا دُونَ مَا لَا
يَبْلُغُ: فَإِنْ بَلَغَ بِكُلٍّ مِنْهُمَا وَأَحَدُهُمَا
أَرْوَجُ تَعَيَّنَ التَّقْوِيمُ بِالْأَرْوَجِ، وَإِنْ
اسْتَوَيَا رَوَاجًا حِينَئِذٍ يُخَيَّرُ الْمَالِكُ كَمَا
يُشِيرُ إلَيْهِ لَفْظُ الْكَافِي فَإِنَّهُ إذَا كَانَ
الْأَنْفَعُ بِهَذَا الْمَعْنَى صَحَّ حِينَئِذٍ أَنْ
يُقَابِلَهُ الْقَوْلُ بِالتَّخْيِيرِ مُطْلَقًا، وَالْقَوْلُ
الْمُفَصَّلُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ اشْتَرَاهُ بِأَحَدِ
النَّقْدَيْنِ فَيَلْزَمُ التَّقْوِيمُ بِهِ أَوَّلًا
فَبِالنَّقْدِ الْغَالِبِ، وَقَدْ يُقَالُ: عَلَى كُلِّ
تَقْدِيرٍ لَا يَصِحُّ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ
إنَّهُ يُقَوَّمُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ عَلَى كُلِّ حَالٍ
بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى تَعْيِينِ مَا يَبْلُغُ بِهِ
النِّصَابُ، لِأَنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ كَوْنِ النَّقْدِ
أَرْوَجَ كَوْنُهُ أَغْلَبَ وَأَشْهَرَ حَتَّى يَنْصَرِفَ
الْمُطْلَقُ فِي الْبَيْعِ إلَيْهِ، وَلَا يُدْفَعُ إلَّا
بِأَنَّ الْأَرْوَجَ مَا النَّاسُ لَهُ أَقْبَلُ وَإِنْ كَانَ
الْآخَرُ أَغْلَبَ: أَيْ أَكْثَرَ، وَيَكُونُ سُكُوتُهُ فِي
الْخُلَاصَةِ عَنْ ذِكْرِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ اتِّفَاقًا لَا
قَصْدًا إلَيْهِ لِعَدَمِ خِلَافِهِ، هَذَا وَالْمَذْكُورُ فِي
الْأَصْلِ الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَوَّمَهَا
بِالدَّرَاهِمِ وَإِنْ شَاءَ بِالدَّنَانِيرِ مِنْ غَيْرِ
ذِكْرِ خِلَافٍ، فَلِذَا أَفَادَتْ عِبَارَةُ الْخُلَاصَةِ
الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَالْكَافِي أَنَّ اعْتِبَارَ
الْأَنْفَعِ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَجَمَعَ بَيْنَ
الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْأَصْلِ مِنْ
التَّخْيِيرِ هُوَ مَا إذَا كَانَ التَّقْوِيمُ بِكُلٍّ
مِنْهُمَا لَا يَتَفَاوَتُ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي
مَعْرِفَةِ الْمَالِيَّةِ) لِأَنَّهُ بَدَلُهُ وَلِلْبَدَلِ
حُكْمُ الْمُبْدَلِ.
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعُرْفَ صَلُحَ مُعِينًا
وَصَارَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِنَقْدٍ مُطْلَقٍ إلَى النَّقْدِ
الْغَالِبِ، وَلِأَنَّ التَّقْوِيمَ فِي حَقِّ اللَّهِ
يُعْتَبَرُ بِالتَّقْوِيمِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ، وَمَتَى
قَوَّمْنَا الْمَغْصُوبَ أَوْ الْمُسْتَهْلَكَ نُقَوِّمُ
بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ كَذَا هَذَا (قَوْلُهُ فَنُقْصَانُهُ
فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ) حَتَّى لَوْ
بَقِيَ
(2/220)
الْغِنَى وَفِي انْتِهَائِهِ لِلْوُجُوبِ،
وَلَا كَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ حَالَةُ
الْبَقَاءِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ هَلَكَ الْكُلُّ حَيْثُ
يَبْطُلُ حُكْمُ الْحَوْلِ، وَلَا تَجِبُ الزَّكَاةُ
لِانْعِدَامِ النِّصَابِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَا كَذَلِكَ فِي
الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّ بَعْضَ النِّصَابِ بَاقٍ
فَيَبْقَى الِانْعِقَادُ
قَالَ (وَتُضَمُّ قِيمَةَ الْعُرُوضِ إلَى الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ حَتَّى يَتِمَّ النِّصَابُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
دِرْهَمٌ أَوْ فَلْسٌ مِنْ ثَمَّ اسْتَفَادَ قَبْلَ فَرَاغِ
الْحَوْلِ حَتَّى تَمَّ عَلَى نِصَابٍ زَكَّاهُ، وَشَرَطَ
زُفَرُ كَمَالَهُ مِنْ أَوَّلِ الْحَوْلِ إلَى آخِرِهِ، وَبِهِ
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي السَّوَائِمِ وَالنَّقْدَيْنِ وَفِي
غَيْرِهِمَا اُعْتُبِرَ آخِرٌ فَقَطْ.
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ السَّبَبَ النِّصَابُ الْحَوْلِيُّ
وَهُوَ الَّذِي حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، وَهَذَا فَرْعُ
بَقَاءِ اسْمِهِ فِي تَمَامِ الْحَوْلِ، وَهَذَا وَجْهُ قَوْلِ
الشَّافِعِيِّ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ أَخْرَجَ مَالَ
التِّجَارَةِ لِلْحَرَجِ اللَّازِمِ مِنْ إلْزَامِ
التَّقْوِيمِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَاعْتِبَارِهَا فِيهِ.
قُلْنَا: لَمْ يَرِدْ مِنْ لَفْظِ الشَّارِعِ السَّبَبُ
النِّصَابُ الْحَوْلِيُّ بَلْ لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى
يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ وَبِظَاهِرِهِ نَقُولُ، وَهُوَ
إنَّمَا يُفِيدُ نَفْيَ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْحَوْلِ لَا
نَفْيَ سَبَبِيَّةِ الْمَالِ قَبْلَهُ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ
انْتِفَاءِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ عَلَى التَّرَاخِي وَانْتِفَاءِ
السَّبَبِيَّةِ، بَلْ قَدْ تَثْبُتُ السَّبَبِيَّةُ مَعَ
انْتِفَاءِ وُجُوبِ الْأَدَاءِ لِفَقْدِ شَرْطِ عَمَلِ
السَّبَبِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ أَصْلُ الْوُجُوبِ مُؤَجَّلًا
إلَى تَمَامِ الْحَوْلِ كَمَا فِي الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ،
وَإِذَا كَانَ السَّبَبُ قَائِمًا فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ
انْعَقَدَ الْحَوْلُ حِينَئِذٍ وَلَا يَنْعَقِدُ إلَّا فِي
مَحَلِّ الْحُكْمِ وَهُوَ النِّصَابُ، ثُمَّ الْحَاجَةُ بَعْدَ
ذَلِكَ إلَى كَمَالِهِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ
لِيَنْزِلَ الْحُكْمُ الْآخَرُ وَهُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ
وَكَمَالُهُ فِيمَا بَيْنَهُمَا فِي غَيْرِ مَحَلِّ الْحَاجَةِ
فَلَا يُشْتَرَطُ وَصَارَ كَالْيَمِينِ بِطَلَاقِهَا
يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ عِنْدَ الْيَمِينِ لِيَنْعَقِدَ،
وَعِنْدَ الشَّرْطِ فَقَطْ لِيَثْبُتَ الْجَزَاءُ لَا فِيمَا
بَيْنَ ذَلِكَ، إذْ لَا حَاجَةَ إلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا
هَلَكَ كُلُّهُ لِمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ ظَاهِرٌ،
وَجَعْلُ السَّائِمَةِ عَلُوفَةً كَهَلَاكِ الْكُلِّ لِوُرُودِ
الْمُغَيِّرِ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ، بِخِلَافِ
النُّقْصَانِ فِي الذَّاتِ. وَمِنْ فُرُوعِ الْمَسْأَلَةِ مَا
إذَا كَانَ لَهُ غَنَمٌ لِلتِّجَارَةِ تُسَاوِي نِصَابًا
فَمَاتَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ فَسَلَخَهَا وَدَبَغَ جِلْدَهَا
فَتَمَّ الْحَوْلُ كَانَ عَلَيْهِ فِيهَا الزَّكَاةُ إنْ
بَلَغَتْ نِصَابًا.
وَلَوْ كَانَ لَهُ عَصِيرٌ لِلتِّجَارَةِ فَتَخَمَّرَ قَبْلَ
الْحَوْلِ ثُمَّ صَارَ خَلًّا يُسَاوِي نِصَابًا فَتَمَّ
الْحَوْلُ لَا زَكَاةَ فِيهِ، قَالُوا: لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ
الصُّوفَ الَّذِي عَلَى الْجِلْدِ مُتَقَوِّمٌ فَيَبْقَى
الْحَوْلُ بِبَقَائِهِ. وَالثَّانِي بَطَلَ تَقَوُّمُ الْكُلِّ
بِالْخَمْرِيَّةِ فَهَلَكَ كُلُّ الْمَالِ انْتَهَى إلَّا
أَنَّهُ يُخَالِفُ مَا رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ
اشْتَرَى عَصِيرًا بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَتَخَمَّرَ بَعْدَ
أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَلَمَّا مَضَتْ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ
ثَمَانِيَةُ أَشْهُرٍ إلَّا يَوْمًا صَارَ خَلًّا يُسَاوِي
مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَتَمَّتْ السُّنَّةُ كَانَ عَلَيْهِ
الزَّكَاةُ لِأَنَّهُ عَادَ لِلتِّجَارَةِ كَمَا كَانَ
(قَوْلُهُ وَتُضَمُّ إلَخْ) حَاصِلُهُ أَنَّ عُرُوضَ
التِّجَارَةِ يُضَمُّ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ بِالْقِيمَةِ
وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهَا، وَكَذَا تُضَمُّ هِيَ إلَى
النَّقْدَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ، وَالسَّوَائِمُ الْمُخْتَلِفَةُ
الْجِنْسِ لَا تُضَمُّ بِالْإِجْمَاعِ كَالْإِبِلِ
وَالْغَنَمِ، وَالنَّقْدَانِ يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى
الْآخَرِ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ عِنْدَنَا خِلَافًا
لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
ثُمَّ اخْتَلَفَ عُلَمَاؤُنَا فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمِّ
فِيهِمَا عَلَى مَا نَذْكُرُ ثُمَّ إنَّمَا يُضَمُّ
الْمُسْتَفَادُ قَبْلَ الْوُجُوبِ، فَلَوْ أُخِّرَ الْأَدَاءُ
فَاسْتَفَادَ بَعْدَ الْحَوْلِ لَا يَضُمُّهُ عِنْدَ
الْأَدَاءِ وَيَضُمُّ الدَّيْنَ إلَى الْعَيْنِ،
(2/221)
لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْكُلِّ
بِاعْتِبَارِ التِّجَارَةِ وَإِنْ افْتَرَقَتْ جِهَةُ
الْإِعْدَادِ (وَيُضَمُّ الذَّهَبُ إلَى الْفِضَّةِ)
لِلْمُجَانَسَةِ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةُ، وَمِنْ هَذَا
الْوَجْهِ صَارَ سَبَبًا، ثُمَّ يُضَمُّ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا بِالْأَجْزَاءِ وَهُوَ
رِوَايَةٌ عَنْهُ، حَتَّى إنَّ مَنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ مِائَةٌ وَلَهُ دَيْنٌ مِائَةٌ وَجَبَ
عَلَيْهِ الزَّكَاةُ. وَقَوْلُهُ: كَمَا فِي السَّوَائِمِ
إفَادَةٌ لِلْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ بِجَامِعِ اخْتِلَافِ
الْجِنْسِ حَقِيقَةً وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَحُكْمًا بِدَلِيلِ
عَدَمِ جَرَيَانِ رِبَا الْفَضْلِ بَيْنَهُمَا مَعَ كَوْنِ
الرِّبَا يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ فَاسْتَفَدْنَا عَدَمَ
اعْتِبَارِ شُبْهَةِ اتِّحَادِ الْجِنْسِ بَيْنَهُمَا،
وَالِاتِّحَادُ مِنْ حَيْثُ الثَّمَنِيَّةِ لَا يُوجِبُ
اتِّحَادَ الْجِنْسِ كَالرُّكُوبِ فِي الدَّوَابِّ، بِخِلَافِ
ضَمِّ الْعُرُوضِ إلَيْهِمَا لِأَنَّهُ ضَمُّ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ
لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ فِي الْعُرُوضِ بِاعْتِبَارِ
الْقِيمَةِ وَالْقِيمَةُ هُمَا فَالضَّمُّ لَمْ يَقَعْ إلَّا
فِي النُّقُودِ. قُلْنَا: إنَّمَا كَانَا نِصَابَ الزَّكَاةِ
بِسَبَبِ الثَّمَنِيَّةِ لِأَنَّهُ الْمُفِيدُ لِتَحْصِيلِ
الْأَغْرَاضِ وَسَدِّ الْحَاجَاتِ لَا لِخُصُوصِ اللَّوْنِ
أَوْ الْجَوْهَرِ، وَهَذَا لِأَنَّ ثُبُوتَ الْغِنَى وَهُوَ
السَّبَبُ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ بِذَلِكَ لَا
بِغَيْرِهِ وَقَدْ اتَّحَدَا فِيهِ فَكَانَا جِنْسًا وَاحِدًا
فِي حَقِّ الزَّكَاةِ، وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ الِاتِّحَادُ
فِي حَقِّ غَيْرِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ كَالتَّفَاضُلِ فِي
الْبَيْعِ فَحَقِيقَةُ السَّبَبِ الثَّمَنُ الْمُقَدَّرُ
بِكَذَا إذَا كَانَ بِصُورَةِ كَذَا وَبِكَذَا إذَا كَانَ
بِصُورَةِ كَذَا، بِخِلَافِ الرُّكُوبِ فَإِنَّهُ لَيْسَ
الْمُحَقِّقَ لِلسَّبَبِيَّةِ فِي السَّوَائِمِ، فَإِنَّ
الْغِنَى لَمْ يَثْبُتْ بِاعْتِبَارِهِ بَلْ بِاعْتِبَارِ
مَالِيَّتِهَا الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَنَافِعَ شَتَّى
تَسْتَدُّ بِهَا الْحَاجَاتُ أَعْظَمُهَا مَنْفَعَةً الْأَكْلُ
الَّتِي بِهَا يُقَوَّمُ ذَاتُ الْمُنْتَفَعِ وَنَفْسُهُ،
ثُمَّ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ مَشَايِخُنَا عَنْ بُكَيْر بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْأَشَجِّ قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ أَنْ
يُضَمَّ الذَّهَبُ إلَى الْفِضَّةِ لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ،
وَحُكْمُ مِثْلِ هَذَا الرَّفْعُ
(قَوْلُهُ وَعِنْدَهُمَا بِالْإِجْزَاءِ) بِأَنْ يُعْتَبَرَ
تَكَامُلُ أَجْزَاءِ النِّصَابِ مِنْ الرُّبْعِ وَالنِّصْفِ
وَبَاقِيهَا، فَإِذَا كَانَ مِنْ الذَّهَبِ عَشَرَةٌ
يُعْتَبَرُ مَعَهُ نِصْفُ نِصَابِ الْفِضَّةِ وَهُوَ مِائَةٌ،
فَلَوْ كَانَ لَهُ مِائَةٌ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ تَبْلُغُ
مِائَةً لَا زَكَاةَ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ الْمِائَةَ نِصْفُ
نِصَابٍ وَالْخَمْسَةَ رُبْعُ نِصَابٍ، فَالْحَاصِلُ أَجْزَاءُ
ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ نِصَابٍ وَعِنْدَهُ تَجِبُ لِأَنَّ
الْحَاصِلَ تَمَامُ نِصَابِ الْفِضَّةِ مَعْنًى، ثُمَّ قَالَ
فِي الْكَافِي: وَلَا تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ عِنْدَ تَكَامُلِ
الْأَجْزَاءِ كَمِائَةٍ وَعَشَرَةِ دَنَانِيرَ؛ لِأَنَّهُ
مَتَى اُنْتُقِصَ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا تَزْدَادُ قِيمَةُ
الْآخَرِ فَيُمْكِنُ تَكْمِيلُ مَا يُنْتَقَصُ قِيمَتُهُ بِمَا
زَادَ انْتَهَى.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ مُؤَدَّى الضَّابِطِ أَنَّ عِنْدَ
تَكَامُلِ الْأَجْزَاءِ لَا تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ أَصْلًا
لَهُمَا وَلَا لِأَحَدِهِمَا حَتَّى تَجِبَ خَمْسَةٌ فِي
مِائَةٍ وَعَشَرَةِ دَنَانِيرَ سَوَاءٌ كَانَتْ قِيمَةُ
الْعَشَرَةِ أَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ أَوْ
أَكْثَرَ كَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ.
وَالتَّعْلِيلُ الْمَذْكُورُ لَا يُلَاقِي الضَّابِطَ عَلَى
هَذَا الْوَجْهِ، بَلْ إنَّمَا يُفِيدُ وُجُوبَ اعْتِبَارِ
قِيمَةِ
(2/222)
كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ مَثَاقِيلَ ذَهَبٍ
تَبْلُغُ قِيمَتُهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ الزَّكَاةُ
عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا، هُمَا يَقُولَانِ الْمُعْتَبَرُ
فِيهِمَا الْقَدْرُ دُونَ الْقِيمَةِ حَتَّى لَا تَجِبَ
الزَّكَاةُ فِي مَصُوغٍ وَزْنُهُ أَقَلُّ مِنْ مِائَتَيْنِ
وَقِيمَتُهُ فَوْقَهَا، هُوَ يَقُولُ: إنَّ الضَّمَّ
لِلْمُجَانَسَةِ وَهِيَ تَتَحَقَّقُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ
دُونَ الصُّورَةِ فَيُضَمُّ بِهَا.
بَابٌ فِيمَنْ يَمُرُّ عَلَى الْعَاشِرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مَا زَادَ عِنْدَ انْتِقَاصِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ دَفْعًا
لِقَوْلِ مَنْ قَالَ فِي مِائَةٍ وَعَشَرَةٍ لَا تُسَاوِي
مِائَةً لَا زَكَاةَ فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْقِيمَةَ، وَعَلَى
اعْتِبَارِهَا لَا يَتِمُّ النِّصَابُ عَلَى هَذَا
التَّقْدِيرِ فَدُفِعَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ مِنْ
مُطْلَقِ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ اعْتِبَارُ قِيمَةِ
أَحَدِهِمَا عَيْنًا، فَإِنْ لَمْ يَتِمَّ بِاعْتِبَارِ
قِيمَةِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ فَإِنَّهُ يَتِمُّ
بِاعْتِبَارِ تَقْوِيمِ الْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ، فَإِذَا
فُرِضَ أَنَّ الْعَشَرَةَ تُسَاوِي ثَمَانِينَ فَالْمِائَةُ
مِنْ الْفِضَّةِ تُسَاوِي اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا وَنِصْفًا
فَيَتِمُّ بِذَلِكَ مَعَ الْعَشَرَةِ دَنَانِيرَ اثْنَانِ
وَعِشْرُونَ دِينَارًا وَنِصْفٌ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ.
وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّهُ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ مِنْ جِهَةِ
كُلٍّ مِنْ النَّقْدَيْنِ لَا مِنْ جِهَةِ أَحَدِهِمَا
عَيْنًا، فَكَيْفَ يَكُونُ تَعْلِيلًا لِعَدَمِ اعْتِبَارِ
الْقِيمَةِ مُطْلَقًا عِنْدَ تَكَامُلِ الْأَجْزَاءِ. وَعَلَى
هَذَا فَلَوْ زَادَتْ قِيمَةُ أَحَدِهِمَا وَلَمْ تَنْقُصْ
قِيمَةُ الْآخَرِ كَمِائَةٍ وَعَشَرَةٍ تُسَاوِي مِائَةً
وَثَمَانِينَ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ سَبْعَةٌ عَلَى قَوْلِهِ
وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْكُورِ فِي دَلِيلِهِ مِنْ أَنَّ
الضَّمَّ لَيْسَ إلَّا لِلْمُجَانَسَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ
بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى وَهُوَ الْقِيمَةُ لَا بِاعْتِبَارِ
الصُّورَةِ فَيُضَمَّانِ بِالْقِيمَةِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي
تَعَيُّنَ الضَّمِّ بِهَا مُطْلَقًا عِنْدَ تَكَامُلِ
الْأَجْزَاءِ وَعَدَمِهِ، ثُمَّ لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ
لِلْجَوَابِ عَمَّا اسْتَدَلَّا بِهِ مِنْ مَسْأَلَةِ
الْمَصُوغِ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ شَرْعًا هُوَ الْقَدْرُ
فَقَطْ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْقِيمَةَ فِيهِمَا إنَّمَا تَظْهَرُ إذَا
قُوبِلَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ أَوْ عِنْدَ الضَّمِّ لِمَا
قُلْنَا: إنَّهُ بِالْمُجَانَسَةِ وَهِيَ بِاعْتِبَارِ
الْمَعْنَى وَهُوَ الْقِيمَةُ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
عِنْدَ انْفِرَادِ الْمَصُوغِ حَتَّى لَوْ وَجَبَ تَقْوِيمُهُ
فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ بِأَنْ اُسْتُهْلِكَ قُوِّمَ بِخِلَافِ
جِنْسِهِ وَظَهَرَتْ قِيمَةُ الصَّنْعَةِ وَالْجَوْدَةِ
بِخِلَافِ مَا إذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ لِأَنَّ الْجَوْدَةَ
وَالصَّنْعَةَ سَاقِطَتَا الِاعْتِبَارِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ
عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا. |